الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب زكاة الثمار
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ عَنِ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوسقٍ مِنَ التَّمْرِ صدقةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمُنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} (البقرة: 267) فأوجب بأمره الإنفاق مما أخرج مِنَ الْأَرْضِ، وَالثِّمَارُ خَارِجَةٌ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) {البقرة: 267) فَدَلَّ على أن المراد بالنفقة الصدقة الَّتِي يَحْرُمُ إِخْرَاجُ الْخَبِيثِ فِيهَا، وَلَوْ لَمْ يُرِدِ الصَّدَقَةَ لَجَازَ إِخْرَاجُ خَبِيثِهَا وَطَيِّبِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ.
فَرِوَايَةُ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا سَقَتِ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ فَنِصْفُ الْعُشْرِ ".
وَالثِّمَارُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ السَّقْيِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي عُمُومِ الْوُجُوبِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وجوبها، وإن اختلفوا في قدر ما يجب فيه.

(3/209)


فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي الثِّمَارِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّمَارِ، إِذَا بَلَغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، وَلَا شيء فيما دُونَ ذَلِكَ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وأبو يوسف، ومحمد، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِيمَا سَقَتِ الْسَمَاءُ الْعُشْرُ ".
وَرِوَايَتُهُ عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ رَجُلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَا سَقَتِ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ فَنِصْفُ العشرِ " فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الْحَوْلُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ النِّصَابُ، كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَالرِّكَازِ، وَلِأَنَّ لِلزَّكَاةِ شَرْطَيْنِ الْحَوْلُ، وَالنِّصَابُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْحَوْلُ فِي الثِّمَارِ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ فيها معتبراً.
وتحريره قياساً: أن أَحَدُ شَرْطَيِ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي الثِّمَارِ كَالْحَوْلِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ابتدائه وقص يعفى عنه لكان في انتهائه وَقْصٌ يُعْفَى عَنْهُ كَالْمَاشِيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي أَثْنَائِهِ عَفْوٌ اقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهِ عَفْوٌ.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صدقةٌ " فَتَعَلَّقَ الْخَبَرُ بِنَفْيِ الصَّدَقَةِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَدَلِيلُهُ بينها فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَمَا زَادَ، وَهُوَ مَوْضِعُ وِفَاقٍ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ وَجَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي زرعٍ وَلَا نخلٍ وَلَا كرمٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ".
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي شيءٍ مِنَ الحرثِ حتى يبلغ خمسة أوسقٍ فذا بَلَغَ خَمْسَةَ أوسقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ " وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا وَهَذِهِ نُصُوصٌ لَا

(3/210)


