الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب ما لا يكون فيه زكاة
مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا كَانَ من لؤلؤٍ أو زبرجدٍ أو ياقوتٍ ومرجانٍ وَحِلْيَةِ بحرٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَلَا في مسك ولا عنبر قال ابن عباس في العنبر إنما هو شيء دسره البحر ولا زكاة في شيء مما خالف الذهب والورق والماشية؛ والحرث على ما وصفت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: كُلُّ مَا اسْتُخْرِجَ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ حِلْيَةٍ وَزِينَةٍ وَطِيبٍ، فَلَا زَكَاةَ فِي عَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أبو يوسف: فِي الْعَنْبَرِ وَحِلْيَةِ الْبَحْرِ الْخُمُسُ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) قَالُوا: وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ يَتَكَامَلُ عَاجِلًا فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُسْتَفَادَةَ نَوْعَانِ مِنْ بَرٍّ وَبَحْرٍ فَلَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَرِّ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا زكاة في حجرٍ " اللؤلؤ حَجَرٌ، وَالْجَوَاهِرُ أَحْجَارٌ فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ.
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعَنْبَرُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ وَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ " فَكَانَ قَوْلُهُ: " لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ " يَنْفِي وُجُوبَ الْخُمُسُ فِيهِ كَالْغَنِيمَةِ، وَقَوْلُهُ: " هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ " يَنْفِي أن يكون فيه حق لغيره من أخذه.

(3/280)


وروي مجاهد عن ابن عباس أن سُئِلَ عَنِ الْعَنْبَرِ أَفِيهِ الزَّكَاةُ فَقَالَ: " لَا إنما هو شيء دسره البحر " أي يَعْنِي: قَذَفَهُ وَأَلْقَاهُ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ نَوْعَانِ: حَيَوَانٌ، وَجَمَادٌ فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ حَيَوَانِهِ مِنْ سُمُوكِهِ وَحِيتَانِهِ لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ جَمَادِهِ مِنْ حِلْيَةٍ وَزِينَةٍ، وَبِعَكْسِهِ الْبَرُّ لَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ حَيَوَانِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ غَيْرِ حَيَوَانِهِ، مِنْ زُرُوعِهِ وَجَمَادِهِ.
وَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرِّكَازِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَلَوْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ خُمُسِ جَمِيعِ الرِّكَازِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ إِنَّهُ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ مُشْرِكٍ كَالْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حِلْيَةُ الْبَحْرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَرِّ، وَجَبَ أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ حَيَوَانِ الْبَرِّ جَازَ أَنْ تَجِبَ فِي غَيْرِ حَيَوَانِهِ، وَلَمَّا لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ لَمْ تَجِبْ فِي غَيْرِ حَيَوَانِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(3/281)


باب زكاة التجارة
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بن عيينة عَنْ يَحْيَي بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حماسٍ أَنَّ أَبَاهُ حِمَاسًا قَالَ مَرَرْتُ عَلَى عمر ابن الْخَطَّابِ وَعَلَى عُنُقِي أَدَمَةٌ أَحْمِلُهَا فَقَالَ أَلَا تُؤَدِّي زَكَاتَكَ يَا حِمَاسُ؟ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ المؤمنين مالي غَيْرُ هَذِهِ وَأَهُبُّ فِي القرظِ فَقَالَ ذَاكَ مال فضع فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَسَبَهَا فَوَجَدَهَا قَدْ وَجَبَتْ فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي كُلِّ عَامٍ هَذَا مَذْهَبُنَا.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ لا زكاة فيه بحال.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: دَاوُدُ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ ".
فَأَخْرَجَهَا بِالتِّجَارَةِ عَنِ الْحَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ.
وَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءً، لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ بِالتِّجَارَةِ مَعْنًى، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ " فَكَانَ الْعَفْوُ عَلَى عُمُومِهِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهَا، فَالزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا دُونَ قِيمَتِهَا كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ وَمَا لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا لَمْ تَجِبْ فِي قِيمَتِهَا، كَالْأَثَاثِ وَالْعَقَارِ فَلَمَّا كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ.

(3/282)


قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْأَمْوَالِ لا تأثير إليه فِي سُقُوطِ زَكَاتِهَا بِحَالٍ، كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ فَلَمَّا سَقَطَتْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ إِذَا نُوِيَ بِهَا الْقِنْيَةِ، عُلِمَ أَنَّ زَكَاتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ قَبْلَ إِرْصَادِ النَّمَاءِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ عَرَضَ لِلنَّمَاءِ كَالْعَقَارِ إذا اؤجر وَالْمَعْلُوفَةِ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عُرُوضُ التِّجَارَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، قَبْلَ إِرْصَادِهَا لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ أُرْصِدَتْ لِلتِّجَارَةِ فَهَذَا احْتِجَاجُ من أسقط زكاة التجارة.
وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ أَوْجَبَ زَكَاتَهَا مَرَّةً، فَهُوَ أَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ بِالتِّجَارَةِ حُصُولُ النَّمَاءِ بِالرِّبْحِ، وَالرِّبْحُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا نَضَّ الثَّمَنُ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ زَكَاةُ عَامٍ وَاحِدٍ، كَالثِّمَارِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا قَبْلَ أَنْ يَنِضَّ ثَمَنُهَا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ وَإِجْحَافًا بِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّهُمْ تَعَجَّلُوا مِنْ زَكَاتِهَا مَا لَمْ يَتَعَجَّلِ الْمَالِكُ مِنْ رِبْحِهَا وَأُصُولُ الزَّكَوَاتِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ فِي الِارْتِفَاقِ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى تِلْكَ، لِأَنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ، إِلَّا أَنْ يَنِضَّ الثَّمَنُ وَتِلْكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَضَّ ثَمَنُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا زَكَاةُ عَامٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ سَنَحَ الْخَاطِرُ بِالْأُولَى ثُمَّ أَجَابَ بِالثَّانِيَةِ فَجَرَى الْقَلَمُ بِهِمَا كذلك.
والدلالة على وجوب زكاة التجارة قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) {فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ أعم الأموال فكانت أولى بالإيجاب، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " فَلَمَّا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ دل على أن ما أثبت في الزكاة عاماً فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ الْمُثْبَتَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْحَقِّ الْمَنْفِيِّ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَعَثَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مُصَّدِّقًا فَرَجَعَ شَاكِيًا مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنِ جَمِيلٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ ظَلَمْتُمُوهُ لِأَنَّهُ حَبَسَ أَدْرُعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَالْأَعْتُدُ: الْخَيْلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَدْرُعَ وَالْخَيْلَ لَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ العين فثبت أن الذي وجب فيها زَكَاةُ التِّجَارَةِ.
وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو ذَرٍّ فقال له: كيف خبرك يا أبا ذكر؟ فَقَالَ بِخَيْرٍ ثُمَّ قَامَ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَبَادَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَاحْتَوَشُوهُ وَكُنْتُ فِيمَنِ احْتَوَشَهُ فَقَالُوا لَهُ: حِدِّثْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته " قاله بِالزَّاي مُعْجَمَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَزَّ لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ زكاة التجارة.

