الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

كتاب الوديعة
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ وَدِيعَةً فَأَرَادَ سَفَرًا فَلَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ يَجْعَلُهَا عِنْدَهُ فَسَافَرَ بِهَا بَرًّا أَوْ بَحْرًا ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اسْتِيدَاعُ الْوَدَائِعِ فَمِنَ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْإِرْفَاقِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ".
وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَقَبَّلُوا إِلَيَّ بِسِتٍّ أَتَقَبَّلُ بِالْجَنَّةِ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ، وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ ".
وَقَدِ اسْتَوْدَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدَائِعَ الْقَوْمِ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِقِيَامِهِ بها محمد الْأَمِينَ، فَلَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَرَكَهَا عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَخَلَّفَ عليا - عليه

(8/355)


السلام - لِرَدِّهَا عَلَى أَهْلِهَا، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ إِلَى التَّعَاوُنِ بِهَا حَاجَةً مَاسَّةً وَضَرُورَةً دَاعِيَةً لِعَوَارِضِ الزَّمَانِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَلَوْ تَمَانَعَ النَّاسُ فِيهَا لَاسْتَضَرُّوا وَتَقَاطَعُوا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنِ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً مِنْ ثَلَاثِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، وَلَا يَثِقُ بِأَمَانَتِهِ نَفْسِهِ فِيهَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهَا قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَلَيْسَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا فَهَذَا مِمَّنْ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا، وَلَزِمَهُ اسْتِيدَاعُهَا، كَمَا تُعَيَّنُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّاهِدِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَتَحَمَّلُهَا سِوَاهُ، وَكَمَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ خَلَاصُ نَفْسٍ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِهَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهَا، وَقَادِرًا عَلَى حِفْظِهَا، وَقَدْ يُوجَدُ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَنَاءِ عَلَيْهَا، فَهَذَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا قَبِلَ الْوَدِيعَةَ كَانَ قَبُولُهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا وَالرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا قَبِلَهَا مَعْرِفَةُ مَا فِيهَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْدِعَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ الَّتِي يَلْزَمُهُ مَعْرِفَتُهَا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَعْرِيفِهَا، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، فَإِنْ فَرَّطَ كَانَ ضَامِنًا وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إِنِ اتُّهِمَ فِي الْوَدِيعَةِ ضَمِنَهَا، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَسُرِقَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ، فَتَخَاصَمَا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: هَلْ أُخِذَ مَعَهَا مِنْ ثِيَابِكِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: عَلَيْكَ الْغَرَامَةُ، فَرُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِابْنِ سِيرِينَ وَقَدْ حَمَّلَ مَعَهُ رَجُلٌ مَتَاعًا إِلَى الْبَصْرَةِ: يَا أَنَسُ، احْفَظْهُ كَيْلَا تَغْرَمَهُ كَمَا غَرَّمَنِي عُمَرُ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ وَاضِحُ الْفَسَادِ، لِرِوَايَةِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوَدَعِ ضَمَانٌ " وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ عِنْدَ جَابِرٍ وَدِيعَةً، فَتَلِفَتْ، فَتَحَاكَمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُؤْتَمَنِ ضَمَانٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ فِيهِ تَنَازُعٌ، وَلِأَنَّ تَضْمِينَ الْوَدِيعَةِ يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ التَّعَاوُنِ وَعُقُودِ الْإِرْفَاقِ، فَأَمَّا أَنَسٌ فَإِنَّمَا ضَمَّنَهُ عُمَرُ لِتَفْرِيطِهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى خَادِمِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى صَحَابَةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ تُهْمَةٌ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً فَأَرَادَ سَفَرًا، فَالْوَدِيعَةُ لَا تَحْبِسُهُ عَنِ السَّفَرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَمْتَنِعْ عَنِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَدِيعَةِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَرَدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا مَتَى شَاءَ الْمُسْتَوْدَعُ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا وَمَالِكُهَا حَاضِرٌ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ.

(8/356)


فَلَوْ قَالَ لِمَالِكِهَا: لَسْتُ أَدْفَعُهَا إِلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُشْهِدَ عَلَى نَفْسِكَ بِقَبْضِهَا، فَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجِبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَنْعُ مِنْهَا لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ مُتَعَدِّيًا، وَهَذَا أصح الوجوه.
والوجه الثاني: أن إشهاد المالك على نفسه واجب، لأن يتوجه على المستودع يمين أن نوزع فِي الرَّدِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ مِنْهَا لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ مُتَعَدِّيًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ رَدِّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الدَّفْعِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الرَّدِّ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا مَعَ حُضُورِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ بِهَا مَعَهُ.
والثاني: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى غَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخَلِّفَهَا فِي حِرْزِهِ.
فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ، سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ مَأْمُونًا أَوْ غَيْرَ مَأْمُونٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ مَأْمُونًا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ حِفْظَهَا، فَإِذَا حَفِظَهَا فِي أَيِّ مَكَانٍ كان من حضر أو سفر كان مؤديا لحق الأمانة فيها، قال: ولأنه لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْفَظَهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شاء من البلد إذا كان مأمونا كان له [ذلك في غير الْبَلَدِ إِذَا كَانَ مَأْمُونًا] .
وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعَدِّيهِ إِذَا سَافَرَ بِهَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ عَلَى قَلْتٍ إِلَّا مَا وَقَى اللَّهُ " يَعْنِي عَلَى خَطَرٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَرُقَادَهُ " وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَخُوفٌ فِي الْغَالِبِ، وَأَمْنُهُ نَادِرٌ لَا يُوثَقُ بِهِ، ولذلك يمنع السيد مكاتبه من السفر، ويمنع وَلِيُّ الْيَتِيمِ مِنَ السَّفَرِ بِمَالِهِ، وَلِأَنَّ فِي السَّفَرِ بِالْوَدِيعَةِ مَعَ التَّغْرِيرِ بِهَا إِحَالَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَالِكِهَا بِإِبْعَادِهَا عَنْهُ، وَهَذَا عُدْوَانٌ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ فِي حِفْظِ الْوَدَائِعِ وَإِحْرَازِهَا جَازَ فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْأَسْفَارِ، فَكَانَ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُرْفِ فِيهَا عُدْوَانًا، وَلَيْسَ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحِفْظُ وَجْهٌ: لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَعَ الْحِفْظِ أَنْ لَا يُخَاطِرَ بِهَا وَلَا يُغَرِّرَ، وَهُوَ بِالسَّفَرِ مُغَرَّرٌ وَمُخَاطِرٌ.

(8/357)


وَقَوْلُهُ: " إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ حِفْظُهَا بِمَكَانٍ مِنَ الْمِصْرِ دُونَ مَكَانٍ فَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ " فَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْمِصْرَ يَتَسَاوَى حُكْمُ أَمَاكِنِهِ الْمَأْمُونَةِ، وَالسَّفَرُ مُخَالِفٌ لِلْمِصْرِ.

