الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب البيع في المال الذي تجب فيه الزكاة بالخيار وغيره وبيع المصدق وما قبض منه وغير ذلك
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوْ هُمَا قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فَحَالَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَ الْبَائِعُ وجبت عليه فيه الزكاة لأنه لا يتم بخروجه من ملكه حتى حال الحول ولمشتريه الرد بالتغير الذي دخل فيه بالزكاة (قال المزني) وقد قال في باب زكاة الفطر إن الملك يتم بخيارهما أو بخيار المشتري وفي الشفعة أن الملك يتم بخيار المشتري وحده (قال المزني) الأول إذا كانا جميعاً بالخيار عندي أشبه بأصله لأن قوله لم يختلف في رجل حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ أنه عتيق والسند عنده أن المتبايعين جميعاً بالخيار ما لم يتفرقا تفرق الأبدان فلولا أنه ملكه ما عتق عليه عبده ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمُةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ: أَنَّ الْبَيْعَ هَلْ يَنْقُلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ؟ فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ قَدِ انتقل إلى المشتري بنفس العقد، وإن أجاز دَفْعَهُ بِالْخِيَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إَِنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا عُلِمَ، أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ مُنْتَقِلًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ عُلِمَ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ مُنْتَقِلًا.
وَتَوْجِيهُ هذه الأقاويل من كِتَابِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ بَقِيَ مِنْ حَوْلِ مَالِهِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ فَبَاعَهُ بِخِيَارِ ثَلَاثٍ وَتَمَّ الْحَوْلُ قَبْلَ مُضِيِّهَا أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا مُطْلَقًا فَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَالْجَوَابُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ كَالْجَوَابِ فِي خِيَارِ الْعَقْدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وجوب الزكاة.
والفصل الثاني: فيما تودى منه الزكاة.

(3/324)


وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَخِيَارِ الْمُشْتَرِي بِمَا خَرَجَ مِنَ الْمَبِيعِ فِي الزَّكَاةِ فَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى المشتري بنفس العقد، فلا زكاة على البايع مِنَ الْمَالِ لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بِفَسْخٍ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ كَمَا اسْتَأْنَفَ مِلْكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى البايع بفسخ لتمام البيع وانبرام الْعَقْدِ اسْتَأْنَفَ الْمُشْتَرِي حَوْلَ زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَى البايع سَوَاءٌ تَمَّ الْبَيْعُ أَمْ لَا، لِحُلُولِ حَوْلِهِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَسْتَأْنِفُ الْمُشْتَرِي حَوْلَهُ إن تم عليه ملكه من حين يقضي الخيار لا من حين العقد، لأنه زال وَإِنْ قِيلَ إِنَّ انْتِقَالَ مِلْكِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى انبرام الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ نُظِرَ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، وانبرم فلا زكاة على البايع لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ حُلُولِ حَوْلِهِ، وَاسْتَأْنَفَ الْمُشْتَرِي حَوْلَ زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ عَقْدِهِ بَيْعَهُ، وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ وَزَالَ الْعَقْدُ فَهُوَ بَاقٍ على ملك البايع، وَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ لِحُلُولِ حَوْلِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ إِلَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ كَالسِّلَعِ وَالْعُرُوضِ فَزَكَاةُ هَذَا وَاجِبَةٌ وَإِنْ بِيعَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا فِي قِيمَتِهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يزكي زكاة التجارة ومن قِيمَتِهِ كَانَ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ تَجِبُ زَكَاتُهُ، وَإِنْ بِيعَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يُزَكِّي زَكَاةَ الْعَيْنِ، كَانَ كَالَّذِي لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَيَكُونُ وُجُوبُ زَكَاتِهِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ فِي زَمَانِ خِيَارِهِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الْمَاضِيَةِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ إِذَا وَجَبَتْ فِي الْمَالِ عَلَى ما مضى من الشرح والترتيب فللبايع حَالَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُجِيبَ إِلَى دَفْعِهَا مِنْ مَالِهِ، فَلَا كَلَامَ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْبَى أَنْ يَدْفَعَهَا مِنْ مَالِهِ وَيَمْتَنِعَ أَنْ يُخْرِجَهَا إِلَّا مِنْ مَالِ الْمَبِيعِ، فَلَهُ حَالَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا بِهَا فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الزكاة منها سواء وجدها في يد البايع، أو يد الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا أَوْ بَطَلَ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِهَا فَلَهُ حَالَانِ:
إحداهما: أن يكون يريد بامتناعه فسخ العقد فَلَهُ ذَاكَ إِنْ كَانَ فِي خِيَارِ مَجْلِسٍ، أو خيار

