الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

كتاب العارية
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ عاريةٍ مضمونةٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَإِنْ تَلَفَتْ من غير فعله استعار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ صَفْوَانَ سِلَاحَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عاريةٌ مضمونةٌ مؤداةٌ " وقال من لا يضمن العارية فإن قلنا إذا اشترط المستعير الضمان ضمن قلت إذا تترك قولك قال وأين؟ قلت ما تقول في الوديعة إذا اشترط المستودع أو المضارب الضمان أهو ضامنٌ؟ قال لا يكون ضامناً قلت فإن اشترط على المستسلف أنه غير ضامنٍ أيبرأ؟ قال لا قلت ويرد ما ليس بمضمونٍ إلى أصله وما كان مضموناً إلى أصله ويبطل الشرط فيهما؟ قال نعم قلت وكذلك ينبغي أن تقول في العارية وكذلك شرط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يشترط أنها مضمونةٌ لما لا يضمن قال فلم شرط؟ قلت لجهالة صفوانٍ به لأنه كان مشركاً لا يعرف الحكم ولو عرفه ما ضره شرطه له قال فهل قال هذا أحدٌ قلت في هذا كفايةٌ وقد قال ابن عباسٍ وأبو هريرة إن العارية مضمونة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْعَارِيَةُ فَهِيَ عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ جَاءَ الشَّرْعُ بِهَا وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَيْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) {المائدة: 2) والعارية من البر. قال تَعَالَى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: 114) . وَالْعَارِيَةُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} (الماعون: 7) .
وَرَوَى ابْنُ أبي النجود عن شقيق عن عمر بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَعُدُ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَارِيَةُ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَاعُونِ عَلَى خَمْسِ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ محمد بن

(7/115)


كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ الْمَالُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ الزَّكَاةُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما ومنه قول لبيد الرَّاعِي:
(قومٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوا ... مَاعُونَهُمْ وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا)

وَالْخَامِسُ أَنَّهُ الْمَنَافِعُ وَهُوَ قَوْلُ أبي جعفر الحميري استشهد عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَعْشَى بْنِ ثَعْلَبَةَ:
(بَأجود مِنْهُ بِمَاعُونِهِ ... إِذَا مَا سَمَاؤُهُمْ لَمْ تَغِمْ)

وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول العارية مؤادةٌ وَالْمِنْحَةُ مردودةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ مَضْمُونٌ وَالزَّعِيمُ غارمٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قرقرٍ فَتَطَأُهُ بِخِفَافِهَا كُلَّمَا مَضَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا قِيلَ فَمَا حَقُّهَا فَمَا حَقُّ الْإِبِلِ قال: يعطي الكريمة ويمنح العزيرة وَيَعْقِرُ الظَّهْرَ وَيُطْرِقُ الْفَحْلَ وَيَسْقِي اللَّبَنَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مِنْ حَقِّهَا إعارةٌ دَلْوِهَا وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَمِنْحَةِ لَبَنِهَا يَوْمَ وَرْدِهَا فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْعَارِيَةِ وَاللَّهُ أعلم.

فَصْلٌ
: وَالْعَارِيَةُ هِيَ هِبَةُ الْمَنَافِعِ مَعَ اسْتِيفَاءِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَتَفْتَقِرُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مُعِيرٌ وَمُسْتَعِيرٌ وَمُعَارٌ. فَأَمَّا الْمُعِيرُ فَمَنْ كَانَ مَالِكًا مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعِيرًا وَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ مَالِكِ وَلَا مِنْ مَمْنُوعِ التَّصَرُّفِ وَأَجَازَ أبو حنيفة لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَنْ يُعِيرَ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ لَا يُبِيحُ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَمَنْ صَحَّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ صَحَّ مِنْهُ طَلَبُ الْعَارِيَةِ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ قَبُولُهَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا طَلَبُهَا.
وَأَمَّا الْمُعَارُ فَهُوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالْمَأْكُولَاتِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمَنَافِعِ دُونَ الرِّقَابِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَهُوَ الْحُلِيُّ لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَقِسْمٌ لَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَلَا إِجَارَتُهُ وَهِيَ الْأَوَانِي الْمَحْظُورَةُ لِتَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا، وَقِسْمٌ يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ: وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّ فِي التَّجَمُّلِ بِهَا نَفْعًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَارِيَةِ والإجارة فإن اختصا بملك

(7/116)


الْمَنْفَعَةِ أنَّ حُكْمَ الْعَارِيَةِ أَوْسَعُ مِنْ حُكْمِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَ مَا يَرْهَنُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَا يَرْهَنُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَ فَحْلًا لِطَرْقِ مَاشِيَتِهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِذَلِكَ فَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَسْتَعِيرَ الدَّرَاهِمَ وإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَهُوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَبَدًا كَالدَّوَابِّ الْمُنْتَفَعِ بِظُهُورِهَا وَالْجَوَارِحِ الْمُنْتَفَعِ بِصَيْدِهَا وَالرَّقِيقِ الْمُنْتَفَعِ بِاسْتِخْدَامِهِمْ فَيَجُوزُ إِعَارَتُهُمْ حَتَّى الْجَوَارِي وَتُكْرَهُ إِذَا كَانَتْ مَوْسُومَةً بِالْجَمَالِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ خَوْفًا مِنْ غَلَبَةِ الشَّهْوة فَإِنْ وَطِئَهَا كَانَ زَانِيًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَقَالَ دَاوُدُ لَا حَدَّ عليه، لأنه ملكَ مَنَافِعهَا بِالْعَارِيَةِ أَوِ الْإِجَارَةِ شُبْهَةٌ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ تَحْرِيمَ إِصَابَتِهَا قَبْلَ الْعَارِيَةِ وَبَعْدَهَا عَلَى سَوَاءٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْحَدِّ عَلَى سَوَاءٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَلَا إِجَارَتُهُ فَهُوَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا مَا كَانَ مُحَرَّمًا وَالثَّانِي مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ عَيْنًا فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ الِانْتِفَاعُ فَالسِّبَاعُ وَالذِّئَابُ وَالْكِلَابُ غَيْرُ الْمُعَلَّمَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَارَ وَلَا أَنْ تُؤَجَّرَ وَأَمَّا مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ عَيْنًا فَذَاتُ الدَّرِّ مِنَ الْمَوَاشِي كَالْغَنَمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَارَ ولا أن تؤجر؛ لاختاص الْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ بِالْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ تُمْنَحَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْمِنْحَةُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ نَاقَتَهُ أَوْ شَاتَهُ لِرَجُلٍ لِيَحْلِبَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فَيَكُونُ اللَّبَنُ مَمْنُوحًا وَلَا يُنْتَفَعُ فِيهَا بِغَيْرِ اللَّبَنِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المنحة أفضل من الصدقة تغدو باتاً وَتَرُوحُ بأجرٍ ".
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَلَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ وَهُوَ الْفُحُولُ الْمُعَدَّةُ لِلطَّرْقِ فَيَحْرُمُ إِجَارَتُهَا لِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَيْهَا ثَمَنٌ لِعَسْبِهَا. وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ وَتَجُوزُ إِعَارَتُهَا لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ فِي حَقِّ الْإِبِلِ إِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَمِنَحَةُ لَبَنِهَا يَوْمَ وَرْدِهَا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ وَهُوَ مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْكِلَابِ وَالْفَحْلُ بِغَيْرِ الثَّمَنِ مِنْ رَبْطِ السَّفَرِ وَالْبَهَائِمِ لِأَنَّ هَذَا نَفْعٌ وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ إِجَارَتِهَا وَإِعَارَتِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَإِذَا صَحَّتْ إِعَارَةُ الْبَهَائِمِ دُونَ إِجَارَتِهَا فَعَلَفُهَا وَمَؤُنَتُهَا عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ ذلك من حقوق الملك.
وَتَمَامُ الْعَارِيَةِ يَكُونُ بِطَلَبِ الْمُسْتَعِيرِ وإِجَابَةَ الْمُعِيرِ ثُمَّ بِإِقْبَاضٍ مِنْهُ أَوْ إِذَنٍ بِقَبْضِهِ فَتَكُونُ

