الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب زكاة مال القراض
مسالة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا دفع الرجل ألف درهم قراضاً على النصف فاشترى بها سلعةً وحال الحول عليها وهي تساوي ألفين ففيها قولان أحدهما أنه تزكى كلها لأنها ملك لرب المال أبداً حتى يسلم إليه رأس ماله وكذلك لو كان العامل نصرانياً فإذا سلم له رأس ماله اقتسما الربح وهذا أشبه والله أعلم والقول الثاني أن الزكاة على رب المال في الألف والخمسمائة ووقفت زكاة خمسمائة فإن حال عليها حول من يوم صارت للعامل زكاها إن كان مسلماً فإذا لم يبلغ ربحه إلا مائة درهم زكاها لأنه خليط بها وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ نَصْرَانِيًّا وَالْعَامِلُ مُسْلِمًا فلا ربح لمسلمٍ حتى يسلم إلى النصراني رأس ماله في القول الأول ثم يستقبل بربحه حولاً والقول الثاني يحصي ذلك كله فإن سلم له ربحه أدى زكاته كما يؤدي ما مر عليه من السنين منذ كان له في المال فضلٌ قال المزني: أولى بقوله عندي أن لا يكون على العامل زكاةٌ حتى يحصل رأس المال لأن هذا معناه في القراض لأنه يقول لو كان له شركةٌ في المال ثم نقص قدر الربح كان له في الباقي شركٌ فلا ربح له إلا بعد أداء رأس المال ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقِرَاضُ فَبِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ الْمُضَارَبَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ أَلْفًا قِرَاضًا إِلَى رَجُلٍ عَلَى النِّصْفِ مِنْ رِبْحِهَا فَاشْتَرَى بِالْأَلْفِ سِلْعَةً، وَحَالَ الْحَوْلُ عليها، وقيمتها ألفان ففي زكاتها قولان: بناه على اختلاف قول الشَّافِعِيِّ فِي الْعَامِلِ هَلْ هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ أَوْ أَجِيرٌ لَهُ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ: إِنَّهُ أَجِيرٌ مِنَ الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ لَهُ، وَلَا يَكُونُ شَرِيكًا لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَامِلَ إنما هو داخل ببدنه لا يملكه فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِأَنَّ شَرِكَةَ الأبدان لا تصح، فثبت أنه أجبر.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرِيكًا لَكَانَ يَلْحَقُهُ مِنَ الْوَضِيعَةِ وَالْعَجْزِ كَمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الرِّبْحِ، وَالْفَضْلِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَجْزِ شَرِيكًا لَمْ يَكُنْ فِي الرِّبْحِ شَرِيكًا.

(3/306)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ بِمَا شُرِطَ فِيهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنه لو كان أجيراً لكان عوضه معلماً ولا يستحقه وَإِنْ كَانَ الرِّبْحُ مَعْدُومًا، فَلَمَّا جَازَتْ جَهَالَةُ عِوَضِهِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا عِنْدَ عَدَمِ رِبْحِهِ لَمْ يَجُزْ، أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا وثبت كونه شريكاً.
والثاني: هو أن الإجازة لَازِمَةٌ وَالشَّرِكَةَ جَائِزَةٌ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ ثَبَتَ أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ غَيْرُ أَجِيرٍ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فالزكاة فرع عليها، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ فَزَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا عَلَى هَذَا القول ملكاً لَهُ، وَمِنْ أَيْنَ يُخْرِجُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ الرِّبْحِ لِأَنَّهَا مُؤْنَةُ الْمَالِ فَشَابَهَتْ سَائِرَ المؤن وهذا أخص بِالْعَامِلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُخْرِجُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ بأصله وَرِبْحِهِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ، فَعَلَى هَذَا يُخْرِجُ مِنَ الربح خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَدْ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا أخرجه من أصل المال فأما العالم عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْبِضَ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ، فَإِذَا قَبَضَهَا اسْتَأْنَفَ حولها فإذا قُلْنَا: إِنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ أَصْلُ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفٌ، والخمسمائة ربح، ومن أين تخرج زَكَاتُهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَأَمَّا الْعَامِلُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَا شَرِيكَ بِهَا، وَفِي ابتداء حولها وجهان:
أحدهما: من حين ظهور الرِّبْحُ لِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ ظَهَرَتْ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ حِينِ الْمُحَاسَبَةِ وَالتَّقْوِيمِ، لِأَنَّهَا بِذَلِكَ مُسْتَقِرَّةٌ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهَا لم يلزم إخراج زكاتها حتى يقبضها بجواز تَلَفِ الْمَالِ، أَوْ تَلَفِ بَعْضِهِ فَيَبْطُلُ الرِّبْحُ فَإِنْ قَبَضَهَا أَخْرَجَ زَكَاتَهَا.
فَصْلٌ
: فَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ نَصْرَانِيًّا وَرَبُّ الْمَالِ مُسْلِمًا، فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ أَجِيرٌ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ جَمِيعِ الْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ هُوَ شَرِيكٌ فَعَلَى رَبِّ المال زكاة ألف وخمسماية، وَتَسْقُطُ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهَا مِلْكُ النَّصْرَانِيِّ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ نَصْرَانِيًّا وَالْعَامِلُ مُسْلِمًا فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ أَجِيرٌ فَلَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ مِلْكُ النَّصْرَانِيِّ، وَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ شريك فلا زكاة في ألف وخمسماية لأنها ملك النصراني، وعلى العامل زكاة خمسماية، إِذَا حَالَ حَوْلُهَا فَلَوْ

(3/307)


كَانَتْ قِيمَةُ الْعَرَضِ بَعْدَ الْحَوْلِ أَلْفًا وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ أَجِيرٌ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ أَلْفٍ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَعَلَى الْعَامِلِ زكاة المائة إن كان مالكاً لتمام النصاب وإن لم يملك سواها، ففي إيجاب زكاتها قولان: من اختلاف قوله في جواز الخلطة في الدراهم والدنانير فعلى القديم لا زكاة عليه فيها، وعلى الجديد عليه زكاتها إلا أن يكون رب المال نصرانياً، فلا زكاة عليه قولاً واحداً لأنه خليط النصراني.