(3/283)


وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ سَمُرَةَ عَنْ أَبِيهِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ ".
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ ".
وَرَوَى الْحَكَمُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) {البقرة: 267) قَالَ: زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَلِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِنَّمَا خُصَّا من بين سائر الجواهر بإيجاب الزكاة فيها لِإِرْصَادِهِمَا لِلنَّمَاءِ، وَطَرِيقُ النَّمَاءِ بِالتَّقَلُّبِ وَالتِّجَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضُوعُ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ سَبَبًا لِإِسْقَاطِهَا، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لا يجب إخراج زكاتها إلا إذا نَضَّ ثَمَنُهَا، فَحَدِيثُ حِمَاسٍ قَالَ: " مَرَرْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى عنقي أدمة أحملها فقال: ألا تؤدي زكاتها يَا حِمَاسُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا لِي غَيْرُ هَذِهِ وَأَهُبُّ فِي الْقُرْظِ فَقَالَ: ذاك مال فوضع فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَسَبَهَا، فَوَجَدَهَا قَدْ وَجَبَتْ فيها الزكاة، فأخذ منها الزكاة "، فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ.
وَالثَّانِي: عَلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِهَا قَبْلَ أَنْ يَنِضَّ ثَمَنُهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاتَهَا فِي كُلِّ عَامٍ، هُوَ أَنَّهُ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ فَوَجَبَ، أَنْ يُزَكَّى في كل حول كالفضة والذهب هذه دَلَالَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ لَاقْتَصَرْتُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، وَلَكِنْ لَيْسَ إِذَا قَلَّ أَنْصَارُ الْمُخَالِفِ وَضَعُفَ حِزْبُهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوَفَّى الْعِلْمُ حَقَّهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الصَّدَقَةُ " فَهُوَ إِنَّمَا أَمْرٌ بِالتِّجَارَةِ لِيَكُونَ مَا يَعُودُ مِنْ رِبْحِهَا خَلَفًا عَمَّا خَرَجَ مِنْ زَكَاتِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا لِإِسْقَاطِ زَكَاتِهَا، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يُسْقِطُ لِلَّهِ تَعَالَى حَقًّا أَوْ يُبْطِلُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَاجِبًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ والرقيق " فلسنا نوجب الصدقة فيها وَإِنَّمَا نُوجِبُهَا فِي قِيمَتِهَا عَلَى أَنَّ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ قَدِ اسْتَثْنَى فِي حَدِيثِهِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ.

(3/284)


وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ فَالزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ قُلْنَا: الزَّكَاةُ وَجَبَتْ فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَإِخْرَاجُهَا مِنَ الْقِيمَةِ دُونَ الْعَيْنِ فَمَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَمِنْهُ يُؤَدَّى لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ إِذَا لَمْ تَجِبِ فِي الْعَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجِبَ فِي الْقِيمَةِ، هَذَا مِمَّا لَا يُرْجَعُ فِيهِ إلى أصل، ولا يعتبر بنظير ولا يقصد بِدَلِيلٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ عَيْنٌ، وَالزَّكَاةُ فِيهَا وَجَبَتْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ لَا تَأْثِيرَ لِلنِّيَّةِ فِيهِ قُلْنَا: لَيْسَتِ النِّيَّةُ مُسْقِطَةً، وَلَا مُوجِبَةً، وَإِنَّمَا إِرْصَادُهُ لِلنَّمَاءِ بِالتِّجَارَةِ مُوجِبٌ لِزَكَاتِهِ، كَمَا أَنَّ إِرْصَادَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لِلتَّحَلِّي بِهِ مُسْقِطٌ لِزَكَاتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النِّيَّةَ فِي الْحُلِيِّ مُسْقِطَةٌ لِزَكَاتِهِ كَذَلِكَ لَا يُقَالُ: إِنَّ النِّيَّةَ فِي التِّجَارَةِ مُوجِبَةٌ لِزَكَاتِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ قَبْلَ إِرْصَادِهِ لِلنَّمَاءِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ فَفَاسِدٌ بِالْحُلِيِّ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِذَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَالْمَاشِيَةُ الْمَعْلُوفَةُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَوْ أُرْصِدَتْ لِلنَّمَاءِ بِالسَّوْمِ، وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ بِمَا لَمْ يُرْصَدْ لَهُ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِإِرْصَادِهِ لِلنَّمَاءِ وتسقط بفقده، وسائر الْأُصُولِ يَشْهَدُ بِهِ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا قَبْلَ أَنْ يَنُضَّ ثَمَنُهَا اعْتِبَارًا بِالثَّمَرَةِ، فَفَاسِدٌ بِمَا نَضَّ مِنْ ثَمَنِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنِ ارْتِفَاقِ الْمَسَاكِينِ قَبْلَ رَبِّهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا فِيمَا لَهُ حَوْلٌ لَمُنِعَ الْمَالِكُ مِنْ تَعْجِيلِ الِارْتِفَاقِ قَبْلَ الْمَسَاكِينِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الِارْتِفَاقَ بِرِبْحِ مَا حَصَّلَ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِقِ المساكين بمثله جاز أن يتعجل المساكين مَا لَمْ يَنُضَّ ثَمَنُهُ، وَلَمْ يُحَصَّلْ رِبْحُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِقِ الْمَالِكُ بِمِثْلِهِ وَهَذَا جَوَابٌ عن الدلالتين معاً.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اتَّجَرَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ ثلاثمائةٍ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ لِحَوْلِهَا وَالْمِائَةَ الَّتِي زَادَتْ لِحْولِهَا وَلَا يضم ما ربح إليها لأنه ليس منها وإنما صرفها في غيرها ثم باع ما صرفها فيه ولا يشبه أن يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَشْتَرِي بها عرضاً للتجارة فيحول الحول والعرض في يديه فيقوم العرض بزيادته أو بنقصه لأن الزكاة حينئذٍ تحولت في العرض بنية التجارة وصار العرض كالدراهم يحسب عليها لحولها فإذا نص ثمن العرض بعد الحول أخذت الزكاة من ثمنه بالغاً ما بلغ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ.

(3/285)


أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يزكي الأصل، والربح فيخرج زكاة ثلاثمائة، لا يَسْتَأْنِفُ لِلرِّبْحِ حَوْلًا بَلْ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَخْتَلِفُ سَوَاءٌ ظَهَرَ الرِّبْحُ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، أو في آخره، لأنه نما أَصْلِهِ، فَضُمَّ إِلَيْهِ فِي حَوْلِهِ كَالسِّخَالِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ أو يحابى أو يغين بِمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، كَأَنَّهُ كَانَ يُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةٍ فَبَاعَهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ لِمُحَابَاةٍ، أَوْ غَبْنَةٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ أَرْبَعِمِائَةٍ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ كَأَنَّهُ كَانَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ فباعه بثلاث مائة إما لرغبة أو غشه فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُزَكِّي جَمِيعَ الثَّمَنِ وَيُخْرِجُ زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةٍ لِأَنَّهُ أَفَادَ الزَّكَاةَ بِالْعَرَضِ، كَمَا لَوْ أَفَادَهَا بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا زَكَاةَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ، وَيَسْتَأْنِفُ بِهَا الْحَوْلَ كَالْمَالِ الْمُسْتَفَادِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْعَرَضِ عِنْدَ دُخُولِ الْحَوْلِ.

فَصْلٌ
: وَإِنْ بَاعَهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِائَةِ الزَّائِدَةِ، هَلْ يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ حُصُولِهَا أَوْ يَبْنِي حَوْلَهَا على حول أصلها؟ فقال الشافعي ها هنا: " يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ وَلَا تُضَمُّ إِلَى أَصْلٍ " وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْقِرَاضِ " مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا تُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَإِذَا قَارَضَهُ بِأَلْفٍ فَاشْتَرَى سِلْعَةً فَحَالَ الْحَوْلُ، وَهِيَ تَسْوِي أَلْفَيْنِ " فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ الْجَمِيعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ رَأْسِ الماس وَحِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ - إِلَى آخِرِ الْفَصْلِ - فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ دَلِيلًا عَلَى ضَمِّ الزِّيَادَةِ إِلَى الْأَصْلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالَّذِي قَالَهُ هُنَا إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالزِّيَادَةِ الْحَوْلَ، وَلَا يَضُمُّهَا إِلَى الْأَصْلِ هُوَ إِذَا ظَهَرَتِ الزِّيَادَةُ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَالَّذِي قَالَهُ فِي الْقِرَاضِ إِنَّهَا تُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ لَهَا الحول إِذَا ظَهَرَتِ الزِّيَادَةُ، وَقْتَ الشِّرَاءِ فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فِي ظُهُورِ الزِّيَادَةِ.