(7/117)


مُوَافِقَةً لِلْهِبَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بقبض ومخالفة لها من صِفَةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِقْبَاضٍ مِنَ الْوَاهِبِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ بِالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ قَبْضَ الْمُسْتَعِيرِ لَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمُعِيرِ فَجَازَ أَنْ يَأْذَنَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَالْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ مُزِيلٌ لِمِلْكِ الْوَاهِبِ فَلَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِإِقْبَاضِ الْوَاهِبِ.

فَصْلٌ
: ثُمَّ الْعَارِيَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ تَامَّةٌ وَغَيْرُ لَازِمَةٍ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ ارْتِفَاقٍ وَمَعُونَةٍ وَسَوَاءٌ قَدَّرَهَا بِمُدَّةٍ أَمْ لَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَدَّرَهَا الْمُعِيرُ بمدة لزمه لم يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَقَضِّيهَا وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهَا لَمْ يَلْزَمْ وَرَجَعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ لِيَكُونَ لِذِكْرِ الْمُدَّةِ تَأْثِيرٌ مُفِيدٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ لُزُومَهَا يُخْرِجُهَا عَنْ حُكْمِ الْعَارِيَةِ إِلَى حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُهَا بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْمُعِيرِ لَاخْتَلَفَ فِي حَقِّ الْمُسْتَعِيرِ وَفَائِدَةُ الْمُدَّةِ مَنْعُ الْمُسْتَعِيرِ مِنَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِ الْعَارِيَةِ وَتَمَامِهَا بِالْقَبْضِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا تَلَفَ مِنْ أَجْزَائِهَا بِالِاسْتِعْمَالِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَلَفِ عَيْنِهَا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ أَوْ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّعَدِّي وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِنْ كَانَ مِمَّا يَخْفَى هَلَاكُهُ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَظْهَرُ هَلَاكُهُ لَمْ يَضْمَنْ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ إِنْ تَلِفَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ تَلَفَ بِغَيْرِهِ ضَمِنَ.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ وَهُوَ مَذْهَبُ جبارة وأبي قتادة وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ الْعَنْبَرِيِّ وَدَاوُدَ إِنْ شَرَطَ ضَمَانَهَا لَزِمَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَلْزَمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضمانٌ وهذا نص برواية عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أَتَتْكَ رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا فَقُلْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أعاريةٌ مضمونةٌ أَمْ عاريةٌ مؤداةٌ

(7/118)


قَالَ بَلْ عاريةٌ مؤداةٌ ". فَقَدْ نَفَى الضَّمَانَ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مُسْتَعَارٌ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَضْمَنُوا الْمُسْتَعِيرَ قِيَاسًا عَلَى تَلَفِ الْأَجْزَاءِ قَالُوا: ولأن ما لم تكن أجزاءه مَضْمُونَةً لَمْ تَكُنْ جُمْلَتُهُ مَضْمُونَةً كَالْوَدَائِعِ طَرْدًا وَالْغُصُوبِ عَكْسًا.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّي فَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَيْهَا مَا أَخَذَتْ وَهَذَا تَضْمِينٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبُ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى عُمُومِ الْحَالَيْنِ مِنْ قِيمَةٍ وَعَيْنٍ وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَعَارَ مِنْهُ دِرْعًا يَوْمَ حنينٍ فَقَالَ أغصبٌ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ بَلْ عاريةٌ مضمونةٌ فَوَصْفُهَا بِالضَّمَانِ بَيَانٌ لِحُكْمِهَا عِنْدَ جَهْلِهِ بِهِ فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ الرَّدِّ كَالْوَدَائِعِ الَّتِي هِيَ مَضْمُونَةُ الرَّدِّ وَلَيْسَتْ مَضْمُونَةَ الْعَيْنِ قبل إِطْلَاقُ الْقَوْلِ يَتَنَاوَلُ ضَمَانَ الْأَعْيَانِ وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْأَمَانَاتِ الْمُؤَدَّاةِ حُكْمُ الضَّمَانِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عَارِيَةٌ مضمونةٌ مؤداةٌ " فَكَانَ الْأَدَاءُ مَحْمُولًا عَلَى الرَّدِّ وَالضَّمَانُ عَلَى التَّلَفِ. وَرَوَى خَالِدٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بقصعةٍ فِيهَا طعامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصْعَتَهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا وَدَفَعَهَا بَدَلًا مِنَ الْقَصْعَةِ الْمَكْسُورَةِ فَلَوْلَا أَنَّ ضَمَانَ الْعَارِيَةِ وَاجِبٌ لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَدْفَعَ مَالَهَا بَدَلًا.
ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا عَيْنٌ تَفَرَّدَ بِاحْتِبَاسِهَا لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ كَالْقَرْضِ وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ لَمْ يَزَلْ مِلْكَ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ تَعَجَّلَ الِانْتِفَاعَ بِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ تَعْجِيلَ النَّفْعِ الْمُودَعِ وَالْمُؤَجَّرِ لِمَا يَتَعَجَّلُهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَفِي الْعَارِيَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ؛ وَلِأَنَّهُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونَ الْعَيْنِ كَالْغَصْبِ وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ أَعَارَ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْهُ ضَامِنًا وَلَوْ أَوْدَعَ كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُ غَيْرُ ضَامِنٍ لَأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ لَوْ أُغْرِمَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرُ إِذَا غَرِمَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَقْبُوضًا مِنَ الْمَالِكِ وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ:

(7/119)


أَحَدُهُمَا: أن كُلَّ قَبْضٍ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ مَضْمُونًا وَقَعَ مِنَ الْمَالِكِ مَضْمُونًا كَالْغَصْبِ طَرْدًا وَالْوَدِيعَةِ عَكْسًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ فَوَجَبَ أن يكون مضموناً على المستعير كالمغصوب قياساً على المستعير من الغاصب. فأما الجواب عن قوله لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ التالفة بالاستعمال، وهذا إن كَانَ تَخْصِيصًا فَلِمَا عَارَضَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُخَصِّصَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُغِلَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ بِمَأْخُوذٍ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالْغُلُولُ إِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِغْلَالِ الْغَلَّةِ. يُقَالُ: قَدْ أَغَلَّ فَهُوَ مُغِلٌّ إِذَا أَخَذَ الْغَلَّةَ. قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
(فَتَغْلُلْ لَكُمْ مَا لَا تُغِلُّ لِأَهْلِهَا ... قُرًى بِالْعِرَاقِ مِنْ قفيزٍ وَدِرْهَمِ)