(3/308)


بَابُ الدَّيْنِ مَعَ الصَّدَقَةِ وَزَكَاةُ اللُّقَطَةِ وَكِرَاءُ الدور والغنيمة
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ السُّلْطَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ حَتَى حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا ثُمَّ قَضَى غُرَمَاءُهُ بَقِيَّتَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نَقْدًا، وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا دَيْنًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ عَرَضًا أَوْ عَقَارًا بِقِيمَةِ الْمِائَتَيْنِ الدَّيْنِ فَهَذَا عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمِائَتَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ لَا يَخْتَلِفُ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَمْلِكَ سِوَى الْمِائَتَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ، وَقَدْ حَالَ حَوْلُهَا وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مُؤَجَّلًا، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بِيَدِهِ، لَا يَخْتَلِفُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ حَالًّا، فَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ مَا بِيَدِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ من الْجَدِيدِ أَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ يَمْنَعُ وُجُوبَ زَكَاتِهَا، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ دُونَ مَا سِوَاهُمَا، وَقَوْلُ أبي حنيفة فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَوَاشِي دُونَ مَا عداهما.
والقول الثاني: نص عليه في الجديد إن الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ زَكَاتِهَا وَإِنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ.
وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَبِهِ تَقَعُ الْفَتْوَى.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا في فقرائكم " ومنه دليلان:

(3/309)


أحدهما: أن من استوعب دينه ما بيده فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ النَّاسَ صِنْفَيْنِ صِنْفًا يُؤْخَذُ مِنْهُ وَصِنْفًا تُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهَذَا مِمَّنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال في الحرم خَطِيبًا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هذا أشهر زَكَاتِكُمُ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقْضِهِ ثُمَّ يزكي بقية ماله ".
وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنْهَا كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَالٌ يُمْلَكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مانعاً سنة كالميراث لا يستحق ثبوت الدين فيه وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَسْتَحِقُّ إِزَالَةُ يَدِهِ عَنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَالِ الْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لِأَجْلِ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ وَفِي الْمَالِ زَكَاةٌ، لَوَجَبَتْ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ وَالسَّوْمِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الثَّانِي عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهمْ صَدَقَةُ تُطَهِّرَهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا) {التوبة: 103) وَمَا بِيَدِهِ مَالُهُ يَجُوزُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَرَوَى عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ مَعَكَ مَائِتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْكَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ " وَهُوَ مَالِكٌ لِمَا بِيَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ، وَلِأَنَّ رَهْنَ الْمَالِ فِي الدَّيْنِ أَقْوَى واستحقاقه بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الرَّقَبَةِ، وَالدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ فِي الدَّيْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَانَ أَوْلَى، أَنْ لَا يَكُونَ مُجَرَّدُ الدَّيْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالزَّكَاةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً فِي الْعَيْنِ، أَوْ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ مَا فِي الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْهَا، كَالْعَبْدِ إِذَا جَنَى وَفِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِثَمَنِهِ لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْأَرْشُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مَا ثَبَتَ مِنَ الدَّيْنِ أَوَّلًا فِي الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْهَا، كَالدَّيْنِ إِذَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لِزَيْدٍ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ دَيْنٍ آخَرَ فِي الذِّمَّةِ لِعَمْرٍو وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ، يَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِمَالٍ يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الدَّيْنُ مِنْ ثُبُوتِهِ كَالْجِنَايَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقُّ مَالٍ مَحْضٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ثُبُوتِ الْمَالِ بِمُجَرَّدِهِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهِ كَالدَّيْنِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ على مالك وأبي حنيفة أن يقول: لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يُصْرَفُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فجاز، أن يجب على ما اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مَالَهُ، كَالْعُشْرِ فِي الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ، وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَمَّا الْخَبَرُ فَلَا حُجَّةَ فيه، لأن أول دليله يَنْفِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ لَيْسَ بِغَنِيٍّ، وَثَانِي دَلِيلِهِ مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُودِ قِسْمٍ ثَالِثٍ، يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهُوَ بَنُو السَّبِيلِ،

(3/310)


تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الصَّدَقَةُ عَنْ أَمْوَالِهِمُ الْغَائِبَةِ، وَتُدْفَعُ إِلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ فِي أَسْفَارِهِمْ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بِالدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الدَّيْنِ عَلَى الزَّكَاةِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَجِّ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةَ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ والمجنون، وإن لم يجب الحج عليها، وَوُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْفَقِيرِ، إِذَا كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، وَإِنْ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي الْوُجُوبِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَلَيْسَ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ حَاصِلٌ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ لَاسْتَحَقَّ مِيرَاثَ مَيِّتِهِ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ إِزَالَةَ يَدِهِ عَنْ مَالِهِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ تَامِّ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ كَانَ مَعَهُ قَدْرُ دَيْنِهِ فَأَكْثَرَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ إِزَالَةَ يَدِهِ عَنْهُ ثُمَّ مَعَ هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِيجَابِ زَكَاتَيْنِ فِي مَالٍ فَدَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ بَلْ هُمَا مَالَانِ لِرَجُلَيْنِ فَزَكَاةُ هَذَا الْمَالِ فِي عَيْنِهِ، وَزَكَاةُ الدين على مالكه والعين غير الدين.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَثَبَتَ أَنَّ أَصَحَّهُمَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ قَدْرُ قِيمَتِهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَنَا زَكَاةٌ وَإِنَّمَا فَرَّقَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ ثَمَرَةٍ أَوْ زَرْعٍ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا دَيْنًا، أَوْ مِثْلُ قِيمَتِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ كَانَتِ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نَقْدًا وَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنًا فَزَكَاتُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا، إِنْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مِائَتَيْنِ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا وَعَلَيْهِ مِائَتَا درهم ديناً فعلى هذين القولين أحدها: تَجِبُ زَكَاةُ الْمِائَتَيْنِ لَا غَيْرَ.
وَالثَّانِي: زَكَاةُ الْأَرْبَعِمِائَةِ إِذَا قُلْنَا الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نقداً، فقال قبل الحول إن شفا الله مريضي فالله عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهَذَا أَوْلَى وَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:

(3/311)


أَحَدُهُمَا: يَمْنَعُ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
والثاني: لا يمنع وعليه زكاة لِأَنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ أَوْكَدُ مِنَ النَّذْرِ، لِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ عَلَى أَدَائِهِ أَمِينٌ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ لَهُ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ، وَيَسْتَوْفِيهِ وَلَوْ قَالَ ومعه مائتا درهم: إن شفا اللَّهُ مَرِيضِي تَصَدَّقْتُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْهَا، وَأَشَارَ إِلَيْهَا وَعَيَّنَ النَّذْرَ فِيهَا، فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَجَوَابُهَا عَكْسُ ذَلِكَ الْجَوَابِ إِنْ قُلْنَا إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ لَا يَمْنَعُ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَمْنَعُ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْنَعُ، لِأَنَّ هَذَا قَدِ اسْتَحَقَّ بِهِ عَيْنَ الْمَالِ فَمَنَعَ الزَّكَاةَ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عَيْنَ الْمَالِ فَلَمْ يمنع الزكاة، والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَضَى عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَجَعَلَ لَهُ مَالَهُ حَيْثُ وَجَدُوهُ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْغُرَمَاءُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لِأَنَّهُ صَارَ لَهُمْ دُونَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ وهكذا في الزرع والثمر والماشية التي صدقتها منها كالمرتهن للشيء فيكون للمرتهن ماله فيه وللغرماء فضله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مِثْلُ مَا بِيَدِهِ، فَقَدِمَ إِلَى الْقَاضِي فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِأَدَائِهِ لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَلَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى مَالِهِ، فَهَذَا الْحُكْمُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الزَّكَاةِ وَيَكُونُ كَثُبُوتِهِ بِإِقْرَارِهِ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَيَجْعَلَ لِغُرَمَائِهِ أَخْذَ مَالِهِ حيث وجدوه بتمليك منه كأن قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، قَدْ جَعَلْتُ لَكَ بِدَيْنِكَ الْعَبْدَ الْفُلَانِيَّ، أَوِ الثَّوْبَ الْفُلَانِيَّ، الَّذِي قد عرفته، وبعتك هو بِمَالِكَ عَلِيَّ فَقَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَصَارَ مِلْكًا لَهُمْ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَمَّا بِيَدِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْكُمَ بِالدَّيْنِ وَيَحْجُرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغُرَمَائِهِ فَإِنْ قُلْنَا: الدَّيْنُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَمْنَعُ فَهَلْ عَلَيْهِ الزكاة ها هنا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْحَجْرَ مَانِعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ كَالْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ: الصَّبِيُّ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَجْرُ مَانِعًا

(3/312)


مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَهَلَّا كَانَ الْحَجْرُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ؟ قُلْنَا: حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ وَاقِعٌ لِأَجْلِهِمَا، وَلِحِفْظِ أَمْوَالِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَحَجْرُ هَذَا الْمُفْلِسِ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ، وَلِحِفْظِ مَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ هَذَا الْحَجْرُ مُوَهِّيًا لِمِلْكِهِ.

فَصْلٌ
: فَلَوْ قَدَّمَهُ غُرَمَاؤُهُ إِلَى الْقَاضِي فَجَحَدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ فَحَلَفَ لَهُمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أن حجوده غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَيَمِينَهُ الْكَاذِبَةَ غَيْرُ مُبَرِّئَةٍ لِبَقَاءِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَكُونُ زَكَاةُ مَا بِيَدِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جُحُودَهُ مع يمينه فقد أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّيْنُ فَصَارَ فِي حُكْمِ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِسُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ، فَتَكُونُ زَكَاةُ مَا بِيَدِهِ وَاجِبَةً قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مالٍ رُهِنَ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ أُخْرِجَ منه الزكاة قبل الدين (وقال المزني) وقد قال في كتاب اختلاف ابن أبي ليلى إِذَا كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا فلا زكاة عليه والأول من قوليه مشهور ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ الْمَاشِيَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَذَا رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِقِيمَةِ الرَّهْنِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَزَكَاتُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِذَا قُلْنَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَهَلْ يُقَدِّمُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ أَوِ الدَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ مَضَتْ، أَحَدُهَا تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالثَّانِي الدَّيْنُ، وَالثَّالِثُ هُمَا سَوَاءٌ فَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِسَابِ المال وقسطه والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، فَعَلَيْهِ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ كَالْوَدِيعَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُرَتَّبَةً، وَسَنَذْكُرُهَا الْآنَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ لِيَكُونَ التَّكْرَارُ مُفِيدًا.
اعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَهُ دَيْنٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حالا، أو مُؤَجَّلًا فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وفي زكاته قولان كالمال المغصوب.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وَلَا زَكَاةَ فيه حتى

(3/313)


يَقْبِضُهُ، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعْسِرٍ فَلَا تَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَإِذَا قَبَضَهُ فَهَلْ يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى، أَوْ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَبَعْدَ قَبْضِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالدَّيْنِ عَلَى مُعْسِرٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْتَرِفًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُمَاطِلًا مُدَافِعًا فَلَا زَكَاةَ فِيمَا عَلَيْهِ، كَالْمَالِ الْغَائِبِ فَإِذَا قَدَّمَ فَزَكَاةُ مَا عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لِمَا مَضَى قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَبْضِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، فَزَكَاةُ مَا عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، لِأَنَّ هذا ك " الوديعة " بل أحسن حالاً منها لأنه في السنة.