(3/286)


وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالزِّيَادَةِ الْحَوْلَ وَلَا يَضُمُّهَا إِلَى الْأَصْلِ قَوْلًا وَاحِدًا سَوَاءٌ ظَهَرَتْ وَقْتَ الشِّرَاءِ أَوْ وَقْتَ الْبَيْعِ وَهُوَ مَا نص عليه ها هنا، وَمَا قَالَهُ فِي " الْقِرَاضِ " مُوَافِقٌ لِهَذَا، لِأَنَّهُ قال: " يزكي رأس المال أو ربحه إِذَا حَالَ الْحَوْلُ " يَعْنِي: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَحَوْلُ الرِّبْحِ مِنْ يَوْمِ نَضَّ، وَحَوْلُ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ يَوْمِ مُلِكَ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ قوله:
والمذهب الثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ المروزي: إذ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُضَمَّ الزِّيَادَةُ إِلَى الْأَصْلِ وَلَا يَسْتَأْنِفَ لَهَا الْحَوْلَ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْقِرَاضِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارِ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ ضَمُّ الزِّيَادَةِ إِلَى الْأَصْلِ إِذَا وُجِدَتْ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ وَجَبَ أَنْ تُضَمَّ إِلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، لِأَنَّهَا فِي كُلِّ الْحَالَيْنِ مِنْ نَمَاءِ الْأَصْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ وَلَا تُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ عَلَى ما قاله ها هنا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ حَصَلَتْ بِاجْتِلَابِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهَا الْحَوْلَ كَالْمُسْتَفَادِ بِمَغْنَمٍ أَوْ هِبَةٍ، والقول الأول أصح، لأنها عندي إذا أضمت الزِّيَادَةُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَهَلَّا ضُمَّتِ الزِّيَادَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي تَضَاعِيفِهِ، إِذْ هُمَا سَوَاءٌ لا فرق بينهما ومن تكلف الفرق بينهما كان فرقه واهياً وتكلفه عماء، فلو اشترى عرضاً بمائتي درهم ثم باعه بعد ستة اشهر بثلاثمائة درهم، ثم اشترى بالثلاثمائة عرضاً ثم باعه بعد شهر بأربعمائة، فإن قيل تضم المائة الحاصلة إلى أصله بالربح الأول ضمت المائة الحاصلة بالربح الثاني، فإذا حال حول المائتين أخرج زكاة أربعمائة.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بعرضٍ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى عَرْضِ التِّجَارَةِ قُوِّمَ بِالْأَغْلَبِ مِنْ نَقْدِ بلده دنانير أو دراهم وإنما قومته بالأغلب لأنه اشتراه للتجارة بعرضٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بدراهم أو دنانير أو ماشية وما أشبه فِيهَا الزَّكَاةَ، فَيَأْتِي مَسْطُورًا فِيمَا بَعْدُ وَأَمَّا إن اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِعَرَضٍ لِلْقِنْيَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا حَالَ حَوْلُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا زَكَاةَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَوْلُ سَمُرَةَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ مِنَ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ "، وَلِأَنَّهُ مَالٌ اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ كَمَا إِذَا اشْتَرَاهُ بِنَاضٍّ مِنْ

(3/287)


ذَهَبٍ أَوْ وَرَقٍ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ زَكَاتِهِ قُوِّمَ بَعْدَ حَوْلِهِ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَرَضِ فِي وَقْتِ تَقْوِيمِهِ لَا فِي وَقْتِ ابْتِيَاعِهِ، فَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ قَوَّمَهُ بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ دَنَانِيرَ قَوَّمَهُ بِالدَّنَانِيرِ، لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ يَقُومُ به، لكان أَوْلَى الْأُمُورِ تَقْوِيمَهُ بِغَالِبِ النَّقْدِ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ بِالْغَالِبِ نِصَابًا وَبَلَغَ بِغَيْرِ الْغَالِبِ نِصَابًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْغَالِبِ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ فَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ بِهِمَا وَاحِدًا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا غَالِبًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَرَضِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِأَيِّهِمَا قُوِّمَ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا وَبِالدَّنَانِيرِ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا فَيُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ وَتُخْرَجُ زَكَاتُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ بِالدَّنَانِيرِ نِصَابًا وَبِالدَّرَاهِمِ لا تبلغ نصاباً فتقوم الدنانير وتخرج زَكَاتُهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُقَوَّمُ بِالدَّنَانِيرِ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، إِلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ قَوْلِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا وَبِالدَّنَانِيرِ نِصَابًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِأَيِّهِمَا يُقَوَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: هُوَ بِالْخِيَارِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ قَوَّمَهُ، لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلِأَنَّ زكاتها مأخوذة بالنض وَزَكَاةُ الذَّهَبِ بِاجْتِهَادٍ لَا بِنَصٍّ، وَذَاكَ الْوَجْهُ الْمُخَرَّجُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يُقَوِّمُهُ بِأَحَظِّهِمَا لِلْمَسَاكِينِ وَأَنْفَعِهِمَا لَأَهِلِ السُّهْمَانِ.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُخْرِجُ زَكَاتَهُ مِنَ الَّذِي قَوَّمَ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يُقَوِّمُهُ بِهِ، فَأَمَّا مَا يُخْرِجُهُ فِي زَكَاتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ إنَّهُ يُخْرِجُ رُبُعَ عُشْرِ الْعَرَضِ حَتْمًا لَا يَعْدِلُ إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ سَمُرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ مِنَ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ " وَإِذَا أَمَرَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُزَكًّى فَوَجَبَ أَنْ تُخْرَجَ زَكَاتُهُ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ.

(3/288)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ أَيْضًا إنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِ رُبُعِ عُشْرِ الْعَرَضِ، وَبَيْنَ إِخْرَاجِ رُبُعِ عُشْرِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ فِي تَخْيِيرِهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِ، وَرِفْقًا بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَنْ يُخْرِجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ حَتْمًا، فَإِنْ أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِهِ عَرَضًا لَمْ يُجِزْهُ.
وَوَجْهُ هَذَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَ مِنْ حِمَاسٍ " قِيمَةَ مَتَاعِهِ " وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، فَوَجَبَ أن تخرج الزكاة ما وَجَبَتْ فِيهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ لَا مِنْ عَيْنِهِ وسنوضح معاني هذه الأقاويل بما نذكره في التَّفْرِيعِ.

فَصْلٌ
: إِذَا اشْتَرَى مِائَةَ قَفِيزٍ حِنْطَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَقِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حنطة، وعلى القول الثاني فهو مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حِنْطَةً، وَبَيْنَ إِخْرَاجِ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ لَا غَيْرَ فلو حال الحول وقيمته ثلاث مائة فَلَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهُ حَتَّى زَادَتْ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ أربع مائة، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى، يُخْرِجُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حِنْطَةً، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يُخْرِجُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ لَا غَيْرَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بعد الحول هي في ملكه لاحظ للمساكين فيها، فلو حال الحول وقيمته ثلاث مائة فَلَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهُ حَتَّى نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ مِائَتَيْنِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ كَنُقْصَانِ السِّلْعَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ أَوْ بَعْدَهُ وَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى، عَلَى الْأَوَّلِ يُخْرِجُ قَفِيزَيْنِ ونصف وَعَلَى الثَّانِي هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ وَبَيْنَ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَادِثٌ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ كَمَا لَوْ حَدَثَتْ زِيَادَةٌ لَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ لِفَسَادٍ حَصَلَ فِي الْحِنْطَةِ مِنْ بَلَلٍ أَوْ عَفَنٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ وَمُضَافًا إِلَى تَفْرِيطِهِ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ النَّقْصِ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حِنْطَةً مِنْهَا وَدِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ لِلنَّقْصِ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ مِثْلَ حِنْطَتِهِ قَبْلَ فَسَادِهَا أَخْرَجَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفًا لَا غَيْرَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذَا أَوْ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يُخْرِجُ سبعة دراهم ونصف لا غير.