فَصْلٌ:
وَإِنْ دَفْعَهَا مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَكِيلِ مَالِكِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ يَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهَا، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى وَكِيلِ مَالِكِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا خَاصًّا فِي قَبْضِ وَدَائِعِهِ، فَلَهُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ مَعَ حُضُورِ الْمَالِكِ، لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا خَاصًّا فِي غَيْرِ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ، فَهَذَا فِي حَقِّ الْوَدِيعَةِ كَالْأَجَانِبِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي شَيْءٍ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَامًّا فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَفِي جَوَازِ رَدِّهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ العام:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ رَدُّهَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: تَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَدُّهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ طَالَبَ الْمُسْتَوْدَعُ الْوَكِيلَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ مِنْهُ لَزِمَ الْوَكِيلَ الْإِشْهَادُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُسْتَوْدَعِ مَقْبُولٌ عَلَى المودع فجاز أن لا يلزم الإشهاد، وقول غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى وَكِيلِهِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ قَدْ قَبَضَهَا مِنَ الْمُودِعِ أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ فِي لُزُومِ الْإِشْهَادِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيلُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا فِي جَوَازِ دَفْعِهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ لِلْمُودِعِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ شَاءَ مِنْ عَدْلٍ أَوْ فَاسِقٍ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ مَعَ وُجُودِ الْمَالِكِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ، لِأَنَّ مَالِكَهَا رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ يَدَ الْحَاكِمِ نَائِبَةٌ عَنْ كُلِّ مَالِكٍ، فَعَلَى هَذَا إِنِ دَعَاهُ الْمُسْتَوْدَعُ إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ قِيلَ لِلْحَاكِمِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِكَ، أَوْ في إعلام مالكها بالاسترجاع، فإن أخذها وَاجِبٌ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّهِمَا شِئْتَ.
فصل:
وإن دفعها مع حضور مالكها إلى أجنبي ائتمنه عليها فَاسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا ضَمِنَهَا، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ مَعَ حُضُورِ الْمَالِكِ إِلَى دَفْعِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَصَارَ كَالسَّفَرِ بِالْمَالِ.

(8/358)


وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِ دُونَ أَمَانَةِ غيره، فصارت يد من ائتمنه عليها يد غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهَا، فَصَارَتْ مُتَعَدِّيَةً، وَلَزِمَ الضَّمَانُ، وكان مالكها مخير بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمُسْتَوْدَعِ الْأَوَّلِ إِنْ تَلِفَتْ أَوْ مُطَالَبَةِ الثَّانِي.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَهُ مُطَالَبَةُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَوَافَقَ فِي الْغَاصِبِ إِذَا أَوْدَعَ أَنَّ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يُودِعَ، كَمَا لَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُودِعَ، فَصَارَ الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا يَدُهُ غَيْرُ مُحِقَّةٍ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْحَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شاء بغرمها، فَإِنْ أُغْرِمَهَا الثَّانِي نُظِرَ فَإِنْ عَلِمَ بِالْحَالِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لم يعلم ففي رجوعه عليه بغرمها وَجْهَانِ.
وَإِنْ أُغْرِمَهَا الْأَوَّلُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي عَالِمًا بِالْحَالِ رَجَعَ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْغَاصِبِ إِذَا وَهَبَ مَا غَصَبَهُ ثُمَّ غَرِمَهُ هَلْ يَرْجِعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَعَلَى مَالِكِ الْوَدِيعَةِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الْهِبَةِ، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِخِلَافِ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ.

فَصْلٌ:
وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى أَحَدٍ مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا وَخَلَّفَهَا وَسَافَرَ ضَمِنَهَا، وَقَالَ: إِنْ خَلَّفَهَا مَعَ أَمْوَالِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْحِرْزَ بِغَيْرِ حَافِظٍ لَا يَكُونُ حِرْزًا، وَتَغْرِيرُهُ بِمَالِهِ لَا يَكُونُ فِي الْوَدِيعَةِ عُذْرًا، فَهَذَا حُكْمُ الْوَدِيعَةِ إِذَا كَانَ الْمُودِعُ حَاضِرًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُودِعُ غَائِبًا عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُسْتَوْدَعِ السَّفَرَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِهَا.
والثاني: أن لا يَكُونَ لَهُ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ وَكِيلٌ فَوَكِيلُهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِقَبْضِهَا، لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي عُدُولِ الْمُسْتَوْدَعِ إِلَى غَيْرِهِ كَالْحُكْمِ فِي عُدُولِهِ عَنِ الْمُودِعِ مَعَ حُضُورِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِقَبْضِهَا هُوَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْحَاكِمِ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُونًا فَدَفَعَهَا إِلَى أَمِينٍ ثِقَةٍ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْأَمِينَ عَلَيْهَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَاكِمَهُ الْمُودِعُ فِيهَا إِلَى الْحَاكِمِ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِمَا عِنْدَهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاكِمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَضْمَنُ، لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْحَاكِمِ وَاخْتِيَارَ الْأَمِينِ اجْتِهَادٌ، وَلِأَنَّ نَظَرَ الْحَاكِمِ عَامٌّ وَنَظَرَ الأمين

(8/359)


خاص، فإن لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، أَوْ كَانَ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ جَازَ أَنْ يَخْتَارَ لَهَا أَمِينًا ثِقَةً يَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فِي حِفْظِهَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أودع ما خلفه من الودائع عند أم أيمن حين هاجر واستخلف عليا في الرد - رضي الله عنه -.
وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَيْهِ أم لا: أحدهما: يلزمه الإشهاد عليه خوفا من تغير حَالِهِ وَحُدُوثِ جُحُودِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يشهد عليه ضمنها.
والوجه الثاني: لا يلزمه الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنِ الْمَالِكِ، وَلِأَنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ثِقَةً يَسْتَوْدِعُهِ إِيَّاهَا لَمْ يَخْلُ حِينَئِذٍ حَالُ الْمِصْرِ وَالسَّفَرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَخُوفًا بِغَارَةٍ، أَوْ حَرِيقٍ، وَالسَّفَرُ مَأْمُونًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ مَعَهُ، لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ هِيَ أَحْفَظُ وَأَحْرَزُ، فَإِنْ تَرَكَهَا وَسَافَرَ كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَضْمَنْهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَأْمُونًا وَالسَّفَرُ مَخُوفًا، فَعَلَيْهِ تَرْكُهَا فِي المصر على ما سنذكره، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَخُوفًا وَالسَّفَرُ مَخُوفًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَوَى الْخَوْفَانِ كَانَ خَوْفُ السَّفَرِ أَعَمَّ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَأْمُونًا وَالسَّفَرُ مَأْمُونًا، فَفِي جَوَازِ السَّفَرِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ، لِأَنَّ السَّفَرَ أَخْطَرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِاسْتِوَاءِ الْأَمْنِ فِي الْحَالَيْنِ، وفضل حفظه لها بِنَفْسِهِ فِي السَّفَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَإِنْ دَفَنَهَا فِي مَنْزِلِهِ وَلَمْ يُعْلِمْ بِهَا أحدا يأتمنه على ماله فهلكت ضمن وإذا أودعها غيره وصاحبها حاضر عند سفره ضمن فإن لم يكن حاضرا فأودعها أمينا يودعه ماله لم يضمن ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ مَتَى مَا لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا وَلَا ثِقَةً يَسْتَوْدِعُهَا إِيَّاهُ فَدَفَنَهَا فِي الْأَرْضِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الْمَدْفُونَةُ فِيهِ سَابِلًا لَا تَحْجِيرَ عَلَيْهِ يَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ، فَدَفْنُهَا فِي مِثْلِهِ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ، سَوَاءٌ أَعْلَمَ بِهَا أَحَدًا أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ، لِأَنَّ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْأَيْدِي مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الموضع حصيا حَرِيزًا كَالْمَنَازِلِ الْمَسْكُونَةِ الَّتِي لَا تَصِلُ الْيَدُ إليها إِلَّا مَنْ أَرَادَ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْلِمَ بِهَا أَحَدًا أَوْ لَا يُعْلِمَ بِهَا