فصل
: فأما ما ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ أَوِ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى سَيِّدِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَأْنِفَ حَوْلَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو جحد ماله أو غصبه أَوْ غَرِقَ فَأَقَامَ زَمَانًا ثُمَّ قَدِرَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا واحدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أن لا يكون عليه زكاةٌ حتى يحول عليه الحول من يوم قبضه لأنه مغلوب عليه أو يكون عليه الزكاة لأن ملكه لم يزل عنه لما مضى من السنين فإن قبض من ذلك ما في مثله الزكاة زكاه لما مضى وإن لم يكن في مثله زكاةٌ فكان له مالٌ ضمنه إليه وإلا حبسه فإذا قبض ما إذا جمع إليه ثبت فيه الزكاة زكى لما مضى ".
قال الماوردي: قد ذكرنا ضم الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمَجْحُودِ وَأَنَّ زَكَاتَهُ قَبْلَ عَوْدِهِ لَا تَجِبُ، وَبَعْدَ عَوْدِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ، وقد ذكرنا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، وَاخْتِلَافَ حَالِ السَّوْمِ فِي الْمَاشِيَةِ، وَلَيْسَتْ بِنَا إِلَى إِعَادَتِهِ حَاجَةٌ وَلَا إِلَى الْإِطَالَةِ بِهِ فَاقَةٌ، فَلَوْ دَفَنَ مَالَهُ فَخَفِيَ عَنْهُ مَكَانَهُ أَحْوَالًا ثُمَّ وَجَدَهُ، فَزَكَاتُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالتَّائِهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَوْجَبَ زَكَاتَهُ قَوْلًا وَاحِدًا، قَالَ: لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى التَّفْرِيطِ فِي غَفْلَتِهِ وَقِلَّةِ تَحَرُّزِهِ، وَوَجَدْتُ أَبَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَائِلًا إِلَيْهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ هَلْ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وِجْدَانِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(3/314)


أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وِجْدَانِهِ وَظُهُورِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ كَالْغَائِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَغْصُوبِ وَالتَّائِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، وَبَعْدَ ظُهُورِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَوْ كَانَ خَفَاءُ الْمَكَانِ الْمَنْسُوبِ، إِلَى تَفْرِيطِهِ مُوجِبًا لِزَكَاتِهِ لَكَانَ الْمَالُ وَضَيَاعُهُ مُوجِبًا لِزَكَاتِهِ، لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى تَفْرِيطِهِ، فَلَمَّا كَانَ زَكَاةُ التَّائِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُفَرِّطًا فَكَذَلِكَ زَكَاةُ مَا نَسِيَ مَكَانَهُ مِنَ الْمَدْفُونِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُفَرِّطًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا عَرَّفَ لُقَطَةً سَنَةً ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا أَحْوَالٌ وَلَمْ يُزَكِّهَا ثُمَّ جَاءَهُ صَاحِبُهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَى الَّذِي وَجَدَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالِكًا قَطُّ حَتَّى جَاءَ صَاحِبُهَا وَالْقَوْلُ فِيهَا كما وصفت في أن عليه الزكاة لما مضى لأنها ماله أو في سقوط الزكاة عنه في مقامها في يد الملتقط بعد السنة لأنه أبيح له أكلها (قال المزني) أشبه الأمر بقوله عندي أن يكون عليه الزكاة لقوله إن ملكه لم يزل عنه وقد قال في باب صدقات الغنم ولو ضلت غنمه أَوْ غَصَبَهَا أَحْوَالًا ثُمَّ وَجَدَهَا زَكَّاهَا لِأَحْوَالِهَا فقضى ما لم يختلف من قوله في هذا لأحد قوليه في أن عليه الزكاة كما قطع في ضوال الغنم وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ لُقَطَةً تَبْلُغُ نِصَابًا مُزَكًّى كَعِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا فِيهِ فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْقَى صَاحِبَهَا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، فَهَلْ تَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا زَكَاتُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ الضَّالِّ.
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ.
وَالثَّانِي: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ، وَوَهَاءِ يَدِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْرِفَ لَهَا صَاحِبًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَارَ الْوَاجِدُ تَرْكَهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا، وَلَا يَخْتَارَ تَمَلُّكَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَلَا فِيمَا يَأْتِي مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ فَإِنْ وُجِدَ صَاحِبُهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، فَزَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، فَأَمَّا زَكَاةُ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا، فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا أَوْلَى أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى، فَفِي الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ زَكَاتُهَا كالأولى.