(3/289)


وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ غَيْرَ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِ فَهَذَا، عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلنَّقْصِ كما مضى.
والضرب الثاني: أن يكون له حادثاً قبل إمكان الأداء فلا يكون ضَامِنًا، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ حِنْطَةٍ لَا غَيْرَ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ حِنْطَةٍ وبين خمسة دراهم وعلى الثَّالِثِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ لَا غَيْرَ وَيَكُونُ النَّقْصُ دَاخِلًا عَلَى الْمَسَاكِينِ كَدُخُولِهِ عَلَيْهِ والله أعلم.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان في يديه عرض للتجارة تجب في قيمته الزكاة وأقام في يديه ستة أشهر ثم اشترى به عرضاً للتجارة بدنانير فأقام في يديه سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَقَدْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ معاً وقام أحدهما مكان صاحبه فيقوم العرض الذي في يديه ويخرج زكاته ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَهُ فِي الْحَوْلِ بِعَرَضٍ ثَانٍ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَ الثَّانِي بِثَالِثٍ، وَالثَّالِثَ بِرَابِعٍ بَنَى ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مَنْ بَادَلَ مَاشِيَةً بِمَاشِيَةٍ لِمَعْنَيَيْنِ هُمَا دَلَالَةٌ وَفَرْقٌ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ الْعَرَضَ فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ وَمِلْكُ الْقِيمَةِ مُسْتَدَامٌ فِي الْعُرُوضِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ بِالْبَيْعِ فَلِذَلِكَ بَنَى وَزَكَاةُ الْمَاشِيَةِ فِي عَيْنِهَا وَمِلْكِهَا مُنْقَطِعٌ بِبَيْعِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نَمَاءَ التِّجَارَةِ يَحْصُلُ بِبَيْعِهَا وَتَقْلِيبِ عَيْنِهَا فَلَمْ يَكُنِ الْبَيْعُ مُبْطِلًا لِحَوْلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو اشترى عرضاً بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ أَوْ بشيءٍ تَجِبُ فِيهِ الصدقة من الماشية وكان إفادة ما اشترى بِهِ ذَلِكَ الْعَرْضَ مِنْ يَوْمِهِ لَمْ يُقَوِّمِ العرض حتى يحول الحول من يوم أفاد ثَمَنَ الْعَرَضِ ثُمَّ يُزَكِّيهِ بَعْدَ الْحَوْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِمِائَتَيْ درهم أو بعشرين دينار، فَحَوْلُ هَذَا الْعَرَضِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، لِأَنَّ هَذَا الْعَرَضَ فَرْعٌ لِأَصْلِهِ لِأَنَّهُ يُقَوَّمُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِهِ فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِخَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ سَائِمَةً، أَوْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ أَوْ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ، فَهَلْ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ أم يَبْنِي عَلَى حَوْلِ أَصْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يبني حول الْعَرَضِ عَلَى حَوْلِ أَصْلِهِ اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ.

(3/290)


أَمَّا الْمَذْهَبُ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ بِشَيْءٍ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَاشِيَةِ وَالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ قَالَ: " لَمْ يُقَوِّمِ الْعَرَضَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَ ثَمَنَ الْعَرَضِ " فكان صريح نفيه وموجب جمعه من يوم يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُ مُبْقِيًا عَلَى حَوْلِ أصله.
وأما الحجاج، فهو أنه صرف حولاً تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فِي فَرْعٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُ حَوْلُ الْفَرْعِ مُعْتَبَرًا بِأَصْلِهِ، كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِنِصَابٍ مِنْ ذَهَبٍ أو ورق.
والوجه الثاني: وهو قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يَسْتَأْنِفُ لَهُ الْحَوْلَ، وَلَا يَبْنِيهِ عَلَى حَوْلِ الْأَصْلِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِشَيْئَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِصَابَ الْمَاشِيَةِ مُخَالِفٌ لِنِصَابِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ نِصَابَ الْمَاشِيَةِ إِمَّا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ ثَلَاثُونَ مِنَ الْبَقَرِ أَوْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ، وَنِصَابُ التِّجَارَةِ إِمَّا عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ أَحَدِهِمَا على الآخر مع اختلاف نصبهما.
والثاني: زكاة الماشية مخالفة لِزَكَاةِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَزَكَاةَ الْمَاشِيَةِ تَارَةً شَاةٌ، وَتَارَةً بَقَرَةٌ، وَتَارَةً بِنْتُ مَخَاضٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْنَى حَوْلُ أحدهما على الآخر مع اختلاف زكاتهما وبهذا يَفْسُدُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ، فَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ مَذْهَبًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ مَلَكَ مَاشِيَةً فَاشْتَرَى بِهَا عَرَضًا فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَلَكَهَا فِيهِ فَكَانَ حَوْلُ الْعَرَضِ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي مَلَكَ فِيهِ الْمَاشِيَةَ، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَقَدْ أَفْصَحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِشَيْءٍ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ مِنَ الماشية " فكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يَوْمِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَاشِيَةٍ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ وَسَامَهَا فَوَجَبَتْ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَسَقَطَتْ زَكَاةُ الْعَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ ابْتَاعَ بِهَا عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ، فَحَوْلُ الْعَرَضِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْمَاشِيَةَ لِأَنَّ زَكَاةَ الْمَاشِيَةِ فِي قِيمَتِهَا كَالْعَرَضِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَمَعَ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَبَيْنَ الْمَاشِيَةِ ثُمَّ عَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ دُونَ الْمَاشِيَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي جَوَابِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَ ثَمَنَ الْعَرَضِ، وَمُطْلَقُ الْأَثْمَانِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَكَانَ الجواب راجعاً إليهما ومحمولاً.

مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَقَامَ هذا العرض في يديه ستة أشهر ثم باعه بدراهم أو دنانير فأقامت في يديه ستة أشهر زكاها. قال المزني: إذا كانت فائدته نقداً

(3/291)


فحول العرض من حين أفاد النقد لأن معنى قيمة العرض للتجارة والنقد في الزكاة ربع عشر وليس كذلك زكاة الماشية ألا ترى أن في خمس من الإبل السائمة بالحول شاة أفيضم ما في حوله زكاة شاةٍ إلى ما حوله زكاة ربع عشر ومن قوله لو أبدل إبلاً ببقرٍ أو بقراً بغنمٍ لم يضمها في حول لأن معناها في الزكاة مختلف وكذلك لا ينبغي أن يضم فائدة ماشية زكاتها شاة أو تبيع أو بنت لبون أو بنت مخاضٍ إلى حول عرضٍ زكاته ربع عشر فحول هذا العرض من حين اشتراه لا من حين أفاد الماشية التي بها اشتراه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الثَّمَنِ، إِذَا مَلَكَهُ نِصْفَ الْحَوْلِ ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ عَرَضًا وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الثَّمَنِ، وَاخْتِلَافَ حُكْمِهِ، فَأَمَّا عَرَضُ التِّجَارَةِ إِذَا مَلَكَهُ نِصْفَ الْحَوْلِ ثُمَّ بَاعَهُ بِثَمَنٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الثَّمَنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالْمَوَاشِي وَالْعُرُوضِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دُونَ النِّصَابِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ فَإِنْ تَمَّ نِصَابًا اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نِصَابًا فَصَاعِدًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ ما يقوم به ذلك العرض، كأنه دراهم، وَالْعَرَضُ مِمَّا يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ إِمَّا لِأَنَّهُ ابْتَاعَهُ بِدَرَاهِمَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ابْتَاعَهُ بِعَرَضٍ وَغَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَنَى حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الْعَرَضِ أخرج زكاته، لأنه مَا حَصَلَ مِنْ قِيمَتِهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي قِيمَتِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا يُقَوَّمُ بِهِ ذلك العرض، كأنه دراهم والعرض مما يقوم بِالدَّنَانِيرِ، إِمَّا لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِدَنَانِيرَ وَإِمَّا لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِعَرَضٍ وَغَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَنَانِيرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ وَلَا يَبْنِي، لِأَنَّ الزَّكَاةَ قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ قِيمَةِ الْعَرَضِ إِلَى عَيْنٍ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْعَرَضِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِاخْتِلَافِهِمَا وَقَدْ حَكَاهُ الرَّبِيعُ فِي " الْأُمِّ " عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ يَبْنِي حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ

(3/292)


العرض، لأن التقلب الَّذِي بِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْعَرَضِ، لَا يَحْصُلُ إلا بتقلب الْأَثْمَانِ وَاخْتِلَافِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْحَوْلِ، وَهَذَا أَحْوَطُ وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ.

