الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب صدقة الغنم السائمة
قال الشافعي رحمه الله: " ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في صدقة الغنم معنى ما أذكر إن شاء الله تعالى وهو أن لَيْسَ فِي الْغَنَمِ صدقةٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فإذا بلغتها ففيها شاة ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين فإذا بلغتها ففيها شاتان وليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مائتين وشاةً فإذا بلغتها فَفِيهَا ثَلَاثُ شياهٍ ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أربع شياه ثم في كل مائةٍ شاةٌ وما نقص عن مائةٍ فلا شيء فيها وتعد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا زَكَاةُ الْغَنَمِ فَوَاجِبَةٌ لِعُمُومِ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتِبْيَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا " بِالزَّايِ معجمة وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زكاةٌ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وجوب زكاتها، وأن أول نصابها أربعين وَأَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهَا، وَأَنَّ فِيهَا إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً، وَأَنْ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَكُلَّمَا زَادَتْ مِائَةً كَامِلَةً فَفِيهَا شَاةٌ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ أَخَذَ الْخُلَفَاءُ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ بن صالح بن حي وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: فِي مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، خِلَافًا لِلْكَافَّةِ، وَاسْتِدْلَالًا بِحَدِيثٍ رُوِيَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إلى ثلاثماية " قَالُوا: فَهَذَا حَدٌّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تُوجِبُ تَغْيِيرَ الْحَدِّ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " وَهَذَا مَذْهَبٌ يَبْطُلُ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَوِفَاقِ مَنْ تَعَقَّبَهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْعَمَلِ الْجَارِي، وَالنَّصِّ الْمَرْوِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً: شَاةٌ إِلَى مائة

(3/111)


وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ واحدةٌ فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى ثلاثمائةٍ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ المائة شيء، وقد مضى أَنَسٌ وَابْنُ حَزْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ " فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ "، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُوَضِّحُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الأول وتفسر إجماله.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وتعد عليهم السخلة قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ وَلَا الرُّبَى وَلَا الْمَاخِضَ وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ (قال الشافعي) والربي هي التي يتبعها ولدها والماخض الحامل والأكولة السمينة تعد للذبح (قال الشافعي) وبلغنا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لمعاذ " إياكم وكرائم أموالهم " (قال الشافعي) فبهذا نأخذ ".
قال الماوردي: فزكاه السِّخَالُ بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا، وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْحَوْلَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ دَاوُدُ: يَسْتَأْنِفُ حولها، وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ ".
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بن مخرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ: " عُدَّ عَلَيْهِمْ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا ولا تأخذ هرمةً ولا ذات عوارٍ ".
روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَعْمَلَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ عَلَى الطَّائِفِ، وَمَخَالِيفِهَا فَعَدَّ عَلَيْهِمُ الْمَالَ عَدًّا وَصِغَارَهُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُعَدُّ عَلَيْنَا عَدًّا الْمَالَ وَصِغَارَهُ فَخُذْ مِنْهُ، فَلَقِيَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ، وَقَالَ لَهُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّا نَظْلِمُهُمْ، نَعُدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَالَ وَلَا نَأْخُذُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عَمَرُ اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ، يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا، وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ، وَلَا الرُّبَى وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَخُذِ الْجَذَعَةَ، والثنية " وذلك عدل بين الْمَالِ وَخِيَارِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَكُولَةُ: السَّمِينَةُ تُعَدُّ لِلذَّبْحِ.
وَالرَّبِيُّ الَّتِي يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا.
وَالْمَاخِضُ: الْحَامِلُ.

(3/112)


وَالْفَحْلُ: الذَّكَرُ الْمُعَدُّ لِلضِّرَابِ، فَجَعَلَ مَا عَدَلَ عنه من عدا الْمَالِ بِإِزَاءِ مَا تَرَكَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ خِيَارِهِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْأَصْلِ وَجَبَتْ لِأَجْلِ النِّتَاجِ فَلَمْ يجز أن يجب فيها، وسقط فِي النِّتَاجِ وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأُمَّهَاتِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْتُ مع ما وصفت في أن لا يؤخذ أَقَلُّ مِنْ جذعةٍ أَوْ ثنيةٍ إِذَا كَانَتْ في غنمه أو أعلى مها دل على أنهم إنما أرادوا ما تجوز أضحيةً ولا يؤخذ أعلى إلا أن يطوع وَيَخْتَارُ السَّاعِي السِّنَّ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ إِذَا كانت الغنم كلها واحدةً فإن كانت كلها فوق الثنية خير ربها فإذا جاء بثنية إن كانت معزاً أو بجذعة إن كانت ضأناً إلا أن يطوع فيعطي منها إلا أن يكون بها نقص لا تجوز أضحيةً وإن كانت أكثر قيمةً من السن التي وجبت عليه قبلت منه إن جازت أضحيةً إلا أن تكون تيساً فلا تقبل بحالٍ لأنه ليس في فرض الغنم ذكورٌ وهكذا البقر إلا أن يجب فيها تبيع والبقر ثيران فيعطي ثوراً فيقبل منه إذا كان خيراً من تبيع وكذلك قال في الإبل بهذا المعنى لا نأخذ ذكراً مكان أنثى إلا أن تكون ماشيته كلها ذكوراً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: السِّنُّ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ هِيَ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي السَّابِعِ، وَالثَّنِيَّةُ مِنَ الْمَعِزِ وَهِيَ الَّتِي قَدِ اسْتَكْمَلَتْ سَنَةً وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَالَ أبو حنيفة الْمُسْتَحَقُّ الثني من الضأن والمعز، وقال مَالِكٌ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ , وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ قَالَ أَتَانَا مُصَدِّقُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ: " نُهِينَا عَنِ الرَّاضِعِ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْجَذَعَةَ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيَّةَ مِنَ الْمَعِزِ. وَلِأَنَّ كُلَّ سِنٍّ تَقَدَّرَتْ بِهَا الْأُضْحِيَةُ تَقَدَّرَتْ بِهَا زَكَاةُ الْغَنَمِ كَالثَّنِيَّةِ، فَإِنْ أَعْطَى فَوْقَ الْجَذَعَةِ أَوِ الثَّنِيَّةِ قُبِلَتْ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ حد الهرمة فَلَا تُقْبَلُ، وَإِنْ أَعْطَى دُونَ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا دُونَ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ تُقْبَلُ مِنْهُ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَقْبُولَةٌ، وَالنُّقْصَانَ مَرْدُودٌ، ثُمَّ إِنَّ كَانَتْ غَنَمُهُ إِنَاثًا، أَوْ فِيهَا إِنَاثٌ لَمْ تُؤْخَذِ الشَّاةُ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا أُخِذَ مِنْهَا الذَّكَرُ، ول يُكَلَّفْ زَكَاةَ مَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمَرِيضَةِ مِنَ المراض.
قال الشافعي: وَيَخْتَارُ السَّاعِي السِّنَّ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ إِذَا كانت الغنم واحدة، إِذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ، إِنْ كَانَ مَالُهُ ضَأْنًا أَوْ ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعِزِ إِنْ كَانَ مَالُهُ مِعْزَى، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا مِنْ خِيَارِ غَنَمِهِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ المال أن يمنعه من اختيار إِذَا لَمْ يَتَجَاوَزِ الْجِذَاعَ وَالثَّنَايَا، كَمَا كَانَ لَهُ الِاخْتِيَارُ فِي أَخْذِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ.

(3/113)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يعتد بالسخلة على رب الماشية إلا بأن يَكُونَ السَّخْلُ مِنْ غَنَمِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَيَكُونَ أصل الغنم أربعين فصاعداً فإذا لم تكن الغنم مما فيه الصدقة فلا يعتد بالسخل حتى تتم بالسخل أربعين ثم يستقبل بها الحول ".
قال الماوردي: ذكرنا أن السخال تزكى بحلول أمهاتها إذا جمعت ثلاث شَرَائِطَ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ السِّخَالُ مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ الَّتِي فِي مِلْكِهِ، لَا مِنْ غَيْرِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ قَبْلَ حُلُولِ حَوْلِهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثُ فِي السِّخَالِ، وَجَبَ ضَمُّهَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ في اختيار النِّصَابِ، فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ، فَقَدْ قَالَ: لَا اعْتِبَارَ بِكَوْنِ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا، بَلْ تُضَمُّ السِّخَالُ وَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّصَابِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالٍ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ.
أَصْلُ ذَلِكَ: إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ أَرْبَعِينَ قَالَ: وَلِأَنَّ أُصُولَ الزَّكَوَاتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ مِنَ الْمَالِ لَا يُعْتَبَرُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِنِصَابٍ مُزَكًّى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُصُولَ تَشْهَدُ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُرُوضُ التِّجَارَاتِ، إِذَا اشْتَرَى عُرْضًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فربح فيه مائة درهم، زكا الْأَصْلَ وَالنَّمَاءَ، لِأَنَّهُمَا نِصَابٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النماء تابعاً للنصاب.
وَالثَّانِي: إِنْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وَجَدَ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا زَكَّاهُمَا، لِأَنَّهُمَا نِصَابٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرِّكَازُ وَالنَّمَاءُ تَبَعًا لِنِصَابٍ، كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة: إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا شَرْطٌ فِي وُجُوبِ ضَمِّ السِّخَالِ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّصَابِ، لَمْ يَجِبْ ضَمُّهَا، فَإِذَا كَمُلَتْ مَعَ السِّخَالِ نِصَابًا، اسْتُؤْنِفَ لَهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ كَمَالِهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَهَذَا مَالٌ لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ عَلَى الْأُمَّهَاتِ مِنْهُ وَلَا السِّخَالِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ كَمُلَ بِهَا نِصَابُ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهَا مِنْ يَوْمِ كَمَالِهَا، كَمَا لَوْ مَلَكَ السِّخَالَ مِنْ غَيْرِ نِتَاجِهَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ السِّخَالَ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ (فِيهَا) إِلَّا

