الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

كتاب الوصايا
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِخَلْقِهِ آجَالًا وبسط لهم فيها آمالا ثم أخفى عليهم حلول آجَالِهِمْ وَحَذَّرَهُمْ غُرُورَ آمَالِهِمْ، فَحَقِيقٌ عَلَى الْإِنْسَانِ أن يكون مباهيا لِلْوَصِيَّةِ حَذِرًا مِنْ حُلُولِ الْمَنِيَّةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سمعه} [البقرة: 181] . إلى قوله تعالى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182] .
أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عليكم} . فَيَعْنِي: فُرِضَ عَلَيْكُمْ. وَقَوْلُهُ: " إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت: يعني أسباب الموت ".
إن ترك خيرا: يَعْنِي مَالًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْخَيْرُ فِي الْقُرْآنِ كله المال: {وإنه لحب الخير الشديد} [العاديات: 8] . الْمَالُ فَقَالَ {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] الْمَالُ. {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الْمَالُ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] . يَعْنِي الْغِنَى. وَقَالَ الشافعي: الخير كلمة تعرف ما أريد بها المخاطبة.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] . فقلنا: إنهم خير البرية بالإيمان والأعمال الصالحة، لا بالمال. وقال تعالى: {أولئك هم خير} فقلنا إن الخير المنفعة بالأجر وَقَالَ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] . فَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْ تَرَكَ مَالًا، لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَتْرُوكُ. ثُمَّ قَالَ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} وفي الْأَقْرَبِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ لَا يَسْقُطُونَ فِي الْمِيرَاثِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ يَسْقُطُونَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَقَارِبِ كُلِّهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كُلُّ الْأَقَارِبِ مِنْ وَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ.
واختلفوا في ثبوت حكمها فقال بعضهم: كَانَ حُكْمُهَا ثَابِتًا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ حَقًّا وَاجِبًا، وَفَرْضًا لَازِمًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ نُسِخَ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَكُلُّ

(8/185)


وارث وبقي فرض الوصية لغير الورثة في الْأَقْرَبِينَ عَلَى حَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ.
فَإِنْ وَصَّى بِثُلُثِهِ لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا: فَقَالَ طَاوُسٌ يُرَدُّ الثُّلُثُ كُلُّهُ عَلَى قَرَابَتِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ: يُرَدُّ ثُلُثُ الثُّلُثِ عَلَى قَرَابَتِهِ وَثُلُثَا الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زيد رد ثُلُثَا الثُّلُثِ عَلَى قَرَابَتِهِ وَثُلُثُ الثُّلُثِ لِمَنْ أوصى بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْمَالِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ مِنْهُ عَلَى أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَتَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 183] . أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
والثاني: خمس مائة، وهذا قول النخعي.
والثالث: يجب في قليل المال وكثيره وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. فَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ حُكْمَ الْآيَةِ ثَابِتًا. وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إلى إنها منسوخة بالمواريث. واختلفوا بأية آي نُسِخَتْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ نُسِخَتْ بآية الْوَصَايَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] . وَقَالَ آخَرُونَ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . وَسَنَذْكُرُ دَلِيلَ مَنْ أَثْبَتَهَا وَمَنْ نَسَخَهَا فيما بعد.
ثم قال: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فأصلح بينهما فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] . وَأَصْلُ الْجَنَفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَوْرُ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ. وَمِنْهُ قول الشاعر:
(هم المولى وقد جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ)

وَفِي تأويل قوله تعالى: جنفا أو إثما ثلاثة أقاويل.
أحدهما: أَنَّ الْجَنَفَ: الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ، أَنْ يَأْثَمَ فِي أَثَرَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ابن دريد.
والثاني: أن الجنف: الخطأ، والإثم: العمد.
والثالث: أن الرجل يوصي لولد بنيه، وهو يرد بَنِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] . على أربعة أوجه:
أحدهما: أَنَّ تَأْوِيلَهَا: فَمَنْ حَضَرَ مَرِيضًا وَهُوَ يُوصِي عِنْدَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْمَوْتِ، فَخَافَ أَنْ يُخْطِئَ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيَفْعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ يعمد جورا فيها فيأمر بِمَا لَيْسَ لَهُ، فَلَا حَرَجَ

(8/186)


عَلَى مَنْ حَضَرَهُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ، بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِالْعَدْلِ فِي وَصِيَّتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَأْوِيلَهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ أَوْصِيَاءِ الْمَيِّتِ جَنَفًا فِي وَصِيَّتِهِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ، فِيمَا أَوْصَى لَهُمْ بِهِ، فَيَرُدُّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَأْوِيلَهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي عَطِيَّتِهِ لِوَرَثَتِهِ عند حضور أجله، فأعطى بعضهم دُونَ بَعْضٍ، فَلَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ تَأْوِيلَهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي وَصِيَّتِهِ لِمَنْ لَا يرثه لَمْ يَرْجِعْ نَفْعُهُ عَلَى مَنْ يَرِثُهُ فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ الله} [النساء: 12] . فلا ضرار فِي الْوَصِيَّةِ: أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَالْإِضْرَارُ فِي الدَّيْنِ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ. وَيَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ ".
وَقَالَ تعالى: {وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} [البقرة: 132] الْآيَةَ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته عند رأسه مَكْتُوبَةٌ ".
وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ سبعين سنة، ثم يوصي، فيجنف في وصيته فيختم له بشر عمله، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُوصِي فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ له بخير عمله ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أعجز الموصي أن يوصي كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ ".
وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، سَأَلَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ معرور، فقالوا:

(8/187)


هَلَكَ وَأَوْصَى لَكَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَقَبِلَهُ، وَرَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أوصى بِالثُّلُثِ، وَأَوَّلَ مَنْ وَصَّى بِأَنْ يُدْفَنَ إِلَى القبلة ثم صارا جميعا سنة متبوعة.
وَالْوَصِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَجُوزُ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ وَلَا يَجِبُ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِي وجوبها.
فأما الذي لا يجوز: فالوصية للوارث.
وروى شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ".
وَأَمَّا التي تجوز ولا تجب، فالوصية للأجانب، وهذا مجمع عليه، فقد أَوْصَى الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ.
وأما التي اختلف فيها: فَالْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ.
ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ مَعَ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَى وُجُوبِهَا لِلْأَقَارِبِ، تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ".
وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فيه يبيت ليلتين إلى وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ ".
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وعائشة، وابن أبي ليلى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُوصِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: " مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا أَشْرَفْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعُودُنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي مالا كثيرا، وليس يرثني إلا ابني، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَبِالشَّطْرِ. قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ. وَالثُّلُثُ كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرا مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ".
فَاقْتَصَرَ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا جَعَلَهُ خَارِجًا مَخْرَجَ الْجَوَازِ، لَا مَخْرَجَ الْإِيجَابِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ غنى الورثة بعده أولى من فقرهم.

(8/188)


وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أن تتصدق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ ".
فَلَمَّا جَعَلَ الصَّدَقَةَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَفْضَلَ مِنْهَا عِنْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَاجِبَةً، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَاجِبَةً.
وَرَوَى ابْنُ أبي ذؤيب عَنْ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لأن يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ " وَلِأَنَّ الوصية لو وجبت، لا جبر عَلَيْهَا، وَلَأُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ إِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا، كَالدُّيُونِ وَالزَّكَوَاتِ وَلِأَنَّ الْوَصَايَا عَطَايَا فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ: فَمَنْعُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْوَصِيَّةِ مَعَ تقديم ذكرها فِيهَا، دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ مَاتَ مِيتَةً جاهلية " فمحمول على أحد أمرين.
وأما على من كانت عليه ديون حقوق لَا يُوصَلُ إِلَى أَرْبَابِهَا إِلَّا بِالْوَصِيَّةِ. فَتَصِيرُ الوصية ذكرها وَأَدَائِهَا وَاجِبَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ " فَهَذَا خَارِجٌ مِنْهُ مَخْرَجَ الِاحْتِيَاطِ، وَمَعْنَاهُ: مَا الْحَزْمُ لِامْرِئٍ. عَلَى أَنَّ نَافِعًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: هَلَّا أَوْصَيْتَ؟ قَالَ: أَمَّا مَالِي، فَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كُنْتُ أَفْعَلُ فِيهِ فِي حياتي، وأما رباعي وذوري، فَمَا أُحِبُّ أَنْ يُشَارِكَ وَلَدِي فِيهَا أَحَدٌ. فلو علم وجوب الوصية لما رواه ولما تَرَكَهَا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الوصية دون وجوبها فالوصية تشتمل على أربعة شروط.
وهي: موصي، وموصى له، وموصى به، وموصى إليه.
فأما الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُوصِي فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا، حُرًّا، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ فِي مَالِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.
فَأَمَّا الْمَجْنُونُ: فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ فَوَصَّيْتُهُ بَاطِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا: فَفِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يجوز. وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ كَالْمَجْنُونِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْعُقُودِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ أن وصيته جائز لرواية عمرو بن سليم الزريقي قال:

(8/189)


" سُئِلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ غلام يبلغ من غسان أوصى لِبِنْتِ عَمِّهِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَلَهُ وَارِثٌ بِبَلَدٍ آخَرَ، فَأَجَازَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصِيَّتَهُ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَتْ عُقُودُهُ هو الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمْضِيَتْ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّ الْحَظَّ لَهُ فِي مَنْعِ الْعُقُودِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَجَّلُ بها نفعا، ولا يقدر على استدراكها إِذَا بَلَغَ. وَالْحَظُّ لَهُ فِي إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَلَهُ ثَوَابُهَا وَذَلِكَ أَحَظُّ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَإِنْ عَاشَ وبلغ، وقدر على استدراكها بالرجوع فِيهَا فَعَلَى هَذَا: لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ، أَوْ حَابَى، أَوْ وَهَبَ، فَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَحِيحٌ مَمْضِيٌّ، لِأَنَّ ذَلِكَ وصية تعتبر في الثُّلُثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهَا إِنْ صَحَّ، وَالْعِتْقُ وَالْهِبَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهِمَا إِنْ صَحَّ.
فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، فَوَصِيَّةُ السَّفِيهِ أجوز، وإن قبل بِبُطْلَانِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، كَانَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَعْلِيلِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّتِهِ بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ جَازَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِجَرَيَانِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ بِإِبْطَالِ عُقُودِهِ، بَطَلَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِبُطْلَانِ عُقُودِهِ.
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلْسِ، فَإِنْ رَدَّهَا الْغُرَمَاءُ بَطَلَتْ. وَإِنْ أَمْضَوْهَا جَازَتْ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ حَجْرَ الْفَلْسِ كَحَجْرِ الْمَرَضِ صَحَّتْ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَحَجْرِ السفيه كانت على وجهين:
وأما الْعَبْدُ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ. وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ، لِأَنَّ السَّيِّدَ أَمْلَكُ مِنْهُمْ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ.
فَأَمَّا الْكَافِرُ: فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ، ذِمِّيًّا كَانَ أو حربيا، إذا وصى بمثل ما وصى به المسلم.
فأما الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْمُوصَى لَهُ.
فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ، وَمَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، وَلَا قَاتِلًا.
فَأَمَّا الْوَارِثُ فَلِقَوْلِهِ عليه السلام: " لا وصية لوارث " ولو وَصَّى لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ، كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ أحدهما: باطلة إذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى إلا أن يستأنفه الْوَرَثَةُ الْبَاقُونَ هِبَتَهَا لَهُ بَعْدَ إِحَاطَةِ عِلْمِهِمْ بما يبذل منهم، وقبول منه، وقبض تلتزم بِهِ الْهِبَةُ، كَسَائِرِ الْهِبَاتِ، فَتَكُونُ هِبَةً مَحْضَةً لا تجري فيها حُكْمُ الْوَصِيَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْبَاقِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ، كَالْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ: صَحَّتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا رَجَعَتْ مِيرَاثًا، وكان الموصى له به كَأَحَدِهِمْ، يَأْخُذُ فَرْضَهُ مِنْهَا، وَإِنْ أَجَازَهَا بَعْضُهُمْ وَرَدَّهَا بَعْضُهُمْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي حِصَّةِ مَنْ

(8/190)


أجازه، وَكَانَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْبَاقِي مِنْهَا وَارِثًا مع من رده. ثُمَّ هَلْ تَكُونُ إِجَازَتُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابتداء عطية منهم، أو إمضاء على قولين.
وعلى كلا القولين لا تفتقر إِلَى بَذْلٍ وَقَبُولٍ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مذهب مالك أنها جائزة وَإِنْ لَمْ يَرْثِ، كَمَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْكَافِرِ وَإِنْ لَمْ يَرِثْ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ يُرَاعَى فِيهِ القبول، فلم يمنع منه القتل كالبيع.
وأما القول الثاني: وبه قال أبو حنيفة الوصية باطلة لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليس للقاتل وصية " وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُمْلَكُ بِالْمَوْتِ، فَاقْتَضَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْقَاتِلُ كَالْمِيرَاثِ، عَلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ أَقْوَى التَّمْلِيكَاتِ، فَلَمَّا مَنَعَ مِنْهُ الْقَتْلُ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ القولان، فلا فرق أن يوصي به بَعْدَ جَرْحِهِ إِيَّاهُ وَجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُوصِيَ لَهُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يَجْنِي عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْمُوصِي، وَلَيْسَ بِمَجْرُوحٍ، قَدْ وَصَّيْتُ بثلث مالي لم يَقْتُلُنِي فَقَتَلَهُ رَجُلٌ: لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ قَوْلًا واحدا لأمرين:
أحدهما: لأنها وصية عقد عَلَى مَعْصِيَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهَا إِغْرَاءً بِقَتْلِهِ.
فإن وَصَّى بِثُلُثِهِ لِقَاتِلِ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ القتل، لم يجز لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَتْلِهِ: جَازَ، وَكَانَ الْقَتْلُ تَعْرِيفًا. وَهَكَذَا لَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ لِقَاتِلِهِ هِبَةً أَوْ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنِ حَقٍّ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ. وَهَكَذَا: لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا فَقَتَلَ العبد سيده، كان له فِي عِتْقِهِ قَوْلَانِ، لِأَنَّ عِتْقَهُ وَصِيَّةٌ لَهُ.
وَلَكِنْ لَوْ وَهَبَ هِبَةً فِي صِحَّتِهِ أَوْ أَبْرَأَ مِنْ حَقٍّ، أَوْ حَابَى فِي بَيْعٍ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ إِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قتل الواهب، والمبرأ قتل المشتري، والمحابا قَتَلَ الْمُحَابِيَ، وَالْعَبْدَ الْمُعْتَقَ قَتَلَ سَيِّدَهُ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ نَافِذًا مَاضِيًا، لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الصحة يمنع مِنْ إِجْرَائِهِ مَجْرَى الْوَصِيَّةِ.
وَلَوْ جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا ثُمَّ إِنِ الْمَجْرُوحُ وَصَّى لِلْجَارِحِ بِوَصِيَّةٍ ثم أجهز عَلَى الْمُوصِي آخَرُ فَذَبَحَهُ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْجَارِحِ الأول، لأن الذابح الثاني صَارَ قَاتِلًا وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّانِي قَدْ ذبحه ولكن لو جرحه صار الثاني والأول قاتلين، فرد الوصية للأول على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، فَفِي بُطْلَانِ عِتْقِهِ قولان لأنه يعتق من الثلث.
ولو قتلت أم الولد سيدها بعد عِتْقُهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِتْقَهَا مُسْتَحِقٌّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.

(8/191)


وَالثَّانِي: أَنَّ فِي اسْتِبْقَائِهَا عَلَى حَالِهَا إِضْرَارٌ بِالْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى بَيْعِهَا وَخَالَفَ استيفاء رق المدبر للقدرة على البيعة.
ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، إِذَا كَانَ قَتْلُهَا عَمْدًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدُهَا بَاقِيًا، قُتِلَتْ قَوَدًا، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا، سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهَا، لِأَنَّ وَلَدَهَا شَرِيكٌ لِلْوَرَثَةِ فِي الْقَوَدِ مِنْهَا، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَوَدُ مِنْ أُمِّهِ. فَسَقَطَ حَقُّهُ وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهَا، فِي حَقِّ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، سَقَطَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَصَّى لِابْنِ قَاتِلِهِ، أَوْ لِأَبِيهِ، أَوْ لِزَوْجَتِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ غَيْرُ قَاتِلٍ.
وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدِ الْقَاتِلِ لم تجز فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ.
وَلَوْ أقر رجل لقاتله دين، كان إقراره نافذا قولا واحدا لأن الدين لازم وهو مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَخَالَفَ الْوَصَايَا.
وَلَوْ كَانَ لِلْقَاتِلِ عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ: حَلَّ بِمَوْتِ المقتول، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُورَثُ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ، إِذَا مَنَعَ الْقَاتِلُ مِنْهُ صَارَ إِلَى الْوَرَثَةِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ فِي الْوَصِيَّةِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كَمَا أَنَّ الْمِيرَاثَ يَمْنَعُ مِنْهُ قَتْلُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فلو أجاز الورثة للقاتل، وقد منع منهما فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَانَ فِي إِمْضَائِهَا بِإِجَازَتِهِمْ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِمْضَائِهِمُ الْوَصِيَّةَ للوارث.
فإن قلنا إن الوصية للوارث مردود وَلَا تَمْضِي بِإِجَازَتِهِمْ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ، وَلَمْ تمض بإجازتهم.
وإن قلنا: إنه يمضي الوصية للوارث بإجازتهم، أمضت الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ بِإِجَازَتِهِمْ.
وَالْأَصَحُّ: إِمْضَاءُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ بِالْإِجَازَةِ، وَرَدُّ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ مَعَ الْإِجَازَةِ، لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْوَارِثِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمُوصَى لَهُ عَلَيْهِمْ فَجَازَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِإِجَازَتِهِمْ، وَحَقُّ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَقْتُولِ، لِمَا فِيهِ من حسم الذرائع المقضية إلى قتل نفسه، فلم تصح الوصية بإجازتهم.

فصل:
وأما الوصية للعبد، فإن كان لعبد نفسه لم يجز. لأنها وصية لورثته.
وَإِنْ كَانَتْ لَعَبْدِ غَيْرِهِ جَازَ وَكَانَتْ وَصِيَّةً لِسَيِّدِهِ، وَهَلْ يَصِحُّ قَبُولُ الْعَبْدِ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ، كَمَا يصح أن يملك والاحتشاش بالاصطياد مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سعيد الإصطرخي: لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُمَلَّكُ.
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَوْ قَبِلَهَا السَّيِّدُ دُونَ الْعَبْدِ، لم يجز.
وعلى الوجه الثاني: يجوز.
فأما إذا أوصى لمدبره.

(8/192)


فالوصية جائزة إذا خَرَجَ الْمُدَبَّرُ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا دُونَ الورثة، لعتقه بموت السيد ولو خَرَجَ بَعْضُهُ مِنَ الثُّلُثِ دُونَ جَمِيعِهِ، صَحَّ من الوصية بقدر ما عتق منه، وبطل منه بقدر ما رق منه.
ولو وصى لِمُكَاتَبِهِ:
كَانَتِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةً، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ، فَإِنْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُهُ لَهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، وَإِلَّا: أَخَذَهَا بَعْدَهُ.
وَإِنَّ رَقَّ بِالْعَجْزِ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَهَا فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّهُ صَارَ عَبْدًا مَوْرُوثًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ فِي مَصِيرِهِ عَبْدًا مَوْرُوثًا.
وَالثَّانِي: لَا تُرَدُّ، اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ فِي كَوْنِهِ مُكَاتَبًا مَالِكًا.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِأُمِّ وَلَدِهِ: فَجَائِزَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا وَلَدٌ وَارِثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ عِتْقَهَا بِالْمَوْتِ أَنْفَذُ مِنْ عِتْقِ الْمُدَبَّرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِيرَاثَ ابْنِهَا مِنْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَبِي الوارث وابنه جَائِزَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْكَافِرِ فَجَائِزَةٌ، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ، فلم يجز أن يبيع لِلْمُشْرِكِينَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ شِرْكُ الذِّمِّيِّ، لَمْ يَمْنَعْ شِرْكُ الْحَرْبِيِّ مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَالنِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْهِبَةُ لِلْحَرْبِيِّ وَهُوَ أَمْضَى عَطِيَّةً مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجُوزَ لَهُ الْوَصِيَّةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا، أو كافرا.
فأما وصية المرتد. فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ - ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ لِمَنْ يَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِعَقْدِهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِمُسْلِمٍ فَيَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الوصية له. الوصية جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ صَادَفَتْ حَالَ الْإِسْلَامِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِمُرْتَدٍّ مُعَيَّنٍ فَفِي الْوَصِيَّةِ وجهان:
أحدها: بَاطِلَةٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ: فإن ظنه الموصي حيا، فإذا هو ميت، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ.
وَإِنْ عَلِمَهُ مَيِّتًا حِينَ الْوَصِيَّةِ: فَقَدْ أَجَازَهَا مَالِكٌ وَجَعَلَهَا لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمَوْتِهِ يَصْرِفُ قَصْدَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.

(8/193)


وَهَذَا فَاسِدٌ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِلْمَيِّتِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَوْتِهِ كَانَتِ الْهِبَةُ بَاطِلَةً، فكذلك الوصية أولى. والله أعلم.

فصل:
وأما الْوَصِيَّةُ لِمَسْجِدٍ، أَوْ رِبَاطٍ، أَوْ قَنْطَرَةٍ، فَجَائِزَةٌ، وتصرف فِي عِمَارَتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى الْمِلْكُ عَنْ هذا كله توجهت الوصية إلى مصالحهم.
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْبِيَعِ، وَالْكَنَائِسِ، فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا مَجْمَعُ مَعَاصِيهِمْ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِتَبْدِيلِهَا وَتَغْيِيرِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَأَجَازَهَا أبو حنيفة مِنَ الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ، كما أَجَازَ وَصِيَّتَهُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] .
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمُوصَى بِهِ.
فَهُوَ كُلُّ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ مَالٍ وَمَنْفَعَةٍ، جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا، مَعْلُومًا، أَوْ مَجْهُولًا، مُشَاعًا، أَوْ مُفْرَزًا.
وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ. مِنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ.
وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالثُّلُثِ، وَلَيْسَ لِلْمُوصِي الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لسعد: " الثلث، والثلث كثير ".
وَأَوْلَى الْأَمْرَيْنِ بِهِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، كَانَ النُّقْصَانُ مِنَ الثُّلُثِ أولى مِنِ اسْتِيعَابِ الثُّلُثِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عليه السلام - أنه قال: " لأن أوصي بالسدس أحب إلي من أن أوصي بالربع، والربع أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الثُّلُثِ ".
وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، وَكَانَ فِي مَالِهِ سِعَةٌ، فَاسْتِيفَاءُ الثُّلُثِ أَوْلَى بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " الثُلُثُ وَسَطٌ، لَا بَخْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ ".
وَلَوِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، مَعَ فقر الورثة، وغناهم، وصغرهم، وكبرهم، كانت وصية ممضاة به.
وأما الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ: فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فِي قليل المال وكثيره لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَقَالَ: " الثُلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ".
فَإِنْ وَصَّى بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ بِجَمِيعِ مَالِهِ: نُظِرَ.

(8/194)


فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَتِهِ وَرَدِّهِ فَإِنْ رَدَّهَا رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى الثُّلُثِ. وَإِنْ أَجَازَهَا صَحَّتْ، ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً: عَطِيَّةٌ مِنْهُمْ، لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا لَمْ يُقْبِضْ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ القبض بطلت كالهبة.
والقول الثاني: إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ إِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمُوصِي، فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَبْضٍ، وَتَتِمُّ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ، وَقَبُولِ الْمُوصَى له، ليس الرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ، وَلَا تُبْطَلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ بعد إجازته، وقبل إقباضه.

فصل:
وإن لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، فَأَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ: ردت الوصية إلى الثلث والباقي لبيت الْمَالِ وَقَالَ أبو حنيفة: وَصِيَّتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ مَالِهِ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ قَالَ: " لِأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ".
فَجَعَلَ الْمَنْعَ مِنَ الزِّيَادَةِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سَقَطَ الْمَنْعُ. وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَضَعَ مَالَهُ حَيْثُ شاء ".
ولأن من جازت له الصدقة بجميع ماله، جازت وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ، زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ". وَلِأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ، فَجَزَّأَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَلَمْ يكن له وارث ولأنه لو كان له وارث، لوقف عَلَى إِجَازَتِهِ، وَلِأَنَّ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا لِأَمْرَيْنِ:
أحدهما: أنه تخلف الورثة في استحقاق ماله.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْقِلُ عَنْهُ كَوَرَثَتِهِ. فَلَمَّا رُدَّتْ وصيته مع الوارث إلى الثلث رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وارث.
وقد تحرر مِنْهُ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ جِهَةٍ اسْتَحَقَّتِ التركة بالوفاة، منعت من الوصية بجميع المال كَالْوَرَثَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْوَصَايَا مَعَ الْوَرَثَةِ. مَنَعَ مِنْهَا مَعَ بَيْتِ الْمَالِ، كالديون.

(8/195)


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تَدَعَهُمْ عَالَةً ".
فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ تَعْلِيلًا، لِرَدِّ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لَجَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ مَعَ غِنَاهُمْ، إِذَا لَمْ يَصِيرُوا عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ صِلَةً فِي الْكَلَامِ وَتَنْبِيهًا عَلَى الْحَظِّ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: يَضَعُ مَالَهُ حيث يشاء.
فَمَالُهُ الثُّلُثُ وَحْدَهُ. وَلَهُ وَضْعُهُ حَيْثُ شَاءَ.
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ كَالْوَصِيَّةِ، إِنْ كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ أُمْضِيَتْ، مَعَ وُجُودِ الْوَارِثِ، وَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَرَضِ رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ وجود الوارث وعدمه.

فَصْلٌ:
وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يعلم قدره.
واختلف أصحابنا: هل يراعى ثلث مَالِهِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَوْ عِنْدَ الْوَفَاةِ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ، أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يُدْخَلُ فيه مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةٍ. لِأَنَّهَا عَقْدٌ وَالْعُقُودُ لَا يُعْتَبَرُ بِهَا مَا بَعْدُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُ مَالِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا حَدَثَ قَبْلَهُ مِنْ زِيَادَةٍ، لِأَنَّ الْوَصَايَا تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ فَاعْتُبِرَ بِهَا وَقْتَ مِلْكِهَا.
فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: إِنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ، ثُمَّ أَفَادَ مَالًا قَبْلَ الْمَوْتِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَصِيَّةِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْمَوْتِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
لَوْ وَصَّى بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، وَهَوَ لَا يَمْلِكُ عَبْدًا، ثُمَّ مَلَكَ قَبْلَ الْمَوْتِ عبدا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْمَوْتِ، وَبَطَلَتْ: إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْقَوْلِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَهُ مَالٌ، فَهَلَكَ مَالُهُ، وَأَفَادَ غَيْرَهُ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْمَوْتِ، وَبَطَلَتْ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ، فَقَدْ أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ لِلْأَوْصِيَاءِ بَابًا اسْتَوْفَى فِيهِ أَحْكَامَهُمْ.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فيما يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قوله: " ما حق امرئ مسلم " يحتمل ما الحزم لامرئ مسلم " يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا لا من جهة الفرض (قال) فإذا أوصى الرجل بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَا ابْنَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَهُ النِّصْفُ فَإِنْ لَمْ يُجِزْ الِابْنُ فَلَهُ الثلث ".

(8/196)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ لِلْمُوصِي ابْنٌ وَاحِدٌ، فَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِالنِّصْفِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، وَصَاحِبَيْهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الِابْنُ، وَإِلَّا رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَهِيَ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِ المال. وهو قول زفر من الهذليين وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ نَصِيبَ ابْنِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ، أَخَذَ جَمِيعَ الْمَالِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ وَصِيَّةً بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أوصى له بمثل ما كان نصيب ابنه كان وصية بجميع ماله إجماعا. وجب لو أوصى له بمثل نصيب ابنه أن يكون وصية بِجَمِيعِ الْمَالِ حِجَاجًا.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ أَصْلٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِمِثْلِهِ فَرْعٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَعَلْنَا الوصية بجميع الْمَالِ لَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ لِلِابْنِ نَصِيبٌ، وَإِذَا لم يكن للابن بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ الَّتِي هِيَ بِمِثْلِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الوصية بمثل نصيب الابن فوجب التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ فَإِذَا وجب ذَلِكَ كَانَا فِيهِ نِصْفَيْنِ وَفِي إِعْطَائِهِ الْكُلَّ إبطال للتسوية بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ نَصِيبَ الِابْنِ كُلُّ الْمَالِ. فَهُوَ أَنَّ لَهُ الْكُلَّ مَعَ عَدَمِ الْوَصِيَّةِ وأما مَعَ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَصَّيْتُ لَكَ بِمِثْلِ مَا كَانَ نَصِيبُ ابْنِي فَيَكُونُ وَصِيَّةً بِالْكُلِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا قَالَ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِي فَقَدْ جَعَلَ لَهُ مع الوصية نصيبا، فكذلك كانت وصيته بالنصف، نصيبا، وَإِذَا قَالَ بِمِثْلِ مَا كَانَ نَصِيبُ ابْنِي فلم يجعل مع الوصية نصيبا، فكذلك كَانَتْ بِالْكُلِّ.

فَصْلٌ:
فَعَلَى هَذَا: لَوْ قَالَ قَدْ وَصَّيْتُ لَهُ بِنَصِيبِ ابْنِي: فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَا لَا يَمْلِكُ، لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مِلْكُهُ، لَا مِلْكَ أَبِيهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ مالك ويجري بها مجرى قوله بمثل نصيب ابني ولا ابن له فَيَجْعَلُهَا وَصِيَّةً بِالنِّصْفِ وَعِنْدَ مَالِكٍ بِالْكُلِّ وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، وَلَا ابْنَ لَهُ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ ابن قاتل أو كافر، لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ قَالَ) بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِي فَلَهُ مع الاثنين الثُّلُثُ وَمَعَ الثَّلَاثَةِ الرُّبُعُ حَتَى يَكُونَ كَأَحَدَهِمْ ".

(8/197)


قال المارودي: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَوْصَى وَلَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. فَلِلْمُوصَى لَهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ الثُّلُثُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَابْنٍ ثَالِثٍ، وَمَعَ الثلاثة الربع: لأنه يصير كابن رابع، ومع الأربعة الخمس لأنه يصير كَابْنٍ خَامِسٍ، وَمَعَ الْخَمْسَةِ السُّدُسُ وَيَصِيرُ كَابْنٍ سَادِسٍ.
ثُمَّ كَذَلِكَ مَا زَادَ لِيَصِيرَ كَأَحَدِهِمْ، وَلَا يُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ.
وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يَكُونُ لَهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ النِّصْفُ، وَمَعَ الثَّلَاثَةِ الثُّلُثُ، وَمَعَ الْأَرْبَعَةِ الرُّبُعُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ فَسَادِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمُوصَى لَهُ على ابنه وهو إنما أوصى له بمثل نصيب أحدهم.

فصل:
فلو كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ، زِدْتَ عَلَى عَدَدِ الْفَرِيضَةِ مِثْلَ نِصْفِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِيَصِحَّ لَكَ ثُلُثُهَا، لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَ نِصْفِهِ خَرَجَ ثُلُثُهُ، فَإِذَا زِدْتَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِثْلَ نِصْفِهَا، صَارَتْ أربعا ونصفا فليبسطها من جنس الكسر أيضا فليخرج كَسْرُهَا تَكُنْ تِسْعَةً، الثُّلُثَانِ مِنْهَا سِتَّةٌ بَيْنَ البنين الثلاثة لكل واحد منهم سهمان. والثلاث ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ سَهْمَانِ، وَيَبْقَى سَهْمٌ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الثُّلُثِ.
وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ من ثلثه، ردت عَلَى الْأَرْبَعَةِ مِثْلُ نِصْفِهَا، تَكُنْ سِتَّةً، الثُّلُثَانِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَالثُّلُثُ سَهْمَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ أَحَدِهِمْ سَهْمٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الثُّلُثِ سَهْمٌ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِهِ، زِدْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ عَدَدُ فَرِيضَةِ الْبَنِينَ مِثْلَ رُبُعِهَا، لِيَصِحَّ خُمُسِهَا لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَ رُبْعِهِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ خُمْسَ مَا اجْتَمَعَ مِنَ الْعَدَدَيْنِ.
فَعَلَى هَذَا: إِذَا زِدْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ مِثْلَ رُبُعِهَا كانت ستة وربعا، فابسطها من جنس الكسر أرباعها تَكُنْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا عِشْرُونَ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَالْخُمُسُ خَمْسَةٌ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، أَرْبَعَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الْخَمْسِ سَهْمٌ.
وَلَوْ تَرَكَ سِتَّةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ رُبُعِهِ، زِدْتَ عَلَى السِّتَّةِ مِثْلَ ثُلُثِهَا، وَهُوَ اثْنَانِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ أَخَذْتَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا وَهُوَ سِتَّةٌ فَجَعَلْتَهُ لِلْبَنِينَ السِّتَّةِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَرَبُعُهَا وَهُوَ سَهْمَانِ جَعَلْتَ مِنْهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ سَهْمًا وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الرُّبُعِ سَهْمًا ثُمَّ عَلَى هَذَا.
فَصْلٌ:
وَلَوْ ترك ثلاث بنين، وأوصى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِرُبُعِ مَالِهِ وَأَجَازَ الورثة ذلك فخذ مالا لَهُ رُبُعٌ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَاعْزِلْ رُبُعَهُ وَهُوَ واحد، ثم أقسم الثلاثة الباقية عَلَى أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ، فَابْسُطْهَا مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ أَرْبَاعًا تَكُنْ ستة عشر،

(8/198)


للموصى له بالربع تبقي اثني عَشَرَ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو كَانَ وَلَدُهُ رِجَالًا وَنِسَاءً أَعْطَيْتُهُ نَصِيبَ امْرَأَةٍ ولو كانت له ابنة وابنة ابن أعطيته سدسا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ وَلَدُ الْمُوصِي عَدَدًا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ.
فَإِنْ كان ولده، رجالا ونساء كما لو تَرَكَ ابْنَيْنِ، وَبِنْتَيْنِ، ثُمَّ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. فَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ: كَانَ لَهُ الرُّبُعُ، وَكَأَنَّهُ ابْنٌ ثَالِثٌ مع بنين.
فَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ كَانَ له السبع وكأنه بِنْتٌ ثَالِثَةٌ مَعَ ابْنَيْنِ.
وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْوَصِيَّةَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنًا، وَلَا بِنْتًا، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتِ لِأَنَّهُ اليقين ولا يعطه مثل نصيب الزوجة وإن كانت أقل ورثته نصيبا.
لأنه قال مثل نصيب إحدى وَلَدِي، وَلَيْسَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ وَلَدِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ مِثْلَ نَصِيبِ إِحْدَى وَرَثَتِي، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ، إِذَا كَانَتْ أَقَلَّ وَرَثَتِهِ نَصِيبًا كما لو ترك زوجة، وابنين وَبِنْتًا. أَصْلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ: لِلُزُوجَةِ مِنْهَا الثُّمُنُ سهم واحد، وَلِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُهُ، فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ، وَلِلزَّوْجَةِ ثُمُنُ الْبَاقِي سَهْمٌ وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من تسعة وَعِشْرِينَ.
وَلَوْ تَرَكَ: بِنْتًا، وَبِنْتَ ابْنٍ، وَأَخًا، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ: كَانَ لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ بِنْتِ الِابْنِ، لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، وَهُوَ السدس، فنصفه إِلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ، وَهِيَ سِتَّةٌ، تَصِيرُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ، يُعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا سَهْمًا، وَلِلْبِنْتِ ثلاثة أسهم، وبنت الابن سهما، وللأخ مَا بَقِيَ وَهُوَ سَهْمَانِ.
فَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ زَوْجَاتٍ، وَابْنًا، وَبِنْتًا، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَفَرِيضَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، لِلزَّوْجَاتِ مِنْهَا الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، فَيُجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ إِحْدَاهُنَّ، وَهُوَ سهم واحد، فضمه إلى الفريضة، وهو أربعة وعشرين، تصير خمسة وعشرين فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ، عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا سَهْمٌ وَاحِدٌ.
فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا، وَخَمْسَ بَنَاتِ ابْنٍ، وَعَمًّا، صَحَّتْ فَرِيضَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا، لِبَنَاتِ الِابْنِ مِنْهَا السُّدُسُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ، فَلَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ، وَهُوَ سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، وَضَمَمْتُهُ إِلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ تَصِيرُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ، لِيَدْخُلَ نَقْصُ الْعَوْلِ بِسَهْمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ. ثُمَّ عَلَى هَذَا القياس.

(8/199)


فَصْلٌ:
وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ رَابِعٍ، لَوْ كَانَ، فَلِلْمُوصَى لَهُ الْخُمُسُ؛ لِأَنَّ لَهُ مَعَ الْأَرْبَعَةِ الْخُمُسُ، وتكون الأربعة أخماس بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ.
لِلْمُوصَى له بالخمس ثلاثة أسهم، ويبقى اثني عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ.
وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ خَامِسٍ لَوْ كَانَ، وَبِنْتٍ لَوْ كَانَتْ: كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ، ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَذَلِكَ سَهْمُ ابْنٍ وبنت من جملة ستة بنين وبنتين، ويبقى أحد عشر سهما، تقسم بين البنين الثلاث، عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي أَرِبْعَةَ عَشَرَ، تَكُنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ تِسْعَةُ أسهم، ويبقى ثَلَاثَةً وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ سهما.

فصل آخر:
فإذا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِهِ.
فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِحِسَابِ الْبَابِ: أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ البنين، وهو ثلاثة وتضم إليه نصيب أحدهم وَهُوَ وَاحِدٌ تَصِيرُ أَرْبَعَةً، وَتَضْرِبُهُ فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ. تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تُلْقِي مِنْهُ الْمِثْلَ، وَهُوَ وَاحِدٌ، يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، ثُمَّ تَعْرِفُ قَدْرَ النَّصِيبِ، بِأَنْ تَضْرِبَ مَخْرَجَ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، تَكُنْ تِسْعَةً، ثُمَّ تُلْقِي مِنْهَا الْمِثْلَ، وَهُوَ واحد يبقى ثمانية، فهو نصيب، فَيَأْخُذُهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَيَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، فَيُدْفَعُ ثُلُثُهَا، وَهُوَ وَاحِدٌ، إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ، الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ، وَيَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، تَضُمُّهَا إِلَى الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ تَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا.
فَصْلٌ آخر:
فإذا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أحدهم إلا ثلث ما بقي من الثلاث. فوجه عملها بالباب، أن تأخذ عدد البنين، وهو ثلاثة، وتضم إِلَيْهِ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ، تَكُنْ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٍ، تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، تزيد عَلَيْهَا وَاحِدًا، كَمَا نَقَصَتْ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا تَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، ثُمَّ تَعْرِفُ قَدْرَ النَّصِيبِ، بِأَنْ تَضْرِبَ مَخْرَجَ الثُّلُثِ فِي مِثْلِهِ تَكُنْ تِسْعَةً، وَتَزِيدُ عَلَيْهَا وَاحِدًا، كَمَا نَقَصَتْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا تكن عشرة، هو النصيب، فتنقص منه ثلث الثلاث، وهو واحد يبقى تسعة، وهي سهام الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ تَضُمُّ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، وَهُوَ سِتَّةٌ وعشرون تكن ثلاثين، تقسم بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ، وَتَصِحُّ من تسعة وثلاثين.
فصل:
في الضيم
وَإِذَا تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما بقي من

(8/200)


ثُلُثِهِ، وَأَوْصَى لِأَحَدِ بَنِيهِ، أنْ لََا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ فِيمَا أَوْصَى بِهِ وَلَا نُقْصَانٌ وَأَنْ يُوَفِّرَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ، وَهُوَ الْخُمُسُ فَذَلِكَ موقوف على الإجازة من الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ تَفْضِيلَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْبَاقِينَ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ.
وإذا كان كذلك وأجاز الوصية الورثة فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِالْبَابِ أَنْ تَجْعَلَ الِابْنَ الَّذِي وَصَّى أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ، كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ، فَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ كَأَنَّهُ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِهِ، وَلِآخَرَ بِخُمُسِ ماله فتأخذ عددا تجمع مخرج الجميع من الْوَصَايَا وَهُوَ الْخُمُسُ وَثُلُثُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، مَضْرُوبُ خَمْسَةٍ فِي تِسْعَةٍ، ثُمَّ اعْزِلْ نَصِيبَ الِابْنِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَيْمٌ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ خَمْسَةٍ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ، فَاضْرِبْهَا فِي مُخْرَجِ الْوَصَايَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِينَ، ثُمَّ انْظُرْ سَهْمَ الْمُوصَى لَهُ بمثل نصيب أحدهم وهو واحدا، فَاضْرِبْهُ فِي مُخْرَجِ الْوَصَايَا تَكُنْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَانْقُصْ مِنْهُ ثُلُثَهُ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ لِأَنَّهُ أوصى بثلث ما يبقى بعده ويبقى ثلاثون، فزدها على مائة وَالثَّمَانِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً، وَهِيَ سِهَامُ جَمِيعِ الْمَالِ.
فَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ سِهَامِ النَّصِيبِ، فَانْقُصْ من مخرج الوصايا بثلث ثُلُثِهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَانْقُصْ مِنْهُ خُمُسَ جَمْعَيْهِ، وَهُوَ تِسْعَةٌ، يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ النُّقْصَانَيْنِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ.
فَإِذَا أَرَدْتَ القسم فَخُذْ ثُلُثَ الْمَالِ، وَهُوَ سَبْعُونَ فَأَعْطِ مِنْهُ الموصى له بمثل نصيب أحدهم، إحدى وَثَلَاثِينَ، يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَعْطِ منها الموصى له بثلث الباقي له من الثلث ثلثها، وهو ثلاثة عشرة وَاضْمُمِ الْبَاقِيَ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ إِلَى ثُلُثَيِ المال، وهو مائة وأربعون تصير مائة، وستة وستون، فَأَعْطِ مِنْهَا الِابْنَ الَّذِي وصّى لَهُ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ، خُمُسَ جَمِيعِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مِائَتَانِ وَعَشَرَةٌ يَكُنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وهو سهمين، ويبقى مائة وأربعة وعشرون وتقسم بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ، يَكُنْ لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ، وَهُوَ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.

فصل:
في التكملة
وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ زَوْجَةً، وَابْنًا، وَبِنْتًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الزَّوْجَةِ.
فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِحِسَابِ الْبَابِ: أَنْ تُصَحِّحَ الْفَرِيضَةَ، وَتُسْقِطَ مِنْهَا سهم ذوي التكملة ثم تزد عَلَى الْبَاقِي مِثْلَ نِصْفِهِ، وَتُقَسِّمَ سِهَامَ الْفَرِيضَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ بَعْدَهَا فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا صَحَّحْتَ فَرِيضَةَ الزَّوْجَةِ وَالِابْنِ وَالْبِنْتِ، كانت من أربعة وعشرين، فإذا ألغيت مِنْهَا سِهَامَ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ كَانَ الْبَاقِي أَحَدًا وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زِدْتَ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا لم يسلم فأضعف الأحد والعشرين يكن اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فَزِدْ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا وَهُوَ أحد وعشرون تصير مائة وَسِتِّينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ

(8/201)


وَعِشْرُونَ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الزَّوْجَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَإِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا سِهَامَ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ سِتَّةٌ، صَارَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الْبِنْتِ أَسْقَطْتَهَا مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، يَكُنِ الْبَاقِي سَبْعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ زِدْتَ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ سَلِيمٍ فَأَضْعِفْهُ، لِيَسْلَمَ يَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ، وَنِصْفُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ تَكُنْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ. مِنْهَا لِلزَّوْجَةِ سِتَّةٌ، وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى له بتكملة الثلث بنصيب البنت ثلاث أَسْهُمٍ، لِأَنَّكَ إِذَا ضَمَمْتَهَا إِلَى سِهَامِ الْبِنْتِ صَارَتْ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الِابْنِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً، لِأَنَّ سِهَامَ الِابْنِ أَكْثَرُ من الثلث.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (ولو قَالَ) مِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِي أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ أَقَلِّهِمْ نَصِيبًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا لَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا إِلَّا الْيَقِينُ، وَالْأَقَلُّ يَقِينٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ شَكٌّ. فَإِنْ كَانَ سَهْمُ الزوجة أقل، أعطيته مثل أسهام الزوجة، وإن كان نصيب غيرها أقل من البنات، أو بنات الابن، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَهُ.
وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ سِهَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ مِنْ أَصْلِ فَرِيضَتِهِمْ، فَتَجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلَ سِهَامِ أَقَلِّهِمْ، وَتَضُمُّهُ إِلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ تُقَسِّمُ الْمَالَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ، عَلَى مَا اجْتَمَعَ مَعَكَ مِنَ العددين، وقد بيناه.
ولو وصى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَكْثَرِهِمْ نَصِيبًا، اعْتَبَرْتَهُ، وَزِدْتَهُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ قَسَّمْتَ مَا اجْتَمَعَ مِنَ العددين على ما وصفنا.
فَعَلَى هَذَا: لَوِ اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ، أَرَادَ مِثْلَ أَقَلِّنَا نَصِيبًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَرَادَ مِثْلَ أَكْثَرِنَا نَصِيبًا، أَعْطَيْتُهُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حِصَّتَهُ مِمَّا اعْتَرَفَ به.
ومثاله: أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ ابْنَيْنِ، وَبِنْتَيْنِ، فَيَقُولُ الِابْنَانِ: وصى لك بمثل نصيب ذكر، وتقول الْبِنْتَانِ: وَصَّى لَكَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أُنْثَى.
فَوَجْهُ الْعَمَلِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ أَرَادَ ذَكَرًا لَكَانَ الْمَالُ مَقْسُومًا، عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَرِيضَةِ ثَلَاثَةِ بَنِينَ، وَبِنْتَيْنِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الذَّكَرِ: سهمان.
وإن أراد أنثى: كان المال مقسوما على سبعة أسهم، فريضة ذكرين وَثَلَاثِ بَنَاتٍ، فَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ بنت سهم، وللموصى له بمثل نصيب أنثى سَهْمٌ.
فَاضْرِبْ سَبْعَةً فِي ثَمَانِيَةٍ، تَكُنْ سِتَّةً وخمسين. للبنتين سُبْعَاهَا: سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا،

(8/202)


وَلِلْمُوَصَى لَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ أنثى: السبع ثمانية أسهم وعلى أن له مثل نصيب ذكر الربع، أربعة عشر سهما، فيكون له اثني عشر وللابنين لو لم يعترفا له بمثل نصيب ذَكَرٍ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْمَالِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، وَلَهُمَا عِنْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَهُ بِنَصِيبِ ذَكَرٍ أَرْبَعَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ، ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا.
فَيَرُدُّ الِابْنَانِ مَا بَيْنَ نَصِيبِهِمَا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ عَلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَأْخُذَهُ مَعَ مَا حَصَلَ لَهُ من الأسهم الثمانية، فيصير له اثني عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلْبِنْتَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلِابْنَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا وَيَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى نِصْفِهَا ... ثم على هذا القياس.

فصل:
ولو ترك ابْنًا، وَبِنْتًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ، ولآخر بمثل نصيب البنت فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يوصي بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا.
والثاني: أن يكون بَعْدَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ للموصى له بمثل نصيب الابن ربع المال، وللموصى له بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا خمس المال، فتصير الوصيتان بخمس المال وربعه، فتوقف على أجازتهما.
والضرب الثاني: أن يريد بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْابْنِ خُمُسُ الْمَالِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ البنت سدس المال فتصير الوصيتان بخمس المال وسدسه، فتوقف على إجازتهما.
ولو ابتدى فَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْابْنِ، فَإِنْ أَرَادَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عليه كَانَ لَهُ خُمُسَا الْمَالِ وَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ دخول الوصية، كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ ... ثُمَّ عَلَى هَذَا القياس.
فصل:
ولو ترك بنتا، وأختا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الرُّبُعُ نِصْفُ حِصَّةِ الْبِنْتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ مَعَ الِابْنِ الْوَاحِدِ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ النِّصْفَ، لِأَنَّهُ نِصْفُ نَصِيبِ الِابْنِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ مَعَ البنت الواحدة، (النصف من النصف) لِأَنَّهُ نِصْفُ نَصِيبِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَهُ الثُّلُثُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ، كَبِنْتٍ ثَانِيَةٍ، كَمَا يَصِيرُ مَعَ الِابْنِ الْوَاحِدِ كابن ثان وللواحدة من البنتين الثلث.
وكذلك الموصى له بمثل نصيب البنت الواحدة الثلث.
وعلى هذا: لو أوصى بِمِثْلِ نَصِيبِ أُخْتٍ مَعَ عَمٍّ، كَانَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الرُّبُعُ.
وَالثَّانِي: الثُّلُثُ.

(8/203)


وَهَكَذَا: لَوْ لَمْ يَرِثْ مَعَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ غيرها لأن لكل واحدة منهما لو انْفَرَدَتِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَخٍ لِأُمٍّ، فَلَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ نِصْفُ السُّدُسِ، وَفِي الْآخَرِ السدس والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ قَالَ) ضِعْفُ مَا يُصِيبُ أَحَدُ وَلَدِي أعطيته مثله مرتين (وإن قَالَ) ضِعْفَيْنِ فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِائَةً أَعْطَيْتُهُ ثلثمائة فكنت قد أضعفت المائة التي تصيبه بمنزلة مرة بعد مَرَّةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ ضِعْفِ نَصِيبِ أَحَدِ أَوْلَادِهِ، كان الضعف مثل أحد النصيبين.
فَإِنْ كَانَ نَصِيبُ الِابْنِ مِائَةً كَانَ لِلْمُوصَى له بالضعف مائتين، وبه قال جمهور الفقهاء وبه قال الْفَرَّاءِ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الضِّعْفُ مثل واحد، فسوى بين المثل والضعف. وَبِهِ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، يضاعف لها العذاب ضعفين} .
فَلَمَّا أَرَادَ بِالضِّعْفَيْنِ مِثْلَيْنِ، عُلِمَ أَنَّ الضِّعْفَ الواحد مثل واحد.
واستدلوا على أن المراد بضعفي العذاب مثليه بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقِبَ عَلَى السَّيِّئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُجَازِي عَلَى الْحَسَنَةِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] .
فَعُلِمَ أَنَّ مَا جَعَلَهُ مِنْ ضِعْفِ الْعَذَابِ عَلَى السَّيِّئَةِ مَرَّتَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الضِّعْفَ وَالْمِثْلَ وَاحِدٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الضِّعْفَ مثلان هو اخْتِلَافَ الْأَسْمَاءِ تُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمُسَمَّى إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الضِّعْفَ أَعَمُّ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمِثْلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوى بَيْنَهُ وبين المثل.
ولأن انشقاق الضعف من المضاعفة، والتنبيه من قولهم أضعف الثَّوْبَ إِذَا طَوَيْتَهُ بِطَاقَتَيْنِ وَنَرْجِسٌ مُضَاعَفٌ: إِذَا كَانَ مَوْضِعُ كُلِّ طَاقَةٍ، طَاقَتَيْنِ وَمَكَانُ كُلِّ وَرَقَةٍ، وَرَقَتَيْنِ. فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الضِّعْفُ مِثْلَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَضْعَفَ الصَّدَقَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، أَيْ أَخَذَ مَكَانَ الصَّدَقَةِ صَدَقَتَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ:
(وَأَضْعَفَ عبد الله إذا كان حَظُّهُ ... عَلَى حَظِّ لَهْفَانٍ مِنَ الْخَرْصِ فَاغِرِ)

(8/204)


أراد به إعطائه مِثْلَيْ جَائِزَةِ اللَّهْفَانِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ: فَعَنْهَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ الْأَثْرَمِ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ جَعَلَ عَذَابَهُنَّ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ثَلَاثَةَ أماثل عَذَابِ غَيْرِهِنَّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الضِّعْفَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ الْمِثْلِ مجازا، إذا صرفه الدليل عن حَقِيقَتِهِ. وَلَيْسَتِ الْأَحْكَامُ مُعَلِّقَةً بِالْمَجَازِ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَقَائِقِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِضِعْفَيْ نَصِيبِ ابْنِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مذاهب.
أحدهما: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّ لَهُ مِثْلَيْ نَصِيبِهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الضِّعْفَ مِثْلًا فَجَعَلَ الضِّعْفَيْنِ مِثْلَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِ نَصِيبِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بِالضِّعْفِ مِثْلَيْنِ، اسْتَحَقَّ بِالضِّعْفَيْنِ أَرْبَعَةَ أَمْثَالٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ لَهُ بِالضِّعْفَيْنِ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ نَصِيبِهِ.
فَإِنْ كَانَ نصيب الابن مائة استحق بالضعفين، ثلاثة مائة، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ بِالضِّعْفِ سَهْمَ الِابْنِ وَمِثْلَهُ حتى استحق مثليه وجب أن يأخذ بالضعفين بسهم الِابْنِ وَمِثْلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِ.
فَعَلَى هذا: لو أوصى له ثلاثة أَضْعَافِ نَصِيبِ ابْنِهِ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهِ.
وَبِأَرْبَعَةِ أضعافه: خمسة أمثاله. وكذلك فيما زاد. والله أعلم بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ) لِفُلَانٍ نَصِيبٌ أَوْ حَظٌّ أَوْ قليل أو كثير من مالي ما عرفت لكثير حدا ووجدت ربع دينار قليلا تقطع فيه اليد ومائتي درهم كثيرا فيها زكاة وكل ما وقع عليه اسم قليل وقع عليه اسم كثير وقيل للورثة أعطوه ما شئتم ما يقع عليه اسم ما قال الميت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنَصِيبٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ حَظٍّ، أَوْ قسط، أو قليل، أو كثير ولم يجد ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَيَرْجِعُ فِي بَيَانِهَا إلى الورثة فيما بَيَّنُوهُ مِنْ شَيْءٍ كَانَ قَوْلُهُمْ فِيهِ مَقْبُولًا، فَإِنِ ادَّعَى الْمُوصَى لَهُ أَكْثَرَ مِنْهُ أَحْلَفَهُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا لَا تَخْتَصُّ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي الشَّرْعِ، وَلَا فِي العرف بمقدار معلوم، ولا لاستعمالها في القليل وَالْكَثِيرِ حَدٌّ، لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَيَكُونُ كَثِيرًا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ.
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ مِنَ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِهَا.

(8/205)


وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْوَصَايَا لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهُ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ مَعَ الْجَهْلِ بِهَا. وَقَدْ أَوْصَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِهِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَحُكِيَ عن ابن مسعود وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وأحمد بن حنبل أنه لَهُ سُدُسَ الْمَالِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: يُدْفَعُ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِثْلُ نَصِيبِ أَقَلِّ الْوَرَثَةِ نَصِيبًا، مَا لَمْ يُجَاوِزِ السُّدُسَ، فَإِنْ جَاوَزَهُ أُعْطِيَ السُّدُسَ.
وَقَالَ أبو يوسف، ومحمد: يُعْطَى نصيب أقلهم مثل نَصِيبًا مَا لَمْ يُجَاوِزِ الثُّلُثَ، فَإِنْ جَاوَزَهُ، أعطي الثلث.
وقال أبو ثور. أعطيته سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّهْمُ اسْمٌ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ، لانطلاقه على القليل والكثير، كالحظ والنصيب، فيرجع إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض لرجل أوصى له سهما سُدُسًا.
قِيلَ: هِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، يُحْتَمَلُ أن تكون البينة قامت بالسدس واعترف به الورثة.
وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ قبل منهم ما بينوه، من قليل أو كثير.
فإن نوزعوا، أحلفوا.
فإن لم يبينوا لم يخل حَالُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ، أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بيان: رَجَعَ إِلَى بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ. فَإِنْ نُوزِعَ، أُحْلِفَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُوصَى لَهُ بيان وَقَفَ الثُّلُثُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ بَيَانِ أَحَدِهِمَا، وَتَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ، فَأَبَوْا أَنْ يُبَيِّنُوهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ من اختلاف قوليه فيمن أقر بمجمل وامتنع أَنْ يُبَيِّنَ.
أَحَدُهُمَا: يُحْبَسُ الْوَارِثُ حَتَّى يُبَيِّنَ.
وَالثَّانِي: يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِهِ ولآخر بربعه فلم تجز الْوَرَثَةُ قُسِّمَ الثُّلُثُ عَلَى الْحِصَصِ، وَإِنْ أَجَازُوا قُسِمَ الْمَالُ عَلَى ثَلَاثَةَ

(8/206)


عَشَرَ جُزْءًا لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ حَتَّى يَكُونُوا سَوَاءً فِي الْعَوْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِهِ، وَلِآخَرَ بربعه.
فقد عالت المسألة على كل ماله فلا يخلوا حاله وَرَثَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ إِمَّا أَنْ يُجِيزُوا جميعا، أو لا يجيزوا جميعا، أو يجيز بعضهم، ويرد بعضهم.
فإن أجازوا جميعا: قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، وَأَصْلُهَا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، لِاجْتِمَاعِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَتَعُولُ بِسَهْمٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ.
وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ. وَكَانَ النَّقْصُ بِسَهْمِ الْعَوْلِ دَاخِلًا عَلَى جَمِيعِهِمْ، كَالْمَوَارِيثِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لم يخالف أبو حنيفة ولا غيره فيه والله أعلم.

فَصْلٌ:
وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا بِكُلِّ الْمَالِ رَجَعَتْ إِلَى الثُّلُثِ، وَكَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، كَمَا اقْتَسَمُوا كُلَّ الْمَالِ مَعَ الْإِجَازَةِ.
فَيَكُونُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وأبو يوسف، ومحمد، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: أَرُدُّ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ النِّصْفِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لِيَسْتَوِيَ فِي الْوَصِيَّةِ صَاحِبُ الثُّلُثِ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ على أحد عشر سهما. لصاحب النِّصْفِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزيادة على الثلث، لاستحقاق الورثة لها، فيبطل حُكْمُهَا وَصَارَ كَمَنْ وَصَّى بِمَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ، تمضي الوصية في ماله، وَتُرَدُّ فِي مَالِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ على الثلث تَضَمَّنَتْ تَقْدِيرًا وَتَفْضِيلًا، فَلَمَّا بَطَلَ التَّقْدِيرُ، بَطَلَ التفصيل.
وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الزِّيَادَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ كَالتَّقْدِيرِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ تَفْضِيلَهُمْ فِي كُلِّ الْمَالِ، قَصَدَ تَفْضِيلَهُمْ فِي كل جزء منه قِيَاسًا عَلَى الْغُرَمَاءِ. وَلِأَنَّهُمْ تَفَاضَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِي الْعَطِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَالَ عَلَى التَّفَاضُلِ عِنْدَ الْكَمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَأْخُذُوهُ عَلَى التفاضل عند العجز قياسا على صاحب الثلث والربع، وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ جُعِلَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاضُلِ، لَزِمَ عِنْدَ ضِيقِ الْمَالِ، أَنْ يَتَقَاسَمَاهُ عَلَى التَّفَاضُلِ كَالْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ كانت الوصية بالنصف والثلث مالا والرد مقدر كَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ

(8/207)


هي ثلث ماله، ولعمرو بألف وخمس مائة، هِيَ نِصْفُ مَالِهِ، لَتَفَاضَلَا مَعَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ، فوجب إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ مُطْلَقًا أَنْ يَتَفَاضَلَا مَعَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ.
وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا تَفَاضَلَا فِيهِ مع التقدير يتفاضلان فِيهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ كَالْإِجَازَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ الْإِجَازَةِ تَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ الرد كالمقدر.
وأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ لا يملكها فصارت في حق غيره: فهو أن الرد وإن استحق فليس بمستحق فِي وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ عَلَى الْوَرَثَةِ انْصِرَافُ الثُّلُثِ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا عَلَى اسْتِوَاءٍ، أو تفاضل فيطل حقهم فيه، ويرجع إلى قصد الموصل فِيهِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ قَدْ تَضَمَّنَتْ تَقْدِيرًا وَتَفْضِيلًا، فَيُقَالُ: لَيْسَ بُطْلَانُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ النصف يعد الثُّلُثِ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ وَلَوْ لَزِمَ مَا قَالُوا، لَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ النِّصْفِ بِأَسْرِهَا. فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ بِالرَّدِّ إِلَى الثُّلُثِ، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ التَّفْضِيلِ بِالرَّدِّ إِلَى الثُّلُثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِبَعْضِهِمْ وَرَدُّوهَا لِبَعْضِهِمْ مِثْلَ أَنْ يُجِيزُوا صَاحِبَ الثُّلُثِ وَيَرُدُّوا صَاحِبَ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ، فَتُقَسَّمُ الْوَصَايَا مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَنْقَسِمُ ثلاثة عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَيُعْطَى صَاحِبُ النِّصْفِ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ ثلاثة مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ. وَيُعْطَى صَاحِبُ الرُّبُعِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الثُّلُثِ فَتَكُونُ ثَلَاثَةً مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ.
وَأَمَّا صَاحِبُ الثُّلُثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ تُعْطِيهِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ، مَعَ دُخُولِ الْعَوْلِ عَلَيْهِ، كَالَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ، لَوْ وَقَعَتِ الْإِجَازَةُ لِجَمِيعِهِمْ فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَيَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَأْخُذُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ. لأنه إنما أخذ الثُّلُثَ عَائِلًا مَعَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ لِجَمِيعِهِمْ، لِضِيقِ المال عن سهامهم. وإذا أجازوا ذلك لبعضهم، اتسع المال لتكمل سَهْمِ مَنْ أُجِيزَ لَهُ مِنْهُمْ.
فَعَلَى هَذَا يأخذ ثلاثة عشر من تسعة عشر من تسعة وثلاثين، ثم على هذا القياس. ولو أُجِيزَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَهُ، أَوْ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ وَحْدَهُ، أَوْ لَهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ صَاحِبِ الثلث.
فصل:
ولو أوصى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَأَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ لَهُمَا كَانَ الْمَالُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا على أربعة أسهم، لأنه مال وثلث، يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَثْلَاثٍ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ.
وَقَالَ دَاوُدُ يَكُونُ لصاحب المال ثلثا المال، ولصاحب الثلث جميع ثلث المال.