فَصْلٌ
: وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالْمَوَاشِي وَالْعُرُوضِ فَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ كَعُرُوضِ الْقِنْيَةِ فَقَدْ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ وَبَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فيه الزكاة من قِيمَتِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ فَهَذَا يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ كَالْمَوَاشِي السَّائِمَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهَا، فَإِنْ نَوَى بِهَا التِّجَارَةَ بَنَى حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ وَزَكَّاهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ كَالْعُرُوضِ، وَإِنْ عَدَلَ بِهَا عَنِ التِّجَارَةِ، وَأَرْصَدَهَا لِلنَّسْلِ وَالْقِنْيَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِي قِيمَتِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ بِهَا عَنِ التِّجَارَةِ، وَلَا فِي عَيْنِهَا لِنَقْصِهَا عَنِ النِّصَابِ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ نِصَابًا فَيُعْتَبَرُ حَالُهَا أَيْضًا، وَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَرْصُدَهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلْقِنْيَةِ فَإِنْ أَرْصَدَهَا لِلتِّجَارَةِ فَهَلْ يُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَوْ زَكَاةَ الْعَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهَا فَعَلَى هَذَا يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُزَكِّيهَا زَكَاةَ الْعَيْنِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ كَالَّتِي أَرْصَدَهَا لِلنَّسْلِ، وَأَعَدَّهَا لِلْقِنْيَةِ وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ التِّجَارَةِ، وَهَلْ يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ، وَلَا يَسْتَأْنِفُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ الْعَرَضِ عَلَى حَوْلِ الْمَاشِيَةِ، جَازَ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ الْمَاشِيَةِ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ وَلَا يَبْنِي عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي النُّصُبِ وَاخْتِلَافِهِمَا في الزكاة.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الْعَرَضَ بِمَائَتَيْ دِرْهَمٍ لَمْ يقوم إلا بدراهم وَإِنْ كَانَ الدَّنَانِيرُ الْأَغْلَبَ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ ".

(3/293)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِعَرَضٍ أَنَّهُ يُقَوِّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَاهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ نِصَابًا إِمَّا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَهَذَا يُقَوِّمُهُ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ غَيْرَهُ فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ قَوَّمَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَنَانِيرَ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا قَوَمَّهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ، وَإِذَا اشْتَرَاهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا قَوَّمَ بِالدَّرَاهِمِ مَا قَابَلَهَا، وَبِالدَّنَانِيرِ مَا قَابَلَهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُقَوِّمُهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَمَ لَا تُعْتَبَرُ إِلَّا بِغَالِبِ النَّقْدِ كَالْمُتْلَفَاتِ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْعَرَضَ فَرْعٌ لِثَمَنِهِ وَتَقْوِيمُ الْفَرْعِ بِأَصْلِهِ إِذَا كَانَ لَهُ فِي الْقِيمَةِ مَدْخَلٌ أَوْلَى مِنْ تَقْوِيمِهِ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ مَعْنَيَيْنِ لَمْ يَجْمَعْهُمَا غَيْرُهُ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَوْلَهُ يعتبر بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي التَّقْوِيمِ، أو لا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ تُرَدُّ إِلَى أَيَّامِهَا فَإِذَا عدمتها ردت إلى الغالب، وكذلك فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَأَمَّا الْمُتْلَفَاتُ فَإِنَّمَا قُوِّمَتْ بِالْغَالِبِ لِعَدَمِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ جنساً واحداً.
والثاني: أن يكون جنسين فإن كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يُقَوَّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْنِ حَوْلَهُ عَلَى ثَمَنِهِ لم يقومه بثمنه.
والوجه الثاني: يقوم بنفسه وهو أصح لأن فَرْعُهُ فَكَانَ أَوْلَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ جِنْسَيْنِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

(3/294)


أَحَدُهَا: يُقَوَّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ.
وَالثَّانِي: بِثَمَنِهِ فَيُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ مَا قَابَلَهَا وَبِالدَّنَانِيرِ مَا قَابَلَهَا.
وَالثَّالِثَ: يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَطَرِيقُهَا النَّصُّ، والدنانير بيع وطريقها الاجتهاد.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِدَنَانِيرَ قَوَّمَ الدَّنَانِيرَ بدراهم وزكيت الدنانير بقيمة الدراهم لأن أصل ما اشترى به العرض الدراهم وكذلك لو اشترى بالدنانير لم يقوم العرض إلا بالدنانير ولو باعه بدراهم وعرض قوم بالدنانير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِدَرَاهِمَ وَبَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِدَنَانِيرَ فَإِنْ عَلِمَ قِيمَةَ الْعَرَضِ بِالدَّرَاهِمِ عِنْدَ حُلُولِ حَوْلِهِ أَخْرَجَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قِيمَتَهُ قَوَّمَ الدَّنَانِيرَ الْحَاصِلَةَ مِنْ ثَمَنِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَأَخْرَجَ الزَّكَاةَ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُخْرِجْهَا دَنَانِيرَ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا دَنَانِيرَ لَمْ تجزه، لأنه أخرج غير ما وجبت عَلَيْهِ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِبَيْعِ الْعَرَضِ بِالدَّنَانِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّنَانِيرِ، قَبْلَ الْحَوْلِ، وَتَسْقُطَ زَكَاةُ مَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَقَدْ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِ، وَمَنْ بَاعَ مَالَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِذَا بَاعَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَقَدْ بَاعَهُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَسَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، لَمْ تَسْقُطْ زَكَاتُهَا وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ زكاتها.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَامَتْ عِنْدَهُ مِائَةُ دِينَارٍ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَا زَكَاةَ فِي الدَّنَانِيرِ الْأَخِيرَةِ وَلَا فِي الدَّرَاهِمِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهَا لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: " إِذَا كَانَتْ مَعَهُ مِائَةُ دِينَارٍ أَقَامَتْ بِيَدِهِ أَكْثَرَ الْحَوْلِ " ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهَا التِّجَارَةَ، وَلَا يَبِيعَهَا لِطَلَبِ الرِّبْحِ فَهَذَا يَسْتَأْنِفُ بِمَا مَلَكَهُ أَخِيرًا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْحَوْلَ، وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى.
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِهَذَا الْبَيْعِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا فِي بَيْعِ الْمَوَاشِي.

(3/295)


والحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ صَرْفًا يُقْصَدُ بِهِ التِّجَارَةُ وَطَلَبُ الرِّبْحِ وَالنَّمَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ يبني على حَوْلِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى وَيُزَكِّي، وَلَا تَسْقُطُ الزكاة بالبيع اعتباراً بعروض التجارة، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أُصُولِهَا زَكَاةٌ فَلِأَنْ تَجِبَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْلَى لِأَنَّ فِي أَصْلِهَا زَكَاةً وَلِأَنَّ مَا تَجِبُ زَكَاتُهُ مَعَ عَدَمِ النَّمَاءِ، فَلِأَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ مَعَ حُصُولِ النَّمَاءِ أَوْلَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا زَكَاةَ، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ بِالْآخِرَةِ، وَلَا يَبْنِي لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ زَكَاتُهُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ بغيره كالمواشي، إذا بادلها بمواشي، وَلِأَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ لَا يُزِيلُ حُكْمَ الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْأَصْلِ، لِأَنَّ ما يحصل من ربحها يسير، لأن إِنْ بَاعَهَا بِجِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا مِثْلًا بمثل، فإن بَاعَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا يَدًا بيد ومع ارتفاع النَّسِيئَةِ يَقِلُّ الرِّبْحُ وَهَذَا أَقْيَسُ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرْضًا لِغَيْرِ تجارةٍ فَهُوَ كَمَا لو ملك بغير شراءٍ فإن نوى به التجارة فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا لِلْقِنْيَةِ، فَلَا زَكَاةَ فيه فإذا نَوَى بَعْدَ الشِّرَاءِ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، حَتَّى يَتَّجِرَ بِهِ وَلَا يَكُونُ لِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ حُكْمٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ الْكَرَابِيسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ عَرَضَ التِّجَارَةِ، لَوْ نَوَى بِهِ الْقِنْيَةَ سَقَطَتْ زَكَاتُهُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ عَرَضُ الْقِنْيَةِ، إِذَا نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْعَرَضِ لِأَجْلِ التجارة، والتجارة تصرف وفعل الحكم إِذَا عُلِّقَ بِفِعْلٍ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حتى يقترن به الفعل وشاهد ذلك من الزَّكَاةِ، طَرْدٌ وَعَكْسٌ فَالطَّرْدُ أَنَّ زَكَاةَ الْمَوَاشِي تَجِبُ بِالسَّوْمِ، فَلَوْ نَوَى سَوْمَهَا وَهِيَ مَعْلُوفَةٌ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا السَّوْمُ، وَالْعَكْسُ أَنَّ زَكَاةَ الْفِضَّةِ وَاجِبَةٌ إِلَّا أَنْ يَتَّخِذَهَا حُلِيًّا فَلَوْ نَوَى أَنْ تَكُونَ حُلِيًّا لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حتى يقترن بها الفعل، وإن كَانَ شَاهِدُ الزَّكَاةِ طَرْدًا وَعَكْسًا يَدُلُّ عَلَى مَا أُثْبِتَ مِنِ انْتِقَالِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالْفِعْلِ حِينَ يُوجَدُ الْفِعْلُ ثَبَتَ