(3/114)


بِالْحَوْلِ، إِلَّا أَنَّ حَوْلَهَا تَارَةً يَكُونُ بِنَفْسِهَا وَتَارَةً يَكُونُ بِغَيْرِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْبِعَ الْغَيْرَ فِي الْحَوْلِ، وَلَا حَوْلَ لِلْغَيْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَوْلَهَا مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهَا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّصَابِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَوْلَ ثَابِتٌ لِلْأُمَّهَاتِ، فَجَازَ أَنْ تَتْبَعَهَا السِّخَالُ فِي حَوْلِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا دُونَ النِّصَابِ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْأُصُولِ فِي زَكَاةِ الْعُرُوضِ، وَمَسْأَلَةِ الرِّكَازِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ، أَنْ يُقَالَ: أَمَّا مَسْأَلَةُ عُرُضِ التِّجَارَةِ إِذَا اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ ثُمَّ بَاعَهُ بِنِصَابٍ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ، وَيَقُولُ: لَا زَكَاةَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْعُرْضَ بِنِصَابٍ، أَوْ تَكُونَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الشِّرَاءِ نِصَابًا، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ زَكَاةَ الْعُرْضِ وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْحَوْلِ نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ أَنَّ اعْتِبَارَ تَقْوِيمِ الْعُرْضِ بِنِصَابٍ يَشُقُّ غَالِبًا، وَلَا يَشُقُّ أَنْ يُعْتَبَرَ كَوْنُ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ النِّصَابِ في الأمهات، لارتفاع مشقته، توضيح ذَلِكَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى عُرْضًا بِنِصَابٍ، ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ عَنِ النِّصَابِ، ثُمَّ عَادَتِ الْقِيمَةُ عِنْدَ الْحَوْلِ إِلَى النِّصَابِ، لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ وَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فَتَلِفَ مِنْهَا فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ شَاةٌ، ثُمَّ مَلَكَ مَكَانَهَا شَاةً بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ اسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ، وَبَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنْهُ بِنُقْصَانِ الشَّاةِ، فَقَدْ وَضَحَ بِمَا بَيَّنَاهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُرْضِ وَالسِّخَالِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرِّكَازِ فَقَدِ اختلف أصحابنا فِيهَا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْمِائَةِ الرِّكَازِ دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّ الرِّكَازَ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ، وَالْمِائَةُ الْأُخْرَى يُعْتَبَرُ فِيهَا النِّصَابُ وَالْحَوْلُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ زَكَاةُ الرِّكَازِ لِوُجُودِ النِّصَابِ، وَلَمْ تَجِبْ زَكَاةُ المائة الأخرى لفقد الحول، فعلى هذا القول السُّؤَالُ سَاقِطٌ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ زَكَاتُهَا وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مَوْجُودٌ، وَالْحَوْلَ فيما يعتبر فيه مَوْجُودٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ الزَّكَاةُ فِيهَا لِوُجُودِ شَرْطِ الْإِيجَابِ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ أَنَّ الرِّكَازَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الحول، والسخال يعتبر فِيهَا الْحَوْلُ، إِمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا، فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الزَّكَاةِ لِافْتِرَاقِ مَعْنَاهُمَا فِي الْوُجُوبِ.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ السِّخَالُ مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ، فَقَدْ خَالَفَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ فقالا: كل ما استفاد من جنس ما ضمه إليه في حوله، وإخراج زَكَاتَهُ تَبَعًا لِمَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نِتَاجِ مَالِهِ، أَوْ مَلَكَهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا بَعْدُ، لَكِنْ تقدم الكلام فيها، لأن هذا الوضع أليق بها، فأما مخالفنا فاستدل

(3/115)


برواية ابن الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " اعلموا شهراً تودون فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَى يِجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ " فقد بين أن السنة تجمع لزكاة المالين جميعاً من الأصل المستفاد، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " فِي خَمْسٍ شَاةٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا " فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَتَى بَلَغَتْ عَشْرًا بِفَائِدَةٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَ تَغْيِيرُ الْفَرْضِ بِهَا، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لساعيه " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهَا زيادة من نفس ماله، فوجب إذا لم يزل بَدَلُهُ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى حَوْلِ مَا عِنْدَهُ، كَالنِّتَاجِ وَأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ وَأَمَدٍ، فَالْعَدَدُ النِّصَابُ، وَالْأَمَدُ الْحَوْلُ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُسْتَفَادِ النِّصَابُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مُسْتَفَادٍ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ حَوْلِهِ وَلَا يَكُونُ تَابِعًا لِحَوْلِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَكَانَ عَامًّا وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " وَهَذَا نَصٌّ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ بِغَيْرِهِ. أَصْلُهُ: إِذَا كَانَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِهِ، وَلِأَنَّهَا فَائِدَةٌ غَيْرُ مُتَوَلَّدَةٍ مِمَّا عِنْدَهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهَا مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهَا، أَصْلُهُ مَا وَافَقَنَا عَلَيْهِ أبو حنيفة فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، قَدْ أخرج زكاتها، وأربعون من الغنم من بَقِيَ شَهْرٌ مِنْ حَوْلِهَا، فَاشْتَرَى بِالْمِائَتَيْنِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ شَاةً.
قَالَ أبو حنيفة: لَا يَجِبُ أَنْ يُزَكِّيَهَا بِحَوْلِ الْأَرْبَعِينَ، وَيَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ زَكَّى أَصْلَهَا وَهُوَ الْمِائَتَانِ، وَلَوْ لَمْ يُزَكِّ أَصْلَهَا ضَمَّهَا، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ مُقْنِعَةٌ، وَلِأَنَّ فِي ضَمِّ الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ مَا يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ أَصُولِ الزَّكَوَاتِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الْحَوْلِ مَرَّةً، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيجَابِهَا فِي الحول مراراً.
مثال: فِيمَنْ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهَا يَوْمٌ، فَابْتَاعَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَزَكَّاهَا بَعْدَ يَوْمٍ ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى رَجُلٍ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهَا يَوْمٌ فَزَكَّاهَا الثَّانِي بَعْدَ يَوْمٍ ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى ثَالِثٍ حَالُهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى رَابِعٍ، وَخَامِسٍ فَيُؤَدِّي زَكَاةَ الْخَمْسِ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا، وَهَذَا مُنَافٍ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى إِيجَابِهَا فِي كُلِّ حَوْلٍ مَرَّةً.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اعْلَمُوا شَهْرًا تُؤَدُّونَ فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَى يِجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ " فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ رَأْسَ السَّنَةِ

(3/116)


الْمُسْتَفَادِ فِيهَا، وَيَحْتَمِلُ رَأْسَ سَنَةِ الْأَصْلِ وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَحَمْلُهُ عَلَى سَنَةِ الْمُسْتَفَادِ أَوْلَى، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا " فَهَذَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْمَقَادِيرِ دُونَ ضَمِّ الْمُسْتَفَادِ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِسَاعِيهِ: " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى نِتَاجِ مَالِهِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ مِمَّا عِنْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُسْتَفَادِ النِّصَابُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الحول، فينكسر من إتباع ماشيته بِمَالٍ قَدْ زَكَّاهُ، فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى حَوْلِ مَاشِيَتِهِ، وَيَسْتَأْنِفَ حَوْلَهُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهُ، فَكَانَ الْحَوْلُ مُعْتَبَرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا، عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ، أَنَّ النِّصَابَ اعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ الْمَالُ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِوُجُودِ مَا اسْتَفَادَهُ، وَالْحَوْلُ اعْتُبِرَ لِيَتَكَامَلَ فِيهِ نَمَاءُ الْمَالِ، وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ بِوُجُودِ مَا اسْتَفَادَهُ حَتَّى يَحُولَ حَوْلُهُ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي اعْتِبَارِ الْوِلَادَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلِأَنَّ السِّخَالَ تَابِعَةٌ لِأُمَّهَاتِهَا فِي الْإِيجَابِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا قَبْلَ الْإِيجَابِ، فَإِنْ نَتَجَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ ضُمَّتْ إِلَى أُمَّهَاتِهَا، وَأَخْرَجَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا، وَإِنْ نَتَجَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِمْكَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ نَتَجَتْ بَعْدَ الْإِمْكَانِ، لَمْ تُضَمَّ إِلَى الْأُمَّهَاتِ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ، وَضُمَّتْ إِلَيْهَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي، وَإِنْ نَتَجَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، فَفِي إِيجَابِ ضَمِّهَا إِلَى الْأُمَّهَاتِ قَوْلَانِ مبنيان على اختلاف قوليه في الإمكان، قيل هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ في الوجوب وتضم إِلَى الْأُمَّهَاتِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ شرط في الضمان دون الوجوب لا تضم إلى الْحَوْلِ الْمَاضِي، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّ الْمَاشِيَةِ ".
قَالَ الماوردي: وهذا كما قال:
إن اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ فِي الشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ضَمِّ السِّخَالِ، فَادَّعَى السَّاعِي وُجُودَ جَمِيعِهَا وَإِيجَابَ ضَمِّهَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ عَدَمَ بَعْضِهَا وَسُقُوطَ ضَمِّ السِّخَالِ إِلَى أُمَّهَاتِهَا، وَكَأَنَ السَّاعِيَ ادَّعَى أَنَّ السِّخَالَ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ غَيْرِ مَالِهِ، أَوِ ادَّعَى السَّاعِي أَنَّ الْأُمَّهَاتِ أَرْبَعُونَ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا دُونَ