(8/208)


قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالثُّلُثِ بَعْدَ الْكُلِّ، كَانَ رُجُوعًا عَنْ ثُلُثِ الْكُلِّ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي إِبْطَالِ الْعَوْلِ.
وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ.
فَلَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ:
كَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ. لِصَاحِبِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نصفين، إِبْطَالًا لِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ الرَّدِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ.
فَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَرَدُّوا صَاحِبَ الْكُلِّ، كَانَ لِصَاحِبِ الْكُلِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ سهما.
وأما صَاحِبُ الثُّلُثِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكْمُلُ لَهُ سَهْمُهُ مَعَ الْعَوْلِ. فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، وَيَبْقَى مِنْهَا بعد الوصيتين ستة أسهم ترجع على الوارث.
والوجه الثاني: يكون له الثلث مع غَيْرِ عَوْلٍ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ خَمْسَةٌ تَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ.
فَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ، وَرَدُّوا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ: أَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ سَهْمًا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ فَإِنْ أُعِيلَ سَهْمُ صَاحِبِ الْكُلِّ مَعَ الإجازة له أخذ تسعة أسهم، ويبقى بعد الوصيتين سهمان للوارث. فإن أكمل سَهْمُهُ مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ، أَخَذَ جَمِيعَ الْبَاقِي وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، وَهُوَ دُونُ الْكُلِّ بِسَهْمٍ زَاحَمَهُ فِيهِ صَاحِبُ الثُّلُثِ، وَلَمْ يَبْقَ للوارث شيء وبالله التوفيق.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِغُلَامِهِ لِرَجُلٍ وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَبِدَارِهِ لِآخَرَ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا وَبِخَمْسِمِائَةٍ لِآخَرَ والثلث ألف دَخَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَوْلُ نِصْفٍ وكان للذي لَهُ الْغُلَامُ نِصْفُهُ وَلِلَّذِي لَهُ الدَّارُ نِصْفُهَا وللذي له خمسمائة نِصْفُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْوَصَايَا، فَلِلْوَرَثَةِ حَالَتَانِ:
حَالَةٌ يُجِيزُونَ، وَحَالَةٌ يَرُدُّونَ.
فَإِنْ رَدُّوا: قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا، بِالْحِصَصِ، وَتَسْتَوِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ بِالْمُعَيَّنِ وَالْمُقَدَّرِ.
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُعَيَّنِ، مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمُقَدَّرِ، اسْتِدْلَالًا بأن القدر يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ فَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ فِيهَا زَالَ تَعَلُّقُهَا بِالذِّمَّةِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّ مَحَلَّ

(8/209)


الْوَصَايَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا أَوِ اتَّسَعَ لَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ الْمُعَيَّنُ وَالْمُقَدَّرُ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ مَعَ اتِّسَاعِهِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُقَدَّرِ أَثَبَتُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بالمعين، ولأن الْمُعَيَّنَ إِنْ تَلِفَ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَالْمُقَدَّرُ إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ: لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ اسْتِوَاءُ الْمُعَيَّنِ، وَالْمُقَدَّرِ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهُمَا: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَجْزُ الثُّلُثِ دَاخَلَا عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا بِالْحِصَصِ. فَإِذَا أَوْصَى بعبده لرجل، وقيمته خمس مائة دِرْهَمٍ، وَبِدَارِهِ لِآخَرَ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبِخَمْسِمِائَةٍ لآخر، فوصاياه الثَّلَاثَةِ كُلُّهَا تَكُونُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ. فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَيْنِ فَصَاعِدًا، فَلَا عَجْزَ، وَهِيَ مُمْضَاةٌ.
وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَدْ عَجَزَ الثلث عن نصفها، فوجب أن يدخل القول عَلَى جَمِيعِهَا، وَيَأْخُذَ كُلُّ مُوصًى لَهُ بِشَيْءٍ نصفه، فيعطي الموصي الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ نَصْفَهُ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ نِصْفَهَا وذلك خمسمائة. وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ نِصْفَهَا وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. صَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة تَسْقُطُ الْوَصِيَّةُ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْمُقَدَّرَةِ، وَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَالدَّارِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَيْ وَصِيَّتِهِ لِدُخُولِ الْعَجْزِ بِالثُّلُثِ عَلَيْهِمَا. فَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ ربع الوصايا الثلاث. فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ رُبُعَ مَا جُعِلَ لَهُ.
وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَيُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا كُلَّهَا مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهَا، وَدُخُولِ الْعَجْزِ بِالنِّصْفِ عَلَيْهَا فَفِي إِجَازَتِهِمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِجَازَتَهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِالْمَنْعِ مَالِكِينَ لِمَا مَنَعُوهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِالْإِجَازَةِ مُعْطِينَ لِمَا أَجَازُوهُ.
فَعَلَى هَذَا: قَدْ مَلَكَ أَهْلُ الْوَصَايَا نِصْفَهَا بالوصية لاحتمال الثلث لها ولا يفتقر تمليكهم لَهَا إِلَى قَبْضٍ. وَنِصْفُهَا بِالْعَطِيَّةِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عنها ولا يتم ملكهم إلا بقبض.
القول الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ بِالْوَصِيَّةِ دُونَ الْعَطِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِالْخِيَارِ فِي عُقُودِ الميت لا يكون الورثة بالإمضاء لها عاقدين كَالْمُشْتَرِي سِلْعَةً إِذَا وَجَدَ وَارِثُهُ بِهَا عَيْبًا فَأَمْضَى الشِّرَاءَ وَلَمْ يَفْسَخْهُ: كَانَ تَنْفِيذًا وَلَمْ يَكُنْ عَقْدًا، فَكَذَلِكَ خِيَارُهُ فِي إِجَازَةِ الْوَصِيَّةِ.

(8/210)


وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُمْ رَدَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا أَجَازُوهُ سَقَطَتْ حقوقهم منه، فصار الثلث وما زادوا عَلَيْهِ سَوَاءً فِي لُزُومِهِ لَهُمْ.
فَإِذَا اسْتَوَى الْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ مَعَ اللُّزُومِ: اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ وَصِيَّةً لَا عَطِيَّةً. فَعَلَى هَذَا: يَلْزَمُهُمْ نِصْفُ الْوَصَايَا بِالْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إِجَازَةٍ لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا. وَنِصْفُهَا بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ يُعْتَبَرُ، وَلَا رُجُوعَ يَسُوغُ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ: فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها، لِأَنَّ تِلْكَ نَاجِزَةٌ، وَهَذِهِ مَوْقُوفَةٌ، فَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ عَطَايَا الْمَرَضِ قُدِّمَ الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ. وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْوَصَايَا: لَمْ يُقَدَّمِ الْأَسْبَقُ، لِأَنَّ عَطَايَا الْمَرَضِ تُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ الْمُتَرَتِّبِ، فَثَبَتَ حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْوَصَايَا كُلُّهَا تُمَلَّكُ بِالْمَوْتِ فَاسْتَوَى فِيهَا حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ إِلَّا أنْ رتبها الموصي فيمضي عَلَى تَرْتِيبِهِ مَا لَمْ يَتَخَلَّلِ الْوَصَايَا عِتْقٌ. فَإِنْ تَخَلَّلَهَا عِتْقٌ. فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِي كفارة أو نذر قدم عَلَى وَصَايَا التَّطَوُّعِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا: فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا لِقُوَّتِهِ بِالسِّرَايَةِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْعِتْقَ وَالْوَصَايَا كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي مُزَاحَمَةِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا تَطَوُّعٌ. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ ومن الفقهاء أبو ثور.
فصل:
ولو أَوْصَى رَجُلٌ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدَ زَيْدٍ بِأَلْفِ درهم وأن يعتق عليه فاشتراه الموصى بخمس مائة، وأعتقه عنه، والبائع غير عالم فقد اختلف الناس في الخمس مائة الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأَلْفِ: فَحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَجَعَلَهَا وَصِيَّةً لَهُ.
فحكي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَجَعَلَهَا تَرِكَةً.
وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي الْعِتْقِ، وَجَعَلَهَا وَصِيَّةً له، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُنْظَرُ قِيمَةَ عَبْدِ زَيْدٍ الْمُوصَى لَهُ بِشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي أَلْفًا فَلَيْسَ فِيهَا وَصِيَّةً فَيَعُودُ الْبَاقِي مِنْ ثمنه إلى الورثة. وإن كان يساوي خمس مائة عَادَ الْبَاقِي إِلَى زَيْدٍ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ له. وإن كان يساوي سبع مائة. فالوصية منها بثلاث مائة دِرْهَمٍ، فَتُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَتُرَدُّ الْمِائَتَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ مِيرَاثًا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ أَمَةٍ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ، أُعْتِقَتْ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ، وَلَا النكاح. ووجب الرجوع عليها بقيمتها ولا يعود ميراثا. لأن عدم الشرط منع مِنْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، وَنُفُوذَ الْعِتْقِ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهِ.
فَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يُسْتَحَقَّ اسْتِرْجَاعُ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْوَصِيَّةِ قَدْ عُدِمَ بِتَزْوِيجِهَا.
وَإِنْ طُلِّقَتْ: فَإِنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بألف درهم على أن لا تتزوج وأعطيت الْأَلْفَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتِ اسْتُرْجِعَتِ الْأَلْفُ مِنْهَا بِخِلَافِ الْعِتْقِ. لِأَنَّ اسْتِرْجَاعَ الْمَالِ مُمْكِنٌ، وَاسْتِرْجَاعَ الْعِتْقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.

(8/211)


فَرْعٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ، فَاشْتَرَى الْوَصِيُّ أَبَا نَفْسِهِ فَأَعْتَقَهُ عَنِ الْمُوصِي: أَجْزَأَ سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا، أَوْ وَاجِبًا.
وَلَوِ اشْتَرَى أَبَا الْمُوصِي فَأَعْتَقَهُ: فَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ لَمْ يُجْزِئْ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا: أَجْزَأَ.

فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، وَقِيمَتُهُ مِائَةُ درهم، وبسدس ماله لآخر، وماله خمس مائة دِرْهَمٍ. فَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِيهَا قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ عَلَى سَبْعَةِ أسهم. لأن السدس إذا انضم إلى الكل صار سَبْعَةً يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ سِتَّةَ أَسْبَاعِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَبْعَةً ثُمَّ يَعُودُ صاحب السدس إلى الأربع مائة الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمَالِ فَيَأْخُذُ سُدُسَهَا، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، إِذَا ضُمَّتْ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، صَارَ الْجَمِيعُ مائة درهم وستة وستون دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ. وَهِيَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ من غير زيادة ولا نقصان.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ يَخْتَصُّ بها الموصى له بالعبد لأنه لم يوصى بِهِ لِغَيْرِهِ، وَالسُّدُسُ الْبَاقِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهُ مُوصًى بِهِ لَهُمَا، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ مِنْهَا أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَهْمٌ، ثُمَّ يعود صاحب السدس فيأخذ سدس الأربع مائة الباقية. وذلك تمام ثلث جميع المال.
ولكل من القولين وجه. والأول أشبه.
فصل:
ولو أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِفَرَسٍ قِيمَتُهُ سِوَى الْفَرَسِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَالْوَصِيَّتَانِ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ بِمِثْلِ ثُلُثَيْهِ، لِأَنَّ الْمَالَ ثَلَاثَةُ آلَافِ درهم والوصيتان بفرس قيمته ألف درهم، وبثلث الألفين وهو دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ.
فَإِذَا أَسْقَطَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ، عِنْدَ رَدِّ الْوَرَثَةِ، سقط خمسا الوصيتين، ورجعت إلى ثلاثة أخماسه، لِأَنَّ الْأَلْفَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا.
ثُمَّ فِي قسمة ذَلِكَ بَيْنَ صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالثُّلُثِ قَوْلَانِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَوْلَى مِنْهُمَا: إِنَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْفَرَسِ مَقْسُومَةٌ بَيْنَ صاحب الثلث، وصاحب الفرس عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ فَيَصِيرُ الْفَرَسُ مَقْسُومًا عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا، مِنْهَا لِصَاحِبِ الْفَرَسِ: تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ وَنِصْفُ عُشْرِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ أربع مائة وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ عُشْرُهُ وَنِصْفُ عُشْرِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ ثُلُثَ ثَلَاثَةِ أخماس الألفين، وذلك أربع مائة درهم فيصير مع صاحب الثلث خمس مائة وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْفَرَسِ وَالْمَالِ.

(8/212)


ومع صاحب الفرس أربع مائة وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْفَرَسِ، فَتَصِيرُ الْوَصِيَّتَانِ أَلْفَ درهم هو ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الفرس مقسوم بين صاحب الفرس، وصاحب الثلث، عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ، وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، لِأَنَّ ثُلُثَيْ ذَلِكَ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ، وَالثُّلُثَ مُوصًى بِهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَصَاحِبِ الْفَرَسِ، فَصَارَ بَيْنَهُمَا، فَيَصِيرُ الْفَرَسُ مقسوما على عشرة أسهم منها لصاحب الفرس أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ، أربع مائة، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ وَهُمَا عَشَرَةٌ وَقِيمَةُ ذَلِكَ مائتا درهم. ثم يأخذ صاحب الفرس حقه من ألفين، وذلك أربع مائة درهم. فصار مع صاحب الفرس الثلث ست مائة درهم من الفرس. ومع صاحب الفرس أربع مائة من الفرس وَهُمَا جَمِيعًا أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُلُثُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أبي حنيفة. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ) أَوْصَى لِوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ فَلَمْ يُجِيزُوا فَلِلْأَجْنَبِيِّ النصف ويسقط الْوَارِثِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْتَرِضُوا فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَيِّتُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ بِالْوَصِيَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَعْدٍ: " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " فَإِنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، لَزِمَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَرَدِّهِمْ.
والثاني: في اعتراض الورثة الوصية لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَةَ لِوَارِثٍ ".
فَإِنْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ مُخَرَّجٌ مِنْ كَلَامٍ لَهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، لَا تَصِحُّ وَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا، وَلِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِنَسْخِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ. فعلى هذا:
لو أوصى لوارث بثلث ماله، ولأجنبي بثلث ماله، فقد استحق الورثة المنع في الْوَجْهَيْنِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لِوَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ، وَمِنَ الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ وَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ.
وإذا كان كذلك: فللورثة أربعة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُجِيزُوا الْأَمْرَيْنِ، الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَالزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، فَتَمْضِي الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِالثُّلُثَيْنِ.

(8/213)


وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، وَيَمْنَعُوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ فَيَأْخُذُ الْأَجْنَبِيُّ الثُّلُثَ كَامِلًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ، وَكَمُلَتْ وَصِيَّتُهُ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ:
أَنْ يَرُدُّوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، وَيُجِيزُوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الأجنبي والوارث نصفين، ويأخذ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسًا، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيمَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ:
أَنْ يَرُدُّوا الزِّيَادَةَ على الثلث، ويمضوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، فَيَكُونُ لِلْأَجْنَبِيِّ السُّدُسُ لِأَنَّ مَا زَادَ مَرْدُودٌ فِي حَقِّهِمَا مَعًا فَصَارَ الثُّلُثُ لهما، ثم منع الوارث منه فصار سَهْمُهُ مِيرَاثًا وَأَخَذَ الْأَجْنَبِيُّ سَهْمَهُ مِنْهُ لَوْ كان الوارث له مشاركا.
فلو كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِأَجْنَبِيٍّ وَوَارِثِينَ، وَلَمْ يُجِيزُوا:
كَانَ للأجنبي ثلث الثلث لأنه أحد ثلاثة أشركوا فِي الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيَّيْنِ وَوَارِثٍ.
كَانَ لهما ثلث الثُّلُثِ.
وَالِاعْتِبَارُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا، عِنْدَ الْمَوْتِ لَا وقت الوصية.
فعلى هذا: لو كان وَارِثًا ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ: صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا: رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَلَوْ أَوْصَى لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا: بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ.
وَلَوْ أَوْصَى لِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
وَلَا تَصِحُّ إِجَازَةُ الْوَرَثَةِ إِلَّا مِنْ بَالِغٍ، عَاقِلٍ، جائز الأمر.
وإن كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ: لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْإِجَازَةُ، وَلَا مِنَ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ، وَلَا مِنْ وَلِيِّهِ لِمَا فِي الْإِجَازَةِ عَلَيْهِ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّهِ، وَلَا ضمان على الولي المجيز، ما لم يقبض.
فإن أقبض؛ صار ضامنا لما أَجَازَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، ثُمَّ قَالُوا كُنَّا نَظُنُّ أن الزِّيَادَةَ يَسِيرَةً، أَوْ كُنَّا نَظُنُّ مَالَهُ كَثِيرًا، أَوْ كُنَّا لَا نَرَى عَلَيْهِ دَيْنًا: كَانَ القول قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْإِجَازَةَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ، بَطَلَتْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ جَهِلُوا بَعْضَهَا، فَبَطَلَتْ.
وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ، قِيلَ لَهُمْ قَدْ لزمكم من إمضاء الزيادة القدر كنتم تظنوه يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ لِأَنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُوهُ، وَبَطَلَتِ الزيادة فيما جهلتموه.

(8/214)


فَإِنِ اخْتَلَفُوا مَعَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي عَلِمُوهُ: كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَبَاهُمَا وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، حَلَفَ الْمُكَذِّبُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي حِصَّتِهِ.
وَفِيمَا يَلْزَمُ الْمُصَدِّقَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ثُلُثُ حِصَّتِهِ، وَهُوَ سدس جميع المال.
والوجه الثاني: يلزمه سدس جَمِيعِ الْمَالِ مِنْ حِصَّتِهِ.
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِقْرَارِ أَحَدِ الِابْنَيْنِ بِدَيْنٍ.
فَلَوْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى جَمِيعِ الثُّلُثِ، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ عَلَى السُّدُسِ.
لَزِمَ الْمُصَدِّقَ عَلَى السدس نصف السدس، وفيما يلزم الْمُصَدِّقَ عَلَى الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الثُّلُثِ، وَهُوَ السُّدُسُ.
وَالثَّانِي: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ، وَهُوَ الربع. والله أعلم بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وتجوز الْوَصِيَّةُ لِمَا فِي الْبَطْنِ وَبِمَا فِي الْبَطْنِ إِذَا كَانَ يَخْرُجُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فإن خرجوا عددا ذكرانا وَإِنَاثًا فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ سَوَاءٌ وَهُمْ لِمَنْ أُوصى بِهِمْ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ على فصلين:
أحدهما: الوصية بالحمل.
والثاني: الوصية للحمل.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ فَجَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ بِالْإِرْثِ، وَهُوَ أَضْيَقُ، مَلَكَ بِالْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ.
وَلَوْ أَقَرَّ لِلْحَمْلِ إِقْرَارًا مُطْلَقًا بَطَلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ أحمل للجهالة له مِنَ الْإِقْرَارِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ صَحَّ. وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ لَمْ يَصِحَّ.
فَإِذَا قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِأَلْفٍ نُظِرَ حَالُهَا إِذَا وَلَدَتْ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ تَكَلَّمَ بِالْوَصِيَّةِ لَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ لِعِلْمِنَا أَنَّ الْحَمْلَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِحُدُوثِهِ بَعْدَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وقت تكلمه بِهَا.
وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فإن كانت

(8/215)


ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَطَأَهَا فيحدث ذلك منه: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِإِمْكَانِ حُدُوثِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّكِّ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يطأ، فالوصية صحيحة لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَقَدُّمُهُ وَالْحَمْلُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الظَّاهِرِ فِي اللُّحُوقِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ فَسَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ حُرًّا، أَوْ مَمْلُوكًا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَمْلُوكِ جَائِزَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا فِي الْمَمْلُوكِ لِسَيِّدِهِ، وَفِي الْحُرِّ لَهُ، دُونَ غَيْرِهِ.
ثُمَّ إِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ.
وَإِنْ وَضَعَتْ ذكرا وأثنى كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَا مِيرَاثَ، إِلَّا أَنْ يُفَضِّلَ الْمُوصِي الذَّكَرَ عَلَى الأنثى. لو على هذه فيحمل على تفضيله.
فلو قال: إن وَلَدَتْ غُلَامًا فَلَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَلَهَا مِائَةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا: اسْتَحَقَّ أَلْفًا، وَإِنْ ولدت جارية اسْتَحَقَّ الْغُلَامُ أَلْفًا وَالْجَارِيَةُ مِائَةً.
وَإِنْ وَلَدَتْ خُنْثَى دُفِعَ إِلَيْهِ مِائَةٌ لِأَنَّهَا يَقِينٌ، وَوَقَفَ تَمَامُ الْأَلْفِ حَتَّى يَسْتَبِينَ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَلَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ جَارِيَةٌ فَلَهَا مِائَةٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، كَانَ لِلْغُلَامِ أَلْفٌ وَلِلْجَارِيَةِ مائة.
فلو ولدت وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ، أَوْ جَارِيَتَيْنِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَفِيهَا ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا الْأَلْفَ إِلَى أَيِّ الْغُلَامَيْنِ شاءوا والمائة إلى الجاريتين شاءوا. لأنها لأحدهما فلم تدفع إلى أحدهما، وَرُجِعَ فِيهَا إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ، كَمَا لَوْ أوصى له بِأَحَدِ عَبْدَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَشْتَرِكُ الْغُلَامَانِ فِي الْأَلْفِ، وَالْجَارِيَتَانِ فِي الْمِائَةِ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِغُلَامٍ وَجَارِيَةٍ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْغُلَامَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَشَرَّكَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُرْجَعْ فِيهِ إِلَى خِيَارِ الْوَارِثِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ اللَّذَيْنِ يملكهما الوارث، فجائز أَنْ يُرْجَعَ إِلَى خِيَارِهِ فِيهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَلْفَ مَوْقُوفَةٌ بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ، وَالْمِائَةَ مَوْقُوفَةٌ بين الجاريتين حتى يصطلحا عليهما بعد البلوغ، لأن الوصية لواحد فلم يشرك فيها بين اثنين وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ فِيهَا خِيَارٌ، فَلَزِمَ فِيهَا الْوَقْفُ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَلَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ جَارِيَةٌ فَلَهَا مِائَةٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً.
فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إن كان في بطنك غلام فله الألف، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَقَدْ جَعَلَ كَوْنَ الْحَمْلِ غُلَامًا شَرْطًا فِي الْحَمْلِ وَالْوَصِيَّةِ مَعًا، فَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ كَامِلًا فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ.

(8/216)


وَإِذَا قَالَ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ، فَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْحَمْلِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي الْوَصِيَّةِ فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ غُلَامًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بطنك فإن وَضَعَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَلَا وَصِيَّةَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قال: إن كان حملك ذكرا فكان ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلَا وَصِيَّةَ فَلَوْ قَالَ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامًا فَلَهُ أَلْفٌ، فلو ولدت غلامين ففي الوصية وجهان أحدهما: باطل كَمَا لَوْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّ حَمْلِهَا غُلَامًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُلَامٌ فَاشْتَرَكَا فِي الصِّفَةِ، وَلَمْ تَضُرَّ الزِّيَادَةُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ سريج من قبل أنها تَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ فِي دَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى أَحَدِهِمَا.
وَالثَّانِي: يَشْتَرِكَانِ جَمِيعًا فِيهَا.
وَالثَّالِثُ: تُوقَفُ الْأَلِفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ هذه المرأة من زجها، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ نَفَاهُ زَوْجُهَا بِاللِّعَانِ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ نَفَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ مِنْهُ، إِنَّمَا اخْتَصَّ بِنَفْيِ النَّسَبِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَوْلَادِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ، وَلَوْ قَذَفَهَا بِهِ قَاذِفٌ حد.
ولو عاد فاعترف بنسبه لَحِقَ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ذَلِكَ الزَّوْجُ ثَلَاثًا وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ ستة أشهر من حين الوصية، فلا وصية لها وهو لَيْسَ مِنْهُ، وَبِخِلَافِ الْمُلَاعِنِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا وَضَعَتِ الْمُوصَى بحملها وَلَدًا مَيِّتًا، فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ، وَلَوْ وَضَعَتْهُ حَيًّا، فَمَاتَ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَكَانَتْ لِوَارِثِ الْحَمَلِ، كَالْمِيرَاثِ.
وَلَوْ ضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، كَانَ فِيهِ عَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الوصية بالحمل فجائزة، كجوازها بِالْمَجْهُولِ.
فَإِذَا أَوْصَى بِحَمْلِ جَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ، فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، صحت الوصية به، سواء وضعته غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً.

(8/217)


وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلَا وصية به، لِعَدَمِهِ حِينَ الْوَصِيَّةِ، وَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا ظَنَّهُ حَمْلًا فَلَمْ يَكُنْ حَمْلًا.
وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ: فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ يُمْكِنُ أَنْ يَطَأَ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَلَا وَصِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُهُ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ بِمَنْ تَحْمِلُهُ جَارِيَتِي هَذِهِ. فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ، مِنَ اخْتِلَافِ الوجهين في الوصية هل يراعى بها وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَمْ لَا؟ وَلَكِنْ لَوْ أَوْصَى لما تحمله هذه المرأة لم يجزها هنا قولا واحدا، لأن المالك هاهنا معدوم، وعدم الملك أعظم فِي التَّمْلِيكِ مِنْ عَدَمِ الْمَمْلُوكِ.
فَإِذَا قِيلَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ فَلَا مَسْأَلَةَ. وَإِذَا قِيلَ جَائِزَةٌ، نظر: فإن وضعته وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَوْصَى بِوَلَدٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ صَحَّتْ فيه الوصية لحدوثه بعد الوصية.
فإن وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ يَطَأُ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهُ فَصَحَّتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ.
وَإِنْ لم تكن ذات زوج يطأ فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُهُ فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْوَصِيَّةُ.
فَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ لِمَنْ تَلِدُهُ جَارِيَتِي فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُرَاعَى وُجُودُ الْحَمْلِ حال الوصية أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: أنه يراعى وجوده حال الوصية، وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَوْصَيْتُ بِحَمْلِ جَارِيَتِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهُ لا يراعى وجوده، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ وَلَدَتْهُ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ ذكرا فهي وَصِيَّةٌ لِزَيْدٍ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِعَمْرٍو.
جَازَ وَكَانَ عَلَى مَا قَالَ: إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا ذَكَرًا كَانَ لِزَيْدٍ. وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً أُنْثَى كَانَتْ لِعَمْرٍو.
وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وأنثى. كان لكل واحد منهما ما جعل له.
ولو وَلَدَتْ خُنْثَى مُشْكِلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَكَرٍ فَيَسْتَحِقُّهُ زَيْدٌ. وَلَا بِأُنْثَى فَيَسْتَحِقُّهَا عَمْرٌو. وَيَكُونُ موروثا.

(8/218)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَإِنْ أَشْكَلَ: فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ الْوَرَثَةُ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ مُؤَثِّرٌ في مستحق الوصية لَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِلْوَرَثَةِ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بحمل أمته لرجل، ضرب بَطْنَهَا ضَارِبٌ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الدِّيَةُ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِحَمْلِ نَاقَتِهِ، فَضُرِبَ بَطْنُهَا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَقَصَهَا الضَّرْبُ لِلْوَرَثَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ بَدَلٌ مِنْهُ.
وَمَا فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ لَا بَدَلَ لَهُ مِنْهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَنِينِ الأدمية ديته، وفي جنين البهيمة ما نقص من ثمنها.
فصل:
ولو أوصى بحمل جارية لِحَمْلِ أُخْرَى، فَلَا يَخْلُو حَمْلُهُمَا، مِنْ أَرْبَعَةِ أقسام:
أحدها: أن يكون الحملان موجودين حال الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِمَا، لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ.
فَمَنْ وَلَدَتْهُ الْمُوصَى بِحَمْلِهَا، مِنْ غُلَامٍ أَوْ جَارِيَةٍ، أَوْ هُمَا، فَهُوَ لِمَنْ وَلَدَتْهُ الموصى لحملها من ذكر أو أنثى أو هما بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَمْلَانِ مَعْدُومَيْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِمَا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سنين، فالوصية باطلة، لأنها وصية بِمَعْدُومٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الْمُوصَى بِهِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالْحَمْلُ الْمُوصَى لَهُ مَعْدُومًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ.
فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَوْجُودٍ لِمَعْدُومٍ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أن يكون الحمل الموصى مَعْدُومًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَالْحِمْلُ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لأنها وصية بمعدوم لموجود.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ) أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ أو بثمر بستانه والثلث يحتمله جاز ذلك ".
قال الماوردي: الوصية بمنافع الأعيان جائزة، كالوصية بِالْأَعْيَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا، فأولى أن تصح الوصية بها، وسواء قيدت الْوَصِيَّةُ بِمُدَّةٍ، أَوْ جُعِلَتْ مُؤَبَّدَةً.
وَقَالَ ابْنُ أبي ليلى:

(8/219)


إِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ تَصِحُّ فِيهَا الْإِجَارَةُ: صَحَّتْ. وَإِنْ لَمْ تُقَدَّرْ بِمُدَّةٍ تَصِحُّ فِيهَا الْإِجَارَةُ بَطَلَتْ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى الْإِجَارَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّ الْوَصَايَا تَجُوزُ مَعَ الْجَهَالَةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ من ماله وماله مجهول، بخلاف الإجارة فإنها لَا تَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ.
فَإِذَا صَحَّ جَوَازُهَا مقدرة ومؤبدة فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْوَصِيَّةَ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَبِغَلَّةِ الدَّارِ وَبِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ فله أن يستخدمه وله أن يؤجره.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز لمن أوصى له بخدمة عبده أن يأمره اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَصِيَّةُ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ دُونَ الْإِجَارَةِ.
وَهَذَا خَطَأٌ: لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ كَالْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ. فَلَمَّا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ يجوز له المعارضة عَلَيْهَا لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْوَصِيَّةِ كَانَ الْمُوصَى له بالخدمة أيضا يجوز له المعارضة عليها لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْوَصِيَّةِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فالوصية بخدمته ضربان: إما مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةٍ وَمُؤَبَّدَةٌ.
فَإِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِي سَنَةً، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لَهُ بِخِدْمَةِ سَنَةٍ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ مَنْفَعَةُ السَّنَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ اعتبارها وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ فِي زَمَانِهِ كُلِّهِ، فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِينَارٍ، قُوِّمَ وَهُوَ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ سَنَةً، فَإِذَا قِيلَ ثَمَانُونَ دِينَارًا فَالْوَصِيَّةُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الثُّلُثِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُوصِي دَيْنٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي أَرَاهُ مَذْهَبًا - أَنَّهُ يُقَوَّمُ خِدْمَةُ مِثْلِهِ سَنَةً، فَتُعْتَبَرُ مِنَ الثلث، ولا تقوم الرقبة لأن المنافع الممتلكة في العقود والغصوب هِيَ الْمُقَوَّمَةُ دُونَ الْأَعْيَانِ. وَكَذَلِكَ فِي الْوَصَايَا.
فَإِذَا عُلِمَ الْقَدْرُ الَّذِي تَقَوَّمَتْ بِهِ خِدْمَةُ السَّنَةِ إِمَّا مِنَ الْعَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَوْ مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي نُظِرَ:
فإنه خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِخِدْمَةِ جَمِيعِ السَّنَةِ، وَإِنْ خَرَجَ نِصْفَهُ مِنَ الثُّلُثِ، رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى نِصْفِهَا، وَاسْتَخْدَمَهُ نِصْفَ السَّنَةِ. وَإِنْ خَرَجَ ثُلُثُهُ مِنَ الثُّلُثِ رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى ثُلُثِهَا، وَاسْتَخْدَمَهُ ثُلُثَ السَّنَةِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ، اسْتَحَقَّ اسْتِخْدَامَهُ جَمِيعَ السَّنَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ، أَمْ لَا؟ .

(8/220)


فَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ إِذَا أَمْكَنَ الْمُوصَى لَهُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ سَنَةً، أمكن الورثة في تلك السنة أن يتصرفوا في التركة بِمَا يُقَابِلُ مِثْلَ الْعَبْدِ.
فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَ جَمِيعَ الْعَبْدِ سَنَةً مُتَوَالِيَةً حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جميع وصيته.
والورثة يمنعون مِنَ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ، فَإِنْ بَاعُوهُ قَبْلَهَا كَانَ فِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ كَالْعَبْدِ الْمُؤَاجَرِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ وَلَا خَلَّفَ الْمُوصِي سِوَاهُ. فَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ الْمُوصَى لَهُ سَنَةً ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ يَسْتَخْدِمَهُ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، وَيُمْنَعُ الْوَرَثَةُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةَ وَصِيَّتِهِ ثُمَّ حِينَئِذٍ يَخْلُصُ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا.
والوجه الثاني: أن يَسْتَخْدِمَ ثُلُثَ الْعَبْدِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَسْتَخْدِمَ الْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةَ وَصِيَّتِهِ من ثلث العبد في ثلاث سنين لأن لا يَخْتَصَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَرَثَةِ مثلاه.
والوجه الثالث: أنه يتهيأ عَلَيْهِ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةُ، فَيَسْتَخْدِمُهُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ سِنَةَ وَصِيَّتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ:
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَصَحُّ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُقَابِلُوا الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلَيِ الْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي اسْتِخْدَامِ جَمِيعِ الْعَبْدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِي ثُلُثِهِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَّصِلٌ وَمُعَجَّلٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مؤجلا أو مفرقا.

فصل:
فإن كانت الوصية بخدمة العبد على التأبيد كأن قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِي أَبَدًا، فالوصية جائزة إذا تحملها الثُّلُثُ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الَّذِي يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الثُّلُثِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ تقوم جَمِيعُ الرَّقَبَةِ فِي الثُّلُثِ، وَإِنِ اخْتَصَّتِ الْوَصِيَّةُ بالمنفعة، كما تقوم رَقَبَةُ الْوَقْفِ فِي الثُّلُثِ وَإِنْ مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ.
فَعَلَى هَذَا: هَلْ يَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ مَالِكًا الرَّقَبَةَ وَإِنْ مُنِعَ مِنْ بِيعَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَمْلِكُهَا لِاخْتِصَاصِ الْوَصِيَّةِ بِمَنَافِعِهَا.
وَالثَّانِي: يَمْلِكُهَا، كَمَا يَمْلِكُ أم ولده، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ بَيْعِهَا لِتَقْوِيمِهَا عَلَيْهِ في الثلث. وهذا قول أبي حامد المروروذي.
وهذا إِذَا قِيلَ إِنَّ الرَّقَبَةَ هِيَ الْمُقَوَّمَةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَوَّمُ مَنَافِعُ الْعَبْدِ فِي الثُّلُثِ دُونِ رَقَبَتِهِ، لِأَنَّ التَّقْوِيمَ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَصِيَّةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ بِالتَّقْوِيمِ إلى غيره، ولأنه لو أوصى بالمنفعة إلى رجل،

(8/221)


وَبِالرَّقَبَةِ لِغَيْرِهِ، لَمْ يُقَوَّمْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ إِلَّا الْمَنْفَعَةُ دُونَ الرَّقَبَةِ. كَذَلِكَ إِذَا اسْتَبْقَى الرَّقَبَةَ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ.
وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: كَمْ قِيمَةُ الْعَبْدِ بِمَنَافِعِهِ فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِينَارٍ. قِيلَ وَكَمْ قِيمَتَهُ مَسْلُوبَ الْمَنَافِعِ فَإِذَا قِيلَ عِشْرُونَ دِينَارًا عُلِمَ أَنَّ قِيمَةَ مَنَافِعِهِ ثَمَانُونَ دِينَارًا.
فَتَكُونُ هِيَ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
فَعَلَى هَذَا: هَلْ يُحْتَسَبُ الْبَاقِي مِنْ قِيمَةِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ عِشْرُونَ دِينَارًا على الورثة أَمْ لَا؟
عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسُبُ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الْمَنْفَعَةُ زَالَ عَنْهُ التَّقْوِيمُ.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَخَرَجَ الْقَدْرُ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ مِنَ الثُّلُثِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ استخدامه أبدا ما دام حَيًّا، وَأَخْذُ جَمِيعِ أَكْسَابِهِ الْمَأْلُوفَةِ.
وَهَلْ يَمْلِكُ مَا كَانَ غَيْرَ مَأْلُوفٍ مِنْهَا كَاللُّقَطَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحَّهُمَا يَمْلِكُهُ.
وَفِي نَفَقَتِهِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الإصطرخي أنها على الموصى له بالمنفعة، لأن المنفعة تختص بالكسب.
والثاني: وقول أبي علي بن أبي هريرة.
أنها على الْوَرَثَةِ لِوُجُوبِهَا بِحَقِّ الْمِلْكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لأن كل واحد من مالكي الرقبة والمنفعة.
ولم يَكْمُلْ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَعَدَلَ بِهَا إلى بيت المال، فإذا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، فَهَلْ تَنْتَقِلُ الْمَنْفَعَةُ إِلَى وَارِثِهِ أَمْ لَا؟ .
عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تنتقل إلى ورثته لتقومها عَلَى الْأَبَدِ فِي حَقِّهِ.
فَعَلَى هَذَا: تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ، مُقَدَّرَةً بِحَيَاةِ الْعَبْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدِ انْقَطَعَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّهُ وَصَّى لَهُ فِي عَيْنِهِ بِالْخِدْمَةِ، لَا لِغَيْرِهِ.
فَعَلَى هَذَا: تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةً، بِحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي.

فَصْلٌ:
وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَا قُوِّمَتْ بِهِ المنافع كلها من الثلث وخرج بعضها مِنْهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا، قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ على ما بيناه: ثمانون

(8/222)


دِينَارًا، وَقَدِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ دِينَارًا، استحق من منافعه النصف، لاحتمال الثلث للنصف.
وَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا، اسْتَحَقَّ من منافعه الربع لاحتمال الثلث للربع.
فعلى هذا: إذا كان هذا الذي احتمله الثلث نِصْفَ الْخِدْمَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَخْدِمُ الْمُوصَى له نصف العبد بأخذ النِّصْفَ مِنْ كَسْبِهِ وَيَسْتَخْدِمُ الْوَرَثَةُ النِّصْفَ الْآخَرَ بأخذ النِّصْفَ الْآخَرِ مِنْ كَسْبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يتهانا عليه الورثة، والموصى له يوما ويوما، أو أسبوعا وَأُسْبُوعًا.
فَأَمَّا النَّفَقَةُ: فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ كَانَتْ عَلَى الْوَرَثَةِ.
وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَى مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ، كَانَتْ بَيْنَ الْمُوصَى له والورثة نصفين لاشتراكهما بالتسوية فِي مَنْفَعَتِهِ، وَلَوْ تَفَاضَلَا فِيهَا لَفُضِّلَ بَيْنَهُمَا بقدرها.
فأما زَكَاةُ الْفِطْرِ: فَلَا تَجِبْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ مَلَكَ جَمِيعَهَا أَوْ بَعْضَهَا وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الْوَرَثَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِتَعَلُّقِهَا بِالرَّقَبَةِ.
وَالثَّانِي: تَسْقُطُ وَلَا تَجِبُ لِأَنَّ مِلْكَهُمْ لَمْ يَكْمُلْ، وَصَارَتْ كَزَكَاةِ الْمُكَاتَبِ والله أعلم.

فصل:
وأما بيع هذا العبد الموصى بخدمته.
فإن أراد الموصى له بخدمته لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ بَيْعُهُ: لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ مَلَكَ جَمِيعَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بَعْضَهَا، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ مَالِكٌ، أَوْ غَيْرُ مَالِكٍ.
وَإِنْ أَرَادَ وَرَثَةُ الْمُوصِي بَيْعَهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَجُوزُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ.
وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا عِتْقُهُ: فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، لَمْ يَجُزْ لِاخْتِصَاصِ حَقِّهِ بِالْمَنْفَعَةِ، سَوَاءٌ قُوِّمَتِ الرَّقَبَةُ فِي حَقِّهِ أَمْ لَا. لِأَنَّ تَقْوِيمَهَا عَلَيْهِ فِي أحد الوجهين لاستحقاقه كل الْمَنْفَعَةِ لَا غَيْرَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ وَرَثَةُ الْمُوصِي فَفِي نُفُوذِ عِتْقِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ أَبُو الحسن بْنُ الْقَطَّانِ: أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُمْ. وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ الرَّقَبَةَ دَاخِلَةً فِي ملك الموصى له.
والوجه الثاني: وهو الأصح. أن عتقهم نافذ وإن لم يملكوا الانتفاع والبيع كالمكاتب.

(8/223)


فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى حَالِهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا.
وَلَيْسَ لِلْمُعْتَقِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِ مَنَافِعِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمُعْتِقِينَ بِخِلَافِ الْعَبْدِ إِذَا أَجَّرَهُ سَيِّدُهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مُدَّةِ إِجَارَتِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِبَدَلِ مَنَافِعِهِ، بَعْدَ عِتْقِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
أَنَّ الْمُعْتِقَ فِي الْإِجَارَةِ هُوَ وَاحِدٌ، وَفِي الوصية اثنين.

فَصْلٌ:
وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ جِنَايَةً، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِذَا اقْتُصَّ مِنْهُ وَكَانَتْ فِي النَّفْسِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي بَاقِيهِ.
وَإِنْ كَانَتْ في طرف أو جرح بطن فِيهَا، فَإِنْ كَانَ بَاقِي الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْقِصَاصِ، كالأنثى وَالذَّكَرِ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا.
وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهُ بَعْدَهَا، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَنَافِعِهِ لِفَوَاتِهَا بِالْقِصَاصِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: جِنَايَةُ خَطَأٍ تُوجِبُ الْأَرْشَ، فَإِذَا وَجَبَ أَرْشُهَا، فَإِنْ فَدَاهُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ، كَانَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ، وَإِنْ فَدَاهُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ، كَانَ الْوَرَثَةُ عَلَى حُقُوقِهِمْ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمْ بِالْأَرْشِ.
وَإِنْ لَمْ يفده واحد منهما، لم يجبر أحدهما عليهما، وَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ الَّتِي يُؤْخَذُ أَرْشُ جِنَايَتِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، لِأَنَّ سَيِّدَهَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ بَيْعِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَالِكُ الرَّقَبَةِ، وَلَا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ.
وَإِذَا كَانَ هذا كذلك نُظِرَ فِي الْأَرْشِ، فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ قِيمَةِ الْعَبْدِ كُلِّهِ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ، وَقَدْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ.
وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ النِّصْفِ مِنْ قِيمَتِهِ، بيع نصفه، ومالك مُشْتَرِيهِ نِصْفَ رَقَبَتِهِ وَنِصْفَ مَنَافِعِهِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالِابْتِيَاعِ نِصْفًا تَامًّا.
فَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مَالِكًا لِكُلِّ مَنَافِعِهِ، صَارَ بَعْدَ الْبَيْعِ مَالِكًا لِنِصْفِهَا وَصَارَ الْمُشْتَرِي وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكَيْنِ فِي مَنَافِعِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ قَدْ مَلَكَ نِصْفَ الْمَنَافِعِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ جَمِيعِهَا صَارَتْ مَنَافِعُ النصف الباقي بين الموصى له وبين الورثة نصفين لخروج النصف المبيع من الحقين، فَتَنْقَسِمُ الْمَنَافِعُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ، فَلَهَا حَالَتَانِ: حَالَةٌ تُوجِبُ الْقَوَدَ، وَحَالَةٌ تُوجِبُ الْأَرْشَ.

(8/224)


فإن وجب الْقَوَدَ، فَالْخِيَارُ فِيهِ لِلْوَرَثَةِ، دُونَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ.
وَإِنِ اقْتَصَّ: كَانَ لَهُ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ، صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ، وَفِي صِحَّةِ عَفْوِهِ عَنِ الْمَالِ وَجْهَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنْ مُسْتَحِقِّ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْأَرْشَ: لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيَ الْمَنَافِعِ أَوْ تَالِفَهَا.
فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُهُ بَاقِيَةً لِاخْتِصَاصِ الْجِنَايَةِ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهِ، كَجَدْعِ أَنِفِهِ، وَجَبِّ ذَكَرِهِ، فَهُوَ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ لأن المنفعة بكمالها لَمْ تُؤَثِّرِ الْجِنَايَةُ فِيهَا، وَإِنَّمَا أَثَّرَتْ فِي رَقَبَتِهِ الَّتِي لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا.
وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ تَالِفَةً كَحُدُوثِ الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ، فَفِي مُسْتَحِقِّ جِنَايَتِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَنَافِعِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لِلْوَرَثَةِ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الرَّقَبَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُقَسَّطَةٌ بَيْنَ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ وَمَالِكِ الرَّقَبَةِ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي تَقْوِيمِ الْمَنْفَعَةِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ عَبْدٌ مِثْلُهُ يَكُونُ مَكَانَهُ، وَعَلَى حُكْمِهِ، فَتَكُونُ رَقَبَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَمَنَافِعُهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ أمة: جاز أن تزوج لاكتساب المهر ويملك الولد، وفي مستحق تزويجها ثلاثة أوجه:
أحدهما: مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَهُ.
وَالثَّانِي: مَالِكُ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ.
وَالثَّالِثُ: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَزْوِيجِهَا، حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ مَعًا، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا حَقًّا، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ مَهْرُهَا لمالك المنفعة، ولأنه مِنْ كَسْبِهَا الْمَأْلُوفِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَنَافِعِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْوَرَثَةِ، لأنه بعد مَعْهُودٍ مِنْ كَسْبِهَا، وَأَنَّهُ تَابِعٌ لِرَقَبَتِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْأُمِّ، رَقَبَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَمَنَافِعُهُ لِلْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ.
فَإِنْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ وَطْءَ الْأَمَةِ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَإِنْ وطأها حد

(8/225)


الْمُسْتَأْجِرُ فِي وَطْئِهَا، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنَاوَلَتِ الْخِدْمَةَ وَلَيْسَ الْوَطْءُ خِدْمَةً، وَالْوَصِيَّةُ تَنَاوَلَتِ الْمَنْفَعَةَ، وَالْوَطْءُ مَنْفَعَةٌ، وَإِنَّمَا مُنِعَ لِأَجْلِ الرَّقَبَةِ ثُمَّ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَهْرَهَا لَوْ وَجَبَ لَصَارَ إِلَيْهِ.
فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ: كَانَ حُرًّا لَاحِقًا بِهِ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ.
وَفِي قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
الأول: ... .
والثاني: قِيمَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لَهُمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْوَلَدِ مَنْ يَكُونُ كَالْأُمِّ مِلْكًا، لِلْوَرَثَةِ رَقَبَتُهُ، وَلِلْمُوصَى لَهُ منفعته، ولا تكون أم ولد الموصى لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا.
فَإِنْ مَلَكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ، فَفِي كَوْنِهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ الْوَلَدِ قَوْلَانِ:
فَأَمَّا إِنْ وَطِئَهَا مَالِكُ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ الْوَارِثُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِهِ لِلرَّقَبَةِ، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَيَكُونُ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا، يَلْحَقُ بِهِ.
وَفِي قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا قِيمَةَ عَلَيْهِ، إِذَا قيل إنها له.
والثاني: عليه قيمتها لِلْمُوصَى لَهُ، إِذَا قِيلَ إِنَّهَا لَهُ.
وَالثَّالِثُ: أن يشتري بالقيمة من يكون مكانه وَفِي حُكْمِ الْأُمِّ.
وَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا.

فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ.
صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِمَا سُمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ تَقْوِيمُ الرَّقَبَةِ فِي حقهما وَتَسْقُطُ الْقِيمَةُ فِي وَصِيَّتِهِمَا، بِأَنْ تُجْعَلَ قِيمَةُ الرَّقَبَةَ مَسْلُوبَةَ الْمَنَافِعِ، هُوَ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى اسْتِكْمَالِ قيمته بمنافعه، هو الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ لِصَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا فِيهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ دَارِهِ:
فَكَالْوَصِيَّةِ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ، إِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ، قُوِّمَتِ الْمَنْفَعَةُ فِي الثُّلُثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
فَإِذَا خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ، اخْتَصَّ بِغَلَّةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ على ما ذكرنا من الأوجه الثَّلَاثَةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ.
وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً فَفِيمَا تُقَوَّمُ بِهِ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الرَّقَبَةِ.

(8/226)


وَالثَّانِي: الْمَنْفَعَةُ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا كَامِلَةَ الْمَنْفَعَةِ، وَمَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ.
فَإِنِ احْتَاجَتِ الدَّارُ إِلَى نَفَقَةٍ مِنْ مَرَمَّةٍ:
لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ وَاحِدًا منها. إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ أَحَدُهُمَا.
فَإِنِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ:
فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ.
فَإِنْ بَنَاهَا الْوَارِثُ.
جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ ثُمَّ نظر:
فَإِنْ بَنَاهَا بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ: فَلَا حَقَّ للموصى له بالمنفعة في تمليكها، لِأَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ الدَّارِ.
وَإِنْ بَنَاهَا بِتِلْكَ الْآلَةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِغَلَّتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهَا الْمُوصَى لَهُ لِمَكَانِ الْآلَةِ.
وَالثَّانِي: لَا حَقَّ له فيهما وَتَكُونُ الدَّارُ لِلْوَارِثِ لِمَكَانِ الْعَمَلِ وَانْقِطَاعِ الْوَصِيَّةِ بِالْهَدْمِ.
وَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ، بَعْدَ هَدْمِهَا أَنْ يَبْنِيَهَا، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ لم تكن له.
وإن كانت بِتِلْكَ الْآلَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
إِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا: كَانَ لَهُ بِنَاؤُهَا.
وَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُهَا: فَلَيْسَ لَهُ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ. فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أن تكون الثمرة موجودة: فالوصية بها صحيحة وتعتبر قيمة الثمرة عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لَا حِينَ الْوَصِيَّةِ.
فَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ: فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ.
وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهَا: كَانَ لَهُ مِنْهَا قَدْرُ مَا احتمله الثلث، وكان الورثة شركاء فِيهَا بِمَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ مِنْهَا.
وَالضَّرْبُ الثاني: أن يوصي بثمرة لم تخلق أبدا: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ بِثَمَرَتِهِ على الأبد: فالوصية جائزة وفيما يقوم فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الْبُسْتَانِ.
وَالثَّانِي: أن يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنِ احْتَمَلَهُ:
نُفِّذَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ أَبَدًا مَا بَقِيَ الْبُسْتَانُ.
وَإِنِ احْتَمَلَ بَعْضَهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ يُشَارِكُ فِيهِ الْوَرَثَةُ مِثْلَ أَنْ يَحْتَمِلَ النِّصْفَ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ النِّصْفُ مِنْ ثَمَرَةِ كُلِّ عَامٍ، وَلِلْوَرَثَةِ النِّصْفُ الْبَاقِي.
وَإِذَا احْتَمَلَ الثلث جميع القيمة، وصارت الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْمُوصَى لَهُ فَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى سَقْيٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ السَّقْيُ، بِخِلَافِ بَائِعِ الثَّمَرَةِ، حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ سَقْيُهَا لِلْمُشْتَرِي

(8/227)


إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى السَّقْيِ. لِأَنَّ الْبَائِعَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ كَامِلًا، وَالسَّقْيُ مِنْ كَمَالِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تَحْدُثُ على ملك الموصي، ولا يجب على الموصى له سقيها، لأنها بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَاجَتِ النخل إلى سقي: لم يلزم واحد منهما.
وَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ بِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى صاحبه.
فإن مات النخل، أو استقطع، فَأَجْذَاعُهُ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَغْرِسَ مَكَانَهُ. وَلَا إِنْ غَرَسَ الورثة مكانه نخيلا، وكان للموصى فِيهِ حَقٌّ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي النَّخْلِ الْمُوصَى له بِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بثمر له مدة مقدرة:
كأن أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ عَشْرِ سِنِينَ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ مَعَ التَّقْدِيرِ بِالْمُدَّةِ. بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّ تَقْوِيمَ الْمَنْفَعَةِ الْمُقَدَّرَةِ مُمْكِنٌ وَتَقْوِيمَ الثِّمَارِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْمُدَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى جَوَازِهَا كَالْمَنْفَعَةِ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْبُسْتَانُ [كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ، وَيُقَوَّمُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فِي الثُّلُثِ، وَالْوَجْهُ الثاني: أن] ينظر أوسط ما يثمره النَّخْلُ غَالِبًا فِي كُلِّ عَامٍ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ قيمة الغالب مِنْ قِيمَةِ الثَّمَرَةِ فِي أَوَّلِ عَامٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ. فَإِنْ خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ:
فَقَدِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَإِنْ خَرَجَ نَصْفُهُ:
فَلَهُ النِّصْفُ مِنْ ثَمَرَةِ كُلِّ عَامٍ، إِلَى انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يستكمل هذه كُلِّ عَامٍ فِي نِصْفِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخْتَلِفُ ثَمَرَةُ كُلِّ عَامٍ فِي الْمَقَادِيرِ وَالْأَثْمَانِ، فَخَالَفَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ وَالدَّارِ.
وَمِثْلُ الْوَصِيَّةِ بِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ: أَنْ تَكُونَ لَهُ مَاشِيَةٌ فَيُوصِي لِرَجُلٍ بِرَسْلِهَا وَنَسْلِهَا.
وَتَجِبُ نَفَقَةُ الْمَاشِيَةِ، كَوُجُوبِ نفقة العبد. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو كان أكثر من الثلث فأجاز الورثة في حياته لم يجز ذلك إِلَّا أَنْ يُجِيزُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَسَأَلَ وَارِثَهُ إِجَازَةَ وَصِيَّتِهِ، فَأَجَازَهَا فِي حياته، لم يلزمه الْإِجَازَةُ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَعْدَ الْمَوْتِ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ.

(8/228)


وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ:
قَدْ لَزِمَتْهُمُ الْإِجَازَةُ، سَوَاءً أَجَازُوا فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى:
إن أجازوه في الصحة: لم يلزمهم.
وَإِنْ أَجَازُوهُ فِي الْمَرَضِ: لَزِمَهُمْ.
اسْتِدْلَالًا، بِأَنَّ التَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِيهَا عَلَى عَطِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِيهَا اعْتِرَاضٌ، كَالْمُفْلِسِ مَعَ غُرَمَائِهِ وَالْمُرْتَهِنِ مَعَ رَاهِنِهِ.
وَهَذَا فاسد من وجوه:
أحدهما: أَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ مَا أجاز.
وَهُوَ قَبْلَ الْمَوْتِ، لَا يَمْلِكُهُ، فَلَمْ تَصِحَّ منه إجازته.
والثاني: أنه يملك الإجازة من يملك الرد. فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الرَّدَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، لَمْ يَمْلِكِ الْإِجَازَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِنْ وَارِثٍ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ هَذَا الْمُجِيزُ غَيْرَ وَارِثٍ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْإِجَازَةُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ إِجَازَتَهُ قَبْلَ الْإِرْثِ، كَعَفْوِهِ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَعَنِ الْعَيْبِ قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا حُكْمَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ الإجازة قبل الموت.
وبذلك الْمَعْنَى فَارَقَ الْغُرَمَاءَ مَعَ الْمُفْلِسِ، وَالْمُرْتَهِنَ مَعَ الراهن لاستحقاقهم لذلك فِي الْحَالِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ إِمْضَاءُ مَا أَجَازُوهُ. لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صدقا في قول، ووفاء بوعد، وبعدا من عذر، وَطَاعَةً لِلْمَيِّتِ، وَبِرًّا لِلْحَيِّ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازُوا وصيته لبعض ورثته في حياته.
وسواء شهد عَلَيْهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ رَأْسًا مِنْ رَقِيقِي أُعْطِيَ ما شاء الوارث معيبا كان أَوْ غَيْرَ مَعِيبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِرَأْسٍ مِنْ مَالِهِ.
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ من رقيقه: فهذا على ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ رَقِيقٌ يُخَلِّفُهُمْ فِي تَرِكَتِهِ:
فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ.

(8/229)


فَإِنْ خَلَّفَ رَأْسًا وَاحِدًا: فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ.
وَإِنْ خَلَّفَ جَمَاعَةً فَالْخِيَارُ إِلَى الْوَرَثَةِ، فِي دَفْعِ أَيِّهِمْ شَاءُوا مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وصحيح أو مريض، ذكر أو أنثى، مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ.
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ينطلق عليه اسْمُ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقٍ.
فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ:
ففيه وجهان: أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ:
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَمَةً:
لَمْ يَجُزْ أَنْ يعْطىَ عَبْدًا، وَلَا خُنْثَى.
وَلَوْ قَالَ عَبْدًا:
لَمْ يَجُزْ أَنْ يعْطى أَمَةً، وَلَا خُنْثَى.
وَلَوْ كَانَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ:
حُمِلَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يدل عليه مراده، كقوله: " أعطوه رأسا يستمتع به " فلا يعطى إلا امرأة لأنها هي المقصودة بالمنفعة ".
وَلَوْ قَالَ: رَأْسًا يَخْدِمُهُ:
لَمْ يُعْطَ إِلَّا صَحِيحًا. لِأَنَّ الزَّمِنَ لَا خِدْمَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الصغير.
ولو أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يَشْتَرُوا لَهُ رَأْسًا، لَا من رقيقه:
لم يجز: لِأَنَّهُ عَيْنُ الْوَصِيَّةِ فِي رَقِيقِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ رَقِيقٌ، وَلَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ رقيقا فالوصية باطلة: لأنها أحالها إِلَى رَقِيقٍ مَعْدُومٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ رقيق، ويملك بعد الوصية وقبل الموت رَقِيقًا، فَفِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ، كَمَنْ أَوْصَى بثلث ماله ولا مال له:
أحدهما: جائزة.
والثاني: باطلة.

فصل:
وأما إن أوصى برأس من رَقِيقٍ مِنْ مَالِهِ:
فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، سَوَاءٌ خَلَّفَ رَقِيقًا أَمْ لَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ وَصِيَّتَهُ بِالرَّقِيقِ فِي الْمَالِ، وَالْمَالُ مَوْجُودٌ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ له رقيق، كان الورثة بالخيار في شراء ما شاءوا من الرقيق.
وإن كان له رقيق:
فالورثة بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ رَأْسًا مِنْهُمْ، وَبَيْنَ أن يشتروا له.