(8/360)


أَحَدًا، فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهَا أَحَدًا ضَمِنَهَا، لأنه قد ربما أدركته منيته فلو يوصل إليها، فصار بذلك تَغْرِيرًا، وَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا ثِقَةً مُؤْتَمَنًا صَحَّ، وَهَلْ يُرَاعَى فِي الْإِعْلَامِ بِهَا حُكْمَ الشَّهَادَةِ أَوْ حُكْمَ الِائْتِمَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الشَّهَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَيَرَى الشَّاهِدَانِ ذَلِكَ عِنْدَ دَفْنِهِ لِيَصِحَّ تَحَمُّلُهُمَا لِذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَرَجَ عَنِ التَّعَدِّي، وَسَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْذَنَ لِلشَّاهِدَيْنَ فِي نَقْلِهَا عِنْدَ الْخَوْفِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الِائْتِمَانِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلِمَ بِهَا وَاحِدًا ثِقَةً، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَرَاهَا، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي نَقْلِهَا إِنْ حَدَثَ بِمَكَانِهَا خَوْفٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الِاسْتِظْهَارِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ، لِمَا فِي نَقْلِهَا مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْأَخْطَارِ، فَإِنْ نَقَلَهَا الْمُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَ حُدُوثِ الْخَوْفِ بِمَكَانِهَا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، هَلْ يَكُونُ إِعْلَامُهُ بِهَا يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ، أَوْ مَجْرَى الْأَمَانَةِ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا، فَإِنْ نَقَلَهَا ضَمِنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ يَدٌ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْأَمَانَةِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا وَلَا أَنْ يَبْعُدَ عَنْهَا، وَتَكُونُ يَدُهُ عَلَيْهَا، فَأَمَّا إِذَا دَفَنَهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا مَعَ وُجُودِ حَاكِمٍ مَأْمُونٍ، أَوْ عَدْلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ يُودِعُهَا عِنْدَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ إِنْ فَعَلَ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ الْوَدِيعَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَضْمَنُ " وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ إِذَا كَانَ مَالِكُهَا حَاضِرًا، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْوَدِيعَةِ إِلَى الْحَاكِمِ مَعَ وُجُودِ صَاحِبِهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِذَا لَمْ يُعْلِمْ صَاحِبَ بَيْتِ الْمَالِ بِهَا وَلِمَنْ هِيَ، فَإِنْ أَعْلَمَهُ بِهَا وَلِمَنْ هِيَ لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ دَفْعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ مَعَ حُضُورِ صَاحِبِهَا.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَعَدَّى فِيهَا ثُمَّ رَدَّهَا فِي مَوْضِعِهَا فَهَلَكَتْ ضَمِنَ لِخُرُوجِهِ بِالتَّعَدِّي مِنَ الْأَمَانَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ التَّعَدِّيَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: التَّفْرِيطُ فِي الْحِرْزِ، ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَضَعَهَا فِي غير حرز أن يَكُونُ قَدْ وَضَعَهَا فِي

(8/361)


حِرْزٍ ثُمَّ أَخْرَجَهَا إِلَى مَا لَيْسَ بِحِرْزٍ، أَوْ يَكُونُ قَدْ أَعْلَمَ بِمَكَانِهَا مِنْ أَهْلِهِ مَنْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ التَّفْرِيطِ عُدْوَانٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الِاسْتِعْمَالُ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ ثَوْبًا فَيَلْبَسُهُ أَوْ دَابَّةً فَيَرْكَبُهَا، أَوْ بُسَاطًا فَيَفْتَرِشُهُ فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ عُدْوَانٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْلِطَهَا بِمَالِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهَا بِدَرَاهِمَ حَتَّى لَمْ تَتَمَيَّزْ، فَهَذَا عَدُوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَطَهَا بِدَرَاهِمِ غَيْرِ الْمُودِعِ أَيْضًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهَا بِمَالِ الْمُودِعِ، كَأَنَّهُ أَوْدَعَ وَدِيعَتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَخَلَطَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَفِي تَعَدِّيهِ وَضَمَانِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّ مَالِكَهَا لَمَّا مَيَّزَهَا لَمْ يَرْضَ بِخَلْطِهَا، وَلَكِنْ لَوْ خَلَطَهَا بِمَا يتميز منها مِثْلَ أَنْ يَخْلِطَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ لَمْ يَضْمَنْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ قَدْ نَقَصَ قِيمَتَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ فَيَضْمَنُ قَدْرَ النُّقْصَانِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْخِيَانَةُ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَهَا لِيَبِيعَهَا، أَوْ لِيُنْفِقَهَا، فَهَذَا عُدْوَانٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَهَا.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: التَّعَرُّفُ لَهَا، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ دَرَاهِمُ فَيَزِنُهَا، أَوْ يَعُدُّهَا، أَوْ ثِيَابًا فَيَعْرِفُ طُولَهَا وَعَرْضَهَا، فَفِي تَعَدِّيهِ وَضَمَانِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ من التصرف.
والثاني: لا يضمن، لأنه قد رُبَّمَا أَرَادَ بِهِ فَضْلَ الِاحْتِيَاطِ.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: التَّصَرُّفُ فِي بَعْضِ مَا اسْتَظْهَرَ بِهِ الْمُودِعُ فِي حِرْزِهَا وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ منيعا بالقفل الذي يفتحه، فهذا عدوان بجب بِهِ الضَّمَانُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَنِيعٍ كَالْخَتْمِ يَكْسِرُهُ، وَالشِّدَادِ يُحِلُّهُ، فَفِي ضَمَانِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يَضْمَنُ، لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ الْحِرْزِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِشُرَيْحٍ: طِينَةٌ خَيْرٌ مِنْ طِينَةٍ يَعْنِي أَنَّ طِينَةَ الْخَتْمِ تَنْفِي التُّهْمَةَ.
وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ الْخِيَانَةَ وَالتَّعَدِّيَ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِضَمَانِهَا وَيَجْعَلُ النِّيَّةَ فِيهَا كَالْفِعْلِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النِّيَّةَ فِي تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ يَقُومُ مَقَامَ التَّصَرُّفِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ، فَكَذَلِكَ فِي ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا بِالنِّيَّةِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُرَاعَى فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مُتَعَدِّيًا بِالنِّيَّةِ لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ خَائِنًا وَسَارِقًا بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مَا أَثَّرَتْ فِي حِرْزِهَا فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي ضَمَانِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِهَا، فَأَمَّا اللقطة فمع النية في تملكها علم ظاهره وَهُوَ انْقِضَاءُ حَقِّ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مَالِكًا مَعَ النِّيَّةِ إلا

(8/362)