(3/117)


الْأَرْبَعِينَ، أَوِ ادَّعَى السَّاعِي أَنَّ الْوِلَادَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَمَا ادَّعَيَاهُ مُمْكِنٌ فِي الظَّاهِرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رب المال مع يمينه، لأنه أمين يرجع إلى ظاهر، وَلَا ظَاهِرَ مَعَ السَّاعِي وَهَذِهِ الْيَمِينُ هِيَ يَمِينُ اسْتِظْهَارٍ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ ما تسقط بِهِ الزَّكَاةَ وَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهُ فَيَمِينُهُ اسْتِظْهَارٌ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مَعَ السَّاعِي كَدَعْوَى رَبِّ الْمَالِ بَيْعَ مَالِهِ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، ثُمَّ ابْتِيَاعَهُ فَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِظْهَارٌ أَيْضًا.
وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ، وَفَائِدَةُ قَوْلِنَا اسْتِظْهَارٌ أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَفَائِدَةُ قَوْلِنَا وَاجِبَةٌ أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَبْرًا، لَا بِنُكُولِهِ لَكِنْ بِالْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالظَّاهِرِ الْمَوْجُودِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسَّاعِي أَنْ يَحْلِفَ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ، وَلَا لِلْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ معينين.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت له أربعون فَأَمْكَنَهُ أَنْ يُصَدِّقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَتْ أَوْ بَعْضُهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ حتى ماتت منها شاة فلا زكاة في الباقي لأنها أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَلَوْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ حولها فلم يمكنه دفعها إلى أهلها أو الوالي حتى هلكت لم تجز عنه فإن كان فيما بقي ما تجب فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ زَكَّى وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْسِيمِ، وَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْ تَلِفَ مَالُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَالزَّكَاةُ عليه واجبة، سواء أمكنه أداء زكاتها إِلَى السَّاعِي، أَوِ الْمَسَاكِينِ، وَقَالَ أبو حنيفة إن أمكن أداؤها إلى الساعي ضمنها وإن أمكن أَدَاؤُهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يَضْمَنْهَا، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ مَجِيءَ السَّاعِي شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، وَإِنْ تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَبَادَرَ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَتَلِفَ مِنْهُ قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ فِي يَدِ السَّاعِي، أَوِ الْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا جِنَايَةٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي بَاقِي مَالِهِ فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ وَإِنْ قِيلَ هُوَ شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ بِحِسَابِ الْبَاقِي وَقِسْطِهِ، وَيَكُونُ التَّالِفُ مِنْ مَالِهِ وَمَالِ الْمَسَاكِينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ فائدةٍ مِنْ غَيْرِ نِتَاجِهَا فَهِيَ لِحَوْلِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ، وَلَا يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى حَوْلِ مَالِهِ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً قَدْ أَتَى

(3/118)


عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَمَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً ثَانِيَةً، ثم ملك بعد هذه أَرْبَعِينَ شَاةً ثَالِثَةً، فَصَارَ جَمِيعُهَا مِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً، فَقَدْ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فيها وجهين:
أحدهما: أنه زكى فِي السَّنَةِ الْأَوْلَى كُلَّ أَرْبَعِينَ بِحَوْلِهَا وَيُخْرِجُ عَنْهَا شَاةً كَامِلَةً، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، لِأَنَّهَا لَمَّا افْتَرَقَتْ فِي حُكْمِ الْحَوْلِ وَجَبَ أَنْ تَفْتَرِقَ فِي حُكْمِ الخلطة.
والوجه الثاني: إن زكى الأربعين الأولة لحولها فيخرج منها شاة كاملة، ثم زكى الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةَ لِحَوْلِهَا فَيُخْرِجُ مِنْهَا نِصْفَ شَاةٍ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِينَ، هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَقِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنَ الْمَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ أربعين جزءاً مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ، ثُمَّ زكى الأربعين الثالثة لحولها فيخرج منها ثلاث شياه، لأنها أربعون من جملة مائة وعشرين، هذا إِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْمَالَيْنِ مِنْ غيرهما، وقيل إن الزكاة في الذمة، وإن كان قد أخرج الزكاة من المالين، أو قيل إن الزكاة من الْعَيْنِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جُزْءًا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَنِصْفَ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ، فَهَذَانِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ.
وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ: لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، أَنَّ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى شَاةً، وَلَا شَيْءَ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَتَكُونُ تَبَعًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا ثَانِيًا، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا ثَانِيًا حَتَّى صَارَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَعَلَيْهِ شَاتَانِ.
وَفِيهَا وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ، أَنَّهُ إِنْ خَلَطَ الْجَمِيعَ وَسَامَهَا فِي مَرْعًى واحد كانت تبعاً، وإن فرقها فلكل وَاحِدَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو نتجت أربعين قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ ثُمَّ جَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ جَدْيًا أَوْ بَهْمَةً أَوْ بَيْنَ جَدْيٍ وبهمةٍ أَوْ كَانَ هَذَا فِي إِبِلٍ فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ فِصَالٌ أَوْ فِي بَقَرٍ وَهِيَ عُجُولٌ أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ من هذا وأخذ من الإبل والغنم أنثى ومن البقر ذكراً وإن لم يجد إلا واحداً إن كانت البقر ثلاثين وإن كانت أربعين فأنثى فإذا كانت العجول إناثاً ووجب تبيع قبل إن شئت فائت بذكر مثل أحدها وإن شئت أعطيت منها أنثى وأنت متطوع بالفضل واحتج الشافعي في أنه لم يبطل عن الصغار الصدقة لأن حكمها حكم الأمهات مع الأمهات فكذلك إذا حال عليها حول الأمهات ولا نكلفه كبيرة من قبل أنه لما قيل لي دع الربي والماخض وذات الدر وفحل الغنم وخذ الجذعة والثنية عقلت أنه قيل لي دع خيراً مما تأخذ إن كان عنده خير منه ودونه وخذ العدل

(3/119)