(8/230)


فصل:
ولو أوصى بعبده النوبي، ولم يكن له إلا عبدا زنجي، لَمْ يُعْطَ إِلَّا النَّوْبِيَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جماعة من العبيد النوب: أعطوه أي النوبي شَاءُوا.
وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ عَبْدِي سَالِمًا الْحَبَشِيَّ، فاجتمع الاسم والجنس في عبد، فَكَانَ لَهُ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ يُسَمَّى سَالِمًا: صَحَّتِ فيه، ولو كان له عبدا يسمى سالما، وليس بحبشي، وعبدا حبشي وليس بسالم: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَّقَ بِهِمَا وصية مِنَ الِاسْمِ وَالْجِنْسِ لَمْ يَجْتَمِعَا.
فَصْلٌ:
فَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَبْدِهِ سَالِمٍ الْحَبَشِيِّ وَكَانَ لَهُ عَبْدَانِ حَبَشِيَّانِ اسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَالِمٌ.
فَإِنْ عَيَّنَا الْمُوصَى بِهِ مِنْهُمَا: صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ لِمَنْ عَيَّنَاهُ.
وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الشَّاهِدَانِ أَحَدَهُمَا، فَفِي شَهَادَتِهِمَا قولان حكاهما ابن سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِلْجَهْلِ بِهَا وَالشَّهَادَةُ الْمَجْهُولَةُ مَرْدُودَةٌ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَارِثِ فِي إِنْكَارِ الْوَصِيَّةِ وَإِثْبَاتِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ، لأنها تضمنت وصية لا يؤثر فِيهَا الْجَهَالَةُ بِهَا، ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن سريج.
أحدهما: أن العبدين موقوفين بين الموصى له والوارث حتى يصطلحوا على الموصى له منهما، لأنها أشكلا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، لَا بِاعْتِرَافِهِمْ، فَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى بَيَانِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الورثة في أَيِّ الْعَبْدَيْنِ شَاءُوا لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالشَّهَادَةِ، كَوُجُوبِهَا بِاعْتِرَافِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي الْحَالَيْنِ إلى بيانهم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو هلكت إِلَّا رَأْسًا كَانَ لَهُ إِذَا حَمَلَهُ الثُّلُثُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ ماله: فالوصية جَائِزَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ رَقِيقِهِ إِذَا كَانَ مَالُهُ بَاقِيًا.
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ، فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ إِذَا لَمْ يَمُتْ منهم أحد.
وأما إِذَا حَدَثَ فِيهِمْ مَوْتٌ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَهْلِكَ جَمِيعُهُمْ.
وَالثَّانِي: بَعْضُهُمْ.
فَإِنْ هَلَكُوا جميعهم فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَلَاكًا غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْمَوْتِ، فَالْوَصِيَّةُ قَدْ بَطَلَتْ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلَا وَصِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَقَدْ هَلَكَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا.

(8/231)


وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ مَضْمُونًا كَالْقَتْلِ الَّذِي يُوجِبُ ضَمَانَ قِيمَتِهِمْ عَلَى قَاتِلِهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي: فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَهُمْ، ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا، كَمَا كَانَ لَهُمْ مَعَ بَقَائِهِمْ أَنْ يعطوا أَيَّهُمْ شَاءُوا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْقَيِّمَةَ بَدَلٌ مِنْهُمْ، فَصَارَ كَوُجُودِهِمْ فَعَلَى هَذَا يُعْطُونَهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ انْتِقَالَهُمْ إِلَى الْقِيمَةِ فِي الْقَتْلِ كَانْتِقَالِهِمْ إِلَى الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، فَلَمَّا كَانَ بَيْعُهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ كَذَلِكَ قَتْلُهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي موجبا لبطلان الوصية.
ومن قال بالوجه الأول يُفَرِّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ.
بِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بِاخْتِيَارِ الْمُوصِي، فَكَانَ رُجُوعًا. وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا.

فَصْلٌ:
وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُمْ وبقي بعضهم كأنهم هلكوا جميعا إلا واحدا مِنْهُمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ دُونَ الْقَتْلِ: فَالْوَصِيَّةُ قد بقيت في العبيد الْبَاقِي، وَلَا خِيَارَ لِلْوَرَثَةِ فِي الْعُدُولِ بِهَا إِلَى غَيْرِهِ، لِتَعْيِينِهَا فِي رَقِيقِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ بِالْقَتْلِ الْمَضْمُونِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الموصي، فالوصية بقيت فِي الْعَبْدِ الْبَاقِي، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْدِلُوا بِهَا إِلَى قِيمَةِ أَحَدِ الْمَقْتُولِينَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ بَقَاءَ الْجِنْسِ للموصى بِهِ، يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْعَبْدِ الْبَاقِي فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْدِلُوا بِهَا إِلَى قِيمَةِ أَحَدِ الْمَقْتُولِينَ، كَمَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِلْوَرَثَةِ الْخِيَارَ فِي أَنْ يُعْطُوهُ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ، أَوْ يَعْدِلُوا بِهِ إِلَى قيمة أحد المقتولين، كما لَهُمُ الْخِيَارُ لَوْ قُتِلُوا جَمِيعًا فِي أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا.
فَصْلٌ:
فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ عَبِيدٍ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِهِمْ، اسْتَحَقَّ من كل واحد الثلث، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدُهُمْ كَامِلًا، إِلَّا أَنْ تراضيه الورثة عليه سلما.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ لِوَرَثَتِهِ: اسْتَخْدِمُوا عَبْدِي سَنَةً بَعْدَ مَوْتِي، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ السَّنَةِ وَصِيَّةٌ لِفُلَانٍ جَازَ وَلَمْ تُقَوَّمْ خِدْمَةُ السَّنَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّهُمْ قَبْلَ السَّنَةِ اسْتَخْدَمُوا

(8/232)


ملكهم، وليس كالموصى له بخدمة سَنَةٍ، حَيْثُ قُوِّمَتْ خِدْمَةُ السَّنَةِ فِي حَقِّهِ. لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَ بِالْوَصِيَّةِ غَيْرَ مِلْكِهِ.
وَلَوْ قَالَ: اسْتَخْدِمُوا عَبْدِي سَنَةً ثُمَّ أَعْتِقُوهُ عَنِّي:
كَانَ لَهُمُ اسْتِخْدَامُهُ، ثُمَّ عِتْقُهُ، بَعْدَ الْخِدْمَةِ، وَيُقَوَّمُ العبد في سنة الْوَصِيَّةِ فِي الْعِتْقِ، بَعْدَ خِدْمَةِ السَّنَةِ مِنْ موت الموصي، لأنه لا يجوز أن نعتبر قِيمَتَهُ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يُمْلَكُ بِالْوَصِيَّةِ ولا يحرر بالعتق.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (ولو) أوصى له بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ أَوِ اشتروها له صغيرة كانت أو كبيرة ضائنة أو ماعزة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ: فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، تَرَكَ غَنَمًا، أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي مَالِهِ. وَيُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، سَمِينٍ أَوْ هَزِيلٍ.
وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُنْثَى وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ من نَصِّ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا أُنْثَى لِأَنَّ الْهَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّأْنِيثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة.
أن الورثة بالخيار فِي إِعْطَائِهِ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، لِأَنَّ الْهَاءَ من أصل الكلمة، فيه اسْمِ الْجِنْسِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي، وَكَانَتْ غَنَمُهُ كُلُّهَا إِنَاثًا، لَمْ يُعْطَ إِلَّا أُنْثَى.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا: لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفْ غَنَمًا كَانَتِ الوصية باطلة.
وكذلك لَوْ دَلَّ كَلَامُهُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهَا: حُمِلَ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: شَاةٌ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا، وَنَسْلِهَا، لم يعط إلا كبير، أنثى، لتكون ذات در ونسل وسواء كانت من الضأن أو من المعز.
فَإِنْ قَالَ: شَاةٌ يَنْتَفِعُ بِصُوفِهَا، لَمْ يُعْطَ إلا من الضأن.
وَلَا يَجُوزُ إِذَا أَوْصَى بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ أن يعطى غزالا أو ظَبْيًا، وَإِنِ انْطَلَقَ اسْمُ الشَّاةِ عَلَيْهِمَا مَجَازًا.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: شَاةٌ مِنْ شِيَاهِي، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ إِلَّا ظَبْيٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ: لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُ الْغَنَمَ، وَلَيْسَ فِي تَرِكَتِهِ، فَبَطَلَتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ تَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى شِيَاهِهِ، وَلَيْسَ فِي مَالِهِ إِلَّا مَا

(8/233)


يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ مَجَازُ الِاسْمِ، دُونَ الْحَقِيقَةِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَانْصَرَفَتْ وَصِيَّتُهُ إِلَى الظَّبْيِ الْمَوْجُودِ فِي تَرِكَتِهِ، حَتَّى لَا تَبْطُلَ وَصِيَّتُهُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ) بَعِيرًا أَوْ ثَوْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ نَاقَةً وَلَا بَقَرَةً وَلَوْ قَالَ عَشْرَ أَيْنُقٍ أَوْ عَشْرَ بَقَرَاتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ ذَكَرًا (وَلَوْ قَالَ) عَشَرَةَ أَجَمَالٍ أَوْ أَثْوَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أن يعطوه أنثى (فإن قَالَ) عَشَرَةٌ مِنْ إِبِلِي أَعْطَوْهُ مَا شَاءُوا ".
قال الماوردي: أَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَوْرٍ: لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا، لِأَنَّ الثَّوْرَ اسْمٌ لِلذُّكُورِ، دُونَ الْإِنَاثِ.
وَلَوْ قَالَ بَقَرَةً: لَمْ يُعْطَ إِلَّا أُنْثَى، لِأَنَّ الْهَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّأْنِيثِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، يُخْرِجُ فِي الْبَقَرَةِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى ذَكَرًا، أَوْ أُنْثَى كَالشَّاةِ، لِأَنَّ الْهَاءَ مِنْ أَصْلِ اسْمِ الْجِنْسِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثَّوْرِ وَالْبَقَرَةِ إِلَى الْجَوَامِيسِ، بِخِلَافِ الشَّاةِ الَّتِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ يَقُولُ بَقَرَةً من بقري، وليس له إلا الجواميس، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْبَقَرِ يَتَنَاوَلُهَا مَجَازًا.
لِأَنَّ إِضَافَةَ الْوَصِيَّةِ إِلَى التَّرِكَةِ، قَدْ صَرَفَ الِاسْمَ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى بَقَرِ الْوَحْشِ، فَإِنْ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إِلَى بَقَرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلا بقر الوحش، فعلى ما ذكرناه من الوجهين في الظبي.

فصل:
فأما إِذَا أَوْصَى بِبَعِيرٍ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا ذَكَرًا، لِأَنَّ اسْمَ الْبَعِيرِ بِالذُّكُورِ أَخَصُّ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ، فيعطى ما شاء الوارث مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِجَمَلٍ: لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا لِاخْتِصَاصِ هذا الاسم بالذكور.
ولو أوصى بعشرة مِنْ إِبِلِهِ أَعْطَاهُ الْوَارِثُ مَا شَاءَ مِنْ ذكور وإناث، وسواء أثبت التاء فِي الْعَدَدِ، أَوْ أَسْقَطَهَا.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قال:
إن أثبت التاء فِي الْعَدَدِ فَقَالَ: عَشَرَةٌ مِنْ إِبِلِي. لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الذُّكُورِ لِأَنَّ عَدَدَهَا بِإِثْبَاتِ التاء.
وإن أسقط التاء في العدد: فقال عشر مِنْ إِبِلِي لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الْإِنَاثِ لأن عددها بإسقاط التاء.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: عَشْرُ نِسْوَةٍ، وَعَشَرَةُ رجال. وهذا الأوجه لَهُ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِبِلِ إِذَا كَانَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا، صَارَ الْعَدَدُ فِيهَا مَحْمُولًا عَلَى الْقَدْرِ، دُونَ النَّوْعِ.

(8/234)


وَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَعْطُوهُ مَطِيَّةً، أَوْ رَاحِلَةً.
فَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، فَيُعْطِيهِ الْوُرَّاثُ مِنْهُمَا ما شاء. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن قال أعطوه دابة من مالي فمن الخيل أو البغال أو الحمير ذكرا كان أو أنثى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا أَعْجَفَ أَوْ سَمِينًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا اسْمُ الدَّوَابِّ: فَيَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ اشْتِقَاقًا مِنْ دَبِيبِهِ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] . غَيْرَ أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِهَا. فَإِنْ قَالَ: أَعْطُوهُ دَابَّةً مِنْ دَوَابِّي، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْطَى مِنَ الْخَيْلِ أو البغال، أو الحمير.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ بِمِصْرَ، حَيْثُ قَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَذِكْرُهُ لَهُمُ اعْتِبَارًا بِعُرْفِهِمْ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّوَابِّ فِي عُرْفِهِمْ مُنْطَلَقٌ عَلَى الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ.
فَأَمَّا بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ، فَلَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْخَيْلِ ولا يتناول غيرها إلا مجازا بعرف بقرينته.
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُوصِي بِمِصْرَ: خُيِّرَ وَرَثَتُهُ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ: لَمْ يُعْطُوهُ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:
بَلِ الْجَوَابُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّوَابِّ يَنْطَلِقُ عَلَى هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ.
فَإِنْ شَذَّ بَعْضُ الْبِلَادِ بِتَخْصِيصِ بَعْضِهَا بِالِاسْمِ لَمْ يُعْتَبَرْ بِهِ حُكْمُ الْعُرْفِ الْعَامِّ.
فَلَوْ قَرَنَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، حُمِلَ عَلَى قَرِينَتِهِ، كَقَوْلِهِ: أَعْطُوهُ دَابَّةً يُقَاتِلُ عَلَيْهَا، فَلَا يُعْطَى إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ عَتِيقًا، أَوْ هَجِينًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلَا يُعْطَى صَغِيرًا وَلَا قمحا لَا يُطِيقُ الرُّكُوبَ.
وَلَوْ قَالَ دَابَّةً يُحْمَلُ عَلَيْهَا: أُعْطِيَ مِنَ الْبِغَالِ، أَوِ الْحَمِيرِ دُونَ الْخَيْلِ.
وَلَوْ قَالَ دَابَّةً يَنْتَفِعُ بِنِتَاجِهَا: أُعْطِيَ مِنَ الْخَيْلِ أَوِ الْحَمِيرِ دُونَ الْبِغَالِ لِأَنَّهَا لَا نِتَاجَ لَهَا.
وَلَوْ قَالَ دَابَّةً يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَظَهْرِهَا: لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ، لأن لبنها من لَبَنَ غَيْرِهَا مِنَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ: مَحْظُورٌ.
وَلَوْ قَالَ: دَابَّةً مِنْ دَوَابِّي، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ إِلَّا أَحَدُ الْأَجْنَاسِ لَمْ يُعْطَ غَيْرَهُ.
وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ جِنْسَانِ:
أَعْطَاهُ الْوَارِثُ أحدهما، ولم يعط الثَّالِثَ الَّذِي لَيْسَ فِي مَالِهِ.

(8/235)


وَلَوْ قَالَ دَابَّةً مِنْ مَالِي وَكَانَ فِي مَالِهِ أَحَدَ الْأَجْنَاسِ.
كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ، فِي إِعْطَائِهِ ذَلِكَ الْجِنْسَ، أَوِ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ الْآخَرَيْنِ شِرَاءً مِنْ غَيْرِ مَالِهِ.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ كَلْبًا مِنْ كِلَابِي أَعْطَاهُ الْوَارِثُ أَيُّهَا شَاءَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لما جاز إحرازه فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَحَرُمَ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّةً وَمِيرَاثًا.
فَإِذَا أوصى بِكَلْبٍ، وَلَا كِلَابَ لَهُ.
فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُشْتَرَى، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُسْتَوْهَبَ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ كِلَابٌ: فَضَرْبَانِ، مُنْتَفَعٌ بها، وغير منتفع بها.
فإن كانت كلاب كُلُّهَا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهَا: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِحَظْرِ اقْتِنَائِهِ وَتَحْرِيمِ إِمْسَاكِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مُنْتَفَعًا بها، فكان له كلب حرث وماشية وَكَلْبُ صَيْدٍ نُظِرَ.
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ صَاحِبَ حَرْثٍ، وَمَاشِيَةٍ، وَصَيْدٍ، فَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي إِعْطَائِهِ أَيَّ كَلْبٍ شَاءَ، مِنْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ، لَيْسَ بِصَاحِبِ حَرْثٍ، وَلَا مَاشِيَةٍ، وَلَا صَيْدٍ فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى لَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ.
وَالثَّانِي: الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، اعْتِبَارًا بِالْكَلْبِ، وَأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وأن الموصى له ربما أعطاه ما يَنْتَفِعُ بِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِأَحَدِهَا بِأَنْ كَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ لَا غَيْرَ، أَوْ صَاحِبَ صَيْدٍ لَا غَيْرَ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الْوارثَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْكَلْبَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْوَارِثِ الخيار في إعطائه أي الكلاب شَاءَ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى بِهِ.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْجَرْوِ الصَّغِيرِ الْمُعَدِّ لِلتَّعْلِيمِ، فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ، مِنَ اختلاف الوجهين في اقتنائه.
أحدهما: اقتنائه غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي الْحَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اقتنائه جائز، لأنه سينتفع به في ثاني حال، ولأن تعليمه منفعة في الحال.

(8/236)


فَصْلٌ:
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ كِلَابٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا سِوَاهَا، فَأَوْصَى بِجَمِيعِهَا لِرَجُلٍ.
فَإِنْ أجازها الورثة فله، وإلا ردت إِلَى ثُلُثِهَا، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهَا إِلَى الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ كُلِّ كَلْبٍ ثُلُثَهُ، فَيَحْصُلُ لَهُ ثُلُثُ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يستحق واحدا بكماله إِلَّا عَنْ مُرَاضَاتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ بِالْوَصِيَّةِ أَحَدَهَا، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مقومة لا تختلف أثمانها وليست كالكلاب التي تُقَوَّمُ، فَاسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهَا. فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَأْخُذُ أَحَدَهَا بِالْقُرْعَةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ أَيَّهَا شَاءُوا.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غيره، أوصى بِهِ لِرَجُلٍ، فَهُوَ كَمَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ.
فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَارِثُ، وَإِلَّا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُهُ، وَلِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهُ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُهَايَاةِ.
وَإِنْ مَلَكَ مَالًا فَأَوْصَى بِهَذَا الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كَلْبٌ سِوَاهُ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن الوصية جائزة، والكلب كُلِّهِ، لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ، لِأَنَّ قَلِيلَ الْمَالِ خَيْرٌ مِنَ الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ:
أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْكَلْبِ، إِذَا مَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَثُرَ مَالُ التَّرِكَةِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَى، فَيُسَاوِيهِ الْوَرَثَةُ فِيمَا صَارَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ، فَاخْتَصَّ الْكَلْبُ بِحُكْمِهِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ.
فَلَوْ تَرَكَ ثلاث كلاب. ومالا. أوصى بِجَمِيعِ كِلَابِهِ الثَّلَاثَةِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْكِلَابِ الثَّلَاثَةِ مُمْضَاةٌ، وَإِنْ قَلَّ مَالُ التَّرِكَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ فِي أَحَدِهَا، إِذَا مَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ جَمِيعِهَا.
فَصْلٌ:
وَالْوَصِيَّةُ بالميتة جائزة.
لأن قَدْ يَدْبَغُ جِلْدَهَا، وَيُطْعِمُ بُزَاتَهُ لَحْمًا.
وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالرَّوْثِ، وَالزِّبْلِ: لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي نَخْلِهِ وَزَرْعِهِ.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِمَا مُحَرَّمٌ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجَرَّةٍ فِيهَا خَمْرٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: (رَحِمَهُ اللَّهُ) أُرِيقَ الْخَمْرُ وَدُفِعَتْ إِلَيْهِ الْجَرَّةُ. لِأَنَّ الْجَرَّةَ مُبَاحَةٌ. وَالْخَمْرَ حَرَامٌ.

(8/237)


فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ، وَحَشَرَاتِ الْأَرْضِ، وَالسِّبَاعِ، وَالذُّبَابِ: فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي جَمِيعِهَا.
فأما الْوَصِيَّةُ بِالْفِيلِ.
فَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ: فَجَائِزٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيُقَوَّمَ فِي التَّرِكَةِ، وَيُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ.
فَأَمَّا الْفَهْدُ، وَالنَّمِرُ وَالشَّاهِينُ، وَالصَّقْرُ.
فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهَا جَوَارِحُ يُنْتَفَعُ بِصَيْدِهَا وَتُقَوَّمُ فِي التَّرِكَةِ لِجَوَازِ بَيْعِهَا، وَتُعْتَبَرُ في الثلث.
وأما الوصية بما تصيده كلابه:
فَبَاطِلَةٌ: لِأَنَّ الصَّيْدَ، لِمَنْ صَادَهُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " أَعْطُوهُ طَبْلًا مِنْ طُبُولِي وَلَهُ طَبْلَانِ لِلْحَرْبِ وَاللَّهْوِ أَعْطَاهُ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ لَمْ يَصْلُحِ الَّذِي لِلَّهْوِ إِلَّا لِلضَّرْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ إِلَّا الَّذِي لِلْحَرْبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ بَاطِلَةٌ.
وَالْوَصِيَّةُ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ.
مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ مَحْظُورَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً، جَازَ بَيْعُ ذَلِكَ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَحْظُورَةً: لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَا الْوَصِيَّةُ بِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً: جَازَ بَيْعُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ لِأَجْلِ الْإِبَاحَةِ.
وَنُهِيَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَظْرِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: وَأَوْصَى لَهُ بِطَبْلٍ مِنْ طُبُولِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا طُبُولُ الْحَرْبِ، فَالْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ طَبْلَ الْحَرْبِ مُبَاحٌ ثُمَّ يُنْظَرُ.
فَإِنْ كَانَ اسْمُ الطَّبْلِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ جِلْدٍ، دفع إليه الطبل بغير الجلد.
وَإِنْ كَانَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إِلَّا بِالْجِلْدِ: دُفِعَ إِلَيْهِ مَعَ جِلْدِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ طُبُولُهُ كُلُّهَا طُبُولَ اللَّهْوِ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ طُبُولَ اللَّهْوِ مَحْظُورَةٌ.
وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ في غير الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا.
وَإِنْ كَانَتْ طبوله نوعين: طبول حرب، وطبول اللهو، فَإِنْ كَانَتْ طُبُولُ اللَّهْوِ، لَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا طَبْلَ الْحَرْبِ.

(8/238)


وَإِنْ كَانَتْ طُبُولُ اللَّهْوِ: تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي إِعْطَائِهِ مَا شَاءَ مِنْ طَبْلِ لَهْوٍ، أَوْ حَرْبٍ، لِانْطِلَاقِ الاسم عليها. إِلَّا أَنْ يَدُلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: أَعْطُوهُ طَبْلًا لِلْجِهَادِ، أَوِ الْإِرْهَابِ، فلا يعطى إلا طبل حرب.
وَإِنْ قَالَ طَبْلًا لِلْفَرَحِ، وَالسُّرُورِ: لَمْ يُعْطَ، إِلَّا طَبْلَ اللَّهْوِ.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالدُّفِّ الْعَرَبِيِّ.
فَجَائِزَةٌ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ فِي المناكح.
والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو قال أعطوه عُودًا مِنْ عِيدَانِي وَلَهُ عِيدَانٌ يُضْرَبُ بِهَا وعيدان قسي وعصي فالود الذي يواجه به المتكلم هو الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ فَإِنْ صَلُحَ لِغَيْرِ الضَّرْبِ جَازَ بِلَا وَتَرٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا قَالَ أَعْطُوهُ عُودًا مِنْ عِيدَانِي، فَمُطْلَقُ هذا الاسم يتناول عيدان الضرب واللهو وعيدان الْقِسِيِّ، وَالْعِصِيِّ، فَإِنْ كَانَ عُودُ الضَّرْبِ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الضَّرْبِ وَاللَّهْوِ، فَالْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ، وَيُعْطَى بِغَيْرِ وَتَرٍ، لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَتَرٌ يُنْظَرُ.
فَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ إِلَّا بَعْدَ تَفْصِيلِهِ وَتَخْلِيعِهِ، فُصِّلَ وَخُلِّعَ، ثُمَّ دُفِعَ إِلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ: لَمْ يُفَصَّلْ: ودفع إليه غير مفصل.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وهكذا المزامير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَا يصلح إلا للهو: فالوصية بَاطِلَةٌ.
وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ: فَالْوَصِيَّةُ به جائزة. ثم الكلام في التفضيل عَلَى مَا مَضَى.
فَأَمَّا الشَّبَّابَةُ الَّتِي يُنْفَخُ فِيهَا مَعَ طَبْلِ الْحَرْبِ، وَفِي الْأَسْفَارِ: فَالْوَصِيَّةُ بها جائزة.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ) عُودًا مِنَ الْقِسِيِّ لَمْ يُعْطَ قَوْسَ نَدَّافٍ وَلَا جُلَاهِقَ وَأُعْطِيَ مَعْمُولَةَ أَيِّ قوس نَبْلٍ أَوْ نُشَّابٍ أَوْ حُسْبَانٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِقَوْسٍ مِنَ الْقِسِيِّ، فَمُطْلَقُ الْقَوْسِ يَتَنَاوَلُ قَوْسَ السِّهَامِ العربية دون قوس النداف.
والجلاهق الذي يُرْمَى عَنْهَا الْبُنْدُقُ، فَلَا يُعْطَى إِلَّا قَوْسَ السهام العربية، سواء أَعْطَاهُ قَوْسَ نُشَابٍ وَهِيَ الْفَارِسِيَّةُ، أَوْ قَوْسَ نَبْلٍ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، أَوْ قَوْسَ حُسْبَانٍ.

(8/239)


والخيار فيها إِلَى الْوَارِثِ لِاشْتِرَاكِ الِاسْمِ فِي جَمِيعِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَتَرَ مَعَهُ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَوْسًا بِغَيْرِ وَتَرٍ.
وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بدابة: لم يعط سَرْجَهَا، أَوْ عَبْدٍ: لَمْ يُعْطَ كُسْوَتَهُ.
فَأَمَّا إن قال: أعطوه قوسا من قسي، وَلَهُ قَوْسُ نَدَّافٍ، وَقَوْسُ جُلَاهِقٍ: أُعْطِيَ قَوْسَ الجلاهق التي يرمى عنها، لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِالِاسْمِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قَوْسُ نَدَّافٍ: دُفِعَ إِلَيْهِ.
وَلَوِ اقْتَرَنَ بكلامه ما يدل على مراده: عمل مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ مِنَ الْقِسِيِّ الثَّلَاثِ. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وتجعل وصيته في الرقاب فِي الْمُكَاتَبِينَ وَلَا يُبْتَدَأُ مِنْهُ عِتْقٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي الرِّقَابِ، صُرِفَ فِي الْمُكَاتَبِينَ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُشْتَرَى بِهِ رِقَابٌ يُعْتَقُونَ.
وَأَصْلُ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي سَهْمِ الرِّقَابِ فِي الزَّكَاةِ، هَلْ يَنْصَرِفُ فِي الْعِتْقِ أَوْ فِي الْمُكَاتَبِينَ.
فَمَالِكٌ يَقُولُ: يَصْرِفُهُ فِي الْعِتْقِ.
وَالشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة يَصْرِفَانِهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] . فأثبت ذلك لهم بلام الملك، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ فَيُصْرَفُ إِلَيْهِ، وَالْمَكَاتَبُ يَمْلِكُ فَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَلِأَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ مَصْرُوفٌ لِغَيْرِ نَفْعٍ عاجل يَعُودُ إِلَى رَبِّهِ فَلَوْ صُرِفَ فِي الْعِتْقِ لَعَادَ إِلَيْهِ الْوَلَاءُ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سهم الرقاب في الزكاة يصرف إلى المكاتبين.
وجب أن يكون سهام الرقاب في الوصية مَصْرُوفًا فِي الْمُكَاتَبِينَ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ محمولة على عرف الشرع المعتبر فيه.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِ رِقَابٍ فإن نقص ضمن حصة مَنْ تَرَكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يتصرف سهم الرقاب في أقل من ثلاث.
وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ كَانَ حَسَنًا. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مَعَ وُجُودِ الزِّيَادَةِ أَجْزَأَ.

(8/240)


وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَالُ الْوَصِيَّةِ مِنْ جِنْسِ كِتَابَتِهِمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ دَفْعَهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ دُونَ سَيِّدِهِ أَجْزَأَ.
وَلَوْ أَبْرَأَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ أَخْذِهِ، وَقَبْلَ اسْتِهْلَاكِهِ، لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَاسْتُرْجِعَ مِنْهُ فِي الزَّكَاةِ. لِأَنَّ الْوَصَايَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ.
فَلَوْ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ ثَلَاثَةً: دَفَعَ إِلَى مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ وَلَوْ وَاحِدًا.
وَلَوْ وَجَدَ ثَلَاثَةً: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُمْ.
فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ وُجُودِ الثَّالِثِ: ضَمِنَ حِصَّتَهُ وَفِيهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ.
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ الثُّلُثَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ جَائِزٌ مَعَ الِاجْتِهَادِ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ الِاجْتِهَادِ، لَزِمَ التَّسْوِيَةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُ قَدْرَ مَا كَانَ يؤديه اجتهاده إليه لو اجتهد لأن القدر الذي تعدى فيه.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن لم يبلغ ثلاثة رقاب وبلغ أقل رقبتين يجدهما ثمنا وفضل فضل جَعَلَ الرَّقَبَتَيْنِ أَكْثَرُ ثَمَنًا حَتَّى يُعْتِقَ رَقَبَتَيْنِ وَلَا يَفْضُلُ شَيْئًا لَا يَبْلُغُ قِيمَةَ رَقَبَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ صُورَتَهَا، وَنَقْلَ جَوَابِهَا، وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْأُمِّ.
وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ أَعْتِقُوا بِثُلُثِي رِقَابًا. أَوْ قَالَ حَرِّرُوا بِثُلُثِي رِقَابًا.
فَهَذَا يُشْتَرَى بِثُلُثِهِ رِقَابٌ يُعْتَقُونَ عَنْهُ وَلَا يُصْرَفُ في المكاتبين لأن ذكر العتق والتحرر صَرَفَهُ عَنْهُمْ.
وَأَقَلُّ مَا يُشْتَرَى بِهِ ثَلَاثُ رِقَابٍ إِذَا أَمْكَنُوا. اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْجَمْعِ. فَإِنِ اتَّسَعَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ: اشْتُرِيَ بِهِ مَا بَلَغُوا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الثَّلَاثِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ صَرْفِهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ حَيْثُ جَازَ الاختصار عَلَى الثَّلَاثَةِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْوَاحِدُ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَلَا يَجُوزُ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَمَنِهَا وَلَا يُنْقِصَ مِنْهُ.
فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَالُ الْوَصِيَّةِ ثَمَنَ ثَلَاثِ رِقَابٍ، صَرَفَهُ فِي رَقَبَتَيْنِ: فَإِنْ فَضَلَ مِنَ الرَّقَبَتَيْنِ فَضْلَةٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْفَضْلَةُ لَا يَقْدِرُ بِهَا عَلَى بَعْضِ ثَالِثَةٍ زَادَهَا فِي ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ، ليكون أكثرهما ثَمَنًا، فَتَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا.
وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ بِالْفَضْلَةِ عَلَى بَعْضِ ثَالِثَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ:

(8/241)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِالْفَضْلَةِ بَعْضَ ثَالِثَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الثَّلَاثِ الْكَامِلَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أنها تزد فِي ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ: أَكْثَرُهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا.
وَلِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ، إِدْخَالَ ضَرَرٍ عَلَى الرَّقَبَةِ، وَعَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ فِيهَا، فَكَانَ رَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى.
وأما إن اتسع الثلث لأكثر من ثلاثة رِقَابٍ، فَاسْتِكْثَارُ الْعَدَدِ مِعِ اسْتِرْخَاصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ إِقْلَالِ الْعَدَدِ مَعَ اسْتِكْثَارِ الثَّمَنِ وَجْهًا واحدا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أعتق رقبة، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا، عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النار، حتى الذكر بالذكر، والفرج بالفرج ".

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ويجزئ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إذ أَوْصَى أَنْ يُصْرَفَ ثُلُثُ مَالِهِ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ، جَازَ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وفي إعتاق الْخَنَاثَى وَجْهَانِ.
وَجَازَ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى جَمِيعِهِمْ.
وَفِي جَوَازِ عتق من لا يجزئ في الكفارة من الكبار، والزمنى وجهان: تخرجا مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي نَذْرِ الْهَدْيِ، هَلْ يلزم فيه ما يجوز في الأضاحي؟
أحدهما: يلزم، فعلى هذا، لا يجزئه إلا عتق من هي سَلِيمَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ كُلَّ مَالٍ، فَعَلَى هَذَا يجزئه عِتْقُ الْكَافِرَةِ، وَالْمُؤْمِنَةِ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يعتق بثلث ماله رقاب، أو اشترى بثلث ماله رِقَابًا، وَأُعْتِقُوا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَوْعِبُ التَّرِكَةَ، نُظِرَ فِي الرِّقَابِ.
فَإِنْ كَانُوا قَدِ اشْتُرُوا بِعَيْنِ الثُّلُثِ:
بَطَلَ الشِّرَاءُ، لِاسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ فِي الدَّيْنِ، وَرُدَّ الْعِتْقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ.
وَإِنْ كَانُوا قَدِ اشْتُرُوا فِي ذِمَّةِ الْوَارِثِ، لَا بِعَيْنِ الْمَالِ مِنَ الثُّلُثِ:
نَفَذَ عِتْقُهُمْ عَلَى الْوَارِثِ، لِثُبُوتِ الشِّرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَزِمَهُ صَرْفُ الثلث في الدين.
فصل:
وإذا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَكَانَ الثُّلُثُ خمس مائة درهم، اشترى بها عبدا وَأُعْتِقَ عَنْهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الْأَلْفِ، وَيَكُونُ عَجْزُ الثُّلُثِ عَنْهَا مُبْطِلًا

(8/242)


لِلْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَلْفَ صِفَةً فِي الْعِتْقِ فَلَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ مَعَ الْعَجْزِ لِعَدَمِ الصِّفَةِ، وَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَعْتِقُوا عَبْدِي الْأَسْوَدَ، فَإِذَا عُدِمَ الْأَسْوَدُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَ غَيْرُهُ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ -: " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ".
وَلِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ إِذَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا، لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا احْتَمَلَهُ مِنْهَا، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا. وَلِأَنَّ الْعِتْقَ إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ احْتِمَالِ جَمِيعِهِ، رُدَّ إِلَى ما احتمله الثلث من أجزائه، كالوصية بعتيق عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْأَلْفِ صِفَةً، فَتَكُونُ شَرْطًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا قَدْرًا وَجَعَلَهَا فِي الْعِتْقِ حدا.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (ولو أوصى) أن يحج عنه ولم يكن حج حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ بَلَغَ ثُلُثُهُ حَجَّةً مِنْ بَلَدِهِ أَحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ وَإِنْ لَمْ يبلغ عنه من حيث بلغ (قال المزني) رحمه الله وَالَّذِي يُشْبِهُ قَوْلَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ دَيْنٌ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِي الْحَجِّ عَنْهُ حَالَتَيْنِ.
حَالَةٌ يُوصِي بِهِ، وَحَالَةٌ لا يوصي به.
فإن لم يوصي بِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَاجِبٌ، أَوْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَجٌّ.
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ بِالْحَجِّ.
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا، فَوَاجِبٌ أَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ ما وجب عليه من زكاة وَكَفَّارَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْهُ، وَلَا الزَّكَاةُ، إلا بوصية منه.
وهذا فاسد، لما ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَجِّ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بالمال، لزم أداؤه عنه، وإذا لزم أداؤه عنه، فمن رأس المال كَالدُّيُونِ.
وَيُخْرِجُ مِنْهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ، لَا مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَتِ اسْتِطَاعَتُهُ مِنْ بلده شرطا في وجوب، لأنه إذا كان حيا، لزم أداؤه بنفسه فصارت بعض المسافة معتبرة في استطاعته، فإذا مَاتَ، لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي النَّائِبِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ أَنْ يُؤْتَى بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، فَلِذَلِكَ اعْتَبَرَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ.

فَصْلٌ:
وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.

(8/243)


إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ حَجٌّ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ فَلَا يخلو حاله من ثلاث أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَ الْحَجَّ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَلَا يُسْتَفَادُ بِوَصِيَّتِهِ إِلَّا لِلْإِذْكَارِ وَالتَّأْكِيدِ وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ فَلَهُ ثلاثة أَحْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ في الْمِيقَاتِ فَيُخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ ميقات بلده ولا يستفاد بوصيته وإن وجد من يحج به وإلا تمم من أُجْرَةِ الْمِثْلَ وَكَانَ جَمِيعُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَتَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةً فِي الثلث لا تجوز أن يدفع إلى وارث وإن تراجع عَيَّنَهُ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِذَا جُعِلَ الْحَجُّ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.

فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ مِنْ ثُلُثِهِ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا إِلَى الْحَجَّةِ الْوَاجِبَةِ، فهذا يحج عَنْهُ بِالثُّلُثِ مِنْ بَلَدِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَلَا يجوز أن يدفع إلى وارث إِنْ زَادَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَزِدْ.
فَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ:
أُحِجَّ بِهِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ مِنْ طَرِيقِهِ. فَإِنْ عَجَزَ إِلَّا مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ أُحِجَّ بِهِ عنه من ميقات بلده.
فإن عَجَزَ عَنِ الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَجَبَ إتمام أجرة المثل ميقات بلده من رأس المال، فصار فِيهَا دَوْرٌ لِأَنَّ مَا يُتَمَّمُ بِهِ أُجْرَةُ المثل من رأس ماله يقتضي نقصان ثلث المال.
مثاله:
أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ الثلث وقدر ما يتم بِهِ الثُّلُثُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَسْقَطْتَ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَكُونُ الْبَاقِي سِتِّينَ دِرْهَمًا ثُمَّ زِدْتَ عَلَيْهِ مثل نصفه فصير تِسْعِينَ دِرْهَمًا، فَهُوَ الْمَالُ الْبَاقِي بَعْدَمَا أَخَذَ تَمَامَ الثُّلُثِ، فَإِذَا أَخَذْتَ ثُلُثَهُ، كَانَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَضَمَمْتَ إِلَيْهِ الْعَشَرَةَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الْمِائَةِ صارت أربعين درهما، هي قدر أجرة المثل، فمنها ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا هِيَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ من رأس المال وعرضه.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَجْعَلَ كُلَّ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا إِلَى الْحَجِّ بَلْ يَقُولُ أَحِجُّوا عَنِّي مِنْ ثُلُثِي رَجُلًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

(8/244)


أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ قَدْرًا كَأَنَّهُ قَالَ: أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا إِنْ وُجِدَ، وَيُسْتَأْجَرُ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَمْكَنُ مِنْ بَلَدِهِ، أَوْ مِنْ مِيقَاتِهِ.
وإن لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ مِيقَاتِهِ: وَجَبَ إِتْمَامُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لَا مِنْ ثلثه، لأنه الْقَدْرَ الَّذِي جَعَلَهُ فِي الثُّلُثِ: هُوَ الْمِائَةُ، لَا مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ الْقَدْرَ فَيَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الثُّلُثِ تَقْتَضِي الْكَمَالَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أُجْرَةُ مِثْلِ الْمِيقَاتِ، كَمَا لَوْ جَعَلَهُ مِنْ رأس المال، وما يزاد عَلَيْهِ تَطَوُّعٌ لَا يَخْرُجُ إِلَّا بِالنَّصِّ.
فَإِنْ عجز الثلث عن جميع الأجرة تمم جميعا مِثْلَ أُجْرَةِ الْمِيقَاتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
فَلَوْ كان في الثلث مع الحج عطايا ووصايا، فَفِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ عَلَى الْوَصَايَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ:
أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ الْحَجُّ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي فَرْضٍ، ثُمَّ يُصْرَفُ مَا فَضَلَ بَعْدَ الْحَجِّ في أهل الوصايا.
والوجه الثاني: أنه يسقط الثلث بين الْحَجِّ، وَالْوَصَايَا بِالْحِصَصِ، لِأَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ وَجَبَ فحمله فِي الثُّلُثِ، فَسَاوَى فِي الثُّلُثِ أَهْلَ الْوَصَايَا، ثُمَّ تَمَّمَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ واجبة، وأوصى بِقَضَائِهَا مِنْ ثُلُثِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُونَ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا.
وَالثَّانِي: يُحَاصُّونَهُمْ، ثُمَّ يَسْتَكْمِلُونَ الوصايا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي، إِذَا جَعَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ.

فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أن يطلق الوصية بالحج، فلا يجعله في الثُّلُثِ، وَلَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنَاسِكِ فِي كِتَابِهِ الْجَدِيدِ، أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَقَالَ في هذا الموضع من الوصايا بالحج عنه من ثلثه.
فاختلف أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ يُخَرِّجَانِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: يكون من رأس المال، كما لم يوصي بِهِ، لِوُجُوبِهِ كَالدُّيُونِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، لِيُسْتَفَادَ بِالْوَصِيَّةِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَفَادًا بِغَيْرِهَا.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ:

(8/245)


لَيْسَ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، بَلِ الْحُكْمُ عَلَى حَالَيْنِ، فَالَّذِي جَعَلَهُ فِي الثُّلُثِ هُوَ أُجْرَةُ مِثْلِ السَّيْرِ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى الْمِيقَاتِ.
وَالَّذِي جَعَلَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، هُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وقال أبو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالَّذِي قَالَهُ هَاهُنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الثُّلُثِ إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ فِي الثُّلُثِ تَوْفِيرًا عَلَى وَرَثَتِهِ. أَلَا تَرَاهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ، تُمِّمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ: أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ. وإن قلنا: يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ بلده، والثاني: من ميقات بلده.
والذي قاله هاهنا إذا كان الحج واجبا، وسواء كان حج الإسلام، أو نذرا أو قضاءا.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حَجَّةِ النَّذْرِ وَغَيْرِهَا. فَجَعَلَ حَجَّةَ النَّذْرِ فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ تَطَوّع بِإِيجَابِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَسَوَّى الْأَكْثَرُونَ بَيْنَهَا وبين الواجبات.

فصل:
ولو كان ما أوصى به عنه من الحج تَطَوُّعًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ.
والثاني: جائزة.
فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ: كَانَ الْحَجُّ عَنِ الأجير، لا عن المستأجر عنه، وفي استحقاقه للأجر قولان.
فإذا قِيلَ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ، نُظِرَ مَخْرَجُ كَلَامِهِ فِيهَا، فله فيه أربعة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عني بما اتسع له الحج من الثلث.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِالثُّلُثِ.
وَالرَّابِعُ: أن يقول أحجوا عني.
فأما الحال الأول: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَلَا يُنْقَصُ، مَعَ احْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا.
ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَنْ يَحُجُّ بِهَا، أَوْ لا يسميه.
فإن لم يسميه: دفعت إلى من يحج بها واحدا من أفضل ما يوجد. ثُمَّ لَا تَخْلُو الْمِائَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، إِمَّا مِنْ بَلَدِهِ، أَوْ من الميقات، فتدفع إلى وارث، أو غير وَارِثٍ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ، فَهِيَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ، فَلَمْ تَصِرْ لَهُ وصية،

(8/246)


وصارت كالموصي يشتري عبدا يُعْتَقُ عَنْهُ، جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ فِي مقابله بدل.
والقسم الثاني: أن يكون بقدر أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَتُدْفَعُ إِلَى أَجْنَبِيٍّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَى وَارِثٍ، لِأَنَّ فِيهَا وَصِيَّةً بالزيادة.
والقسم الثالث: أن يكون أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يحج عنه أحججناه، وَارِثًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ بِهَا، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ، وعادت ميراثا، ولم يزد فِي الثُّلُثِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا، كَمَنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِرَجُلٍ، فَرَدَّ الْوَصِيَّةَ، عَادَتْ إِلَى الْوَرَثَةِ، دُونَ أَهْلِ الْوَصَايَا.
وَإِنْ سَمَّى مَنْ يَحُجُّ بها بمائة لَمْ يُعْدَلْ بِهَا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، مَعَ إمكان دفعها إليه. ثم لا تخلو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَتُدْفَعُ إِلَى الْمُسَمَّى لَهَا، وَارِثًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ. فَإِنْ لَمْ يقبلها المسمى بها، دُفِعَتْ حِينَئِذٍ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يكون أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَلَا يَخْلُو الْمُسَمَّى لَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ.
فَإِنْ كَانَ وَارِثًا: فَالزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ المثل وصية يمنع منها الوراث.
فإن وصى بأجرة المثل منها: دفعت إليه دون غير وَرُدَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِالْمِائَةِ كُلِّهَا، مُنِعَ مِنْهَا، وَلَمْ يَجُزْ أن تدفع إليه لما فيها من الوصية لها، وَعُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمِائَةِ، لأن الزيادة على أجرة المثل وصية بمسمى، وَيَعُودُ الْبَاقِي مِيرَاثًا.
وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى غَيْرَ وارث دفعت إليه المائة إن قبلها، وإن لَمْ يَقْبَلْهَا عُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَعَادَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِيرَاثًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمِائَةُ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِنْ قنع المسمى بها، دُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ.
وإن لم يقنع بها، ووجد غيره مما يَقْنَعُ بِهَا، دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا وصية للمسمى فتبطل بالعدول. وإن لم يوجد من يحج عادت ميراثا، ولم يرجع إِلَى الثُّلُثِ.
فَأَمَّا إِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ احْتِمَالِ الْمِائَةِ كُلِّهَا: أُخْرِجَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احتمله الثلث فيصير هُوَ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يقول أحجوا عني بِثُلُثِي، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ الثُّلُثُ، إِلَّا في حجة واحدة، وإن اتسع لغيرها، لأنه عين عليها فتصير كَالْوَصِيَّةِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فِي أَنْ يُسَمَّى مَنْ يحج عنه، أو يسميه فتكون على ما مضى من التقسيم والجواب.
فإما أَمْكَنَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِالثُّلُثِ مِنْ بَلَدِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ ميقاته، وإن

(8/247)


قصر عنه الثلث، فَمِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْمِيقَاتِ. فَإِنْ قَصُرَ عَنِ الْمِيقَاتِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يحج به بطلت الوصية وعادت مِيرَاثًا.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يقول: أحجوا عني بثلثي حجا فيصرف الثلث فيما اتسع من الحج، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، مَعَ اتِّسَاعِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهَا.
وَلَا يُزَادُ أَحَدٌ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي، لَا مِنْ مِيقَاتِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَطَوُّعٌ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ.
فَإِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِثَلَاثِ حِجَجٍ، فَاقْتَصَرَ في صرفه على حجتين ضمن الموصي الْحَجَّةَ الثَّالِثَةَ فِي مَالِهِ.
فَلَوِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لحجتين، وفضلت فضلة، لم تتسع لحجة ثالثة مِنْ بَلَدِهِ، نُظِرَ فِيهَا.
فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَحُجَّ بِهَا عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِهِ: صُرِفَتْ فِي حَجَّةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يصرف من الميقات وإلا ردت على الورثة ميراثا، ولم يزد عَلَى الْحَجَّتَيْنِ بِخِلَافِ الْفَاضِلِ عَنْ ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ، لِأَنَّ أَثْمَانَ الرِّقَابِ تَخْتَلِفُ، فَرُدَّتِ الْفَضْلَةُ فِي أثمانها لوفور الأجر بتوافر أثمانها وأجور الحج غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ.
فَلَوْ أَمْكَنَ صَرْفُ الْفَضْلَةِ فِي عُمْرَةٍ: لَمْ تُصْرَفْ فِيهَا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْحَجِّ، لَا فِي الْعُمْرَةِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَحِجُّوا عَنِّي، وَلَا يَذْكُرُ بِكُمْ، فَيُحَجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً، بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِهِ، لَا مِنْ مِيقَاتِهِ، إِنِ احتمل الثلث ذلك.
وإن لم يحتمل، فمن حيث احتمل الثلث ذلك من الميقات.
وإن لم يحتمل حجة من الميقات: بطلت الوصية، وعادت ميراثا.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَعْطُوا مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِي فُلَانًا وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ وَلِلْحَاجِّ وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ، نِصْفُ الثُّلُثِ وَيَحُجُّ عَنْهُ رَجُلٌ بمائة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ: أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطُوا مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِي فُلَانًا، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثَالِثٍ.
فَهَذَا رَجُلٌ قَدْ أَوْصَى بِثُلُثَيْ مَالِهِ. فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ دُفِعَ إلى الموصى له بالثلث ثلث المال كاملا ولا يشاركه فيه أحد، ودفع الثُّلُثِ الْآخَرِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، إِلَى الْمُوصَى لَهُ بالحج، بالثلث ولا يشاركه فيه أحد.
فإن بقيت من الثلث بعد ذلك رقبة: دُفِعَتْ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثلث، وسواء قلت النفقة، أو كثرت.

(8/248)


فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْمِائَةِ شيء، فلا شيء إلى الموصى لَهُ بِمَا بَقِيَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ.
فَهَذَا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ.
فإما إذا لم يجزها: ردت الوصايا كلها إلى الثلث: ثم نظر: فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ: فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثلث. وانقسم الثلث الموصى له بالمائة بالحج، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفَيْنِ، يَتَعَادَلَانِ فِيهِ، كَمَا يَتَعَادَلُ أَهْلُ الْوَصَايَا، إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِمَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمِائَةِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، عَادَتْ مِيرَاثًا، وَلَمْ تَعُدْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَلَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ، بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ فِي الْحَجِّ، وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ، يُعَادِلَانِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَإِحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ تُعَادِلُ الْأُخْرَى، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بينهما نصفين، أو أعطى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفَهُ. وَهُوَ السُّدُسُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ نَقْصِ الْعَوْلِ: نِصْفُ وَصِيَّتِهِ، لِأَنَّ وصيته، رَجَعَتْ إِلَى نِصْفِهَا.
وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ مِنَ الثُّلُثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، يُقَدَّمُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ فِي الْحَجِّ، عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِائَتَهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْآخَرُ بَقِيَّتَهُ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بما بقي بعد المائة، لا تستحق قبل كمال المائة لاستحالتها فَعَادَ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِهِ تَوْفِيرًا عَلَى صَاحِبِ المائة، بما يعاد الجد بالأخوة من الأب، توفيرا على الأخ من الأب وَالْأُمِّ.
فَعَلَى هَذَا: إِنْ كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ، مِائَةَ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ، أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ.
وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، أَخَذَ مِنْهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ، مِائَةَ دِرْهَمٍ كَامِلَةً وَأَخَذَ الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ الْفَاضِلَ عَلَى الْمِائَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أن الموصى له بالمائة والحج، وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ يَتَعَادَلَانِ فيه.
وإن كَانَ الثُّلُثُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ: فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ لو كمل. وإذا عَادَ الثُّلُثُ الَّذِي جُعِلَ لَهُمَا إِلَى نِصْفِهِ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ جُعِلَتِ الْمِائَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِيَكُونَا فِيهِ مُتَسَاوِيَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ الثُّلُثَ، مِائَةً وخمسين درهما، فللموصى له بالمائة مثل مَا لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ فَيَكُونُ نِصْفُ الثلث وخمسة وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بالمائة، نصف ما كان يأخذه من الثلث، وَهُوَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ: نصف ما كان يأخذه من الثلث، وهو خمسة وعشرون درهما.

(8/249)


وإن كان الثلث ثلاث مائة: كان للموصى له بما بقي ثلثي ما للموصى له بالمائة، فيكون نصف الثلث، وهو مائة وخمسون [درهما] وللموصى له بما بقي وهو مائة درهم.
ولو كان الثلث أربع مائة درهم: كان للموصى لَهُ بِمَا بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ فيكون نصف الثلث وهو مائتا [درهم] بينهما على أربعة أسهم.
فللموصى له بالمائة ربع ما كان يأخذه وهو مائة وخمسون. وللموصى له بما بقي ثلاثة أرباع ما كان يأخذه. وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
هذا فيما زاد أو نقص. وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْصَى بِالْمِائَةِ لصاحب المال مِنْ كُلِّ الثُّلُثِ، لَا مِنْ بَعْضِهِ، فَلَمْ يجز أن يأخذ نِصْفِ الثُّلُثِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جَمِيعِهِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ لرجل. ثم أوصى بأن يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِالْبَاقِي مِنْ ثُلُثِهِ لِآخَرَ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الموصى له بالباقي [في] هذا الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي: أنها باطلة، لأن تقدم الوصية بالثلث، يمنع أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ.
فَعَلَى هَذَا: إن أجاز الوصية الورثة بالثلث وبالمائة: إمضاء.
وإن لم يجيزوها: رُدَّا إِلَى الثُّلُثِ، وَتَعَادَلَ فِيهِ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ قَدْرَ الثُّلُثِ. فإن كان مائة درهم، فقد تساوت وصيتهما، فَيَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ، خمس مائة دِرْهَمٍ: كَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْمُوصَى له بالمائة سهم.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ الْجَوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ، كَالْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى، إِذَا أَخَّرَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِالْمِائَةِ بَعْدَ الثُّلُثِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرَدَّ ذَلِكَ الثُّلُثُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى قَدِ اسْتَوْعَبَتْهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ، لَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمِائَةِ وَإِنَّمَا أراد ثلثا ثانيا.
فإذا أوصى بعد الْمِائَةَ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ الثَّانِي وصار موصا بِثُلُثَيْ مَالِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ إِجَازَتِهِ، رُدَّ الثُّلُثَانِ إِلَى الثُّلُثِ فَجُعِلَ نِصْفُ الثُّلُثِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَكَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَاقِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، وَأَوْصَى بِبَاقِي الثُّلُثِ لِآخَرَ قُوِّمَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةٌ.

(8/250)


وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، مِثْلَ أن يكون قيمة العبد ألف درهم والثلث ألف وخمس مائة، فالوصية بالباقي من الثلث جائزة وقدرها خمس مائة دِرْهَمٍ.
فَلَوْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْأَلْفِ مِثْلَ أَنْ يَصِيرَ أَعْوَرَ فَيُسَاوِي بعد عوره سبع مائة، فلا يزاد الموصى له بالباقي على الخمس مائة التي كانت قيمة الثُّلُثِ بَعْدَ قِيمَةِ الْعَبْدِ سَلِيمًا عِنْدَ الْمَوْتِ ولا يحتسب للعبد في الثلث إذا كان عوره بعض قبض الموصى له إلا سبع مائة، وَيَكُونُ نَقْصُهُ بِالْعَوَرِ، كَالشَّيْءِ التَّالِفِ مِنَ التَّرِكَةِ.
وعلى هَذَا: لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْأَلْفِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، لَمْ ينقص الموصى له بالباقي عن الخمس مائة الَّتِي كَانَتْ بَقِيَّةَ الثُّلُثِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ بعد موت الموصي.
فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ: لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ بِبَاقِي الثُّلُثِ، وَقُوِّمَ الْعَبْدُ حَيًّا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. ولو مات الموصى له فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ.
فَأَمَّا الوصية بالباقي من الثلث بعد موت العبد فينظر: فإن جوز أن ينتهي قيمة العبد إن كان حيا إلى استغراق الثلث: صار الْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةً، لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْإِسْقَاطِ.
وَإِنْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ قِيمَتَهُ لا تجوز أن تستغرق الثلث: كانت الوصية بالباقي من الثُّلُثِ جَائِزَةً، وَرُجِعَ فِيهَا إِلَى قَوْلِ الْوَارِثِ مَعَ يَمِينِهِ أَنْ تُوَزَّعَ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِأَمَةٍ لِزَوْجِهَا وَهُوَ حُرٌّ فَلَمْ يعلم حتى وضعت له بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا أَوْلَادًا فَإِنْ قَبِلَ عُتِقُوا وَلَمْ تَكُنْ أُمُّهُمْ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى تَلِدَ منه بعد قبوله بستة أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْقَبُولِ وَطْءُ نكاح ووطء الْقَبُولِ وَطْءُ مِلْكٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لهذه المسألة ثلاثة مقدمات لا يصح جَوَابُهَا إِلَّا بِتَقْرِيرِ مُقَدَّمَاتِهَا. أَحَدُهَا: الْحَمْلُ هَلْ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ؟ أَوْ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ لَهُ حُكْمًا مَخْصُوصًا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَأَنَّ الْحَامِلَ إِذَا بِيعَتْ يُقَسَّطُ الثَّمَنُ عليها، وعلى الحمل المستجد فِي بَطْنِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُعْتَقَ الحمل فلا يسري إلى أم وَيُوصَى بِهِ لِغَيْرِ مَالِكِ الْأُمِّ، دَلَّ عَلَى اختصاصه بالحكم وتمييزه عَنِ الْأُمِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تبعا لا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ وَلَا يَكُونُ مَعْلُومًا، لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى عِتْقُ الْأُمِّ إِلَيْهِ صَارَ تَبَعًا لَهَا كأعصابها، ولما جاز أن يكون موجودا أو معدوما: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ ستة أشهر لا يجوز أن يحيى ولد وضع

(8/251)


لأقل من ستة أشهر اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ ثُمَّ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ. قَالَ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] .
فَلَمَّا كَانَ الْفِصَالُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ السِّتَّةَ الْأَشْهُرَ الْبَاقِيَةَ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ.
فَإِنْ وَلَدَتْ زَوْجَةُ رَجُلٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أشهر من عقد نكاحها، وولدت أمة لأقل من ستة أشهر من وَطْءِ سَيِّدِهَا: كَانَ الْوَلَدُ مُنْتَفِيًا عَنْهُ، وَغَيْرَ لَاحِقٍ بِهِ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: مِلْكُ الْوَصِيَّةِ مَتَى يحصل للموصى له، ويدخل فِي مِلْكِهِ؟
وَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ بِالْقَبُولِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا قَبْلَ الْقَبُولِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، هَلْ تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي، أَوْ دَاخِلَةً فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ مِلْكَ الْوَصِيَّةِ مُنْتَقِلٌ عَنِ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ، ثُمَّ بالقبول يدخل فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوصِي بِالْمَوْتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يَقْبَلَهَا الْمُوصَى لَهُ فَتَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِقَبُولِهِ، وَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِ عَنِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ عَنْهُ كَالْمِيرَاثِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ، بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ بِالْقَبُولِ هُوَ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ الملك على قبولها كالهبات.
قال الشافعي: " وهذا قول ينكسر " اهـ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا، فإذا قبل حمل عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِهِ.
وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَيِّتِ مِلْكٌ. وَأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَمْلِكُ الْإِرْثَ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ وَرَدِّهِ وَحَقُّهُ فِي الْقَبُولِ بَاقٍ، مَا لَمْ يعلم.
فإن عَلِمَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ إِنْفَاذِ الْوَصَايَا، وَقِسْمَةِ التركة فقبوله على الفور فاقبل، وَإِلَّا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْوَصِيَّةِ، فَأَمَّا بَعْدَ عِلْمِهِ، وَقَبْلَ إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَقِسْمَةِ التَّرِكَةِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، إِنَّ الْقَبُولَ فِيهِ عَلَى التَّرَاخِي، لَا عَلَى الْفَوْرِ. فَيَكُونُ مُمْتَدًّا مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالرَّدِّ، حَتَّى تُنَفَّذَ الْوَصَايَا، وَتُقَسَّمَ التَّرِكَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الْقَبُولُ مَعَ الْوَصِيَّةِ، اعْتُبِرَ عِنْدَ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ.