(3/315)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّنَةِ الأولى، لأن فِي الْأُولَى لَا يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِلْكُهُ أَوْهَى مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَارَ الْوَاجِدُ تَمَلُّكَهَا فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْوَاجِدُ قَدْ عَرَّفَهَا فِي الْحَوْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، وَلَا تَصِيرُ لَهُ مِلْكًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ غَاصِبًا، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ وَالْكَلَامُ فِي صَاحِبِهَا إِذَا رُدَّتْ إِلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ قَدْ عَرَّفَهَا فِي الْحَوْلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، وَبِمَاذَا تَصِيرُ مِلْكًا لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَإِذَا اخْتَارَ تَمَلُّكَهَا فَقَدْ مَلَكَهَا سَوَاءٌ انْتَقَلَتِ الْعَيْنُ بِتَصَرُّفِهِ أَمْ لَا، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ فِي الْوَاجِدِ الْمُتَمَلِّكِ فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مِنَ الْعُرُوضِ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا، فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْعُرُوضِ بِغَيْرِ قِيمَتِهَا سِوَاهَا، فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وعليه مثلها وأما صاحبها، والحكم فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ سَوَاءٌ، كَانَتْ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا. فَأَمَّا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا، فَقَدْ مُلِّكَتِ اللُّقَطَةُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَصَارَتْ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّةِ وَاجِدِهَا فَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ مَاشِيَةً لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ عَيْنِهَا لِأَنَّهَا قَدْ مُلِّكَتْ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا، وَتَنْتَقِلُ زَكَاةُ الْعَيْنِ إِلَى الْقِيمَةِ فإن كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَزَكَاةُ الْعَيْنِ بَاقِيَةٌ، لِأَنَّهَا قَدْ مُلِّكَتْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْوَاجِدِ الْمُتَمَلِّكِ لَهَا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا مَلِيًّا فَزَكَاةُ قِيمَةِ الْمَاشِيَةِ، وَعَيْنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ متعسراً فَزَكَاةُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَا زَكَاةَ أَصْلًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الزَّكَاةُ عَلَى مَا مَضَى وَاجِبَةٌ من الْقَوْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَاجِدَ الْمُلْتَقِطَ لَا يَصِيرُ مَالِكًا لِلُقَطَةٍ، إِلَّا بِنَقْلِ عَيْنِهَا فَعَلَى هَذَا مَا لَمْ يَنْقُلْ عَيْنَهَا فَالْحُكْمُ فِي زَكَاتِهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ نَقَلَ عَيْنَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا، لِأَنَّ عَيْنَ اللُّقَطَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا، ثُمَّ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ بَدَلِهَا كَالْحُكْمِ فِيمَا مَلَكَهُ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ إِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْقِنْيَةِ، لَمْ تَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ، فَأَمَّا صَاحِبُهَا فَالْحُكْمُ فِي زَكَاتِهِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَخْتَلِفُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ أَنَّ الْوَاجِدَ يكون مالكاً لها يمضي الحول، وإن لم يجز التَّمَلُّكَ إِلَّا أَنْ

(3/316)


يَخْتَارَ، أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّهَا، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَصْلٌ
: فَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ مِنْ جِنْسِ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ كَثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ فَعَرَّفَهَا الْوَاجِدُ الْمُلْتَقِطُ حَوْلًا فَإِنْ ظَفِرَ بِصَاحِبِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَلَا عرفها فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضَعَهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ لَا عَلَى وَاجِدِهَا، وَلَا عَلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّ الزَّكَاةَ غَيْرُ جارية فيها.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إِمَّا بِاخْتِيَارِ تَمَلُّكِهَا أَوْ بِنَقْلِ عَيْنِهَا، فَقَدِ انْتَقَلَ حَقُّ مَالِكِهَا مِنْ عَيْنِهَا إِلَى بَدَلِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَا مِثْلٍ كَالْمُتَمَاثِلِ الْأَجْزَاءِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ غَيْرُ مُزَكَّاةٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فَلِمَالِكِهِ قِيمَتُهُ، وَالْقِيمَةُ مما فيها الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ، أَوْ دَنَانِيرُ، لَكِنْ لَا زَكَاةَ عَلَى الْوَاجِدِ فِيهَا بِحَالٍ، لِأَنَّهَا قَبْلَ نَقْلِ عَيْنِهَا غَيْرُ مُزَكَّاةٍ، وَبَعْدَ نَقْلِ عَيْنِهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فَأَمَّا مَالِكُهَا، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا بِحَالٍ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ مَعَهَا تَمَامُ النِّصَابِ، وَإِنْ كَانَتْ نِصَابًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْوَاجِدُ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يُمَلِّكَهَا فَيَكُونُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَضَى مِنِ اعْتِبَارِ يَسَارِ الْوَاجِدِ وَإِعْسَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ لَمْ يَخْتَرْ نَقْلَ مَالِهِ إِلَى مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلِمَ أَوْجَبْتُمُوهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، قِيلَ مَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَصْدُ الْمَالِكِ وَاخْتِيَارُهُ، أَلَا تَرَى لَوْ كَانَ لَهُ حِنْطَةٌ بَذَرَتْهَا الريح في أرضه فثبتت، خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَزِمَهُ عُشْرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بذرها ولم يختر زرعها.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أَكْرَى دَارًا أَرْبَعَ سِنِينَ بِمَائةِ دِينَارٍ فَالْكِرَاءُ حَالٌّ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا فَإِذَا حَالَ الْحُوَلُ زَكَّى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا وَفِي الْحَوْلِ الثَّانِي خَمْسِينَ لِسَنَتَيْنِ إِلَّا قَدْرَ زَكَاةِ الْخَمْسَةِ والعشرين ديناراً وَفِي الْحَوْلِ الثَّالِثِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِينَارًا لِثَلَاثِ سِنِينَ إِلَّا قَدْرَ زَكَاةِ السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَفِي الحول الرابع زكى مِائَةً لِأَرْبَعِ سِنِينَ إِلَّا قَدْرَ زَكَاةِ مَا مضى ولو قبض المكري المال ثم انهدمت الدار انفسخ الكراء ولم يكن عليه زكاة إلا فيما سلم له ولا يشبه صداق المرأة لأنها ملكته على الكمال فإن طلق انتقض النصف والإجارة لا يملك منها شيءٌ إلا بسلامةٍ منفعة المستأجر مدةً يكون لها حصةٌ من الإجارة (قال