بين الصغير والكبير وما يشبه ربع عشر ماله فإذا كانت عنده أربعون تسوي عشرين درهماً وكلفته شاةً تسوي عشرين درهماً فلم آخذ عدلاً بل أخذت قيمة ماله كله فلا آخذ صغيراً وعنده كبير فإن لم يكن إلا صغير أخذت الصغير كما أخذت الأوسط من التمر ولا آخذ الجعرور فإذا لم يكن إلا الجعرور أخذت منه الجعرور ولم تنقص من عدد الكيل ولكن نقصنا من الجودة لما لم نجد الجيد كذلك نقصنا من السن إذا لم نجدها ولم ننقص من العدد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ مَعَهُ نِصَابٌ مِنَ الْمَاشِيَةِ نَتَجَتْ نِصَابًا، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَقِيَ النِّتَاجُ فَجَاءَ السَّاعِي فَوَجَدَهَا سِخَالًا، إِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ غَنَمًا، أو فصالاً إن كانت الأمهات إِبِلًا، أَوْ عُجُولًا إِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ بَقَرًا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَبْنِي حَوْلَ السِّخَالِ عَلَى حول الأمهات، ويأخذ منها الزَّكَاةَ وَلَا يُبْطِلُ حَوْلَهَا بِمَوْتِ أُمَّهَاتِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ بَقِيَ مِنَ الْأُمَّهَاتِ نِصَابٌ زُكِّيَتِ السِّخَالُ بِحَوْلِ النِّصَابِ الْبَاقِي مِنْ أُمَّهَاتِهَا، وَإِنْ نقصت عن النصاب بطل حكم الحول المار، وَلَمْ تَجِبْ فِي السِّخَالِ الزَّكَاةُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ حَوْلِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ بَقِيَ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَاحِدَةٌ زُكِّيَتِ السِّخَالُ بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا، وَإِنْ مَاتَتْ جَمِيعُ الْأُمَّهَاتِ بَطَلَ حُكْمُ حَوْلِهَا وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ لِلسِّخَالِ الْحَوْلَ، إِلَّا أَنْ تَصِيرَ ثَنَايَا، فَإِذَا صَارَتْ ثَنَايَا اسْتُؤْنِفَ حَوْلُهَا حِينَئِذٍ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ فِي السِّخَالِ صَدَقَةٌ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ فِي راضعٍ لبنٍ شيءٌ " قال: ولأن الصغار إنما ثبت لَهَا حُكْمُ الْحَوْلِ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ، فَإِذَا سَقَطَ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ بِمَوْتِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّابِعِ، قَالَ: ولأن الفرض قد يتغير بالزيادة والعدد، وَبِالزِّيَادَةِ فِي السِّنِّ، ثُمَّ كَانَ نُقْصَانُ الْعَدَدِ عَنِ النِّصَابِ يُوجِبُ إِسْقَاطَ الزَّكَاةِ، وَتَغْيِيرَ الْفَرْضِ، وجب أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ السِّنِّ مُؤَثِّرًا فِي إِسْقَاطِ الزكاة وتغيير الفرض، وتحرر ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَتَغَيَّرُ له الْفَرْضُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِنُقْصَانِهِ تَأْثِيرٌ فِي تَغْيِيرِ الْفَرْضِ كَالْعَدَدِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ: " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ

(3/120)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ: " وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَدَّوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " وَبِإِجْمَاعِنَا وأبي حنيفة أن العناق لا يؤدى فِي الزَّكَاةِ مِنْ مَالٍ فِيهِ كِبَارٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُؤَدًّى مِنَ الصِّغَارِ، ثُمَّ قَالَ هَذَا بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَكُلٌّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فَثَبَتَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنْ مَوْتُ بَعْضِهَا مَعَ بَقَاءِ النِّصَابِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْحَوْلِ.
أَصْلُهُ: مَوْتُ السِّخَالِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَلَدٍ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْأُمِّ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُهُ بِمَوْتِ الْأُمِّ، أَصْلُهُ وَلَدُ الْأُضْحِيَةِ، وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَرِوَايَةُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَكَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْقَوْلِ بِالرَّجْعَةِ وَالتَّنَاسُخِ مَعَ مُظَاهَرَتِهِ بسبب السَّلَفِ الصَّالِحِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حَوْلٍ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا نَمَاءً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَيْسَ فِي رَاضِعِ لَبَنٍ شَيْءٌ " يَعْنِي إِذَا انْفَرَدَتْ عَنْ أُمَّهَاتِهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا تَبَعٌ فَيُقَالُ لَهُمْ هِيَ تَبَعٌ فِي الِابْتِدَاءِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَصْلِ فِي الِانْتِهَاءِ، ثُمَّ يَفْسُدُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِوَلَدِ الْأُضْحِيَةِ، وَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ وَأَمَّا قياسهم بفضل السِّنِّ عَلَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ فَقَدْ رَضِينَا بِقِيَاسِهِمْ حَكَمًا عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ لَا تُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ حِقَّةً كَمَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ جَذَعَةً فِي اسْتِوَاءِ فَرْضِهِمَا، وَلَا يكون زيادة من الْجِذَاعِ مُوجِبًا لِزِيَادَةِ الْفَرْضِ فِيهَا فَلَمَّا لَمْ تكن لزيادة السن في زيادة الفرض تأثير وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لِنُقْصَانِ السِّنِّ تَأْثِيرٌ في إسقاط الفرض، والعدد بخلاف هذا، إنه يُؤَثِّرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَوْتَ الْأُمَّهَاتِ لَا يبطل حق السخال، فزكاتها بعد حول أمهاتها مأخوذ مِنْهَا، وَلَا يُكَلَّفُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنَ الْكِبَارِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا كِبَارٌ وَبِهِ قَالَ أبو يوسف.
وَقَالَ مَالِكٌ لَا آخُذُ الزَّكَاةَ إِلَّا كَبِيرًا، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ السِّخَالِ بِحَالٍ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " نُهِينَا عَنْ رَاضِعِ لَبَنٍ وَإِنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ " وَبِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ: " اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الراعي ولا تأخذها " ولأنه لو كان له ما قال كِرَامَ السِّنِّ وَفَوْقَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا رِفْقًا بِرَبِّ

(3/121)


الْمَالِ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ لِئَامَ السِّنِّ وَدُونَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهَا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) فَلَمْ يَجُزْ لِحَقِّ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يُكَلَّفُوا الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ: " إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " فَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَخْذِ الْكَرِيمِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي فِيهِ كِرَامٌ فَلَأَنْ لَا يَأْخُذَ الْكَرِيمَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ كِرَامٌ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهُ مِنْ عَيْنِهِ، كَالتَّمْرِ الرَّدِيءِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَيِّدًا لَزِمَهُ إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَوَاشِيَ لَوْ كَانَتْ كِرَامَ السِّنِّ لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ لَئِيمًا قِيلَ: هذا حجتنا لأنه لما جاز أخذ الرديء مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَا يُؤْخَذُ مِنْ جَيِّدِهِ الدُّونُ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الدُّونِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَخْذُ الدُّونِ مِنْ جَيِّدِهِ أَوْلَى، فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ " فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَالِ الَّذِي فِيهِ جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ وَلَا تَأْخُذْهَا " فَقَدْ قَالَ " وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ " ثم قال " وذلك عدل بين عدا الْمَالِ وَخِيَارِهِ " فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَرْضَ الْمَطْلُوبَ هُوَ وَسَطُ الْمَالِ، وَلَيْسَ أَخْذُ الْكِبَارِ مِنَ الصِّغَارِ وَسَطًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فَغَيْرُ صحيح، لأنه قد يرتفق برب الْمَالِ بِمَا لَا يَرْتَفِقُ الْمَسَاكِينُ بِمِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ حَوَامِلَ لَمْ يُكَلَّفِ الزَّكَاةَ مِنْهَا رِفْقًا بِهِ، وَلَيْسَ يَرْتَفِقُ المساكين بِمِثْلِهِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِ السَّخْلَةِ مِنَ السِّخَالِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وهو أَرْبَعُونَ جَدْيًا أَوْ بَهْمَةً، أَوْ بَيْنَ جَدْيٍ وَبَهْمَةٍ أَوْ كَانَ هَذَا فِي إِبِلٍ، فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ فِصَالٌ، أَوْ فِي بَقَرٍ وَهِيَ عُجُولٌ، أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذَا، فهذا قول الشافعي ونصه، ولم يختلف أصحابه أن محل الْغَنَمِ يُؤْخَذُ مِنْهَا سَخْلَةٌ، وَلَمْ يُكَلَّفْ عَنْهَا كَبِيرَةً، فَلَوْ كَانَ مَالُهُ أَرْبَعِينَ سَخْلَةً مِنْ نِتَاجِ يَوْمِهَا وَحَالَ حَوْلُهَا أُخِذَتْ زَكَاتُهَا سَخْلَةً مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ أُخِذَتْ زَكَاتُهَا سَخْلَتَانِ مِنْهَا، فَأَمَّا الْإِبِلُ إِذَا كَانَتْ فصالاً والبقر إذا كانت عجولاً، ففيه لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهَا كَالْغَنَمِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ أَحَدٍ وَسِتِّينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ فَصِيلًا فَصِيلَانِ وَيُؤْخَذُ مِنْ ثَلَاثِينَ عِجْلًا عِجْلٌ، وَمِنْ أَرْبَعِينَ عِجْلًا عِجْلٌ وَمِنْ سِتِّينَ عِجْلًا عِجْلَانِ وَمِنْ سَبْعِينَ عِجْلًا عِجْلَانِ ثُمَّ هَكَذَا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ قِيَاسًا عَلَى الْغَنَمِ.