(8/252)


وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَبُولَ بَعْدَ عِلْمِهِ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ كَالْهِبَاتِ.
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا إِنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِغَيْرِ قَبُولٍ وَلَا اختيار، الميراث.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا لِلشَّافِعِيِّ. فَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَالِثًا تَعْلِيلًا بِالْمِيرَاثِ.
وَامْتَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ ابن عبد الحكم بأحد تأولين:
إِمَّا حِكَايَةٌ عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.
وَإِمَّا عَلَى معنى أنه بِالْقَبُولِ يُعْلَمُ دُخُولُهَا بِالْمَوْتِ فِي مِلْكِهِ.
وَفَرَّقُوا بين الوصية والميراث، بِأَنَّ الْمِيرَاثَ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يراعى فيها الْقَبُولُ.
وَالْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ، فَرُوعِيَ فِيهَا الْقَبُولُ.
فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْمَسْأَلَةِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَتِ الْمُقَدِّمَاتُ، فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَمَةَ رَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى السَّيِّدُ بِهَا لِلزَّوْجِ.
فَلَا يخلو حال الزوج من أَنْ يَقْبَلَ الْوَصِيَّةَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ يَرُدَّ.
فَإِنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ وَلَمْ يَقْبَلْهَا: فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ وَالْأَمَةُ مِلْكٌ (لِوَرَثَةِ الْمُوصِي) وَأَوْلَادُهَا مَوْقُوفُونَ لَهُمْ.
فَإِنْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ: فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ، أَوْ لَا تأت فإن لم تأتي بِوَلَدٍ فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ بِالْمِلْكِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ وَالْمِلْكَ تَتَنَافَى أَحْكَامُهُمَا، فَلَمْ يَجْتَمِعَا، [وَغَلَبَ] حُكْمُ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ أَقْوَى.
فَإِنْ قِيلَ بِالْقَبُولِ قَدْ مَلَكَ: انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حِينَ الْقَبُولِ، وَكَانَ الْوَطْءُ قَبْلَهُ وَطْئًا فِي نِكَاحٍ، وَبَعْدَهُ وَطْئًا فِي مِلْكٍ، وَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ، لِأَنَّهَا لم تزل فراشا له.
فإن قيل القبول يبنى عن مِلْكٍ سَابِقٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حين الموت، وكان وطئه قَبْلَ الْمَوْتِ وَطْئا في نِكَاحٍ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ وَطْئًا فِي مِلْكٍ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ الشافعي على هذا الْقَوْلِ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْقَبُولِ وَطْءَ نِكَاحٍ وَبَعْدَ الْقَبُولِ وَطْءَ مِلْكٍ وَهُوَ قَبْلَ الْقَبُولِ وبعده وطء ملك. وإذا كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي النَّقْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ بِالْقَبُولِ يملك.

(8/253)


وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ زَمَانِ الْقَبُولِ وَطْءُ نِكَاحٍ يَعْنِي قَبْلَ الْمَوْتِ.

فَصْلٌ:
وإن أَتَتْ بِوَلَدٍ. فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَهَا.
فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَمْ لا؟ .
فإن قيل لا حكم لَهُ: فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي وَمُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ قِيلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَكَأَنَّ الْمُوصِيَ وَصَّى لَهُ بِالْأُمِّ وَالْوَلَدِ، ثم قد أعتق الْوَلَدُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَصَارَ لَهُ وَلَاؤُهُ.
وَلَا تصير أمه به أم ولد، لأنها ولدته من نكاح. ويعتبر فِي الثُّلُثِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي قُولَا وَاحِدًا وَمُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
فإن كان موجودا عند الوصية: فهو أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ.
فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَمْ لا؟
فإن قلنا: للحمل حكم: فَالْوَصِيَّةُ بِهِمَا مَعًا، وَفِيمَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: تُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْأَمَةُ حَامِلًا، يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنْ خَرَجَتْ قِيمَتُهَا كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَبِوَلَدِهَا.
وَإِنْ خَرَجَ نِصْفُهَا مِنَ الثُّلُثِ.
كَانَ لَهُ نِصْفُهَا، وَنِصْفُ وَلَدِهَا.

(8/254)


والوجه الثاني: أنه تقوم الأم يوم موت الْمُوصِي، وَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ يَوْمَ وُلِدَ، وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا جَمِيعًا مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنِ احْتَمَلَهُمَا الثُّلُثُ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِمَا، وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا، أُمْضِيَ لَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِهِمَا: قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ الثلث منهما من غير تفضيل.
ثم إذا صحت الوصية لهما، لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهُمَا، فَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ بالملك، وله ولاؤه لحدوث عتقه بعد رقه.
فلم تَصِرِ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهَا عَلِقَتْ به فِي نِكَاحٍ.
فَهَذَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ لِلْحَمْلِ حكما.
وإذا قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ. فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ، فِي قَبُولِ الْوَصِيَّةِ هَلْ يَقَعُ بِهِ التَّمْلِيكُ؟ أَوْ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ القبول هو الملك، فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ للموصي ومضموم إلى تركته ثم منتقل عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ لِلْمُوصِي مِلْكٌ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ كَانَ الْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وقبل الموت، فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، فَفِي الْوَلَدِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَبُولِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمُمَلِّكُ، فَالْوَلَدُ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ جُعِلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُوصِي، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى وَرَثَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ للموصي وتنتقل عَنْهُ إِلَى الْوَرَثَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ ولم يثبت على مِلْكِ الْمُوصِي. وَلَا يُحْتَسَبْ عَلَيْهِمْ مِنْ تَرِكَتِهِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَالْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَا تَصِيرُ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقَوَّمُ الْأُمُّ حَامِلًا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا غَيْرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُقَوَّمُ الْأُمُّ عِنْدَ الموت، ويقوم الولد عند الوضع وتعتبر قيمتها جَمِيعًا مِنَ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حين موت الموصي.

(8/255)


فإن قيل: إن القبول هو المملك، فالولد مملوك لورثة الموصي لم يجز عليه للموصي مِلْكٌ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَارَتِ الْأُمُّ بِهِ، أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ، وَلَا يُقَوَّمُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ فِي الثُّلُثِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَإِنَّمَا تُقَوَّمُ الأم عند الموت، وقد كانت عنده حَائِلًا.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ:
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبُولِ.
فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حين الوصية بالولد لِلْمُوصَى لَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إن للحمل حكم، أو قيل إنه يكون تبعا، لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّ لَهُ حُكْمًا، فَهُوَ مَعَ الْأُمِّ مُوصًى بِهِمَا.
وَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ تَبَعًا فَحُكْمُهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوِلَادَةِ، وَهُوَ مَوْلُودٌ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ وَإِذَا كَانَ لَهُ فَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بَعْدَ رِقِّهِ، فَلَهُ وَلَاؤُهُ، فَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَإِنْ كان حادثا بعد الوصية، وقبل الموت: فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْحَمْلَ حُكْمًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لِلْمُوصَى لَهُ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ.
فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بَعْدَ رِقِّهِ، وَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ، وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ، لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ من حين الْقَبُولِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ حُرٌّ من حين العلوق، لم يجر عليه [حكم] رق، وأن " أُمُّهُ " بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا. وَيَجْعَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ حُرٌّ بَعْدَ رِقِّهِ. وَعَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِأَبِيهِ، وَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا، وَيَجْعَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا.
والقول الثالث: أنه مملوك لورثة الموصي دون الموصى له.
وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا، وَيَجْعَلُ لِلْحَمْلِ حُكْمًا.

(8/256)


وَهَكَذَا: لَوْ وَلَدَتْ أَوْلَادًا، وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ.
وَلَوْ كان بين بعضهم وبعضهم سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمْ لِاخْتِلَافِ حَمْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ قَبُولِهِ فَهَذَا حُرُّ الْأَصْلِ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِلْأَبِ، وَتَصِيرُ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهَا عُلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكٍ لَا في نكاح.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ أَوْ يَرُدَّ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فَإِنْ قَبِلُوا فَإِنَمَا مِلْكُوا أَمَةً لأبيهم وأولاد أبيهم الذين ولدت بعد موت سيدها أحرارا وَأُمُّهُمْ مَمْلُوكَةٌ وَإِنْ رَدُّوا كَانُوا مَمَالِيكَ وَكَرِهْتُ ما فعلوا (قال المزني) لو مات أبوهم قبل الملك لم يجز أن يملكوا عنه ما لم يملك ومن قوله أهل شوال ثم قبل كانت الزكاة عليه وفي ذلك دليل على أن الملك متقدم ولولا ذلك ما كانت عليه زكاة ما لا يملك ".
قال الماوردي: هذا صحيح. وجملته: أن موت الموصي لا يخلو أن يكون في حياة الموصى له أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ.
فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أن الوصية له قد بطلت، وليس لوارثه قَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ قبولها.
وهذا فاسد من وجهين: أن الوصية في غير حَيَاةِ الْمُوصِي غَيْرَ لَازِمَةٍ. وَمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنَ الْعُقُودِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ، لَا لِوَرَثَتِهِ. وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي.
وَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُوصَى لَهُ قبل موته مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَقَدْ بَطَلَتْ بِرَدِّهِ: وَلَيْسَ لِوَارِثِهِ قبولها بعد موته إجماعا.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبِلَهَا، قَبْلَ مَوْتِهِ، وبعد موت الموصي، فقد ملكها، أو انتقلت بِمَوْتِهِ إِلَى وَارِثِهِ.
وَسَوَاءٌ قَبَضَهَا الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَمَلُّكِ الْوَصِيَّةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ.
فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ.

(8/257)


وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَالْهِبَةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ فِي التَّرِكَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ اسْتُحِقَّ بِهِ تَمَلُّكُ عين بغير اختيار مالكها، لم يبطل بِمَوْتِهِ، قَبْلَ تَمَلُّكِهَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَفَارَقَتِ الْوَصِيَّةُ الْهِبَةَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَجَازَ أَنْ تَبْطُلَ بِالْمَوْتِ، وَالْوَصِيَّةُ قَبْلَ الْقَبُولِ لَازِمَةٌ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِالْمَوْتِ.

فَصْلٌ:
فإذا ثَبَتَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ في القبول والرد، ولهم ثلاثة أَحْوَالٍ:
حَالٌ يَقْبَلُ جَمِيعُهُمُ الْوَصِيَّةَ، وَحَالٌ يَرُدُّ جَمِيعُهُمُ الْوَصِيَّةَ، وَحَالٌ يَقْبَلُهَا بَعْضُهُمْ وَيَرُدُّهَا بَعْضُهُمْ.
فَإِنْ قَبِلُوهَا جَمِيعًا: فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ القبول دالا على تقدم الملك، فَالْمَالِكُ لِلْوَصِيَّةِ بِقَبُولِ الْوَرَثَةِ، هُوَ الْمُوصَى لَهُ، لَا الْوَرَثَةُ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَوْلَادُ الْأَمَةِ أَحْرَارًا، لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ وَلَدَهُ وَيَجْعَلُهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَصِيرُ بالولادة أم ولد.
فأما الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ الْقَبُولَ مِلْكًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ تَدْخُلُ الْوَصِيَّةُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ دُونَ الْمُوصَى لَهُ، لِحُدُوثِ الْمِلْكِ بِقَبُولِهِمْ.
فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ بِهِمْ، أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّ الْأَخَ يَمْلِكُ أَخَاهُ.
وَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَالًا: لَمْ يُقْضَ مِنْهَا ديون الْمُوصَى لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمَ بْنُ كَجٍّ عَنْ شُيُوخِهِ.
أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَبُولُ مُمَلِّكًا.
لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ، لَبَطَلَتْ، لَأَنَّ الْوَرَثَةَ غَيْرُ مُوصًى لَهُمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ الْوَصِيَّةَ مَنْ لم يوص له.
فعلى هذا قد اعتق الْأَوْلَادُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَصَارَتْ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ تَصِيرَ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَالًا: قضى مِنْهَا دُيُون الْمُوصَى لَهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. لَمْ يَخْلُ حَالُ الورثة القابلين للوصية أَنْ يَسْقُطُوا بِالْأَوْلَادِ، أَوْ لَا يَسْقُطُوا.

(8/258)


فإن لم يسقطوا بالأولاد، كالأخوة والأعمام، عتق هو والأولاد، وَلَمْ يَرِثُوا، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُمْ مُخْرِجٌ لِقَابِلِ الْوَصِيَّةِ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَخُرُوجُهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ: يُبْطِلُ قَبُولَهُمْ للوصية، وبطلان الْوَصِيَّةِ مُوجِبٌ لِرِقِّ الْأَوْلَادِ، وَسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ. فَلَمَّا أَفْضَى تَوْرِيثُهُمْ إِلَى رِقِّهِمْ وَسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ مُنِعُوا الْمِيرَاثَ، لِيَرْتَفِعَ رِقُّهُمْ، وَتَثْبُتُ حُرِّيَّتُهُمْ، كَمَا قُلْنَا فِي الْأَخِ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ، إِنَّ نَسَبَ الابن يثبت وَلَا يَرِثُ.

فَصْلٌ:
وَلَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ بِأَجْمَعِهِمْ بطلت الوصية بردهم لها، وكان الأولاد عبيدا للورثة، وَكَذَلِكَ أَمُّهُمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَكَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُمْ: لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِرْقَاقِ أولادهم، وَأَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوا ظَاهِرَ فِعْلِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا.
فَأَمَّا إِذَا قَبِلَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ وَرَدَّهَا بَعْضُهُمْ: كَانَتْ حِصَّةُ مَنْ رَدَّ مَوْقُوفَةً لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَحِصَّةُ مَنْ قَبِلَ أَحْرَارًا إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ. وَيُقَوَّمُ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّ الْأَوْلَادِ فِي حِصَّةِ الْقَابِلِ مِنْ تَرِكَتِهِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا بِذَلِكَ، وَيَصِيرُ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ أَحْرَارًا يَرِثُونَ إن لم يحجبوا القابل الْمُوصَى لَهُ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا تَقْوِيمَ فِي تَرِكَتِهِ وَلَا يَرِثُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ: لَمْ تَكْمُلْ، وَلَا تَقْوِيمَ عَلَى الْقَابِلِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ كَانَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ لَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْ حِصَّةِ الْقَابِلِ مِنَ الورثة إذا كان ممن يجوز أن يتملك أَوْلَادُ الْمُوصَى لَهُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِزَوْجَتِهِ مَرِيضًا فَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ فِي مَرَضِهِ الْمَخُوفِ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوْلَادِهِ مِنْهَا: إذا أعتقوا بِقَبُولِهِ، هَلْ يَرِثُونَهُ إِذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ: أَنَّهُمْ لا يرثون، لِأَنَّ عِتْقَهُمْ فِي مَرَضِهِ بِقَبُولِهِ وَصِيَّةٌ لَهُمْ، ولو ورثوا، منعوا الوصية، وإذا منعوها عادوا رقيقا لَا يَرِثُونَ، فَلِذَلِكَ عَتَقُوا وَلَمْ يَرِثُوا، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُمْ فِي مَرَضِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَرِثُونَ بِخِلَافِ مَنِ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ، لأن من اشتراه قد خرج ثَمَنُهُ مِنْ مَالِهِ فَصَارَ إِخْرَاجُ الثَّمَنِ وَصِيَّةً مِنْ ثُلُثِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِثُوا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ أَثْمَانَهُمْ مِنْ مَالِهِ فَيَصِيرُوا مِنْ ثُلُثِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَبُولُهُمْ وَصِيَّةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذلك وصية، لم يمنعوا الميراث.
ولو كان قاله عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَرِيضًا، فَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ قَبِلَهَا وَرَثَتُهُ، بَعْدَ مَوْتِهِ: كَانَ مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ في حال لو قبلها: كان مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَكَذَلِكَ إِذَا قبلها ورثته بعد موته.
ولو كانت الوصية لَهُ فِي صِحَّتِهِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى مَاتَ: لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ.

(8/259)


فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ: فَإِنَّهُ نَصَّ مَا اخْتَارَهُ مِنْ إن القبول يدل على تقدم الملك بالموت وهو أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى بجارية ومات ثم وهب للجارية مائة دينار وهي تسوي مِائَةَ دِينَارٍ وَهِيَ ثُلُثُ مَالِ الْمَيِّتِ وَوَلَدَتْ ثُمَّ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ فَالْجَارِيَةُ لَهُ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا وَهَبَ لَهَا وَوَلَدَهَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا وَمَا وَهَبَ لها من مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ رَدَّهَا فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَى الْمَيِّتِ وَلَهُ وَلَدُهَا وَمَا وَهَبَ لَهَا لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْلِكُهُ حَادِثًا بِقَبُولِ الوصية وهذا قول منكر لَا نَقُولُ بِهِ لِأَنَّ الْقَبُولَ إِنَّمَا هُوَ على ملك متقدم وليس بملك حادث.
وقد قيل تكون لَهُ الْجَارِيَةُ وَثُلُثُ وَلَدِهَا وَثُلُثُ مَا وُهِبَ لها. قال المزني رحمه الله: هذا قول بعض الكوفيين. قال أبو حنيفة: تكون له الجارية وثلث ولدها. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يكون له ثلثا الجارية وثلثا ولدها. (قال المزني) وأحب إلي قول الشافعي لأنها وولدها على قبول ملك متقدم (قال المزني) وقد قطع بالقول الثاني إذ الملك متقدم وإذا كان كذلك وقام الوارث في القبول مقام أبيه فالجارية له بملك متقدم وولدها وما وهب لها ملك حادث بسبب متقدم (قال المزني) وينبغي في المسألة الأولى أن تكون امرأته أم ولد وكيف تكون أولادها بقبول الوارث أحرارا على أبيهم ولا تكون أمهم أم ولد لأبيهم وهو يجيز أن يملك الأخ أخاه وفي ذلك دليل على أن لو كان ملكا حادثا لولد الميت لكانوا له مماليك وقد قطع بهذا المعنى الذي قلت في كتاب الزكاة فتفهمه كذلك نجده إِنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وُهِبَ لِلْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا مَالٌ وَوَلَدَتْ أَوْلَادًا مِنْ رِقٍّ لَمْ يَخْلُ حَالُ أَوْلَادِهَا، وَمَا وُهِبَ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهُوَ مِلْكُهُ وصَائِرٌ إِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَحْسُوبٌ فِي ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ. فَذَلِكَ ملك له، لحدوثه بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَبُولِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَذَلِكَ مِلْكُ الْوَرَثَةِ، دُونَ الْمُوصَى لَهُ، وَهَلْ يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ ثُلُثَيِ التركة، على وجهين من اختلاف ما ذكرنا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوصَى بِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، هَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ أَوْ منتقلا إلى ورثته، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، كَانَ ما حدث من الهبة والأولاد محسوب على الورثة.

(8/260)


وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُتَنَقِّلًا إِلَى الْوَرَثَةِ لَمْ يُحْتَسَبْ على الورثة.
فهذا حكم القول الَّذِي يَجْعَلُ الْوَصِيَّةَ بِالْقَبُولِ مُمَلَّكَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وهذا قول ينكسر. اهـ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَأَوْلَادُ الْجَارِيَةِ وَمَا وُهِبَ لَهَا ملكا للموصى له، لا يحتسب به من الثُّلُثِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَمْلِكْهُ.
إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ رَدَّهَا فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ، إِلَى الْمَيِّتِ وَلَهُ ولدها وما وهب لها.
واختلف أصحابنا، فكان بعضهم يجعل ذلك خَارِجًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، إِنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بالموت كالميراث، فكذلك إِذَا رَدَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ وَمِلْكِ مَا حَدَثَ مِنْ كَسْبِهَا وَوَلَدِهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا خَارِجٌ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ.
وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ وَإِنْ رَدَّ فَكَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، فَإِذَا رَدَّهَا، فَقَدْ أَبْطَلَ مِلْكَهُ.
وَقَوْلُهُ: " وَلَهُ وَلَدُهَا وَمَا وُهِبَ لَهَا ".
يَعْنِي: لِوَارِثِ الْمُوصِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَبِلَهَا ثُمَّ رَدَّهَا بالهبة. هذا جَوَابُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي كَسْبِهَا وَوَلَدِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: " لِلْمُوصَى لَهُ الْجَارِيَةُ، وَثُلُثُ وَلَدِهَا، وَثُلُثُ مَا وُهِبَ لَهَا " تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يجوز أن يملكها الْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ إِلَّا مَا صَارَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ، وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِمْ مِثْلَا الْجَارِيَةِ فَلِذَلِكَ صَارَ جَمِيعُهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِمْ مِثْلَا الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ فَلِذَلِكَ صَارَ لِلْمُوصَى لَهُ من ذلك ثلثه، ولورثة ثُلُثَاهُ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: لَهُ ثُلُثَا الجارية، وثلثا ولدها وكسبها.
ولست أعرف تَعْلِيلًا مُحْتَمِلًا مَا ذَكَرَاهُ وَكِلَا هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فاسد: لأن الكسب والولد تبع لمالك الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ عِنْدَ حُدُوثِ النَّمَاءِ والمكسب بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ: فَلَهُمْ كُلُّ الْكَسْبِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُ الموصى له شيئا.
وإن كانت مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ، فَلَهُ كُلُّ الْكَسْبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُ الْوَرَثَةُ شَيْئًا.
فَأَمَّا تَبْعِيضُ الْمِلْكِ فِي النَّمَاءِ وَالْكَسْبِ مِنْ غَيْرِ تبعيض ملك الأصل وجه له، وليس

(8/261)


بلازم أَنْ يَمْلِكَ الْوَرَثَةُ مِثْلَيْ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوصَى لَهُ، بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ فِيمَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا يلزم ذلك فيما ملك من تركة بينهم.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الزِّيَادَةِ، كَالسِّمَنِ وَزِيَادَةِ الْبَدَنِ، إِذَا حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ وَمَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ مَا اتصل من الزيادة تبع لأصله يتنقل مَعَ الْأَصْلِ، إِلَى حَيْثُ انْتَقَلَ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إِذَا رَدَّهَا: فَلِلْمُوصَى لَهُ فِي رَدِّهَا أربعة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرُدَّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَلَا يَكُونُ لِرَدِّهِ تَأْثِيرٌ كَمَا لَا يَكُونُ لِقَبُولِهِ لَهُ، لَوْ قَبِلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ تأثيرا، وخالف فيه خلافا يذكره بَعْدُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِهِ: فَالرَّدُّ صَحِيحٌ قَدْ أَبْطَلَ الوصية، ورد ذَلِكَ إِلَى التَّرِكَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبُولُ الورثة، ويكونوا فيه على فرائضهم.
فإن قال: ردت ذَلِكَ لِفُلَانٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: احْتَمَلَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا، أَنْ يُرِيدَ لرضا فُلَانٍ، أَوْ لِكَرَامَةِ فُلَانٍ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، صَحَّ الرَّدُّ، وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَعَادَتْ إِلَى التَّرِكَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِالرَّدِّ لِفُلَانٍ: هِبَتَهَا لَهُ فلا تصح هبته لها قَبْلَ الْقَبُولِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بَعْدُ.
وَلَوْ قَبِلَهَا: صَحَّ، إِذَا وُجِدَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْهِبَةِ، وَلَا يَكُونُ فَسَادُ هَذِهِ الْهِبَةِ مُبْطِلًا لِلْوَصِيَّةِ، وَمَانِعًا مِنْ قَبُولِهَا، لِأَنَّ هِبَتَهُ لَهَا إِنَّمَا اقْتَضَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ بَعْدَ دُخُولِهَا فِيهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ قَبْضِهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ الْهِبَةِ إِيجَابًا وَقَبُولًا، لِدُخُولِ الْوَصِيَّةِ فِي مِلْكِهِ بِالْقَبُولِ.
فَعَلَى هَذَا تَعُودُ الوصية للورثة خُصُوصًا دُونَ أَهْلِ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا، وَيَكُونُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهَا سَوَاءً، لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَهُمْ مَحْضَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ رَدُّهَا بِلَفْظِ الرَّدِّ دُونَ الْهِبَةِ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، فَهِيَ كَالْإِقَالَةِ.
وَإِنْ كَانَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهَا ثَابِتًا، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْهِبَةِ، لَكِنْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قَبُولٍ، كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الْقَبُولِ.
فَعَلَى هَذَا: تَعُودُ بَعْدَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ تَرِكَةً، يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا، وَفَرَائِضُ الْوَرَثَةِ.
والوجه الثالث: أنها تصح بالرد مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا للموصى له بقبولها، فملكه لها قبل القبض، غير منبرم، فَجَرَتْ مَجْرَى الْوَقْفِ إِذَا رَدَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَبُولِهِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ:

(8/262)


صَحَّ رَدُّهُ، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الرَّدُّ إِلَى الْقَبُولِ، وإن كان ملكا، ثُمَّ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الرَّدِّ تَرِكَةً.

فَصْلٌ:
وإذا رد الوصية بما يدل لَهُ عَلَى الرَّدِّ:
لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ الْمَالَ، ولم يبطل حقه في الْوَصِيَّةِ بِالرَّدِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَمْلِكُ الْمَالَ، وَيَصِحُّ الرد، ومثله يقول في الشفعة، إذا عفى عَنْهَا عَلَى مَالٍ بُذِلَ لَهُ.
وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: لِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ كَالْبَيْعِ - وَاللَّهُ أعلم -.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى له بثلث شيء، بعينه استحق ثلثاه كان له الثلث الباقي إن احتمله ثلثه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ دَارٍ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا، فَاسْتُحِقَّ ثُلُثَا الدَّارِ، وَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي ثُلُثُهَا.
فَالثُّلُثُ كان الموصى لَهُ إِذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الثُّلُثِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ: لَمَّا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهَا، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا، تَنَاوَلَتِ الْوَصِيَّةُ ثُلُثَ مِلْكِهِ مِنْهَا، فَإِذَا بَانَ أَنَّ مِلْكَهُ مِنْهَا الثُّلُثُ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ مِنْهَا، كَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ ماله، وهو ثلاث مائة درهم، فاستحق منها مائتان كانت الوصية بثلث المائة الباقية.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا طَرَأَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ أن يكون عند الوصية غير ملكه لِلثُّلْثَيْنِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بثلث دار قدر ملكه: كَانَ لَهُ جَمِيعُ الثُّلُثِ إِذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، كَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهَا، فَاسْتَحَقَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْهَا.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ رَفْعَ يَدِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ كَزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ منها ما بقي من ثلثها صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ الثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الْبَيْعِ، فكذلك تصح الوصية بِالثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِثُلُثِ الْمَالِ وَجْهٌ. لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تُعْتَبَرْ إِلَّا فِي ثُلُثِ مِلْكِهِ، وَمِلْكُهُ هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ.
وَلَوْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ فَقَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لَكَ بِثُلُثِ مِلْكِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَاهَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ ثُلُثِهَا الْبَاقِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْوَصَايَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الِاسْتِحْقَاقِ:
" وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ، فَأَذْهَبَ السَّيْلُ ثُلُثَيْهَا، وَبَقِيَ ثُلُثُهَا، فَالثُّلُثُ الْبَاقِي

(8/263)


للموصى له إذا خرج من الثلث وقيل إن الوصية موجودة، وخارجة من الثلث. أهـ.
فَسَوَّى الشَّافِعِيُّ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ مَشَاعًا، وَبَيْنَ ذهاب ثلثها بالسيل تجوزا في أن الوصية تجوز بِالثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ بِالسَّيْلِ.
وَالَّذِي أَرَاهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقِ الثلثين لا يمنع من إمضاء الوصية بالثلث الْبَاقِي كُلِّهِ.
وَذَهَابُ الثُّلُثَيْنِ مِنْهَا بِالسَّيْلِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ الْبَاقِي وَيُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الثُّلُثِ الْبَاقِي.
وَالْفَرْقُ بينهما أن الوصية بالثلث منها هو ما تبع فِي جَمِيعِهَا فَإِذَا اسْتُحِقَّ ثُلُثَاهَا لَمْ يُمْنَعْ أن يكون الثلث الباقي سائغا فِي جَمِيعِهَا فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي جَمِيعِهِ.
وَإِذَا هلك ثلثاها بالسيل، يجوز إن لم يكن الثلث الباقي منها هو الثلث الْمُشَاعَ فِي جَمِيعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بثلث ما بقي وثلث ما هلك فيكون حُكْمُ الْإِشَاعَةِ فِي الْجَمِيعِ بَاقِيًا.
أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ دَارِ جَمِيعُهَا بِيَدِهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْدَ الشِّرَاءِ نِصْفَهَا: كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي هُوَ الْمَبِيعُ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ نِصْفَهَا وَلَكِنْ أَذْهَبَ السَّيْلُ نصفها، كان للمشتري نصف ما بقي بعدما أذهبه السيل منها.
فإن قيل: فليس لَوْ أَوْصَى لَهُ بِرَأْسٍ مِنْ غَنَمِهِ فَهَلَكَ جَمِيعُهَا إِلَّا رَأْسًا مِنْهَا بَقِيَ: فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَيَّنُ فِيهِ وَلَا يَكُونُ الْهَالِكُ وَإِنْ كَانَ متميزا من الوصية وغيرها فهلا كان ما ذهب بالسيل مثل ذلك؟ .
قِيلَ الْوَصِيَّةُ بِرَأْسٍ مِنْ غَنَمِهِ يُوجِبُ الْإِشَاعَةَ فِي كُلِّ رَأْسٍ مِنْهَا وَإِنَّمَا جُعِلَ إِلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ مِيرَاثِهِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الدَّارِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ شائع في جميعها فافترقا.
فإذا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْتُهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ، وَمَا رَأَيْتُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ، تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَصِحُّ بِهِ الْجَوَابَانِ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يخلف رجل ثلاث مائة درهم، وثلاثين دينارا وقيمتها ثلاث مائة دِرْهَمٍ، وَيُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، فَيَكُونُ لَهُ ثلث الدنانير، وثلثا الدراهم.
فإذا أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ ثُلُثَ الْجَمِيعِ مِنْ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَعَلَهُ فِي الْجَمِيعِ مُشَارِكًا [لَهُمْ] .
فَلَوْ تَلِفَ مِنَ الدَّنَانِيرِ عِشْرُونَ، وَبَقِيَ مِنْهَا عَشَرَةٌ:
كَانَ له ثلث العشرة الباقية، وثلث الثلاث مائة درهم كلها.

(8/264)


فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ بِعَيْنِهَا، وأوصى لآخر بثلث الدراهم بِعَيْنِهَا، فَهَلَكَ مِنَ الدَّنَانِيرِ عِشْرُونَ، وَبَقِيَ مِنْهَا عَشَرَةٌ وَسَلِمَتِ الدَّرَاهِمُ كُلُّهَا.
فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَاهُ: أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثُ دينار.
وللموصي بثلث الدراهم، ثلث الثلاث مائة وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ.
وَعَلَى [الظَّاهِرِ] مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ مِنَ العشرة الباقية ستة دنانير وثلثي دِينَارٍ.
وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ مِنْ جميع الثلاث مائة سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ قِيمَةُ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَثُلُثُ دِينَارٍ، وَيَبْقَى مَعَ الورثة ثلاثة دنانير وثلث، ومائتان وثلاثة وثلاثون درهما وثلث، وَقِيمَةُ الْجَمِيعِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا وَثُلُثَا دِينَارٍ، وهو ضعف ما صار إلى الموصى له.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّتَانِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْوَصِيَّتَانِ تُعَادِلُ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنْ سِتِّينَ دِينَارًا، فَإِذَا تَلِفَ مِنَ التَّرِكَةِ عِشْرُونَ دِينَارًا فَهُوَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ، ويرجع النقص على الوصيتين معا دون أحدهما، فَنُقِصَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ.
فَالْمُوَصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لَهُ قَبْلَ التَّلَفِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَصَارَ لَهُ بَعْدَ التَّلَفِ ثُلُثَاهَا، وذلك ستة دنانير وثلثا دينار، وللموصى لَهُ بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ، كَانَ لَهُ قَبْلَ التَّلَفِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَصَارَ لَهُ بَعْدَ تَلَفِ الدَّنَانِيرِ ثُلُثَا الدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ.
وَعَلَى هَذَا: لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ الدَّرَاهِمِ بِأَعْيَانِهَا، وَسُدُسِ الدَّنَانِيرِ بِأَعْيَانِهَا، وَالتَّرِكَةُ بِحَالِهَا: كَانَ لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَلَوْ تَلِفَ مِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَبَقِيَتْ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَعَ جَمِيعِ الدَّنَانِيرِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ دِينَارًا. فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَأَيْتُهُ: يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ سُدُسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ.
وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثلاثة دنانير وثلث دينار، وثلاثة ثلاثون درهما وثلث درهم.
لأن يجعل نقص أحد المالين راجعا إلى الْمَالَيْنِ، وَقَدْ نُقِصَ الثُّلُثُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِسُدُسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ الثُّلُثَ.
فَصَارَ مَعَ الْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثُ دِينَارٍ، وَثَلَاثَةٌ وثلاثون درهم وثلث درهم قيمة الْجَمِيعِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثَا دِينَارٍ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْأَرْبَعِينَ الْبَاقِيَةِ مِنَ التَّرِكَةِ عَيْنًا وَوَرِقًا.

فَصْلٌ:
فِي خَلْعِ الثُّلُثِ
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رحمة الله عليه:

(8/265)


" إذا أوصى الرجل بِمِائَةِ دِينَارٍ لَهُ حَاضِرَةٍ، وَتَرَكَ غَيْرَهَا أَلْفَ دِينَارٍ دَيْنًا غَائِبَةً: فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الوصية بالمائة كلها عاجلا سواء أمضى الدَّيْنُ وَسَلِمَ الْغَائِبَ أَمْ لَا، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وَثُلُثَ الدَّيْنِ مِنَ الْمَالِ الْغَائِبِ، وَيَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ شَرِيكًا بِالثُّلُثِ فِي كُلِّ التَّرِكَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَسُمِّيَ ذلك خلع الثلث، واستدلالا بأن للموصى له ثلث ماله، فإذا غير الْوَصِيَّةَ فِي بَعْضِهِ. فَقَدْ أَدْخَلَ الضَّرَرَ عَلَيْهِمْ بِتَعْيِينِهِ فَصَارَ لَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْتِزَامِ الضَّرَرِ بِالتَّعْيِينِ، وَبَيْنَ الْعُدُولِ إِلَى مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الموصي فهذا دليل مالك وما عليه فِي هَذَا الْقَوْلِ.
وَاسْتَدَلَّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُوصِي لِلْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ مِنْ جُمْلَةِ التركة الغائبة، بمنزلة القبول للجاني إذا تعلقت الجناية في رقبته فسيده بالخيار بين أن يفديه بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ.
فَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، ودليلاه.
ومذهب الشافعي: أن الموصى لَهُ ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وَثُلُثَاهَا الْبَاقِي مَوْقُوفٌ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ وَوُصُولِ الْغَائِبِ، لَا يَتَصَرَّفُ فيه الوارث، ولا الموصى له، وإذا قبض الدين ووصل مِنَ الْغَائِبِ مَا يُخْرِجُ الْمِائَةَ كُلَّهَا مِنْ ثُلُثِهِ، أُمْضِيَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ.
وَإِنْ وَصَلَ ما يخرج بَعْضَهَا: أُمْضِيَ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا. فإن برئ الدين وقدم الْغَائِبُ: اسْتَقَرَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وتصرف الورثة في ثلثينها، لِأَنَّهَا صَارَتْ جَمِيعَ التَّرِكَةِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا انتظر بِالْوَصِيَّةِ قَبْضُ الدَّيْنِ، وَوُصُولُ الْغَائِبِ، هَلْ يُمَكَّنُ الموصى له من التصرف في ثُلُثِ الْمِائَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُمَكَّنُ مِنَ التصرف فيها لأنه ثلث محض.
والوجه الثاني: يمنع من التصرف فيها لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا لَا يَتَصَرَّفُ الْوَرَثَةُ فِي مِثْلَيْهِ، وَقَدْ منع الورثة من التصرف في ثلث الْمِائَةِ الْمَوْقُوفِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُوصَى لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثِ الْمُمْضَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فساد ما ذهب إليه مالك:
أنه يأول إلى أحد أمرين بمنع الوصية منها لأنه إِذَا خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْوَصِيَّةِ فِي ثلث كل التركة أو إمضاء الوصية في كل الْمِائَةِ.
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ خَارِجٌ عَنْ حكم الوصية، لأنهم إذا اخْتَارُوا مَنْعَهُ مِنْ كُلِّ الْمِائَةِ، فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ ثُلُثُ كُلِّ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوصًى لَهُ.

(8/266)


وإن اختاروا ألا يُعْطُوا ثُلُثَ التَّرِكَةِ، فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ إِمْضَاءُ الْوَصِيَّةِ بكل المائة، فعلم فساد [دليل] مذهبه بما يأول إليه حال كل واحد من الخيارين.
وأما جعلهم تعيين الوصية بالمائة الحاضرة، أدخل ضرر، فالضرر قد رفعناه بوقف الثلثين فعلى قَبْضِ الدَّيْنِ، وَوُصُولِ الْغَائِبِ، فَصَارَ الضَّرَرُ بِذَلِكَ مُرْتَفِعًا، وَإِذَا زَالَ الضَّرَرُ ارْتَفَعَتِ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فَبَطَلَ الْخِيَارُ فِيهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ يُفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ:
أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِ عَبْدٍ حَاضِرٍ وَبَاقِي تَرِكَتِهِ الَّتِي يَخْرُجُ كُلُّ الْعَبْدِ من ثلثها دين غائب فيعتق في الْعَبْدِ ثُلُثُهُ وَيُوقَفُ ثُلُثَاهُ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ ووصول الغائب.
فإذا قبض أوصل منهما، أو من أحدهما كما يَخْرُجُ كُلُّ الْعَبْدِ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقَ جَمِيعُهُ، وهل يمكن الورثة في خلال وقف الثلثين الموقوفين من العبد أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُمَكَّنُونَ مِنْ ذلك لئلا يلزمهم إمضاء الوصية بما لا يَنْتَفِعُوا بِمِثْلَيْهِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ إِذَا وَقَفَ ثُلُثَيْهَا مُنِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِهَا اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ.
فعلى هذا إن تلف الدَّيْنُ، وَتَلِفَ الْغَائِبُ، اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمْ عَلَى مَا وقف من ثلثيه وجاز لهم بيعه.
وإن قبض مِنَ الدَّيْنِ أَوْ قَدِمَ مِنَ الْغَائِبِ مَا يُخْرِجُ جَمِيعَهُ مِنْ ثُلُثِهِ رَجَعَ الْعَبْدُ عَلَيْهِمْ بما أخذه مِنْ كَسْبِهِ وَأُجْرَةِ خِدْمَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْعَبْدِ بِمَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتَخْدَمُوهُ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ إِجَازَةُ عِتْقِهِ، فصاروا متطوعين بالنفقة عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نُفُوذُ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ. وَإِنْ مُنِعَ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثَيْهَا.
فعلى هذا إن برئ الدَّيْنُ وَتَلِفَ الْغَائِبُ: رَقَّ ثُلُثَاهُ، وَرَجَعَ الْوَرَثَةُ بِثُلُثَيْ كَسْبِهِ.

فَصْلٌ:
فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ
وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَتَرَكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عَيْنًا، وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الِابْنَيْنِ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ: فَلِلْمُوصَى لَهُ الثلث، ثُلُثُ الْعَيْنِ وَثُلُثُ الدَّيْنِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَبْقَى سَهْمَانِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ.
وَفِي اسْتِيفَاءِ الِابْنِ حَقَّهُ مِنْ دَيْنِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي العين والدين فلا يَسْتَوْفِي مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَقَّهُ مِنَ الدَّيْنِ لِاسْتِحْقَاقِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ.

(8/267)


فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، يأخذ الموصى له ثلثها، ثلاثة دراهم وثلث، وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِابْنَيْنِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وثلث وَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ ثُلُثِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ، ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ وَيَبْقَى عَلَيْهِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ لِلِابْنِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَوِ الْخُمُسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ من عليه مِنَ الِابْنَيْنِ يُسْتَوْفَى حَقُّهُ مِنْهُ، وَيَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنُ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِأَنْ يَأْخُذَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ من التركة ما يلزم رده إلى التركة، ويجعل بدل أخذه بقدر حقه ورده قضاها مِنْ دَيْنِهِ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَجْهُ الْعَمَلِ فيه: أن تكون التركة وهي عشرون دينارا عَيْنًا وَدَيْنًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، يُسْتَحَقُّ بكل سهم منها في التَّرِكَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ، فَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ الدين من قدر حقه وهو ستة دراهم وثلثان، من الدين عليه، ويبقى عليه، ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَثُلُثٌ.
وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الموصى له والابن الآخر بالتسوية، فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ خَمْسَةً، وَيَبْقَى لَهُ مِنِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ، دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، يُرْجَعُ بِهِ عَلَى من عليه الدين، ويأخذ الِابْنُ الْآخَرُ خَمْسَةً، وَيُرْجَعُ بِبَاقِي حَقِّهِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، عَلَى أَخِيهِ، وَقَدِ اسْتَوْفَوْا جَمِيعًا حُقُوقَهُمْ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ وَالتَّرِكَةُ بِحَالِهَا. قِيلَ التَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى أربعة أسهم سهم وهو الرُّبُعُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ لا تصح، فابسطها من ثمانية يخرج الكسر منها فتقسم العشرون الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمَانِ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِكُلِّ ابْنٍ فَيَسْقُطُ مِنْ دَيْنِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ العشرين، سبعة دراهم ونصف، وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، وَالِابْنِ الْآخَرُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بسهم منها أربعة درهم ويأخذ الابن بثلاثة أَسْهُمٍ مِنْهَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَيَبْقَى عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَهِيَ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِأَخِيهِ ثَلَاثَةُ أسهم، درهم ونصف، يَنْضَمُّ إِلَى مَا أَخَذَهُ مِنَ الْعَيْنِ وَهُوَ ستة، تصير سبعة دراهم ونصف وَهُوَ جَمِيعُ حَقِّهِ.
وَلِلْمُوصَى لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الدين سهمين، دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، يَنْضَمُّ إِلَى مَا أَخَذَهُ مِنَ العين وهو أربعة، تصير خمسة دراهم وهم جميع الربع الذي أوصى لَهُ بِهِ.
وَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ، كَانَتِ التَّرِكَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، مِنْهَا سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَسَهْمَانِ لِكُلِّ ابْنٍ فَيَأْخُذُ صاحب الدين سهمين مِنْ دَيْنِهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى له ثلاثة أسهم، سهمان لِلْأَخِ، سِتَّةُ دَرَاهِمٍ وَثُلُثَانِ، وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَيَكُونُ الدِّرْهَمَانِ الْبَاقِيَانِ عَلَى

(8/268)


صَاحِبِ الدَّيْنِ بَيْنَ أَخِيهِ، وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى ثلاثة، ثلثاه لأخيه وهو درهم وثلث ويصير مَعَ مَا أَخَذَهُ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَثُلُثُهُ لِلْمُوصَى له وهو ثلثي دِرْهَمٍ، يَصِيرُ مَعَ مَا أَخَذَهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. ثم يتفرع على هذا الوجه.
والمسألة الثانية: أن يكون عَلَى الِابْنِ مَعَ دَيْنِ أَبِيهِ، عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دين لِأَجْنَبِيٍّ، وَقَدْ فَلَّسَ بِهَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْأَبِ.
فَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الِابْنُ مِنَ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ وجهان ذكرهما ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا أَخُوهُ الموصى لَهُ، دُونَ غَرِيمِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا بِإِزَائِهِ مِنْ دَيْنِهِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى، وَيَبْقَى عَلَيْهِ دَيْنُ الْغَرِيمِ بِكَمَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَقَّهُ مِنَ الْعَيْنِ مَالٌ مُكْتَسَبٌ، فلا يختص به بعض الدَّيْنِ وَيَسْتَوِي فِيهِ شُرَكَاؤُهُ وَالْغَرِيمُ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قوليه فِي الشُّفْعَةِ، إِذَا وَرِثَ الْأَخَوَانِ دَارًا، ثُمَّ مات أحدهما وخلف ابنين، فباع أحد الابنين حقه في الدَّارِ فَفِي مُسْتَحِقِّ الشُّفْعَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لأخيه والموصى له دون عمه.
والثاني: أن الشفعة بَيْنَ أَخِيهِ وَعَمِّهِ.
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ حِصَّةُ صاحب الدين بين أخيه والموصى له وغريمه.
فإذا قيل بهذا الوجه. فطريق العمل به أن يقال: يبرأ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْ ثُلُثِ دَيْنِهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دراهم وثلث قدر حقه منه، عَلَيْهِ ثُلُثَاهُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ ثُمَّ تُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ أَثْلَاثًا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْأَخِ ثُلُثَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ هِيَ حِصَّةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ، فَتُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، والذي عليه لأخيه ثلاثة دراهم وثلث قدر مِيرَاثِهِ مِنْ دَيْنِهِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ قَدْرُ الْوَصِيَّةِ لَهُ مِنْ دَيْنِهِ، وَعَلَيْهِ لِغَرِيمِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَتُقَسَّمُ الثَّلَاثَةُ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ على خمسة أسهم، ويأخذ الأخ بسهمه مِنْهَا، ثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، وَيَبْقَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ، ويأخذ الموصى له بسهم منها وَيَبْقَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ، وَيَأْخُذُ الْغَرِيمُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا، دِرْهَمَيْنِ، وَيَبْقَى لَهُ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ.
ثم يتفرع على هذا أن يترك عَشَرَةً عَيْنًا، وَعَشَرَةً دَيْنًا عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا، وَيُوصِي لِرَجُلٍ بِثُلُثَيْ دَيْنِهِ، فَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ نِصْفَيْنِ، يَأْخُذُ الِابْنُ الذي لا دين عليه نصفها خمسة، ويبقى خَمْسَةٌ هِيَ حِصَّةُ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فتصرف فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ، وَفِي مُسْتَحِقِّهَا وجهان حكاهما ابن سريج بنيا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ لِأَخِيهِ، دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّيْنِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ، فَيَكُونُ لِلْأَخِ سَهْمٌ من الخمسة ويأخذ به من الخمسة درهما واحدا، ويبقى

(8/269)


من حقه ثلث درهم، ويرجع بِهِ عَلَى أَخِيهِ، وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ مِنْ خَمْسَةٍ، وَيَأْخُذُ بِهَا مِنَ الْخَمْسَةِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَيَبْقَى لَهُ مِنْ وَصِيَّتِهِ دِرْهَمَانِ وثلثان، ويرجع بِهَا عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَقَدْ بَرِئَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ سِتَّةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْنِ.
والوجه الثاني: أن الخمسة العين الَّتِي هِيَ حِصَّةُ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنَ الْعَيْنِ مُخْتَصٌّ بِهَا الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ دُونَ الْأَخِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ إِلَى الأخ منها أربعة، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ ثُلُثَيِ الدَّيْنِ دِرْهَمٌ وثلثان، ويرجع به على من عليه الدين، ويبقى للآخر دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَخِيهِ.
وَفِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ دَقِيقِ الْمَسَائِلِ فِقْهٌ وَحِسَابٌ، وما أغفلناه كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ وَالضَّجَرِ (وَاللَّهُ الْمُعِينُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ) .

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْمَسَاكِينِ نُظِرَ إِلَى مَالِهِ فَقُسِّمَ ثُلُثُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ولو أوصى بثلثه لِلْمَسَاكِينِ دَخَلَ مَعَهُمُ الْفُقَرَاءُ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِلْفُقَرَاءِ دَخَلَ مَعَهُمُ الْمَسَاكِينُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لِأَنَّ الفقير مسكين، والمسكين فقير، وإنما يتميز الطرفان، إذا جمع بينهما بالذكر " اهـ.
فَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَا كَسْبَ.
وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الَّذِي لَهُ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ لَا يُغْنِيهِ.
فَالْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ المسكين على ما يستدل عَلَيْهِ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ.
فَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمَسَاكِينِ.
قُسِّمَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْمَسَاكِينِ أَوْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. أَوْ مِنَ الفقراء دون المساكين.
وهكذا إذا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ.
قُسِّمَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْفُقَرَاءِ، أَوْ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ، أَوْ مِنَ الْمَسَاكِينِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّ كِلَا الصِّنْفَيْنِ فِي الِانْفِرَادِ وَاحِدٌ.
ثُمَّ قُسِّمَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ من يستغني بمائة ومنهم من يستغني بخمسين أعطى من غناه مائة سهمان وأعطى من غناه خمسين سهما واحدا.
ولا يفضل ذو قرابة بقرابته، وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ ذُو الْقَرَابَةِ عَلَى غَيْرِهِ إِذَا كان فقيرا لقرابته لأن للعطية لَهُ صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ، وَمَا جَمَعَ ثَوَابَيْنِ كَانَ أفضل من التفرد بأحدهما.
فإذا صُرِفَ الثُّلُثُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الفقراء والمساكين ضمن.
فإن صرفه حصته فِي اثْنَيْنِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وجهان:

(8/270)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: أَنَّهُ يَضْمَنُ ثُلُثَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ أقل الأجزاء ثلاثة، والظاهر مساوتهم فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنَ الثُّلُثِ قدر ما لو دفعه إلى ثالث أخر، فَلَا يَنْحَصِرُ بِالثُّلُثِ، لَأَنَّ لَهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلَ.
وَلَوْ كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدٍ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ يَضْمَنُ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَيْهِمَا.
فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ: صرف الثلث في الصنفين بالتسوية ودفع السدس إلى الفقراء، وأقلهم ثلاثة، وإن صرفه في أحد الصنفين ضمن السدس للنصف الْآخَرِ وَجْهًا وَاحِدًا.
ثُمَّ عَلَيْهِ صَرْفُ الثُّلُثِ فِي فُقَرَاءِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، دُونَ الْمَالِكِ، كَالزَّكَاةِ، فَإِنْ تَفَرَّقَ مَالُهُ: أَخْرَجَ فِي كُلِّ بَلَدٍ ثُلُثَ مَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فِيهِ، نُقِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ. فَأَمَّا زَكَاةُ الفطر ففيه وجهان:
أحدهما: أنها تُخْرَجُ فِي بَلَدِ الْمَالِ، دُونَ الْمَالِكِ كَزَكَاةِ الْمَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُخْرَجُ فِي بَلَدِ الْمَالِكِ، دُونَ الْمَالِ، لِأَنَّهَا عَنْ فِطْرَةِ بَدَنِهِ، وطهور لِصَوْمِهِ.
فَإِنْ نَقَلَ الزَّكَاةَ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ فِي الْإِجْزَاءِ قَوْلَانِ.
فَأَمَّا نَقْلُ الْوَصِيَّةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَمِنْهُمْ مَنْ خرجه عَلَى قَوْلَيْنِ كَالزَّكَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُجْزِئُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ أَسَاءَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَيْثُ شاء.

فصل:
فإذا فرق الثلث فيما وَصَفْنَا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لَمْ يَمْلِكُوهُ إِلَّا بالقبول وَالْقَبْضِ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَكَذَا كُلُّ وَصِيَّةٍ عُلِّقَتْ بِصِفَةٍ لَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ جِنْسِهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِيمَنْ كَانَ مُسَمًّى فِي الْوَصِيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ بِالْعَطِيَّةِ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا بِهَا، وَمَنْ تَعَيَّنَ بِالْوَصِيَّةِ مَلَكَ بِهَا.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وكذلك لو أوصى لغازين في سبيل الله فهم الذين من الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ مَالُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا جُعِلَ ثُلُثُ مَالِهِ مَصْرُوفًا فِي الْغَارِمِينَ.
وَالْغَارِمُونَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ اسْتَدَانُوا فِي الْمَصَالِحِ العامة كتحمل للدية " العمد " أَوْ غُرْمِ مَالٍ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، أو تيسير الحج، أو إصلاح سبيلهم.
فَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْغَارِمِينَ، لَا يُرَاعَى فَقْرُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مَعَ الْغِنَى.

(8/271)


وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَدِينُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، فَيُرَاعَى فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مع الغنى والقدرة.
ثم ينظر فيما استدانوا: فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي مُسْتَحَبٍّ أَوْ مُبَاحٍ: أُعْطَوْا، وَإِنْ صَرَفُوهُ فِي مَعْصِيَةٍ: فَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا لَمْ يُعْطَوْا، لِمَا فِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ إِعَانَتِهِمْ عَلَيْهَا وَإِغْرَائِهِمْ بِهَا.
وَإِنْ تَابُوا فَفِي إِعْطَائِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: " لَا يُعْطَوْنَ " لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْطَوْنَ لِارْتِفَاعِهَا بِالتَّوْبَةِ.
وَأَقَلُّ ما يصرف الثلث في ثلاثة فصاعدا في الْغَارِمِينَ، وَأَيُّ الصِّنْفَيْنِ أَعْطَى مِنْهُمْ أَجْزَأَ، وَيَكُونُ مَا يُعْطِيهِمْ بِحَسْبِ غُرْمِهِمْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَيُعْطِي مَنْ لَهُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمْ، أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَوْ أَعْطَوْهُ فِي دَيْنِهِمْ، رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَ ".
فَإِنْ صرفه في اثنين: غرم للثالث، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ ثُلُثَ الثُّلُثِ.
وَالثَّانِي: أنه يضمن أقل ما يجزئه أن يعطيه ثالثا ويكون ذلك خاصا بغارمي بلد المال، ومن كَانَ مِنْهُمْ ذَا رَحِمٍ، أَوْلَى لِمَا فِي صِلَتِهَا مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَجِيرَانُ الْمَالِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] .
وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنه سيورثه ".
قال الشافعي: " وأقصى الجوار بينهم أربعين دارا، من كل ناحية " اهـ. هكذا لو أوصى لجيرانه، كان جيرانه منتهى أربعين دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَارُ: الدار والداران.
وقال سعيد بن جبير: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْإِقَامَةَ.
وَقَالَ أبو يوسف: هُمْ أَهْلُ الْمَسْجِدِ.
وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ نَازِلَا بَيْنَ قَوْمٍ فَأَتَى النبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليشكوهم، فبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ: اخْرُجُوا إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَقُولُوا: أَلَا إِنَّ الْجِوَارَ أَرْبَعُونَ دَارًا ".

فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَجَبَ صَرْفُهُ في الغزاة - كما قلنا فِي الزَّكَاةِ - وَيُصْرَفُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا من غزاة

(8/272)


الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ، عَلَى حَسَبِ مَغَازِيهِمْ، في القرب، والبعد، ومن كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا، أَوْ رَاجِلًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فِي بَلَدِ الْمَالِ، نُقِلَ إِلَى أَقْرَبِ البلاد فيه.

فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فِي بَنِي السَّبِيلِ.
صُرِفَ فِيمَنْ أَرَادَ سَفَرًا، إِذَا كَانَ فِي بَلَدِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَازًا، أَوْ مبتدئا بالسفر.
فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ: صُرِفَ فِيهِمْ وَهُمْ أَهْلُ سُهْمَانِ الزَّكَاةِ وَقُسِّمَ بَيْنَ أصنافهم بالتسوية وَجَازَ تَفْضِيلُ أَهْلِ الصِّنْفِ، بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ، إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا عُدِمَ صِنْفٌ مِنْهَا، رد على باقي الأصناف. وإذا عدم في الوصية أهل صنف لم يرد عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ وَنُقِلَ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ بَلَدٍ يُوجَدُونَ فِيهِ. فَإِنْ عدموا، رجع سهمهم إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالزَّكَاةِ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا تَعَيَّنَتْ لِلْأَشْخَاصُ، تَعَيَّنَتْ لِلْأَصْنَافِ، والزكاة لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْأَشْخَاصِ، لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْأَصْنَافِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ: اصْرِفُوا ثُلُثِي فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، أَوْ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ، أَوْ فِي سبيل الثواب.
قال الشافعي: " جزأ أَجْزَاءً، فَأُعْطِيَ ذُو قَرَابَتِهِ فُقَرَاءً كَانُوا أَوْ أغنياء، والفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، والغارمين، والغزاة، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالْحَاجِّ، وَيَدْخُلُ الضَّيْفُ، وَالسَّائِلُ، وَالْمُعْتَرُّ فِيهِمْ ".
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ الْمُوصِي: ضَمِنَ سَهْمَ مَنْ مَنَعَهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ إِلَى رَجُلٍ يَضَعُهُ حَيْثُ رآه.
لم يكن له أن يأخذ لِنَفْسِهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا. لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِهِ لَا بِأَخْذِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يصرف إلى وارث للموصي، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا، لِأَنَّ الْوَارِثَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَلَا أَنْ يُودِعَهُ غَيْرَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وَأَخْتَارُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَهْلَ الْحَاجَةِ مِنْ قَرَابَةِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُغْنِيَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ الرَّضَاعُ قَرَابَةً. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ له قرابة من جهة الأب والأم، وكان رضيعا، أَحْبَبْتُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَضِيعٌ: أَحْبَبْتُ أَنْ يُعْطِيَ جِيرَانَهُ، الْأَقْرَبَ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبَ، وَأَقْصَى الْجِوَارِ مُنْتَهَى أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَهُ أَفْقَرَ مَنْ يجده، وأشدهم تعففا، واستئثارا، وَلَا يُبْقِي فِي يَدِهِ شَيْئًا يُمْكِنُهُ أَنْ يخرجه من ساعته ".

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى لَهُ فَقَبِلَ أَوْ رَدَّ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لَهُ قَبُولُهُ وَرَدُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَسَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْعَطِيَّةُ.
وَالثَّانِي: الْوِلَايَةُ.

(8/273)


فَأَمَّا الْعَطِيَّةُ: فَهُوَ مَا يُوصِي بِهِ الرَّجُلُ مِنْ أَمْوَالِهِ، لِمَنْ أَحَبَّ. فَالْوَقْتُ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ قَبُولُ ذَلِكَ وَرَدُّهُ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي.
فَإِنْ قَبِلَ أَوْ رَدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ: صَحَّ وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حُكْمِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ.
فَأَمَّا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: فَلَا يَصِحُّ قَبُولُهُ وَلَا رَدُّهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: " يَصِحُّ الرَّدُّ وَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ، لِأَنَّ الرَّدَّ أَوْسَعُ حكما من القبول " اهـ.
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأُمُورٍ مِنْهَا.
إِنَّ الرَّدَّ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبُولِ، لِأَنَّهُمَا مَعًا يَرْجِعَانِ إِلَى الْوَصِيَّةِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ الْمَوْتِ زَمَانًا لِلْقَبُولِ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ زَمَانًا لِلرَّدِّ، وَصَارَ كَزَمَانِ مَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ الَّذِي لَا يَصِحُّ فِيهِ قَبُولٌ، وَلَا رَدٌّ وَعَكْسُهُ مَا بعد الموت كما صَحَّ فِيهِ الْقَبُولُ، صَحَّ فِيهِ الرَّدُّ.
وَمِنْهَا: إِنَّ الرَّدَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ عَفْوٌ قَبْلَ وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَجَرَى مَجْرَى الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَعَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ مَرْدُودٌ عَنِ الْوَصِيَّةِ، فَلَمْ يكن رده له مُخَالِفًا لِحُكْمِهَا.

فَصْلٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَسَوَاءٌ أَوْصَى له بأبيه، أو غيره " اهـ. وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى طَائِفَتَيْنِ، زَعَمَتْ إِحْدَاهُمَا أَنَّ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ بِابْنِهِ فَعَلَيْهِ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهَا.
وَزَعَمَتِ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ إِذَا قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِأَبِيهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: صَحَّ الْقَبُولُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْوَصَايَا.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا خَطَأٌ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ كَغَيْرِهِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِأَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي عتق عليه ثم نظر.
فإن كان قبوله صحيحا: ورثه أبوه لو مات.
فلو كَانَ عِنْدَ قَبُولِهِ مَرِيضًا كَانَ فِي مِيرَاثِهِ لَوْ مَاتَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَرِثُ، لِأَنَّ عِتْقَهُ بِالْقَبُولِ وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَرِثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِهِ فَيَكُونُ وصية منه.
فعلى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: لَوْ قَبِلَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَرِقُّ ثُلُثَاهُ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لَهُ وَلَيْسَ الوصية مِنْهُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بالولاية على مال طفل، وتفريق ثلثه، أَوْ تَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ، فَيَصِحُّ قَبُولُهَا وَرَدُّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، بِخِلَافِ وَصَايَا الْعَطَايَا.
لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ، فَكَانَ قَبُولُهُ فِي حَيَاةِ العاقد أصح وتلك عَطِيَّةٌ تُقْبَلُ فِي زَمَانِ التَّمْلِيكِ، وَقَبُولُهَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ تَنْفِيذُ الْوَصَايَا.

(8/274)


ولو رد الوصية في حال حَيَاةِ الْمُوصِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا فِي حَيَاتِهِ.
وَلَوْ قَبِلَهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، صَحَّتْ، وَكَانَ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا إن شاء، والخروج منها إن شَاءَ، فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ، إِذَا كَانَ حَاضِرًا، وَإِنْ غَابَ، لَمْ يَجُزْ.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا كَانَ لَازِمًا مِنَ الْعُقُودِ اسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَالْوَصِيَّةُ إِنْ خَرَجَتْ عَنْ أَحَدِهِمَا صَارَتْ أَصْلًا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ.
والثاني: أنه لو كان حضور صاحب الحق شَرْطًا فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْوَصِيَّةِ، لَكَانَ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ رِضَاهُ وَإِنْ كان حاضرا غير معتبر دليل على أنه ليس بشرط.