احْتِمَالَ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: مَا دُونَ الْخَمْسَةِ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ العشر ألا ترى أنا نأخذه من المكاتب والذمي وإن لم تؤخذ مِنْهُمَا الزَّكَاةَ، قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِتَسْمِيَةِ الْعُشْرِ زَكَاةً، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَرْثِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى عَمَّا دُونَ الْخَمْسَةِ، مَا أَثْبَتَهُ فِي الْخَمْسَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَأْوِيلُهُمْ وَلِأَنَّهُ جِنْسُ مال تجب فيه الزكاة فوجب أن يعتبر فيه النصاب كالفضة والذهب، ولأنه حق مَالٍ يَجِبُ صَرْفُهُ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ النِّصَابُ كَالْمَوَاشِي، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِمَالٍ مَخْصُوصٍ اعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرٌ مخصوص كالذهب وَالْفِضَّةِ وَعَكْسُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّ النِّصَابَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ فِي الْمَوَاشِي لِيَبْلُغَ الْمَالُ حَدًّا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الثِّمَارِ، فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ فَعَامٌّ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَخَصُّ، وَأَمَّا الْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ (فِيمَا سَقْتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ) فَعَنْهُ جَوَابَانِ: تَرْجِيحٌ وَاسْتِعْمَالٌ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ " بَيَانٌ فِي الْإِخْرَاجِ مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ، وَقَوْلُهُ: " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ " بَيَانٌ فِي الْمِقْدَارِ مُجْمَلٌ فِي الْإِخْرَاجِ، فَكَانَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ من خبرنا قاضياً على إجمال المقدار من خبرهم، كما أن بيان الإخراج من خبرهم قاض على إجمال الإخراج من خَبَرِنَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ خَبَرَهُمْ مُتَّفَقٌ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِهِ لِأَنَّ أبا حنيفة لَا يُوجِبُ فِي الْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ وَلَا فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ شيئاً، وخبرنا خبر متفق على تخصيص بعضه، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ خَبَرِهِمْ.
وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَفِي الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَخَبَرُنَا أَخَصُّ فَيُسْتَعْمَلَانِ مَعًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خُمْسِ الْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ، فَالْمَعْنَى فِي الْغَنِيمَةِ: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ النِّصَابُ فِي شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهَا بِحَالٍ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَلَمَّا كَانَ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي بَعْضِ أَجْنَاسِ الزَّكَاةِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي جَمِيعِ أَجْنَاسِهَا.
وَأَمَّا الرِّكَازُ فَالْمَعْنَى فِيهِ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا تَعَبٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ النِّصَابُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثِّمَارُ الَّتِي يَلْحَقُ فِيهَا تَعَبٌ وَيَلْزَمُ فِيهَا عِوَضٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَوْلِ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِهِمْ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، يَعْتَبِرُونَ فِيهَا النِّصَابَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْحَوْلَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحَوْلِ إنَّهُ قصد به تكامل النماء، وَالثِّمَارُ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الحول

(3/211)


فِي الثِّمَارِ [وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي غَيْرِهَا، وَالنِّصَابُ إِنَّمَا اعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ الْمَالُ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الثِّمَارِ] كَوُجُودِهِ فِي غَيْرِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ فِي ابتدائها عفو لكان في انتهائها عَفْوٌ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِنَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمَوَاشِي حَيْثُ دَخَلَ الْعَفْوُ في أثناء نصبها لأن إيجاب الكثير فِي جَمِيعِ الزِّيَادَةِ مَشَقَّةٌ تَلْحِقُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وأهل السهمان وليس كذلك في الزروع والثمار.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فبهذا نأخذ والوسق ستون صاعاً بصاع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أمدادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بأبي هو وأمي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ:
إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْخَمْسَةِ فَصَاعِدًا، وَاعْتِبَارُهَا وَقْتَ الِادِّخَارِ لَا وَقْتَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَالْخَمْسَةُ الْأَوْسُقِ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الِادِّخَارِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مِمَّا تَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا، وَالْكَرْمُ مِمَّا يَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ زبيباً، والزرع ما يَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ حَبًّا، فَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ رُطَبًا وَعِنَبًا يَصِيرُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَأَمَّا الْوَسْقُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: حِمْلُ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(أَيْنَ الشِّظَاظَانِ وَأَيْنَ الْمرْبَعَة؟ ... وأين وسق الناقة الجلنقعه؟)

إِلَّا أَنَّ الْوَسْقَ فِي الشَّرِيعَةِ: سِتُّونَ صَاعًا بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمُدُّ: رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ، فَتَكُونُ الْخَمْسَةُ الْأَوْسُقِ ثَلَاثَمِائَةِ صَاعٍ، وَهِيَ أَلْفُ مُدٍّ وَمِائَتَا مُدٍّ، وألف وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ذَلِكَ تَحْدِيدٌ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِزِيَادَةِ رِطْلٍ وَنُقْصَانِهِ أَوْ تقريب لا يؤثر فيه نقصان رطل أو رطلين؟ على وجهين:
أحدهما: تقريب؛ لأن الوسق عِنْدَهُمْ حِمْلُ النَّاقَةِ وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِالْآصُعِ تَقْرِيبًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ تَحْدِيدٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا " فَحَدَّهُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ وَافَقَنَا أَنَّ الْوَسْقَ سِتُّونَ صاعاً، والصاع: أربعة أمداد، وإنما خالف في قدر المد والصاع، فَقَالَ الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَالْمُدُّ رِطْلَانِ، وَسَنَذْكُرُ الحجاج له وعليه فِي مَوْضِعِهِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِنْ شَاءَ الله.