بِالتَّصَرُّفِ وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ: يَجْعَلُهُ مَالِكًا مَعَ النِّيَّةِ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَإِنْ نَوَى حَبْسَهَا لِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَى رَبِّهَا ضَمِنَهَا، وَإِنْ نَوَى أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ حِرْزِهَا إِخْرَاجَ عُدْوَانٍ لَمْ يَضْمَنْهَا، وَهَذَا أَصَحُّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا نَوَى أَنْ لَا يَرُدَّهَا أَمْسَكَهَا لِنَفْسِهِ فَضَمِنَهَا، وَإِذَا نَوَى أَنْ يُخْرِجَهَا فَقَدْ أَمْسَكَهَا لِمَالِكِهَا فَلَمْ يَضْمَنْهَا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا اسْتَقَرَّ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالتَّعَدِّي ثُمَّ كَفَّ عَنْ تَعَدِّيهِ وَأَعَادَهَا إِلَى حِرْزِهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا كَالشِّدَّةِ المطربة في الخمر، والردة الموجبة للقتل، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالْإِخْرَاجِ كَمَا يضمن المحرم الصَّيْدَ بِالْإِمْسَاكِ، فَلَمَّا كَانَ إِرْسَالُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ بَعْدَ إِمْسَاكِهِ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِعَادَةُ الْمُسْتَوْدَعِ لَهَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَخْرَجَهَا مِنْ حرز المستودع سارق فضمنها سقط عنه الضمان بردها [كان أولى إذا أخرجها المستودع فضمنها أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهَا] .
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَا ضُمِنَتْ بِهِ الْوَدِيعَةُ لَمْ يَسْقُطْ بِارْتِفَاعِ سَبَبِهِ كَالْجُحُودِ، وَلِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ بِالْيَدِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ كَالْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إِذَا وَجَبَ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ لَمْ يَخْرُجْ بِالرَّدِّ إِلَى الْحِرْزِ كَالسَّارِقِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِالتَّعَدِّي فِي الْأَمَانَةِ فَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ أَمَانَةٍ وَإِلَّا كَانَ أَمِينَ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إِذَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سبيل إلا إبراء نفسه بنفسه، أما استدلالهم بأن الحكم إذا ثبت لعلة زوال بِزَوَالِهَا فَالْعِلَّةُ لَمْ تَزُلْ، لِأَنَّ التَّعَدِّيَ الْأَوَّلَ انْقَطَعَ وَلَمْ يَرْتَفِعْ، وَأَمَّا إِرْسَالُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ فَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَعَادَهُ إِلَى حَقِّهِ.
وَمِثَالُهُ مِنَ الْوَدِيعَةِ أَنْ يُعِيدَهَا إِلَى مَالِكِهَا، وَأَمَّا السَّارِقُ مِنَ الْمُسْتَوْدَعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ إِذَا رَدَّهُ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكِهِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: قط سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ عَلَى أَمَانَتِهِ فَصَارَ عَوْدُهَا إِلَى يَدِهِ كَعَوْدِهَا إِلَى الْمَالِكِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ هُوَ الضَّامِنُ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْأَمَانَةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ التَّعَدِّي بَاقٍ وَإِنْ كَفَّ عَنْهُ فَسُقُوطُهُ عَنْهُ يَكُونُ بِرَدِّهَا عَلَى مَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِ مَالِكِهَا فِي قَبْضِهَا، فَأَمَّا إِبْرَاءُ الْمُودِعِ لَهُ مِنْ ضَمَانِهَا فَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَلَفِهَا وَاسْتِقْرَارِ غُرْمِهَا فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ إِذَا كَانَ بَعْدَ تَلَفِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَائِهَا فَفِي سُقُوطِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ:

(8/363)


أحدهما: وهو قول المروروذي قَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ اسْتِئْمَانٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْغَاصِبِ بِالْإِبْرَاءِ قَبْلَ الرَّدِّ، وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ مِنَ الدُّيُونِ فِي الذِّمَمِ لَا إِلَى مَا فِي الْأَيْدِي مِنَ الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا هِبَاتُ الْأَعْيَانِ لَا تُسْقِطُ ضَمَانَهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعَادَهَا الْمُسْتَوْدَعُ إِلَى حِرْزِهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا كَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ عَنْهُ عَلَى هَذَيْنِ الوجهين. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ أَوْدَعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَأَنْفَقَ مِنْهَا دِرْهَمًا ثم رده فيها ولو ضمن الدرهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي وُجُوبِ الضمان بكسر الختم وحل الشداد وَجْهَانِ: فَأَمَّا إِذَا أَوْدَعَ دَرَاهِمَ غَيْرَ مَخْتُومَةٍ وَلَا مَشْدُودَةٍ فَأَخْرَجَ مِنْهَا دِرْهَمًا لِيُنْفِقَهُ قَدْ ضَمِنَهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَضْمَنُ غَيْرَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُنْفِقْهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهُ، فَإِنْ خَلَطَهُ بِالدَّرَاهِمِ، نُظِرَ فَإِنْ تَمَيَّزَ عَنْهَا ضَمِنَهُ وَحْدَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ جَمِيعَ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهَا فَفِي ضَمَانِ جَمِيعِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ جَمِيعَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ خَلَطَ مَضْمُونًا بِغَيْرِ مَضْمُونٍ فَصَارَ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا فَضَمِنَ الْجَمِيعَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ، وَالْبَصْرِيِّينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ وَاحِدٌ قَدْ آثَرَ مَالِكُهُ خَلْطَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي خَلْطِهِ خِلَافُ غَرَضِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبَغْدَادِيِّينَ، وَإِنْ أَنْفَقَ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ وَرَدَّ بَدَلَهُ وَخَلَطَهُ بِالدَّرَاهِمِ فَلَا يَخْلُو حَالُ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ الَّذِي رَدَّهُ بَدَلًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَن لَا يَتَمَيَّزَ مِنْ جَمِيعِ الدَّرَاهِمِ، فَيَصِيرُ بِخَلْطِهِ مُتَعَدِّيًا فِي الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ قَدْ خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِ نَفْسِهِ، فَصَارَ ضَامِنًا بِجَمِيعِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَيَّزَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يَتَمَيَّزُ وَيَصِيرُ كَمَنْ خَلَطَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ بِدَنَانِيرِ نَفْسِهِ عَنْ جَمِيعِ الدَّرَاهِمِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا ضَمَانُ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ما يَتَمَيَّزُ عَنْ بَعْضِ الدَّرَاهِمِ وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ بَعْضِهَا، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الدَّرَاهِمِ بَيْضَاءَ وَبَعْضُهَا سَوْدَاءَ، وَالدَّرَاهِمُ الْمَرْدُودَةُ فِيهَا أَبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ، فَيَضْمَنُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الدِّرْهَمِ الْمَرْدُودِ بَدَلًا، وَلَا يَضْمَنُ مَا تميز عنه.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ أَوْدَعَهُ دَابَّةً وَأَمَرَهُ بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا فَأَمَرَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا فِي دَارِهِ كَمَا يَفْعَلُ بِدَوَابِّهِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ بَعَثَهَا إِلَى غَيْرِ دَارِهِ وَهِيَ تُسْقَى فِي دَارِهِ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِعَلْفِهَا وَلَا بِسَقْيِهَا وَلَمْ يَنْهَهُ فَحَبَسَهَا مُدَّةً إِذَا أَتَتْ عَلَى مِثْلِهَا لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ هَلَكَتْ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبِضُ مِنْهُ النَّفَقَةَ عَلَيْهَا وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَى رَبِّهَا أَوْ يَبِيعُهَا فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فهو متطوع ".