فَصْلٌ:
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَبَاهُ فِي مَرَضِ موته، بمائة درهم، هي قدر ثلثه، لأنه لا يملك سوى ثلثمائة دِرْهَمٍ عُتِقَ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَمْ يَرِثْهُ، لِأَنَّ عِتْقَهُ إِذَا كَانَ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالتَّوْرِيثِ. وَلَوْ وَرِثَ لَمُنِعَ الْوَصِيَّةَ، وَلَوْ مُنِعَهَا لَبَطَلَ الْعِتْقُ والشراء، وإذا بطل الْعِتْقُ وَالشِّرَاءُ، بَطَلَ الْمِيرَاثُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُهُ، يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، أَثْبَتْنَا الْوَصِيَّةَ، وَأَبْطَلْنَا الْمِيرَاثَ.
فَلَوِ اشْتَرَى بَعْدَ أَنْ عَتَقَ أبوه عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَعْتَقَهُ، كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا لأنه قد اشترى ثُلُثَهُ بِعِتْقِ أَبِيهِ، فَرُدَّ عَلَيْهِ عِتْقُ مَنْ سِوَاهُ.
وَلَوْ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ أَبِيهِ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ جَمِيعُ ثُلُثِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى أَبَاهُ وَلَيْسَ لَهُ ثُلُثٌ يَحْتَمِلُهُ، وَلَا شَيْئا مِنْهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ الشِّرَاءَ بَاطِلٌ، لأنه لو صح، لثبت الملك، لو ثَبَتَ الْمِلْكُ لَنَفَذَ الْعِتْقُ، وَالْعِتْقُ لَا يَنْفُذُ جَبْرًا فِيمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ، فَكَذَلِكَ كَانَ الشِّرَاءُ باطلا، وسواء أفاد بعد ذلك، ما خرج ثَمَنَ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ، أَوْ لَمْ يُفِدْ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الشِّرَاءَ لَازِمٌ صحيح، لأنه لم يقترف بِالْعَقْدِ مَا يُفْسِدُهُ وَإِنَّمَا عِتْقُهُ بِالْمِلْكِ حَالٌ يَخْتَصُّ بِالْعَاقِدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ.
فَعَلَى هَذَا: يُسْتَبْقَى رِقُّ الْأَبِ، عَلَى مِلْكِ ولده، وإن أَفَادَ مَا يُخَرَّجُ بِهِ مِنْ ثَمَنُ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ، عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا، كَانَ عَلَى رِقِّهِ، فَإِذَا مَاتَ الِابْنُ الْمُشْتَرِي، صَارَ الْأَبُ مَوْرُوثًا لِوَرَثَةِ ابْنِهِ.
فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمُ الْأَبُ، لِأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ، أَوْ بَنُونَ، عُتِقَ عَلَيْهِمْ بِمِلْكِهِمْ لَهُ بِالْمِيرَاثِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَرَثَةُ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمُ الْأَبُ، لِأَنَّهُمْ أَعْمَامٌ أَوْ بَنُو أَعْمَامٍ كَانَ مِلْكُهُمْ مَوْقُوفًا.

(8/275)


والوجه الثالث: أن الشراء موقوف فَإِنْ أَفَادَ الِابْنُ مَا يُخْرِجُ بِهِ عَنِ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ، عُتِقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرِثْهُ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ ثَمَنِهِ، عُتِقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ، وَفِي مِيرَاثِهِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ عِتْقَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ.
وَإِنْ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا، وَلَا أُبْرِئَ مِنْ ثَمَنِهِ، فُسِخَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ، وَرُدَّ الْأَبُ عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ لا يجوز أن يملك الابن أباه، فلا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ فُسِخَ الْعَقْدُ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ.
فَعَلَى هَذَا لَوِ اشْتَرَى الِابْنُ أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَثَمَنُهُ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ ثُمَّ مَاتَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يستوعب جميع تركته.
فإن أمضى الغرماء ما أعتقه نَفَذَ، وَإِنْ رَدُّوهُ فَهُوَ عَلَى الرِّقِّ، وَفِي بطلان الشراء وجهان:
أحدهما: باطل، لئلا يستبقى ملك الابن لأبيه.
والوجه الثاني: جَائِزٌ، وَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ ثَمَنِهِ.
ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: لَوْ وُهِبَ أَبُوهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَقَبِلَهُ وَقَبَضَهُ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ تَرِكَتِهِ، لَمْ تَبْطُلِ الهبة. وهل ينفذ عتقه، أو يباع دُيُونِ غُرَمَائِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِتْقَهُ نَافِذٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَهْلِكْ عَلَى غُرَمَائِهِ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عِتْقَهُ يُرَدُّ، كما يرد عتق المباشرة، وتباع دُيُونِ غُرَمَائِهِ، لِأَنَّ دُيُونَهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعِتْقِ في المرض. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى بدار كَانَتْ لَهُ وَمَا ثَبَتَ فِيهَا مِنَ أَبْوَابِهَا وَغَيْرِهَا دُونَ مَا فِيهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِذَا كَانَتْ بِالدَّارِ، دَخَلَ فِيهَا كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الدَّارِ وَلَهَا. وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَصِيَّةِ كُلُّ مَا كَانَ في الدار إلا لم يكن منها.
الداخل في الوصية: حيطانها، وسقوفها، وأبوابها المنصوبة عليه، وَمَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ زُخْرُفِهَا، وَدَرَجِهَا.
وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا مَا انْفَصَلَ عَنْهَا مِنْ أبوابها، ورفوفها، وسلالمها الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهَا.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَا جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ " مَعَهَا " دَخَلَ فِي الوصية [بها] وكل ما جعلناه خارجا عن البيع لم يدخل في الوصية.
ولو كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَرْضًا: دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ نَخْلُهَا، وَشَجَرُهَا، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ زَرْعُهَا.
وَلَوْ كَانَ نَخْلُهَا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مُثْمِرًا: لَمْ يَدْخُلْ ثمرها في الوصية إن كان موزا. وفي دخوله فيها إن كان غير موز وجهان:

(8/276)


أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ كَالْبَيْعِ.
وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُ لِخُرُوجِهِ عَنْ الِاسْمِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا.
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي دُخُولِهِ فِي الرهن.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ انْهَدَمَتْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي كَانَتْ لَهُ إِلَّا مَا انْهَدَمَ مِنْهَا فَصَارَ غَيْرَ ثَابِتٍ فِيهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدَارٍ فَانْهَدَمَتْ، فَلَا يَخْلُو انْهِدَامُهَا مِنْ ثلاثة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَنْهَدِمَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي.
وَالثَّانِي: بَعْدَ مَوْتِهِ، وَبَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
وَالثَّالِثُ: بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
فَإِنِ انْهَدَمَتْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهَذَا عَلَى ضربين:
أحدها: أَنْ يَزُولَ اسْمُ الدَّارِ عَنْهَا بِالِانْهِدَامِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَزُولَ. فَإِنْ لَمْ يَزُلِ اسْمُ الدار عنها لبقاء بنيان فيها يسمى بِهِ دَارًا: فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَلَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِيهَا مِنْ بُنْيَانِهَا.
فَأَمَّا الْمُنْفَصَلُ عَنْهَا بِالْهَدْمِ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: أَنَّهُ يَكُونُ خارجا عن الْوَصِيَّةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ على ظاهره، وأنه خارج عن الوصية لأن ما انفصل عنها دَارًا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ فِيهِ حق.
وحكي عن أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ وَجْهًا آخَرَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى خُرُوجِ مَا انْهَدَمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ هَدَمَهُ بِنَفْسِهِ فَصَارَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِيهِ.
وَلَوِ انهدم بِسَبَبٍ مِنَ السَّمَاءِ، لَا يُنْسَبُ إِلَى فِعْلِ الموصي وكان مَا انْفَصَلَ بِالْهَدْمِ لِلْمُوصَى لَهُ مَعَ الدَّارِ، لِأَنَّهُ مِنْهَا. وَإِنَّمَا بَانَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا، لَا تُسَمَّى دَارًا، لِأَنَّهَا صَارَتْ عَرْصَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا، فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لا تبطل وهذا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْآلَةَ بَعْدَ انْفِصَالِهَا مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا باطلة، وهو الأصح، لأنها صَارَتْ عَرْصَةً لَمْ تُسَمَّ دَارًا.
أَلَا تَرَى لو حلف لا يدخلها، لم يحنث بدخول عَرْصَتَهَا، بَعْدَ ذَهَابِ بِنَائِهَا.
وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا، غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الوصية.
فإن كَانَ انْهِدَامُهَا، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ قَبُولِ الموصى له، فالوصية بها ممضاة، وجميع ما انفصل مِنْ آلَتِهَا كَالْمُتَّصِلِ، يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ لاستقرار ملكه عليه بِالْقَبُولِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِنْ كَانَ انْهِدَامُهَا، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ: فَإِنْ لم يزل

(8/277)


اسْمُ الدَّارِ عَنْهَا: فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، فَإِذَا قَبِلَهَا الموصى له فإن قيل إن القبول يبنى عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِمَوْتِ الْمُوصِي، فَكُلُّ ذَلِكَ ملك للموصى له، المنفصل منها، والمتصل.
فإن قيل إن القبول هو الملك فله ردها وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْبِنَاءِ، وَفِي الْمُنْفَصِلِ وجهان:
أحدهما: للموصى له.
والثاني: للوارث.
وَإِنْ لَمْ تُسَمَّ الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا دَارًا، فإن قلنا إن القبول يبنى على تقدم الملك: فالوصية جائزة، وله العرصة، وجميع ما فيها من متصل، أو منفصل إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ مُتَّصِلًا.
وَإِنْ قِيلَ إن القبول هو الملك، ففي البطلان بِانْهِدَامِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ، وَلَهُ مَا اتَّصَلَ بِهَا، وَفِي الْمُنْفَصِلِ وَجْهَانِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعَبْدٍ فَعَمِيَ، أَوْ زَمِنَ، فِي حَيَاةِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا عَمَى الْعَبْدِ وَلَا زَمَانَتُهُ.
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا فِي الْعَبْدِ مَقْطُوعًا، وَدِيَةُ " يَدِهِ " لِلْمُوصِي، تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَا انْهَدَمَ مِنْ آلَةِ الدَّارِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْآلَةَ، عَيْنٌ مِنْ أَعْيَانِ الْوَصِيَّةِ، وَلَيْسَتِ الدِّيَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَدَلٌ.
فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ قَتْلًا مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ: فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ الْمَبِيعِ إِذَا قُتِلَ فِي يَدِ بَائِعِهِ، هَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِقَتْلِهِ أَمْ لَا؟ .
عَلَى قَوْلَيْنِ: كَذَلِكَ يَجِيءُ هَاهُنَا فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ عَبْدًا، وَكَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ لَمْ يَكُنْ أَرْشُهَا لَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ مِنْ رَقَبَتِهِ فَأُقِيمَتْ مَقَامَهَا، وَخَالَفَتْ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ، أَرْشَ يَدِهِ، لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ مُنْطَلَقٌ عَلَيْهِ، بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَرْشَ يده، لأنه جعل له ما ينطلق اسم العبد عليه، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِهِ.
وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ عَبْدِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَكَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِحِنْطَةٍ، فَطَحَنَهَا، وَبِاللَّهِ التوفيق.
فصل:
ولو أوصى بعتق عبده، فقتل العبد قبل عتقه، نظر:
فإن قتل فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِ، لِخُرُوجِهِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا.
وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بعتقه،

(8/278)


وَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ عَبْدٌ يُعْتَقُ مَكَانَهُ. لِأَنَّ قِيمَتَهُ بَدَلٌ مِنْهُ فَصَارَ كَمَنْ نَذَرَ أُضْحِيَةً فَأَتْلَفَهَا بتلف، صُرِفَتْ قِيمَتُهَا فِي أُضْحِيَةٍ غَيْرِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ، لِخُرُوجِ الْقِيمَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا، وَخَالَفَ نَذْرُ الْأُضْحِيَةِ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا وَالْعَبْدُ لَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُهُ إِلَّا بِالْعِتْقِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمَرِيضِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً: صَحَّ نِكَاحُهَا، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَالصَّدَاقُ، إِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا.
فَإِنْ زَادَ: رُدَّتِ الزِّيَادَةُ إِنْ كَانَتْ وَارِثَةً، وَأُمْضِيَتْ فِي الثُّلُثِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ.
وهكذا المريضة إذا نكحت رجلا صحيحا صَحَّ نِكَاحُهَا وَوَرِثَهَا الزَّوْجُ، وَعَلَيْهِ صَدَاقُهَا، إِنْ كان مهر المثل فيما زاد.
فإن نكحته بأقل من صداق مثلها بالمحاباة فالنقصان وصية له فترد إن كان وارثا، وتمضي في الثلث إن كان الزوج غَيْرَ وَارِثٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: نِكَاحُ الْمَرِيضِ فَاسِدٌ، لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مِيرَاثًا، وَلَا يَجِبُ فِيهِ صَدَاقٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا فَيَلْزَمُهُ مهر المثل من الثلث مقدما عَلَى الْوَصَايَا.
وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمَرِيضَةِ فَاسِدٌ، وَلَا ميراث للزوج.
وقال الزهري: النِّكَاحُ فِي الْمَرَضِ جَائِزٌ، وَلَا مِيرَاثَ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ الإضرار في تزويجه لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْإِضْرَارُ وَظَهَرَ مِنْهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي خِدْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا جَازَ.
وَدَلِيلُ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ شَيْئَانِ:
أحدهما: وجود التهمة بإدخالهم الضَّرَرَ عَلَى الْوَرَثَةِ فَصَارَ كَالْمُتْلِفِ لِمَالِهِ فِي مرضه.
والثاني: مزاحمتهم لميراثها ودفعهم على ما ترثه ولدان صار لهما فَصَارَ كَالْمَانِعِ لِلْوَرَثَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مرضه: " زوجوني لئلا ألقى الله عزبا ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إِلَّا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مَا أَحْبَبْتُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لِي زَوْجَةٌ ".
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الزبير رضي الله عنه دخل على قدامة يعوده، فبصر

(8/279)


عنده بجارية فقال قدامة زوجني بها فقال: ما تصنع بها وأنت على هذه الحالة فقال: إن أنا عشت فثبت الزبير وإن مت فهم أحق من يرثني.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ التَّسَرِّي بالإماء لم يمنع من نكاح الحرائر كَالصَّحِيحِ.
وَلِأَنَّهُ فِرَاشٌ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الصَّحِيحُ، فوجب ألا يُمْنَعَ مِنْهُ الْمَرِيضُ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْإِمَاءِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْمَرَضُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَقْدُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ أو لشهوة، فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَهُ كَمَا أُبِيحُ له أن يلتزم بما شاء من أكل أو لبس.
فأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالتُّهْمَةِ وَدُخُولِ الضَّرَرِ فَهُوَ إِنَّ التُّهْمَةَ تَبْعُدُ عَمَّنْ هُوَ فِي مَرَضِ موته لأنه في الأغلب يقصد وجه الله عَزَّ وَجَلَّ وَالضَّرَرُ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ العقود كالبيع ولأنه إن كَانَ ضَرَرًا لِوَرَثَتِهِ فَهُوَ مَنْفَعَةٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ أحق بمنفعة نفسه من منفعة ورثته.
فأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِيهِ مُزَاحَمَةً لِبَعْضِ الورثة " ودفع " لِبَعْضِهِمْ فَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَمْنَعِ الصِّحَّةُ مِنْهُ لَمْ يَمْنَعِ الْمَرَضُ مِنْهُ كَالْإِقْرَارِ بِوَارِثٍ وكالاستيلاء للأمة.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى أَرْبَعٍ، كَهُوَ فِي الصِّحَّةِ، وَلَهُنَّ الْمِيرَاثُ، إِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ أو غيره.
وأما الصداق، فإن كان مهرهن، صَدَاقَ أَمْثَالِهِنَّ، فَلَهُنَّ الصَّدَاقُ مَعَ الْمِيرَاثِ. وَإِنْ كانت عَلَيْهِ دُيُونٌ، شَارَكَهُنَّ الْغُرَمَاءُ فِي التَّرِكَةِ، وَضَرَبْنَ مَعَهُمْ بِالْحِصَصِ.
وَإِنْ تَزَوَّجَهُنَّ، أَوْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا، كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ، وَصِيَّةً فِي الثُّلُثِ.
فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ، دُفِعَتِ الزِّيَادَةُ إِلَيْهَا، إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، وما احتمله منها يتقدم منها عَلَى الْوَصَايَا كُلِّهَا، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الْحَيَاةِ.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، فَمَاتَتْ قبله، صحة الزيادة لها، إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، لِأَنَّهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ، غَيْرُ وارثة.
فلو كانت حين نكاحها فِي الْمَرَضِ أَمَةً، أَوْ ذِمِّيَّةً، فَأُعْتِقَتِ الْأَمَةُ، وَأَسْلَمَتِ الذِّمِّيَّةُ، صَارَتْ وَارِثَةً، وَمُنِعَتْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ مِنْ مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ لَمْ يَمُتْ، صَحَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِوَارِثَةٍ، وَغَيْرِ وَارِثَةٍ.
فَعَلَى هَذَا:
لَوْ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ ذِمِّيَّةً عَلَى صَدَاقٍ ألف درهم، وصداق مثلها خمس مائة، ومات،

(8/280)


وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا: أُعْطِيَتْ مِنَ الْأَلْفِ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ درهما وثلث درهم.
لأنها لها خمس مائة من المال، وتبقى خمس مائة هي جميع التركة، وهي الوصية لَهَا، فَأُعْطِيَتْ ثُلُثَهَا، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، تَأْخُذُهَا مَعَ صَدَاقِ مثلها.
ولو خلف الزوج مع الصداق خمس مائة دِرْهَمٍ: صَارَتِ التَّرِكَةُ بَعْدَ صَدَاقِ الْمِثْلِ أَلْفَ درهم، فلها ثلثها، ثلاث مائة وثلاثة وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثٌ.
وَلَوْ خَلَّفَ مَعَ الصَّدَاقِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، خَرَجَتِ الزِّيَادَةَ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ من الثلث وأخذت الألف كلها.

فصل:
فإذا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ ألف درهم، ومهر مثلها خمس مائة، ثُمَّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ من مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْأَلْفِ الَّتِي أَصْدَقَهَا وَلَا لَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الْمُحَابَاةِ، قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ غَيْرَ وَارِثَةٍ، وَصَارَ وَارِثًا لَهَا، فَزَادَتْ تَرِكَتُهُ بِمَا وَرِثَهُ مِنْهَا.
وَإِذَا زَادَتْ تَرِكَتُهُ بِمَا وَرِثَهُ مِنْهَا، زَادَ فِي قَدْرِ مَا يجوز من المحاباة لها، فإذا ردت منها النصف: صح لها من المحاباة، ثلثمائة درهم، فتضم إلى صداق مثلها، وهو خمس مائة، يَصِيرُ لَهَا مِنَ الْأَلْفِ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَالْمُحَابَاةِ، وله النصف، وهو أربع مائة درهم يصير معه ست مائة دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ مِنَ الْمُحَابَاةِ وهي ثلاث مائة درهم.
ومخرجه بحساب الجبر سهل على المرياض، وَلَكِنْ نَذْكُرُ وَجْهَ عَمَلِهِ بِحِسَابِ الْبَابِ لِسُهُولَتِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِحَسْبِ الْجَبْرِ ارتياض.
عمله بحساب الباب أن ننظر تركة الزوج، وهي خمسة مائة درهم التي هي المحاباة من الصداق، ويضم إليها ما ورثه زوجته من صداق مثلها، وهو نصف الخمس مائة، مائتان وخمسون، تصير جميع التركة سبع مائة وخمسين درهما، وتستحق الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثَهَا، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَقَدْ عَادَ إِلَى الزَّوْجِ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ وَهُوَ نِصْفُ سَهْمٍ فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثُّلُثِ يَبْقَى سهمان ونصف فأضعفها ليخرج الكسر منها يكن خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ أَضْعِفِ التَّرِكَةَ لِأَجْلِ مَا أضعفته من السهام تكن ألف درهم وخمس مائة، ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ، تَكُنْ حِصَّةُ كل منهم، منها، ثلاثة مائة، وهي قَدْرُ الْمُحَابَاةِ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَخَلَّفَ الزَّوْجُ مَعَ الْأَلْفِ الَّتِي أَصْدَقَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهَا بِحِسَابِ الْبَابِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَنْ يُنْظَرَ تَرِكَةُ الزَّوْجِ وَهِيَ سبع مائة، لأن له مائتي درهم سوى الصداق وخمس مائة مُحَابَاةً مِنَ الصَّدَاقِ فَاضْمُمْ إِلَيْهَا مَا وَرِثَهُ عن زوجته من صداق مثلها وهو مئتان وخمسون، تصير جميع التركة تسع مائة وخمسين درهما

(8/281)


تقسم عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ، فَأَضْعِفِ السِّهَامَ وَالتَّرِكَةَ، تَكُنِ السهام خمسة والتركة ألف درهم وتسع مائة دِرْهَمٍ، ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ تَكُنْ حصة كل سهم منها ثلاثمائة درهم، وثمانين درهما وهو القدر الذي احتمله الثلث من المحاباة.
وإذا ضممته إلى صداق المثل وهو خمس مائة صار ثمان مائة وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَقَدْ بَقِيَ مَعَ وَارِثِ الزَّوْجِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَعَادَ إِلَيْهِ نِصْفُ تَرِكَةِ الزوجة بالميراث وذلك أربع مائة وأربعون درهما يصير الجميع تسع مائة وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَهُوَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ لأن الذي خرج منها ثلاث مائة وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَخَلَّفَ الزوج مع الألف التي أصدق خمس مائة دِرْهَمٍ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ كُلُّهَا لِأَنَّ بِيَدِ وَرَثَةِ الزوج عنده الخمس مائة ويعود إليه نصف ميراث الزوجة وهو خمس مائة يصير بِيَدِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ هِيَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ.
فَلِذَلِكَ صَحَّ جَمِيعُهَا، وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفِ الزَّوْجُ شَيْئًا سِوَى الْأَلْفِ الصَّدَاقِ وَلَكِنْ خَلَّفَتِ الزَّوْجَةُ سِوَى الصداق ألف أخرى صحت المحاباة كلها لأنها تصير تركة الزوجة ألفي درهما، يَرِثُ الزَّوْجُ نِصْفَهَا وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَهِيَ ضعف المحاباة، فذلك صَحَّتْ.
فَلَوْ تَرَكَتِ الزَّوْجَةُ سِوَى الْأَلْفِ الصَّدَاقِ خمس مائة درهم كان الخارج لها بالمحاباة أربع مائة درهم، لأن تركة الزوجة هي الخمس مائة الْمُحَابَاةُ وَوَرِثَ مِنَ الزَّوْجَةِ، نِصْفَ تَرِكَتِهَا وَهِيَ ألف درهم، لأن تركتها صداق مثلها، وهي خمس مائة درهم، وما خلفته سوى ذلك وهو خمس مائة دِرْهَمٍ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَ تَرِكَتِهَا وَهُوَ خمس مائة دِرْهَمٍ، وَضُمَّ إِلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ التركة، صارت تَرِكَتُهُ " أَلْفَ " دِرْهَمٍ، تُقَسَّمُ عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ فإذا أضعفت سهام التركة صارت السهام خمسة، والتركة ألفين. فإن قَسَّمْتَهَا عَلَى الْخَمْسَةِ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ منها، أربع مائة درهم، وذلك قدر ما احتمله الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مَعَ وَارِثِ الزَّوْجِ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّدَاقِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَصَارَ إليه من تركة الزوج، بحق النصف سبع مائة درهم، فصار الجميع ثمان مائة دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، لِأَنَّ الخارج منها أربع مائة درهم.

فصل آخر منه:
فإذا تزوجها على صداق ألف لا يملك غيرها، ومهر مثلها خمس مائة درهم، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ وَهِيَ ذَاتُ وَلَدٍ يُحْجَبُ الزوج إلى الربع ولم يخلف سِوَى الْأَلْفِ فَبَابُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ يُضَمَّ " ربع " الخمس مائة التي هي صداق مثلها وهي مائة وخمسة وعشرون إلى الخمس مائة التي له، وهي المحاباة تكن ست مائة وخمسة وعشرون دِرْهَمًا لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا ثُلُثُهَا، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثلاثة، وقد ورث الزوج أربعة وهو ربع سهم فأسقطه من الثلاثة، ويبقى سَهْمَانِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَابْسُطْهَا أَرْبَاعًا تَكُنْ أَحَدَ عشرا، ثم اضرب الست مائة والخمسة والعشرين في أربعة تكن ألفان وخمس مائة فَاقْسِمْهَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سهم منها ما تبقى، درهم وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَهُوَ الْخَارِجُ لَهَا بالمحاباة.

(8/282)


وإذا ضممته إلى الخمس مائة الَّتِي هِيَ صَدَاقُ الْمِثْلِ صَارَتْ تَرِكَتُهَا سَبْعمِائَةٍ وسبعة وعشرين درهما وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءا من درهم الْأَلْفِ مِائَتَانِ وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَوَرِثَ مِنَ الزَّوْجَةِ رُبُعَ تَرِكَتِهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَحَدٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ.
يَصِيرُ الْجَمِيعُ أَرْبَعَمِائَةٍ وأربع وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مِثْلَ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَتَانِ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ درهما وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءا مِنْ دِرْهَمٍ.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَلَحِقَ رُبُعَ الزَّوْجِ عَوْلٌ " لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ ورثتها أبوان فقد صارت فريضتها من خمس عشر للزوج منها ثلاثة فصارت معه خمسة فإذا كان كذلك فاضمم إلى تركته وهي خمسة مائة الْمُحَابَاةُ مَا وَرِثَهُ عَنْ زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِ مثلها وهو خمس الخمس مائة تكن مِائَةَ دِرْهَمٍ تَصِيرُ مَعَهُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ الثُّلُثُ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ قَدْ ورث الزوج خمسة فاسقطه من الثلاثة يبقى سهمان وأربعة أخماس فابسطه أخمسا تَكُنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ اضْرِبْ تَرِكَةَ الزَّوْجِ وَهِيَ سِتُّمِائَةٍ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثم اقسمها على أربعة عشر تكن حصة كل سهم منها مائتان دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ قدر ما احتمله الثلث في الْمُحَابَاةِ فَإِذَا ضُمَّ إِلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ خمسمائة صارت تركتها سبع مائة درهم وخمسة وثمانين درهما وخمسة أسباع دِرْهَمٍ وَوَرِثَ مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجَةِ خُمُسَهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ درهم فصار معه أربع مائة دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبُعَا دِرْهَمٍ.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَ مِيرَاثُ الزَّوْجِ بِالْعَوْلِ خُمُسًا وَأَوْصَتِ الزَّوْجَةُ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهَا فَوَجْهُ الْعَمَلِ بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَنْ تُضَمَّ إلى تركة الزوج وهي خمس مائة المحاباة قدر ما يرثه من زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ الْخُمُسُ مِنْ ثلث الخمسمائة وذلك ستة وستون درهما وثلث درهم تكن خمس مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثُهَا وَقَدْ أَوْصَتْ فِي هَذَا الثُّلُثِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فَبَقِيَ لَهَا مِنَ الثُّلُثِ ثُلُثَاهُ وَذَلِكَ تُسْعَا الْمَالِ ثُمَّ وَرِثَ الزَّوْجُ خُمُسَ هَذَيْنِ التُّسْعَيْنِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ مِنْ خمسة وأربعين سهما هي مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ فِي خَمْسَةٍ لِأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ ثُلُثٍ وَخُمُسًا فَأَسْقِطْ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ من عول هَذِهِ السِّهَامِ.
تَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ اضْرِبِ التَّرِكَةَ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ هِيَ مَخْرَجُ الثلث والخمس لأنك ضربت الثلاثة فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كَانَ معك ثمانية آلاف وخمس مائة فاقسمها على ثلاثة وأربعين سهما يكن قسط السهم الواحد منها مائة درهم وتسعة وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وأربعين جزءا من درهم وهو مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ.
فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إلى صداق مثلها وهو خمس مائة صار جميع ما تملكه مِنَ الْأَلْفِ سِتَّمِائَةِ

(8/283)


درهم وسبعة وتسعين دِرْهَمًا وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَبَقِيَ لِلزَّوْجِ مِنَ الْأَلْفِ ثلثمائة درهم وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا من درهم، يَكُنْ بَاقِي تَرِكَتِهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ الثلث أربع مائة درهم وخمسة وسبعين دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَرِثُ الزَّوْجُ خُمُسَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَجُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى مَا بَقِيَ له من الألف وهو ثلثمائة دِرْهَمٍ وَدِرْهَمَانِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا صَارَ الْجَمِيعُ ثلثمائة وَخَمْسَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثلاثة وأربعين جزءا من درهم وهو مثلي ما خرج بالمحاباة، لأن الخارج بها مائة دِرْهَمٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ.
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَوْصَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ رُدَّتْ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّ ثُلُثَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي مُحَابَاةِ مَرَضِهِ، وَالْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ.

فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ:
فإذا أَعْتَقَ الْمُوصِي جَارِيَةً فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ لَا يَعْجِزُ الْمَالُ عَنِ احْتِمَالِهِ كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا في الثلث والنكاح جائز النفوذ والعتق ولها والصداق من رأس المال إن لم يكن فِيهِ مُحَابَاةٌ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُحَابَاةٌ كَانَتْ فِي الثُّلُثِ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لِشَخْصٍ بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فَلَوْ وَرِثَتْ مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ وَإِذَا مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ بَطَلَ الْعِتْقُ وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ، فَلَمَّا كان توريثها مقضيا إِلَى إِبْطَالِ عِتْقِهَا وَمِيرَاثِهَا أَمْضَيْتُ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَصَحَّ النِّكَاحُ وَأُسْقِطَ الْمِيرَاثُ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُعْتِقُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْأَمَةِ: عُتِقَ ثُلُثُهَا، وَرَقَّ ثُلُثَاهَا، وَبَطَلَ نِكَاحُهَا، لِأَجْلِ مَا بقي له من رقها فإن لم يجامعها فَلَا دَوْرَ فِيهَا وَقَدْ صَارَ الْعِتْقُ مُسْتَقِرًّا فِي ثُلُثِهَا، وَالرِّقُّ بَاقِيًا فِي ثُلُثَيْهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا دَخَلَهَا دَوْرٌ لِأَجْلِ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ مهر مثلها بالوطء. فلو كانت قيمتها مائة وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ غَيْرُهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ اسْتَحَقَّتْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُجْزِئُ مِنْ عِتْقِهَا، وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّهَا فَيُعْتَقُ سبعاها ويرق لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهَا، وَيُوقَفُ سُبُعُهَا، لِأَجْلِ مَا استحقته مِنْ سُبُعَيْ مَهْرِهَا.
وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِيهِ: أَنْ تُجْعَلَ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ، لِيَكُونَ لَهُمْ مثلي ما أعتق، ولهم المثل نصف سهم لأن مهر المثل نصف قيمتها يكون ثلاثة أسهم ونصف فابسطها لمخرج النِّصْفِ يَكُنْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْهَا مَقْسُومَةً عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ السَّبْعَةِ سَهْمَانِ مِنْهَا لِلْعِتْقِ فَيُعْتَقُ سبعاها وذلك بثمانية وعشرين درهما وأربعة أسباع درهم، ورق أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهَا لِلْوَرَثَةِ. وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسُبُعُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْعِتْقِ، ويوقف سبعاها، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبُعَا دِرْهَمٍ، بِإِزَاءِ سبعي مهر مثلها الذي استحق بقدر حريتها، فإن بيع لها استرقه المشتري، وإن فداه الورثة استرقوه على أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِمْ، وَإِنْ أَخَذَتْهُ بِحَقِّهَا عُتِقَ عَلَيْهَا بِالْمِلْكِ، فَإِنْ أَبْرَأَتِ السَّيِّدَ مِنْهُ، عُتِقَ عَلَيْهَا مع سبعيها وصار ثلث أسباعها حرا.

(8/284)


فلو كانت قيمتها مائة درهم فأعتقها، فتزوجها على صداق مائة درهم، وخلف معها مائتا دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ عُتِقَ جَمِيعُهَا، وَصَحَّ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ صَدَاقُهَا، وَسَقَطَ مِيرَاثُهَا، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَأَمَّا نُفُوذُ عِتْقِهَا فَلِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ هِيَ مِثْلَا قِيمَتِهَا، وَأَمَّا صِحَّةُ نِكَاحِهَا: فَلِأَنَّهُ قَدْ عُتِقَ جَمِيعُهَا، وَأَمَّا سُقُوطُ مَهْرِهَا: فَلِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتْهُ لَعَجَزَتِ التَّرِكَةُ عَنْ جَمِيعِهَا وَعَجْزُهَا عَنْ جَمِيعِهَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهَا وَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا يُوجِبُ سقوط مهرها، فصار إيجاب صداقها مقضيا إلى بطلان عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا وَصَدَاقِهَا. فَأُسْقِطَ الصَّدَاقُ لِيَصِحَّ الْعِتْقُ والنكاح، وأما سقوط الميراث: فلئلا يُجْمَعَ لَهَا بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا عِدَّةُ الوفاة فلموته عنها وهي على زوجتيه، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ بِالدُّخُولِ مَهْرًا، فَإِنْ أُبْرِأَتْ مِنْهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَقَدْ صَحَّ النِّكَاحُ، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ كَانَ لَهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا لَهُ بِالدُّخُولِ وصار دينا لها في التركة لعجز الثُّلُثُ عَنْ عِتْقِ جَمِيعِهَا. وَإِذَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْ عِتْقِ جَمِيعِهَا رَقَّ مِنْهَا قَدْرُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ وَإِذَا رَقَّ مِنْهَا شَيْءٌ بطل نكاحها ولم يلزمها عدة الوفاة، واستحقت حريتها من مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ بُطْلَانَ النِّكَاحِ قَدْ أَسْقَطَ الْمُسَمَّى وَدَخَلَهَا دَوْرٌ.
فَإِذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وقد خلف معها مائتا درهم صارت تركته ثلثمائة دِرْهَمٍ فَقُسِّمَتْ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّ لَهَا بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْمَهْرِ نِصْفُ سَهْمٍ وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ تَكُونُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَنِصْفًا فَإِذَا بَسَطْتَ كَانَتْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَيُعْتَقُ عَنْهَا بِسُبُعَيِ التَّرِكَةِ سِتَّةُ أسباعها وذلك بخمس وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَجُعِلَتْ لَهَا سِتَّةُ أَسْبَاعِ مَهْرِ مِثْلِهَا سُبُعُ التَّرِكَةِ وَذَلِكَ ثمانية وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَجُعِلَتْ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ التَّرِكَةِ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَحَدٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُمْ مِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وسبع درهم ورق لهم من المائة سبعها وذلك أربعة عشر درهما وسبعي درهم صار جميع ماله مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَحَدًا وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ درهم وهو مثلا ما أعتق مِنْهَا.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَتِ الْمِائَتَا دِرْهَمٍ الَّتِي تَرَكَهَا السَّيِّدُ مِنْ كَسْبِهَا فَقَدْ صَارَ لَهَا فِي التَّرِكَةِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يستحقه مِنْ كَسْبِهَا بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهَا. وَالثَّانِي: مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيُجْعَلُ لَهَا بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْكَسْبِ سَهْمَيْنِ لِأَنَّهَا كَسَبَتْ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا وَيُجْعَلُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ نِصْفُ سَهْمٍ لِأَنَّ مَهْرَ مثلها مثل نصف قيمتها وبجعل لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ وَذَلِكَ مِثْلَا سَهْمِ عِتْقِهَا يَصِيرُ الجميع خمسة أسهم ونصفا فاضعف لِمَخْرَجِ النِّصْفِ مِنْهَا تَكُنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، مِنْهَا لِلْعِتْقِ سَهْمَانِ وَلِلْكَسْبِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمَهْرِ سَهْمٌ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ثُمَّ اجْمَعْ بَيْنَ سهم الْعِتْقِ وَسِهَامِ الْكَسْبِ الْأَرْبَعَةِ تَكُنْ سِتَّةً وَهِيَ قَدْرُ مَا يُعْتَقُ مِنْهَا فَيُعْتَقُ مِنْهَا سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَقِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عشر جزءا من درهم ويملك بِذَلِكَ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ كَسْبِهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَجُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَتَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا

(8/285)


وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ مِنَ الْكَسْبِ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَقَدْ رَقَّ لَهُمْ مِنْ رَقَبَتْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَقِيمَةُ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَصِيرُ جَمِيعُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مائة وَتِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا من درهم وذلك مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهَا، لِأَنَّ الَّذِي عُتِقَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

فصل:
وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْدَهُ عَبْدًا آخَرَ هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ: نَفَذَ عِتْقُ الْأَوَّلِ، وَرَقَّ الثَّانِي، مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيُعْتَقُ مِنْ كل واحد منهما نصفه. اهـ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ كُلَّهُ.
فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَهُمَا مَعًا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُمَا ثُلُثَا مَالِهِ، أُعْتِقَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ تَكْمِيلًا لِلْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا. فَلَوِ اسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا، تَعَيَّنَ العتق في الثاني مِنْهُمَا، وَبَطَلَتِ الْقُرْعَةُ.
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ قَدْرُ ثُلُثِهِ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ، لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ، وَكَانَ لِمُسْتَحِقِّهِ قِيمَتُهُ، وَكَانَ كَشَرِيكٍ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ فِي عَبْدٍ وَهُوَ مُوسِرٌ.
وَخَالَفَ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ.
وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدًا هُوَ قَدْرُ ثُلُثِهِ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ، بَطَلَ فِيهِ التَّدْبِيرُ، وَلَا تَقْوِيمَ بِخِلَافِ الْمُعْتِقِ، لِأَنَّ مَنْ دَبَّرَ حِصَّتَهُ مِنْ عَبْدٍ لَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُعْسِرٌ.
وَلَوْ قَالَ: إِذَا أَعْتَقْتُ سَالِمًا، فَغَانِمٌ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ يَا سَالِمُ أَنْتَ حُرٌّ، فَإِنْ خَرَجَ سَالِمٌ وَغَانِمٌ مِنْ ثُلُثِهِ، عُتِقَا جَمِيعًا، وَكَانَ عِتْقُ سَالِمٍ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَعِتْقُ غَانِمٍ بِالصِّفَةِ.
وَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنَ الثُّلُثِ دُونَ الْآخَرِ: عُتِقَ سَالِمٌ الْمُنْجَزُ عِتْقُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ غَانِمٍ المعلق عتقه بالصفة، لأن سالم يَعْتِقْ سَالِمٌ، لَمْ تَكْمُلِ الصِّفَةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا عِتْقُ غَانِمٍ. فَلِذَلِكَ قُدِّمَ عِتْقُ سَالِمٍ عَلَى غَانِمٍ.
وَلَوْ كَانَ قَالَ: إِذَا أَعْتَقْتُ سالما فغانم في حال عتق سالم حر، ثُمَّ أَعْتَقَ سَالِمًا، وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ أَحَدَهُمَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُمَا على سواء، كما لو أعتقهما معا، لأنه جَعَلَ عِتْقَ الصِّفَةِ، فِي حَالِ عِتْقِ الْمُبَاشَرَةِ، وبخلاف مَا تَقَدَّمَ، فَيُعْتَقُ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ، وَلَا يُقَدَّمُ عِتْقُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى عِتْقِ الصِّفَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ - أن يُقَدَّمُ عِتْقُ سَالِمٍ، الْمُعْتَقِ

(8/286)


بِالْمُبَاشَرَةِ، عَلَى عِتْقِ غَانِمٍ الْمُعْتَقِ بِالصِّفَةِ، لِأَنَّ عِتْقَ الْمُبَاشَرَةِ، أَصْلٌ وَعِتْقَ الصِّفَةِ فَرْعٌ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ، أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْفَرْعِ، فَسَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالَّتِي تَقَدَّمَتْ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ، يَا سَالِمُ إِذَا تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ عَلَى صَدَاقٍ أَلْفٍ، ومهر مثلها خمس مائة، وقيمة سالم خمس مائة، وثلث ماله خمس مائة دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً، بَطَلَتِ الْمُحَابَاةُ فِي صَدَاقِهَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ، وَعَتَقَ سَالِمٌ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ كَانَتْ أَحَقَّ بِالثُّلُثِ، فِي مُحَابَاةِ صَدَاقِهَا مِنَ الْعِتْقِ، وَرَقَّ سَالِمٌ، لِأَنَّ صِفَةَ عِتْقِهِ، تَقْدُمُ النِّكَاحَ، فَصَارَتِ الْمُحَابَاةُ فِيهِ أَسْبَقَ من العتق.
ولو قال: إذا تزوجت فلانة أنت حُرٌّ فِي حَالِ تَزَوُّجِي لَهَا: فَإِنْ وَرِثَتِ الزَّوْجَةُ: عُتِقَ سَالِمٌ، وَإِنْ لَمْ تَرِثْ فَعَلَى قولي ابن سريج وأبي حامد جميعا، يكون سَهْمًا لأنه مثل قيمة العبد وللورثة سهمين، ثم اجمع السهام تكن أربعة، وتقسم التركة عليها، وهي ثلثمائة درهم، يكن قسط كل سهم خمسة وسبعين درهما، وهو سهم العتق، فأعتق منه بخمسة وسبعين درهما، تكن ثلاثة أرباعه، فيصير ثلاثة أرباعه حرا، ويأخذ من التركة ثلاثة أرباع أرش جنايته، وذلك خمس وسبعون درهما، ويبقى مع الورثة مائة وخمسة وعشرين درهما وربع العبد بخمسة وعشرين درهما وهو مثلا ما خرج بالعتق.
فلو كانت المسألة بحالها وكان أرش الجناية ثلاثمائة درهم، جعلت للعتق سهما، وللأرش ثلاثة أسهم، لأنه ثلاثة أمثال قيمة العبد، وللورثة سهمين يكن الجميع ستة أسهم، ثم قسمت التركة، وهي ثلاثمائة درهم، على ستة أسهم تكن حصة كل سهم خمسين درهما، وهو سهم العتق فاعتق منه بالخمسين درهما، تكن نصفه، فيصير نصفه حرا، ونصفه رقا، ونأخذ من التركة نصف أرش جنايته وذلك مائة درهم وخمسون درهما، ويبقى مع الورثة خمسون درهما ونصف العبد خمسين درهما، يصير الجميع مائة درهم، وذلك مثلي ما خرج بالعتق. والله أعلم.
الثُّلُثُ فِي الْمُحَابَاةِ وَالْعِتْقُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، لِأَنَّ صِفَةَ الْعِتْقِ، وُجُودُ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ قَدْ كَمُلَ، وَإِنْ بَطَلَتْ بَعْضُ مُحَابَاتِهِ. وَلَيْسَ كَالْعِتْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِالدَّوْرِ
وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، عَتَقَ ثُلُثُهُ وَرَقَّ ثُلُثَاهُ.
فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ عِتْقَ ثُلُثَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ إِجَازَتَهُمْ تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ، لَمْ يَحْتَجِ الْوَارِثُ مَعَ الْإِجَازَةِ، أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالْعِتْقِ، وَكَانَ وَلَاءُ جَمِيعِهِ لِلْمُعْتِقِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِجَازَتَهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ، لَمْ يُعْتَقْ بِالْإِجَازَةِ إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِعِتْقِهِ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْإِجَازَةِ الْعِتْقَ. لِأَنَّ الْإِجَازَةَ كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ. ثُمَّ قَدْ صَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا، وَوَلَاءُ ثُلُثِهِ

(8/287)


لِلْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ، وَفِي وَلَاءِ بَاقِي ثُلُثَيْهِ. وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ: لِلْوَارِثِ، لِأَنَّهُ تَحَرَّرَ بعتقه.
والثاني: وهو قول أبي الحسن الكرخي: أَنَّهُ لِلْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ، تَبَعًا لِلثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوارثَ نَابَ فِيهِ عَنِ الْمَوْرُوثِ، الْمُعْتِقِ، وَصَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ وَلَاءَهُ يكون للمعتق عنه دون المالك.
فَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَخَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ: عُتِقَ ثُلُثَا الْعَبْدِ وَذَلِكَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ، لِأَنَّ التَّرِكَةَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَثُلُثَهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَانِ، وَذَلِكَ قِيمَةُ ثُلُثَيِ الْعَبْدِ.
فَلَوْ خَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عُتِقَ جَمِيعُهُ لِخُرُوجِهِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ.
فَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قَدْ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ جِنَايَةً أَرْشُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ: قِيلَ لِلْعَبْدِ إِنْ عَفَوْتَ عَنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ نَفَذَ عِتْقُكَ لِخُرُوجِ قِيمَتِكَ مِنَ الثلث وإن لم تعف عجز جميع الثلث عن قِيمَتِكَ فَرق مِنْكَ قَدْرُ مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ وَسَقَطَ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِقِسْطِهِ وَكَانَ لَكَ مِنَ الْأَرْشِ بِقَدْرِ مَا عتقَ مِنْكَ وصار فِيكَ دَوْرٌ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَبَابُ الْعَمَلِ فيه أن تجعل للعتق سهما وللأرش سهمين.

فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ:
وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَكَسَبَ الْعَبْدُ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فكسب لنفسه عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ فَمَا قَابَلَ حُرِّيَّتَهُ فَهُوَ لَهُ غَيْرُ مَضْمُومٍ إِلَى التَّرِكَةِ وَلَا مَحْسُوبٍ فِي الثُّلُثِ وَمَا قَابَلَ رِقَّهُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ مضموم إلى تركته فوائد فِي ثُلُثِهِ فَيَصِيرُ بِالْكَسْبِ دَوْرٌ فِي الْعِتْقِ وقدر الدائر السدس لأنه لو لم يكتسب شَيْئًا لَعُتِقَ ثُلُثُهُ وَإِذَا كَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ عُتِقَ نِصْفُهُ فَصَارَ الزَّائِدُ بِكَسْبِهِ فِي الْعِتْقِ بقدر سدسه وبابه أن نجعل للعتق سهما وللكسب سهما وللورثة سهمين تصير أربعة أسهم فاقسم العبد عليها فاعتق منه بسهمين منها وهو سهم المعتق وسهم الكسب فَيُعْتَقُ نِصْفُهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا يَمْلِكُ بِهِ نِصْفَ كَسْبِهِ وَهُوَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا يَصِيرُ مَعَهُمْ مِنْ رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ هِيَ مِثْلَا مَا خرج بالعتق وإن قِيمَتِهِ وَجَعَلْتَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ تَكُنْ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ يقسم العبد عليها فيعتق منه ثلاثة أَسْهُمٍ هِيَ سَهْمُ الْعِتْقِ وَسَهْمَا الْكَسْبِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ بِسِتِّينَ دِرْهَمًا وَيَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ كسبه مائة وعشرون درهما ويزيد لِلْوَرَثَةِ خُمُسَاهُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَيَبْقَى لَهُمْ خُمُسَا كَسْبِهِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا هي مثلا ما اعتق منه وإن شئت ضممت للكسب وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهِيَ مائة درهم تكن ثلثمائة دِرْهَمٍ ثُمَّ قَسَّمْتَهَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا فَيُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا خَرَجَ بِهِ السَّهْمُ الْوَاحِدُ وَهُوَ ثلاثة أخماسه وتتبعه ثلاثة أخماس كسبه فيزيد خمساه وتتبعه خُمُسَا كَسْبِهِ وَلَوْ كَانَ كَسْبُهُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا جَعَلْتَ لَهُ بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْكَسْبِ نِصْفَ سَهْمٍ لِأَنَّهُ مِثْلُ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَجَعَلْتَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ فيصير ذلك ثلاثة أسهم ونصفا فأبسطهما لِمَخْرَجِ النِّصْفِ تَكُنْ سَبْعَةً ثُمَّ اقْسِمِ الْعَبْدَ عَلَيْهَا وَأَعْتِقْ مِنْهُ ثَلَاثَةَ

(8/288)


أسهم منها وهي سهما العتق وسهما الكسب يعتق مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ مَعَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَيَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ كسبه أحدا وعشرون درهما وثلاثة أسباع درهم ويزيد للورثة أربعة أسباعه لسبعة وخمسين درهما وسبع درهم وتبقى لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ كَسْبِهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ يَكُنِ الْجَمِيعُ خَمْسَةً وثمانين درهما وخمسة أسباع درهم وذلك مثل مَا عُتِقَ مِنْهُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ سِوَاهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَكَسَبَ الْعَبْدُ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاجْعَلْ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْكَسْبِ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ اجْمَعِ الكسب إلى التركة تكن ثلثمائة دِرْهَمٍ ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ قدر ما خرج بالعتق فاعتق في الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا تَكُنْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ وَتَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا يبقى مَعَ الْوَرَثَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بَقِيَّةُ الْكَسْبِ وَرُبُعُ الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا يَكُنِ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ وَهَكَذَا لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ كَانَتْ فِي حُكْمِ كَسْبِهِ لِأَنَّهُ فِي قَدْرِ مَا عُتِقَ منه مقوم ليوم الْعِتْقِ وَفِيمَا رَقَّ مِنْهُ مُقَوَّمٌ يَوْمَ الْمَوْتِ فَإِنْ زَادَ مِثْلَ قِيمَتِهِ كَانَ كَمَا لَوْ كَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ وَإِنْ زَادَ نِصْفَ قِيمَتِهِ كَانَ كَمَا لَوْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْعِتْقِ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْمَوْتِ عُتِقَ مِنْهُ نِصْفُهُ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ يَوْمَ الْعِتْقِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَرَقَّ نِصْفُهُ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ وَالْعَمَلُ فِيهِ كَالْعَمَلِ فِي الْكَسْبِ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً حَامِلًا عتقَتْ مَعَ حَمْلِهَا سَوَاءٌ أَرَادَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ الْحُرَّةُ مَمْلُوكًا وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي ثُلُثِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقَوَّمُ الْأَمَةُ حَامِلًا يَوْمَ الْعِتْقِ وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ فَإِنْ خَرَجَتِ الْأَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ نَفَذَ عِتْقُهَا وَعُتِقَ وَلَدُهَا، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجِ الْأَمَةُ مِنَ الثلث عتق منها بقدر ما احتمله الثلث من نصف مثله وَعُتِقَ مِنْ وَلَدِهَا مِثْلُهُ وَرَقَّ مِنْهَا مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ وَرَقَّ مَنْ وَلَدِهَا مِثْلُهُ.
والوجه الثاني: أن ينظر بِالْأَمَةِ حَتَّى تَلِدَ ثُمَّ تُقَوَّمُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ يَوْمَ وُلِدَ وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فيعتبر أنه في الثلث فإن احتملهما الثلث عتق وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُمَا الثُّلُثُ عُتِقَ مِنْهُمَا مَعًا بِالسَّوِيَّةِ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ وَلَمْ يُقْرَعْ بينهما بخلاف العبدين لأن الولد تبع الأمة إِذَا كَانَ حَمْلًا يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا ولا يجوز أن يكون بينهما شَيْءٌ لَا يُعْتَقُ مِنْ حَمْلِهَا مِثْلُهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ وُلِدَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِنْ كان الثلث مائة وخمسين درهم عتق معا وإن كان الثلث مائة فهو يقدر ثلثي العبد فيعتق من الأم ثلثاها ستة وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَيُعْتَقُ مِنَ الْوَلَدِ ثلثاه ثلاثة وثلاثين درهما وثلث درهم ورق ثُلُثُ الْأُمِّ وَثُلُثُ الْوَلَدِ، وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أعتق كل حَمْلِ أَمَتِهِ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ إِلَى الْأُمِّ وَكَانَ الْحَمْلُ وَحْدَهُ حُرًّا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أنثى، واحدا أَوْ عَدَدًا، لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ حُرًّا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْرِ عِتْقُ الْحَمْلِ، إِلَى الْأُمِّ، وَالْحُرَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ عَبْدًا، فَلِذَلِكَ سَرَى عِتْقُ الْأُمِّ إِلَى الْحَمْلِ.

(8/289)


فعلى هذا تعتبر قِيمَةُ الْحَمْلِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَجْهًا وَاحِدًا.
فَلَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ بَعْدَ عِتْقِ حَمْلِهَا نُظِرَ: فَإِنْ كان الثلث محتملا لقيمة الْأَوْلَادِ وَالْأُمِّ عُتِقُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ وَإِنِ احْتَمَلَ قِيمَةَ الْأَوْلَادِ دُونَ الْأُمِّ عُتِقَ الْأَوْلَادُ وَرَقَّتِ الأم من غير قرعة لأن قَدَّمَ عِتْقَهُمْ عَلَى عِتْقِ الْأُمِّ، وَلَوِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِلْأَوْلَادِ وَبَعْضِ الْأُمِّ: عُتِقَ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ وَعُتِقَ مِنَ الْأُمِّ قَدْرُ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ وَكَانَ بَاقِيهَا رِقًّا وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ كُلِّهِمْ أُقْرِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وجرى عتقه مَنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهُمْ وَرُقَّ مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ مَعَ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُجْعَلْ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْعِتْقِ مُقَسَّطًا بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ بَعْضُهُمْ وَيَرِقَّ بَعْضُهُمْ وَقَدْ أَعْتَقَهُمْ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَمَنْ أَعْتَق ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثُّلُثُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَحَدَهُمْ عُتِقَ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ.
وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أَعْتَقَ أَمَةً حَامِلًا وَأَعْتَقَ حَمْلَهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمَا اسْتَأْنَفَهُ مِنْ عِتْقِ الْحَمْلِ تَأْثِيرًا لأنهم قد أعتقوا مَعَ الْأُمِّ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَلَوْ أَنَّ صَحِيحًا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشهر فأنت حر ثم صار رَأْسُ الشَّهْرِ وَالسَّيِّدُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَانَ عِتْقُهُمْ عِتْقَ صِحَّةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ تلفظ به فيهم في حصته فلم تنتقل عن حكمه لحدوث الْمَرَضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
فِي هِبَةِ الْمَرِيضِ وما يتصل به في الدور
وإذ وهب المريض في مرضه، هِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ لِوَارِثٍ، فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ وَصِيَّةٌ مِنْ ثُلُثِهِ، وَالْوَارِثُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ لِغَيْرِ وَارِثٍ، فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا، كَانَتْ بَاطِلَةً، لِأَنَّهَا صَارَتْ هِبَةً لِوَارِثٍ، وَلَوْ وَهَبَ لِوَارِثٍ، فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ، فَهِيَ هِبَةٌ لِغَيْرِ وارث اعتبارا بحاله عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَلَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ لِوَارِثِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْوَاهِبِ، صَحَّتِ الْهِبَةُ إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَهُ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ.
وَلَوْ وَهَبَ لِوَارِثٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ صَحَّ مِنْهُ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَتِ الْهِبَةُ جَائِزَةً، لِأَنَّ تَعَقُّبَ الصِّحَّةِ يمنع من أن يكون ما يقدمه وَصِيَّةً.
فَأَمَّا إِذَا وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ فِي مَرَضِهِ الذي مات منه، هبة فإن لم يقبضها حَتَّى مَاتَ: فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إلا بالقبض.
وإن أقبضه قبل الموت: صَحَّتِ الْهِبَةُ، وَكَانَتْ مِنَ الثُّلُثِ، تَمْضِي إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، وَيُرَدُّ مِنْهَا مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عنه.
وَهَكَذَا لَوْ وَهَبَ فِي صِحَّتِهِ، وَأَقْبَضَ فِي مَرَضِهِ، كَانَتْ فِي ثُلُثِهِ، لِأَنَّهَا بِالْقَبْضِ فِي الموصي، فَصَارَتْ هِبَةً فِي الْمَرَضِ.
فَلَوْ وَهَبَ فِي مرضه وأقبض، وأعتق، فإن كان الثلث يحتملها، صحت الهبة والعتق،

(8/290)


وإن كان الثلث لا يحتملها: لم يصح. وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَحْتَمِلُ أَحَدَهُمَا صَحَّتِ الْهِبَةُ لِتَقَدُّمِهَا، وَرُدَّ الْعِتْقُ لِتَأَخُّرِهِ.
وَلَوْ أَعْتَقَ قَدْرَ ثُلُثِهِ ثُمَّ وَهَبَ صَحَّ وَرُدَّتِ الْهِبَةُ اعْتِبَارًا بالتقدم سوءا كَانَ الْمُتَقَدِّمُ عِتْقًا أَوْ هِبَةً.
وَلَوْ وَهَبَ قَدْرَ ثُلُثِهِ ثُمَّ أَوْصَى بِالثُّلُثِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ نَاجِزَةٌ فإذا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَدَوْرُ هَذَا الْفَصْلِ يُتَصَوَّرُ فِي مَرِيضٍ وَهَبَ لِأَخِيهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ له قبل الواهب وخلف بنتا وَأَخَاهُ الْوَاهِبُ فَقَدْ زَادَتْ تَرِكَةُ الْوَاهِبِ بِمَا ورثه من الموهوب له فزادت الهبة بالزائد في الْمِيرَاثِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهِ أن تقول الخارج بالهبة سهم من ثلاثة فإذا ورث الوارث نصفه وأسقط من سهميه يبقى له سهم ونصف والهبة سَهْمٌ فَابْسُطْ ذَلِكَ لِمَخْرَجِ النِّصْفِ تَكُنْ خَمْسَةً منها للهبة سهمان فتصح الهبة في خمس الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ ثُمَّ وَرِثَ مِنَ الْمَوْهُوبِ أَحَدَ الْخُمُسَيْنِ فَصَارَ مَعَهُ أربعة أخماس العبد وذلك مثلي مَا صَحَّتْ فِيهِ الْهِبَةُ مِنَ الْخُمُسَيْنِ.
فَلَوْ كان الواهب وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا مَعَ الْعَبْدِ الْمَوْهُوبِ الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ صَارَ مَالُ الْوَاهِبِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فاقسمها على خمسة يكن قسط كل واحد سَهْمٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَأَمْضِ مِنْ هِبَةِ الْعَبْدِ بسهمين منهما تَكُنْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ قَدْرُ مَا جَازَتْ فيه الوصية وَبَقِيَ مَعَ الْوَاهِبِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخُمُسُ الْعَبْدِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَوَرِثَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ الْمَوْهُوبَةِ، خمسين بأربعين درهما ومعه مِائَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَذَلِكَ مِثْلَا مَا جَازَتْ فيه الوصية.
وَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ قَدْ خَلَّفَ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا جَازَتِ الْهِبَةُ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ لِأَنَّ التركة تصير مائتي وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِذَا قَسَّمْتَهَا عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ سَهْمَيْنِ كَانَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَةُ كُلِّ الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ وَرِثَ نِصْفَ الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صَارَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا قِيمَةِ الْعَبْدِ.
فَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعَبْدِ وَكَانَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا دَيْنًا كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ مُسْتَحَقًّا فِي الدَّيْنِ وَنِصْفُهُ الْبَاقِي مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ لِلْهِبَةِ مِنْهُ بِسَهْمَيْنِ الْخُمُسُ بعشرين وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ خُمُسٌ وَنِصْفٌ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَوَرِثَ مِنَ الْخُمُسِ الْمَوْهُوبِ نِصْفُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَارَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَهِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْهِبَةِ.
فَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعَبْدِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَكِنْ خَلَّفَ الْمَوْهُوبَ لَهُ سِوَى مَا وَهَبَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ تَقُولَ: تَرَكَ الْوَاهِبُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ وَرِثَ عَنْ أَخِيهِ نِصْفَ الْمَالِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صَارَ الجميع مائة وخمسين درهما. فإذا قسمت عَلَى الْخَمْسَةِ كَانَ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ ثَلَاثِينَ درهما فامض من هبة العبد بسهمين قَدْرُهُمَا سِتُّونَ دِرْهَمًا تَكُنْ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ قدر ما كانت فِيهِ الْهِبَةُ وَقَدْ بَقِيَ مَعَ الْوَاهِبِ خُمُسَاهُ بأربعين درهما

(8/291)


وورث نصف ثلاث أَخْمَاسِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَنِصْفَ الْمِائَةِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صار معه مائة وعشرون درهما وذلك مثلي ما جاز بالهبة.

فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ:
وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِمَرِيضٍ عَبْدًا ثُمَّ وَهَبَهُ الْمَرِيضُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْمَرِيضِ الْوَاهِبِ ثُمَّ مَاتَا وَلَمْ يُخَلِّفَا غَيْرَ الْعَبْدِ الذي يواهباه فالعبد بين ورثتيهما عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ ستة أثمانه ولورثة الواهب الثاني ثمناه.
فوجه الْعَمَلِ فِيهِ أَنَّ الْوَاهِبَ الْأَوَّلَ لَمَّا وَهَبَهُ نَفَذَتِ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهِ وَلَمَّا وَهَبَ الثَّانِي الثلث نفذت الهبة في ثلثه فصار الداير عَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثَ الثُّلُثِ وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ تسعة فاسقطه ليتقطع دوره بقي من التسعة ثمانية أسهم للعبد مَقْسُومٌ عَلَيْهَا مِنْهَا هِبَةُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَهِبَةُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ سَهْمٌ وَقَدْ كَانَ مَعَ الْأَوَّلِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَعَادَ إِلَيْهِ سَهْمٌ فَصَارَ مَعَ وَرَثَتِهِ سِتَّة أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَهُوَ مِثْلَا مَا جَازَ مِنْ هِبَتِهِ لِأَنَّ الْجَائِزَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ وَمَعَ وَرَثَةِ الثَّانِي ثُمُنَا الْعَبْدِ وَهُوَ مِثْلَا مَا جاز من هبته لأن الجائز ثُمُنُهُ، وَسَوَاءٌ مَاتَ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ أَوِ الأول قبل الثاني لأنها هبة بتاتا. وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ الثَّانِي مَا وَهَبَ هبة بنات وأوصى ولو أوصى الثَّانِي لِلْأَوَّلِ بِثُلُثِ مَالِهِ نُظِرَ فَإِنْ مَاتَ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ كَانَ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثُ مَا وَهَبَ وَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ قَبْلَ الثَّانِي بَطَلَتْ وَصِيَّةُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ وَصَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ في ثلث العبد لانقطاع الدور.

فصل:
في بيع المريض وشرائه
وبيع المريض وشراؤه جائزا إِذَا كَانَ بِثَمَنِ مِثْلِهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ غَبْنٌ ولا يَتَغَابَنُ أَهْلُ الْمِصْرِ بِمِثْلِهِ وَسَوَاءٌ بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ أَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى وَارِثِهِ كَانَ بَيْعُهُ مَرْدُودًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَبْنٌ وَلَا مُحَابَاةٌ لِأَنَّهُ قَدْ خَصَّ بَعْضَ ورثته بمال يتساوى فِيهِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ بَلْ بَيْعُهُ عَلَيْهِ لَازِمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ وَلَا غَبْنٌ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمَرِيضِ فِي الْمِقْدَارِ لَا فِي الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ بَاعَ أَجْنَبِيٍّ بِثَمَنِ مِثْلِهِ صَحَّ الْبَيْعُ مَعَ انْتِقَالِ الْعَيْنِ لِحُصُولِ الْمِقْدَارِ، وَلَوْ بَاعَهُمْ بِأَقَلَّ كَانَ لَهُمْ فِيهِ اعْتِرَاضٌ لِنَقْصِ الْمِقْدَارِ.
فَأَمَّا إِذَا حَابَى الْمَرِيضُ فِي بَيْعِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ أَهْلُ الْمِصْرِ بِمِثْلِهِ. كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَطِيَّةً فِي مَرَضِهِ مَحَلُّهَا الثُّلُثُ إِنْ لَمْ يُنْقِصْهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَارِثًا رُدَّتِ الْمُحَابَاةُ لأنها لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ بَاعَهُ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالْمِائَةُ الَّتِي هِيَ ثَمَنُهُ تُقَابِلُ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَصَارَتِ الْمُحَابَاةُ بِنِصْفِهِ فَيُقَالُ لِلْوَارِثِ لَكَ الْخِيَارُ فِي أَنْ تَأْخُذَ بِالْمِائَةِ نِصْفَ الْعَبْدِ وَهُوَ قدر مثلها مُحَابَاةَ فِيهِ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ الْمُحَابَاةُ مَرْدُودًا إِلَى

(8/292)


التَّرِكَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ بالمائة على جميع العبد فوصل لَهُ نِصْفُهُ.
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقَدْ بَاعَهُ عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كان له الخيار في أحد ثُلُثَيِ الْعَبْدِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَرُدَّ ثُلُثُهُ الَّذِي هُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ أَوْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيَسْتَرْجِعُ المائة وله بدل الباقي للورثة قِيمَةَ مَا زَادَ بِالْمُحَابَاةِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ لَمْ يُجِيزُوا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ قد بطل فلم يلزمهم أن يستأنفوا مع عَقْدًا فِيهِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِنَّمَا يُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ بِعَقْدِ الْبَيْعِ مَا لَا مُحَابَاةَ فِيهِ.
وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ يَحْمِلُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فِيمَا لَا مُحَابَاةَ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَيَجْعَلُ الْبَيْعَ فِي الْجَمِيعِ بَاطِلًا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ وَمَا لا محاباة فيه بيع لم تفترق صفته، فكذلك صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارٌ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا كَانَ قدر الْمُحَابَاةَ فِي الثُّلُثِ فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ أَمْضَى الْبَيْعَ فِي الْجَمِيعِ وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا أمضى منه قدر ما احتمله الثلث وعلى هَذَا لَوْ بَاعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالْمُحَابَاةُ هِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَإِنْ خَلَّفَ الْبَائِعُ مَعَ هَذَا الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ خَرَجَتِ الْمُحَابَاةُ كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ نِصْفُهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحَصَلَ مَعَ الْوَرَثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِائَةٌ منها ثمن، ومائة منها تركة، وهما مثلي الْمُحَابَاةِ، فَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَسْتَرْجِعُ الْمِائَةَ الَّتِي دَفَعَهَا ثمنا فلو قال: أرد نصف المائة وَآخُذُ نِصْفَهُ بِالْمُحَابَاةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ فِي عَقْدٍ فَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ.
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُخَلِّفِ الْبَائِعُ غَيْرَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ فَالْمُحَابَاةُ بِنِصْفِهِ وَلَزِمَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَهُوَ ثُلُثُ الْعَبْدِ فَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ بِالْمِائَةِ أَوْ يَفْسَخَ وَيَسْتَرْجِعَ الْمِائَةَ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُولَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنًا وَلَهُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ وَصِيَّةً وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ يَصِيرُ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ مِنَ الْعَبْدِ بِهَا وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ وَرَثَةِ الْبَائِعِ سُدُسُهُ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنًا يَصِيرُ الْجَمِيعُ مِثْلَيْ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ.
فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ خَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا: كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفَ سُدُسِهِ بِالْمِائَةِ، لِأَنَّ التَّرِكَةَ تَصِيرُ مائتين وخمسين درهما، ثلثها ثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم فإذا انضم إلى الثمن وهو مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ فيأخذ من العبد ثمنا فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَابِلًا لِخَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفِ سُدُسِهِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ نِصْفُ سُدُسِهِ بِسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا تَرِكَة، وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنٌ صَارَ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي بَاعَهُ الْمَرِيضُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا صَحَّ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهِ وَإِنْ

(8/293)


لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَهُ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فِيهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا هِيَ قَدْرُ ثُلُثِهِ فَصَحَّ جَمِيعُهَا، فهذا حكم المحاباة في البيع.

فصل:
فأما الْمُحَابَاةُ فِي الشِّرَاءِ:
فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ عَبْدًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، يُسَاوِي مِائَةً.
فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ فِي ثَمَنِهِ، مِائَةُ دِرْهَمٍ.
فَإِنْ صَحَّ الْمُشْتَرِي مِنْ مَرَضِهِ، لَزِمَهُ دَفْعُ الْمِائَتَيْنِ ثَمَنًا. وَإِنْ مات من مَرِضِهِ، نُظِرَ فِي الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ وَارِثًا، لَا تَجُوزُ لَهُ الْمُحَابَاةُ فِي الْمَرَضِ وَرُدَّتْ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي هِيَ ثَمَنُ مِثْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُفْسَخَ وَيسترْجَعَ الْعَبْدُ، لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِثَمَنٍ صَارَ لَهُ بَعْضُهُ، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ.
فَإِنِ اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ، فَلَا خِيَارَ لِوَرَثَةِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ نَقْصٌ.
وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ أَجْنَبِيًّا: فَإِنْ خَلَّفَ الْمُشْتَرِي مَعَ الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ لأن التركة ثلاثة مائة دِرْهَمٍ، وَقَدْرَ الْمُحَابَاةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَهِيَ ثُلُثُ التركة.
فلو وجد وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا، لَمْ يَعْلَمْ بِهِ المشتري: كان لهم في الْخِيَار فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِبْطَالِ الْمُحَابَاةِ، وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ إِنَّمَا تَلْزَمُهُمْ عِنْدَ احْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا إِذَا لَمْ يَحْدُثْ خِيَارٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ لو رآه، لا يستحق بِهِ الْفَسْخَ. فَكَذَلِكَ وَرَثَتُهُ.
وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا سِوَى الثَّمَنِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ: صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، وَيُرَدُّ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ.
فَإِذَا عَادَ إِلَى الْوَرَثَةِ معهم عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، صَارَ مَعَهُمْ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، فَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا القياس.
ويكون الفرق بين المحاباة في الشراء، والمحاباة في البيع مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ مَرْدُودًا مِنَ الْمَبِيعِ، دُونَ الثَّمَنِ. وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ فِي الشِّرَاءِ يَكُونُ مَرْدُودًا مِنَ الثَّمَنِ دُونَ الْمَبِيعِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: إِنَّهُ إذا زادت الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ، كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ البائع.
وإذا زادت الْمُحَابَاةُ فِي الشِّرَاءِ، كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ مِنْ مَرِيضٍ عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، بِعَبْدٍ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَمُشْتَرِي الْعَبْدِ الْأَعْلَى غَابِنٌ فَلَا خِيَارَ لِوَرَثَتِهِ.
وَمُشْتَرِي الْعَبْدِ الْأَدْنَى مَغْبُونٌ. فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ الْعَبْدِ الَّذِي دَفَعَهُ ثَمَنًا وَقِيمَتُهُ مِائَتَا

(8/294)


دِرْهَمٍ، فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُ الْعَبْدِ الْأَدْنَى، بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ العبد الأعلى، ولورثة صاحب الغبن الأدنى الخيار في إمضاء البيع أو في الْفَسْخِ.
وَهَكَذَا الْغَبْنُ فِي الْمَرَضِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُحَابَاةِ فِي اعْتِبَارِهَا مِنَ الثُّلُثِ.
فَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ عَبْدًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا ثَانِيًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ: فَإِنْ كَانَ الثلث يحتمل الْمُحَابَاةَ فِي الْعَبْدَيْنِ: لَزِمَتِ الْمُحَابَاةُ فِيهِمَا.
وَإِنْ كان الثلث يحتمل المحاباة في أحدهما، ويعجز في الْآخَرِ، قُدِّمَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ جُعِلَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا فِي مُحَابَاةِ الثَّانِي.
وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ جُعِلَ الثُّلُثُ مَصْرُوفًا فِي مُحَابَاةِ العبد الأول وزادت الْمُحَابَاةُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي، فَعَلَى هَذَا: لَوْ وَجَدَ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ الْأَوَّلِ عَيْبًا، فَلَهُمُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَرَدِّهِ.
فَإِنْ أرضوه فَالْمُحَابَاةُ فِيهِ هِيَ اللَّازِمَةُ، دُونَ الْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ.
وَإِنْ رَدُّوهُ: أُمْضِيَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي، وصار الثلث مصروفا إليهما، لأن الميت قد جعل ثلث ماله لها. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْأَوَّلُ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ. فَإِذَا امْتَنَعَ منه بالفسخ صار الثاني لِأَنَّ إِخْرَاجَ الثُّلُثِ لَازِمٌ لِلْوَرَثَةِ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا.

فَصْلٌ:
فَلَوِ اخْتَلَفَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي، فَقَالَ وَرَثَةُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، حَابَاكَ فَبَاعَكَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الْمُحَابَاةَ، أَوْ قَالَ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: حَابَاكَ فَاشْتَرَى مِنْكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الْمُحَابَاةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ تَالِفَةً.
فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهَا: لَمْ تَزِدْ فِي بَدَنِهَا، وَلَا سُوقِهَا، وَلَمْ تنقص.
وإن كَانَ كَذَلِكَ قُطِعَ اخْتِلَافُهُمَا بِتَقْوِيمِ مُقَوِّمَيْنِ، فَمَا قَالَاهُ مِنْ ظُهُورِ الْمُحَابَاةِ، أَوْ عَدَمِهَا عُمِلَ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا مَعَ بَقَائِهَا فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ زَائِدَةً فِي بَدَنِهَا، أَوْ سُوقِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ، فَنَقَصَتْ عِنْدَ التَّقْوِيمِ.
وَقَالَ مُنْكِرُ الْمُحَابَاةِ، لَمْ تَزَلْ نَاقِصَةً فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ وَالتَّقْوِيمِ. فَالْقَوْلُ، قَوْلُ مُنْكِرِ الْمُحَابَاةِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَقَدُّمِ الزِّيَادَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ، أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالتَّقْوِيمِ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا، وَيَذْكُرَ مُنْكِرُ الْمُحَابَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ نَاقِصَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، فَزَادَتْ عِنْدَ التَّقْوِيمِ فِي سُوقِهَا، أَوْ بَدَنِهَا.

(8/295)


فَالْقَوْلُ، قَوْلُ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِتَقَدُّمِ النُّقْصَانِ فَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَافِهِمَا، إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً.
فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تَالِفَةً لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَى تَقْوِيمِهَا، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لأن اختلافهما في المحاباة مأول إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، أَوْ قَدْرِ المثمن.
وإذا باع المريض كد طعام يساوي ثلاث مائة درهم، لا مال له غيره، بكد شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَالثُّلُثُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا كد الشعير بثلثي كد الطَّعَامِ. وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، قَدْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُحَابَاةِ قَدْرُ الثُّلُثِ، مِائَةُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الشَّعِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِكُلِّ الشَّعِيرِ بَعْضَ الطَّعَامِ، وَلَا خِيَارَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِبَعْضِ الطَّعَامِ كُلَّ الشَّعِيرِ.
وَلَوْ كان كد الشَّعِيرِ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، كَانَ لِوَرَثَةِ صاحب الطعام أن يأخذوا كد الشعير بخمسة أسداس كد الطَّعَامِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِذَا زِدْتَهُ عَلَى ثَمَنِ الشَّعِيرِ، صَارَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ يُقَابِلُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ ثَمَنِ الطَّعَامِ فَلِذَلِكَ أخذ خمسة أسداسه.
فلو باع المريض كد طعام، يساوي مائتي درهم، بكد طَعَامٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَيَحْتَاجُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنْهَا دَاخِلًا فِي قَدْرٍ يَتَسَاوَى فِيهِ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ، لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ حَرَامٌ.
وَإِذَا كان كذلك: صح البيع في ثلثي كد من الطعام الأجود، بثلثي كد من الطعام الأدنى، لِأَنَّ التَّرِكَةَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُلُثُهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ درهما وثلثا درهم، وقد حاباه في الكد الأجود بمائة درهم. فإذا أخذ ثلثي كده مِنَ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَثَلَاثَةٌ وثلاثون درهما، وثلث درهم، بثلثي كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَأ وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، كَانَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ بَيْنَهُمَا سِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَدْرُ الثُّلُثِ.
وأحضر بابا تصل إلى الاستخراج للعمل فِيهِ، بِأَنِ اسْتَخْرَجْتُهُ، سَهْلَ الطَّرِيقَةِ وَاضِحَ الْعَمَلِ، وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ، وَقَدْرَ الثُّلُثِ ثُمَّ تَنْظُرُ قَدْرَ الثُّلُثِ وَالْمُحَابَاةِ فَإِذَا نَاسَبَهُ إلى جزء معلوم، فهو القدر الذي إن أنفذ الْبَيْعُ فِيهِ اسْتَوْعَبَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ المحاباة من غير تفاضل.
مثاله: أن تقول: إذا باعه الكد المساوي مائتي درهم بالكد الْمُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ: إنَّ الْمُحَابَاةَ بَيْنَهُمَا مِائَةُ درهم، وقدر الثلث: ستة وستون درهما وثلث دِرْهَمٍ، فَإِذَا قَابَلْتَ بَيْنَ الثُّلُثِ وَالْمُحَابَاةِ، وَجَدْتَ الثُّلُثَ مُقَابِلًا لِثُلُثَيِ الْمُحَابَاةِ، فَتَعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ ثُلُثَيِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا بِيعَ بِمِثْلِهِ: اسْتَوْعَبَ (ثلث) التركة.
فعلى هذا: إذا باع كدا يساوي ثلاثة مائة درهم، بكد يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَمَلُهُ بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ أن تقول:

(8/296)


قَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَالثُّلُثُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، والمائة نصف المائتين فيعلم أَنَّ قَدْرَهَا: يَحْتَمِلُ الثُّلُثَ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ نصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، بنصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَأ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ مِائَةُ دِرْهَمٍ هِيَ قَدْرُ الثُّلُثِ.
ولو باعه كد طعام يساوي أربع مائة درهم، بكد طعام يساوي مائة درهم، ويخلف البائع مع الكد مائتين درهم، فالتركة ست مائة، ثلثاها، مائتا درهم، وقدر المحاباة ثلاث مائة درهم، فكان الثلث، مقابل لثلثي المحاباة، فيصح البيع في ثلثي كد الطَّعَامِ الْجَيِّدِ قِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ درهما وثلثا درهم، وبينهما من الفضل مائتي درهم هي قدر الثلث.
فلو باعه كدا من طعام يساوي خمس مائة درهم، بكد من طعام يساوي مائة درهم، وخلف مع الكد الذي باعه مائة درهم، فالتركة ست مائة درهم ثلثاها: مائتا درهم، وقد حاباه، بأربع مائة دِرْهَمٍ، فَكَانَ الثُّلُثُ نِصْفَ الْمُحَابَاةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ في نصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ، قِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، بنصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَأ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ مِائَتَا دِرْهَمٍ: هِيَ قَدْرُ الثُّلُثِ.
ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
في الدور وبيع المريض
وإذا باع المريض على أخيه كد طعام يساوي مائتي درهم بكد شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُمَا غير الكد، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الشَّعِيرِ قَبْلَ أَخِيهِ، وَخَلَّفَ بِنْتًا وَأَخَاهُ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَخَلَّفَ ابنا:
فالبيع في جميع الكد الطعام بجميع الكد الشَّعِيرِ، صَحِيحٌ، لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّعِيرِ، بِتَقَدُّمِ مَوْتِهِ، قَدْ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ وَالْمُحَابَاةُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ صَاحِبِ الطَّعَامِ، لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ بَيْنَ الكدين مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ صَارَ إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ كد شعير يساوي مائة درهم، ثم ورث نصف الكد الطَّعَامِ، وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَصَارَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ.
وَبَابُ الْعَمَلِ فِيهِ، أَنْ تَقُولَ: تَرِكَةُ صَاحِبِ الطَّعَامِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَقَدْ وَرِثَ نِصْفَ تَرِكَةِ أَخِيهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَصَارَتِ التَّرِكَةُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، الْخَارِجُ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ سَهْمٌ مِنْ ثُلُثِهِ، قَدْ فوت نِصْفَهُ، فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثُّلُثِ، يَبْقَى سَهْمَانِ وَنِصْفٌ، فَاقْسِمِ التَّرِكَةَ عَلَيْهَا، يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ فَعَلَى هَذَا: لو باع المريض على أخيه كد طعام يساوي ثلاث مائة درهم، بكد شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَمَاتَ صَاحِبُ الشَّعِيرِ، وخلف مع كد الشَّعِيرِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَأَخَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْأَخُ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غيره، وترك ابنا، صح البيع في كد الشعير بخمسة أسداس كد الطعام.

(8/297)


وعمله بالباب المقدم أن تقول: تركة صاحب الطعام ثلاثة مائة درهم، وتركة صاحب الشعير، ثلاث مائة دِرْهَمٍ، فَإِذَا وَرِثَ صَاحِبُ الطَّعَامِ مَعَ الْبِنْتَيْنِ ثُلُثَ تَرِكَةِ أَخِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، صَارَتْ تَرِكَتُهُ أربع مائة دِرْهَمٍ، فَالْخَارِجُ بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثُهَا سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَأَسْقِطْهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ يَبْقَى سَهْمَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَابْسُطْهَا أَرْبَاعًا، تَكُنْ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ اقْسِمِ التَّرِكَةَ عليها وهي أربع مائة يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلِلْمُحَابَاةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، تَكُنْ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ، مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى ثَمَنِ الشعير، وهو مائة درهم، فصار مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ يُقَابِلُ مِنْ كد الطعام خمسة أسداسه، لأن قيمته ثلاث مائة درهم، فيصح البيع في كد الشعير، بخمسة أسداس كد الطَّعَامِ، وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَهُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَ صَاحِبِ الطعام سدس كد قيمته خمسون درهما، وأخذ كد شَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَوَرِثَ مِنْ أَخِيهِ ثلث مائتي الدرهم ستة وستون درهما وثلث درهم، وثلث خمسة أسداس كد الطَّعَامِ، بِثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثِ دِرْهَمٍ، فَصَارَ معه ثلاث مائة دِرْهَمٍ، وَهِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا.
فَعَلَى هَذَا: لو كانت المسألة بحالها، وكان بدل كد الشعير الذي قيمته مائة درهم، كد طعام قيمته مائة درهم، يحرم التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ، الَّذِي قِيمَتُهُ ثلاثة مائة درهم.
وعمله بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْتُ لَكَ اسْتِخْرَاجَهُ، فَقُلْتُ الْمُحَابَاةُ في الكد الأجود مائة دِرْهَمٍ، وَقَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، عَلَى مَا بَيَّناهُ وَبَقِيَ مِنَ الْمِائَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي ثَلَاثَةِ أرباع كد الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ، وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، بثلاثة أرباع كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَدْوَنِ، وَقِيمَتُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا، وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُحَابَاةِ، مِائَةٌ وَخَمْسُونَ درهما، وهو قدر ما احتمله الثلث.
فَهَذَا آخِرُ مَا تَعَلَّقَ بِالدَّوْرِ الَّذِي نَعْمَلُ بِقِيَاسِهِ مَا أَغْفَلْنَاهُ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ المزني: " (وَقَالَ) فِي الْإِمْلَاءِ يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ثَلَاثٌ حَجٌّ يُؤَدَّى وَمَالٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ أو دين يقضى ودعاء أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ وَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الدعاء وأمر به رسوله عليه الصلاة والسلام. فإذا أجاز له الحج حَيًّا جَازَ لَهُ مَيِّتًا وَكَذَلِكَ مَا تُطُوِّعَ به عنه من صدقة ".
قال الماوردي: وذهب قوم من أهل الكوفة، إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَلْحَقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَوَابٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ الْإِيمَانُ إذا مات كافرا، بإيمان غيره عنه، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ ثَوَابُ فِعْلِ غَيْرِهِ عنه.
وذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَلْحَقُهُ الثَّوَابُ بفعل غَيْرِهِ عَلَى مَا سَنِصِفُهُ لِقَوْلِهِ

(8/298)


تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] .
فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ مِنَ الدُّعَاءِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] . فَلَوْلَا تَأْثِيرُ هَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَهُ لَمَا نَدَبَ إِلَيْهِ.
وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا من ثلاثة أشياء، صَدَقَة جَارِيَة، أَوْ عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ ".
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أمي اقتتلت نفسها، ولولا ذلك لتصدقت وأعطيت، أفيجز لي أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نعم فتصدقي عنها.
قولها: اقتتلت نفسها، أَيْ مَاتَتْ فَلْتَةً مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قال: نعم، قال فإن لي لمخرفا وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا.
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا، وَهِيَ دُعَاءٌ لَهُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لَاحِقًا بِهِ، مسموعا منه فِي صَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ الْمَيِّتَ قَضَاءُ الدُّيُونِ عَنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِهَا وَمُعَاقَبًا عَلَيْهَا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَجُزْ ذلك حين جَازَ فِي الصَّدَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ حَيًّا.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] .
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَأَنْ لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] . أَيْ فَعَلَيْهَا، على أن ما مات عَنْ غَيْرِهِ فِيهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي حكم ما يسعى في قصده.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ: فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنِ الْحَيِّ، فَكَذَلِكَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ كَالصَّدَقَةِ، على أنه قد يتيسر حُكْمُ الْإِيمَانِ عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا يكون الأب متيسرا إلى صغار ولده.

فصل:
فإذا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَوْدِ الثَّوَابِ إِلَى الميت، بفعل غيره، فما يفعل عنه عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ.

(8/299)


وذلك قضاء الديون، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَفِعْلُ مَا وَجَبَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَ قَبْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَلَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ.
وَذَلِكَ: كُلُّ مَا لا تصح فيه النيابة من العبادات، كالصلاة والصيام وَكَانَ فِي الْقَدِيمِ: يَرَى جَوَازَ النِّيَابَةِ فِي صوم الفرض، إذا أناب عَنْهُ وَارِثٌ. وَفِي نِيَابَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ وَجْهَانِ: وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ خِلَافُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يفعل عنه بغير أمره، وهو النذر بِالْعِتْقِ، لِمَا فِيهِ مِنْ لُحُوقِ الْوِلَايَةِ.
وَالرَّابِعُ: مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ بأمره، وفي فعله عنه فأمره قولان: وهو حج التطوع.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَقَالَ) فِي كِتَابٍ آخَرَ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ وَلِمَنْ لَا يُحْصَى بِثُلُثِهِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ ".
قال الماوردي: وصورتها: في رجل أوصى بثلث ماله لزيد والمساكين فَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا أَوْ مِسْكِينًا، فَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُعْطَى مِنَ الثُّلُثِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَكُونُ كَأَحَدِهِمْ يُعْطِيهِ الْوَصِيُّ مَا يراه من قليل أو كثير فيعطاه أحد المساكين ويستفاد بتعينه أنه لَا يُحْرم.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْطَى الرُّبُعَ من الثلث الموصى به ويصرف ثلاثة أرباعه للمساكين لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ مَعَ جَمْعٍ أَقَلُّهُمْ ثَلَاثَةٌ، فصار معهم رابعا، فاختص بالرابع اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ ثُمَّ تَجُوزُ الثَّلَاثَةُ الْأَرْبَاعُ فِي أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَةٍ تَفْضِيلًا وَتَسْوِيَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعْطَى النِّصْفَ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثلث مصروفا في خمسين.
وإن كان غنيا ففيما يُعْطَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الرُّبُعُ وَالثَّانِي النِّصْفُ فَأَمَّا جَعْلُهُ كَأَحَدِهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي صفتهم تقتضي مخالفتهم فِي حُكْمِهِمْ.

فَصْلٌ:
فَلَوِ امْتَنَعَ الْمُسَمَّى مَعَ الْمَسَاكِينِ مِنْ قَبُولِ مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ رَدُّ حِصَّتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ مُوصًى بِهِ لِغَيْرِهِمْ، وَصُرِفَ فِيهِمْ مَا سِوَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ مِنَ الثُّلُثِ.
وَهَكَذَا: لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لزيدٍ وَلِعَمْرٍو فَقَبِلَ زَيْدٌ وَلَمْ يَقْبَلْ عَمْرٌو كَانَ لِزَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ ويرجع ما كان لعمرو، ولو قبل كان مِيرَاثًا. وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ سَالِمٍ لِزَيْدٍ وَبِبَاقِي ثُلُثِهِ لِعَمْرٍو، فَمَاتَ عَبْدُهُ سَالِمٌ، قَبْلَ دَفْعِهِ في الوصية: قوم العبد كما لَوْ كَانَ حَيًّا يَوْمَ مَاتَ الْمُوصِي وَأُسْقِطَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الثُّلُثِ. ثُمَّ دُفِعَ إِلَى عَمْرٍو مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ إِسْقَاطِ قِيمَةِ العبد.

(8/300)


فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَكَانَ زَيْدٌ فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يعطي غَيْرَ الدِّينَارِ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَدْ قطع اجتهاد الوصي وإعطائه زِيَادَةً عَلَى تَقْدِيرِهِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَوَلَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِزَيْدٍ وَلَدٌ فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ نِصْفَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا فَفِيمَا لَزِيدٍ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ نِصْفَ الثُّلُثِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَإِلَى جِبْرِيلَ دُفِعَ إِلَى زَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي الَّذِي سَمَّاهُ لِجِبْرِيلَ رَاجِعًا إِلَى وَرَثَتِهِ. وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا لِزَيْدٍ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: النِّصْفُ.
وَالثَّانِي: الرُّبُعُ وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَالشَّيَاطِينِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ.
وَالثَّانِي: لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ.
وَالثَّالِثُ: رُبُعُ الثُّلُثِ ثُمَّ يُرَدُّ بَاقِي الثُّلُثِ عَلَى الورثة. ولو وقال اصْرِفُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَالرِّيَاحِ كَانَ فِيمَا لَزِيدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الثُّلُثِ لِأَنَّ ذِكْرَ الرِّيَاحِ لَغْوٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْجِهَتَيْنِ وَيَرْجِعُ النِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى الْوَرَثَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي فُلَانٍ: فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا مَحْصُورًا، صُرِفَ الثُّلُثُ فِي جَمِيعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلِ كَبِيرٍ عَلَى صَغِيرٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْإِنَاثُ لِأَنَّهُمْ غير بنين.
فإن كانوا عددا لا يحصر كَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي تَمِيمٍ: فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى جَمِيعِهِمِ.
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ وَيُعْطَى الثُّلُث لِثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا عَلَى تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ، كَالْمَسَاكِينِ وَيَدْخُلُ الْإِنَاثُ فِيهِمْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْقَبِيلَةِ.
وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ: كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أن يزيد فَقُرَاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَيَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِزَيْدٍ فَفِيمَا لَزِيدٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ جَمِيعُ الثُّلُثِ ويكون ذكر الله تعالى افتتاحا للسلام تبركا بِاسْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ أحد الجهتين للثلث وفي النصف وجهان: أحدهما: أن يَكُون مَصْرُوفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُمُ الْغُزَاةُ. والثاني: في الفقراء والمساكين.

(8/301)


باب الوصية للقرابة من ذوي الأرحام
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ ثُلُثِي لقرابتي أو لذوي وأرحمي لِأَرْحَامِي فَسَوَاءٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالَأُمِّ، وَأَقْرَبُهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ وَأَغْنَاهُمْ وَأَفْقَرُهُمْ سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ القرابة كما أعطي من شهد القتال باسم الحضور وإن كان من قبيلة من قريش أعطي بقرابته المعروفة عند العامة فينظر إلى القبيلة التي ينسب إليها فيقال من بني عبد مناف ثم يقال وقد تفترق بنو عبد مناف فمن أيهم؟ قيل من بني عبد يزيد بن هاشم بن المطلب فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم هم قبائل فإن قيل فمن أيهم؟ قيل من بني عبيد بن عبد يزيد فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم بنو السائب بن عبيد بن عبد يزيد فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم بنو شافع وبنو علي وبنو عباس أو عياش شك المزني وكل هؤلاء بنو السائب فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم كل بطن من هؤلاء يتميز عن صاحبه فإذا كان من آل شافع قيل لقرابته هم آل شافع دون آل علي والعباس لأن كل هؤلاء متميز ظاهر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ فَمُسْتَحَبَّةٌ وَغَيْرُ واجبة لقوله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] .
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] . وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى بُطْلَانِهَا لِلْجَهْلِ بِعَدَدِهِمْ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَرَابَةٌ لأن أبيهم يَجْمَعُهُمْ.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآيَةِ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَقَارِبِ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِعَدَدِهِمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالزَّكَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا إِلَى أَقْوَامٍ لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهُمْ ثُمَّ هِيَ وَاجِبَةٌ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُسْتَحِقِّ الْوَصِيَّةِ مِنْهُمْ عِنْدَ إِطْلَاقِ ذِكْرِهِمْ.
فَقَالَ أبو حنيفة: هُمْ كُلُّ ذِي رَحِمِ مَحْرَمٍ. وَقَالَ مَالِكٌ هُمْ كُلُّ مَنْ جَازَ أَنْ يَرِثَ دون من لا يرث مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: هم كل من جمعه وإياهم أَوَّلُ أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهُمُ الْمَنْسُوبُونَ فِي عُرْفِ النَّاسِ إِلَى قَرَابَتِهِ المخصوصة إذا كان

(8/302)


اسْمُ الْقَرَابَةِ فِي الْعُرْفِ جَامِعًا لَهُمْ، لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى لَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا مِنْ بَعِيدٍ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أبي حنيفة حيث جعل ذلك لذوي الأرحام الْمَحَارِمِ وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي يوسف حَيْثُ جَعَلَهُ لِمَنْ جَمَعَهُ أَوَّلُ أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ يَنْطَلِقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، فَبَطَلَ بِهِ قول مالك لأن مطلق كلام الموصي محمول على العرف شرعا أو عادة وعرفها جميعا بما قُلْنَا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا انْطَلَقَ عليه اسم القرابة عرفا وهو الْمُعْتَبَرُ. فَاعْتِبَارُهُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمُوصِي، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا خَرَجَ مِنْهُ الْعَجَمُ، وَلَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ الْعَرَبِ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ، فَإِذَا قِيلَ مِنْ مُضَرَ، قِيلَ مِنْ أَيِّهِمْ وَلِمَ يُدْفَعُ إِلَى جَمِيعِ مُضَرَ، فَإِذَا قِيلَ مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقِيلَ من أي قريش فإذا قيل بَنِي هَاشِمٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقِيلَ من أي بني هاشم.
فإذا قيل عباس لَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ عَبَّاسِيٍّ، وَإِنْ قِيلَ طَالِبِيٌّ: لَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ طَالِبِيٍّ. فَإِذَا قيل في العباس مَنْصُورِيٌّ: لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ من بني المأمون، أو من بَنِي الْمُهْتَدِي، فَيَدْفَعُ ذَلِكَ إِلَى آلِ الْمَأْمُونِ وَآلِ الْمُهْتَدِي.
فَإِنْ قِيلَ فِي الْمُطَّلِبي إنَّهُ عَلَوِيٌّ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ. فَإِذَا قِيلَ حُسَيْنِيٌّ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ. فَإِذَا قِيلَ زَيْدِيٌّ أَوْ مُوسَوِيٌّ دُفِعَ ذَلِكَ إِلَى آلِ زَيْدٍ وَآلِ مُوسَى.
وَقَدْ شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ بِنَسَبِهِ، وَسَوَاءٌ اجْتَمَعُوا إِلَى أَرْبَعَةِ آبَاءٍ، أَوْ أَبْعَدَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ من اجتمع معه من الْأَبِ الرَّابِعِ كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِ.
وَمَنِ اجْتَمَعَ بَعْدَ الرَّابِعِ خَرَجَ مِنَ الْقَرَابَةِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرابع جعل قرابة مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي الْأَبِ الرَّابِعِ.
وَهَذَا خطأ، لأن جَعْلَهُمْ قَرَابَةً اعْتِبَارًا بِالنَّسَبِ الْأَشْهَرِ لَا تَعْلِيلًا بِالْأَبِ الرَّابِعِ.
فَصْلٌ:
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَرَابَتُهُ من قبل أبيه أو قرابته من جهة أمه فتعتبر قرابة أمه كما اعتبرنا قَرَابَةَ أَبِيهِ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لِذَوِي أَرْحَامِي فهو كقوله لقرابته، فَيُدْفَعُ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ: مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ.
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَرِيبًا أَوْ بعيدا.

(8/303)


وَقَالَ أبو حنيفة: الْقَرِيبُ مِنْهُمْ أَحَقُّ مِنَ الْبَعِيدِ، فَجَعَلَ الْإِخْوَةَ أَوْلَى مِنْ بَنِيهِمْ، وَبَنِي الْإِخْوَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَعْمَامِ، فَأَمَّا بَنُو الْأَعْمَامِ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مِنَ الْقَرَابَةِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ إِذَا انْطَلَقَ عَلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ، انْطَلَقَ عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ.

فَصْلٌ:
وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْتَصُّ بِهِ الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهُمْ أُعْطَوْا بِالِاسْمِ لَا بِالْحَاجَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْمِيرَاثِ وَسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى.
فَصْلٌ:
وَيُسَوّى بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ يُعْطى الذَّكَر مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كسهم ذي الْقُرْبَى.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِمُسَمَّى فَأَشْبَهَتِ الهبات والصدقات، وأما سهم ذي الْقُرْبَى: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْقَرَابَةِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوهُ بِالنُّصْرَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَخْرَجَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ وَأَدْخَلَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَقَرَابَتَهُمْ وَاحِدَةً. لِأَنَّ بَنِي الْمَطَّلِبِ نَصَرُوا بَنِي هَاشِمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَإِذَا اسْتَحَقُّوا بِالنُّصْرَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ، فُضِّلَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ لاختصاصهم بالنصرة.
فَصْلٌ:
وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَرِثْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ مِنَ الْقَرَابَةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] أَنَّهُمُ الْأَوْلَادُ.
وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . كَانَتْ فَاطِمَةُ فِي جُمْلَةِ مَنْ دَعَاهَا لِلْإِنْذَارِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا نُظِرَ فِي أَقَارِبِهِ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا محصورا فرق الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَرِيبِهِمْ وَبِعِيدِهِمْ، وَصَغِيرِهِمْ، وَكَبِيرِهِمْ، وَغَنِيِّهِمْ، وَفَقِيرِهِمْ، ذُكُورِهِمْ، وَإِنَاثِهِمْ، وَلَوْ مُنِعَ أَحَدُهُمْ مِنْ سَهْمِهِ كَانَ الْوَصِيُّ الْمَانِعُ لَهُ ضَامِنًا بِقَدْرِ حَقِّهِ. وَلَوْ رَدَّ أَحَدُهُمْ سَهْمَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَقْبَلْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى بَاقِي الْقَرَابَةِ.
وَإِنْ كَانَ أَقَارِبُهُ عَدَدًا كَبِيرًا لَا يَنْحَصِرُونَ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ لَهُ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَمْ يَلْزَمْ إِعْطَاءُ الْجَمِيعِ، لَمْ يَحْرُمِ التَّفْضِيلُ، فَلَوْ أَنَّ مَنْ صُرِفَ الثُّلُثُ إِلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْهُ. لَمْ يَعُدْ مِيرَاثًا وَصُرِفَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَرَابَةِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ فَلَا يَدْخُلَانِ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ وَالرَّضِيعُ.

(8/304)


وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِهِ فَهُمُ الْقَرَابَةُ، وَفِي دُخُولِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَعَهُمْ دُونَ الْمُعْتَقِ وَالرَّضِيعِ وَجْهَانِ، وَلَكِنْ لَوْ أَوْصَى لِعصبَتِهِ دَخَلَ فِيهِمُ الْمُعْتَقُ دُونَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَدُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَإِنْ كانوا قرابة.

فصل:
ولو أوصى لمناسبه فَهُوَ لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمُوصِي مِنْ أَوْلَادِهِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي نَسَبِهِمْ دُونَ مَنْ علا من آبائه الذي يَرْجِعُ الْمُوصِي إِلَيْهِمْ فِي نَسَبِهِ لِأَنَّهُ أَضَافَ نَسَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَنَسَبُ الْآبَاءِ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَلَدِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ فيهم على وجهين:
أحدهما: يدخلون فيهم لِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى آبَائِهِمْ.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي لِمَنْ أُنَاسِبُهُ دَخَلَ فِيهِمُ الْآبَاءُ دُونَ الْأَبْنَاءِ وَدَخَلَ فِيهِمُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، وَالْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ الْأَجْدَادِ فِيهِمْ وَالْجَدَّاتِ عَلَى وَجْهَيْنِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ. وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ وَلَا الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ لأنهم غير مناسبة، بخلاف الأم المختصة بالولادة والبعضية.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ زَيْدٍ فَالْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةٌ حتى يموت زيد، ثم تدفع الْوَصِيَّةُ إِلَى مَنْ وَرِثَهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى وَرَثَتِهِ فِي حَيَاتِهِ لِأَنَّ الْوَارِثَ مَنْ حَازَ الْمِيرَاثَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَن لا يَرِثَهُ هَؤُلَاءِ لِحُدُوثِ مَنْ يَحْجُبُهُمْ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو قال لأقربهم بي رحما أعطي أقربهم بأبيه وأمه سواء وأيهم جمع قرابة الأب والأم كان أقرب ممن انفرد بأب أو أم فإن كان أخ وجد للأخ في قول من جعله أولى بولاء الموالي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِذَا كَانَ اسْمُ الْقَرَابَةِ عَلَيْهِمْ مُنْطَلِقًا، أَوْ كَانَ فِي جُمْلَتِهُمْ دَاخِلًا.
فَأَمَّا إِذَا قَالَ ثُلُثِي لِأَقْرَبِ الناس إلي أو قال لأقربهم رحما لي فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هو أقرب. وإذا كان هكذا راعيت الدرجة، فأيهما كان أقرب كان أحق، وإن استوت الدرجة تشاركوا، وَيَسْتَوِي فِيهِ مَنْ أَدْلَى بِأُمٍّ، وَمَنْ أَدْلَى بِأَبٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَدْلَى بِالْأَبَوَيْنِ مَعًا كَانَ أَوْلَى مِمَّنْ أَدْلَى بِأَحَدِهِمَا.
فَعَلَى هَذَا: الْأَوْلَادُ عَمُودٌ، وَهُمْ أَقْرَبُ مِنَ الْآبَاءِ، لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْمُوصى، وَأَقْرَبُ الْأَوْلَادِ صُلْبُهُ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَخَذَ الثُّلُثَ كُلَّهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِقَرَابَتِي فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ وَارِثٌ لِأَنَّهُ بِالْأَقْرَبِ قَدْ عَيَّنَ به ثُمَّ هُوَ بَعْدَ أَوْلَادِ صُلْبِهِ لِأَوْلَادِ وَلَدِهِ دُونَ مَنْ نَزَلَ عَنْهُمْ بِدَرَجَةٍ، يَسْتَوِي فِيهِ

(8/305)


أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَهُمْ، لأولادهم، وأهل الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ لِأَهْلِ الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ هَكَذَا أَبَدًا.
فَإِذَا عُدِمَ عَمُودُ الْأَوْلَادِ، فَالْأَبَوَانِ، وَهُمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ، يَشْتَرِكَانِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ عُدِمَ أَحَدُهُمَا كَانَ الثُّلُثُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ أُمًّا.
فَإِنْ عُدِمَ الْأَبَوَانِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ أَقْرَبُ مِنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ. لِأَنَّهُمْ قَدْ رَاكَضُوهُ فِي الرَّحِمِ، فَإِنْ كَانُوا لِأَبٍ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَانُوا لِأُمٍّ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَبَعْضُهُمْ لأم فهو بين جميعهم ذكرهم وَأُنْثَاهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وبعضهم لأم بالسوية، وَبَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَمَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ فهو أقرب وأحق لقوته بها عَلَى مَا تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا.
ثُمَّ بَعْدَ الْإِخْوَةِ والأخوات: بنوهم وبنو بنيهم وإن سفلوا يكونوا أَقْرَبَ مِنَ الْجَدِّ وَإِنْ دَنَا، وَيَشْتَرِكُ فِي ذلك أولاد الأخوة وأولاد الأخوات كما اشتركوا فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ لَا بِالْمِيرَاثِ، ثُمَّ هَكَذَا بَطْنًا بعد بطن.
وإذا عُدِمُوا: عَدَلْنَا حِينَئِذٍ إِلَى الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فَيَكُونُ بَعْدَهُمْ لِجَدَّيْنِ وَجَدَّتَيْنِ، جَدٍّ وَجَدَّةٍ لِأَبٍ وَجَدٍّ وجدة لأم فينقسم بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَامٌ وَلَا عمات فهم بَعْدَهُمْ لِأَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ بَعْدَ ثَلَاث درجة فينقسم بينهم أثلاثا.
ثُمَّ هُوَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ بَيْنَ ثَمَانِيَةِ أجداد وثمان جَدَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ أَعْمَامٌ وَعَمَّاتٌ وَمَعَ جَدِّ الْأُمِّ أَخْوَالٌ وَخَالَاتٌ فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ أَوْلَى مِنْ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ، وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ أَوْلَى مِنْ جَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا، كَمَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْإِخْوَةُ أَوْلَى مِنَ الجدة، وَيُشْرَكُ بَيْنَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَبَيْنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لاستوائهما في الدرجة وتكافئهما فِي الْقُرْبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَ أَجْدَادَ الأبوين وجداتهما.
فعلى هذا: يجمع مع الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَمَعَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ أَرْبَعَةُ أَجْدَادٍ، وأربع جدات، فينقسم ذَلِكَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ.

فَصْلٌ:
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: في الأهل.
أن الجدة والأخوة سواء لاجتماعهم في الإدلاء بالأدب.
وَعَلَى هَذَا يُشْرَكُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَبَيْنَ الْأَخَوَاتِ وبين جدين وجدتين جد جدة لأب، وجد جدة لِأُمٍّ، وَيَكُونُ الْجَدَّانِ وَالْجَدَّتَانِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، لِجَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ، وَلِجَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ عَمٌّ وَلَا عَمَّةٌ، وَلَا مَعَ جد الأم وجدتها خال ولا خالة.

(8/306)


فينقسم ذَلِكَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ، وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ أَثْمَانًا وجدان وَجَدَّتَانِ لِلْأَبِ وَجَدَّانِ وَجَدَّتَانِ لِلْأُمِّ.
وَإِنْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ عَمٌّ وَعَمَّةٌ، وَمَعَ جَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا خَالٌ وَخَالَةٌ فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ والخال ولخالة يساوي جد الأبوين وجدتيهما فتقسم بَيْنَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، وَبَيْنَ أَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ، وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ كَمَا تُشَارِكُ الْإِخْوَةُ وَالْجَدُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَدَّيِ الْأَبَوَيْنِ وَجَدَّتَيْهِمَا أَوْلَى مِنَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَمِنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْبَعْضِيَّةِ.

فَصْلٌ:
فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ لِيَتَّضِحَ وَيَستبِينَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَمِعَ جَدٌّ لِأَبٍ، وَأَخٌ لِأُمٍّ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْأَخَّ لِلْأُمِّ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: إنَّهُ وَالْجَدَّ سَوَاءٌ.
وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ لِأُمٍّ وَأَخٌ لأب وأم كان على قولين:
أحدهما: استويا.
وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ الْأَخُ.
وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَابْنُ أَخٍ: فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّ الْجَدَّ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: إِنَّ ابْنَ الْأَخِ أَوْلَى. وَلَا يُشْرَكُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا.
وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَعَمٌّ: كان الجد أولى. ولو اجتمع جدان وعم ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الجد الْأَبِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَمَّ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ عَمَّةٌ أَوْ خَالٌ أَوْ خَالَةٌ، أَوْ كَانَ مَعَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، جَدَّة أنه عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ.
وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ لِأُمٍّ وَخَالٌ وَخَالَةٌ، كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ:
أَحَدُهَا: إنَّ جَدَّ الْأُمِّ أَوْلَى. وَالثَّانِي: إنَّ الْخَالَ وَالْخَالَةَ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: إنَّهُمْ سَوَاءٌ.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأُمِّ، أَوْ مع جدة الأم عمة وعم، وكان عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَمِّ وَالْخَالِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَدِّ الأب وجد الأم.
وهكذا لو اجتمع جدان وَابْنُ عَمٍّ كَانَ جَدُّ الْأَبِ أَوْلَى، وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ أُمٍّ وَابْنُ خَالٍ كَانَ جَدُّ الْأُمِّ أَوْلَى، وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ أُمٍّ وَابْنُ عَمٍّ كَانَ جَدُّ الْأُمِّ أَوْلَى، وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ جَدٍّ وَابْنُ عَمٍّ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
مِثْلُ جَدٍّ وَابْنِ أَخٍ. أَحَدُهُمَا: إِنَّ الجد أولى. والثاني: أن الْعَمّ أَوْلَى. وَلَا يَجِيءُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التسوية بينهما، كما لا يسوى بَيْنَ الْجَدِّ وَابْنِ الْأَخِ فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى الأصل الذي

(8/307)


بَيَّنَّاهُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ وَاحِدًا انفرد بالوصية، وإن كانوا عَدَدًا، اشْتَرَكُوا فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ.

فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنِّي وَكَانَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ وَاحِدًا ضُمَّ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ منه ليصرف في ثلاثة هم أقل الجميع.
فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ ثَلَاثَةُ بَنِي ابْنٍ بَعْضُهُمْ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ دُفِعَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثٌ، وَإِلَى الثَّانِي ثُلُثٌ، وَإِلَى الثَّالِثِ ثُلُثٌ، ليكون الثلث مقسوما بينهما أَثْلَاثًا. فَلَوْ كَانَ الْبَطْنُ الثَّالِثُ مِنْ بَنِي الِابْنِ ثَلَاثَةً قُسِّمَ الثُّلُثُ أَثْلَاثًا فَدُفِعَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثٌ، وَإِلَى الثَّانِي ثُلُثٌ، وَجُعِلَ الثُّلُثُ الثالث بين ثلاثتهم مِنَ الْبَطْنِ الثَّالِثِ أَثْلَاثًا وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتُ بِنْتٍ وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ: كَانَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَلِلْأَخَوَاتِ ثُلُثَاهُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ وَبِنْتُ أَخٍ وَعَشَرَةُ أَعْمَامٍ: كَانَ لِلْأَخِ ثُلُثُ الثلث، ولبنت الأخ ثلث آخر، وكان الثلث الثَّالِث بَيْنَ الْأَعْمَامِ الْعَشَرَةِ عَلَى عَشَرَةٍ، فَيَصِيرُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثِينَ سَهْمًا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَمَاتَ عَمْرٌو بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: كَانَ لِزَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ عَمْرٌو عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَيِّتًا: قَالَ أبو حنيفة: لِزَيْدٍ جَمِيعُ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ لِمَيِّتٍ صَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ، بِخِلَافِ مَوْتِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ.
وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَكُونُ لِزَيْدٍ إِلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ مَاتَ عَمْرٌو بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِزَيْدٍ مَعَ الشَّرِيكِ فِي الْوَصِيَّةِ إِلَّا نِصْفهَا كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(8/308)


باب ما يكون رجوعا في الوصية
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا مِلْكُ مُعْطِيهَا فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي عَطَايَا مَرَضِهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ.
ثُمَّ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ يَكُونُ بِقَوْلٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ جَارِيًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لعمرو فقد اختلف الناس في حكم ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ أنه يكون وَصِيَّةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: وهو مذهب الحسن وعطاء وطاوس أَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ أَشْبَهُ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا بَاطِلَةٌ لَا تصح لواحد منها لِإِشْكَالِ حَالِهِمَا.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وأبى حنيفة.
أَنَّهَا تَكُونُ وَصِيَّةً لَهُمَا فَتُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِثَالِثٍ، جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِرَابِعٍ جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: ثَلَاثَةُ معاني:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَدْ أَوْصَيْتُ بِعَبْدِي هَذَا لِزَيْدٍ وَأَوْصَيْتُ به لعمر كان بينهما إجماعا فوجب أن يتراخى بين الوصيتين وأن يكون بينهما حجابا إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ اقْتِرَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ وَبَيْنَ اقترانهما.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ زَمَانٍ بِثُلُثِ ماله لعمرو وأن الثلث إذا لم تجز الْوَرَثَةُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ رُجُوعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنِسْيَانِ الأولى، ويحتمل أن يقصد بِهَا التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مَعَ هَذَا

(8/309)


الِاحْتِمَالِ عَلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَصِيَّةِ لَهُمَا، وَلَيْسَ يُلْزَمُ فِي الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، وَلَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعَطَايَا النَّاجِزَةِ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ جَارِيَةٌ حَامِلٌ فَأَوْصَى بِهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ ذَلِكَ بِحَمْلِهَا لِآخَرَ فَالْجَارِيَةُ تَكُونُ لِلْأَوَّلِ وَالْوَلَدُ يَكُونُ بَيْنَ الْأَوَّلِ والثاني.
وإنما كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالْجَارِيَةِ لِلْأَوَّلِ كَانَ حَمْلُهَا دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ تَبَعًا، فَلَمَّا أوصى بالحمل للثاني صار موصيا بِهِ لَهُمَا، فَكَانَ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ فَأَوْصَى بِحَمْلِهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِآخَرَ كَانَ الْحَمْلُ بَيْنَهُمَا وَالْجَارِيَةُ لِلثَّانِي مِنْهُمَا لِمَا ذكرناه.
ولكن لو قال: أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ دُونَ حَمْلِهَا، وَأَوْصَيْتُ لعمرو بحملها دونها، صح وانفرد زَيْدٌ بِالْأُمِّ وَعَمْرٌو بِالْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ زَيْدًا الْمُوصَى لَهُ بِالْأُمِّ أَعْتَقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، عتقَتْ وَلَمْ يَسْرِ عِتْقُهَا إِلَى الْحَمْلِ، وَكَانَ الْحَمْلُ إِذَا وُلِدَ رَقِيقًا لِعَمْرٍو وَسَوَاءٌ كَانَ مُعْتِقُ الْأُمِّ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّ الْأُمَّ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْوَلَدِ وَقَدْ تَمَيَّزَا فِي الْمِلْكِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِعَبْدِهِ لِوَاحِدٍ مِنْ رَجُلَيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَاحِدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةً وَدَفَعَ الْوَارِثُ أَيَّهُمَا شَاءَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ جَائِزَةٌ، كَالْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَتْ لِمُوصى لَهُ إِمَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِإِطْلَاقِ اسْمٍ تَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ، وَلَيْسَ فِي الوصية لأحد الرجلين نَصٌّ وَلَا عُمُومُ اسْمٍ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي العموم إذا قال: ادفعوا عبدي أي هذين الرجلين شئتم فتصح الوصية كلها.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ: هُوَ الْجَهْلُ بِمُسْتَحِقِّهَا فِي أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، وَالْعِلْمُ بِمُسْتَحِقِّهَا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": وَلَوْ أَنَّ شَاهِدًا قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ قَتَلَ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ لِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يُقْسِمُوا مع شهادتهم وَلَا يَكُونُ لَوْثًا، وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ كَانَ ذَلِكَ لوثا لمن ادعاه من أولياء المقتولين ويقسمون مع شهادتهم، وفصل بينهما بأنه إذا ثبت الْقَاتِلُ تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْمَقْتُولُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْقَاتِلُ، لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مَعَ إِثْبَاتِ المقتول.
ومثله أن يقول عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَلْفٌ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى مِنْهُ وَلَوْ قَالَ لِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَالَيْنِ سُمِعَتِ الدَّعْوَى مِنْهُ توجها وأخذا بالبيان تعيينا.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ لفلان أو قد أوصيت بالذي أوصيت به لفلان لفلان كان هذا رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآخَرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، وَيَكُونُ الْعَبْدُ وَصِيَّةً لَهُمَا كَمَا

(8/310)


لَوْ أَوْصَى بِهِ لِلثَّانِي مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْأَوَّلِ وَسَاعَدَهُ عَلَى هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ زَيْدًا بِبَيْعِ سِلْعَةٍ سَمَّاهَا، ثُمَّ قَالَ قَدْ وَكَّلْتُ عَمْرًا بِمَا وَكَّلْتُ به زيدا أنهما يكونا معا وكيلين في بيعهما ولا يكون لوكيل الثَّانِي رُجُوعا عَنِ الْأَوَّلِ مَعَ ذِكْرِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ بِذِكْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلثَّانِي زَالَ احْتِمَالُ النِّسْيَانِ بِالذِّكْرِ، وَزَالَ احْتِمَالُ التَّشْرِيكِ بِقَوْلِهِ فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِلثَّانِي فَصَارَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي الرُّجُوعِ.
فَأَمَّا الْوَكَالَةُ: فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ضيق عَلَيْهِ الْفَرْقَ فَجَعَلَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي تَوْكِيلِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ نيابة فصح أن يوكل كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ فِي كُلِّ الْبَيْعِ، وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ كُلَّ الْوَصِيَّةِ. فَكَانَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تقرر أن يَكُون رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، فَسَأَلَ الْأَوَّلُ إِحْلَافَ الثَّانِي أَنَّ الْمُوصِيَ أَرَادَ بِهِ الرُّجُوعَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَمِينٌ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذَا إِلَى لَفْظِ الْمُوصِي فِيمَا احْتَمَلَهُ مِنَ الْمَعْنَى دُونَ إِرَادَتِهِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ وَهَبَهُ كَانَ هَذَا رُجُوعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ مَتَى شَاءَ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ قَدْ يَكُونُ بِقَوْلٍ، أَوْ دلالة أو فِعْلٍ.
فَأَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَرِيحًا: رَجَعْتُ فِي وَصِيَّتِي أَوْ قَدْ أَبْطَلْتُهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا مِنْهُ وَتَبْطُلُ بِهِ وَصِيَّتُهُ.
وَأَمَّا دلالة الفعل فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ ثَلَاثَ مسائل:
أحدها: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ.
وَالثَّانِيةُ: أَنْ يُدَبِّرَهُ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَهَبَهُ.
فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَلَّاهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَإِنْ بَاعَهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ هَذَا رُجُوعًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَصِحُّ إذا انتقلت عن مِلْكِ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِهِ وَالْبَيْعُ قَدْ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهَا فَلَمْ يَصِحَّ بَقَاءُ الْوَصِيَّةِ بِهِ.
فَلَوِ اشْتَرَاهُ بَعْدَ بَيْعِهِ: لَمْ تَعُدِ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِبُطْلَانِهَا بِالْبَيْعِ. وَخَالَفَ الْمُفْلِسُ إِذَا اشْتَرَى مَا بَاعَهُ فِي رُجُوعِ الْبَائِعِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَالِابْنُ إِذَا اشْتَرَى مَا بَاعَهُ فِي هِبَةِ أَبِيهِ فِي رُجُوعِ الْأَبِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.

(8/311)


وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ رُجُوعَ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَرُجُوعَ الْبَائِعِ عَلَى الْمُفْلِسِ بِعَيْنِ مَالِهِ، حَقٌّ لَهُمَا، لَيْسَ لِلِابْنِ وَلَا لِلْمُفْلِسِ إِبْطَالُ ذلك عليهما، فكذلك لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُمَا وَعَوْدُهُ إِلَى مِلْكِهِمَا مَانِعًا مِنَ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّ لِلْمُوصِي إِبْطَالهَا فَإِذَا بَطَلَتْ بِالْبَيْعِ لَمْ تَعُدْ بِالشِّرَاءِ.
وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمُوصِيَ عَرَضَ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ تَعْرِيضَهُ لِلْبَيْعِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِهِ لِلرُّجُوعِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ.
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ بِيعُوهُ بَعْدَ مَوْتِي، وَلَمْ يَذْكُرْ بِكمْ يُبَاعُ وَلَا عَلَى مَنْ يُبَاعُ فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ بَاطِلَةٌ، وَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا بَاعُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا تَمَسَّكُوا بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَنْ تصح وله الْوَصِيَّةُ فِيهِ لَكِنْ يُسْتَفَادُ بِذَلِكَ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ وأن تكون مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ بِثَمَنٍ ذَكَرَهُ يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مُحَابَاةً، فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ جَائِزَةٌ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشافعي أن يَكُون رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: إِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْوَصِيَّتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو.
قَالَ: وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمُحَابَاةِ فِي الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاة بِنِصْفِ ثَمَنِهِ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ أَوْصَى بِجَمِيعِهِ لِزَيْدٍ، ثم أوصى بنصفه لعمرو، فيكون بنيهما أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ وَلَا يَذْكُرُ قَدْرَ ثَمَنِهِ الَّذِي يُبَاعُ عَلَيْهِ بِهِ، فَهُوَ بِذَلِكَ مُبْطِلٌ لِوَصِيَّتِهِ الأولى، وفي صحة وصية بيعه عَلَى زَيْدٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ثَمَنٍ تَكُونُ الْمُحَابَاةُ فِيهِ وَصِيَّةً، وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْوَرَثَةِ فِي بَيْعِهِ وَإِمْسَاكِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ قَصْدَ تَمليكِهِ إِيَّاهُ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ إِنِ اشتراه.
وأما المسألة الثانية: فهو تَدْبِيرُ مَا أَوْصَى بِهِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، كَانَ تَدْبِيرُهُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ فَإِنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالتَّمْلِيكِ، كَانَ التَّدْبِيرُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَالتَّمْلِيكِ سَوَاءٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ نِصْفُهُ وَصِيَّةً وَنِصْفُهُ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بالثان بَعْدَ أَوَّلٍ، كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.