(3/212)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " والخليطان في أصل النَّخْلِ يُصَدَّقَانِ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْخُلْطَةِ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا تَصِحُّ الْخُلْطَةُ فِيهَا، وَإِنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَوَاشِي دُونَ مَا عَدَاهَا، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ الْخُلْطَةُ فِي غَيْرِ المواشي كالخلطة في المواشي، وذكر تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي رُوعِيَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ صَحَّتْ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ، وَهَلْ تَصِحُّ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا لَا تَصِحُّ حَتَّى يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي أَصْلِ النَّخْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِحُّ إِذَا تَلَاصَقَتِ الْأَرْضَانِ وَكَانَ شِرْبُهُمَا وَاحِدًا وَالْقَيِّمُ بِهِمَا واحداً وفحول لقاحهما واحدة، وهذا الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْخُلْطَةِ فِي الْمَاشِيَةِ بِالْأَوْصَافِ مَعَ تَمَيُّزِ الْأَمْوَالِ، هَلْ سُمُّوا خُلَطَاءَ لُغَةً أَوْ شَرْعًا؟ فَمَنْ قَالَ سُمُّوا خُلَطَاءَ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ هاهنا.
وَمَنْ قَالَ سُمُّوا خُلَطَاءَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ جوز الخلطة هاهنا.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن وَرِثُوا نَخْلًا فَاقْتَسَمُوهَا بَعْدَمَا حَلَّ بَيْعُ ثَمَرِهَا فِي جَمَاعَتِهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ لِأَنَّ أول وجوبها كان وهم شركاء اقْتَسَمُوهَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بَيْعُ ثَمَرِهَا فَلَا زكاة على أحدٍ منهم حتى تبلغ حصته خمسة أوسق (قال المزني) هذا عندي غير جائز في أصله لأن القسم عنده كالبيع ولا يجوز قسم التمر جزافاً وإن كان معه نخلٌ كما لا يجوز عنده عرض بعرضٍ مع كل عرضٍ ذهبٌ تبعٌ له أو غير تبعٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ نَخْلًا مُثْمِرًا قَدْرُ ثَمَرَتِهَا خَمْسَةُ أوسق فأكثر، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا، وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ وَقْتَ صِرَامِهَا، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ الِاقْتِسَامُ لَهَا قَبْلَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهَا، فإن اقتسموا قبل إخراج زكاتها كان في الْقِسْمَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ.

(3/213)


وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا جَاءَ السَّاعِي مُطَالِبًا بِالزَّكَاةِ لَمْ تخل حال حصصهم من الثمر مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حِصَصُ جَمِيعِهِمْ بَاقِيَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حِصَصُ جَمِيعِهِمْ تَالِفَةً.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حِصَصُ بَعْضِهِمْ بَاقِيَةً وحصص بعضهم تالفة، فإن كانت حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ بِقِسْطِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ بَعْضِهِمْ بَاقِيَةً وَحِصَصُ الْبَاقِينَ تَالِفَةً أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنَ الْحِصَّةِ الْبَاقِيَةِ وَرَجَعَ صَاحِبُهَا عَلَى مَا فِي يَدِ شُرَكَائِهِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ: إِنَّ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْقِسْمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّدَاقِ، وَإِنْ كانت حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَالِفَةً نُظِرَ، فَإِنْ كان للميت تركة سوى الزكاة يتسع لِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَكَانَ الرُّجُوعُ بِهَا فِي تَرِكَتِهِ أَوْلَى مِنَ الرُّجُوعِ بِهَا عَلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُ الْمَالِ الْمُزَكَّى مِنْ جِهَتِهِمْ، لأن أخذها من تركته أنقص كَمَا لَوْ تَرَكَ دَيْنًا وَعَيْنًا وَجَبَ الرُّجُوعُ بِهَا فِيمَا تَرَكَ مِنَ الْعَيْنِ دُونَ مَا خلف دون الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْمَيِّتُ سِوَى الثَّمَرَةِ الَّتِي اقْتَسَمَ بِهَا الْوَرَثَةُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مُوسِرِينَ بِهَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُوسِرًا بِهَا وَبَعْضُهُمْ مُعْسِرًا أَخَذَ مِنَ الْمُوسِرِ، وَكَانَ دَيْنًا لِلْمُوسِرِ عَلَى شُرَكَائِهِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ كما لو بقيت حصة أحدهم.