(3/317)


المزني) هذا خلاف أصله في كتاب الإجارات لأنه يجعلها حالةً يملكها المكري إذا سلم ما أكرى كثمن السلعة إلا أن يشترط أجلاً وقوله هاهنا أشبه عندي بأقاويل العلماء في الملك لا على ما عبر في الزكاة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ آجَرَ دَارًا أَرْبَعَ سِنِينَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الأجرة من ثلاثة أحوال:
إما أن يشترط تعجيلها، فتكون معجلة إجماعاً.
وإما أن يشترط تَأْجِيلَهَا فَتَكُونَ مُؤَجَّلَةً إِجْمَاعًا.
وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَا وَلَا يَشْتَرِطَا تَعْجِيلًا وَلَا تَأْجِيلًا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ تَكُونُ مُعَجَّلَةً بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ شَرَطَا أَنْ تَكُونَ مُعَجَّلَةً فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَخَالَفَهُ مَالِكٌ وأبو حنيفة، وَلِلْكَلَامِ مَعَهُمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، وَإِذَا كَانَتْ مُعَجَّلَةً بِالشَّرْطِ أَوْ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، فَقَدْ مَلَكَ جَمِيعَهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَاسْتَحَقَّ قبضها بتسليم الدار المؤجرة هذا، مما لم يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ هَلْ ملكها بالعقد ملكاً مستقراً مبرماً أَوْ مَلَكَهَا مِلْكًا مَوْقُوفًا مُرَاعًى فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيُّ وَغَيْرِهِ قَدْ مَلَكَهَا بالعقد ملكاً مستقراً مبرماً كَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَصَدَاقِ الزَّوْجَاتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ أَمَةً كَانَ لَهُ وَطْؤُهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ملكه مستقر عليها، وليس فيما يطرأ ن حُدُوثِ فَسْخٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْتِرْجَاعَ الْأُجْرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، كَالزَّوْجَةِ الَّتِي قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهَا عَلَى جَمِيعِ صَدَاقِهَا بِالْعَقْدِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ اسْتِرْجَاعُ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدخول.
والقول الثاني: وهو أظهر فيما نصف عَلَيْهِ فِي " الْأُمِّ " وَفِي غَيْرِهِ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ مِلْكًا مَوْقُوفًا مُرَاعًى، فَإِذَا مَضَى زَمَانٌ مِنَ الْمُدَّةِ كَانَ اسْتِقْرَارُ مِلْكِهِ عَلَى مَا قَابَلَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُرَاعَاةً وَلَمْ تَكُنْ مُسْتَقِرَّةً لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وملك المستأجر على المنفعة غير مستقر لأنها لَوْ فَاتَتْ بِهَدْمٍ رَجَعَ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الْأُجْرَةِ، وَلَوِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ عِنْدَ فَوَاتِهَا بِمَا قَابَلَهَا كَالْمُشْتَرِي، إِذَا استقر ملكه على السلعة يقبضها لَمْ يَرْجِعْ بِالثَّمَنِ عِنْدَ تَلَفِهَا وَإِذَا كَانَ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْمُؤْجِرِ لِلْأُجْرَةِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَلَا تُشْبِهُ الْأُجْرَةُ صَدَاقَ الزَّوْجَةِ لِافْتِرَاقِهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ مِلْكَ الزَّوْجَةَ عَلَى الصَّدَاقِ مُسْتَقِرٌّ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، لَمْ يَرْجِعِ الزَّوْجُ بِشَيْءٍ مِنْ صَدَاقِهَا، وَلَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ قبل مضي مُدَّتِهَا، رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهَا.

(3/318)