فَيَكُونُ معنى الخبر لا ضمان على المستغير غَيْرِ الْمُغِلِّ أَيْ غَيْرِ الْقَابِضِ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ يَصِيرُ مُسْتَغِلًّا وَهَذَا صَحِيحٌ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُئِلَ أَعَارِيَةً مَضْمُونَةً أَوْ عَارِيَةً مُؤَدَّاةً فَقَالَ بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَعَارِيَةً مَضْمُونَةً بِالْبَدَلِ أَوْ مُؤَدَّاةَ الْعَيْنِ اسْتِعْلَامًا لِحُكْمِهَا هَلْ تُوجَدُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَالْمُعَاوَضَةِ أَوْ عَلَى طَرِيقِ الرَّدِّ وَالْأَدَاءِ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مُؤَدَّاةُ الْعَيْنِ لَا يَمْلِكُهَا الْآخِذُ بِالْبَدَلِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلضَّمَانِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَلَفِ الْأَجْزَاءِ فَهُوَ أَنَّ تَلَفَ الْأَجْزَاءِ بِغَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ مَضْمُونٌ كَالْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا تَلفهَا بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَالثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ إِذَا بَلِيَ بِاللَّبْسِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهُ وَالْعَارِيَةُ تَلِفَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَرِضَاهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي إِتْلَافِهَا لَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهَا كَالْأَجْزَاءِ وَلَوْ تَلِفَتِ الْأَجْزَاءُ بِغَيْرِ اللَّبْسِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَالثَّوْبِ إِذَا نَقَلَ فِيهِ تُرَابًا أَوْ شَدَّ فِيهِ مَتَاعًا ضَمِنَ كَالْعَارِيَةِ فَصَارَتِ الْأَجْزَاءُ وَالْجُمْلَةُ عَلَى سَوَاءٍ فَفِيهِ جَوَابٌ عَنِ الْقِيَاسَيْنِ مَعًا وَاللَّهُ أعلم بالصواب.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ ضَمَانِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا تَلِفَتْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلٌ أَوْ لَا يَكُونُ لَهَا مِثْلٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ ضَمِنَهَا بِالْقِيمَةِ وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ التَّلَفِ لِسُقُوطِ ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ التَّالِفَةِ بِالِاسْتِعْمَالِ.

(7/120)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يَضْمَنُ أَكْثَرَ قِيمَتِهَا مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ كَالْغَصْبِ وَتَصِيرُ الْأَجْزَاءُ تَبَعًا لِلْجُمْلَةِ إِنْ سَقَطَ ضَمَانُهَا بِالرَّدِّ سَقَطَ غُرْمُ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ وَجَبَ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ وَجَبَ غُرْمُ الْأَجْزَاءِ تَبَعًا. وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَارِيَةِ مثل ففي ما يضمنها به وجهان: بناءاً على صفة ضمان مالا مِثْلَ لَهُ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا بِالْمِثْلِ إِذَا جُعِلَ ضَمَانُهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ كَالْغَصْبِ، وَالثَّانِي يَضْمَنُهَا بِالْقِيمَةِ إِذَا جُعِلَ ضَمَانُهَا وَقْتَ التَّلَفِ. فَأَمَّا الْعَارِيَةُ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ فَفِي وجوب ضمانه عليه وجهان: أحدهما: عليه ضمانها لأنه وَلَدَ الْمَضْمُونَةِ مَضْمُونٌ كَالْمَغْصُوبَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِيَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَى الضَّمَانِ فِي الْأُمِّ مَعْدُومٌ فِي الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّ وَلَدَ الْعَارِيَةِ لَا يَكُونُ مُعَارًا وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ يَكُونُ مَغْصُوبًا. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إِنَّ الْعَارِيَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ إِلَّا بِالتَّعَدِّي فَلَيْسَ بِقَوْلٍ ثَانٍ فِي سُقُوطِ ضَمَانِهَا كَمَا وَهِمَ فِيهِ الرَّبِيعُ وهو محمول على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا عَلَى سُقُوطِ ضَمَانِ الْأُجْرَةِ أَوْ عَلَى ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ أَوْ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ حكاية عن مذهب غيره وفرع عليه وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسْأَلَةٌ: فِي الْحُكْمِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ والراكب في كيفية الإعارة

قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَكْرَيْتُكَهَا إِلَى مَوْضِعِ كذا وكذا وقال الراكب بل عاريةٌ فالقول قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ قَالَ أَعَرْتَنِيهَا وَقَالَ رَبُّهَا غَصَبْتَنِيهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ (قال المزني) رحمه الله هَذَا عِنْدِي خِلَافُ أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَنْ سَكَنَ دَارَ رجلٍ كَمَنْ تَعَدَّى عَلَى سِلْعَتِهِ فَأَتْلَفَهَا فَلَهُ قِيمَةُ السُّكْنَى وَقَوْلُهُ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئَا ضَمِنَ وَمَنِ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ لَمْ يَبْرَأْ فهذا مقر بأخذ سكنى وركوب دابةٍ ومدعٍ البراءة فعليه البينة وعلى المنكر رب الدابة والدار اليمين ويأخذ القيمة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكَلَامَ يَشْتَمِلُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَوَّلُ مَسْطُورٍ مِنْهَا صُورَتُهُ فِي رَجُلٍ رَكِبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَالِكُ أجرتُكهَا فَلِيَ الْأُجْرَةُ وَقَالَ الرَّاكِبُ أَعَرْتَنِيهَا فَلَيْسَ لَكَ أُجْرَةٌ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ دُونَ الْمَالِكِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْأَرْضِ وَزَارِعُهَا فَقَالَ رَبُّهَا أَجَّرْتُكَهَا وَقَالَ الزَّارِعُ أَعَرْتَنِيهَا: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَا الْجَوَابِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُهُمْ يَنْقُلُونَ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَا

(7/121)


نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَلَهُ الْأُجْرَةُ وَوجْهه مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَمْلُوكَةَ تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا كَالْأَعْيَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَا فِي الْعَيْنِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهَا فَقَالَ رَبُّهَا بِعْتُهَا لَكَ وَقَالَ الْمُسْتَهْلِكُ بَلْ وَهَبْتَنِيهَا إِلَيَّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ دُونَ الْمُتْلِفِ وَلَهُ الْبَدَلُ كَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَنْفَعَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ دُونَ الْمُتْلِفِ وَلَهُ الْأُجْرَةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ وَالزَّارِعِ فِي الدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ مَعًا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْعَارِيَةِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ.
وَوُجْهَتُهُ: هُوَ أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ قَدِ اسْتَهْلَكَ مَنَافِعَ نَفْسِهِ إِمَّا بِعَارِيَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ وَمَنِ ادَّعَى ثُبُوتَ عِوَضٍ عَلَى غَيْرِهِ فِي اسْتِهْلَاكِ مَنَافِعِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَخَالَفَ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ الَّتِي قَدِ اتَّفَقَا على أنهما كَانَتْ مِلْكًا لِرَبِّهَا دُونَ مُسْتَهْلِكِهَا وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ تَوْجِيهًا.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الدَّابَّةِ قَوْلَ رَاكِبِهَا وَفِي الْأَرْضِ قَوْلَ مَالِكِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهَا لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الدَّوَابِّ جَارِيَةٌ بِإِعَارَتِهَا دُونَ إِجَارَتِهَا فَكَانَ الظَّاهِرُ فِي الْعَادَةِ تَشْهَدُ لِرَاكِبِهَا وَالْعَادَةُ فِي الْأَرْضِ جَارِيَةٌ بِإِجَارَتِهَا دُونَ إِعَارَتِهَا فَكَانَتِ الْعَادَةُ شَهَادَةً لِمَالِكِهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لِأَبِي الْعَبَّاسِ تَعْتَبِرُ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ فِيهَا وَلَيْسَتْ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ مَنْ يُؤَجِّرُ قَدْ يُعِيرُ. وَمَنْ يُعِيرُ قَدْ يُؤَجِّرُ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي سَمَّاهُ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الْقَوْلَ قول فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْأُجْرَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْإِجَارَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ فِيهَا فَأَوْلَى أَلَّا يُقْبَلَ قَوْلُهُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهَا فَإِنْ نَكَلَ الْمَالِكُ عَنِ الْيَمِينِ لَمْ تُرَدَّ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ رَدَّهَا لَا يُفِيدُ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ بِنُكُولِ الْمَالِكِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الْأُجْرَةِ وَرَدَّ الدَّابَّةَ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَالِكِ لِيَسْتَحِقَّ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأُجْرَةِ فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْمُسَمَّى، وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ يَمِينَهُ بَعْدَ النُّكُولِ إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ وَأَيُّهُمَا كَانَ فَيُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْمُسَمَّى.
فَصْلٌ
: فَلَوْ كَانَتِ الدَّابَّةُ قَدْ تَلِفَتْ بَعْدَ الرُّكُوبِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَالْمَالِكُ يَدَّعِي الْأُجْرَةَ دُونَ الْقِيمَةِ وَالرَّاكِبُ يُقِرُّ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْأُجْرَةِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ حُكِمَ لَهُ بالأجرة وحدها

(7/122)


دُونَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ لِلْمَالِكِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأُجْرَةِ أَوِ الْقِيمَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ لَهُ بِهِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْكَمُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الْقِيمَةَ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ.

فَصْلٌ
: وَالْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَالِكُ غَصَبْتَنِيهَا وَيَقُولَ الرَّاكِبُ أَعَرْتَنِيهَا فَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُؤَثِّرٌ فِي الْأُجْرَةِ دُونَ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ كَالْغَصْبِ وَأُجْرَةُ الْعَارِيَةِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِخِلَافِ الْغَصْبِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا قَبْلَ الرُّكُوبِ سَقَطَ تأثر هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرُّكُوبِ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يخرجها على قولين كالمسألة الأولىلاستوائها في العلة ويجعل مانقله المزني ها هنا أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ الْمَالِكِ قَوْلًا وَاحِدًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الرَّاكِبَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ فَجَازَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الْأُجْرَةِ وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَقُولُ أَتْلَفْتَ أَيُّهَا الرَّاكِبُ مَنْفَعَتِي بِغَيْرِ حَقٍّ وَالرَّاكِبُ يَقُولُ أَتْلَفْتُهَا مُسْتَعِيرًا بِحَقٍّ فَلَمْ يُصَدَّقْ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا أَجَابَ عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زَلَلٌ من المزني وسهواً وَالثَّانِي تَسْلِيمُ الرِّوَايَةِ وَاسْتِعْمَالُهَا عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ إِمَّا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فِي قَدْرِ الْأُجْرَةِ وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ إِلَّا فِي الْعَارِيَةِ دُونَ الْغَصْبِ. وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ ضَمَانِ الْعَارِيَةِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ تَلِفَتِ الدَّابَّةُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَعَرْتُكَهَا وَيَقُولُ الرَّاكِبُ اسْتَأْجَرْتُهَا فَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي ضَمَانِ رَقَبَتِهَا لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ وَالْمُؤَاجَرَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ بَاقِيَةً سَقَطَ هَذَا الِاخْتِلَافُ. وَالثَّانِي لُزُومُ رُكُوبِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تَالِفَةً أَوِ الْمُدَّةُ مُنْقَضِيَةً سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا أَجَّرَهَا لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَقْدًا فِي إِجَارَتِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ قَائِمَةَ أَخَذَهَا وَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا فالمالك لا يدعيها وإن كانت الدابة تَالِفَةً كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الرَّاكِبِ بِقِيمَتِهَا لِأَنَّهَا تَالِفَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ يَدَّعِي بِالْإِجَارَةِ اسْتِيمَانًا فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَلَزِمَهُ غُرْمُ الْقِيمَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِمُدَّةِ الرُّكُوبِ أُجْرَةٌ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ لِلْمَالِكِ بِالْقِيمَةِ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مَا أَجَّرَهَا وَلَقَدْ أَعَارَهَا إِلَّا أَنْ تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعَارَهَا وَلَا يَحْلِفُ مَا أَجَّرَهَا لِتَقْضِيَ زَمَانَ الإجارة وإن

(7/123)


كَانَ لِمُدَّةِ الرُّكُوبِ أُجْرَةٌ فَهِيَ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَصَاعِدًا فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ يَمِينٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْقِيمَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُقِرٌّ بِهِ أُجْرَةً وَالْمَالِكَ يَدَّعِي قِيمَةً، فَصَارَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ فَسَقَطَتِ الْيَمِينُ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأُجْرَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ إِقْرَارُ الرَّاكِبِ بِهَا وَهُوَ يَدَّعِي الْقِيمَةَ وَالرَّاكِبُ مُنْكِرٌ لَهَا فَإِذَا حُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِالْيَمِينِ.