فَصْلٌ
: وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَسِمُوا الثَّمَرَةَ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْتَسِمُوهَا فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَهِيَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعَلَى الْجَدِيدِ حَيْثُ جَوَّزَ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي نِصَابٍ، وَإِنِ اقْتَسَمُوهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَسِمُوهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ قِسْمَةً جَائِزَةً، فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ وَيُرَاعَى حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتَسِمُوهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَعَلَى الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ، فَعَلَى هَذَا الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَعَلَى الْجَدِيدِ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي نِصَابٍ، فَعَلَى هَذَا فِي قِسْمَتِهِمْ قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ مُخرجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَا مَضَى.

(3/214)


فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ حَالَ قِسْمَتِهِمْ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ وَبَيْعُ الثِّمَارِ بِالثِّمَارِ جُزَافًا لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ، قَالَ ولأن أَجَازَهَا لِأَنَّ مَعَهَا جُذُوعًا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا كَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ ثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ بِثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ، سَوَاءٌ كَانَ مَا فِيهِ الرِّبَا تَبَعًا لَهُ أَوْ غَيْرَ تَبَعٍ، فَهَذَا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ إِنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي القسمة قولين:
أحدهما: أنه إقرار حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ قَالَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ، فعلى هذا يجوز قِسْمَةُ الثِّمَارِ بِالثِّمَارِ كَيْلًا وَوَزْنًا وَجُزَافًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَقَطَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنها تبع فَعَلَى هَذَا قَدْ تَصِحُّ قِسْمَةُ ثِمَارِ النَّخْلِ بَيْنَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ يَسْقُطُ بِهَا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ وإنكاره على الشافعي تصور هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَصْحِيحَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ صَحَّتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ نَخْلٌ مُثْمِرٌ وَعُرُوضٌ، فَيَبِيعُ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنَ الْعُرُوضِ بحصة شريكه من النخل والثمرة، فيصير لأحدهم جَمِيعُ النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ وَلِلْآخَرِ جَمِيعُ الْعُرُوضِ.
وَالثَّانِي: أن تكون النَّخْلُ نَوْعَيْنِ حَامِلًا وَحَائِلًا فَيَبِيعُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الْحَائِلِ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ، مِنَ النَّخْلِ الحامل والثمرة فيحصل النَّخْلُ الْحَامِلُ بِثَمَرَتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَالنَّخْلُ الْحَائِلُ بِانْفِرَادِهِ لِلْآخَرِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ غَيْرُ مُقْنِعَيْنِ لِأَنَّهُمَا بَيْعُ جِنْسٍ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَا قِسْمَةَ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ ذَكَرَهُمَا أَصْحَابُنَا فَذَكَرْنَاهُمَا.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ فِي مَعْنَاهُمَا: أن تكون النَّخْلُ فِي التَّقْدِيرِ نَخْلَيْنِ شَرْقِيٌّ وَغَرْبِيٌّ فَيَبِيعُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ وَثَمَرَتِهِ بِدِينَارٍ، ويبتاع من شريكه حصة مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ وَثَمَرَتِهِ بِدِينَارٍ، فَيَحْصُلُ النَّخْلُ الشرقي مع ثمرته لأحدهما وعلى الشركة دِينَارٌ وَالنَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِلْآخَرِ وَعَلَيْهِ لشريكه دينار فيتقاضيان الدِّينَارَ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ، وَيَبْتَاعَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ بِحِصَّتِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ، فَيَصِيرُ النَّخْلُ الشَّرْقِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَالنَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِلْآخَرِ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النخل الشرقي، ويبتاع حصته شريكه من النخل الغربي بحصته من النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ، فَيَحْصُلُ لِأَحَدِهِمَا النَّخْلُ الشَّرْقِيُّ مَعَ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ، وَلِلْآخَرِ النَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ، فَتَحْصُلُ ثَمَرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَخْلِ شَرِيكِهِ، وَلَهُ تَبْقِيَتُهَا إِلَى وَقْتِ الصِّرَامِ، إِلَّا