(8/364)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا دَابَّةً فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ إِيدَاعِهَا عِنْدَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ عَلْفِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَأْمُرَهُ وَلَا يَنْهَاهُ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْبِطَهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، وَيَعْلِفَهَا وَيَسْقِيَهَا عِنْدَ حَاجَتِهَا، وَقَدْرَ كِفَايَتِهَا، فَإِنْ عَلَفَهَا مَعَ دَوَابِّهِ فِي مَنْزِلِهِ وَكَانَ حِرْزًا جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا ضَمِنَ، وَإِنْ عَلَفَهَا مَعَ دَوَابِّهِ وَفِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا أَوْ كَانَ إِلَّا أَنَّ الْقَيِّمَ بِهَا إِذَا لَمْ يُشَاهِدْهُ قَصَّرَ فِي عَلْفِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ حِرْزًا وَالْقَيِّمُ بِهَا إِذَا أَفْرَدَهُ بِعَلْفِهَا مَعَ غَيْرِ دَوَابِّهِ لَمْ يُقَصِّرْ فِي عَلْفِهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِطْلَاقِ الضَّمَانِ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا.
وقال أبو سعيد الإصطرخي: مَتَى عَزَلَهَا عَنْ دَوَابِّهِ وَعَلَفَهَا فِي غَيْرِ إصْطَبْلِهِ ضَمِنَهَا بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ فِعْلِ نَظِيرِهِ لِنَفْسِهِ أَنَّ إِصْطَبْلَهُ أَحْرَزُ، وَعَلْفَهَا مَعَ دَوَابِّهِ أَحْوَطُ، فَإِنْ ثَبْتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ حِرْزِهَا وَعَلْفِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الْإِذْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعَ، أَوْ لَا يَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعَ، فَإِنْ شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ فَقَالَ: أَنْفِقْ عليها لترجع علي، أو أنفق علي ففي وجوب تقديره للنفقة وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ تَقْدِيرُهَا لِتَنْتَفِيَ الْجَهَالَةُ عَنْ ضَمَانِهَا، وَلِيَزُولَ الْخُلْفُ بَيْنَهُمَا فِي قَدْرِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ الْمُودِعِ كَانَ مُتَطَوِّعًا لَا يَرْجِعُ بِنَفَقَتِهِ، وَإِنْ قَدَّرَ لَهُ قَدْرًا رَجَعَ بِهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ تَقْدِيرُهَا لِأَنَّ لِنَفَقَتِهَا حَدًّا يُرَاعَى فِيهِ كِفَايَتُهَا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّقْدِيرِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الْآذِنُ فِي النَّفَقَةِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْمُسْتَوْدَعُ بِنَفْسِهِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِهَا إِذَا لَمْ يَدَّعِ سَرَفًا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ الرُّجُوعَ بِالنَّفَقَةِ حِينَ أَذِنَ فِيهَا فَفِي جَوَازِ رُجُوعِهِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِ الْإِذْنِ.
وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِاحْتِمَالِ الْإِذْنِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ عَلْفِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَدَعَ عَلْفَهَا، لِأَنَّهَا ذَاتُ نَفْسٍ يَحْرُمُ تَعْذِيبُهَا، وَنَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَقَالَ: " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجْبِرَ الْمَالِكَ عَلَى عَلْفِهَا إِنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي عَلْفِهَا لِيَرْجِعَ بِهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا، فَإِنْ عَلَفَهَا مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ تَرَكَهَا فَلَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى هَلَكَتْ فَالْمَحْكِيُّ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ،

(8/365)


وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنِ النَّفَقَةِ إِبْرَاءٌ مِنْ ضَمَانِ الذِّمَّةِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَضْمَنُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، لِأَنَّهُ شَرْطٌ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ فَكَانَ مُطْرَحًا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَأْثَمُ، وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي الْغُرْمِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ كَانَ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ عَنْ قَاتِلِهِ وَجْهَانِ، وَقَدْ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُمَا مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الرَّهْنِ إِذَا أُذِنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي وَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ: هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَهْرُ بِالْإِذْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فأما إِنْ أُمِرَ بِقَطْعِ يَدِهِ أَوْ جَلْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَجْهًا وَاحِدًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقَطْعِهِ حَدًّا فِي سَرِقَةٍ وَالْجَلَدُ حَدًّا فِي زِنًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا وَلَا يَنْهَاهُ فَعَلَيْهِ عَلْفُهَا، لِمَا يَلْزَمُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى هَلَكَتْ فِي مُدَّةٍ إِنْ لَمْ تَأْكُلْ فِيهِ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ غُرْمُهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا تَضَمَّنَ الْحِفْظَ دُونَ الْعَلْفِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فَلَمْ يَضْمَنْ، وَتَعَلُّقًا بِأَنَّهُ لَوْ رَأَى بَهِيمَةً تَتْلَفُ جُوعًا فَلَمْ يُطْعِمْهَا لَمَا ضَمِنَ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لَأَنَّ مَا وجب بالشرع فَهُوَ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْأَمْرِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْ تُتَّخَذَ الرُوحُ غَرَضًا " وَذَكَرَ فِي صَاحِبَةِ الْهِرَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ بِهَا النَّارُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْبَهِيمَةِ بِلَا عَلْفٍ، وَلِأَنَّ عَلْفَهَا مِنْ شُرُوطِ حِفْظِهَا، فَلَمَّا كَانَ حِفْظُهَا وَاجِبًا وَإِنْ جَازَ أَنْ تَبْقَى بغير حافظ أولى أَنْ يَكُونَ عَلْفُهَا وَاجِبًا إِذْ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى بِغَيْرِ عَلْفٍ، وَبِهَذَا بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ.
فَأَمَّا مَنْ رَأَى بَهِيمَةَ غَيْرِهِ تَمُوتُ جُوعًا فلم يطعمها فَإِنَّمَا لَمْ يَضْمَنْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ حفظها، وليس كَالْوَدِيعَةِ الَّتِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ عَلْفِهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَضْمَنُهَا إِنْ لَمْ تُعْلَفْ فَالطَّرِيقُ إِلَى رُجُوعِهِ بِعَلْفِهَا أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَنْظُرَ حَالَ مَالِكِهَا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا أَلْزَمَهُ عَلْفُهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا نُظِرَ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ لَهُ مِنْ بَيْعِهَا إِنْ خَافَ أن يذهب في علفها أكثر منها أو النفقة عليها إن رأى ذَلِكَ قَلِيلًا، فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُسْتَوْدَعِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَقْدِيرُهَا لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَالِكِ لَوْ كَانَ هُوَ الْآذِنَ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى النَّفَقَةَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يُنَصِّبَ لَهُ أَمِينًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ؟ عَلَى وجهين ذكرناهما في " اللقطة "، فإن اتفق الْمُسْتَوْدَعُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَفِي رُجُوعِهِ بالنفقة ثلاثة أوجه:
أحدهما: يَرْجِعُ بِهَا أَشْهَدَ، أَوْ لَمْ يُشْهِدْ، لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، وَعَدَمِ مَنْ يَحْكُمُ بِهَا لَهُ.