(3/122)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ حُكْمَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْغَنَمِ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ فُصْلَانِ الْإِبِلِ وَعُجُولِ الْبَقَرِ فَصِيلٌ وَلَا عِجْلٌ بحال، بل يؤخذ منها السن الواجب لقيمة ماله، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا، فَالْوَاجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَيُقَالُ: لَوْ كَانَتْ كِبَارًا وَكَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِينَارٍ لَوَجَبَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَذَلِكَ نِصْفُ عُشْرِ الْمَالِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ فِصَالًا قِيمَتُهَا عِشْرُونَ دِينَارًا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا بِنْتُ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا دِينَارٌ، لِتَكُونَ الزَّكَاةُ بِقَدْرِ نِصْفِ عُشْرِ الْمَالِ، ثُمَّ كَذَلِكَ الْبَقَرُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْغَنَمِ وَبَيْنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، بِفَرْقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَسْنَانَ فَرَائِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، وَأَسْنَانَ فَرَائِضِ الْغَنَمِ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِهِ، كَوُرُودِهِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، فَجَازَ تَرْكُهُ عِنْدَ فَقْدِهِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْعُمْدَةُ: أَنَّ فَرَائِضَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ السِّنِّ، وَفَرَائِضَ الْغَنَمِ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صِغَارِ الْإِبِلِ صَغِيرٌ، لِأَنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صِغَارِ الْغَنَمِ صَغِيرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي فَرْضُ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا تَمَهَّدَ مِنْ أُصُولِهِ وَتَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ: أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْإِبِلِ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ فَهِيَ كَالْغَنَمِ يُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِهَا صَغِيرٌ كَالسِّتَّةِ وَالسَّبْعِينَ وَالْإِحْدَى وَالتِّسْعِينَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ لَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَغِيرٌ، كَالسِّتَّةِ وَالثَّلَاثِينَ وَالسِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ، ومنها مذهب لا يتحصل لوضوح فساده من الاعتبار والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت ضأناً ومعزاً كَانَتْ سَوَاءً أَوْ بَقَرًا وَجَوَامِيسَ وَعِرَابًا وَدَرْبَانِيَّةً وإبلاً مختلفة فالقياس أن نأخذ من كل بقدرٍ حصته فإن كان إبله خمساً وعشرين عشر مهرية وعشر أرحبية وخمس عيدية فمن قال يأخذ من كل بقدر حصته قال يأخذ ابنة مَخَاضٍ بِقِيمَةِ خُمُسَيْ مَهْرِيَّةٍ وَخُمْسَيْ أَرْحَبِيَّةٍ وَخُمْسَ عيدية.
قال الماوردي: أما إن كَانَتْ مَاشِيَتُهُ نَوْعًا وَاحِدًا لَا تَخْتَلِفُ وَلَا تتنوع فالواجب أن تؤخذ زكاته منها جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا، فَإِنْ أَعْطَى عَنِ الْجَيِّدِ رَدِيئًا لَمْ يُقْبَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) (البقرة: 267) وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً كَأَنْ كَانَتْ غَنَمًا بَعْضُهَا ضَأْنٌ، وَبَعْضُهَا مِعْزَى، أَوْ كَانَتْ إِبِلًا بَعْضُهَا مَهْرِيَّةٌ وَبَعْضُهَا أَرْحَبِيَّةٌ، أَوْ كَانَتْ بَقَرًا بعضها درباسة وبعضها عراب، فذلك ضربان:
أحدها: أَنْ يَسْتَوِيَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ.

(3/123)


وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ، فَإِنِ اسْتَوَى النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ، فَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ مِنْهَا ضَأْنٌ، وَعِشْرُونَ مِنْهَا مِعْزَى، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ عَلَى قدر المالين، كأنا نَقُولَ قِيمَةُ جَذَعَةٍ مِنَ الضَّأْنِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقِيمَةُ ثَنِيَّةٍ مِنَ الْمِعْزَى عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَتُؤْخَذُ نصف القيمتين فتكون خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، إِمَّا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةً مِنَ الْمِعْزَى، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَإِنْ تَفَاضَلَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ فَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، ثَلَاثُونَ مِنْهَا ضَأْنٌ وَعَشْرٌ مِعْزَى، أَوْ كَانَتْ إِبِلًا أَوْ بَقَرًا مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ مُتَفَاضِلَةَ الْأَعْدَادِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُؤْخَذُ زَكَاتُهَا مِنَ الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ اعْتِبَارًا بِمَا تَمَهَّدَ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَيَقْضِي عَلَى العدل بغالب أحوالهم وإن أساء على الغالب بِغَالِبِ فِسْقِهِ، وَإِنْ أَحْسَنَ، وَكَمَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ السَّائِمَةِ وَإِنْ عُلِفَتْ فِي الْحَوْلِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ، وَلِأَنَّ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا مَشَقَّةً لَاحِقَةً بِأَرْبَابِ الأموال يخرج من مَوْضُوعِ الْمُوَاسَاةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ غَالِبِ مَالِهِ جَيِّدًا كَانَ الْغَالِبُ أَوْ رَدِيئًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، لِيَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّقْصِ وَالْكَمَالِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ شَائِعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَلِأَنَّا إِذَا علقنا ذَلِكَ بِالْأَكْثَرِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ خِيَارُهُ فِي الْأَقَلِّ، فَنَكُونُ قَدْ بَخَسْنَا الْمَسَاكِينَ حَقَّهُمْ وَأَبَحْنَا رَبَّ الْمَالِ إِعْطَاءَ خَبِيثِ مَالِهِ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ النَّصِّ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيَاسًا على ما لم يختلف مذهبه فيه من الفضة إذا وجبت فَكَانَ بَعْضُهَا جَيِّدًا وَبَعْضُهَا رَدِيئًا لَزِمَ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا دُونَ غَالِبِهَا، كَذَلِكَ في الماشية، ويجوز ذلك قياساً أن يقال إنه جنس قَدِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِصَّتِهِ كَالْفِضَّةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا اعْتِبَارَ بِالْغَالِبِ وَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ عَشَرَةٌ مِنْهَا مَهْرِيَةٌ، وعشرة أرحبية، وخمسة محتدية، فقال قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ مَهْرِيَّةٍ ثَلَاثُونَ دِينَارًا فَيُؤْخَذُ خمساها، لأن خمسي إبله مهرية فيكون اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، وَيُقَالُ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ أَرْحَبِيَّةٍ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَيُؤْخَذُ خُمُسَاهَا، لِأَنَّ خُمْسَيْ إبله أرحبية فيكون ثمانية دنانير ويقال قيمة بنت مخاض محتدية عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَيُؤْخَذُ خُمُسُهَا، لِأَنَّ خُمُسَ إِبِلِهِ محتدية فيكون دينارين، ثم تجمع الاثني عشر والثمانية والدينارين فيكون اثنين وعشرين، فيؤخذ من بِنْتُ مَخَاضٍ بِقِيمَةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِينَارًا، إِمَّا مهرية أو أرحبية، أو محتدية، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الْبَقَرِ وَفِيمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب.

(3/124)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَدَّى فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ عَنِ الْأَرْبَعِينَ شَاةً مُتَفَرِّقَةً كَرِهْتُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ، وَعَلَى صَاحِبِ الْبَلَدِ الْآخَرِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الزَّكَاةُ فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا إِلَّا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَجِيرَانِهِ سَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مُقِيمًا أَوْ بَائِنًا عَنْهُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ فِي غير بلده وجيرانه، كان مسيئاً، وفي الآخر قولان:
أحدهما: أنه يجزئه.
والثاني: لا يجزئه وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنْ كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ مِنْهَا بِالْبَصْرَةِ وَعِشْرُونَ بِبَغْدَادَ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ نِصْفِ شَاةٍ بِالْبَصْرَةِ عَنِ الْعِشْرِينَ الَّتِي بِهَا، وَنِصْفِ شَاةٍ بِبَغْدَادَ عَنِ الْعِشْرِينَ الَّتِي بِهَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِ نصف شاة باقيها للفقراء أو المساكين من أهل الصدقات أجزاه وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْرَجَ نِصْفَ شَاةِ بِاقِيهَا لَهُ أَوْ لِرَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ على ما سواه، فالصحيح أنه يجزئه وَلَا اعْتِبَارَ بِوَصْفِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يُجْزِيهِ حَتَّى يَكُونَ بَاقِي الشَّاةِ مِلْكًا لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَيَكْمُلُ لَهُمْ نَفْعُهَا، لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الشَّاةِ إيقاع ضررهم، وَإِدْخَالَ نَقْصٍ فِي حَقِّهِمْ، وَهَذَا تَعَسُّفٌ يُؤَدِّي إِلَى تَكْلِيفِ مَا يَتَعَذَّرُ، وَاعْتِبَارُ وَصْفِ مَا لم يَلْزَمُ فَإِنْ عَدَلَ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَأَخْرَجَ شَاةً كَامِلَةً فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ عَنْ جَمِيعِ الْمَالَيْنِ فَقَدْ أَجْزَأَهُ نِصْفُهَا عَمَّا فِيهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِجْزَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ فَكَانَ ابْنُ الْوَكِيلِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدِ المال إلى غيره، أحدهما يجزئه، والثاني لا يجزئه، وكان باقي أصحابنا يقولون يجزئه ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا: لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الشَّاةِ مَشَقَّةً لَاحِقَةً، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَالِي الْبَلَدَيْنِ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ طَالَبَهُ وَالِي الْبَلَدِ الْآخَرِ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ فَأَخْبَرَهُ بِأَدَائِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ، أَحْلَفَهُ، وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِظْهَارٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ لَا بِنُكُولِهِ وَلَكِنْ بِالظَّاهِرِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأَدَاءِ مُخَالِفٌ لَهُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِنُكُولِهِ لَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ، أَوْ يُؤَدِّيَ، لِأَنَّ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ حُكْمًا عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ غَلَطٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَّا غَلَطُهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَالَفَ نَصَّ مذهبه.