(3/325)


شرط هو لهما معاً، أوله وَحْدَهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي خِيَارِ شَرْطٍ هُوَ لِلْمُشْتَرِي دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُرِيدَ بِامْتِنَاعِهِ فَسْخَ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فَالْمَالُ الْمَبِيعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، فَهَذَا يجب أن تؤخذ زكاته من مال بايعه دُونَ الْمَالِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي الْقِيمَةِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ أَقْوَى حُكْمًا فِي الْعَيْنِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ زَكَاةُ عَيْنِهِ كَالْمَوَاشِي وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، فَإِنْ قِيلَ الزَّكَاةُ، وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَبِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا وَجَبَتْ في الرقبة وجوباً منبرماً أخذت الزكاة من البايع.

فَصْلٌ
: بُطْلَانُ الْبَيْعِ إِذَا أُخْرِجَتِ الزَّكَاةُ عَلَى مَا مَضَى فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون البايع قد أخرج الزكاة من ماله فإن قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرَى لِسَلَامَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ، فَهُوَ كَالضَّرْبِ الثَّانِي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ، وَنَفْسِ الْمَبِيعِ فَالْبَيْعُ فِي قَدْرِ مَا خَرَجَ فِي الزَّكَاةِ بَاطِلٌ، فَأَمَّا الْبَاقِي فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْفِضَّةِ والذهب، فالبيع فيه جايز قولاً واحد لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلَمَّا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بِمَعْنًى طَارِئً بَعْدَ سَلَامَةِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَاكَ فِي بَيْعِ مَا بَقِيَ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لأجل النقص الطارئ من فسخ البيع والإقامة عليه، فإن أقام، فالصحيح أنه يقيم هاهنا بِحِسَابِ الثَّمَنِ، وَقِسْطِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قولاً ثانياً وهو أنه يقيم لجميع الثَّمَنِ، وَإِلَّا فَسَخَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكون البيع غَيْرَ مُتَمَاثِلِ الْأَجْزَاءِ كَالْمَاشِيَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أحدهما: أن تكون مختلفة الأسباب بَعْضُهَا صِغَارًا وَبَعْضُهَا كِبَارًا أَوْ مُخْتَلِفَةَ الْأَوْصَافِ بَعْضُهَا سِمَانًا وَبَعْضُهَا عِجَافًا فَالْبَيْعُ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ لَا مِنْ جِهَةِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَلَكِنْ لِلْجَهْلِ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةَ الْأَسْنَانِ مُتَقَارِبَةَ الْأَوْصَافِ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ:

(3/326)


أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَهْلِ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ تَشْبِيهًا بِمَا تَمَاثَلَتْ أَجْزَاؤُهُ لِتَقَارُبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ بَنَى بُطْلَانَ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي على تفريق الصفقة فليس بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا طَرَأَ مِنَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ مَا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ وَمَا ذَكَرْتُ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِمْضَائِهِ فَإِنْ أَمْضَاهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا بِحِسَابِ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِلَّا فُسِخَ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فُصُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ مِنْ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى صِحَّتِهِ بِمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ، قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَالْعِتْقُ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ فَلَوْلَا، أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مَا عُتِقَ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا، وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إِبْقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ أَنَّ خِيَارَ المجلس يملك البايع فِيهِ فَسْخَ الْعَقْدِ، وَالْفَسْخُ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا، وَقَوْلًا فَإِذَا أَعْتَقَهُ فِي خِيَارِهِ كَانَ فَسْخًا، فَيَصِيرُ عِتْقُهُ كَوُجُودِ الْفَسْخِ وَعَوْدِ الْمِلْكِ وَإِذَا أنفذ عِتْقُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ كَانَ نُفُوذُهُ بِصِفَةٍ تَتَقَدَّمُ الْبَيْعَ أَوْلَى، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بقاء الملك والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ مَلَكَ ثَمَرَةَ نخلٍ مِلْكًا صَحِيحًا قَبْلَ أن ترى فيه الصفرة أو الحمرة فالزكاة على مالكها الآخر يزكيها حين تزهي ".
قال الماوردي: وقد ذَكَرْنَا أَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَإِذَا مَلَكَ ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِلْكًا صحيحاً، إما بأن ورثها أو استوجبها أو ابتاعها مع نخلها، ثم بدأ إصلاحها فِي مِلْكِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا دُونَ مَنْ كَانَتْ عَلَى مِلْكِهِ، لِأَنَّ مَا بِهِ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا وَهُوَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ فَلَوْ مَلَكَهَا بِبَيْعِ خِيَارٍ فَبَدَا صَلَاحُهَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ مَبْنِيًّا عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنِ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ فَزَكَاتُهَا عَلَى البايع، وَإِنْ قِيلَ أَنَّهُ مَوْقُوفُ نُظِرَ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فزكاتها على البايع، فَلَوْ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَفَسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ، وَعَادَتِ الثمرة بعد بدو صلاحها إلى البايع، فَفِي زَكَاتِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ الْعَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا.

(3/327)


والوجه الثاني: أنها قد انتقلت إلى البايع لِانْتِقَالِ الثَّمَرَةِ إِلَيْهِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ في العين وجوب استحقاق.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ بَعْدَ مَا يَبْدُو صَلَاحُهَا والشعر فِيهَا فَالْبَيْعُ فِيهَا مَفْسُوخٌ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ لَيْسَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي مُسْتَوْفَاةً، وَسَنُشِيرُ إِلَى جُمْلَتِهَا وَنَذْكُرُ مَا سَنَحَ مِنَ الزِّيَادَةِ، فِيهَا اعْلَمْ أَنَّ مَنْ بَاعَ ثَمَرَتَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قد أخذها لخرصها وَضَمِنَهَا بِزَكَاتِهَا فَبَيْعُ هَذَا جَائِزٌ، لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهَا أَمَانَةً، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِهِ مَضْمُونَةً، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ تِسْعَةَ أَعْشَارِهَا، وَيَسْتَثْنِيَ قدر الزكاة مشاعاً فيها، فهذا بيع جايز.
والضرب الثاني: أن يبيعها جميعاً مَعَ مَا وَجَبَ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهَا، فَيَكُونُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا باطل، إذا قيل: إن الزكاة استحقاق في الْعَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا تقدم من اختلاف العلة:
أحدهما: بطل لِأَنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جايز فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَقَامَ فَالصَّحِيحُ، أَنْ يُقِيمَ بِحِسَابِ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ يُقِيمَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْبَيْعَ فِي قَدْرِ الزكاة جايز، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ جايز فعلى هذا إن دفع البايع الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ سَلِمَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَانْبَرَمَ، وَإِنْ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْ هَذِهِ الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ، وَصَارَتْ بِيَدِهِ، فَأَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ فَالْبَيْعُ، لَا يَبْطُلُ فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي لِأَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَقَدْ صَارَ مِنْ ضمان المشتري بالقبض لكن يرجع على البايع بمثله، لأن الثمن مِثْلٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ فِي يد البايع لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي بَعْدُ فَالْبَيْعُ فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي مِنَ الزَّكَاةِ، قَدْ بَطَلَ وَهُوَ فِي الباقي على الصحيح من المذهب جايز، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى ما مضى.