(8/366)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا أَشْهَدَ، أَوْ لم يشهد، لأن لا يَكُونَ حَاكَمَ نَفْسَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ أشهد رَجَعَ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَرْجِعْ، لِأَنَّ الإشهاد غاية إمكانه.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ أَوْصَى الْمُودِعُ إِلَى أَمِينٍ لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَضَرَ الْمُسْتَوْدَعَ الْمَوْتُ، فَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا حَاضِرًا، أَوْ وَكِيلُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا أَنْ يُودِعَهَا، وَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا غَائِبًا وَلَيْسَ لَهُ وَكِيلٌ حَاضِرٌ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَاكِمٍ جَازَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا إِلَى أَمِينٍ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَاكِمِ فَفِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهَا غَيْرَهُ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّفَرِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْحَاكِمِ وَمَعَ وُجُودِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَارَ لَهَا أَمِينًا، فَإِنِ اخْتَارَ لَهَا أَمِينًا قَدِ اخْتَارَهُ لِوَصِيَّةِ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ بِهَا وَجْهَانِ، وَإِنِ اخْتَارَ لَهَا أَمِينًا غَيْرَ مَنِ اخْتَارَهُ لِوَصِيَّةِ نَفْسِهِ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ إِلَى رَجُلٍ وَبَعْضِهِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ فِي عَلْفِ الدَّابَّةِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنِ اخْتَارَهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَظْهَرُ أَمَانَةً، قُلْنَا إِنْ أَوْصَى بِهَا إلى غير أمين لم يجز، سواء جَعَلَهُ وَصِيَّ نَفْسِهِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ عَلِمَ فِسْقَهُ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ فَإِنْ فَعَلَ، نُظِرَ فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ ضَمِنَهَا لِتَفْرِيطِهِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى هَلَكَتْ فَفِي ضَمَانِهِ لَهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ فِيهَا فِعْلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ سُلِّطَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا فَصَارَ ذَلِكَ عُدْوَانًا فَوَجَبَ الضَّمَانُ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا حَتَّى مَاتَ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِمُفَاجَأَةِ الْمَوْتِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا ضَمِنَ - وَبِاللَّهِ التوفيق -.
مسألة:
قال الشافعي: " فَإِنِ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةٍ آهِلَةٍ إِلَى غَيْرِ آهِلَةٍ ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِ هَذَا اللَّفْظِ، فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ: " وَلَوِ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةِ أَهْلِهِ " يَعْنِي: كَثِيرَةَ الْأَهْلِ " إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ " يَعْنِي: قَلِيلَةَ الْأَهْلِ.
وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: " وَلَوِ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةِ أَهْلِهِ " يَعْنِي: وَطَنَ أَهْلِهِ إِلَى غَيْرِ وَطَنِ أَهْلِهِ.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْقَرْيَةِ الَّتِي انْتَقَلَ إِلَيْهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً أَوْ غَيْرَ آمِنَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ آمِنَةٍ كَانَ ضَامِنًا بِنَقْلِ الْوَدِيعَةِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ آمِنَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ

(8/367)


قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً ضَمِنٍ لِمَا فِي نَقْلِهَا مِنْ إِبْعَادِهَا عَنْ مَالِكِهَا، فَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً لَمْ يَخْلُ حَالُ الطَّرِيقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ آمِنًا أَوْ مَخُوفًا فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ آمِنًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَرْيَةِ الَّتِي انْتَقَلَ عَنْهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَخُوفَةً أَوْ آمِنَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَخُوفَةً لَا يُأْمَنُ عَلَى الْوَدِيعَةِ فِيهَا مِنْ غَارَةٍ أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ غَرَقٍ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَتْ آمِنَةً فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إنه لا يَضْمَنُ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ اللُّقَطَةِ، وَكَمَا لَوْ نَقَلَهَا مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى أُخْرَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، أَنَّهُ يَضْمَنُ، لأن في إخراج المال عن القرية تغرير لم تدع إليه ضرورة.

مسألة:
قال الشافعي: " وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَأَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ فَإِنْ كَانَ ضَرُورَةً وَأَخْرَجَهَا إِلَى حِرْزٍ لَمْ يَضْمَنْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ حَالِ الْمُودِعِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ لِلْمُسْتَوْدَعِ عَلَى حِرْزٍ أَوْ لَا يُعَيِّنَ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى حِرْزٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِزَهَا حِرْزَ مِثْلِهَا، وَيَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ إِلَى حِرْزٍ مِثْلِهِ أَوْ آخَرَ لِضَرُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْلُ مَخُوفًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يُحْرِزَهَا حَيْثُ شَاءَ فَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَهَا حَيْثُ شَاءَ وَسَوَاءٌ أَحْرَزَهَا مَعَ مَالِهِ أَوْ نَقَلَهَا مَعَ غَيْرِ مَالِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ مَتَى أَحْرَزَهَا مَعَ غَيْرِ مَالِهِ أَوْ نَقَلَهَا مَعَ غَيْرِ مَالِهِ ضَمِنَ كَالدَّابَّةِ.

فَصْلٌ:
فإن عين على حرز يحرزها فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ إخراجها من ذلك الحرز [أو لا ينهاه، فإن لم ينهاه عن إخراجها من الْحِرْزِ] الَّذِي عَيَّنَهُ جَازَ إِحْرَازُهَا فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ حِرْزًا لِمِثْلِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ مَالِكَهَا بِالتَّعْيِينِ قَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أحدهما: لضرورة أمن غَشَيَانِ نَارٍ، أَوْ حُدُوثِ غَارَةٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ فِي إِخْرَاجِهَا مَأْمُونًا، وَلَوْ تَرَكَهَا مَعَ حُدُوثِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ لَكَانَ لَهَا ضَامِنًا، لِأَنَّهُ فَرَّطَ بِتَرْكِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُلَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ حَدَثَتْ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحِرْزِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَالْحِرْزُ الَّذِي نُقِلَتْ إِلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ غَيْرَ حَرِيزٍ وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ حَرِيزًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ حَرِيزًا وَالْمَنْقُولُ غَيْرَ حَرِيزٍ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ غَيْرَ حَرِيزٍ وَالْمَنْقُولُ غَيْرَ حَرِيزٍ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ عَنِ التَّعْيِينِ إِلَى غَيْرِهِ اخْتِيَارًا.

(8/368)


وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ حَرِيزًا وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ حَرِيزًا، فَيُنْظَرُ فِي الْحِرْزِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْوَدِيعَةِ جَازَ نَقْلُهَا وَلَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْإِحْرَازِ دُونَ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّ الْوَدِيعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ نَقْلُهَا وَلَا يَضْمَنُهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحِفْظِ الْمُعْتَبَرِ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَيَضْمَنُهَا اعْتِبَارًا بِالتَّعْيِينِ الْقَاطِعِ لِلِاخْتِيَارِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ نَقَلُهَا اعْتِبَارًا بِالتَّعْيِينِ الْقَاطِعِ لِلِاخْتِيَارِ.