فَصْلٌ
: وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَالِكَ غَصَبْتَنِيهَا وَيَقُولَ الرَّاكِبُ أَجَّرْتَنِيهَا فَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ وَالْمُؤَاجَرَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ. وَالثَّانِي: فِي لُزُومِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ أَوِ الدَّابَّةُ قَدْ هَلَكَتْ سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مع يمينه له مَا أَجَّرَهُ وَيَصِيرُ الرَّاكِبُ ضَامِنًا لِلدَّابَّةِ وَالْأُجْرَةِ فَيَأْخُذُهَا الْمَالِكُ بِغَيْرِ يَمِينٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسَمَّى الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الرَّاكِبُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ إِلَّا بِيَمِينٍ. وأما القيمة فلا يستحقها إلا بيمين والله أعلم بالصواب.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ تَعَدَّى فِي وديعةٍ ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى موضعها الذي كانت فيه ضمن لأنه خرج مِنَ الْأَمَانَةِ وَلَمْ يُحْدِثْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ استئماناً فَلَا يَبْرَأُ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ كَالدَّابَّةِ يَرْكَبُهَا أَوْ كَالثَّوْبِ يَلْبَسُهُ أَوْ كَالدَّرَاهِمِ يُخْرِجُهَا لِلنَّفَقَةِ ضَمِنَهَا فَإِنْ كَفَّ عَنِ التَّعَدِّي وَرَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى الْحِرْزِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ رَدَّهَا أَوْ مِثْلَهَا وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا أَوْ رَدَّ مِثْلَهَا كَالدَّرَاهِمِ الَّتِي أَنْفَقَهَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَلَا يُجْعَلُ إِخْرَاجُهَا لِلنَّفَقَةِ تَعَدِّيًا قَبْلَ الْإِنْفَاقِ.
وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَإِنْ رَدَّ مِثْلَهَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّدَمُ توبةٌ " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ

(7/124)


ذَلِكَ رَافِعًا لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ قَالُوا وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِزَوَالِهَا كَالْخَمْرِ يَحْرُمُ بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُهَا بِارْتِفَاعِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فَلَمَّا كَانَ التَّعَدِّي مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُهَا بِالتَّعَدِّي مُوجِبًا لِسُقُوطِ الضَّمَانِ قَالُوا وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالتَّعَدِّي كَمَا يَضْمَنُ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ بِالْإِمْسَاكِ فَلَمَّا سَقَطَ ضَمَانُ الصَّيْدِ بِالْإِرْسَالِ لِزَوَالِ مُوجِبِهِ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ بِتَرْكِ التَّعَدِّي لِزَوَالِ مُوجِبِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ يَنْتَقِلُ الْكَلَامُ إِلَيْهِمَا عِنْدَ النِّزَاعِ أَحَدُهُمَا أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا أَوْدَعَ الْمَغْصُوبَ فَتَلِفَ فِي يَدِ الْمُودَعِ ثُمَّ أُغْرِمَ الْقِيمَةَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا فِي غَيْرِ يَدِهِ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَوْدُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ التَّعَدِّي إِلَى حِرْزِ الْمُودِعِ كَعَوْدِهَا إِلَى حِرْزِ الْمُودَعِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي التَّعَدِّيَ فِيهِ زَوَالُ الْأَمْرِ بِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَيْعِ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ لَوْ شَجَّ أَوْ زَنَا بِالْجَارِيَةِ لَمْ يَنْعَزِلْ عَنِ الْوَكَالَةِ وَجَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ التَّعَدِّي لِجَوَازِهِ مِنْ قَبْلُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِحْرَازُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ التَّعَدِّي كَإِحْرَازِهَا قَبْلُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ الضَّمَانِ رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى عُمُومِهِ مُسْتَحِقًّا وَلِأَنَّ الْوَدِيعَةَ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي تَارَةً وَبِالْجُحُودِ أُخْرَى، فَلَمَّا كَانَ لَوْ ضَمِنَهَا بِالْجُحُودِ ثُمَّ اعْتَرَفَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ وَجَبَ إِذَا ضَمِنَهَا بِالتَّعَدِّي ثُمَّ كَفَّ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِزَوَالِهِ كَالْجُحُودِ وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَهَا بِالْمَنْعِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالْكَفِّ لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ وَبِالتَّعَدِّي مُتَصَرِّفٌ وَيَتَحَرَّرُ مِنَ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى. وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ قَدْ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي مَعَ الْإِيدَاعِ كَمَا تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي مِنْ غَيْرِ إِيدَاعٍ ثُمَّ ثَبَتَ مِنْ أَخْذِ مَالِ رَجُلٍ مِنْ حِرْزِهِ بِغَصْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ فَضَمِنَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهِ إِلَى حِرْزِهِ فَوَجَبَ إِذَا ضَمِنَ الْوَدِيعَةَ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهَا إِلَى الْحِرْزِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ ضَمَانُهُ بِهَتْكِ الْحِرْزِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ ضَمَانُهُ بِعَوْدِهِ إِلَى الْحِرْزِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ يَدَ الْإِنْسَانِ تُبَرِّئُهُ مِنْ ضَمَانٍ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِه أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ فَأَمَرَهُ الْمَالِكُ بِأَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُبَرِّئًا لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ. كَذَلِكَ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِكَفِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْرَاءِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " النَّدَمُ توبةٌ " فَهُوَ أَنَّ التَّوْبَةَ تَخْتَصُّ بِرَفْعِ الْآثَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ.

(7/125)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا وَجَبَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ لَهُمْ فِي الْوَدِيعَةِ خُصُوصًا أَنْ يَنْتَقِصَ بِالْجُحُودِ وَالْمَنْعِ الزَّائِلَيْنِ مَعَ بَقَاءِ ضَمَانِهِمَا لَكَانَ مَرْدُودًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ مِنَ التَّعَدِّي لَمْ يَزُلْ وَإِنَّمَا كُفَّ عَنِ اسْتَدَامَتِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ إِرْسَالِ الصَّيْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِلُزُومِ رده إليها صار إرساله جارياً مجرى ردع الْوَدِيعَةِ إِلَى مَالِكِهَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ بِنَائِهِمْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَيْنِ غَيْرَ مُسَلَّمَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا يَدُ الْمُوَدَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ فَخَطَأٌ، لِأَنَّ رُكُوبَ الْمُوَدِعِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَرُكُوبَ الْمُوَدَعِ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَوْ تَسَاوَتْ أَيْدِيهِمَا لَسَقَطَ الضَّمَانُ فِيهِمَا وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فِي أَنَّ التَّعَدِّيَ فِي الْمَأْمُورِ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ إِذَا شَجَّ الْعَبْدَ أَوْ زَنَا بِالْجَارِيَةِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ زَالَتْ وَكَالَتُهُ وَبَطَلَ بَيْعُهُ كَالْوَدِيعَةِ فِي بُطْلَانِ استثمانه بِالتَّعَدِّي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وَكَالَتَهُ صَحِيحَةٌ وَبَيْعَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فِي الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَعَدٍّ وَلَوْ تَعَدَّى فِيهِ كَانَ بَاطِلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ المودع لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فَإِذَا تَعَدَّى لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمَنًا.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّمَانِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ أو يحدث له استئماناً فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَتَى رَدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا بَرِئَ فَإِنِ اسْتَأْنَفَهُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ ثَانِيَةً لَمْ يَضْمَنْ فَأَمَّا إِنْ أَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْرَأُ وَيَزُولُ عَنْهُ الضَّمَانُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْ يُحْدِثُ لَهُ استثماناً لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْضُهُ إِبْرَاءً صَحَّ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ لِعِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْبَرَاءَةَ لَا تَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ بِالذِّمَمِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِنْ بَدَلٍ لَمْ يَجِبْ وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ يُحْدِثُ له استثماناً يعني استثمان وَكِيلٍ فِي الْقَبْضِ فَلَوْ أَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ لَهُ فِي رَدِّهَا إِلَى الْحِرْزِ بَعْدَ التَّعَدِّي كان في سقوط الضمان وجهان كالإبراء والله أعلم بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا أَعَارَهُ بُقْعَةً يَبْنِي فِيهَا بِنَاءً لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَى يُعْطِيَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا يَوْمَ يُخْرِجُهُ وَلَوْ وقت لَهُ وَقْتًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي البناء مطلقاً ولكن لو قال فإن انْقَضَى الْوَقْتُ كَانَ عَلَيْكَ أَنْ تَنْقُضَ بِنَاءَكَ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُ إِنَمَا غر نفسه ".