وَالثَّانِي: أَنَّ رُجُوعَ الزَّوْجِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْدَاثُ مِلْكٍ تجرد بِالطَّلَاقِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الزَّوْجَةِ عَلَى الصَّدَاقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَرُجُوعِ المستأجر بالأجرة عند انهدام الدار قبل أن تقضي المدة بالعقد المتقدم لكان ذَلِكَ مَانِعًا مِنِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُؤْجِرِ عَلَى الأجرة قبل أن تَقَضِّي الْمُدَّةِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْأُجْرَةِ فَزَكَاةُ الْأُجْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عليهما، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا فِي الْحَوْلِ الأول وما يَلِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ بَاقِيَةً بِيَدِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَيْهَا مُعْتَبَرٌ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الْأَوَّلُ بَنَيْنَا اسْتِقْرَارُ مِلْكِهِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الْأُجْرَةِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا زَكَاةَ حَوْلٍ نِصْفَ دِينَارٍ وَثُمُنَ دِينَارٍ، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الثَّانِي بَنَيْنَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، قَدْ زَكَّى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِنْهَا لِسَنَةٍ فَيُزَكِّيهَا السَّنَةَ الثَّانِيَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا خَرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى، وَيُزَكِّي الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ الْأُخْرَى لِسَنَتَيْنِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارًا وَرُبْعًا، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الثَّالِثُ بَنَيْنَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قد زكى خمسين ديناراً فيها لسنتين فيزكيها للسنة الثَّالِثَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَتَيْنِ، وَيُزَكِّي الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ دِينَارًا فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِثَلَاثِ سِنِينَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارًا وَنِصْفًا وَرُبْعًا وَثُمْنًا فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الرَّابِعُ بَنِينَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى الْمِائَةِ دِينَارٍ مُنْذُ أربع سِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ زَكَّى خَمْسِينَ دِينَارًا فيها لسنتين فيزكيها للسنة الثَّالِثَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَتَيْنِ، وَيُزَكِّي الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ دِينَارًا، فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِثَلَاثِ سِنِينَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارًا وَنِصْفًا وَرُبْعًا وَثُمْنًا فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الرَّابِعُ بَنِينَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى الْمِائَةِ دِينَارٍ مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ زَكَّى خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِينَارًا مِنْهَا لِثَلَاثِ سِنِينَ، فَيُزَكِّيهَا السَّنَةَ الرَّابِعَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي الزكاة السنين الثلاث ويزكي الخمسة والعسرين دِينَارًا الرَّابِعَةَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارَيْنِ ونصفاً، وفي حساب زكاتها دوراً ضربت عَنْ ذِكْرِهِ خَوْفًا مِنَ الْإِطَالَةِ، وَقَصَدْتُ أَوْضَحَ طُرُقِ الْمَسْأَلَةِ لِيَكُونَ مَأْخَذُهَا أَسْهَلَ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْإِعَانَةِ.
فَصْلٌ
: فَلَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ وَرَدَّ مِنَ الأجرة ما قابله، وَصَحَّتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِيمَا مَضَى، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُهُ مِنَ الْأُجْرَةِ عَلَى مَا قَابَلَهُ وَالْحَكَمُ فِي الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَضَى، فَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاةَ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ، لَمْ يَرْجِعْ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنَ 6 الزَّكَاةِ عِنْدَ اسْتِرْجَاعِ مَا قَبَضَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَقَبَضَ الْأُجْرَةَ وَلَمْ يُسَلِّمِ الدَّارَ حَوْلًا بَعْدَ حَوْلٍ حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَالْإِجَارَةُ قَدْ بَطَلَتْ وَعَلَيْهِ رَدُّ الْأُجْرَةِ، فَأَمَّا وُجُوبُ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ مِلْكَهُ

(3/319)


غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَيْهَا إِلَّا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، شَيْءٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَمَّا قَابَلَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَمَنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنِ الشَّيْءِ لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَى الْأُجْرَةِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ قبل مضي المدة، فعله يَتَفَرَّعُ الْجَوَابُ بِعَكْسِ مَا تَقَدَّمَ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الْأُولَى قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَقَدْ كَانَ مِلْكُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا فَيُزَكِّي الْبَاقِيَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا لِسَنَةٍ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ خَمْسِينَ دِينَارًا فَيُزَكِّي الْبَاقِيَ لِسَنَةٍ وَهُوَ خَمْسُونَ دِينَارًا إِلَّا قَدْرَ مَا خَرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا فَيُزَكِّي الْبَاقِيَ، وهو خمسة وسبعون دِينَارًا إِلَّا قَدْرَ مَا خَرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنِ الْمِائَةِ كُلِّهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَخْرَجَ مِنْ زَكَاتِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَزِمَهُ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ.

فَصْلٌ
: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى تَعْلِيلِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْإِجَارَةِ مَسْأَلَتَانِ فِي الْبُيُوعِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَبِيعَ رَجُلٌ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهَا، وَلَا يُسَلِّمَ السِّلْعَةَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي بِيَدِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ إخراج زكاته قبل تسليم السلعة التي من مقابله عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ لِلتِّجَارَةِ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهَا قَبْلَ قَبْضِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّ مِلْكَ الأجرة مستقر، وإن طرأ الْفَسْخُ فَمِلْكُ الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةِ مُسْتَقِرٌّ، وَإِنْ جَازَ طروء الفسخ وإخراج زكاتها غير واجب، حتى يتقابضا السلعة، ويؤمن طروء الْفَسْخِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَايَعَا سَلَمًا بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى أَجَلٍ وَيَقْبِضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، فَالْجَوَابُ يَنْبَنِي أَوَّلًا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي فَسْخِ السَّلَمِ بِعَدَمِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ عِنْدَ مَحِلِّهِ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِعَدَمِهِ، فَعَلَى هَذَا ملك البايع مُسْتَقِرٌّ عَلَى ثَمَنِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَنْفَسِخُ بِعَدَمِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ مِلْكُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى ثَمَنِهِ وَيَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الأجرة قبل مضي المدة، فأما المشتري السَّلَمِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ إِنْ كَانَ لِلتِّجَارَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ تَأْجِيلَ الشَّيْءِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ زَكَاتِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ بَعْدَ مَحِلِّهِ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي حُلُولِ الْأُجْرَةِ، وَمِلْكِ الْمُؤْجِرِ لَهَا، وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ إِنَّ الْأُجْرَةَ حَالَّةٌ وَإِنَّ الْمُؤْجِرَ لَهَا مَالِكٌ، وَإِنَّ

(3/320)