فَصْلٌ:
وَإِنْ نَهَاهُ مَعَ التَّعْيِينِ عَلَى الْحِرْزِ عَنْ إِخْرَاجِهَا مِنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحِرْزِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمُودِعِ أَوِ الْمُسْتَوْدَعِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُودِعِ فَسَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا شَرْطُهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَوْدَعِ نَقْلُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ نَقَلَهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ ضَمِنَهَا، سَوَاءٌ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، ضَمِنَ أَوْ نَقَلَهَا مَنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ ضَمِنَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ ضَمِنَ وَإِنْ نَقْلَهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ لَمْ يَضْمَنِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الدُّورَ الْمُخْتَلِفَةَ قَدْ تَتَبَايَنُ فِي الْإِحْرَازِ، وَالْبُيُوتُ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ لَا تَتَبَايَنُ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبُيُوتَ مِنَ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي الْحِرْزِ كَاخْتِلَافِ الدُّورِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي نَقْلِهَا مَعَ التَّعْيِينِ تَصَرُّفًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَصَارَ بِهِ مُتَعَدِّيًا، وجملة ذلك أن له في نقلها مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَالثَّانِي: مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وَالثَّالِثُ: مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ، وَالرَّابِعُ: مِنْ صُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ، فَعِنْدَنَا يَضْمَنُ إِذَا نَقَلَهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ التَّعْيِينِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة يَضْمَنُ فِي حَالَتَيْنِ فِي الْبَلَدِ وَالدَّارِ، وَلَا يَضْمَنُ فِي حَالَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ وَالصُّنْدُوقِ، وَإِنْ كَانَ الْحِرْزُ لِلْمُسْتَوْدَعِ فَفِي لُزُومِ مَا شَرَطَهُ لِلْمُودِعِ عَلَيْهِ مِنْ أن لا يحرزها منه وجهان:
أحدهما: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّهُ شَرْطٌ وَاجِبٌ، وَمَتَى أَخْرَجَهَا مِنْهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ، لِأَنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَرْضَ لِإِحْرَازِ مَالِهِ إِلَّا مَا عَيَّنَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَجِبُ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَهُ لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحِرْزَ وَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ إِلَّا الْحِفْظَ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ فِيهِ مِنْ غَشَيَانِ نَارٍ أَوْ حُدُوثِ حَرِيقٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنُصَّ الْمُودِعُ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنُصَّ، فَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَهَى عَنْ إِخْرَاجِهَا مِنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ جَازَ مَعَ حُدُوثِ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ الْمُتَجَدِّدَةِ إِخْرَاجُهَا، لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ إِخْرَاجِهَا إِنَّمَا هُوَ لِفَرْطِ الِاحْتِيَاطِ فِي حِفْظِهَا، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهَا فِي مَكَانٍ يُفْضِي إِلَى تَلَفِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا وَلَمْ يَنْقُلْهَا حَتَّى

(8/369)


تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِتَفْرِيطِهِ بِالتَّرْكِ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْهُ، وَإِنْ غَشِيَتْ نَارٌ، أَوْ حَدَثَتْ غَارَةٌ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَشَيَانِ النَّارِ كَانَ هذا فيه شَرْطًا بَاطِلًا، وَلَزِمَ إِخْرَاجُهُ مَعَ النَّهْيِ عَنْهُ، كَمَا يَلْزَمُ عَلْفُهُ، وَإِنْ نَهَى عَنْهُ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ كَالدَّابَّةِ إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْلِفَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا يُخَافُ تَلَفُ نَفْسِهِ فَفِي لُزُومِ شَرْطِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ الْمَحْكِيَّيْنِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي الْوَكِيلِ إِذَا وُكِّلَ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ يَعْنِيهِ بِعَشَرَةٍ فَاشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ شِرَائِهِ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَإِنْ نَهَاهُ فَفِي لُزُومِ شَرْطِ وَصِحَّةِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ، وَالشِّرَاءَ بَاطِلٌ كَذَلِكَ هَذَا الشَّرْطُ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَخْرُجُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ لِقَطْعِ الِاجْتِهَادِ بِالنَّصِّ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخْرَجَهُ ضَمِنَ وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَضْمَنْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاحْتِيَاطِ فِي نَصِّهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخْرَجَهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الدَّابَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْ عَلْفِهَا إِذَا لَمْ يَعْلِفْهَا، فَأَمَّا مُؤْنَةُ إِخْرَاجِهَا وَنَقْلِهَا فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَانَ كَالْعَلْفِ عَلَى مَا مَضَى.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " ولو قال المودع أَخْرَجْتُهَا لَمَّا غَشِيَتْنِي النَّارُ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ نَارٌ أَوْ أثر يدل فالقول قول مَعَ يَمِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ مِنْ حِرْزٍ شُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُودِعُ وَالْمُسْتَوْدَعُ فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ أَخْرَجْتُهَا لِنَارٍ غَشِيَتْ أَوْ لِغَارَةٍ حَدَثَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ، وَقَالَ الْمُودِعُ: بَلْ أَخْرَجْتَهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ فَعَلَيْكَ الضَّمَانُ فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي غَشَيَانِ النَّارِ وَحُدُوثِ الْغَارَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَهُ عِيَانًا أَوْ خَبَرًا أَوْ يَرَى لِذَلِكَ أَثَرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَخْرَجَهَا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ وَإِنْ عَلِمْنَا حَالَ الْعُذْرِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُ لَهَا لِغَيْرِ هَذَا الْعُذْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُدُوثُ ذَلِكَ فِي دَارِهِ أَوْ فِي جِوَارِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ حُدُوثِ النَّارِ وَالْغَارَةِ فَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ، بِيَقِينِ كَذِبِهِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُودِعِ، لِاسْتِحَالَةِ الدَّعْوَى.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَيُقَالُ لِلْمُسْتَوْدَعِ أَلَا عَلِمْتَ مِنَ الْحَالِ السَّلَامَةَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ إِخْرَاجِكَ التَّعَدِّي، فَإِنْ

(8/370)


أَقَمْتَ بَيِّنَةً بِحُدُوثِ الْخَوْفِ يَنْتَقِلُ بِهَا عَنِ الظَّاهِرِ جَعَلْنَا حِينَئِذٍ الْقَوْلَ قَوْلَكَ مَعَ يَمِينِكَ بِأَنَّكَ أَخْرَجْتَهَا بِغَشَيَانِ النَّارِ وَحُدُوثِ الْغَارَةِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ تَنْقُلُنَا عَنِ الظَّاهِرِ غَلَّبْنَا حُكْمَ الظَّاهِرِ وَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُودِعِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي النَّاحِيَةِ نَارًا وَلَا غَارَةً، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، وَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلْوَدِيعَةِ، فَأَمَّا إِنْ نَقَلَهَا خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ غَارَةٍ أَوْ نَارٍ فَلَمْ تَحْدُثْ غَارَةٌ ولم تغشى نَارٌ فَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتُ صِدْقِ دَعْوَاهُ ظَاهِرَةً وَدَوَاعِيهِ غَالِبَةً لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ ظَنًّا وتوهما ضمن.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ دَفَعْتُهَا إِلَى فُلَانٍ بِأَمْرِكَ فَالْقَوْلُ قول المودع وَلَوْ قَالَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُسْتَوْدَعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَالِكِهَا.
وَالثَّانِيةُ: أَنْ يَدَّعِيَ دَفْعَهَا إِلَى غَيْرِ مَالِكِهَا بِإِذْنِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُودِعُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ لِلْوَدِيعَةِ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الْمُودِعُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ فِي الرَّدِّ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِ قبل قَوْلَهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَتِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ مَقْبُولًا مَعَ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولًا مَعَ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولًا فِي الْحَالَيْنِ، وَقَوْلُ الْمُقْرِضِ وَالْمُسْتَعِيرِ في الرد غير مقبول في الحالين، كان الْمُسْتَوْدَعُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ فِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولًا فِي الْحَالَيْنِ أَوْ مردودا في الحالين، فلما كان في أحد الْحَالَيْنِ مَقْبُولًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخَرِ مَقْبُولًا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي الرَّدِّ فإنما يقبل مَا كَانَ عَلَى أَمَانَتِهِ، فَلَوْ ضَمِنَهَا بِتَفْرِيطٍ أَوْ عُدْوَانٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ، وكان القول قول المودع مع يمينه، وله الغرم، وهكذا لو مات المودع فادعى المستودع رد الوديعة على وارثه لم يقبل قوله، لأنه وإن لم يصر بموت المودع ضَامِنًا فَقَدْ صَارَ بِمَوْتِهِ خَارِجًا مِنْ عَقْدِ الوديعة [وولاية النظر، ولأنه يصير مدعيا للرد على غير من ائتمنه فصار كالوصي الذي لا يقبل قوله في رد مال اليتيم عليه، وهكذا لو مات المستودع فادعى وارثه رد الوديعة] على المودع لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ: ارْتِفَاعُ الْعَقْدِ بِالْمَوْتِ، وَعَدَمُ الِائْتِمَانِ فِي الْوَارِثِ.