(3/125)


وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَهِلَ تَعْلِيلَ قَوْلِهِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ الظَّاهِرُ الْمُتَقَدِّمُ لَا النكول الطارئ، وأما غلطه على نفسه فإنه أَوْجَبَ حَبْسَ رَبِّ الْمَالِ بِنُكُولِهِ، وَالنُّكُولُ لَا يُوجِبُ الْحَبْسَ، كَمَا لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ فكان ما ارتكبه مساوياً لمثل ما أذكره.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو قال المصدق هي وديعة أو لم يحل عليها الحول صدقة وإن اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ مَالٌ إِلَّا بِأَوْصَافٍ وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ مِنْهَا الْمِلْكُ وَالسَّوْمُ وَالْحَوْلُ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِ رَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَطَالَبَهُ السَّاعِي بِزَكَاتِهَا، فَذَكَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ له وإنها بيده وَدِيعَةٌ فَيَنْبَغِي لِلسَّاعِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ مَالِكِهَا، فَإِنْ أَخْبَرَ بِهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِ السَّاعِي صِدْقُ قَوْلِهِ لَمْ يُحَلِّفْهُ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ مُصَدَّقٌ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ وَارْتَابَ بِقَوْلِهِ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ أَمِينٌ قَدِ اسْتَنَدَ إِلَى ظَاهِرٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَالِكِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ صُدِّقَ لَمْ يُحَلَّفْ وَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ اسْتِظْهَارًا كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِمَالِكِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ضَعِيفٌ، يُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَالِكِهَا. لِأَنَّ لِلْيَدِ ظَاهِرًا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ اليد تدل على الملك إذا اعتبرت بِدَعْوَى صَاحِبِ الْيَدِ، فَأَمَّا مَعَ إِنْكَارِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِيَدِهِ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْيَدِ هِيَ ملكي لكن لم يحل عليها الحول، فالقول قوله، وإن صَدَّقَهُ السَّاعِي فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا، لِأَنَّهُ فِي إِنْكَارِ الْمِلْكِ وَالْحَوْلِ وَالسَّوْمِ يَرْجِعُ إِلَى ظَاهِرٍ يُعَاضِدُ قَوْلَهُ مِنْ غير إقرار يقدم بِالْوُجُوبِ، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْيَمِينُ فِيهِ اسْتِظْهَارًا، وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ الْشَاهِدَانِ أَنَّ لَهُ هَذِهِ الْمِائَةَ بعينها من رأس الحول فقال قد ثم بعتها اشتريتها صَدَّقَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ طَالَبَهُ السَّاعِي بِزَكَاتِهَا، فَذَكَرَ أَنَّ حَوْلَهَا لَمْ يَحُلْ فَقَبِلَ السَّاعِي قَوْلَهُ، ثُمَّ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ.
قَالَ الشافعي: لا أقبل شهادتهما حتى يقطعا الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا بِأَنْ يَقُولَا كَانَتْ هَذِهِ الْغَنَمُ وَيُشِيرَا إِلَيْهَا لِهَذَا الرَّجُلِ وَيُشِيرَا إِلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ زَادَا أو تمما الشهادة لو قَالَا لَا نَعْلَمُ أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ كَانَ أَحْوَطَ فَإِنْ صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا فَعَلَى السَّاعِي أن يرجع

(3/126)


إِلَى رَبِّهَا فَيُطَالِبُهُ بِزَكَاتِهَا، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ خَيْرٌ مِنَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ أَجَزْتُمْ شَهَادَتَهُمَا وَقَدْ شَهِدَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَرْنِي الَّذِي أَنَا فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ فِي النَّاسِ حَتَى يَشْهَدَ الشُّهُودُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يستشهدوا.
قيل: إنما اجتزينا بهذه الشهادة؛ لأنها تتعلق بحق الله تعالى يَسْتَوِي فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْمُطَالِبُ فَحَسُنَ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَكَذَلِكَ حُقُوقُ الْأَيْتَامِ وَالضُّعَفَاءِ وَمَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُعَاضِدَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ الشَّهَادَةِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا فِيهَا "، فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَلَى دَعَاوَى الْخُصُومِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَيَكُونُ الْحَدِيثَانِ مَعًا مُسْتَعْمَلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي الشَّاهِدَيْنِ إِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا أَمْ لَا؟ قِيلَ إِنْ كَانَا مِنْ جِيرَانِ الْمَالِكِ وَأَهْلِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا قَدْ يُتَّهَمَانِ أَنْ يَجُرَّا بِالشَّهَادَةِ نَفْعًا إِلَى أَنْفُسِهِمَا، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْخَائِنِ وَلَا ذِي غَمْرٍ، وَلَا شَهَادَةُ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ " يَعْنِي بِذِي الْغَمْرِ الْعَدُوَّ، وَالْقَانِعُ: السَّائِلُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَاهَدُونَهُ بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ، وَإِنْ كان مِنْ غَيْرِ جِيرَانِ الْمَالِكِ، وَمِمَّنْ لَا تُفَرَّقُ بينهما تِلْكَ الزَّكَاةُ لِبُعْدِهِمَا فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ عَنْهُمَا.
وَالثَّانِي: لَا تُقْبَلُ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ بِأَنْ تَؤُولَ الصَّدَقَةُ إِلَيْهِمَا، فَإِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ بِأَنَّهَا فِي يَدِهِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ، طُولِبَ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ أَكْذَبَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِكْذَابِهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَبْرًا، وإن أصدق الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَاعَهَا فِي تضاعيف الحول شراء ثُمَّ ابْتَاعَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذِهِ الدَّعْوَى تُوَافِقُ الظَّاهِرَ أَوْ تُخَالِفُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلظَّاهِرِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْيَمِينُ اسْتِظْهَارًا فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ.

(3/127)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَرَّتْ بِهِ سَنَةٌ وَهِيَ أَرْبَعُونَ فَنَتَجَتْ شَاةٌ فَحَالَتْ عَلَيْهَا سَنَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ إِحْدَى وأربعون فنتجت شاة فحالت عليها سنة ثالثة وهي اثنان وَأَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ سَائِرُ فُرُوعِهَا، اخْتِلَافُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّكَاةِ، هَلْ تَجِبُ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَلَهُ في ذلك قولان:
أحدهما: وهو قوله أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ لَا فِي عَيْنِ مَالِهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ وَلَيْسَتِ الشَّاةُ فِي عَيْنِ الْمَالِ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي الْمَالِ وَكَانَ الْمَسَاكِينُ فِيهَا شُرَكَاءُ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ إِبْطَالُ شَرِكَتِهِمْ وَالِانْتِقَالُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِمْ، كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا كَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهِ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي ذِمَّتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي عَيْنِ الْمَالِ لا في الذمة لقول اللَّهِ تَعَالَى {وَالّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (المعارج: 24) فاقتضى كلامه هَذَا اللَّفْظِ وَصَرِيحُهُ إِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي عَيْنِ الْمَالِ دُونَ ذِمَّةِ رَبِّهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي أَرْبَعِينَ شاةٍ شاةٌ " فَأَوْجَبَ الشَّاةَ فِي عَيْنِهَا وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي ذِمَّةِ رَبِّهَا وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَالِ كَالدَّيْنِ وَالْفَرْضِ وَكُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَالِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَلَمَّا بَطَلَتِ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي عَيْنِ الْمَالِ دُونَ ذِمَّةِ المالك.

فصل
: قال فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ، فَعَلَى الْقَوْلِ القديم: أن الزكاة واجبة في الذمة، واختلف أَصْحَابُنَا هَلِ الْعَيْنُ مُرْتَهَنَةٌ بِهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعَيْنِ فِي الْوُجُوبِ، وَلَا تَكُونُ الْعَيْنُ مُرْتَهَنَةً بِهَا لِأَنَّ الْعَيْنَ لَوْ كَانَتْ مُرْتَهَنَةً بِهَا مَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي الْعَيْنِ قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ قَبْلَ نكاحه فَلَمَّا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِلْوُجُوبِ بِهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْعَيْنَ مُرْتَهَنَةٌ بِمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، كَالْعَبْدِ الْجَانِي رَقَبَتُهُ مُرْتَهَنَةٌ بِجِنَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رَقَبَتِهِ، فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ، وَإِلَّا أَخَذَ السَّاعِي ذَلِكَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ وَبِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَسِيرَةُ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ فَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَوْلَانِ:

(3/128)


أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ فَيَكُونُ الْفَرْضُ الْوَاجِبُ مِلْكًا لِلْمَسَاكِينِ هُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، لَكِنْ سُومِحَ رَبُّ الْمَالِ بِأَنْ أُبِيحَ لَهُ إِعْطَاءُ الْبَدَلِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَالُ الْغَنِيمَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وُجُوبٌ مُرَاعًى لَا وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ وَنَظِيرُ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الْجِنَايَةِ بِثَمَنِ الْعَبْدِ وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِمَالِكِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا وَتَمَهَّدَ مَا قَرَّرْنَا وَكَانَ مَعَ رَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ لِلسَّنَةِ الْأُولَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، لِنُقْصَانِهَا عَنِ النِّصَابِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبًا مُرَاعًى نَظَرْتَ فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْغَنَمِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ عَقَارٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْغَنَمِ فَفِي قَدْرِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا هَلْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا أَمْ لَا؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا زكاة عليه فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُخْرِجُ ثَلَاثَ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ، فَصَارَ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ زَكَاتِهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ.
أَحَدُهَا: زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالثَّانِي: زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا وجبت عليه الثلاث زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ.
وَالرَّابِعُ: إِنْ كان موسراً بغيرها وجبت عليه زكاة الثلاث سنين، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِغَيْرِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ شَاةً لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ سَوَاءً قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ فِي الْعَيْنِ لِكَمَالِ النِّصَابِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ فَنَتَجَتْ شَاةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى نَتَجَتْ شَاةً، ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ الثَّالِثُ فَهَذَا عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ الشَّاةَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي كُلِّ عَامٍ قَدْ خَلَفَتْهَا شَاةٌ مِنَ النِّتَاجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ضلت أو غصبها أحوالاً فوجدها زكاها لأحوالها والإبل التي فريضتها من الغنم ففيها قولان أحدهما أن الشاة التي فيها في رقابها يباع منها بعير فتؤخذ منه إن لم يأت بها وهذا أشبه القولين والثاني إن في خمس من الإبل

(3/129)


حال عليها ثلاثة أحوالٍ ثلاث شياهٍ في كل حولٍ شاة (قال المزني) الأول أولى به لأنه يقول في خمس من الإبل لا يسوي واحدها شاة لعيوبها إن سلم واحداً منها فليس عَلَيْهِ شاةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَكَانَ مِنْ وَرِقٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَضَلَّ مِنْهُ أَوْ غُصِبَ، أَوْ دَفَنَهُ فِي مَوْضِعٍ فَنَسِيَهُ، أَوْ غَرِقَ فِي بَحْرٍ لَمْ يَجِدْهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ عَوْدِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الضَّالُّ، وَاسْتَرْجَعَ الْمَغْصُوبَ، وَوَجَدَ الْمَدْفُونَ، وَوَصَلَ إِلَى الْغَرِيقِ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَحْوَالٍ، فَفِي إِيجَابِ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي القديم: لا زكاة عليه ووجه ذلك اثنان.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ كالمواشي والزرع وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ دُونَ مَا لَيْسَ بِنَامٍ كَالدُّورِ وَالْعَقَارَاتِ فَلَمَّا كَانَ الْمَغْصُوبُ مَعْدُومَ النَّمَاءِ وَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وَهَاءَ الْمِلْكِ وَنُقْصَانَ التَّصَرُّفِ يَمْنَعَانِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، كَالْمُكَاتَبِ الَّذِي لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، لِوَهَاءِ مِلْكِهِ، وَنُقْصَانِ تَصَرُّفِهِ، وَرَبُّ الضَّالَّةِ، وَالْمَغْصُوبُ وَاهِي الْمِلْكِ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الْحَوْلُ "، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ فِيمَا ضَلَّ أَوْ غُصِبَ بَاقٍ، عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ إِذَا كَانَ نَامِيًا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ مَفْقُودًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَبَسَ مَالَهُ عَنْ طَلَبِ النَّمَاءِ حَتَّى عَدِمَ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ وَأَرْبَاحَ التِّجَارَاتِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ، كَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَهِيَ النُّكْتَةُ وَفِيهَا انفصال عن الاستدلال الأول، فأما الاستدال الثَّانِي فَرَدُّهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ المعنى في سقوط الزكاة من الْمُكَاتَبِ نُقْصَانُ مِلْكِهِ لَا نُقْصَانُ تَصَرُّفِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ، وَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ وَاللَّهُ أعلم.

فصل
: إذا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ وَكَانَ الْمَالُ الْمَغْصُوبُ مَاشِيَةً فلهذا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً عِنْدَ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً عِنْدَ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً عِنْدَ مَالِكِهَا سَائِمَةً عِنْدَ غَاصِبِهَا.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ سائمة عند مالكها معلوفة عند غاصبها، فإن كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ فَلَهَا حَالَانِ:

(3/130)


أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْمَالِكِ بِلَا دَرٍّ وَلَا نَسْلٍ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْقَوْلَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ بَدَرِّهَا وَنَسْلِهَا فَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ عَلَيْهِ زَكَاتَهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَدِيمِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ فَقْدُ النماء فاقتضى أن يكون وجود النماء موجب لها، وعند أبي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَدِيمِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ وَهَاءُ الْمِلْكِ، وَنُقْصَانُ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ مَرْدُودًا وَهَذَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْمَالِكِ سَائِمَةً عِنْدَ الْغَاصِبِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، لِأَنَّ السَّوْمَ إِنَّمَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا، فَأَمَّا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمَالِكُ فَلَا حُكْمَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاشِيَةَ لَوْ خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ وَرَعَتْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَوْمًا يُوجِبُ الزَّكَاةَ، كَذَلِكَ سَوْمُ الْغَاصِبِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَكُونُ سَوْمُ الْغَاصِبِ كَسَوْمِ الْمَالِكِ فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا كَانَ عَلَى الْمَالِكِ زَكَاتُهَا كَذَلِكَ، إِذَا غَصَبَ مَاشِيَةً فَسَامَهَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ على الملاك زَكَاتُهَا، وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّوْمِ وَالزِّرَاعَةِ أَنَّ السَّوْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدٍ، لِأَنَّ الْمَاشِيَةَ لَوْ رَعَتْ بِنَفْسِهَا لم يكن له عليها حُكْمٌ، وَالزِّرَاعَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَصْدٍ، أَلَا ترى أنه لو نقل طعاماً ليحرزه فانتثر بَعْضُهُ وَنَبَتَ وَبَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ حَبًّا لَزِمَتْهُ زكاته، وإن لم يقصد زراعته.

فصل
: فلو كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ الْمَالِكِ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا غَيْرُ سَائِمَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ حُكْمُ سَوْمِهَا ثَابِتٌ وَإِنْ عَلَفَهَا الْغَاصِبُ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ كَمَنْ غَصَبَ فِضَّةً فَصَاغَهَا حُلِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْقِطًا لزكاتها عن الملاك، ولو كان المالك صَاغَهَا سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ زَكَاتُهَا، كَذَلِكَ إِذَا غَصَبَ سَائِمَةً فَعَلَفَهَا لَمْ تَسْقُطْ عَنِ الْمَالِكِ زَكَاتُهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ صياغة المالك كصياغة الغاصب فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ عَلْفُهُ لَا يَكُونُ كَ " عَلْفِ الْمَالِكِ " فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَلْفَ الْغَاصِبِ كَ " عَلْفِ الْمَالِكِ " لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيهِ وإنما هو عاص لغصبه وَصِيَاغَةُ الْغَاصِبِ بِخِلَافِ صِيَاغَةِ الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ عَاصٍ فِي الصِّيَاغَةِ كَمَعْصِيَتِهِ فِي الْغَصْبِ، وَصِيَاغَةُ الْحُلِيِّ المحظور غير مسقط لِلزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صِيَاغَةُ الْغَاصِبِ كَصِيَاغَةِ الْمَالِكِ، وَكَانَ عَلْفُ الْغَاصِبِ كَعَلْفِ الْمَالِكِ.
فَصْلٌ
: فأما إذا غصب المالك عن طلبه كَأَنْ أُسِرَ وَحُمِلَ إِلَى دَارِ الرُّومِ، ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَحْوَالٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أن عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا لَوْ غُصِبَ عَنْهُ مَالُهُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.