(7/126)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ اعْلَمْ أَنَّ إِعَارَةَ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ جَائِزٌ. لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ يَصِحُّ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِجَارَةِ فَصَحَّ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِعَارَةِ كَالسَّكَنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَعَارَ أَرْضًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ الْمَنْفَعَةَ أَوْ لَا يُعَيِّنَ عَلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَيْهَا صَحَّتِ الْعَارِيَةُ وَكَانَتْ مَحْمُولَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي مِثْلِهَا وَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْإِجَارَةِ إِلَّا أَنْ يُعَيِّنَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ خُصُوصًا وَعُمُومًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ عِوَضًا تَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ وَلِذَلِكَ لَزِمَ تَقْدِيرُ الْمَنْفَعَةِ بِالْمُدَّةِ وَلَيْسَ فِي الْعَارِيَةِ عِوَضٌ فَلَمْ يَمْتَنِعْ فِيهِ الْجَهَالَةُ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ إِطْلَاقُ الْمُدَّةِ وَإِنْ عَيَّنَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَعُمَّ أَوْ يَخُصَّ فَإِنْ عَمَّ فَقَالَ قَدْ أَعَرْتُكَ لِتَصْنَعَ مَا شِئْتَ مِنْ غَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ زَرْعٍ فَأَيُّهُمَا فَعَلَ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ سَائِرِهَا وَإِنْ خص فله ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الزَّرْعِ فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ وَلَا أَنْ يَبْنِيَ لِأَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ أَضَرُّ لِلْأَرْضِ مِنَ الزَّرْعِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فَلَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى كَانَ مُتَعَدِّيًا وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِ غرسه وبنائه وبأجرة المثل كالغصب.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْغَرْسِ فَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ وَيَزْرَعَ لِأَنَّ ضَرَرَ الزَّرْعِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْغَرْسِ وَفِي جَوَازِ الْبِنَاءِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ كَالْغَرْسِ فِي التَّرْكِ وَالضَّرَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ أَدْوَمُ مِنَ الْغَرْسِ وَأَبْقَى فَكَانَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبِنَاءِ فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَيَزْرَعَ وَيَغْرِسَ لِأَنَّ الْبِنَاءَ أَبْقَى فَكَانَ ضَرَرُهُ أَعَمَّ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْعَارِيَةِ وَصِفَةِ الْإِذْنِ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ وَالْعَارِيَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَفِي جَوَازِ إِعَارَتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَ كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِإِبَاحَةِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَهَا لِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ أُبِيحَ أَكْلٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ لِلْمُعِيرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى المستعير الثاني فإن رجع بها المعير الأول بطلت العاريتان معاً وإن رجعا بها الْمُعِير الثَّانِي كَانَتِ الْعَارِيَةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا وَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي كَانَ الْمُسْتَعِيرُ غَاصِبًا لِلْإِعَارَةِ وَاسْتَحَقَّ الْمُعِيرُ الْمَالِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالْأُجْرَةِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الثَّانِي بِهَا أَوِ الْأَوَّلُ. فَإِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْأَوَّلِ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الثَّانِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ أَخَذَهَا مِنَ الثَّانِي فَهَلْ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ

(7/127)


قولين فِيمَنْ أَبَاحَ أَكْلَ طَعَامٍ غَصَبَهُ فَأُغْرِمَ الْآكِلُ قِيمَتَهُ هَلْ يَرْجِعُ الْآكِلُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا غَرِمَهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَعِيرُ الْأَرْضَ لِلْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ ثُمَّ رَجَعَ لِلْمُعِيرِ فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مُنِعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ غَرْسِهَا وَبِنَائِهَا فَإِنْ بَنَى بَعْدَ رُجُوعِهِ أَوْ غَرَسَ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ فَيُؤاخَذُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ فَإِنْ رَجَعَ الْمُعِيرُ بَعْدَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْدَاثُ زِيَادَةٍ فِي غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فَإِنْ أَحْدَثَ زِيَادَةً فِي غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فَإِنْ أَخَذَ بَقْلَهَا فَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْغَرْسِ والبناء قبل الرجوع فللمعير حالتان:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ حِينَ أعاره أن يقلع غرسه وبنائه عِنْدَ رُجُوعِهِ فَيُؤْخَذُ الْمُسْتَعِيرُ بِقَلْعِ ذَلِكَ لِلشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " وَلِأَنَّ رِضَاهُ بِهَذَا الشَّرْطِ الْتِزَامٌ لِلضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ فَكَانَ هُوَ الضَّارُّ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَضْرُورًا بِغَيْرِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَلَّا يَشْتَرِطَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الْقَلْعَ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَقْلُوعًا كَقِيمَتِهِ قَائِمًا أَوْ أَكْثَرَ فَيُؤاخَذُ الْمُسْتَعِيرُ بِالْقَلْعِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ لَا تَلْزَمُ وَالضَّرَرُ بِالْقَلْعِ مُرْتَفِعٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا أَقَلَّ، فَإِنْ بَدَّلَ المعير قيمته قائماً أو بدل نقص ما بَيْنَ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا وَقَائِمًا مُنِعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ إِقْرَارِهِ حِينَئِذٍ وَخُيِّرَ بَيْنَ قَلْعِهِ أَوْ أَخْذِ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ نَقْصِهِ لِأَنَّ مَا يَخَافُهُ مِنَ النَّقْصِ بِالْقَلْعِ قَدْ زَالَ بِبَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ الْأَرْشِ فَلَوْ بَذَلَ الْمُسْتَعِيرُ قِيمَةَ الْأَرْضِ وَبَذَلَ الْمُعِيرُ قِيمَةَ الْغَرْسِ كَانَ الْمُعِيرُ أَحَقَّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْغَرْسَ تَبَعٌ فَكَانَ مِلْكُ الْأَصْلِ أَقْوَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَسْبَقُ مِلْكًا وَقِيلَ لِلْمُسْتَعِيرِ لَا يجوز مع زوال الضرر عند أَنْ يُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى الْمُعِيرِ بِالتَّرْكِ فَإِنْ أُخِذَتِ الْقِيمَةُ وَإِلَّا أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ فَإِذَا قَلَعَ فَهَلْ تَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضَ بَعْدَ الْقَلْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فَأَشْبَهَهُ بلي الثَّوْبِ بِاللُّبْسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَلَعَ بِاخْتِيَارِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَارِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْجَأَ إليه فصار مأخوذاً بنقصه.
فصل
: فأما إذا امْتَنَعَ الْمُعِيرُ مِنْ بَذْلِ قِيمَةِ الْغَرْسِ وَامْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنَ الْقَلْعِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْقَلْعِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُدَّةُ العارية مقدرة أو مطلقة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العارية مؤداةٌ.