(8/312)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّهُ يَكُونُ جَمِيعُهُ مُدَبَّرًا وَرُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ، لأن عتق التدبير ناجز بالموت، فيقدم عَلَى الْوَصَايَا، كَالنَّاجِزِ مِنَ الْعَطَايَا.
وَإِنْ قُدِّمَ تَدْبِيرُهُ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ، كَانَ عَلَى تَدْبِيرِهِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَالْوَصَايَا، نُظِرَ: فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي دَبَّرْتُهُ قَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِزَيْدٍ: كَانَ رُجُوعًا فِي تَدْبِيرِهِ، وَمُوصى بِجَمِيعِهِ. وَإِنْ لَمْ يكفل ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَكُونُ نِصْفُهُ بَاقِيًا عَلَى تدبير ونصفه موصا بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أن تدبيره، أقوى من الوصية وَيَكُونُ عَلَى التَّدْبِيرِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ: فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ الأولى، وموصا بِعِتْقِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يكون رجوعا عن الوصية بصفة، وموصا بِعِتْقِ نِصْفِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَلَوْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِعِتْقِهِ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لزيد ففيه وجهان:
أحدهما: يكون موصا بعتقه، والوصية به بَعْدَ ذَلِكَ بَاطِلَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نِصْفَهُ يكون موصا بعتقه، ونصفه موصا بِمِلْكِهِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَهَبَ مَا أَوْصَى بِهِ، فَهَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ أَقْبَضَهُ فِي الْهِبَةِ: كَانَ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، لِإِخْرَاجِهِ بِالْقَبْضِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ ففي كونه رجوعا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ فِيهِ عقدا يقضي إلى زوال الملك مُخَالِفًا لِمَا قَصَدَهُ مِنْ قَبْلُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي رُجُوعِهِ.
وَلَوْ وَهَبَهُ هِبَةً فَاسِدَةً: فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أحدها: يكون رجوعا قبض أَوْ لَمْ يُقْبِضْ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا قبض أَوْ لَمْ يُقْبِضْ، لِبَقَائِهِ عَلَى مَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ أقْبضَ كَانَ رُجُوعًا، وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ تَصَرُّفًا بَيَانِيًّا.
وَهَكَذَا لَوْ رَهَنَهُ كَانَ فِي كَوْنِ الرَّهْنِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةُ أوجه:

(8/313)


أحدها: يكون الرجوع أقْبض أَوْ لَمْ يُقْبِضْ.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا أقْبضَ أَوْ لَمْ يقْبِضْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إن أقبض كان رجوعا، وإن لم يقبض لم يكن رجوعا.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَجَّرَهُ أَوْ عَلَّمَهُ أَوْ زَوَّجَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أُجِّرَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ لَمْ تَكُنِ الْإِجَارَةُ رُجُوعًا فِي وَصِيَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِهِ، وَلَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ وَاسْتِخْدَاما بِغَيْرِ بدل، فكذلك إِذَا اسْتَوْفَاهَا إِجَارَةً بِبَدَلٍ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَنَافِعِهِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ كَانَتْ لَازِمَةً إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا. وَإِذَا قَبِلَهُ الْمُوصَى لَهُ لَزِمَهُ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْقِضَائِهَا، وَالْأُجْرَةُ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ مَلَكَهَا بعقد، ثُمَّ تَمَلَّكَ مَنَافِعَهُ بَعْدَ الرَّقَبَةِ مِنْ بَعْدِ انقضاء مدة الإجارة، فكذلك قَدْ رَجَعَ فِي الْإِجَارَةِ فِي بَعْضِ مَنَافِعِهِ.
فأما إذا أوصى له بسكنى داره، ثم أجرها: ولم يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَاهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنِ انْقَضَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ السُّكْنَى، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْكُنُ مُدَّةَ وَصِيَّتِهِ كُلَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الإجارة، ولا يكون بقي شَيْء مِنَ الْمُدَّةِ مُؤَثِّرًا فِي الرُّجُوعِ فِي الوصية لاستيفاء مُدَّةِ الْوَصِيَّةِ مُمْكِنٌ.
فَإِذَا كَانَ الْبَاقِي مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَهْرًا وَالْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى سَنَة فَإِذَا أمضى شهر الإجارة بعد موت الوصي سَكَنَهَا الْمُوصَى لَهُ سَنَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْطُلُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ كَان الْوَصِيَّة بِالسُّكْنَى سَنَةً وَالْبَاقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَهْرٌ، فَيَبْطُلُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالسَّنَةِ شَهْرٌ وَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا سَنَةً بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى كُلِّهَا.

فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ فَعَلَّمَهُ عِلْمًا، أَوْ صِنَاعَةً، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَصَالِحِهِ فَصَارَ كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا لَوْ خَتَنَهُ أَوْ حَجَمَهُ أَوْ دَاوَاهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا. وَهَكَذَا لَوْ زَوَّجَهُ: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَمَهْرُهَا فِي كَسْبِهِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا، وَالْمهْرُ لِلْمُوصِي فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا، وَكَأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مُدَّةَ مَقَامِ الزَّوْجِ مَعَهَا كَالْإِجَارَةِ فَلَوْ وَطِئَهَا الموصي لم يكن وطئه رُجُوعًا كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَهَا إِلَّا أَنْ يُحَبِّلَهَا فَتَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ عَزَلَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا كَانَ رُجُوعًا، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِيلَاءِ:
" وَلَوْ حَلَفَ لا يتسرى فوطء جَارِيَةً لَهُ فَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا فَهُوَ غَيْرُ مُتَسَرٍ، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا فَهُوَ مُتَسَرٍّ، وَقَدْ حَنِثَ ".

(8/314)


قال: فلما جعل المتسري طَلَبَ الْوَلَدِ لَا الِاسْتِمْتَاعَ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ طَلَبُ الْوَلَدِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ دُونَ الِاسْتِمْتَاعِ.

فَصْلٌ:
وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَرْضًا فَزَرَعَهَا: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّ الزَّرْعَ لا يتبقى.
ولو بنى فيها، أو غرسها: ففيها وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِي جَمِيعِهَا: كَانَ رُجُوعًا فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا: كَانَ رُجُوعًا فِيمَا غَرَسَهُ وَبَنَاهُ، دُونَ مَا لَمْ يَغْرِسْهُ وَلَمْ يَبْنِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مِنْ بَيَاضِ الْأَرْضِ بِحَالِهَا.
فَأَمَّا أَسَاسُ الْبِنَاءِ، وَقَرَارُ الْغَرْسِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يكون رجوعا، وإذا تَلِفَ الْغَرْسُ، وَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ: عَادَ إِلَى الْمُوصَى له.
والثاني: يكون رجوعا، لأنه قد صار تباعا لها عليه ومستهلكا به.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ قَمْحًا فَخَلَطَهُ بِقَمْحٍ أَوْ طَحَنَهُ دَقِيقًا فَصَيَّرَهُ عَجِينًا كَانَ أَيْضًا رجوعا ".
قال الماوردي: وهذه ثلاث مسائل:
أحدها: إذا أوصى له بحنطة فَخَلَطَهَا بِحِنْطَةٍ أُخْرَى كَانَ هَذَا رُجُوعًا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ بِحِنْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَبِخَلْطِهَا قَدْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَى عَيْنِهَا، سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا فِي الْجَوْدَةِ أَوْ بِأَجْوَدَ أَوْ بِأَرْدَأَ. وَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ أَوْ لَا يَشُقُّ، فَإِنْ خَلَطَهَا بِمَا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ منها كحنطة أخلط بها شعيرا، أو أرزا أو عدسا: فهذا رجوع لأنه خلط بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ.
وَإِنْ خَلَطَهَا بِمَا لَا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ كَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا كَمَا لَوْ أَحْرَزَهَا وَلَوْ نَقَلَ الْحِنْطَةَ عَنِ الْبَلَدِ إِلَى غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى بَلَدِ الْمُوصَى لَهُ، فَهَذَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا لأنه يدل على الحرص وتمامها.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى بَلَدٍ هُوَ أَبْعَدُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ مِنْ خَوْفٍ طَرَأَ، أَوْ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ففي كونه رجوعا وجهان:
أحدهما: يكون رجوعا اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ فِعْلِهِ.

(8/315)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا اعْتِبَارًا بِبَقَائِهَا عَلَى صِفَتِهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
فالمسألة الثانية: أن لو أوصى لَهُ بِحِنْطَةٍ فَيطحَنهَا: فَيَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا لِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهَا بِالطَّحْنِ.
وَالثَّانِيةُ: الْقَصْدُ إِلَى اسْتِهْلَاكِهَا بِالْأَكْلِ.
وَهَكَذَا: لَوْ قَلَاهَا سَوِيقًا فَإِنْ طَحَنَهَا كَانَ رُجُوعًا لِعِلَّتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَطْحَنْهَا بَعْدَ الْقَلْيِ كَانَ رُجُوعًا لِإِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وهو قصد استهلاكها.
وَهَكَذَا لَوْ بَذَرَهَا: كَانَ رُجُوعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ عملها نشا أو بلها بالماء كَانَ رُجُوعًا.
فَصْلٌ:
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُوصِيَ لَهُ بِدَقِيقٍ فَيُصَيِّرُهُ عَجِينًا فَهَذَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِهْلَاكَ وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَجِينٍ فَخَبَزَهُ خُبْزًا، كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ دُونَ الِاسْتِهْلَاكِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخُبْزٍ فَدَقَّهُ فتوتا ففي كونه رجوعا وجهان:
أحدهما: أن يَكُون رُجُوعًا لِزَوَالِهِ عَنْ صِفَتِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِبَقَاءِ اسْمِ الْخُبْزِ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ دقه إبقاء له. ولكن لو جعل سريدا كان رجوعا.
فصل:
ولو أوصى بِقُطْنٍ فَغَزَلَهُ: كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ عَنْهُ. وَلَوْ حَشَاهُ فِي مِخَدّة أَوْ مضربة فَفِي كونه رجوعا وجهان:
أحدهما: هو قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا كَمَا لَوْ غَزَلَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّهُ مَا أَزَالَ عَنْهُ الِاسْمَ، وَلَا قَصَدَ بِهِ الِاسْتِهْلَاكَ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِغَزْلٍ فَنَسَجَهُ ثَوْبًا كَانَ رُجُوعًا، لِزَوَالِ اسْمِ الْغَزَلِ عَنْهُ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ فَقَطَعَهُ قميصا كان رجوعا لانتقال الِاسْم وَقَصد الِاسْتِعْمَال، وَلَوْ غَسَلَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، وَلَوْ صَبَغَهُ كَانَ رُجُوعًا، وَلَوْ قَصَّرَهُ فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ رُجُوعًا كَالْغَسْلِ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ رُجُوعًا كَالصَّبْغِ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ فَذَبَحَهَا: كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الاسم وقصد الِاسْتِهْلَاكِ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَكُونُ رُجُوعًا.
وَلَوْ أَوْصَى " لَهُ " بِلَحْمٍ فَقَدَّدَهُ لَمْ يَكُنْ رجوعا لأنه بالتقديد يستبقى ولو طحنه: كان رجوعا لأنه صار مستهلكا. وإذا شوي كَانَ أَبْقَى لَهُ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِنُقْرَةِ فِضَّةٍ، فَطَبَعَهَا دَرَاهِمَ، أَوْ صَاغَهَا حُلِيًّا: كَانَ رُجُوعًا، لِانْتِقَالِ الِاسْمِ.
وَهَكَذَا: لَوْ أَوْصَى لَهُ بِحُلِيٍّ، أَوْ دَرَاهِمَ فَسَبَكَهَا نُقْرَةً، كَانَ رُجُوعًا.

(8/316)


ولو أوصى له بتمر فكذه: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ يُسْتَبْقَى بِهِ.
وَلَوْ جَعَلَهُ دِبْسًا: كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ.
وَهَكَذَا: لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعِنَبٍ، فَجَعَلَهُ عَصِيرًا، أَوْ زيتون فجعله زيتا، أن بِسِمْسِمٍ فَجَعَلَهُ شَيْرَجًا، كَانَ رُجُوعًا.
وَلَوْ أَوْصَى بِرُطَبٍ فَجَفَّفَهُ تَمْرًا أَوْ بِعِنَبٍ فَجَفَّفَهُ زَبِيبًا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُدَّخَرُ وَهُوَ على صفته، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِجَدْيٍ، فَصَارَ تيسا، أو ببصل فصار خلا.

فصل:
وإذا أوصى له دار فَهَدَمَهَا: كَانَ رُجُوعًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يكون هدم الدار رجوعا، وهذا خطأ. لأنه لما كان طحن الحنطة رُجُوعًا، كَانَ هَدْمُ الدَّارِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا. وَلَوْ جَعَلَ الدَّارَ حَمَّامًا: كَانَ رُجُوعًا بوفاق مع أبي حنيفة، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي هَدْمِهَا. وَلَكِنْ لَوْ عَمَّرَهَا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، وَلَوْ جعل عليها سباطا، لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَهَلْ يَكُونُ وضع السباط عليه من حيطانها على وجهين كما قلنا فِي قَرَارِ الْغَرْسِ وَأَسَاسِ الْبِنَاءِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى له بمكيلة حنطة مما في بيته ثم خلطها بمثلها لم يكن رجوعا وكانت له المكيلة بحالها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ أَوْصَى بصبرة مميزة وأنه مَتَى خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا كَانَ رُجُوعًا.
فَأَمَّا مَسْأَلَتُنَا هذه مصورة في رجل أوصى لزيد بقفيز من صبرة حنطة في بيته، ثُمَّ خَلَطَهَا، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخْلِطَهَا بِمِثْلِهَا، فَهَذَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُوصَى بِهِ كَانَ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ، وَخَالَفَ الْحِنْطَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ الَّتِي يَصِيرُ خَلْطُهَا رُجُوعًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَجْوَدَ مِنْهَا: فَهَذَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ فِيهَا بِالْخَلْطِ زِيَادَةً لَا يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ فَصَارَ كَالذَّهَبِ إِذَا صَاغَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَرْدَأَ مِنْهَا: فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قول عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ نَقْصٌ أَحْدَثَهُ فِيهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَذَ بَعْضَهَا: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِيمَا بَقِيَ عَنْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تَتَغَيَّرُ بِالْأَرْدَأ، كَمَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَجْوَدِ وَجُمْلَةُ مَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي أَنْ يَقْصِدَ إِلَى اسْتِهْلَاكِهَا، أَوْ يُحْدِثَ فِيهَا بِفِعْلِهِ زِيَادَةً لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهَا.

(8/317)


فصل:
ولو حجر الْمُوصِي الْوَصِيَّةَ كَانَ رُجُوعًا.
وَحُكِيَ عَنْ محمد بن الحسن أن الحجور لا يكون رجوعا، وهذا فاسد لأن الحجور أغلظ من الرجوع. ولو قال هذا على حَرَامٌ كَانَ رُجُوعًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَرَامًا. وَقَالَ محمد بن الحسن لَا يكون ذلك رجوعا.
ولو قال هي لورثتي كَانَ رُجُوعًا. وَلَوْ قَالَ هِيَ مِنْ تَرِكَتِي ففي كونه رجوعا وجهان:
أحدهما: يكون رجوعا لِأَنَّ التَّرِكَةَ لِلْوَرَثَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لأن الوصايا من حملة التَّرِكَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/318)


بَابُ الْمَرَضِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْعَطِيَّةُ وَلَا تجوز والمخوف غير المرض
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ مَرَضٍ كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْتَ مَخُوفٌ عَلَيْهِ فَعَطِيَّتُهُ إِنْ مَاتَ فِي حُكْمِ الْوَصَايَا وَإِلَّا فَهُوَ كَالصَّحِيحِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَصَايَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالثَّانِي: عَطَايَاهُ الْمُنْجَزَةُ فِي حَيَاتِهِ.
فَأَمَّا الْوَصَايَا: فَهِيَ مِنَ الثُّلُثِ، سَوَاءٌ أَوَصَى بِهَا فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ. فَإِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِجَمِيعِهَا أُمْضِيَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ فِيهَا اعْتِرَاضٌ، وَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا: رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى الثُّلُثِ إِنْ لَمْ يُجِزْهُ الورثة ويحاص أهل الوصايا الورثة بِالثُّلُثِ. وَسَوَاءٌ مَنْ تَقَدَّمَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْ تَأَخَّرَتْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِتْقٌ، فَيَكُونُ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْوَصَايَا قَوْلَانِ.
وَأَمَّا الْعَطَايَا الْمُنْجَزَةُ فِي الْحَيَاةِ: فَكَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْمُحَابَاةِ وَالْعِتْقِ، وَالْوَقْفِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ فِي الصِّحَّةِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِي الْمَرَضِ.
فَأَمَّا عَطَايَا الصِّحَّةِ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ، سَوَاءٌ قَرُبَ عَهْدُهَا بِالْمَوْتِ أَوْ بَعُدَ.
وَأَمَّا عَطَايَا الْمَرَضِ فَالْمَرَضُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يَكُونُ غَيْرَ مَخُوفٍ: كَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَرَمَدِ الْعَيْنِ، وَنُفُورِ الطِّحَالِ، وَحُمَّى يَوْمٍ، فَالْعَطَايَا فِيهِ: مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لأن الإنسان مطبوع على أحوال متغايرة ولا يَبْقَى مَعَهَا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَخْلُو في تغييره واستحالته فإن أعطى في هذه الحالة كانت عطيته من رأس ماله، مثاله كَالصَّحِيحِ، وَإِنْ مَاتَ عُقَيْبَ عَطِيَّتِهِ، لِأَنَّ حُدُوثَ الموت بغيره فهذا هو قِسْمٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: حَالُ الْمُعَايَنَةِ، وَحشرجَةُ النَّفْسِ، وَبُلُوغُ الرُّوحِ التَّرَاقِيَ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمُ قَلَمٍ، وَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوْتَى وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ، وَكَذَلِكَ مَنْ شُقَّ بَطُنُهُ وَأُخْرِجَتْ حَشْوَتُهُ لا يحكم بقوله ووصيته في هذه الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ أَوْ يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ الباقي منه كحركة المذبوح بعد الذبح.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْمَرَضُ الْمَخُوفُ الَّذِي الْحَيَاةُ فِيهِ بَاقِيَةٌ وَالْإِيَاسُ مِنْ صَاحِبِهِ وَاقِعٌ كَالطَّوَاعِينِ، وَالْجِرَاحِ النَّافِذَةِ، فَعَطَايَاهُ كُلُّهَا مِنْ ثُلُثِهِ، سَوَاءٌ كَانَ هِبَةً أَوْ مُحَابَاةً أَوْ عِتْقًا.
وَقَالَ دَاوُدُ بن علي: العتق كله مِنَ الثُّلُثِ، لِلْخَبَرِ فِيهِ وَمَا سِوَاهُ مِنْ رأس المال.

(8/319)


وَقَالَ طَاوُسٌ: الْعِتْقُ وَغَيْرُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ فِي مَلَاذِّهِ وَشَهَوَاتِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. كَانَ ما يتقرب بِهِ مِنْ عِتْقِهِ وَهِبَاتِهِ وَمُحَابَاتِهِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . يَعْنِي بِهِ خَوْفَ القتل وأسباب التلف وسماه بِاسْمِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَاتِّصَالِ حُكْمِهِ بِحُكْمِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] .
يَعْنِي بِحُضُورِ الْمَوْتِ ظُهُورَ دَلَائِلِهِ وَوُجُودَ أَسْبَابِهِ.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ".
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِنَفَقَاتِ مَلَذَّاتِهِ، وَشَهَوَاتِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَرِيضُ مِنْ مَصَالِحِهِ، هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَمَا عَادَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ هِبْتِهِ وَمُحَابَاتِهِ، فَوَرَثَتُهُ أَحَقُّ بِهِ. فلذلك أمضت نَفَقَاتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصَالِحِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَجُعِلَتْ هِبَاتُهُ مِنْ ثُلُثِهِ لِتَعَلُّقِهَا بمصلحة غير ثُمَّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ. فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مَا جعلت لَهُ الشَّرِيعَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن الْمَخُوفِ مِنْهُ إِذَا كَانَتْ حُمَّى بَدَأَتْ بِصَاحِبِهَا ثُمَّ إِذَا تَطَاوَلَتْ فَهُوَ مَخُوفٌ إِلَّا الرِّبْعَ فإنها إذا استمرت بصاحبها ربعا فغير مخوفة وإن كَانَ مَعَهَا وَجَعٌ كَانَ مَخُوفًا وَذَلِكَ مِثْلُ الْبِرْسَامِ أَوِ الرّعَافِ الدَّائِمِ أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ أو الخاصرة أو القولنج ونحوه فهو مَخُوفٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَطَايَا الْمَرَضِ الْمَخُوفِ مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصَايَا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عليها فالمرض المخوف، هو الذي لا تتطاوله بِصَاحِبِهِ مَعَهُ الْحَيَاةُ.
وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: الْمَخُوفُ هو من الْمُضْنِي، الْمُضْعِفِ عَنِ الْحَرَكَةِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الإنسان صاحب فراش، وإن تطاول به أجله، وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدِنَا لِأَنَّ مَا تَطَاوَلَ بِالْإِنْسَانِ فهو مُهْلَته، وَبَقِيَّة أَجَلِهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ طَارِئٌ عَلَى كُلِّ حَيٍّ وَإِنْ صَحَّ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ فيما تعجل به الموت وجاء.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] . وَالْحَاضِرُ مَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ لَا مَا بَعُدَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ".

فَصْلٌ:
فَإِذَا تقرر أن المخوف ما جاء وَعجّلَ، فَالْأَمْرَاضُ كُلُّهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

(8/320)


أَحَدُهَا: مَا كَانَ غَيْرَ مَخُوفٍ فِي الِابْتِدَاءِ والانتهاء كوجع الضرب ورمد العين، وجرب اليد، فعطاياه من رأس ماله، فَإِنْ مَاتَ فَبِحُدُوثِ غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَخُوفًا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ كَالْبِرْسَامِ، وَذَاتِ الْجَنْبِ، وَالْخَاصِرَةِ، فَعَطَايَاهُ فِيهِ مِنْ ثُلُثِهِ فَإِنْ صح فيه أو قتل أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ، بَانَ أَنَّهُ كَانَ غير مخوف فيكون عَطَايَاهُ فِيهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: ما كان في ابتدائه غير مَخُوفٍ، وَفِي انْتِهَائِهِ مَخُوفًا، كَالْحُمَّى، وَالسُّلِّ، فَعَطِيَّتُهُ فِي ابْتِدَائِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي انْتِهَائِهِ مِنْ ثُلُثِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ فِي ابْتِدَائِهِ مَخُوفًا وَفِي انْتِهَائِهِ غَيْرَ مَخُوفٍ كَالْفَالِجِ يَكُونُ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْبَلْغَمِ عَلَيْهِ مخوفا فإذا انْتَهَى بِصَاحِبِهِ حَتَّى صَارَ فَالِجًا فَهُوَ غَيْرُ مخوف، لأنه قد يدوم بصاحبه شهرا والله أعلم.

فصل:
وإذا تَقَرَّرَ مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ أُصُولِ الْأَمْرَاضِ فَسَنَذْكُرُ مِنْ تَفْصِيلِهَا مَا يَكُونُ مِثَالًا لِنَظَائِرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ الْحُمَّى، فَهِيَ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ غَيْرُ مَخُوفٍ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ من تعب الإغماء وَظُهُورِ الْحُمَّى وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] . إِنَّهَا الْحُمَّى.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " الفيح الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". فَإِنِ استمرت بصاحبها فهي مخوفة، لأنها تدفن الْقُوَّةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْحَيَاةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: الحمى دابر الموت، وهي هجرة الله تعالى في أرضه، يحبس عبده بها إذا شاء فيرسله إذا شاء ". وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ " وَقَدْ قيل إنه يضرب بها عروق البدن كلها وهي ثلثمائة وستون عرقا فجعل كل عرق لكل يوم من أيام السنة التي يَحْدُثُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي أَيَّامِ الِاسْتِرَاحَةِ يَكُونُ خَلَفًا مِمَّا ذَهَبَ بِهَا فِي يَوْمِ النَّوْبَةِ فصارت القوة محفوظة فزال الخوف.
فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِمَا لَا يَكُونُ مَخُوفًا من حمى يوم أو يومين ببرسام أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ أَوْ وَجَعِ الْخَاصِرَةِ، أَوِ الْقُولَنْجِ، فَقَدْ صَارَ مَخُوفًا.
فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْأَمْرَاضُ بِانْفِرَادِهَا مَخُوفَةٌ فَكَيْفَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ مَعَ حمى يوم أو يومين مخوفة، فلأصحابنا عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ هَذِهِ الأمراض ما كان منها لَا يَكُونُ بِانْفِرَادِهِ مَخُوفًا. فَإِذَا اقْتَرَنَ بِحُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ صَارَ مَخُوفًا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أن من حمى حُمَّى يَوْمٍ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وَلَا يَكُونُ مَخُوفًا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ تَحْدُثَ بِهِ هَذِهِ الْأَمْرَاضُ التي يصير حُدُوثُهَا بِالصَّحِيحِ مَخُوفًا.
وَهَكَذَا حُمَّى الرِّبْعِ إِذَا اقترن بها هذه الأمراض صارت مَخُوفَةً فَأَمَّا الرُّعَافُ فَإِنْ قَلَّ وَلَمْ

(8/321)


يَسْتَمِرَّ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ من غلبة الدم زيادته فبطلت من منافذ الجسد ما يخرج منه وَإِنْ كَثُرَ وَاسْتَمَرَّ فَهُوَ مَخُوفٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْزِفُ دَمَهُ، وَالدَّمُ هُوَ قِوَامُ الرُّوحِ وَمَادَّةُ الحياة.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإن سهل بطنه يوما أو اثنين وتأتى منهُ الدَّمُ عِنْدَ الْخَلَاءِ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا فَإِنِ اسْتَمَرَّ بِهِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ حَتَى يعجلَهُ أو يمنعه النوم أو يكون البطن متحرقا فهو مخوف فإن لم يكن متحرقا وَمَعَهُ زَحِيرٌ أَوْ تَقْطِيعٌ فَهُوَ مَخُوفٌ ".
قَالَ الماوردي: أما سهل البطن، يوم أو يومين، إذا لم يكن البطن متحرقا وَلَا وَجَدَ مَعَهُ وَجَعًا، لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَضْلَةٍ فِي غِذَاءٍ أَوْ خَلْطٍ فِي بَدَنٍ، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ، قَدْ يَقْصِدُ إِسْهَالَ بَطْنِهِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ وَالْمَطْبُوخِ، لِإِخْرَاجِ الْخَلْطِ الْفَاسِدِ، فَمَا أَجَابَ بِهِ الطَّبْعُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى الصِّحَّةِ.
فَأَمَّا إِنِ اسْتَدَامَ بِهِ الْإِسْهَالُ صَارَ مَخُوفًا لِأَنَّهُ تَضْعُفُ مَعَهُ الْقُوَّةُ وَلَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْغِذَاءُ.
وَلَوْ لَمْ يَتَطَاوَلْ وَكَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَكِنْ كان البطن متخرقا بعجلة فَلَا يَقْدِرُ عَلَى حَبْسِهِ كَانَ مَخُوفًا، وَهَكَذَا لو لم يكن متخرقا لكن كان معه زخير وَتَقْطِيعُ دَمٍ، أَوْ أَلَمٌ يَمْنَعْهُ مِنَ النَّوْمِ فَهُوَ مَخُوفٌ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ دَمٌ فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ في مختصره هذا: " ويأتي معه الدَّمُ عِنْدَ الْخَلَاءِ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا ".
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَا يَأْتِي فِيهِ دَمٌ لا شيء غير ما يخرج الْخَلَاء لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بعضهم ينسب إلى المزني الْخَطَأ فِي نَقْلِهِ وَجَعَلَ خُرُوجَ الدَّمِ مَعَ الْإِسْهَالِ مَخُوفًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْأُمِّ وَحَكَى الدَّارَكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّ النَّقْلَ صَحِيِحٌ، وَأَنَّ الْجَوَابَ مُخْتَلِفٌ على اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخُوفًا إِذَا كَانَ خُرُوجُ الدَّمِ من بواسير أَوْ بَوَاصِير، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ من أن يكون مخوفا إذا كان خروج الدم من المخوف. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا أَشْكَلَ سُئِلَ عَنْهُ أَهْلُ الْبَصَرِ. "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَاضَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ جَلِيًّا يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى سُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَضَرْبٌ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ خفيا يختص به أهل العلم به فيسألوا أو يرجع إِلَى قَوْلِهِمْ فِيهِ.
كَمَا أَنَّ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ ضربان: ضرب جَلِيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَوُجُوبِهِ، فَلَا يحتاج فِيهِ إِلَى سُؤَالِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا فِيمَا يَتَفَرَّعُ مِنْ أَحْكَامِهِ.
وَضَرْبٌ يَكُونُ خَفِيًّا فَيَلْزَمُهُمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ عَنْهُ إِذَا ابْتُلُوا بِهِ.
ثُمَّ إِذَا لزم سؤال أهل الطب فِيمَا أَشْكَلَ مِنَ الْأَمْرَاضِ، لَمْ يَقْتَنِعْ فِيهِ بِأَقَلَّ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنْ

(8/322)


طِبِّ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ. فَإِنْ قَالُوا غَالَبَهُ التلف جعلت العطايا مِنَ الثُّلُثِ لِكَوْنِهِ مَخُوفًا. وَإِنْ قَالُوا غَالَبَهُ السَّلَامَةُ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ. وَهَكَذَا لَوْ قَالُوا غَالَبَهُ الْمَوْتُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ. وَالْعَطَايَا فِيهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
فَلَوْ مَاتَ فَقَالَ مَنْ شَهِدَ بِسَلَامَتِهِ مِنَ الطِّبِّ أخطأنا قد كنا ظنناه أَنَّهُ غَيْرُ مُوحٍ فَبَانَ مُوحِيًا: قبل قَوْلهمْ لأن ما رجعوا إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَمَارَةٌ دَالَّةٌ وَهُوَ الموت، فلو اختلفوا في المرض فحكم بعض بأنه مَخُوفٌ مُوحٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرُ مَخُوفٍ: رجعَ إِلَى قَوْلِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي العلم، وأشكل عَلَى الْأَعْلَمِ: رُجِعَ إِلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ عَدَدًا. فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْعَدَدِ رُجِعَ إِلَى قول من حكم بالمخوف لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ غَامِضِ الْمَرَضِ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ.
فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُعْطَى وَالْوَارِثُ فِي الْمَرَضِ عِنْدَ اعْوِزَازِ الْبَيِّنَةِ، فَادَّعَى الْوَارِثُ أَنَّهُ كَانَ مَخُوفًا، وَقَالَ الْمُعْطَى غَيْرُ مَخُوفٍ: فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُعْطَى مَعَ يَمِينِهِ دُونَ الْوارثِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَقَدُّمِ السَّلَامَةِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ حُدُوثِ الْخَوْفِ.
والثاني: أنه مالك لما أعطى فلا ينزعه بعضه بالدعوى.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن ساوره الدم حتى تغير عَقْلُهُ أَوِ الْمُرَارِ أَوِ الْبَلْغَم كَانَ مَخُوفًا فإن استمر به فالج فَالْأَغْلَبُ إِذَا تَطَاوَلَ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخُوفٍ ".
قال الماوردي: أما مساورة الدم يعني بِهِ مُلَازَمَةَ الدَّمِ وَغَلَبَتَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(ساورتني صيلة مِنَ الرَّقْشِ ... فِي أَنْيَابِهَا السُّمّ نَاقِعُ)

وَمُسَاوَرَةُ الدَّمِ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ الطِّبُّ: الْحُمْرَةَ وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ الدَّمُ بِزِيَادَتِهِ فَلَا يَسْكُنُ بِالْفَصْدِ، وربما حدث منه الخناق والذبحة فيوصي صَاحِبُهُ فَهُوَ مَخُوفٌ.
وَأَمَّا الْمِرَارُ إِذَا غَلَبَ عليه فَهُوَ مَخُوفٌ، فَإِنِ انْقَلَبَ الْمِرَارُ إِلَى السَّوْدَاءِ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ، لِأَنَّ السَّوْدَاءَ قَدْ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا تَغَيُّرُ الْعَقْلِ، وَإِمَّا ظُهُورُ حَكَّةٍ وَبُثُور، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ غَيْرُ مَخُوفٍ.
وَأَمَّا الْبَلْغَمُ إِذَا غَلَبَ فَمَخُوفٌ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ فَصَارَ فَالِجًا فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ، لأن المفلوج قد تسترخي بعض أعضائه فيعيش دهرا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالسُّلُّ غَيْرُ مَخُوفٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ السُّلَّ قَدْ يَطُولُ بِصَاحِبِهِ فَيَعِيشُ الْمَسْلُولُ دهرا لا سيما إذا كَانَ شَيْخًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَخُوفَ مَا كَانَ مُوحِيًا، فَإِنِ اسْتَدَامَ بِصَاحِبِهِ حَتَّى اسْتَسْقَى وسقط فهو مخوف. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والطاعون مخوف حتى يذهب ".

(8/323)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا حدث في الإنسان وخاف لَمْ يَتَطَاوَلْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إنَّهُ وَخْزٌ مِنْ وَخْزِ الشَّيْطَانِ فَإِنْ ظَهَرَ الطَّاعُونُ فِي بَلَدٍ حَتَّى لَا يَتَدَارَكَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بعضا، وكفى الله حسن الكفاية فما لم يقع الإنسان فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ وَإِنْ وَقَعَ بِهِ صَارَ مَخُوفًا.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ أَنْفَذَتْهُ الْجِرَاحُ فَمَخُوفٌ فَإِنْ لَمْ تَصِلْ إِلَى مَقْتَلٍ وَلَمْ تَكُنْ فِي مَوْضِعِ لَحْمٍ وَلَمْ يَغْلِبْهُ لَهَا وَجَعٌ وَلَا ضَربَانِ وَلَمْ يأتكل ويرم فَغَيَرُ مَخُوفٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْجِرَاحُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أن تصل إلى جوفه في صَدْرٍ أَوْ ظَهْرٍ أَوْ خَصْرٍ أَوْ إِلَى الدماغ فَهَذَا مَخُوفٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَخَلَ مِنْهَا إِلَى الْجَوْفِ رِيحٌ تَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، أَوْ تَمَاسَّ الْكَبِدَ فَيُقْتَلُ، أَوْ رُبَّمَا خَرَجَ بِهَا مِنَ الْجَوْفِ مَا يَقْتُلُ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُ عُمَرَ رضي الله عنه جُرِحَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لا تَصِلَ إِلَى الْجَوْفِ وَلَا إِلَى الدِّمَاغِ فَيُنْظَرُ.
فَإِنْ وَرِمَتْ، أو اتكلت أَوِ اقْتَرَنَ بِهَا وَجَعٌ، أَوْ ضَرَبَانٌ فَمَخُوفٌ لِأَنَّ أَلَمَ وَجَعِهَا إِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ قتل وورمها، وأكلتها تسري إِلَى مَا يَلِيهَا، فَتَقْتُلُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَهِيَ غَيْرُ مَخُوفَةٍ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ مِنْهَا أَغْلَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا التحمت الحرب فمخوف فإن كَانَ فِي أَيْدِي مُشْرِكِينَ يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى فَمَخُوفٌ (وقال) في الإملاء إذا قدم من عليه قصاص غَيْر مَخُوفٍ مَا لَمْ يَجْرَحُوا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُتْرَكُوا فَيَحْيَوْا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَمِنْ كُلِّ مَرَضٍ مَخُوفٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذكر الشافعي هاهنا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: فِيمَنِ الْتَحَمَ فِي الْحَرْبِ فَهَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ تَكَافَأَ الْفَرِيقَانِ فَمَخُوفٌ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كان أحدهما أكثر عددا مِنَ الْآخَرِ فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ عَلَى الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَخُوفٌ عَلَى الْأَقَلِّينَ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْتِحَامَ القتال مخوفا.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا حُمِلَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى على عادة قد عرفت لهم في استيفائهم لِمَنٍّ رقّ أَوْ فِدَى فَغَيْرُ مَخُوفٍ، وَإِنْ عُرِفُوا بِقَتْلِ الْأَسْرَى قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مَخُوفٌ، فجعل الأسر خوفا كالتحام القتال.
والمسألة الثانية: من قدم للقصاص وَجَبَ عَلَيْهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ مَا لَمْ يُجْرَحْ، فَلَمْ يَجْعَلِ التَّقْدِيمَ لِلْقِصَاصِ مخوفا بخلاف التحام القتال والأسير.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حَامِدٍ

(8/324)


المروزي، وطائفة كبيرة يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، وَيُخرجونَهَا على قولين:
أحدهما: أن يكون مخوفا، الحال فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . فَجَعَلَ خَوْفَ الْقَتْلِ كَخَوْفِ الْمَرَضِ فِي رُؤْيَةِ الْمَوْتِ فِيهِمَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا وَلِأَنَّ نَفْسَ الْمَرِيضِ أسكن من هؤلاء لما يرجو مِنْ صَلَاحِ الدَّوَاءِ فَكَانَ ذَلِكَ بِالْخَوْفِ أَحَقَّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخُوفَ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ خَوْفَ الْمَرَضِ حَالٌّ فِي جِسْمِهِ، وَمُمَاسٌّ لِجَسَدِهِ، فَصَارَ حُكْمُهُ فيه مستقرا وليست حاله في هذه المسائل الثلاث كذلك لأنه يخاف من قرب أجله بحلول ما يحدث في جسده ويناله في يده وَذَلِكَ غَيْرُ حَال وَلَا مُسْتَقِرٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْخِ الْهَرم الَّذِي هُوَ لِعُلُوِّ السِّنِّ منتظر الموت فِي يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ وَعَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ الْأَسْرُ، وَالْتِحَامُ الْقِتَالِ خَوْفًا، وَلَا يَكُونُ التَّقْدِيمُ لِلْقِصَاصِ خَوْفًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّ الْمُشْرِكِينَ يَرَوْنَ قَتْلَ الْأَسْرَى دِينًا وَنِحْلَةً فَالْعَفْوُ منهم غير موجود وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِيُّ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْعَفْوِ هُوَ الْأَغْلَبُ من أحوالهم والأشبه بأحوالهم فَكَانَ ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ كُلُّهَا عَلَى سَوَاءٍ فِي اعْتِبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَتَشْهَدُ بِهِ الصُّورَةُ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ: فَإِنْ كَانَ وَلِيُّ القصاص قاسيا جنفا فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَمُنُّ وَلَا يَعْفُو فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ مخوفة كالأسير إذا كان في يد من لَا يَعْفُو عَنْ أَسِيرٍ.
وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ القصاص رحيما ومن الخنق والقوة بَعِيدًا فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْعَفْوُ، وَأَنْ يَمن عَنْ قُدْرَةٍ، فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ غَيْرَ مخوفة، كالأسير إذا كان في يد من يَعْفُو عَنِ الْأَسْرَى.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وصفنا فالأمور المخوفة ضربان:
أحدهما: ما دخل في الحسن وَمَاسَّ الْبَدَنَ كَالْأَمْرَاضِ فَهِيَ مَخُوفَةٌ إِذَا كَانَ عليها التَّوْحِيَةُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا فَارَقَ الْجِسْمَ وَاخْتَصَّ بحاله كالأسير والملتحم في القتال. فإن تردت حَالُهُ بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ فَغَيْرُ مَخُوفٍ، وَإِنْ كان الخوف أغلب عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَمِنْ ذَلِكَ أن يقترضه الْأَسَدَ فَلَا يَجِدُ مَحِيصًا، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَمْ تَكُنْ حَالُهُمْ مَخُوفَةً لِأَنَّ الْأَسَدَ لَا يَفْتَرِسُ فِي الْحَالِ إِلَّا أَحَدَهُمْ، فَلَمْ يَكُنِ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ التَّلَفَ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْهَالِكَ.

(8/325)


وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَإِنْ بَاشَرَهُ الْأَسَدُ بِالْأَخْذِ فَحَالُهُ مَخُوفَةٌ. فَأَمَّا قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ غَشِيَهُ سيل، أو غشيته نار، فإن وجد منهما نَجَاةً فَحَالُهُ غَيْرُ مَخُوفَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ منها نجاة فإن أدركه السيل ولحقته النار، فحاله مخوفة لأجل المحاسة.
وفيما قبل إدراك السيل ولفح النَّار قَوْلَانِ: وَكَذَلِكَ مَنْ طَوَّقَتْهُ أَفْعَى فَإِنْ نَهَشَتْهُ فَمَخُوفَةٌ وَقَبْلَ نَهْشَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، إِلَّا أن تكون مِنْ حَيَّاتِ الْمَاءِ الَّتِي قَدْ يَقْتُلُ سُمُّهَا وقيل لا يَقْتُلُ فَلَا تَكُونُ مَخُوفَةً قَوْلًا وَاحِدًا.
وَمِنْ ذلك: أن يقيه في مغارة لا يجد فيهما طَعَامًا وَلَا شَرَابًا فَإِنْ جُوِّزَ أَنْ يَجِدَ الماء إِلَى أَقْصَى مُدَّةٍ يَتَمَاسَكُ فيهَا رَمَقُهُ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ مَا يَمْسِكُ رَمَقَهُ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ مَيْتَةٍ إِمَّا بِالْوُصُولِ إِلَى عِمَارَةٍ أو بالحصول على جارة، أو بأن يدركه فَحَالُهُ غَيْرُ مَخُوفَةٍ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَإِنْ يَئِسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاشْتَدَّ جُوعُهُ وَعَطَشُهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ.
وَكَذَلِكَ رَاكِبُ الْبَحْرِ فَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ سَاكِنَةً وَالْأَمْوَاجُ هَادِئَةً فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ وَهَكَذَا لَوِ اشْتَدَّتْ بِهِمْ رِيحٌ مَعْهُودَةٌ وَأَمْوَاجٌ مَأْلُوفَةٌ فَغَيْرُ مَخُوفَةٍ، وَإِنْ عَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيحُ وَتَلَاطَمَتْ بِهِمُ الْأَمْوَاجُ حَتَّى خَرَجُوا عَنْ مَعْهُودِ السلامة فإن كسر بهم المركب حَتَّى صَارُوا عَلَى الْمَاءِ فَمَخُوفٌ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ منه سرعة الهلكة فأما قبل حمولهم عَلَى الْمَاءِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ فِي الزِّنَا أَوِ الْقَتْلُ فِي الْحِرَابَةِ فَإِنْ كَانَ بِإِقْرَارِهِ فَحَالُهُ غير مَخُوفَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُرْجَمْ وَلَمْ يَتَحَتَّمْ قَتْلُ الْحِرَابَةِ عَلَيْهِ وَصَارَ إِلَى خيارِ وَلِيِّ الدَّمِ وَإِنْ كَانَ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ لَهُ فَمَخُوفٌ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى سلامته وإن كان بنية عَادِلَة قَامَتْ عَلَيْهِ قَدْ يَجُوزُ فِي النَّادِرِ رُجُوعُهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَمَامُ الشَّهَادَةِ ووجوب القتل.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا ضَرَبَ الْحَامِلَ الطَّلْقُ فَهُوَ مَخُوفٌ لِأَنَّهُ كَالتَّلَفِ وأشد وجعا، والله تعالى أعلم ".
قال الماوردي: حكي عن مالك: أن الحامل إذا أثقلت بمعنى سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَمْلِهَا فَهُوَ مَخُوفٌ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] .
وعندنا أنه ما لم يضر بها الطَّلْقُ فَغَيْرُ مَخُوفٍ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهَا السَّلَامَةُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالُهَا عِنْدَ ثَقْلِهَا مَخُوفَةً لِأَنَّهَا قَدْ تَؤولُ إِلَى الْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْخَوْفِ مِنْ أَوَّلِ الْحَمْلِ.

(8/326)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] .
فَأَمَّا إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ عِنْدَ حُضُورِ الْوِلَادَةِ فَحَالُهَا مَخُوفَةٌ سَوَاءٌ كَانَتَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا.
وقال بعض أصحابنا: إننا نخاف مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْأَبْكَارِ وَالْأَحْدَاثِ، فَأَمَّا مَنْ تَوَالَتْ وِلَادَتُهَا مِنْ كِبَارِ النِّسَاءِ فَغَيْرُ مَخُوفٍ لسهولة ذلك عليهم لاعتيادهن وَأَنَّ الْأَغْلَبَ سَلَامَتُهُنَّ.
فَأَمَّا بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَمَا لَمْ تَنْفَصِلِ الْمَشِيمَةُ وَيَسْكُنْ أَلَمُ الْوِلَادَةِ فمخوف فإذا أثقلت الْمَشِيمَةُ وَسَكَنَ أَلَمُ الْوِلَادَةِ فَغَيْرُ مَخُوفٌ.
فَأَمَّا إِلْقَاءُ السَّقْطِ فَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَخُوفٌ، وَإِنْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أشهر وقبل حركته فغير مخوف، وإذا كَانَ بَعْدَ حَرَكَتِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الأظهر أنه مخوف.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مَخُوفٍ إِلْحَاقًا بِمَا قَبْلَ الْحَرَكَةِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إِلْحَاقَ الْمُتَحَرِّكِ بِمَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(8/327)


باب الأوصياء
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَّا إِلَى بَالِغٍ مُسْلِمٍ حُرٍّ عَدْلٍ أَوِ امْرَأَةٍ كَذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي قَبُولِ الْوَصَايَا، وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهَا، قَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] .
وقَوْله تعالى: {وافعلوا الخير} [الحج: 77] .
وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمَّتِي كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضًا " وَقَدْ أَوْصَى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَمَأْمُورًا بِهِ، فَيُخْتَارُ لمن علم في نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ، وَالْأَمَانَةَ أَنْ يَقْبَلَهَا وَلِمَنْ عَلِمَ في نَفْسِهِ الْعَجْزَ وَالْخِيَانَةَ أَنْ يَرُدَّهَا.
ثُمَّ الْكَلَامُ فيها يشتمل على ثلاثة فصول:
أحدهما: فِي الْوَصِيِّ.
وَالثَّانِي: فِي الْمُوصِي.
وَالثَّالِثُ: فِي الْمُوصَى بِهِ.
فَأَمَّا الْوَصِيُّ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ اسْتِكْمَالُ خمسة شروط ولا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ أَوْ بِتَفْرِيقِ مَالٍ. وَهِيَ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعَدَالَةُ.
وَهِيَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ.
فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْبُلُوغُ فَلِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْ غَيْرِ الْبَالِغِ مَرْفُوعٌ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَرْدُودٌ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَرْدُودًا.
فَلَوْ جعلَ الصَّبِيّ وَصِيًّا بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهَا في الحال قابل لها.

(8/328)


وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مَنْ يَقْبَلُهَا، بَلْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى هَذَا الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بَاطِلَةٌ فِي الْحَالِ وَبَعْدَ بُلُوغِهِ، لِأَنَّهُ ليس في الحال بأهل لو مات الصبي قام بها، فلذلك بطلت.
فإن كَانَ لَهَا فِي الْحَالِ مَنْ يَقْبَلُهَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى فُلَانٍ حَتَّى يَبْلُغَ وَلَدِي، فَإِذَا بَلَغَ فَهُوَ وَصِيٌّ: جَازَ، وَلَا يَجُوزُ مِثْل ذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ مُعَجَّلٌ، فَلَمْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ شَرْطٍ مُؤَجَّلٍ، وَعَقْدُ الْوَصِيَّةِ مُؤَجَّلٌ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ شَرْطٍ مُؤَجَّلٍ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ الْعَقْلُ. فَلِأَنَّ الْجُنُونَ يَرْفَعُ الْقَلَمَ، وَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيَفِيقُ فِي زَمَانٍ: فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ قَلَّ زَمَانُ جُنُونِهِ أَوْ كَثُرَ.
فَلَوْ أَوْصَى إِلَى عَاقِلٍ حَتَّى إِذَا أَفَاقَ هَذَا الْمَجْنُونُ كَانَ وَصِيًّا لَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ. لِأَنَّ بُلُوغَ الصَّبِيِّ لَازِمٌ، وَإِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ مُجَوَّزَةٌ.
فَلَوْ أَوْصَى إِلَى عَاقِلٍ، وَطَرَأَ عَلَيْهِ جُنُونٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن يستديم به، فالوصية إليه باطلة.
والثاني: أَنْ يَفِيقَ مِنْهُ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَطْرَأَ الْجُنُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ قَدْ بَطَلَتْ، كَالْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِحُدُوثِ الْجُنُونِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْجُنُونِ وَالْإِفَاقَةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ كَمَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَبْطُلُ. لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التصرف في حياة الموصي فلم يجز أن يكون مَمْنُوعًا بِحُدُوثِ الْجُنُونِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْحُرِيَّةُ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُوَلَّى عَلَيْهِ بِالرِّقِّ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا. وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ لِحَقِّ السَّيِّدِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَبْدَ نَفْسِهِ، أَوْ عَبْدَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ الوصية إلى عبد نفسه وعبد غيره.

(8/329)


وَقَالَ أبو حنيفة: تَجُوزُ إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ إذا كَانَ وَلَدُهُ أَصَاغِرَ، وَلَا تَجُوزُ إِلَى عَبْدِ غَيْرِهِ، وَلَا إِذَا كَانَ وَلَدُهُ أَكَابِرَ. تَعلِيلًا بِأَنَّ عَبْدَهُ مَعَ أَصَاغِرِ وَلَدِهِ مُحْتَبسُ الرَّقَبَةِ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ، فَصَحَّ نَظَرُهُ عَلَيْهِمْ، وَدَامَتْ وِلَايَتُهُ إِلَى بُلُوغِهِمْ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ احْتِبَاسَ رَقَبَتِهِ عَلَيْهِمْ وَالْمَنْعَ مِنْ بَيْعِهِ فِي حَقِّهِمْ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُمْ لو احتاجوا إلى نفقه لا يجدونها إلى مِنْ ثَمَنِهِ جَازَ لِلْحَاكِمِ بَيْعُهُ فِي نَفَقَاتِهِمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ احْتِبَاسَ الرَّقَبَةِ لَا يُجِيزُ مِنَ التَّصَرُّفِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، كَالْمَجْنُونِ وَلِمَا ذكرناه مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ: فَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَجَوَّزَهَا أبو حنيفة.
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إِلَى الْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ: فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ:
أحدهما: تصح، لأنهما يعتقان بالموت الذي يكون تصرفها بعده.
والثاني: لا يصح اعتبارا بحالها عِنْدَ الْوَصِيَّةِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الإسلام لقوله تَعَالَى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10] . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا، وَدُّوا مَا عنتم} [آل عمران: 118] .
وهذه الآية كتب بها عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ اتَّخَذَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ: كَانَ تصرفه نافذا.
وهذا فاسد لأنه لا يخلو أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ جَائِزَة، فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْسَخَهَا عَلَيْهِ، أَوْ تَكُونُ بَاطِلَةً فَلَا يَجُوزُ فِيهَا تَصَرُّفُهُ.
وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقْدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ مَرْدُودًا فَأَمَّا مَا تَعَيَّنَ مِنْ دَيْنٍ قَضَاهُ، أَوْ وَصِيَّةٍ بِمُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ دَفَعَهَا فلا يضمنها، لوصول ذلك إلى مستحقه، ولأنه لَوْ أَخَذَهُ مُسْتَحِقُّهُ مِنْ غَيْرِ نَائِبٍ أَوْ وَسِيطٍ صَارَ إِلَى حَقِّهِ، وَلَيْسَ كَالَّذِي يَعْقِدُهُ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ يَجْتَهِدُ فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ ثُلُثٍ بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ لِمَا دَفَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ضَامِنٌ.
فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إِلَى الْمُسْلِمِ فَجَائِزَةٌ لِظُهُورِ أَمَانَتِهِ فِيهَا.
وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إِلَى الْكَافِرِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ تجوز كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَلِيًّا لِكَافِرٍ.
والوجه الثاني: لا تجوز، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ لِكَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ فَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَصِيًّا لِكَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ.

(8/330)


فصل:
وأما الشرط الخامس: وهو العدالة: فلقوله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] .
فَكَانَ مَنْعُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، موصيا لِمَنْعِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهُ الْفِسْق مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ، يَمْضِي فِيهَا تَصَرُّفُهُ قَبْلَ فَسْخِهَا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي الْكَافِرِ، وَفِيمَا مَضَى من الْكَافِرِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْفَاسِقِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ، كَمَا جَازَتِ الْوَكَالَةُ لَهُ؟ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْإِذْنِ، وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا:
لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِوَكِيلِهِ فِي التَّوْكِيلِ فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ فَاسِقًا. فَفِي جَوَازِ وَكَالَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْعَدَالَةُ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ عَدَالَةُ الْوَصِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرَاعَى عَدَالَتُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا عِنْدَ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ كَمَا تُرَاعَى عَدَالَةُ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دُونَ التَّحَمُّلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرَاعَى عَدَالَةُ الْوَصِيِّ فِي الطَّرَفَيْنِ، عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ غَيْرَ عَدْلٍ، لِأَنَّ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ هُوَ حَالُ التَّقْلِيدِ، وَوَقْتُ الْمَوْتِ هُوَ حَالُ التَّصَرُّفِ، فاعتبر فيهما العدالة، ولم تعتبر فِي غَيْرِهِمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ.
والوجه الثالث: وهو أصحها أنه تعتبر عَدَالَتُهُ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ إِلَى مَا بَعْدُ لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ مِنْهُ قَدْ يُسْتَحَقُّ فِيهِ التصرف لو حدث فيه الموت. فإن طَرَأَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فِسْقٌ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ فِي شَخْصٍ، كَانَ مَوْضِعًا لِلْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي مَالٍ أَوْ عَلَى أَطْفَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً.
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْمَرْأَةِ لا تصح، لأن فيها ولاية يعجز النِّسَاءُ عَنْهَا.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَةً، فَالْمُغَلَّبُ فِيهَا الْأَمَانَةُ وَجَوَازُ الشَّهَادَةِ وَقَدْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِهِنْدٍ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ".

(8/331)


فَجَعَلَهَا الْقَيِّمَةَ عَلَى أَوْلَادِهَا فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي فَأَوْدَعَ أَمْوَالا كَانَتْ عِنْدَهُ عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ اسْتِنَابَةِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَالِ وَعَلَى الْأَطْفَالِ، وَكَانَ لَهَا الْحَضَانَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَن لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ المرض عن فضل النَّظَرِ.
وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ إِلَى الْأَعْمَى عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْتَقَرُ فِي الْوَصَايَا إِلَى عُقُودٍ لَا تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى وَفَضْلِ نَظَرٍ لَا يدرك إلا بالمعاينة.
فهذا حكم الوصي.

فصل:
فأما الموصي. فَلَا يَخْلُو مَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالًا، أَوْ وِلَايَةً عَلَى أَطْفَالٍ.
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَالًا يُفَرَّقُ فِي أَهْلِ الْوَصَايَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُوصِي شَرْطَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَشَرْطَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا، فَأَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا: التَّمْيِيزُ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ.
وَالثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ.
وَأَمَّا الشَّرْطَانِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِمَا: فَأَحَدُهُمَا الْبُلُوغُ. وَالثَّانِي: الرُّشْدُ وَفِيهِمَا قَوْلَانِ:
أحدهما: أنهما شرطان، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ غَيْرِ بَالِغٍ وَلَا سَفِيهٍ.
وَالثَّانِي: لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَتَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْبَالِغِ وَالسَّفِيهِ، وَلَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ، اعْتُبِرُ فِي الْمُوصَى بِهَا سِتَّةُ شُرُوطٍ، لا تصح الوصية منه إلا بها.
أحدهما: جَرَيَانُ الْقَلَمِ عَلَيْهِ وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ لَهُ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَلَمٌ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، لَا تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ.
وَالثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تُنَافِي الرِّقَّ.
وَالثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ فِي الطِّفْلِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، وَفِي اعْتِبَارِهِ فِي الطِّفْلِ إِذَا كَانَ مُشْرِكًا وَجْهَانِ.
وَالرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ له ولاية، فكان أولى أن لا تَصِحَّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ.

(8/332)


وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَلِي عَلَى الطِّفْلِ في حياته بنفسه، لأنه يقيم الوصية مَقَامَ نَفْسِهِ فَلَمْ تَصِحَّ إِلَّا مِمَّنْ قَدِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ مِنْ غَيْرِ الْآبَاءِ، كَمَا تَصِحُّ مِنَ الْآبَاءِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ فِي الْوَالِدِ بَعْضِية باين بها غيره.
والقول الثاني: إنَّ لِلْوَالِدِ فِي حَيَاتِهِ وِلَايَةً لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ. فَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَصَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالْآبَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَإِذَا كَانَ هَكَذَا، فَالَّذِي يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَيُوصِي بِهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ هُوَ الْأَبُ وَآبَاؤُهُ. فَأَمَّا الْأُمُّ فَفِي وِلَايَتِهَا عَلَى صِغَارِ وَلَدِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُ لَهَا عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ كَالْأَبِ، لِمَا فِيهَا مِنَ البعضية، وأنها برأفة الأنوثة، أحن عَلَيْهِمْ وَأَشْفَقُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا وِلَايَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا لَمَّا قَصُرَتْ بِنَقْصِ الْأُنُوثَةِ عَنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ الَّتِي تَسْرِي فِي جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تقصرَ عَمَّا يَخْتَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ بِالْآبَاءِ دُونَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ.
فَعَلَى هَذَا: إِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا: لَمْ تَصِحَّ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالِهَا. وَإِذَا قِيلَ إِنَّ لَهَا الْوِلَايَةُ بِنَفْسِهَا، فَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُهَا وَأُمَّهَاتُ الْأَبِ. وَهَلْ يَسْتَحِقُّهَا أَبُو الْأُمِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهَا كَأُمِّ الْأُمِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأُمِّ مِنْ أُمِّهَا.
وَالثَّانِي: لَا وِلَايَةَ لَهُ، لِأَنَّ سُقُوطَ مِيرَاثِهِ قَدْ حَطَّهُ مِنْ مَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْدَ الْآبَاءِ لِلْأُمِّ. فَإِذَا اجْتَمَعَ بَعْدَ الأم، أم أب وأم أم ففي أحقيتهما بِالْوِلَايَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أُمُّ الْأَبِ، لِأَنَّ الْأَبَ بالولاية أحق.
والقول الثاني: أُمُّ الْأُمِّ، لِأَنَّهَا بِالْحَضَانَةِ أَحَقُّ.
فَإِذَا أَوْصَتْ مُسْتَحِقَّةُ الْوِلَايَةِ مِنَ الْأُمَّهَاتِ، بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: أَن لا يَكُونَ للطفل من يستحق الولاية بنفسه، لأنه مستحق الولاية بنفسه، أولى من مستحقها بِغَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى الْأَبُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ وَهُنَاكَ جَدٌّ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً.