(3/131)


وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ لَوْ غُصِبَ عَنْهُ مَالُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَإِذَا غُصِبَ عَنْ مَالِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَمْكَنَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ حَاكِمٍ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ مع رجل أربعون شاة فضلت منه أو غصبت فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَصْلًا إِذَا قِيلَ: إِنَّ زَكَاةَ الْمَغْصُوبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ كُلِّهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمَغْصُوبَ يُزَكَّى وَإِنَّهَا في الذمة وهو موسر بها.
والقول الثالث: عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى إِذَا قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ شَاةً ضَلَّتْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ.
فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ كُلِّهَا لِوُجُودِ النِّصَابِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهَا فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ضَلَّتْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الضَّالَّ أَوِ الْمَغْصُوبَ لا زكاة فيه فلا وَإِنْ قِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا فِي الْعَيْنِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَحَدُهُمَا: شَاةٌ وَاحِدَةٌ لِلسَّنَةِ الْأُولَى لَا غَيْرَ عَلَى مَا مَضَى، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا مِنْ غير جنسها فلم يتعلق وجوبه بغيرها، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ فُرُوعِهِ.
فصل
إذا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَضَلَّتْ مِنْهَا شَاةٌ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ عَادَتْ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ حيث أسقط زكاة المال، يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ عَوْدِهَا، وَعَلَى قَوْلِهِ الجديد حيث أوجب زكاة المال يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَيُزَكِّي عِنْدَ آخِرِهِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَمَاتَ مِنْهَا في تضاعيف حولها شَاةٌ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُ الشَّاةِ أَسْبَقَ مِنَ النِّتَاجِ اسْتَأْنَفَ بِهَا الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ مَا نَتَجَتْ، وَإِنْ كَانَ النِّتَاجُ أَسْبَقَ مِنْ مَوْتِ الشَّاةِ بَنَى عَلَى الْمَاضِي مِنْ حَوْلِهَا، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الشَّاةِ وَنِتَاجُ الْأُخْرَى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَنَى عَلَى الْحَوْلِ وَزَكَّى لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يُنْقَصْ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً مَضَى مِنْ حَوْلِهَا ستة أشهر ثم ضلت أَوْ غُصِبَتْ وَرُدَّتْ إِلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ زَكَاةَ الْمَغْصُوبِ وَاجِبَةٌ فَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ، لِحُلُولِ حَوْلِهَا فِي

(3/132)


يَدِهِ وَيَدِ الْغَاصِبِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ زَكَاةَ المغصوب غير واجبة فهي تبنى عَلَى السِّتَّةِ الْأَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْغَصْبِ أَوْ يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ بَعْدَ رُجُوعِهَا مِنَ الْغَصْبِ عَلَى وجهين.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ارتد فحال الحول على غنمه أوقفته فإن تاب أخذت صدقتها وإن قتل كانت فيئاً خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها لأهل الْفَيْءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ارْتَدَّ رب المال عن الإسلام فله حالان:
أحدهما: أن يكون بعد الحول.
والثاني: أن يكون قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، ثُمَّ بَقِيَ مُرْتَدًّا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَخْرِيجِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مِلْكِهِ هَلْ يَكُونُ ثَابِتًا أَوْ مَوْقُوفًا، أَوْ زَائِلًا؟ فأحد الأقاويل وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. إِنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ قُتِلَ مُرْتَدًّا أَوْ مَاتَ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ أُخِذَتْ زَكَاتُهُ سَوَاءٌ تَابَ أَوْ قُتِلَ.
فَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ زَوَالُ مِلْكِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَأْوِيلِ لَفْظَةٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ فَقَالَ: لِأَنَّ مِلْكَهُ خَارِجٌ عَنْهُ فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ مَعْنَاهُ إِنَّهُ خَارِجٌ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ: " إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ " وَيُخَرِّجُ قَوْلًا ثَالِثًا إِنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ فَعَلَى هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَابَ، اسْتَأْنَفَ حول وسنذكر توجيه الأقاويل في موضعه إن شاء الله.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو غل صدقته عذر إِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الجهالة ولا يعذر إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ عَدْلًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَتَمَ الرَّجُلُ مَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ عَنِ السَّاعِي وَأَخْفَاهُ عَنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ زَكَاتَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ، أَوْ جَائِرًا فِيهَا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، يَأْخُذُ فَوْقَ الْوَاجِبِ أَوْ يَأْخُذُ الواجب ويصرفه في غير مستحقيه فلا تعزيز عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِكَتْمِهِ وَإِنْ كَانَ عَادِلًا

(3/133)


فَلِرَبِّ الْمَالِ حَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدَّعِيَ شُبْهَةً فَيَقُولَ لَمْ أَعْلَمْ بِتَحْرِيمِ كَتْمِهَا وَهُوَ حَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَهَذَا مَعْذُورٌ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ قَدْرُ الواجب عليه من غير تعذير، والثاني: أن تكون له شبهة كَتْمِهَا وَمَنَعَ الْإِمَامَ مِنْهَا لِعِلْمِهِ بِوُجُوبِهَا فَيَكُونَ بِكَتْمِهَا عَاصِيًا، آثِمًا، وَيُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ أَدَبًا وَزَجْرًا، ويأخذ منه زَكَاتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ وَشَطْرُ مَالِهِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا نَصِيبٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا ثنيا فِي الصَّدَقَةِ " أَيْ: لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ.
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْحَدِيثِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَحَّ إِسْنَادُهُ وَثَبَتَ نَقْلُهُ عَمِلَ عَلَيْهِ وصبر إِلَيْهِ، لِأَنَّ رِوَايَةَ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ ضَعِيفَةٌ.
وقال أبو العباس بَلْ مَعْنَاهُ إِنْ صَحَّ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَلَمْ يَكُنْ أَصْلٌ يَدْفَعُهُ وَلَا إِجْمَاعٌ يُخَالِفُهُ عُمِلَ عَلَيْهِ، وَأُصُولُ الشَّرْعِ تَدْفَعُهُ وإجماع الصحابة على ترك العمل به فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعَ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ حُجَّةٌ والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَرَبَتْ غَنَمَهُ فُحُولُ الظِّبَاءِ، لَمْ يَكُنْ حكم أولادها كحكم الْغَنَمِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَغْلِ فِي السُّهْمَانِ حُكْمُ الْخَيْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الظِّبَاءُ وَجَمِيعُ الصَّيْدِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا، لِاسْتِوَاءِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فِي تَمَلُّكِهَا، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْمُتَوَلَّدُ مِنْ ظِبَاءٍ وَغَنَمٍ، أَوْ مِنْ بَقَرِ وَحْشٍ وَأَهْلِيَّةٍ فَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ ظِبَاءً، وَالْفُحُولُ غَنَمًا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ غَنَمًا وَالْفُحُولُ ظِبَاءً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا أَيْضًا، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الظِّبَاءِ فِي الضَّحَايَا وَالْجَزَاءِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: حُكْمُهَا حُكْمُ الْغَنَمِ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَتَجُوزُ فِيهَا الضَّحَايَا، وَلَا يَجِبُ

(3/134)


فِي قَتْلِهَا الْجَزَاءُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أن ولد الأمة ملك لسيدها، ولو نَزَا فَحْلُ رَجُلٍ عَلَى شَاةٍ لِغَيْرِهِ كَانَ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ دُونَ الْفَحْلِ.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَتْ فُحُولُ الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ إِنَاثَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي أَوْلَادِهَا تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الزَّكَاةِ فِي الْآبَاءِ بِمُسْقِطٍ لِلزَّكَاةِ فِي الْأَوْلَادِ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفُحُولُ ظِبَاءً وَالْأُمَّهَاتُ غَنَمًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْجَزَاءُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِمَّا فِيهِ الْجَزَاءُ وَمَا لا جزاء فيه ك " السبع " الْمُتَوَلَّدِ مِنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْجَزَاءِ، اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الزَّكَاةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: هُوَ أنه متولد من خسيس لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا زَكَاةٌ بِحَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ لا تكون فِيهِ زَكَاةٌ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ ظِبَاءً وَالْفُحُولُ غَنَمًا، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَوَلَّدُ مِنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ، لِأَنَّ الْمَعْلُوفَ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْإِيجَابُ وَالْإِسْقَاطُ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ، كَمَا لَوْ عَلَفَهَا بَعْضَ الْحَوْلِ وَسَامَهَا الْبَعْضَ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ يُسْهَمُ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَ أبي حنيفة، وَالْحَمِيرُ لَا يُسْهَمُ لَهَا وَلَا زَكَاةَ فِيهَا، ثُمَّ الْبَغْلُ لَا يُسْهَمُ لَهُ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَبِيهِ فِي الْإِسْقَاطِ، كَذَلِكَ فِيمَا تَوَلَّدَ مِنْ ظِبَاءٍ وَغَنَمٍ، وَبِهَذَا يَسْقُطُ جَمِيعُ مَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِحُكْمِ أُمِّهِ، ثُمَّ قَدْ يَتْبَعُ الْوَلَدُ أَبَاهُ أَيْضًا دون أمه في النسب، وقد يجمعه فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ الْوَلَدِ لِأُمِّهِ فِي الْمِلْكِ دَالًّا عَلَى اتِّبَاعِهِ لَهَا فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ مَعْلُوفَةٍ وَسَائِمَةٍ فَلِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ مِنْ جِنْسٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالظِّبَاءَ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ فِي الْجَزَاءِ الْإِثْبَاتُ دُونَ الْإِسْقَاطِ كَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، فَبَاطِلٌ بِالْبَغْلِ غَلَبَ فِيهِ الْإِسْقَاطُ دُونَ الْإِثْبَاتِ، وذكر في الدرس جواباً آخر وإن ألحقناه بالصيد في وجوب الجزاء لقتله ألحقناه أيضاً في تحريم أَكْلِهِ فَوَقَفَ الدَّلِيلُ فِيهِ ثُمَّ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الزَّكَاةِ بِالْجَزَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى جامع وبالله التوفيق.

(3/135)