(7/128)


وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ إنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْعَارِيَةُ مُطْلَقَةَ تُرِكَ وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ قُلِعَ بَعْدَهَا فَرْقًا بَيْنَ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي اشْتِرَاطِ الْمُدَّةِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُقِرٌّ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ إِذَا بَذَلَ الْأُجْرَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْعَارِيَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ وَالْمُسْتَعِيرُ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْقَلْعِ كَالظَّالِمِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ ارْتِفَاقٌ وَمَعُونَةٌ فَلَوْ أَوْجَبَتِ الْإِضْرَارَ بِالْقَلْعِ لَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْإِرْفَاقِ إِلَى حُكْمِ الْعُدْوَانِ وَالضَّرَرِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ مُقَرٌّ فَإِقْرَارِهِ مَشْرُوطٌ بِبَذْلِ الْأُجْرَةِ وَإِقَامَةِ الْمُعِيرِ عَلَى الْمَبِيعِ مِنْ بَذْلِ الْقِيمَةِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ مُسْتَحَقًّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَإِنْ أَجَابَ الْمُعِيرُ مِنْ بَعْدُ إِلَى بَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ امْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ بَذْلِ الْأُجْرَةِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى الْمُعِيرِ بِتَفْوِيتِ الْأُجْرَةِ وَمَا اسْتَدَامَ الشَّرْطَانِ وَجَبَ الْإِقْرَارُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَعِيرِ مَنْعُ الْمُعِيرِ مِنْ دُخُولِ أَرْضِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيلًا بِغَرْسِهِ وَبِنَائِهِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَأْخُوذَةٌ عَلَى إِقْرَارِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَأَمَّا البياض الذي أَثْنَائه فَلَيْسَ بِمَشْغُولٍ بِمِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَمْ يَجُزْ مَنْعُ الْمُعِيرِ مِنْهُ وَإِنْ بُذِلَتْ لَهُ الْأُجْرَةُ عَنْهُ. إِلَّا أَنْ يُجِيبَ إِلَى إِجَارَتِهَا طَوْعًا بِمُسَمَّى رَضِيَاهُ فَيَكُونُ كَمَنْ أَجَّرَ أَرْضَهُ مُخْتَارًا فَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْأَرْضِ لِيَصِلَ إِلَى غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّ الدُّخُولَ إِلَّا بِرِضَا الْمُعِيرِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ التَّرْكِ لَا يُوجِبُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَرْضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْأَرْضِ لِيَصِلَ إِلَى غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فِي مُرَاعَاتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَيُجْبَرُ الْمُعِيرُ عَلَى تَمْكِينِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ إِذَنٌ بِهِ وَبِمَنَافِعِهِ فَإِنْ مَاتَ الْغَرْسُ وَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِعَادَةُ بَدَلِهِ إِلَّا بِاسْتِحْدَاثِ عَارِيَةٍ بَدَلَهُ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ أَرَادَ الْمُسْتَعِيرُ بَيْعَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُعِيرِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَلَيْسَ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي بِالْقَلْعِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ.
والوجه الثاني: أن يبيعه لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُ مُسْتَعِيرٍ وَتَرْكُ مَا اشْتَرَاهُ غَيْرُ مُسْتَدِيمٍ لِأَنَّ الْمُعِيرَ مَتَى بَذَلَ الْقِيمَةَ اسْتَحَقَّ بِهَا أَخْذَ الْغَرْسِ أَوْ قَلْعَهُ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُسْتَعِيرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعِيرَ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا حَمَلَ السَّيْلُ بَذْرًا لِرَجُلٍ فَنَبَتَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ أَوْ نَوًى، فَصَارَ غَرْسًا فَهُوَ لِمَالِكِ الْبَذْرِ وَالنَّوَى لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهَلْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُؤَاخِذَ الْمَالِكَ بِقَلْعِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ قَلْعُهُ لِأَنَّ مَا نَبَتَ فِي أَرْضِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ قَلْعُهُ إِذَا بُذِلَتِ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ مَالِكَهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِهِ.

(7/129)


فصل
: فإذا أعار الرجل جَارَهُ حَائِطًا لِيَضَعَ عَلَيْهِ أَجْذَاعًا فَلَيْسَ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَعِيرَ بِقَلْعِهَا بَعْدَ الْوَضْعِ لِأَنَّ وَضْعَ الْأَجْذَاعِ تُرَادُ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْبَقَاءِ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ فِي الْعَارِيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهَا كَمَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ أَرْضِهِ بَعْدَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ. فَعَلَى هَذَا إِنِ امْتَنَعَ صَاحِبُ الْأَجْذَاعِ مِنْ بَذْلِهَا أُخِذَ بِقَلْعِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَصَحُّ لَا أُجْرَةَ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَائِطِ وَالْأَرْضِ أَنَّ الْحَائِطَ قَدْ يَصِلُ مَالِكُهُ إِلَى مَنَافِعِهِ وَإِنْ كَانَتِ الْأَجْذَاعُ مَوْضُوعَةً عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَا يَصِلُ مَالِكُهَا إِلَى مَنَافِعِهَا مَعَ بَقَاءِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فِيهَا مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ لَمْ يَجْرِ بِإِجَارَةِ الْحَائِطِ وَهُوَ جَارٍ بِإِجَارَةِ الْأَرْضِ فَلَوْ بَذَلَ صَاحِبُ الْحَائِطِ ثَمَنَ الْأَجْذَاعِ لِصَاحِبِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا وَلَا عَلَى قَلْعِهَا بِخِلَافِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَجْذَاعَ إِذَا حَصَلَ أَحَدُ طَرَفَيْهَا فِي حَائِطِ الْمُعِيرِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ فِي حَائِطِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَمْ يُجْبَرْ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ كُلُّهُ فِي أَرْضِ الْمُعِيرِ فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ مَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَجْذَاعُ مَوْضُوعَةٌ فَبَنَاهُ الْمَالِكُ فَهَلْ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ إِعَادَةَ وَضْعِهَا بِالْإِذْنِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ إِعَارَتُهَا لِأَنَّ الْعَارِيَةَ أَوْجَبَتْ دَوَامَ وَضْعِهَا، فَعَلَى هَذَا لَوِ امْتَنَعَ صَاحِبُ الْحَائِطِ مِنْ بِنَائِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ أَنْ يَبْنِيَهُ لِيَصِلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِعَادَتُهَا لِأَنَّ الْحَائِطَ الْمَأْذُونَ فِيهِ لَمْ يَبْقَ وَهَذَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَعُدْ مَالِكَهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَجْذَاعِ أَنْ يَبْنِيَ الْحَائِطَ عِنْدَ امْتِنَاعِ صَاحِبِهِ مِنْ بِنَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا أَعَارَهُ جِذْعًا لِيُمْسِكَ بِهِ حَائِطًا فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَسْكِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا كَانَ الْحَائِطُ قَائِمًا وَكَانَ الْجِذْعُ صَحِيحًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ بَعْدَ الْمَسْكِ مِنْ خَوْفِ السُّقُوطِ وَهَلَاكِهِ وَهَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ بِأُجْرَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَإِنِ انْكَسَرَ الْجِذْعُ أَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ بِأَخْذِهِ ضَرَرٌ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا أَعَارَ أَرْضًا لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الدَّفْنِ الرُّجُوعُ فِيهَا لِأَنَّ دَفْنَ الْمَوْتَى لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْبَقَاءِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَلَوْ أَوْصَى أَوْلِيَاؤَهُ بِنَقْلِهِ مُنِعُوا مِنْهُ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ وَلِمَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ بِالنَّقْلِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الْمُطَالَبَةُ بِأُجْرَةِ الْقَبْرِ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي الْعَارِيَةِ وَجْهًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُرْفَ غَيْرُ جَارٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ زَائِلٌ وَالْأَوْلِيَاءَ لَا يَلْزَمُهُمْ فَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَدْفُونَ نَبَشَهُ الْوَحْشُ حَتَّى ظَهَرَ وَجَبَ أَنْ يُعَادَ إِلَى قَبْرِهِ جَبْرًا وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَارِيَتِهِ وَيَمْنَعَ مَنْ دَفَنَهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَقًّا لِلْمَيِّتِ مُؤَبَّدًا، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِلنَّاسِ أَنْ يَدْفِنُوا موتاهم في