(3/215)


أَنْ يَشْتَرِطَا فِي الْقِسْمَةِ قَطْعَهَا فِي الْحَالِ، فَهَذَا فِي الثَّمَرَةِ إِذَا كَانَتْ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَأَمَّا الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا بَعْدُ فَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي صِحَّةِ قِسْمَتِهَا يُبْنَى عَلَى أربعة أحوال:
أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ القطع لا يصح.
والثاني: أن يبيعها تبع لِلنَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ يَصِحُّ.
وَالثَّالِثُ: أن شرط القطع مع الإشاعة فيها لَا يَصِحُّ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً مِنْ صَاحِبِ النَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ كَغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ لِحُصُولِ الثَّمَرَةِ وَالْأَصْلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ صَحَّ فِي قِسْمَتِهَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْخَامِسُ لَا يَصِحُّ وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِالتَّأَمُّلِ وَالْفِكْرِ فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ صَحِيحًا، وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ جَارِيًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وثمر النخل يختلف فَثَمَرُ النَّخْلِ يُجَدُّ بِتِهَامَةَ وَهِيَ بِنَجْدٍ بُسْرٌ وبلح فيضم بعض ذلك إِلَى بَعْضٍ لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عامٍ واحدٍ وَلَوْ كان بينها الشَهْرُ وَالشَّهْرَانِ وَإِذَا أَثْمَرَتْ فِي عَامٍ قَابِلٍ لم يضم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ:
أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ فِي الثِّمَارِ أَنْ تُدْرَكَ حَالًا بَعْدَ حال، ولا تدرك دفعة واحدة، لما فِي إِدْرَاكِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِهَا، وَإِذَا أُدْرِكَتْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ كَانَ أَمْتَعَ بها وأنفع لأربابها، وأجرى الْعَادَةَ فِي ثِمَارِ الْبِلَادِ الْحَامِيَةِ كَتِهَامَةَ وَالْحِجَازِ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِطْلَاعُهَا وَإِدْرَاكُهَا، لِغِلَظِ الْهَوَاءِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ، وَفِي ثِمَارِ الْبِلَادِ الرَّطْبَةِ كَنَجْدٍ وَالْعِرَاقِ أَنْ يَتَأَخَّرَ إِطْلَاعُهَا وَإِدْرَاكُهَا لِرِقَّةِ الْهَوَاءِ وَقُوَّةِ الْبَرْدِ، لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا وَحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ بِهَا، وَأَجْرَى فِي عَادَةِ النَّخْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بُدُوِّ إِخْرَاجِهَا وَإطلاعِهَا إِلَى مُنْتَهَى نُضْجِهَا وَإِدْرَاكِهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّخْلَ يَحُولُ فِي السَّنَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ فِي بَاقِي السَّنَةِ حَامِلٌ إِمَّا ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ ثِمَارِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ أَوْ بُلْدَانٍ شَتَّى، فَثَمَرُ النَّخْلِ يُجَدُّ بتهامة وهو بنجد بسر وبلح وجملته، وهو أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ النَّخْلَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ إِطْلَاعُهُمَا.