(3/328)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَاهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا عَلَى أَنْ يجدها أخذ بجدها فإن بدا صلاحها فسخ البيع لأنه لا يجوز أن تقطع فيمنع الزكاة ولا يجبر رب النخل على تركها وقد اشترط قطعها ولو رضيا الترك فالزكاة على المشتري ولو رضي البائع الترك وأبى المشتري ففيها قولان. أحدهما: أن يجبر على الترك والثاني أن يفسخ لأنهما اشترطا القطع ثم بطل بوجوب الزكاة (قال المزني) فأشبه هذين القولين بقوله أن يفسخ البيع قياساً على فسخ المسألة قبلها.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُفْرَدَةً فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَلَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الْبَيْعُ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا، فَإِنْ تَمَادَى الْمُشْتَرِي فِي قطعها ودافع بها حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا، فَقَدْ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ ثم للبايع، والمشتري أربعة أحوال:
أحدها: أن يجيب البايع إِلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ إِلَى حِينِ صِرَامِهَا، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِأَدَاءِ زَكَاتِهَا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لَا يُفْسَخُ، وَيَتْرُكُ الثَّمَرَةَ عَلَى النَّخْلِ إِلَى وقت الصرام، ولا تُقْطَعُ وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ جَفَافِ الثمرة، وجدادها.
والحالة الثانية: أن يمتنع البايع مِنْ تَرْكِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ، وَيَأْبَى الْمُشْتَرِي مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْ ثَمَرَتِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يفسخ البايع، لأن في إجبار البايع عَلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ إِضْرَارًا بِهِ وَفِي إِجْبَارِ المشتري على قطعها إضرار بِالْمَسَاكِينِ، فَكَانَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى فَسْخِ الْبَيْعِ، فَإِذَا فُسِخَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُشْتَرِي الزَّكَاةُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَخَلَ فِي ابْتِيَاعِهَا عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ فَسْخَ البيع غير منسوب إليه، فأما البايع فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهَا كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ هَاهُنَا أَنَّ زَكَاتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ التَّرْكِ سَبَبٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا، لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ زَكَاتِهَا وَيَمْتَنِعَ الْبَائِعُ مِنْ تَرْكِهَا، فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ أَيْضًا وَتَرُدُّ الثَّمَرَةُ عَلَى الْبَائِعِ، وتؤخذ منه الزكاة وجهاً واحداً، لأن رضى الْمُشْتَرِي بِالتَّرْكِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَكَانَ امْتِنَاعُ البايع مِنْ ذَلِكَ يَقْتَضِي، أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ وُجُوبُ الزكاة، لأن لا تَسْقُطَ بَعْدَ وُجُوبِهَا.

(3/329)


والحالة الرابعة: أن يرضى البايع بِتَرْكِهَا، وَيَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي مِنْ أَدَاءِ زَكَاتِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ يُفْسَخُ الْبَيْعُ، وترد الثمرة على البايع لأمرين:
أحدهما: أن للبايع الرُّجُوعَ بَعْدَ الرِّضَا فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مغرراً.
والثاني: أن رضا البايع يُوجِبُ عَلَيْهِ تَرْكَهَا وَهُوَ قَدِ اسْتَحَقَّ تَعْجِيلَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِمَا شَرَطَ مِنْ قَطْعِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْجِيلُ مَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ تَعْجِيلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْبَيْعَ مُقَرٌّ عَلَى حَالِهِ لَا يُفْسَخُ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَرِهَ لأمرين:
أحدهما: أن رضى البايع تركها بدل زيادة غير مثمرة يَرْتَفِعُ بِهَا مَا يَخَافُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِقَطْعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى قبولها، ويمتنع البايع مِنَ الرُّجُوعِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الثَّمَرَةِ بِبُدُوِّ صَلَاحِهَا نَقْصٌ فِي الثَّمَرَةِ يَجْرِي مجرى العيب، فلم يلزم البايع اسْتِرْجَاعَ ثَمَرَتِهِ نَاقِصَةً وَلَا قَبُولَهَا مَعِيبَةً، وَكَانَ الْبَيْعُ لِلْمُشْتَرِي لَازِمًا وَزَكَاةُ الثَّمَرَةِ عَلَيْهِ حَتْمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَسْأَلَةٌ:
فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَلَمْ يَقْطَعْهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مَا اشْتَرَى وَلَا مَلَكَ الْبَائِعُ غَيْرَ مَا يَبْقَى فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ منهما؛ لأن تمييز ملكها، واشتراط القطع على الواحد منها يَمْنَعُ مِنَ الْخُلْطَةِ وَنُقْصَانُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ النِّصَابِ، يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْخُلْطَةِ، وَإِنْ مَلَكَ الْبَائِعُ تَمَامَ النِّصَابِ مَعَ مَا يَبْقَى وَلَمْ يَمْلِكِ الْمُشْتَرِي غير ما اشترى فعلى البايع الزَّكَاةُ فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ النِّصَابِ مع ما اشترى، ولو يَمْلِكِ الْبَائِعُ غَيْرَ مَا يَبْقَى فَلَا زَكَاةَ على البائع، فأما البائع فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِمْضَائِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِيمَا اشْتَرَاهُ لِأَجْلِ الَّذِي كَمَّلَ النِّصَابَ به وإن ملك البايع كمال النِّصَابِ مَعَ مَا يَبْقَى، وَمَلَكَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ النصاب مع ما اشترى فعلى البايع الزَّكَاةُ، فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَعَلَى مَا مَضَى فَحَصَلَ من ذلك أن أحوال البايع، وَالْمُشْتَرِي مُخْتَلِفَةٌ عَلَى الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو استهلك رجل ثمرةً وقد خرصت أُخِذَ بِثَمَنِ عُشْرِ وَسْطِهَا، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ".