(3/296)


أَنَّ عُرُوضَ الْقِنْيَةِ لَا تَجِبُ زَكَاتُهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا فِعْلُ التِّجَارَةِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَسَنَجْعَلُ الْجَوَابَ عَنْهُ فَرْقًا نَذْكُرُهُ فِي موضعه، من المسألة الآتية بشاهد واضح.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو اشترى شيئاً للتجارة ثم نواه لقنيةٍ لم يكن عَلَيْهِ زَكَاةٌ وَأُحِبُّ لَوْ فَعَلَ وَلَا يُشْبِهُ هذا السائمة إِذَا نَوَى عَلَفَهَا فَلَا يَنْصَرِفُ عَنِ السَّائِمَةِ حَتَّى يَعْلِفَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ جَرَتْ فِيهِ الزكاة وثبت له الحول من وَقْتِ الشِّرَاءِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَتَجَرَّدْ عَنِ الْفِعْلِ فَإِنْ قِيلَ: لَوِ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَةِ لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَةً بِالشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ حَتَّى يَتَعَقَّبَهَا الْقَوْلُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا؟ قِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّاةَ يُمْكِنُ أَنْ تَصِيرَ أُضْحِيَةً بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَنْ يَقُولَ هَذِهِ أُضْحِيَةٌ فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ وَالْعَرَضُ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْقَوْلِ، وَلَا بِالنِّيَّةِ فَلِذَلِكَ صَارَ لِلتِّجَارَةِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ جَعْلَ الشَّاةِ أُضْحِيَةً يزيل الملك والشراء بجلب الْمِلْكَ فَلَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا لِتَنَافِيهِمَا، وَجَعْلُ الْعَرَضِ لِلتِّجَارَةِ غَيْرُ مُزِيلٍ لِلْمِلْكِ فَلَمْ يُنَافِ الشِّرَاءَ فَصَحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ بِالشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ فَالزَّكَاةُ جَارِيَةٌ فِيهِ، فَلَوْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْقِنْيَةِ صَارَ لِلْقِنْيَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَسَقَطَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ لِلْقِنْيَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَلَا يَصِيرَ لِلتِّجَارَةِ، أَنَّ الْقِنْيَةَ كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ، فَإِذَا نَوَاهَا فَقَدْ وُجِدَ الْكَفُّ، وَالْإِمْسَاكُ مَعَهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْدَاثِهِ فَصَارَ لِلْقِنْيَةِ وَالتِّجَارَةُ، فِعْلٌ وَتَصَرُّفٌ بِبَيْعٍ وَشِرَاءٍ، فَإِذَا نَوَاهَا وَتَجَرَّدَتِ النِّيَّةُ عَنْ فِعْلٍ يُقَارِنُهَا لَمْ تَصِرْ لِلتِّجَارَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يُوجَدْ وَشَاهِدُ ذَلِكَ السَّفَرُ الَّذِي يتعلق بوجوده، أحكام وزواله أَحْكَامٌ، فَلَوْ نَوَى الْمُقِيمُ السَّفَرَ لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا، لِأَنَّ السَّفَرَ إِحْدَاثُ فِعْلٍ وَالْفِعْلُ لَمْ يُوجَدْ وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ صَارَ مُقِيمًا لِأَنَّ الْإِقَامَةَ لُبْثٌ وَكَفٌّ عَنْ فِعْلٍ، وَذَلِكَ قَدْ وُجِدَ فَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ عَرَضَانِ لِلتِّجَارَةِ، فنوى قنية أحدهما كان ما لم يبقه قِنْيَتَهُ عَلَى حُكْمِ التِّجَارَةِ تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا نَوَى قِنْيَتَهُ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ التِّجَارَةِ، لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ عرض للتجارة فنوى قنية بعضه، فإن وجد ذلك البعض بإجارة عَنِ الْجُمْلَةِ أَوْ إِشَاعَةٍ مَعْلُومَةٍ، كَانَ مُقْتَنِيًا لما نوى من بعضه متخيراً لما بقي من جملته، وإن لم يجد ذَلِكَ الْبَعْضَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا حُكْمَ للقنية لِلْجَهْلِ بِهَا، وَيَكُونُ جَمِيعُ الْعَرَضِ عَلَى حُكْمِ التجارة.

(3/297)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْعَلُ نِصْفُهُ لِلْقِنْيَةِ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي لِلتِّجَارَةِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْبَعْضَيْنِ وَتَعْدِيلًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ.

فَصْلٌ
: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِالنِّيَّةِ، وأن يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى نِيَّتِهِ مِنْ قِنْيَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ فَأَمَّا مَا اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَأَنَّهُ اشْتَرَى عَرَضًا بِعَرَضٍ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ عَرَضًا بعرض عنده وَيُعْطِيَهُ عَرَضًا عِنْدَ بَائِعِهِ لِلْقِنْيَةِ فَيَكُونُ لِلْقِنْيَةِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَرَضٍ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ عَرَضًا عِنْدَ بَائِعِهِ لِلتِّجَارَةِ فَيَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَتَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ، وَإِنَّ فِي إِحْدَاثِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ فِي كُلِّ عَقْدٍ مَشَقَّةً فَكَانَ ظَاهِرَ حَالِهِ استصحاب التجارة، ما لم تعتبر النِّيَّةَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَرَضٍ عِنْدَهُ لِلْقِنْيَةِ عَرَضًا عِنْدَ بَائِعِهِ لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونُ لِلْقِنْيَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ أَصْلِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَرَضٍ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ عَرَضًا عند بائعه للقنية، ففيه وجهان:
أصحهما: أن يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ أَصْلِهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ نِيَّةً تَنْقُلُ عَنْهُ.
والوجه الثاني: أن يَكُونُ لِلْقِنْيَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ الْعَرَضِ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ ابْتِيَاعِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فَاسِدٌ بِمَنِ اشْتَرَى بِعَرَضٍ لِلْقِنْيَةِ عَرَضًا عِنْدَ بائعه للتجارة، فإن لَا يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يُسْتَدَامُ حُكْمُهُ قَبْلَ ابْتِيَاعِهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ فَكَذَلِكَ فِي هذا الموضع.
فَصْلٌ
: قَدْ مَضَى حُكْمُ الْعُرُوضِ الْمَمْلُوكَةِ بِالشِّرَاءِ، فَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ بِغَيْرِ شِرَاءٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ بِعَرَضٍ كَالصُّلْحِ، وَرُجُوعِ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَرُجُوعِ السِّلْعَةِ عَلَى بَايِعِهَا بِعَيْبٍ، وهذا على ضربين:
أحدهما: ما يبتدي بملكه بِعَقْدٍ، وَهُوَ الصُّلْحُ وَمَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعُرُوضِ عِوَضًا عَنْ دَيْنِهِ، فَهَذَا كَالَّذِي يَمْلِكُهُ بِالشِّرَاءِ فَيَعْتَبِرُ نِيَّةَ تَمَلُّكِهِ، فَإِنْ نَوَى بِهِ الْقِنْيَةَ كَانَ لِلْقِنْيَةِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ كَانَ لِلتِّجَارَةِ.
وَالثَّانِي: مَا يَعُودُ إِلَى تَمَلُّكِهِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ رُجُوعُ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَاسْتِرْجَاعُهُ الْمَبِيعَ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ فَهَذَا يعتبر حكمه، بعد رجوعه إلى تملكه بحكمه قبل

(3/298)


خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ لِلتِّجَارَةِ كَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى مِلْكِهِ لِلتِّجَارَةِ، وَجَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ لِلْقِنْيَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْقِنْيَةِ وَنَوَى بِاسْتِرْجَاعِهِ التِّجَارَةَ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، كَمَا لَوْ نَوَى التِّجَارَةَ فِيمَا بِيَدِهِ لِلْقِنْيَةِ، لِأَنَّهُ لم يبتدي تَمَلُّكَهُ بِبَيْعٍ وَإِنَّمَا عَادَ إِلَى تَمَلُّكِهِ فَعَادَ إِلَى حُكْمِ أَصِلِهِ، فَهَذَا حُكْمُ مَا مَلَكَ بِعِوَضٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا مَلَكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْغَنِيمَةِ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَى بِتَمَلُّكِهِ التِّجَارَةَ، لأن العرض إنما يصير لتجارة بِفِعْلِ التِّجَارَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّمْلِيكَاتُ مِنَ التِّجَارَاتِ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ التِّجَارَةِ، وكانت للقنية لا تجزي فِيهَا الزَّكَاةُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَرَضًا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ مَا مَلَكَ بِصَدَاقٍ أَوْ إجارة.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان يملك أقل مما تجب في مثله الزَكَاةُ زَكَّى ثَمَنَ الْعَرْضِ مِنْ يَوْمِ مَلَكَ العرض لأن الزكاة تحولت فيه بعينها ألا ترى أنه لو اشتراه بعشرين ديناراً وكانت قيمته يوم يحول الحول أقل سقطت عنه الزكاة لأنها تحولت فيه وفي ثمنه إذا بيع لا فيما اشتري به ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِنِصَابٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَأَوَّلُ حَوْلِهِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَيْهِ، فأما إذا اشترى عرضاً بدون النصاب كأن اشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، فَالزَّكَاةُ فِيهِ جَارِيَةٌ وَيَكُونُ أَوَّلُ حَوْلِهِ مِنْ حِينِ اشْتَرَاهُ، لَا مِنْ حِينِ مَلَكَ الثَّمَنَ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ نِصَابًا جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُؤَثِّرُ نُقْصَانُ قِيمَتِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَفِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَوْلِ عَنِ النِّصَابِ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة، وَمِنْ تَابَعَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِيهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْقِيمَةِ، وَتَجِبُ فِي الْعَيْنِ فَلَمَّا كَانَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ، كَذَلِكَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ كَذَلِكَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَالٌ نَاقِصٌ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْتَدَأَ حَوْلُهُ كَالْمَوَاشِي، وَلِأَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ مِمَّا يَتْبَعُ أَصْلَ الْمَالِ فِي حَوْلِهِ، كَمَا أَنَّ سِخَالَ الْمَوَاشِي تَبَعٌ لِأُمَّهَاتِهَا فِي حَوْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ تَدْخُلِ السِّخَالُ فِي حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ نِصَابًا لَمْ يَدْخُلِ الرِّبْحُ فِي

(3/299)


حُكْمِ الْأَصْلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نِصَابًا وَتَحْرِيرُ ذلك، أن يقال: إنه نماء مال فيجري فِيهِ الْحَوْلُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلنِّصَابِ كَالسِّخَالِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَهَذَا مَالٌ حَالَ حَوْلُهُ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يُعْتَبَرْ نِصَابُهُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ نِصَابُهُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ كَالزَّرْعِ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ نصابه في أثنائه، وقيل حصاده لم يعتبر نصابه في بدره، وَعَكْسُهُ الْمَوَاشِي.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ، أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَالٌ لَا يُعْتَبَرُ نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي ابْتِدَائِهِ كَالزَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لا يكون نقصان قيمته قبل الحول منقصاً لِلزَّكَاةِ، كَمَا لَوْ نَقَصَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عينه.
فالمعنى فيه: أن لَمَّا اعْتُبِرَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ اعْتُبِرَ فِي ابْتِدَائِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي أَثْنَاءِ حَوْلِ الْعُرُوضِ، لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي ابْتِدَائِهِ، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى السِّخَالِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ دُونَ النِّصَابِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تعتبر قيمته عند حلول حول الثمن الذي ابتاعه به كأن بلغت نصاباً فأكثر إخراج زَكَاتِهِ مِنْ قِيمَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَتْ فَإِنْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ حَتَّى بَلَغَتْ نِصَابًا، كأن كان يسوي عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ مِائَةً وَخَمْسِينَ، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ شَهْرٍ حَتَّى صَارَتْ تُسَوِّي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ الثَّانِي لِنَقْصِ قِيمَتِهِ عَنِ النِّصَابِ، وَقْتَ اعْتِبَارِهَا وَهُوَ رَأْسُ الْحَوْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِحَوْلِهِ الْمَاضِي وَكَأَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى حِينِ الزِّيَادَةِ.
فَصْلٌ
: فَإِنِ اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْمِائَةِ عَرَضًا ثَانِيًا، اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ وَلَمْ يَبْنِ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَضَّ ثمنه وكان دون النصاب بطل حَوْلِهِ وَمَنِ اعْتَبَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا قِيمَةَ الْعَرَضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، يَقُولُ: قَدْ بَطَلَ حَوْلُ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ بِنُقْصَانِ قِيمَتِهِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ حَوْلَ الثَّانِي إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا.

(3/300)


فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِخَمْسِينَ مِنْهَا عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ الْحَوْلُ، وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ ضَمَّهَا إِلَى الْخَمْسِينَ وَأَخْرَجَ زَكَاةَ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَرَضِ مَعَ الدَّرَاهِمِ نِصَابٌ كَامِلٌ، وَلَوْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى بِجَمِيعِ الْمِائَةِ عَرَضًا ثُمَّ اسْتَفَادَ بَعْدَ شَهْرٍ مِائَةً أُخْرَى نُظِرَ، فَإِنْ حَالَ حَوْلُ الْعَرَضِ وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ زَكَّاهُمَا، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَةِ الْمُسْتَفَادَةِ زَكَّاهَا أَيْضًا وَإِنْ حَالَ حَوْلُ الْعَرَضِ، وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ لَمْ يُزَكِّهَا حَتَّى يَحُولَ حَوْلُ الْمِائَةِ الْمُسْتَفَادَةِ فَإِنْ حَالَ حَوْلُهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ الْمِائَةُ إِذَا ضَمَّهَا إِلَى قِيمَةِ الْعَرَضِ صَارَتْ نِصَابًا كَامِلًا زَكَّى الْجَمِيعَ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُزَكِّهَا.
فَصْلٌ
: إِذَا اشْتَرَى عَرَضَيْنِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَقِيَ الْآخَرُ، قَوَّمَهُ إِذَا حَالَ حَوْلُهُ فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِلَّا فَلَا شيء عليه، وإن كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَاشْتَرَى بهما عرضين بنى حوليهما عَلَى حَوْلِ الْمِائَتَيْنِ، فَإِنْ تَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحَوْلِ اعْتُبِرَ حَوْلُ الْبَاقِي مِنْ حِينِ مِلْكِهِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَبْنِ حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ ثَمَنِهِ لِأَنَّ ثَمَنَهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ.
فَصْلٌ
: إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَهُ بِدَيْنٍ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ.
وَالثَّانِي: بَعْدَ الْحَوْلِ فَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ زَكَّاهُ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِحَالٍ أَوْ مُؤَجَّلٍ عَلَى مُعْسِرٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ قَدْ وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهِ بِحُلُولِ حَوْلِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِدَيْنٍ حَالٍّ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعْسِرٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مُوسِرٍ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِحَوْلِ الْعَرَضِ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ فَهَلْ تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا يَبْنِي حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ وَقَبَضَهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بَدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَهَلْ يَكُونُ مَالِكًا لِلدَّيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.