(3/216)


أَوْ يَخْتَلِفَ إِطْلَاعُهُمَا، وَتَغَايُرُهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا في النوع كالنخل البري وَالنَّخْلِ الْمَعْقِلِيِّ.
وَإِمَّا فِي الْمَوْضِعِ كَالنَّخْلِ الْتِهَامِيِّ وَالنَّخْلِ النَّجْدِيِّ، وَإِنِ اتَّفَقَ إِطْلَاعُ النَّخْلَيْنِ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ إِدْرَاكُهُمَا أَوِ اختلف لأنها ثمرة عام، وإن اختلفت إِطْلَاعُهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّانِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام:
إما أن تطلع قبل بدو الصلاح الأول.
أَوْ تَطْلُعَ بَعْدَ جِدَادِ الْأُولَى.
أَوْ تَطْلُعَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى وَقَبْلَ جِدَادِهَا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى أَوْ مَعَهُ، كَأنَّ نَخْلَ تِهَامَةَ أَطْلَعُ وَصَارَ بُسْرًا لَمْ يبد صَلَاحَهُ بِصُفْرَةٍ وَلَا حُمْرَةٍ، ثُمَّ أَطْلَعَ نَخْلُ نَجْدٍ فَهَذَا يُضَمُّ، لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ، وَلِأَنَّ اتِّفَاقَ إِطْلَاعِهِمَا مُتَعَذِّرٌ، بَلِ النَّخْلَةُ الْوَاحِدَةُ قَدْ يَخْتَلِفُ أَطْلَاعُهَا، فكيف بنخل متغاير.
وأما القاسم الثَّانِي: إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ بَعْدَ جِدَادِ الْأُولَى كَأَنَّ نَخْلَ تِهَامَةَ أَطْلَعُ وَصَارَ تَمْرًا يَابِسًا وَجُدَّ عَنْ نَخْلِهِ وَصُرِمَ، ثُمَّ أَطْلَعَ النَّخْلُ الْآخَرُ، فَلَا تُضَمُّ هَذِهِ الثَّانِيَةُ إِلَى الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ فِي ثَمَرَةِ الْعَامِ الواحد بها، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا وَبِقَاعُهَا، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا تُضَمُّ فَقَدْ أَخْطَأَ نَصُّ الْمَذْهَبِ، وَجَهِلَ عَادَةَ الثَّمَرِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى وَقَبْلَ جِدَادِهَا، كانت الْأُولَى أَطْلَعَتْ وَصَارَتْ رُطَبًا ثُمَّ أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ضَمِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تضم وَيَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ عَلَمًا فِي ضَمِّ الثِّمَارِ، اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ.
أَمَّا الْمَذْهَبُ فَمَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ثَمَرٌ مُخْتَلِفٌ فَبَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِهَا وَبَعْضُهَا بُسْرٌ وَبَلَحٌ، ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَجَعَلَ عِلَّةَ الضَّمِّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ.
وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ أَنَّ ضَمَّ الثِّمَارِ كَضَمِّ السِّخَالِ، فَلَمَّا اعْتُبِرَ فِي ضَمِّ السِّخَالِ وَجُودُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ لِأَنَّ بِالْحَوْلِ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي ضَمِّ الثِّمَارِ بُدُوُّ الصَّلَاحِ، لِأَنَّ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ تجب الزكاة.