(3/330)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ الْمُصَدِّقُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بمثله أو يقسمه على أهله لا يجزى غيره وَأَفْسَخُ بَيْعَهُ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا قَبَضَ السَّاعِي زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ فَعَلَيْهِ إِيصَالُهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ، مِنْ خَوْفِ طَرِيقٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، يخالف أَنْ تُحِيطَ مُؤْنَتُهَا بِثَمَنِهَا فَإِنْ بَاعَهَا لِضَرُورَةٍ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا إِذَا كَانَ بِثَمَنِ مِثْلِهَا وَإِنْ بَاعَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَيَسْتَرْجِعُ مَا بَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِنْ تَلَفَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَزِمَهُ رَدُّ مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لَزِمَهُ أَكْثَرُ قِيمَتِهِ من قوت بيعه إلى وقت تلفه.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ شِرَاءَ صَدَقَتِهِ إِذَا وَصَلَتْ إِلَى أهلها ولا أفسخه ".
قال الماوردي: ولذا كرهت له شراء ما تصدقت بِهِ وَاجِبًا وَتَطَوُّعًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ فَرَآهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تعد في صدقتك ولو أعطيتها نصفين وَدَعْهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَنِتَاجُهَا لَكَ يَوْمَ القيامة " ولأن لا يسامح في ثمنها فينقص من ثوابه، ولأن لا يتبعها نفسه فيستراب له فإن ابتاعها كان البيع جايزاً، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَهْيِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ أَنْ يَعُودَ فِي صَدَقَتِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لخمسةٍ " وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ عَوْدَهَا إِلَيْهِ، بِغَيْرِ المعنى الذي تملكته عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ عَادَتْ إِلَيْهِ مِيرَاثًا، جَازَ لِمَا رُوِيَ أن رجلاً تصدق على أبيه بحديقةٍ فمات فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُبِلَتْ صَدَقَتُكَ وَبَلَغَتْ مَحَلَّهَا وَصَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا " وَإِذَا جَازَ عَوْدُهَا إِلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ جَازَ عَوْدُهَا بِالِابْتِيَاعِ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ إِرْثًا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ ابتياعاً كسائر الأموال.

(3/331)


فأما حديث عمر ففيه جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ كَانَ قَدْ وَقَفَ فَرَسَهُ وَشِرَاءُ الْوَقْفِ بَاطِلٌ بِوِفَاقٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الْعَقْدِ دُونَ فَسَادِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النجس، وَأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ.

فَصْلٌ
: إذا كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ دَيْنٌ عَلَى فَقِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ قِصَاصًا مِنْ زَكَاتِهِ إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِ فَيَقْبِضَهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْتَارُ الْفَقِيرُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِ فَيَقْبِضَهَا مِنْهُ، ثُمَّ يَخْتَارُ الْفَقِيرُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ فَيَجُوزُ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ جَعَلَ مَا عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ دَيْنِهِ قِصَاصًا مِنْ زَكَاتِهِ جَازَ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْعَجَبُ لَهُ إِذَا مَنَعَ مِنِ ابْتِيَاعِهَا بِعِوَضٍ عَاجِلٍ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا بِدَيْنٍ هَالِكٍ هَذَا مَذْهَبٌ ظَاهِرُ الفساد.

(3/332)