(3/301)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ مَالِكًا لَهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ، هَلْ تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا يَبْنِي حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ وقبضه أخرج زكاته.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَمْنَعُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ زَكَاةَ الفطر إذا كانوا مسلمين ألا ترى أن زكاة الفطر على عدد الأحرار الذين ليسوا بمالٍ إنما هي طهور لمن لزمه اسم الْأَيْمَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا مَلَكَ عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي قِيمَتِهِمْ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي رَقَبَتِهِمْ إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وتسقط زكاة الفطر لأنهما زكاتان، فلم يجب اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَالٍ كَسَائِمَةِ الْمَاشِيَةِ إِذَا اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي قِيمَتِهَا، وَزَكَاةُ السَّوْمِ فِي رَقَبَتِهَا.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إِلَّا صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ " وَلِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تَجِبُ فِي الْقِيمَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَزِيدُ بِزِيَادَتِهَا، وَتَنْقُصُ بِنَقْصِهَا، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تَجِبُ عَنِ الرَّقَبَةِ بدليل أنها تجب عن الحرم، والعبد وإذا اختلف سبب وجوبها لَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُهُمَا، كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَجَزَاؤُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِ لَا عَنْ رَقَبَتِهِ وَكَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَبْطُلُ ما احتج به من ينافي زَكَاةَ التِّجَارَةِ وَزَكَاةَ الْعَيْنِ، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ، أَنَّهُمَا حَقَّانِ يَخْتَلِفُ سَبَبُ وُجُوبِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كالصيد المملوك والحدين المختلفين، ولأن لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَالِ السَّيِّدِ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ رَقَبَتِهِ، وَزَكَاةُ الْعَيْنِ عَنْ مَالِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ، أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَالِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَزَكَاةُ التجارة عن قيمته، ولأن زَكَاةِ الْفِطْرِ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ وَجَبَتْ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ حُصُولِ الخلاف فيها، فلو جاز إسقاط إحديهما بِالْأُخْرَى لَكَانَ إِسْقَاطُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ بِالْفِطْرِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتِّجَارَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْعُشْرِ الْوَاجِبِ عَلَى الزَّرْعِ فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا بَطَلَ ذَاكَ والله أعلم.

(3/302)


مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اشْتَرَى نَخْلًا أَوْ زَرْعًا لِلتِّجَارَةِ أَوْ ورثها زكاها زكاة النخل والزرع وَلَوْ كَانَ مَكَانَ النَخْلِ غراسٌ لَا زَكَاةَ فِيهَا زَكَّاهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ أَرْضًا أَوْ مَاشِيَةً، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ غَيْرَ سَائِمَةٍ وَالْأَرْضُ غَيْرَ مَزْرُوعَةٍ، وَالنَّخْلُ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ فَيُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ سَائِمَةً وَالْأَرْضُ مَزْرُوعَةً وَالنَّخْلُ مُثْمِرَةً فَهَذَا على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن تجب فيها زَكَاةُ الْعَيْنِ دُونَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ أَوْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ قِيمَتُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَهَذَا يُزَكِّيهَا زَكَاةَ الْعَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَجِبَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ دُونَ الْعَيْنِ وذلك بأن يكون أقل من خمسة مِنَ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ وَأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقِ زَرْعٍ وَثَمَرَةٍ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ، فَهَذَا يُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا الزَّكَاتَانِ جَمِيعًا زَكَاةُ التِّجَارَةِ بِأَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَزَكَاةُ الْعَيْنِ بِأَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَوْ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجِبَ الزَّكَاتَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ بِدُونِ الْمِائَتَيْنِ فَيَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا، فَتَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ بِحُلُولِهِ وَزَكَاةُ الْعَيْنِ بِحُلُولِهِ، أَوْ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا نَخْلًا فَيُثْمِرُ وَيَبْدُو صَلَاحُهُ، بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَتَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، بِحُلُولِ الْحَوْلِ، وَزَكَاةُ الْعَيْنِ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا إِحْدَى الزكاتين إجماعاً لأن سبب وجوبها وَاحِدٌ لَكِنِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيُّ الزَّكَاتَيْنِ أَثْبَتُ حُكْمًا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَثْبَتُ وَحُكْمُهَا أَغْلَبُ فَتَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، دُونَ زَكَاةِ الْعَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ زَكَاةِ الْعَيْنِ، وأخص لِاسْتِيفَائِهَا الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ وَاخْتِصَاصُ زَكَاةِ الْعَيْنِ بِالْفَرْعِ دُونَ الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَقْوَى مِنْ زَكَاةِ العين وآكد لوجوبها فِي جَمِيعِ السِّلَعِ وَالْعُرُوضِ وَاخْتِصَاصِ زَكَاةِ الْعَيْنِ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ أَثْبَتُ، وَحُكْمُهَا أَغْلَبُ فَتَجِبُ زَكَاةُ الْعَيْنِ دُونَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، لمعنيين:

(3/303)


أحدهما: أنها أقوى من زكاة التجارة، وأؤكد لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالنَّصِّ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ وَجَبَتْ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ حُصُولِ الْخِلَافِ فِيهَا، فَكَانَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، أَوْلَى مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ فِي الرَّقَبَةِ، وَزَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الْقِيمَةِ فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ أَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ، كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إِذَا جَنَى فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا اسْتَوَتِ الزَّكَاتَانِ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْبِقَ وُجُوبَ إِحْدَى الزَّكَاتَيْنِ، بِأَنْ يَتَعَجَّلَ حَوْلَ التِّجَارَةِ قَبْلَ صَلَاحِ الثَّمَرَةِ، أَوْ يَتَعَجَّلَ صَلَاحَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ حَوْلِ التِّجَارَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أبو حفص بن الْوَكِيلِ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ: يُزَكِّي أَعْجَلَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا سَبِيلَ إِلَى إسقاط زكاة وجبت في الحال، ويؤكده أن يجب في ثاني الحال.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: لِتَعَذُّرِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْغَالِبِ وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُفَرِّقْ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: إن زكاة البحارة أَوْلَى عَلَى قَوْلِهِ فِي " الْقَدِيمِ " قُوِّمَ الْأَصْلُ وَالثَّمَرَةُ، وَأُخْرِجَ رُبْعُ الْعُشْرِ مِنْ جَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ أَوْلَى أُخْرِجَ عُشْرُ الثَّمَرَةِ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهَا، عَلَى حَسَبِ حَالِهَا، ثُمَّ هَلْ يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ وَأَصْلِ التِّجَارَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَنُوبُ عَنْهَا، وَيُقَوَّمُ لِلتِّجَارَةِ فَيُخْرَجُ رُبْعُ عُشْرِهَا، إِنْ بَلَغَتِ الْقِيمَةُ نِصَابًا، لِأَنَّ زَكَاةَ الْأَعْيَانِ مَأْخُوذَةٌ عَنْهَا لَا عَنْ أُصُولِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا زَرَعَ فِي أَرْضِ يَهُودِيٍّ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكَ الْأَرْضِ مِمَّنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَنُوبُ عَنِ الْأَصْلِ لأن لا يجتمع زَكَاتَانِ فِي مَالٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الأرض بياض غير مشغول يزرع وَلَا نَخْلٍ، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا فَلَوْ بَلَغَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ إِذَا قُلْنَا: بِوُجُوبِ زَكَاةِ الْعَيْنِ، فَهَلْ يَعْدِلُ إِلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: يُقَوِّمُ الْأَصْلَ وَيُزَكِّي زَكَاةَ التِّجَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ لَا تَنُوبُ عَنِ الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: لَا يُقَوِّمُ الْأَصْلَ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ تَنُوبُ عَنِ الْأَصْلِ.

(3/304)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " والخلطاء في الذهب والورق في الماشية والحرث على ما وصفت سواءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِ " الزَّكَاةِ " وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، وَأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا، وَفِي الْجَدِيدِ يُجَوِّزُهَا فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الْخُلْطَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فِي أَحَدِ مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِثَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فيكونان خليطين يزكيان زَكَاةَ الْوَاحِدِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَيَشْتَرِيَانِ بِهِمَا عَرَضًا فَيَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ فِيهِ يُزَكِّيَانِهِ زَكَاةَ الْوَاحِدِ، فَأَمَّا إِنْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَخَلَطَاهَا جَمِيعًا وَتَرَكَاهَا حَتَّى حَالَ حولها، فليست هذه الخلطة تُوجِبُ الزَّكَاةَ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا غَيْرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(3/305)