زَكَاتَهَا وَاجِبَةٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِهَا، وَتَعْجِيلِ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مُفَصَّلًا، وَشَرَحْنَاهُ مُبَيَّنًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو غَنِمُوا فَلَمْ يَقْسِمْهُ الْوَالِي حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَقَدْ أَسَاءَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عذرٌ وَلَا زكاةٌ فِي فضةٍ مِنْهَا وَلَا ذهبٍ حتى يستقبل بها حولاً بعد القسم لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لأحدٍ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَإِنَّ للإمام أن يمنعهم قسمته إلا أن يمكنه ولأن فيها خمساً وإذ عزل سهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منها لما ينوب المسلمين فلا زكاة فيه لأنه ليس لمالكٍ بعينه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ قَسْمِ مال الْغَنِيمَةِ بَيْنَهُمْ، إِلَّا لِعُذْرٍ مِنْ دَوَامِ حَرْبٍ أو رجعة عدو قد أَخَّرَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ قِسْمَةَ غَنَائِمِهِ مَعْذُورًا لِإِشْكَالٍ عَلَيْهِ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يُنْكِرْ تَأْخِيرَ قِسْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَأَخَّرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قِسْمَةَ غَنَائِمِ هَوَازِنَ لِعُذْرٍ، فَأَمَّا تَأْخِيرُ قِسْمَتِهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْغَانِمِينَ وَكَرِهَ أبو حنيفة تعجل قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " السِّيَرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي كَيْفِيَّةِ مِلْكِ الْغَنِيمَةِ.
وَالثَّانِي: فِي زَكَاةِ مَالِ الْغَنِيمَةِ.
فَأَمَّا مِلْكُ الْغَنِيمَةِ، فَمَتَى كَانْتِ الحرب قائمة فالغنائم غير مملوكة، وإن أجازها الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ غَنِمَ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَا مالك أَنْ يَتَمَلَّكَهُ، لِأَنَّ غَنِيمَةَ الْعَدُوِّ مِنْ تَوَابِعِ الظفر به وهو مع المعاونة وَالْحَرْبِ غَيْرُ مَظْفُورٍ بِهِ، وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَإِذَا انْجَلَتِ الْحَرْبُ وَأُحِيزَتِ الْغَنَائِمُ، فَقَدْ مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَمَلَّكُوا إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ قَدْ مَلَكُوا كَالشَّفِيعِ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ، أَنْ يَتَمَلَّكَ والوصى له بالموصي ملك أن يتملك وللزوج مَلَكَ بِالطَّلَاقِ، قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَتَمَلَّكَ وَغَرِيمِ الْمُفْلِسِ مَلَكَ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَمَلَّكَ وَإِنَّمَا مَلَكُوا أَنْ يَتَمَلَّكُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ مَلَكُوا، لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ تَرَكَ حَقَّهُ، وَلَمْ يَخْتَرْ تَمَلُّكَهُ رَجَعَ سَهْمُهُ عَلَى الَّذِينَ مَعَهُ كَالشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا لَهُ كَالْوَرَثَةِ الَّذِينَ إِذَا تَرَكَ أَحَدُهُمْ حَقَّهُ لم يرجع على الذي معه، فكان مَوْقُوفًا لَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوا بِالْغَنِيمَةِ أَنْ يَتَمَلَّكُوا فَتَمَلُّكُهُمْ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إما باختيار التملك، وذلك بأن ي قولوا قَدِ اخْتَرْنَا أَنْ نَمْلِكَ فَيَمْلِكُونَ كَمَا يَمْلِكُ الموصى له لقبوله.

(3/321)


وَإِمَّا بِأَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمْ، فَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ سَهْمَهُ فَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدِ اخْتَارَهُ، وَمَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ أَهْلُ السُّهْمَانِ مَا قُسِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا زَكَاةُ مَالِ الْغَنِيمَةِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الغانمون قد تملكوها، فَإِنْ لَمْ يَتَمَلَّكُوهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ جِنْسًا أَوْ أَجْنَاسًا عُزِلَ مِنْهَا الْخُمُسُ، أَمْ لَمْ يُعْزَلْ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ، وَلَا لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْغَانِمُونَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ جَمِيعُ أَجْنَاسِهَا مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْأَجْنَاسِ بِعَيْنِهِ مِلْكًا لِرَجُلٍ مِنَ الْغَانِمِينَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ مَوْقُوفَةً عَلَى نَظَرِهِ فَيُعْطِي بَعْضَهُمْ وَرِقًا، وَبَعْضَهُمْ ذَهَبًا وَبَعْضَهُمْ إِبِلًا وَبَعْضَهُمْ عَرَضًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ جنساً واحداً، فإن كان ما لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْخَيْلِ وَالسَّبْيِ وَالْعُرُوضِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ مَاشِيَةً سَائِمَةً، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خُمُسُهَا مَعْزُولًا لِأَهْلِ الْخُمُسِ فَزَكَاتُهَا وَاجِبَةٌ، لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِجَمَاعَةٍ تَجِبُ عَلَيْهِمِ الزَّكَاةُ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ كَالْأَمْوَالِ الْمُشَاعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ بَاقِيًا فِيهَا فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: لَا زَكَاةَ فِيهَا وَهُوَ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنِ الْغَنِيمَةِ " لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ قَسْمَهُ إِلَى أَنْ يُمْكِنَهُ، وَلِأَنَّ فِيهَا خُمُسًا ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ عِنْدِي فِي الْحُكْمِ أَصَحُّ، لِأَنَّ مُشَارَكَةَ أَهْلِ الْخُمُسِ لَهُمْ، لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ مُشَارَكَةَ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا جُمْلَةً، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَانِمِينَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُقَسِّمُوا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنِ اقْتَسَمُوا قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَتَّى يَكُونَ سَهْمُهُ نِصَابًا وَيَتِمَّ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ قِسْمَتِهِمْ فَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا، وَكَانَتْ مَعَ الْخُمُسِ نِصَابًا، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ سِوَى الْخُمُسِ نِصَابًا، فَصَاعِدًا نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ سَوَاءٌ بَلَغَ سَهْمُ كُلِّ واحد

(3/322)


مِنْهُمْ نِصَابًا أَمْ لَا، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَهُوَ خَلِيطٌ وَالْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي تَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَاشِيَةٍ كَفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ نُظِرَتْ فَإِنْ بَلَغَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، فَعَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ مَنَعَ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَعَلَى الْجَدِيدِ حَيْثُ جَوَّزَ الْخُلْطَةُ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ.

(3/323)