(7/130)


أَرْضِهِ فَإِنْ سَبَلَهَا لِلدَّفْنِ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يُسْبِلَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَلَا يَكُونُ الْإِذْنُ بِالدَّفْنِ فِيهَا تَسْبِيلًا لَهَا فَإِذَا رَجَعَ فَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ إِحْدَاثِ دَفْنٍ فِيهَا وَلَيْسَ لَهُ نَقْلُ مَنْ دُفِنَ وَتَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَعَارَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى ظَاهِرِ الْقَبْرِ مِنْ أَرْضِهِ لِمَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْفِنَ فِيهِ مَيِّتًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ مَكَانَ لَحْدِهِ فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مُقَارَنًا.

فَصْلٌ
: وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ بَطَلَتِ الْعَارِيَةُ وَلَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ وَالْأُجْرَةِ وَعَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُبَادِرَ بِرَدِّهَا عَلَى الْمُعِيرِ سَوَاءٌ طَلَبَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ عَلِمَ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي لَا يُلْزَمُ وَارِثُ الْمُوَدَعِ رَدَّهَا لِأَنَّ رَدَّ الْعَارِيَةِ وَاجِبٌ وَرَدَّ الْوَدِيعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا التَّمْكِينُ مِنْهَا وَاجِبٌ وَإِنْ أَمْسَكَ وَارِثُ الْمُسْتَعِيرِ عَنْ رَدِّهَا حَتَّى هَلَكَتْ فَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا لِتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهَا فَهِيَ مَضْمُونَةٌ فِي تَرِكَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَلَا أُجْرَةَ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهَا فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى وَرَثَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَمَعَ الْأُجْرَةِ فَلَوْ جُنَّ الْمُسْتَعِيرُ وَلَمْ يَمُتْ بَطَلَتِ الْعَارِيَةُ بِجُنُونِهِ أَيْضًا لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُبَادِرَ بِرَدِّهَا عَلَى الْمُعِيرِ وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُعِيرُ وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّ الْعَارِيَةِ عَلَى وَارِثِهِ لِبُطْلَانِهَا بِمَوْتِهِ وَأَنْ يُمْسِكَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ وَالْأُجْرَةِ وَهَكَذَا لَوْ جُنَّ الْمُعِيرُ فَإِنْ مَرِضَ فَالْعَارِيَةُ عَلَى حَالِهَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا بَاع الْمُعِيرُ الْعَارِيَةَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَدُّهَا مُمْكِنًا كَالدَّارِ الَّتِي يُمْكِنُ خُرُوجُهُ مِنْهَا وَالدَّابَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ نُزُولُهُ عَنْهَا وَالثَّوْبِ الَّذِي يُمْكِنُ نَزْعُهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَبَطَلَتْ بِهِ الْعَارِيَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَدُّهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ كَالْأَرْضِ إِذَا غُرِسَتْ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ الْغَرْسِ فِيهَا مَجْهُولَةٌ وَاسْتِرْجَاعُهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ إِلَّا بِبَذْلِ قِيمَةِ الْغَرْسِ أَوْ أَرْشِ النَّقْصِ وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُعِيرِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَيُؤْخَذُ الْمُسْتَعِيرُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى مُوَرَّثِهِ التسليم.
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً ثُمَّ رَدَّهَا الْمُسْتَعِيرُ إلى اصطبل المعير لم يبرأ من ضمانها حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْمُعِيرِ أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ فِيهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة يَبْرَأُ مِنْهَا بِرَدِّهَا إِلَى الِإصْطَبْلِ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الِإصْطَبْلَ كَيَدِهِ لَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَارِقُهَا مِنَ الِإصْطَبْلِ إِذَا رَدَّهَا إِلَيْهِ أَنْ يَسْقُطَ عنه ضمانها كما يسقط بردها إلى بدء وَفِي بَقَاءِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَوْدُهَا إِلَى الِإصْطَبْلِ عَوْدٌ إِلَى يَدِهِ.
فَصْلٌ
: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَارِيَةِ رَهْنًا لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا ضَامِنٌ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْيَدِ فَإِنَّ شَرَطَ عَلَيْهِ فِيهَا رَهْنًا أَوْ ضَامِنًا بَطَلَت

(7/131)


العارية بِأَحَدِ الشُّرُوطِ الْمُبْطِلَةِ لَهَا ثُمَّ قَبَضَهَا المستعير وتصرف بها ضمن الرقبة، فَأَمَّا ضَمَانُهُ لِأُجْرَةِ الْمَنْفَعَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يكون ضامناً للأجرة لأن فسادها رافعاً لِحُكْمِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ فَسَدَ فَحُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ مِنْهُ أَلَا تَرَاهُ يَضْمَنُ فَاسِدَ الْقَرْضِ وَلَا يَضْمَنُ فَاسِدَ الشَّرِكَةِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا طَالَبَ الْمُعِيرُ الْمُسْتَعِيرَ بِرَدِّ الْعَارِيَةِ كَانَتْ مَؤُنَةُ رَدِّهَا وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ فَكَانَتْ مَؤُنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمُهَا فِي الْعَارِيَةِ هِبَةٌ لِلْمُسْتَعِيرِ فَكَانَتْ مَؤُنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ بِإِذْنِ الْمُعِيرِ جَازِ ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ فَالْمُسْتَعِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى عَارِيَتِهِ وَهُوَ الْمُعِيرُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّانِي وَضَمَانُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا إِنْ شَاءَ وَإِنْ سَمَّاهُ لِلْمُعِيرِ خَرَجَ الْمُسْتَعِيرُ الْأَوَّلُ مِنْهَا وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا وَلَمْ يُبْطِلْ عَلَى الثَّانِي بِرُجُوعِهِ فِيهَا فَلَوْ رَدَّهَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَبْرَأْ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَبْرَأُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(7/132)