(8/333)


وَقَالَ أبو حنيفة: لَا اعْتِبَارَ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالِهِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ وَهُنَاكَ جَدٌّ، كَمَا يَجُوزُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا.
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْوَصَايَا لَا يَسْتَحِقُّهَا الْجَدُّ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ، لِأَنَّ الْجَدَّ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ مِنَ الْوَصِيِّ.
فَلَوْ أَوْصَى الْأَبُ بِهَا وَهُنَاكَ أُمٌّ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى غَيْرِهَا. وَإِنْ قِيلَ لَهَا تَصِحّ. وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ إِلَى مَنْ شَاءَ مَعَ وُجُودِ الْآبَاءِ.
فَهَذَا حُكْمُ الْمُوصِي.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمُوصَى بِهِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَاسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهُ.
وَإِنْ كَانَ وِلَايَةً: فَلَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ، أَوْ مَجْنُونٍ لَا يَفِيقُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا عَاقِلًا: لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِالنَّظَرِ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ الْبَالِغِ إِذَا كَانَ غَائِبًا، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ حَاضِرًا وَشَرِيكُهُ فِي الْمِيرَاثِ طِفْلٌ. وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ عَلَى الْكَبِيرِ مَالَهُ إِذَا رَأَى بَيْعَ مَالِ الطِّفْلِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: هَذَا قَوْلٌ لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِهِ، نُقِضَ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ لِلْمُوصِي وِلَايَةٌ عَلَى الْبَالِغِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَيْفَ يجوز لوصية بعد وفاته.
وأما إذا كَانَ الِابْنُ بَالِغًا عَاقِلًا لَكِنْ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ على المجنون بنفسه، لأنها لا تقتصر إلى حكم حاكم، وولايته على صغير لَا تَكُونُ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حاكم. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ أُخْرِجَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ يَدِهِ وَضُمَّ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ ضَعِيفًا أَمِين مَعَهُ فإن أوصى إلى غير ثقة فقد أخطأ على غيره فلا يجوز ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تغير حَالُ الْوَصِيِّ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الشُّرُوطِ فِيهِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا خَرَجَ بِهِ مِنَ الْوَصِيَّةِ. وَالثَّانِي: مَا عَجَزَ بِهِ عَنْهَا.
فَأَمَّا الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْوَصِيَّةِ: فَالطَّارِئُ عَلَيْهِ مِنْ جُنُونٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ مَرَضٍ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ تَدْبِيرِهِ وَفَضْلِ نَظَرِهِ. فَهَذِهِ أُمُورٌ يُخْرَجُ به من الوصية.
وقال أبو حنيفة: طرؤ الْفِسْقِ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَمَا أَنَّ فِسْقَ مَنْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِ لَا يُوجِبُ نَقْضَ الْحُكْمِ بِهَا، وَلَكِنْ يُضَمُّ إِلَيْهِ بَعْدَ فِسْقِهِ عَدْلٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفِسْقُ مَانِعًا مِن ابْتِدَاءِ الْوَصِيَّةِ كَانَ مَانِعًا مِنْ

(8/334)


استدامتها، كالكفر، وإذا كان كذا صار طرؤ الْفِسْقِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ، فَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ معها إِخْرَاجُهَا عَنْ يَدِهِ، وَاخْتِيَارِ مَنْ يَقُومُ بِهَا، مِنْ أُمَنَائِهِ.
فَإِنْ تَصَرَّفَ الْوَصِيُّ فِي الْمَالِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ عَقْدًا، أَوْ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ، رُدَّ وَكَانَ لَهُ ضَامِنًا إِنْ مَاتَ.
وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ: أَمْضَى، وَلَمْ يَضْمَنْهُ.
وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنْهَا، فَالضَّعْفُ الَّذِي يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، فَهَذَا مُقَرٌّ عَلَى حَالِهِ، لَكِنْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مِنْ أمنائه، من يعينه على إنفاذ الوصايا، وَالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ.
فَلَوْ تَفَرَّدَ هَذَا الْوَصِيُّ قَبْلَ أَنْ يَضُمَّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا، فَتَصَرَّفَ فِي الْوَصِيَّةِ: أَمْضَى، وَلَمْ يضمنْهُ، لِأَنَّهُ مَا انفرد بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا: لَوِ ابتدئ بِالْوَصِيَّةِ إِلَى غَيْرِ أَمِينٍ: أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ.
وَلَوْ أَوْصَى إِلَى ضَعِيفٍ: ضَمَّ إِلَيْهِ غيره من أبنائه، فَإِنْ قِيلَ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنِ الْأَوْصِيَاءِ، وَوُلَاةِ الْأَيْتَامِ أَمْ لَا؟ .
قُلْنَا هَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فِيمَنْ يَلِي بِنَفْسِهِ مِنْ أَبٍ، أَوْ جَدٍّ، فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنْ حَالِهِ، وَعَلَيْهِ إِقْرَارُهُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَنَظَرِهِ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ، مَا يُوجِبُ زَوَالَ نَظَرِهِ، مِنْ فِسْقٍ أَوْ خِيَانَةٍ، فَيَعْزِلُهُ حِينَئِذٍ وَيُوَلِّي غَيْرَهُ لِأَنَّ الْوَالِيَ بِنَفْسِهِ أَقْوَى نَظَرًا مِنَ الْحَاكِمِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِغَيْرِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَمِينَ حَاكِمٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَصِيَّ أب.
فإن كان أمين الحاكم، لم يجب أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنْ حَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ عنده خيانته، أو فسقه، لأن ما وَلَّاهُ الْحَاكِمُ، قَدِ اعْتُبِرَ مِنْ حَالِهِ مَا صَحَّتِ بِهِ وِلَايَتُهُ.
وَإِنْ كَانَ وَصِيَّ أَبٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لا يجوز اسْتِكْشَافُ حَالِهِ، إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ فِسْقِهِ، كَالْأَبِ وَأَمِينِ الْحَاكِمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ اسْتِكْشَافَ حَالِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ بِوِلَايَتِهِ حُكْمٌ، وَلَا هُوَ مِمَّا تَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ، كَالْأَبِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، فَافْتَقَرَ إِلَى الْكَشْفِ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا دَفَعَ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِهِ للفقراء وصاياهم ليرجع به في التركة وكان مُتَطَوِّعًا بِمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ فِي التَّرِكَةِ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ الدَّفْعِ حَاكِمٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا عَجَّلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، نَاوِيًا بِهِ الرُّجُوعَ: رجع به.

(8/335)


وَهَذَا قَوْلٌ يَنْكَسِرُ عَلَيْهِ، بِقَضَاءِ دَيْنِ الْحَيِّ إِذَا عَجَّلَهُ الْوَكِيلُ مِنْ مَالِهِ، لَمْ يَرْجِعْ به في مال موكله، فكذلك الوصي.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَغَيَّرَ أُبْدِلَ مَكَانَهُ آخَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ إِلَى وَاحِدٍ، أو إلى جَمَاعَةٍ عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى زَيْدٍ وَيَجْعَلَ عَمْرًا عَلَيْهِ مُشْرِفًا، فَيَخْتَصُّ الْوَصِيُّ بِالْعَقْدِ وَالتَّنْفِيذِ، وَيَخْتَصُّ عَمْرٌو بِالْإِشْرَافِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ أَرَادَ الْوَصِيُّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ وَالتَّنْفِيذِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةِ الْمُشْرِفِ: لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُشْرِفُ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ وَالتَّنْفِيذَ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْمُشْرِفُ وَصِيٌّ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْوَصِيُّ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، فَلَمْ تَقِفْ عَلَى شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ.
وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نِيَابَةٌ عَنْ إِذْنٍ، فَكَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ كَالْوَكَالَةِ، وَهُوَ لَمْ يَجْعَلْ إِلَى الْمُشْرِفِ مُبَاشَرَةَ عَقْدٍ أَوْ تَنْفِيذَ أَمْرٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُشْرِفًا عَلَى الْوَصِيِّ فِي الْعَقْدِ وَالتَّنْفِيذِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ جَعَلَهُمَا جَمِيعًا وَصِيَّيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ وَصِيَّتِهِ، دُونَ صَاحِبِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا.
فَأَمَّا إِنْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهَا، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَ إِلَى أَحَدِهِمَا إِنْفَاذَ وَصَايَاهُ، وَإِلَى الْآخَرِ الْوِلَايَةَ عَلَى أَطْفَالِهِ، أَوْ يَجْعَلَ إِلَى أَحَدِهِمَا إِخْرَاجَ الثُّلُثِ، وَإِلَى الْآخَرِ قَضَاءَ الدُّيُونِ: فَوِلَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا جُعِلَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا جُعِلَ إِلَى الْآخَرِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِإِنْفَاذِ الْوَصَايَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ، لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: النَّظَرُ فِي الْوَصِيَّةِ، لَا يَتَمَيَّزُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّظَرُ فِي الْجَمِيعِ بِمَا جُعِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْآخَرِ. فَالْوَالِي عَلَى الْأَطْفَالِ إِلَيْهِ إِنْفَاذُ الْوَصَايَا وَالْوَالِي عَلَى إِنْفَاذِ الْوَصَايَا، إِلَيْهِ الولاية اسْتِدْلَالًا، بِأَنَّهَا وِلَايَةٌ فَلَمْ تَقِفْ عَلَى شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، كَوِلَايَةِ الْحَاكِمِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وِلَايَةٌ عَنْ عَقْدٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ كَالْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْكُلِّ لَمَا جاز أن ينفرد أحدهما بالنظر في الكل، فإذا خص أحدهما بالبعض، فأولى لا يَجُوزَ لَهُ النَّظَرُ فِي الْكُلِّ، وَلِأَنَّ مَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى بَعْضِ الْمَالِ، لَمْ يَمْلِكْ بِذَلِكَ ثُبُوتَ الْيَدِ عَلَى جَمِيعِهِ، كَالْمُودعِ وَالْمُضَارِبِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ صَاحِبِهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

(8/336)


أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَمُنْفَرِدَيْنَ، فَكُلُّ واحد منهما وصي كامل النظر، فأيهما انفرد بإنفاذ الوصايا، والنظر في أمور الْأَطْفَالِ جَازَ.
وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ كَانَ أَوْلَى. وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ فَسَقَ، فَالْبَاقِي مِنْهُمَا هُوَ الْوَصِيُّ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ بدل الميت أو الفاسق أحدا إلا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ ضَعْفٌ فَيُقَوِّيهِ بِغَيْرِهِ.

فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى أَن لا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا: بِالنَّظَرِ دُونَ صَاحِبِهِ، فَعَلَيْهِمَا الِاجْتِمَاعُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَالنَّظَرِ فِي أموال الأطفال.
فإن انفرد أحدهما بشيء منهما، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لِمَا أَمْضَاهُ مِنْ ذَلِكَ ضَامِنًا إِنْ تَعَلَّقَ بِعَقْدٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ إِنْفَاذِ وَصِيَّةٍ عُيِّنَتْ لِمُعَيَّنٍ: لَمْ يُضَمَّنْ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا مُنِعَ الْبَاقِي مِنْهُمَا مِنَ النَّظَرِ حَتَّى يُقِيمَ الْحَاكِمُ مَقَامَ الْمَيِّتِ غَيْرَهُ.
فَلَوْ أَذِنَ الْحَاكِمُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْوَصِيَّةِ: لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَرْضَ بِنَظَرِهِ وَحْدَهُ.
وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا رَدَّ الْحَاكِمُ الْوَصِيَّةَ إِلَى اثْنَيْنِ، فَإِنْ رَدَّهَا إِلَى وَاحِدٍ ارْتَضَاهُ لَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: لا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَظَرَ فِيهَا الْحَاكِمُ بِنَفْسِهِ، جَازَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَنَابَ فِيهَا وَاحِدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَرْضَ فِي وَصَايَاهُ إِلَّا بِنَظَرِ اثْنَيْنِ مُجْتَمِعَيْنِ اسْتِظْهَارًا لِنَفْسِهِ فِي وَصِيَّتِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَمْنَعَهُ فَضْلَ اسْتِظْهَارِهِ، وَلَيْسَ كَالْحَاكِمِ النَّاظِرِ بِنَفْسِهِ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا، فَلَا يَأْمُرُهُمَا بِالِاجْتِمَاعِ، وَلَا يَأْذَنُ لَهُمَا فِي الِانْفِرَادِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: عَلَيْهِمَا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْوَصِيَّةِ إِذَا أُطْلِقَتْ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّفَرُّدُ بِهَا، كما لو أمرهما بالاجتماع عليهما.
وَقَالَ أبو يوسف: يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أن ينفرد بها.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ انْفِرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَا يَخَافُ فَوَاتَهُ، أَوْ ضَرَرَهُ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: الْكَفَنُ، وَرَدُّ الْوَدَائِعِ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ، وَإِنْفَاذُ الْوَصَايَا الْمُعَيَّنَةِ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَكِسْوَتُهُمْ، وَعَلَيْهِمَا الِاجْتِمَاعُ فِيمَا سِوَى هَذِهِ السِّتَّةِ. فَإِنِ انْفَرَدَ بِهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ.
وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَصَايَا مَوْضُوعَةٌ لِفَضْلِ الِاحْتِيَاطِ، وَهِيَ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْوَكَالَاتِ، فَلَمَّا كَانَ تَوْكِيلُ اثْنَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بالوكالة، كانت الوصية إلى اثنين إلى الإطلاق أولى أن يمنع مِنْ تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بِالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ أبي حنيفة للستة من بيع الْجَمِيعِ خَوْفَ الضَّرَرِ، قَوْلٌ يَفْسُدُ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ طَعَامًا رَطْبًا يُخَافُ تَلَفُهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِهِ وَإِنْ خِيفَ ضَرَرُهُ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. فَعَلَى هَذَا: يَكُونُ حُكْمُ إِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِمَا، كَالْحُكْمِ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ فَسَقَ، أَبْدَلَ

(8/337)


الْحَاكِمُ مَكَانَهُ غَيْرَهُ، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْبَاقِي مِنْهُمَا بالنظر: ضمن متعلق بِعَقْدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن اختلفا قسم بينهما ما كان ينقسم وَجُعِلَ فِي أَيْدِيهِمَا نِصْفَيْنِ وَأُمِرَا بِالِاحْتِفَاظِ بِمَا لَا يَنْقَسِمُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إلى اثنين مقصودها، فضل النظر، فإذا دعى الْوَصِيَّانِ إِلَى قَسْمِ الْمَالِ بَيْنَهُمَا، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصِي قَدْ صَرَّحَ بِمَنْعِهِمَا مِنْهُ، مُنِعَا. وَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَّحَ لَهُمَا بِالْإِذْنِ فِيهِ، مُكِّنَا. وَإِنْ أَطْلَقَ نُظِرَ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنْ أَضَرَّتْ بِالْمَالِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا تَتَأَتَّى فِيهِ الْقِسْمَةُ، مُنِعَا مِنْهَا، وَلَمْ يَجُزْ إِذَا كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِحِفْظِ الْمَالِ دُونَ صَاحِبِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِنْفَاذِ الْوَصَايَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَقَعُ بَيْنَهُمَا الْمُهَايَاةُ، فَيَحْفَظُ هَذَا يَوْمًا، وَهَذَا يَوْمًا.
وَهَذَا فاسد، لأن المهايأة تقتضي انفراد أَحَدِهِمَا بِالْحِفْظِ فِي زَمَانِهِ وَلَوْ جَازَ هَذَا، لَجَازَ تَفَرُّدُهُ بِهِ فِي كُلِّ الزَّمَانِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يرْتَضي بِانْفِرَادِهِ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ، لَا يرْتَضي بِانْفِرَادِهِ فِي بَعْضِهِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقِسْمَةِ ضَرَرٌ، وَلَا كان بين الْمُوصِي فِيهَا نَهْيٌ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ، قَدْ جُعِلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلُ مَا إِلَى الْآخَرِ: جَازَ أَنْ يَقْتَسِمَا الْمَالَ إلا أنهما قِسْمَةُ حِفْظٍ، وَلَيْسَتْ قِسْمَةَ مُنَاقَلَةٍ، فَيَقْتَسِمَانِ عَلَى الْقِيَمِ، لَا عَلَى الْأَجْزَاءِ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمُنَاقَلَةِ تكون بين الورثة على الأجزاء، وقسمة الحفاظ تَخْتَصُّ بِالْأَوْصِيَاءِ، وَتَكُونُ عَلَى الْقِيمَةِ، فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا دَارًا، وَالْآخَرُ مَتَاعًا، ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بعد القسمة أن ينصرف فِيمَا بِيَدِهِ، وَفِيمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِي الْجَمِيعِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِمَا مُجْتَمِعين وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا التفرد بالنظر، ففي جواز اقتسام الْمَال حِفَاظًا لَهُ، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي، لَيْسَ لَهُمَا ذلك كَمَا لَيْسَ لَهُمَا التَّفَرُّدُ بِالْإِنْفَاذِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قول أبي سعيد الإصطرخي، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَهُمَا الْقِسْمَةُ، لأنه اقْتِسَامَهُمَا الْمَالَ أَعْوَنُ لَهُمَا عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِمَاعُ عَلَى التَّنْفِيذِ، فَإِذَا اقْتَسَمَا: لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ إِلَّا مَعَ اجْتِمَاعِ صَاحِبِهِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِوَصِيَّةٍ أَسْنَدَهَا إِلَى رَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَهَا بِوَصِيَّةٍ أُخْرَى، أَسْنَدَهَا إِلَى رَجُلٍ آخَرَ، فَإِنْ صَرَّحَ فِي الثَّانِيَةِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْأُولَى، فَالْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي الثَّانِيَةِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْأُولَى، عُمِلَ عَلَيْهِمَا مَعًا، فَمَا كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ الْأُولَى مِنْ زِيَادَة تَفَرَّد بِهَا الْوَصِيُّ الْأَوَّلُ، وَمَا كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ زِيَادَةٍ، تَفَرَّدَ بِهَا الوصي الثاني وما اتفقت فيه الوصيتان، اجتمعا عليه الوصيان، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا التَّفَرُّدُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى إِلَيْهِمَا مَعًا وَصِيَّةً مُطْلَقَةً.

(8/338)


وَلَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ صَحَّ بَعْدَهَا مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَعَاشَ دَهْرًا، ثُمَّ مات، أمضيت وصيته الْمُتَقَدِّمَةُ، مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: قَدْ أُوصيت إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا إِنْ مُتُّ مِنْ مَرَضِي هذا، فصح منه: بطلت وصيته، لأن جعلها مشروطة بموته من هذا الْمَرَضِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، مَا لَمْ يخرق الموصي كتاب وصيته.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ بِمَا أوصى بِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَرْضَ الْمُوصَى إِلَيْهِ الْآخَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ، وَالْوِلَايَة عَلَى الْأَطْفَالِ، ثُمَّ حَضَرَتِ الْوَصِيَّ الْوَفَاةُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة:
" إِنْ أَوْصَى بِهَا إِلَى غَيْرِهِ جَازَ، وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ كَانَ لِوَصِيِّهِ الْقِيَامُ بِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّ قَدْ ملك من النظر بالوصية مثل ما ملك الْجَدُّ مِنَ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا جَازَ لِلْجَدِّ أَنْ يُوصِيَ بِمَا إِلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ، جَازَ للوصي أن يوصي إليه بِمَا إِلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمُوصِي، كَمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ فِي حُقُوقِ الْأُمَّةِ، فَلَمَّا كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْدَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ: جَازَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْدَهُ مَنْ يقوم مقامه.
ودليلنا: شيئان:
أحدهما: أَنَّ مَنْ كَانَتْ نِيَابَتُهُ عَنْ عَقْدٍ بَطَلَ بِالْمَوْتِ كَالْوَكِيلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِنَابَتَهُ حَيًّا، أَقْوَى مِنَ اسْتِنَابَتِهِ مَيِّتًا، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إبدال نفسه بغيره في الحياة، فأولى أن لا يَصِحَّ مِنْهُ إِبْدَالُ نَفْسِهِ بِغَيْرِ الْوَفَاةِ.
فَأَمَّا الْجَدُّ: فَوِلَايَتُهُ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُوصِيَ، كَالْأَبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيُّ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصِيَ كَالْحَاكِمِ، عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْحَاكِمِ أَقْوَى لِعُمُومِهِ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ: فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْدَهُ إِمَامًا يَنْظُرُ فِيمَا كَانَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ في استخلاف عمر رضوان الله عليهما، لأنه عام الولاية، وليس لِغَيْرِهِ مَعَهُ مَا إِلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يُخْتَصَّ لِفَضْلِ نَظَرِهِ بِالِاسْتِخْلَافِ كَمَا لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ ولاية خلفائه من القضاة والولاة. وَمَنْ كَانَ خَاصَّ النَّظَرِ بَطَلَ بِمَوْتِهِ وِلَايَةُ خلفائه كالقضاة والولاة. عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ صِحَّةَ استخلاف الإمام بعد لِإِمَامٍ، مُعْتَبَرًا بِرِضَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِضَاهُمْ أن

(8/339)


يَعْلَمُوا بِهِ فَلَا يُنْكِرُوهُ، كَمَا عَلِمَتِ الصَّحَابَةُ بِاسْتِخْلَافِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجُعِلَ إِمْسَاكُهُمْ عن الإنكار، رضا به انْعَقَدَتْ بِهِ الْإِمَامَةُ لَهُ.
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ: لَوِ اسْتَخْلَفَ إِمَامًا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ: لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ إِمَامَتُهُ، إِلَّا أَنْ يُجْمَعَ عليه ويرض بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ مِمَّنْ يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: قَدِ انْعَقَدَتْ إِمَامَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ عِنْدَ الْعَهْدِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ الْمَوْتِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْوِلَايَاتُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
وِلَايَةُ حُكْمٍ، وَوِلَايَةُ عَقْدٍ، وَوِلَايَةُ نَسَبٍ.
فَأَمَّا وِلَايَةُ الْحُكْمِ فَضَرْبَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ. فَالْعَامَّةُ: الإمامة، ولا تبطل بموت من يقلدها، ولاية مستخلف ولا نظر مستناب.
وأما الخاصة: فالقضاء، ويبطل بموت من يقلده ولاية، لمستخلف ونظر كل مستناب.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْعَقْدِ: فَضَرْبَانِ: عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ نِيَابَةً عَنْ حَيٍّ، وَعَقْدٌ يَتَضَمَّنُ نِيَابَةً عَنْ مَيِّتٍ.
فالذي يَتَضَمَّنُ النِّيَابَةَ عَنِ الْحَيِّ هُوَ: الْوَكَالَةُ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوَكِّلُ؛ بَطَلَتْ وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ: لَمْ تَكُنْ لَهُ الْوَصِيَّةُ.
وَالَّذِي يَتَضَمَّنُ النِّيَابَةَ عَنِ الْمَيِّتِ هُوَ: الْوَصِيَّةُ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصِي، اسْتَقَرَّتْ وِلَايَةُ الْوَصِيِّ، وَإِنْ مَاتَ الْوَصِيُّ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّسَبِ: فَضَرْبَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.
فَالْعَامَّةُ: وِلَايَةُ الْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى صِغَارِ وَلَدِهِ، وَتَصِحُّ مِنْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ الْوَصِيَّةُ.
وَالْخَاصَّةُ: وِلَايَةُ الْعَصَبَاتِ فِي الْأَبْضَاعِ، وَلَا تَصِحُّ فِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ الْوَصِيَّةُ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ لَمْ يخل ما تولاه مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَعْجِيلِ إِنْفَاذِهِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ إِمْكَانَ تَنْفِيذِهَا مَعَ ضِيقِ وَقْتِهَا، وَالْمُقَامِ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا، يَمْنَعُ مِنْ تَأْخِيرِهَا.
وَالثَّانِي: أَن لا يمكن تعجيل إنفاذه، لما تتضمنها مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى يَتِيمٍ يَلْزَمُهُ حِفْظُ مَالِهِ، أَوْ قَضَاءُ دَيْنٍ لِغَائِبٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، كَالْعَقَارِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْمَوْتَ يَرْفَعُ يَدَهُ عَنِ النَّظَرِ، لَا عَنِ الْحِفْظِ.
وَالثَّانِي: أن يكون ممن لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ، كَالْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ، فَعَلَيْهِ حَقَّانِ: الحفظ، والنظر. فيلزمه عِنْدَ زَوَالِ نَظَرِهِ بِالْمَوْتِ أَنْ يَسْتَدِيمَ حِفْظُهُ، بِتَسْلِيمِهِ إِلَى مَنْ يَعُمَّ نَظَرُهُ، وَهُوَ الْحَاكِمُ، فإن لم يفعل مع المكنة كان ضامنا.

(8/340)


مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ فَإِنْ حَدَثَ بِوَصِيٍّ حَدَثٌ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى مَنْ أَوْصَى إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لأنه إنما أوصى بمال غَيْرِهِ، (وَقَالَ) فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ليلى إن ذلك جائز إذا قال قد أوصيت إليك بتركة فلان (قال المزني) رحمه الله وقوله هذا يوافق قول الكوفيين والمدنيين والذي قبله أشبه بقوله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ للموصي أن يوصي، إذا لم يجعل له الْمُوصِي أَنْ يُوصِيَ.
فَأَمَّا إِذَا جعَلَ إِلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يعين إليه من يوصي.
والثاني: أن لا يعين.
فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ مَنْ يُوصِي إِلَيْهِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ وَجَعَلْتُ لَكَ أن توصي إلى عمرو. وسواء قال: فإذا أوصيت فَهُوَ وَصِيٌّ، أَوْ لَمْ يَقُلْ، فَهَذَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَقَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي الِاخْتِيَارِ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ، فَإِنْ مُتَّ: فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو.
وَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنْ مُتَّ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو، فَإِنَّهُ يَصِيرُ عَمْرٌو بِمَوْتِ الْوَصِيِّ وَصِيًّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى وَصِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ الْوَصِيِّ.
وَلَوْ قَالَ: وَقَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكَ أَنْ تُوصِيَ إِلَى عَمْرٍو: لَمْ يَصِرْ عَمْرٌو وَصِيًّا إِلَّا بِوَصِيَّةِ الْوَصِيِّ، فَإِذَا أَوْصَى إِلَيْهِ صَارَ عَمْرٌو وَصِيًّا لِلْمَيِّتِ الْأَوَّلِ لَا لِلْوَصِيِّ.
فَلَوْ مَاتَ الْوَصِيُّ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ إِلَى عَمْرٍو: لَمْ تَثْبُتْ وَصِيَّةُ عَمْرٍو إِلَّا أَنْ يَرُدَّهَا الْحَاكِمُ إِلَيْهِ. فَلَوْ أَرَادَ الْحَاكِمُ رَدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى غَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قد قطع الاجتهاد في تعينه، كما لا يجوز للوصي أن يوصي إلى غَيْره.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ إِنَّمَا جُعِلَ إِلَى الْوَصِيِّ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ، بَطَلَ حُكْمُ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، فَصَارَ نَظَرُ الْحَاكِمِ فِيهَا، نَظَرَ حُكْمٍ، لَا نَظَرَ وَصِيٍّ، فَجَازَ أَنْ يختار من يراه للنظر أوفق.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُوصِي، قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى زَيْدٍ، فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو، فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى بَكْرٍ: جَازَ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، فَقَدْ جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيْشَ مُؤْتَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: " أَمِيرُكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ: فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ: فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ: فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا ".

(8/341)


فَأُصِيبَ زَيْدٌ فَقَامَ بِهِمْ جَعْفَرٌ، ثُمَّ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَقَامَ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، ثُمَّ أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ فَارْتَضَى الْمُسْلِمُونَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ.
فَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى زَيْدٍ سَنَةً، ثُمَّ بَعْدَ السَّنَةِ إِلَى عَمْرٍو: كَانَ هَذَا جَائِزًا، وَقِيلَ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا أَوْصَى.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا جَعَلَ إِلَى وَصِّيهِ أَنْ يُوصِيَ، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يُوصِي إِلَيْهِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ إِلَيْكَ أَنْ تُوصِيَ، أَوْ يَقُولَ: مَنْ أَوْصَيْتَ إِلَيْهِ فَهُوَ وَصِيٌّ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى سَوَاءٍ وَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، وَمَالِكٍ، يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَ الْوَصِيِّ، أَقْوَى مِنْ نَظَرِ الْوَكِيلِ، فَلَمَّا جَازَ لِلْوَكِيلِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْهُ مُعَيَّنًا، وَغَيْرَ مُعَيَّنٍ، كَانَ أَوْلَى فِي الْوَصِيِّ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الوصية أن يوصي عنه إلى معين، وغير مُعَيَّن.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّ بِالْإِذْنِ قَدْ صَارَ كالأب، فَلَمَّا جَازَ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ جَازَ لِلْوَصِيِّ مَعَ الْإِذْنِ أَنْ يُوصِيَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ أَنْ يُوصِيَ وَإِنْ أُذِنَ لَهُ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ الِاخْتِيَارَ بِالْوَصِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بِالْوَصِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِيَارَ الْحَاكِمِ، أَقْوَى مِنَ اخْتِيَارِ الموصي، لأن له الاختيار بإذن وغير إذن، فكذلك كَانَ اخْتِيَارُ الْحَاكِمِ أَوْلَى مِنَ اخْتِيَارِ الْوَصِيِّ، والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ فِي إِنْكَاحِ بَنَاتِ الْمَيِّتِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ عَلَى الْيَتِيمِ، كَوِلَايَةِ الْأَبِ عَلَيْهِ، إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ، وَيَبِيعَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أن يوصي.
والثالث: أن للأب أن يزوجهم، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ.
ثُمَّ الْوَصِيُّ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، كَالْأَبِ سَوَاءً. فَلَوْ جَعَلَ الْأَبُ إِلَى الْوَصِيِّ مَا كَانَ

(8/342)


مُخْتَصًّا بِهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، لِيَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ فِيهَا، نُظِرَ: فَإِنْ جَعَلَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ إِذْنٌ بِعَقْدٍ فِي مَالٍ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّفْصِيلِ.
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ، فَقَدْ أَجَازَهُ مَالِكٌ وَجَعَلَ الْوَصِيَّ أَحَقَّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا كَانَ أَحَقَّ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ.
وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ، وأبو حنيفة، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مُسْتَقْصَاةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(8/343)


بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَصْنَعَهُ فِي أموال اليتامى
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُخْرِجُ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ كُلَّ مَا لَزِمَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَجِنَايَتِهِ وَمَا لَا غناء به عَنْهُ مِنْ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ مَنْدُوبٌ إِلَى الْقِيَامِ بمصالحه، قال تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] .
وَالَّذِي يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: حِفْظُ أُصُولِ أَمْوَالِهِ.
والثاني: تمييز فُرُوعِهَا.
وَالثَّالِثُ: الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ.
وَالرَّابِعُ: إِخْرَاجُ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ مِنَ الْحُقُوقِ.
فَأَمَّا حِفْظُ الْأُصُولِ: فَيَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حِفْظُ الرِّقَابِ عَنْ أَنْ تَمْتَدَّ إِلَيْهَا يَدٌ، فَإِنْ فَرَّطَ، كَانَ لِمَا تَلِفَ مِنْهَا ضَامِنًا.
وَالثَّانِي: استيفاء الْعِمَارَةِ لِئَلَّا يُسْرِعَ إِلَيْهَا خَرَابٌ، فَإِنْ أَهْمَلَ عِمَارَتَهَا حَتَّى عَطِلَ ضِيَاعُهُ، وَتَهَدَّمَ عَقَارُهُ، نُظِرَ: فإن كان لإعوان مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ النَّفَقَةِ، فَقَدْ أَثِمَ وَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ وَيَصِيرُ بِهَذَا الْعُدْوَانِ كَالْغَاصِبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ خَرَابَهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ، فَيَضْمَنُ بِهِ، وَلَا يَدُهُ غَاصِبَةٌ فَيَجِبُ بِهَا عَلَيْهِ ضَمَانٌ.

فصل:
وأما تمييز فُرُوعِهِ، فَلِأَنَّ النَّمَاءَ مَالٌ مَقْصُودٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَوِّتَهُ عَلَى الْيَتِيمِ كَالْأُصُولِ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ نَمَاؤُهُ أَعْيَانًا مِنْ ذَاتِهِ، كَالثِّمَارِ، وَالنِّتَاجِ، فَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا عَادَ يحفظه وَزِيَادَته، كَتَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَعُلُوفَةِ الْمَاشِيَةِ.
فَإِنْ أَخَلَّ بِعُلُوفَةِ الْمَاشِيَةِ: ضَمِنَهَا وَجْهًا وَاحِدًا.
وَإِنْ أَخَلَّ بِتَلْقِيحِ الثَّمَرَةِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا.

(8/344)


لأنها إن لم تتميز، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ، مَا لَمْ يُخْلَقْ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ لِلْيَتِيمِ مِلْكٌ. وَإِنْ خُلِقَتْ نَاقِصَةً: فَالنُّقْصَانُ أَيْضًا مِمَّا لَمْ يُخْلَقْ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ نَمَاؤُهُ بِالْعَمَلِ.
وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: تِجَارَةٌ بِمَالٍ. وَالثَّانِي: اسْتِغْلَالُ الْعَقَارِ.
فَأَمَّا التِّجَارَةُ بِالْمَالِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا، أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ، يُؤْخَذُ الولي بها في التجارة:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَالُهُ نَاضًّا. فَإِنْ كَانَ عَقَارًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِلتِّجَارَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ آمِنًا، فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا، لَمْ يَجُزْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، لَمْ يَجُزْ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْمَتَاجِرُ مُرْبِحَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُخْسِرَةً: لَمْ يَجُزْ.
فإن استكمل هَذِهِ الشُّرُوطَ: كَانَ مَنْدُوبًا إِلَى التِّجَارَةِ لَهُ بِالْمَالِ، فَلَوْ لَمْ يَتَّجِرْ بِهَا: لَمْ يَضْمَنْ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ مِلْكٌ عَلَى رِبْحٍ مَعْلُومٍ فَيَصِحَّ ضَمَانُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ بِالْعَقْدِ وَالْمَالِ، تَبَعٌ، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا رِبْحَ الْغَاصِبِ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لَهُ، دُونَ المغصوب منه.
فإن اتجر الولي بِالْمَالِ مَعَ إِخْلَالِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ: كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ.
وَأَمَّا اسْتِغْلَالُ الْعَقَارِ:
فَإِنَّمَا يَكُونُ بِإِجَارَتِهِ، فَإِنْ تَرَكَهُ عَاطِلًا لَمْ يُؤَجِّرْهُ، فَقَدْ أَثِمَ، وَفِي ضَمَانِهِ لِأُجْرَةِ مِثْلِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِي تَعْطِيلِهِ، وَجْهَانِ، لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تُمْلَكُ كَالْأَعْيَانِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا النَّفَقَةُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ.
فَلِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ سَرَفًا، وَفِي التَّقْصِيرِ ضَرَرًا، فَلَزِمَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ قَصْدًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ، وَكَذَلِكَ يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ مِنْ وَالِدَيْنِ، وَمَمْلُوكِينَ، ثُمَّ يكسوه وإياهم في فصل الصَّيْفِ، وَالشِّتَاءِ، كِسْوَةَ مِثْلِهِمْ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُعْتَبَرُ بِكِسْوَةِ أَبِيهِ، فيكسوه مثلها.
وهذا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ أَبَاهُ قَدْ رُبَّمَا كَانَ مُسْرِفًا، أَوْ مُقَصِّرًا، فَكَانَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي الْكِسْوَةِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ عَادَةً وَعُرْفًا، أَوْلَى من اعتباره عَادَة أَبِيهِ.
وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ عَادَةُ أَبِيهِ فِي صفة الملبوس إن كان تاجرا، كسى كسوة التجار، وإن كان جنديا، كسى كِسْوَةَ الْأَجْنَادِ، وَلَا يَعْدِلُ بِهِ عَنْ عَادَةِ أَبِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيَلِيَ أَمْرَ نَفْسِهِ فَيُغَيِّرُهَا إِنْ شَاءَ.
فَإِنْ أَسْرَفَ الْوَلِيُّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ: ضَمِنَ زِيَادَةَ السَّرَفِ وَإِنْ قَصَّرَ بِهِ عَنِ الْعَقْدِ: أَسَاءَ وَلَمْ يَضْمَنْ.

(8/345)


فَإِنِ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْوَلِيُّ بَعْدَ بُلُوغِهِ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُدَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ عَشْرَ سِنِينَ فِي كل سنة مائة دينار، فقال: أَنْفَقْتَ عَلَيَّ عَشْرَ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسِينَ دِينَارًا.
فَالْقَوْلُ فِيهِ، قَوْلُ الْوَلِيِّ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ سَرَفًا، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ وَصِيًّا، أَوْ أَمِينَ حَاكِمٍ: فَلَهُ إِحْلَافُهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ.
وَإِنْ كَانَ أَبًا، أَوْ جَدًّا، فَفِي إِحْلَافِهِ لَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ، كَالْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْلِفُ، لِأَنَّهُ يُفَارِقُ الْأَجْنَبِيَّ فِي نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهُ. وَكَثْرَةِ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَدْرِ النَّفَقَةِ، وَيَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ عَشْرَ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ دِينَارٍ، فَقَالَ: بَلْ أَنْفَقْتَ عَلَيَّ خَمْسَ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ دِينَارٍ.
فَعِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الإصطرخي: أن القول قول الولي، كاختلافهم فِي الْقَدْرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمُدَّةِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْيَتِيمِ مَعَ يَمِينِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَدْرِ، وَبَيْنَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمُدَّةِ: أَنَّهُمَا فِي الْقَدْرِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَالِ، فَقُبِلَ مِنْهُ قَوْلُ الْوَلِيِّ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُدَّةِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَوْتِ الذي يعقبه نظر الولي، فلم يقبل قولي الولي، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّنَا عَلَى يقين من حدوث الموت في شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَ الْحُكْمُ فِيهِمَا.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا إِخْرَاجُ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ مِنَ الْحُقُوقِ، فَضَرْبَانِ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ.
فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَالزَّكَوَاتُ، وَالْكَفَّارَاتُ.
أَمَّا الزكوات: فزكاة الفطر، وأعشار الزروع والثمار، واجبة إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ: فَقَدْ أَسْقَطَهَا أبو حنيفة، ولم يوجبها إلى عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ.
وَعِنْدَنَا: تَجِبُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ، عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، عَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
وَإِذَا وَجَبَتْ: لَزِمَ إِخْرَاجُهَا، وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا، عَنْ مُسْتَحِقِّهَا، وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْهُ وَيَتْرُكُهَا فِي مَالِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، فَيُخْرِجُهَا عن نفسه ".

(8/346)


ودليلنا: ما روي أَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِيَ مَالَ يَتِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ، سَلَّمَ إِلَيْهِ الْمَالَ، فَنَقَصَ كَثِيرًا: فَقَالُوا لَهُ: نَقُصَ الْمَالُ، فَقَالَ: احْسِبُوا قَدْرَ الزَّكَاةِ وَالنُقْصَانِ، فَحَسبُوا فَوَافَقَ، فَقَالَ: أَتَرَانِي أَلِي مَالًا وَلَا أُخْرِجُ زَكَاتَهُ.
فَلَوْ لَمْ يُخْرِجْهَا الْوَلِيُّ، لَزِمَ الْيَتِيمَ إِذَا بَلَغَ أَنْ يُخْرِجَهَا بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَنَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَقٌّ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَالدُّيُونِ، فَعَلَى الْوَلِيِّ قَضَاؤُهَا إِذَا ثَبَتَتْ وَطَالَبَ بِهَا أربابها، فإن أبرئوا مِنْهَا: سَقَطَتْ وَإِنْ أَمْسَكُوا عَنِ الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ إِبْرَاءٍ، نُظِرَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا، أَلْزَمَهُمُ الْوَلِيُّ قَبْضَ دُيُونِهِمْ، أَوِ الْإِبْرَاءَ مِنْهَا، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتْلَفَ الْمَالُ وَيَبْقَى الدَّيْنُ.
وَإِنْ كَانَ أَرْضًا أَوْ عَقَارًا، تَرَكَهُمْ عَلَى خِيَارِهِمْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِدُيُونِهِمْ إِذَا شَاءُوا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَار، الجنايات وَهِيَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى مَالٍ، فَيَكُونُ غُرْمُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ، كَالدُّيُونِ.
وَالثَّانِي: عَلَى نَفْسٍ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ، عَمْدٌ وَخَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ خَطَأٌ فديَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، لَا فِي مَالِهِ.
وَإِنْ كَانَ عَمْدًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْعَمْدِ، أو مجرى الخطأ:
أحدهما: أنه جاري مَجْرَى الْعَمْدِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْخَطَأ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ: فَفِي مَالِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا.
وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: " لَا كَفَّارَةَ عَلَى الصَّبِيِّ ".
فَهَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَصِيَّةِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُوصِي، فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُوصِي، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظَرٌ فِيمَا شهد به، كأن شَهِدَ لَهُ بِمَالٍ، أَوْ مِلْكٍ هُوَ وَصِيٌّ في تفريق ثلثه، أو ولاية على أطفال، فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لا يَكُونَ لَهُ نَظَرٌ فِيمَا شَهِدَ بِهِ. كَأَنَّهُ وَصِيٌّ فِي تَفْرِيقِ مَالٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَشَهِدَ لِلْمُوصِي بِمِلْكٍ لَا يَدْخُلُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَلَيْسَ وارث، مثلا، فَيَكُونُ فِي وِلَايَتِهِ: فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يجر بها نفعا.

(8/347)


مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا بلغ الحلم ولم يرشد زوجه وإن احتاج إلى خادم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا يُزَوِّجُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ عَلَى حَالِ صِغَرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَصِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَقَالَ أَبُو ثور:
يجوز له أن يزوجه فِي صِغَرِهِ، كَالْأَبِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَمَّا مُنِعَ مِنْ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَهْرِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَزْوِيجِ الصَّغِير وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ، لِمَا فِيهِ من التزام المهر، ولأن الموصي مَمْنُوعٌ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى النِّكَاحِ.
فَإِذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ: زَالَ اسْمُ اليتيم عَنْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لا يتم بعد حلم.
ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا، أَوْ غَيْرَ رَشِيدٍ، فَإِنْ بلغ رشيدا: وجب فله حَجْرُهُ، وَإِمْضَاءُ تَصَرُّفِهِ.
ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ وليه من ثلاثة أقسام:
أحدها: أَنْ يَكُونَ أَبًا، فَيَنْفَكُّ حَجْرُهُ بِظُهُورِ الرُّشْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِلْأَبِ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ به، فَارْتَفَعَتْ بِالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَمِينَ الْحَاكِمِ، فَلَا يَنْفَكُّ حجره عَنْهُ بِظُهُورِ الرُّشْدِ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بفك حجره، لأن الولاية عليه، تثبت بِحُكْمِهِ فَلَمْ تَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ وَصِيًّا لِأَبٍ، أَوْ جَدٍّ، فَفِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِظُهُورِ رُشْدِهِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْفَكُّ حَجْرُهُ بِغَيْرِ حُكْمٍ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ.
وَالثَّانِي: لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمٍ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، كَالْأَمِينِ.

فَصْلٌ:
وَإِنْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ: كَانَ حَجْرُهُ بَاقِيًا، لِأَنَّ فَكَّهُ مقيد بِشَرْطَيْنِ: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، فَلَمْ يَنْفَكَّ بِالْبُلُوغِ دُونَ الرُّشْدِ، كَمَا لَا يَنْفَكُّ بِالرُّشْدِ دُونَ الْبُلُوغِ.
وَإِذَا كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَاقِيًا، كَانَتْ وِلَايَةُ الوالي عَلَيْهِ بِحَالِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهِ أَبًا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ أَمِينًا.
وَإِنْ كَانَ حَجْرُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. حَجْرَ سَفَهٍ، لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا حاكم، (تقديم حجر) مستديم، فحجر مُتَقَدِّمٍ، فَدَامَتِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ لِوَلِيِّهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَةٍ، كَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ حَجْرٍ.
فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً: لَمْ يجز لوصي تَزْوِيجُهَا.
وَإِنْ كَانَ غُلَامًا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ به حاجة إلى النساء، لم يزوج.

(8/348)


وَإِنْ كَانَتْ بِهِ إِلَى النِّسَاءِ حَاجَةٌ لِمَا يرى من فورته عَلَيْهِنَّ، وَمَيْلِهِ إِلَيْهِنَّ، زَوَّجَهُ الْوَصِيُّ، لِمَا فِيهِ من المصلحة له، وَتَحْصِينِ فَرْجِهِ، وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَا يزوجه إلا بمن اختارها من أكفائه.
فإذا أَذِنَ لَهُ الْوَصِيُّ فِي تَوَلِّي الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ، جَازَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ وَإِنْ نَكَحَ بأكثر من مهر المثل، ردت الزيادة على وليه، ودفع الْمَهْرَ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَعَلَيْهِ بالمعروف لمثلها مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ومثله يخدم اشترى له ولا يجمع له امرأتين ولا جاريتين للوطء وإن اتسع ماله لأنه لا ضيق في جارية للوطء ".
قال الماوردي: فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَمِثْلُهُ يُخْدَمُ اشْتَرَى له خادما.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى خَادِمٍ: تَرَكَهُ وَخَدَمَ نَفْسَهُ. وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى خَادِمٍ فَإِنِ اكْتَفَى بِخِدْمَةِ زَوْجَتِهِ: اقْتَصَرَ عَلَيْهَا.
وَإِنْ لَمْ يَكْتَفِ بِخِدْمَةِ زَوْجَتِهِ نُظِرَ: فَإِنْ ضَاقَ مَالُهُ اكْتَرَى لَهُ خَادِمًا وَإِنِ اتَّسَعَ اشْتَرَى لَهُ خادما.
فإن كانت خدمته، تَقُومُ بِهَا الْجَوَارِي، وَأَمْكَنَ أَنْ تَقُومَ الْجَارِيَةُ بخدمته واستمتاعه: اقتصر على جارية الخدمة والاستمتاع بزوجه.
وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْجَارِيَةُ لِاسْتِمْتَاعِ مِثْلِهِ: اشْتَرَى لَهُ مَعَ التَّزْوِيجِ جَارِيَةً لِخِدْمَتِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ خِدْمَتُهُ مِمَّا لَا يَقُومُ بِهَا إِلَّا الْغِلْمَانُ: اشْتَرَى لَهُ غُلَامًا لِخِدْمَتِهِ.
فَإِنِ احْتَاجَ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى خِدْمَةِ جَارِيَةٍ لِخِدْمَةِ مَنْزِلِهِ، وَغُلَامٍ لِخِدْمَتِهِ فِي تَصَرُّفِهِ، اشْتَرَاهُمَا لَهُ إِذَا اتَّسَعَ مَالُهُ، وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ يُرَاعِي فِي ذَلِكَ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَكْثَرَ الطَّلَاقَ لَمْ يُزَوَّجْ وَسرّى وَالْعِتْقُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: طَلَاقُ السَّفِيهِ وَاقِعٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أبو يوسف: طَلَاقُ السَّفِيهِ لَا يَقَعُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الطَّلَاقَ اسْتِهْلَاكُ مَالٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ فِي الْخُلْعِ فَمُنِعَ مِنْهُ السَّفِيهُ، كَالْعِتْقِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَاطِعٌ لِلِاسْتِدَامَةِ ومانع من الاستمتاع وليس بإتلاف مال، إنما يستفاد به إسقاط مال، لأنه إذا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ: أَسْقَطَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، أَسْقَطَ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ، وَخَالَفَ الْعِتْقَ الذي هو استهلاك مال، ولذلك جاز للكاتب أَنْ يُطَلِّقَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتِقَ، وَجَازَ طلاق العبد وإن لم يأذن له فِيهِ السَّيِّدُ، وَالْعِوَضُ الْمَأْخُوذُ فِي الْخُلْعِ

(8/349)


إِنَّمَا هُوَ لِرَفْعِ الْيَدِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْبُضْعِ بِالِاسْتِمْتَاعِ، فَصَارَ الْعِوَضُ مَأْخُوذًا عَلَى تَرْكِ الاستمتاع، لا على أنه في مقابلة ماله. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَلَاقَ السَّفِيهِ وَاقِعٌ: نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِطْلَاقًا يُكْثِرُ الطَّلَاقَ لَمْ يُزَوِّجْهُ لِمَا يَتَوَالَى فِي مَالِهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ مَهْرٍ بَعْدَ مَهْرٍ، وَسَرَّاهُ بِجَارِيَةٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، فَإِنْ أَعْتَقَهَا، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ بِهِ عَنِ التَّزْوِيجِ إِذَا كَانَ مِطْلَاقًا إِلَى التَّسَرِّي، لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لِمَالِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يُحْبِلُ الْجَارِيَةَ فَيَبْطُلُ ثَمَنُهَا، فَصَارَ ذَلِكَ كَالطَّلَاقِ أَوْ أَسْوَأَ حَالًا؟ قِيلَ: إِحْبَالُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فكان مقصده فِيهَا بَاقِيًا، وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ وَيَرْفَعُ الِاسْتِبَاحَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَوْصِيَاءِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَصِيِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَطَوِّعًا، أَوْ مستعجلا.
فإن تطوع فهي أمانة محضة، أو اسْتَعْجَلَ: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بعقد.
والثاني: بغير عقد.
فإن كان بعقد فَهِيَ إِجَارَةٌ لَازِمَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا يضمنها، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا، وَإِنْ ضَعُفَ عَنْهَا، استأجر عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا ضعف عنه، ولو الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ.
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَهِيَ جَعَالَةٌ، ثُمَّ هِيَ ضَرْبَانِ: مُعَيَّنَةٌ، وَغَيْرُ مُعَيَّنَةٍ.
فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً: كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ قَامَ زيد بوصيتي له مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِنْ قَامَ بِهَا غَيْرُ زَيْدٍ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ قَامَ بِهَا زَيْدٌ وعمرو، فلا شيء لعمرو، وَإِنْ عَاوَنَ زَيْدًا فِيهَا فَلِزَيْدٍ جَمِيعُ الْمِائَةِ، وَإِنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ لِزَيْدٍ إِلَّا نِصْفُ الْمِائَةِ، لِأَنَّ لَهُ نِصْفَ الْعَمَلِ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ: كَقَوْلِهِ مَنْ قَامَ بِوَصِيَّتِي هَذِهِ فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ: فَأَيُّ النَّاسِ قَامَ بِهَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَهُ الْمِائَةُ.
فَإِنْ قَامَ بِهَا جَمَاعَةٌ: كَانَتِ الْمِائَةُ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا قَامَ بِهَا وَاحِدٌ وَكَانَ كَافِيًا: مُنِعَ غَيْرُهُ بَعْدَ الْعَمَلِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا.
فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَالْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ عَنْ إِتْمَامِهَا: لَمْ يُجْبَرْ لِأَنَّ عَقْدَ الْجَعَالَةِ لَا يَلْزَمُ وَجَازَ لِغَيْرِهِ بَعْدَ رَفْعِ يَدِهِ أَنْ يُتَمِّمَ مَا بَقِيَ، وَلِلْأَوَّلِ مِنَ الْجَعَالَةِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ: وَلِلثَّانِي: بِقَدْرِ عَمَلِهِ مُقَسَّطًا عَلَى أُجُورِ أمثالها.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا: لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَصِيِّ إِذَا كَانَ مُسْتَعْجِلًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي كُلِّ الْمَالِ، أَوْ فِي بَعْضِهِ.
فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي جميع ما وصى بِهِ: لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

(8/350)


أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَالثَّانِي: مِنْ ثُلُثِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ.
فَإِنْ جَعَلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ، كَانَتْ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وإن كانت فِيهَا مُحَابَاةٌ: كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُحَابَاةِ، فِي الثُّلُثِ، يُضَارَبُ بِهَا أَهْلُ الْوَصَايَا.
فَإِنْ جَعَلَ ذلك من ثلثه، كان في ثُلُثِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ، وعجز الثلث عنها: تمت لَهُ الْأُجْرَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
فَلَوْ كَانَ فِي الثُّلُثِ مَعَ الْأُجْرَةِ وَصَايَا، فَفِي تَقْدِيمِ الْوَصِيِّ بِأُجْرَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يقدم بِأُجْرَتِهِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَنْ عَمَلٍ، لَا مُحَابَاةَ فيه، ثم يتمتم مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
والوجه الثاني: أن يَكُون مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي الْمُضَارَبَةِ بِهَا مَعَهُمْ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّ لِبَاقِي أُجْرَتِهِ مَحَلًّا يَسْتَوْفِيهِ منه، وهو رأس المال، وهذا الوجهان بنيا عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ جَعَلَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ من ثلثه، وجعل دَيْنه مِنْ ثُلُثِهِ، هَلْ يُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا أَمْ لَا؟ .
فَلَوْ كَانَ فِي أكرة هذا الوصي محاباة، كانت أجرة المثل إذا عجز الثلث عنها متمة من رأس المال، وكانت محاباة وَصِيَّةً يُضَارَبُ بِهَا مَعَ أَهْلِ الْوَصَايَا وَيسقط مِنْهَا مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ.
وَإِنْ أَطْلَقَ أُجْرَةَ الْوَصِيِّ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَلَا مِنْ ثُلُثِهِ: فَهِيَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، إِذَا تَعَلَّقَتْ بِوَاجِبٍ مِنْ قَضَاءِ دُيُونٍ، وَتَأْدِيَةِ حُقُوقٍ، وَكَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ تَبَعًا: فَإِنْ كَانَ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ كَانَ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الثُّلُثِ يُضَارَبُ بِهَا أَهْلُ الْوَصَايَا.
فَهَذَا حُكْمُ أُجْرَةِ الْوَصِيِّ، إِذَا كَانَ وَصِيًّا فِي جَمِيعِ الْمَالِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَصِيًّا فِي شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي قَضَاءِ دُيُونٍ وَتَأْدِيَةِ حُقُوقٍ، فَأُجْرَتُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، تَكُون مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُحَابَاةٌ، كَانَتْ فِي الثُّلُثِ يُضَارَبُ بِهَا أَهْلُ الْوَصَايَا.
فَإِنْ جَعَلَ كُلَّ الْأُجْرَةِ فِي ثُلُثِهِ وَلَا محاباة فيها: تممت وعند عَجْزِ الثُّلُثِ عَنْهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَدَخَلَهَا دَوْرٌ، كَالْحَجِّ إِذَا أَوْصَى بِهِ فِي الثُّلُثِ فعجز الثلث عنه، فيكون على مَا مَضَى.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي تَفْرِيقِ الثُّلُثِ، فَأُجْرَتُهُ تَكُونُ فِي الثُّلُثِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ

(8/351)


فِيهَا مُحَابَاةٌ قَدَّمْتُهَا عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا وَجْهًا واحدا لأنها مُقَابَلَة عَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِإِنْفَاذِ وَصَايَاهُمْ وَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ غَيْرَ الثُّلُثِ فَلِذَلِكَ يُقَدَّمُ بِهَا.
وَإِنْ كان فيها محاباة: تقدمهم بأجرة المثل، وَشَارَكَهُمْ فِي الثُّلُثِ لِمُحَابَاتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَصِيًا عَلَى أَيْتَامِ وَلَدِهِ: فَإِنَّ أُجْرَتَهُ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْمُوصِي تَكُونُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، وَيَكُونُ الْوَصِيُّ وَكِيلًا مُسْتَأْجَرًا بِعَقْدِ الْأَبِ الْمُوصِي.
فَإِنْ كَانَ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ: كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ وَصِيَّة ثُلُثِ الْمُوصِي يُضْرَبُ بِهَا مَعَ أَهْلِ الْوَصَايَا.
فَإِنْ جَعَلَ الْمُوصِي جَمِيعَ الْأُجْرَةِ فِي ثُلُثِهِ: كَانَتْ فِيهِ، فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ فَلَا شَيْءَ فِي مَالِ اليتيم، ولا خيار للموصي.
وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فيها محاباة، ضُرِبَ مَعَ أَهْلِ الْوَصَايَا بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ، وَأُخِذَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، ثم قسط الباقي في الْمُسَمَّى لَهُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَالْمُحَابَاةِ، فَمَا بَقِيَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، رَجَعَ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الْمُحَابَاةِ، يَكُونُ باطلا.
مثاله: أَنْ يَكُونَ قَدْ جَعَلَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأُجْرَةُ مِثْلِهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَقَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمِائَةِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَإِذَا أَخَذَهَا فَقَدْ أَخَذَ نِصْفَ الْمُسَمَّى مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَالْمُحَابَاةِ، وَبَقِيَ النِّصْفُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، مِنْهَا نِصْفُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بَقِيَّةُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ يَرْجِعُ بِهَا فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَنِصْفُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ درهما نصيب المحاباة، فتكون بَاطِلَةً وَيَكُونُ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ فِي الْفَسْخِ لِنُقْصَانِ مَا عَاقَدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَسَخَ أَقَامَ الْحَاكِمُ من أمنائه من يقوم مقامه مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ نُصِبَ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَرِزْقُهُ، وَأُجُورُ أُمَنَائِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
فإن لم يكن ببيت المال مال، يدفع أُجْرَةَ أَمِينٍ، وَلَا وَجَدَ مُتَطَوِّعًا: كَانَتْ أُجْرَتُهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.
وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَدْخُلُهَا دور وطريق عمله مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ، فَصَارَ مَحْصُولُ هَذَا الْفَصْلِ فِي إِطْلَاقِ أُجْرَةِ الْوَصِيِّ إِذَا لَمْ يكن فِيهَا مُحَابَاةٌ أَنْ يُنْظَرَ فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي الْبَعْضِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي تَأْدِيَةِ حُقُوقٍ، فَأُجْرَتُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي تَفْرِيقِ ثُلُثٍ، فَأُجْرَتُهُ مُقَدَّمَةٌ فِي الثُّلُثِ وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ، فأجرته في مال اليتيم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " هذا آخر ما وصفت من هذا الكتاب أنه وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَمِعَهُ مِنْهُ وسمعته يَقُولُ لَوْ قَالَ أَعْطُوهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ دَنَانِيرِي أُعْطِيَ دِينَارَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ مِنْ دنانيري أعطوه ما شاءوا اثنين ".

(8/352)


وَهَذَا الْفَصْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعِ مَسَائِلَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ أَعْطُوهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ دنانيري الذي نقله المزني هاهنا أنها وصية بدينارين لأنها لما ذكر عددا مِنْ دَنَانِيرِهِ دَلَّ عَلَى دِينَارَيْنِ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ مُخَرَّجٌ مِنَ الْإِقْرَارِ إنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدِينَارٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ من الفردين أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ وَهُمَا مَعًا دِينَارٌ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَصِيَّةً بِمَا ذَكَرْنَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ دَنَانِيرُ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يكن له دَنَانِيرُ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الدَّنَانِيرِ فَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدِينَارَيْنِ. وَالثَّانِي: بِدِينَارٍ لَكِنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْقَدْرِ سَوَاءٌ تَرَكَ دَنَانِيرَ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ كَذَا وَكَذَا فهذه وصية بعد دين يرجع في بيانها إلى الوارث فإن ذكر شيئا بينه قبلنا منه مع يمينه إن حلف فِيهِ وَسَوَاءٌ بَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسٍ أَوْ جِنْسَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
إِذَا قَالَ أَعْطُوا ثُلُثِي لِأَعْقَلِ النَّاسِ فَقَدْ حَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُعْطى أَزْهَد النَّاسِ وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ الْعَقْلَ مَانِعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالزُّهَّادُ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ مَنْعًا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ.
فَصْلٌ:
ولو قال أعطوا ثلثي لأجمل النَّاسِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ يُعْطَاهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَاهُ أَهْلُ الكبار مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ أَقْدَمُوا عَلَى فِعْلِ مَا يَعْتَقِدُونَ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ قَصْدِ الْمُسْلِمِ بِوَصِيَّتِهِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ أَعْطُوا ثلثي لأحمق الناس قال إبراهيم الجريري يُعْطَاهُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّثْلِيثِ مِنَ النَّصَارَى، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَاهُ أَسْفَهُ النَّاسِ لِأَنَّ الْحُمْقَ يَرْجِعُ إِلَى الْفِعْلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ أَعْطُوا ثُلُثِي لِأَعْلَمِ النَّاسِ كَانَ مَصْرُوفًا فِي الْفُقَهَاءِ لِاضْطِلَاعِهِمْ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ بِأَكْثَرِ الْعُلُومِ مُتَعَلِّقَةً.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِسَيِّدِ النَّاسِ كَانَ لِلْخَلِيفَةِ - رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَنَامِ فَجَلَسْتُ مَعَهُ ثُمَّ قُمْتُ أُمَاشِيهِ فَضَاقَ الطَّرِيقُ بِنَا فَوَقَفَ فَقُلْتُ تَقَدَّمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّكَ سَيِّدُ النَّاسِ قَالَ لَا تَقُلْ هَكَذَا قُلْتُ بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِسَيِّدِ النَّاسِ كَانَ لِلْخَلِيفَةِ أَنَا أُفْتِيكَ بِهَذَا فَخُذْ حَظِّي به ولم أكن سمعت هذه المسألة قبل

(8/353)


هَذَا الْمَنَامِ وَلَيْسَ الْجَوَابُ فِيهَا إِلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّ سَيِّدَ النَّاسِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِمْ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَهَذِهِ صِفَةُ الْخَلِيفَةِ المتقَدّمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
آخِرُ كِتَابِ الْوَصَايَا بحمد الله ومنه.

(8/354)