(3/217)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُضَمُّ فَيَكُونُ جَفَافُ الثَّمَرَةِ وَأَوَانُ جِدَادِهَا عَلَمًا فِي ضَمِّ الثِّمَارِ، اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ أَمَّا الْمَذْهَبُ فَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ فِي بَعْضِهَا طَلْعٌ، وَفِي بَعْضِهَا بَلَحٌ، وَفِي بَعْضِهَا بُسْرٌ، وَفِي بَعْضِهَا رُطَبٌ، فَأَدْرَكَ الرُّطَبَ فَجَدَّهُ، وَأَدْرَكَ الْبُسْرَ فَجَدَّهُ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْبَلَحَ فَجَدَّهُ، ثم أدرك الطلع فجده، ضمت بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ أَنَّ لِلثَّمَرَةِ حَالَيْنِ حَالَ ابْتِدَاءٍ وَهُوَ الْإِطْلَاعُ وَحَالَ انْتِهَاءٍ وَهُوَ الْجَفَافُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الضَّمُّ مُعْتَبَرًا بِالِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالِانْتِهَاءِ، فَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْفَصَلَ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بِأَنْ قَالَ إِنَّمَا جَمَعَ الشَّافِعِيُّ فِي الضَّمِّ بَيْنَ الطَّلْعِ وَالرُّطَبِ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْإِطْلَاعِ وَالرُّطَبِ، وَقَدْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ طَلْعٍ وَرُطَبٍ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ إِطْلَاعِهِ قَبْلَ الْإِرْطَابِ، وَانْفَصَلَ عَنِ الْحِجَاجِ، بِأَنْ قَالَ لِلثَّمَرَةِ حالة ثالثة هي بُدُوُّ صَلَاحِهَا، وَاعْتِبَارُهَا أَوْلَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِهَا يتعلق.

فصل
: قال الشافعي إذا أَثْمَرَتْ فِي عَامٍ قَابِلٍ لَمْ تُضَمَّ، يَعْنِي: إنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ إِطْلَاعُ التِّهَامِيِّ ثُمَّ أَطْلَعَ بعد النَّجْدِيُّ فَجَدَّ التِّهَامِيُّ وَالنَّجْدِيُّ بُسْرٌ وَبَلَحٌ ثُمَّ أَطْلَعَ التِّهَامِيُّ ثَانِيَةً قَبْلَ جِدَادِ النَّجْدِيِّ، كَانَ هَذَا الْإِطْلَاعُ الثَّانِي مِنَ النَّخْلِ التِّهَامِيِّ ثَمَرَةَ عَامٍ ثَانٍ، لَا يُضَمُّ إِلَى النَّجْدِيِّ، وَإِنْ أَطْلَعَ قَبْلَ إِرْطَابِهِ، لِأَنَّ هَذَا النَّجْدِيَّ قَدْ ضم إِلَى التِّهَامِيِّ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ التِّهَامِيُّ الثَّانِي، لِأَنَّهُ يَكُونُ ضَمًّا بَيْنَ التهامي الأول والتهامي الثاني.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان آخر إطلاع ثمر أطلعت قبل أن يجد فالإطلاع التي بعد بلوغ الآخرة كإطلاع تلك النخل عاماً آخر لا تضم إلا طلاعةً إلى العام قَبْلَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَلَامٌ غَلِقٌ، وَالرِّوَايَةُ فِي نَقْلِهِ مُخْتَلِفَةٌ، فَرُوِيَ فَإِذَا كَانَ آخِرُ اطلاع ثمر اطلعت قبل نجد يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ، وَرُوِيَ قِبَلَ نَجْدٍ يَعْنِي نَاحِيَةَ نَجْدٍ، فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ وَتُقْطَعَ، يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذَا كَانَ إِطْلَاعُ آخِرِ ثَمَرٍ اطلعت بنجد قبل عام أَنْ تُجَدَّ ثَمَرُ تِهَامَةَ فَمَا أَطْلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ثِمَارِ تِهَامَةَ فَهُوَ ثَمَرَةُ عَامٍ ثَانٍ لَا يُضَمُّ، لِأَنَّكَ قَدْ ضَمَمْتَ النَّجْدِيَّةَ إلى التهامية الأولة، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَضُمَّ التِّهَامِيَّةَ الثَّانِيَةَ إِلَى النَّجْدِيَّةِ لِأَنَّكَ تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَمَّ التِّهَامِيَّةَ الثانية إلى التهامية الأولة، وَهِيَ الْفَرْعُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ الْجَفَافَ عَلَى الضَّمِّ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى نَاحِيَةِ نَجْدٍ، يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَإِذَا كَانَ آخِرُ إِطْلَاعٍ ثُمَّ أَطْلَعَتْ بنجد فما اطلع مِنْ ثِمَارِ نَجْدٍ بَعْدَ بُلُوغِ هَذِهِ النَّجْدِيَّةِ فَهُوَ ثَمَرَةُ عَامٍ آخَرَ لَا يُضَمُّ إِلَيْهِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ بُدُوَّ الصَّلَاحِ عَلَمَ الضم.

(3/218)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُتْرَكُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ جَيِّدُ التَّمْرِ مِنَ الْبُرْدِيِّ وَالْكَبِيسِ وَلَا يُؤْخَذُ الْجَعْرُورُ وَلَا مُصْرَانُ الْفَأْرَةِ ولا عذق ابن حبيق ويؤخذ وسط من التَّمْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرَهُ بَرْدِيًّا كُلَّهُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَوْ جَعْرُورًا كُلَّهُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ أَسْمَاءُ التَّمْرِ بِالْحِجَازِ، وَجُمْلَةُ ذلك أنه لا يخلو ثمر الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا، فَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا وَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَنْوَاعًا قَلِيلَةً مُتَمَيِّزَةً، كَنَوْعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن تكون أنواعاً كثيرة لا يمكن تمييزها، وَيَشُقُّ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَسَاوَى الْأَنْوَاعُ فِي الْقَدْرِ فَيَكُونُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا عَشْرَةَ أَوْسُقٍ، لَا يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ مِنْ وَسَطِهِ لَا مِنْ جَيِّدِهِ وَلَا مِنْ رَدِيئِهِ، لِأَنَّ فِي أَخْذِهَا مِنْ جيده إضرار بِهِ، وَفِي أَخْذِهَا مِنْ رَدِيئِهِ إِضْرَارًا بِالْمَسَاكِينِ وفي أخذها من كل نوع مشقة، فدعته الضَّرُورَةُ إِلَى أَخْذِهَا مِنَ الْوَسَطِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَفَاضَلَ الْأَنْوَاعُ فِي الْقَدْرِ وَيَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُ نَوْعٌ مِنْهَا عَشْرَةَ أَوْسُقٍ، وَنَوْعٌ آخَرُ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَنَوْعٌ آخَرُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ، وَيَكُونُ الْأَقَلُّ تَبَعًا، سَوَاءٌ كَانَ الْأَغْلَبُ جَيِّدًا أَوْ رَدِيئًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُؤْخَذُ من الوسط لأنه أعدل.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كان له نخل مختلفة واحد يحمل في وقت والآخر حملين أو سَنَةٍ حِمْلَيْنِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ فِي النَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ فَهِيَ: أَنْ تَحْمِلَ فِي السَّنَةِ حِمْلًا وَاحِدًا فَإِنْ شَذَّ بَعْضُهَا عَنِ الْجُمْلَةِ وَفَارَقَ مَأْلُوفَ الْعَادَةِ وَحَمَلَ في السنة حملين لم يضم كل واحد منهما إلى الآخر، وتميز كل واحد منهما بِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُمَا ثَمَرَتَانِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ آخَرُ فَحَمَلَ حِمْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ضَمَّهُ إِلَى مَا وَافَقَهُ مِنْ حِمْلَيْ تِلْكَ الشَّاذَّةِ، فَإِنْ وَافَقَ الْحِمْلَ الْأَوَّلَ ضُمَّ إِلَيْهِ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ وَافَقَ الثَّانِي ضم إليه دون الأول.

(3/219)