(8/371)


فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُودَعِ بِأَمْرِ الْمُودِعِ فَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَى الْمُودِعِ مِنَ الْأَمْرِ وَالدَّفْعِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ، كَمَا لَوِ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَلَى أَمَانَتِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ عَلَى الْمُودِعِ الَّذِي لَيْسَ بِمَدْفُوعٍ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَرِينَةٌ وَدَلِيلٌ أَنَّهُ قَدِ ادَّعَى عَلَى الْمَدْفُوعِ إِذْنًا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ، وَفِي ادِّعَاءِ الرَّدِّ يَكُونُ مُدَّعِيًا لِمَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ فَقِيلَ قَوْلُهُ فِيهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِذْنِ وَالدَّفْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُودِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِذْنِ أَوْ يُنْكِرَهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لِلْوَدِيعَةِ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى غَيْرِ مَالِكِهَا، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَوْ تَالِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقيَةً فَعَلَى الْمُسْتَوْدَعِ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ وَرَدُّهَا عَلَى الْمُودِعِ الْمَالِكِ، وَلِلْمُودِعِ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِالرَّدِّ، وَإِنْ لَزِمَ فِي الرَّدِّ مُؤْنَةٌ الْتَزَمَهَا الْمُسْتَوْدَعُ لِأَنَّ بِعُدْوَانِهِ لَزِمَتْ.
وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ تَالِفَةً - فَلَا يَخْلُو - حَالُ الْمَدْفُوعَةِ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِقَبْضِهَا أَوْ مُنْكِرًا، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ يَمِينٌ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَدَّعِيهَا عَلَيْهِ، وَالدَّافِعُ مُقِرٌّ له بالإبراء إلا أن يدعي دفعها إِلَيْهِ قَرْضًا أَوْ عَارِيَةً وَلَا وَدِيعَةً فَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، ثُمَّ لِلْمُودِعِ الرُّجُوعُ بِغُرْمِهَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مُقِرًّا بِقَبْضِهَا مِنْهُ فَالْمُودِعُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ بِغُرْمِهَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ كَانَ لَهُ، لِعُدْوَانِهِ بِالدَّفْعِ، وَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ كَانَ لَهُ، لِعُدْوَانِهِ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا وَأَرَادَ الْغَارِمُ لَهُمَا الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى صَاحِبِهِ نُظِرَ فِي سَبَبِ الدَّفْعِ فَسَتَجِدُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ أَمَرَنِي بِدَفْعِهَا قَرْضًا.
وَالثَّانِي: عَارِيَةً.
وَالثَّالِثُ: قَضَاءً مِنْ دَيْنٍ.
وَالرَّابِعُ: هِبَةً.
وَالْخَامِسُ: وَدِيعَةً، فَإِنْ قَالَ: أَمَرَنِي بِدَفْعِهَا قَرْضًا، أَوْ عَارِيَةً فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الضَّمَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ رَجَعَ بِالْغُرْمِ عَلَى الدَّافِعِ، رَجَعَ الدَّافِعُ بِهِ عَلَى

(8/372)


الْآخِذِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآخِذِ لَمْ يَرْجِعِ بِالْأَخْذِ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ، وَإِنْ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا قَضَاءً مِنْ دَيْنٍ فَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ مُعْتَرِفًا بِالدَّيْنِ وَحُلُولِهِ، وَكَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْغُرْمِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي دَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلدَّيْنِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْغُرْمِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ نُظِرَ فَإِنْ صَدَقَ الْآخِذُ فِي الدَّيْنِ لَمْ يَرْجِعِ الدَّافِعُ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآخِذِ لَمْ يَرْجِعِ الْآخِذُ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ عَلَى دَيْنِهِ أَوْ كذبه، وَإِنْ قَالَ الدَّافِعُ: أَمَرَنِي بِدَفْعِهَا هِبَةً، نُظِرَ [فإن رجع المودع بالغرم على الدافع لم يرجع الدافع على الآخذ، وإن رجع بالغرم على الآخذ لم يرجع الآخذ على الدافع، وإن قال الدافع: أمرني بدفعها وديعة نظر فإن رجع المودع على الدافع لم يرجع الدافع على الآخذ] وإن رَجَعَ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآخِذِ فَفِي رُجُوعِ الْآخِذِ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا رُجُوعَ لَهُ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهِ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّ الدَّافِعَ أَلْجَأَهُ إِلَى الْغُرْمِ بِائْتِمَانِهِ لَهُ وَدَفْعِهِ إِلَيْهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُودِعِ إِذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ.

فَصْلٌ:
وَإِنْ أَقَرَّ الْمُودِعُ أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ إليه مقرا بالقبض، فالدافع يتبرئ مِنَ الضَّمَانِ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمُودِعُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ كَذَّبَهُ، لِأَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ الْإِذْنُ وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ، وَالْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ الْقَبْضُ وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مُنْكِرًا لِلْقَبْضِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُودِعِ الْمُقِرِّ بِالْإِذْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِلدَّافِعِ أَوْ مُكَذِّبًا، فَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ فَالدَّافِعُ ضَامِنٌ، وَادِّعَاؤُهُ لِلدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمُودِعِ لِتَكْذِيبِهِ وَلَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ لِإِنْكَارِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ مُصَدِّقًا لَهُ عَلَى الدَّفْعِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَ الدَّفْعِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ الدَّفْعِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ، لِأَنَّ التَّوَثُّقَ بِالْإِشْهَادِ مَعَ حُضُورِ الْإِذْنِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ دُونَ الدَّافِعِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الدَّافِعِ تَفْرِيطٌ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ.
فَصْلٌ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ الْمُصَدِّقُ عَلَى الدَّفْعِ وَالْآذِنُ غَائِبًا عَنِ الدَّفْعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّفْعِ المأذون فيه من ستة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ قَرْضًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَارِيَةً وَالْحُكْمُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ سَوَاءٌ، وَالدَّافِعُ ضَامِنٌ لما دفع

(8/373)


وَإِنْ صَدَّقَهُ الْآذِنُ عَلَى الدَّفْعِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الدَّفْعِ لِيَتَمَكَّنَ الْآذِنُ بِالشَّهَادَةِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِ الْقَرْضِ وَقِيمَةِ الْعَارِيَةِ، فَصَارَ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ مُفْرِطًا فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا فَلَوْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فَمَاتَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِشْهَادِ قَدْ فَعَلَهُ، وَلَكِنْ لو كَانَ قَدْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فَمَاتَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِشْهَادِ قَدْ فَعَلَهُ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ عَبْدَيْنِ، أَوْ كَافِرَيْنِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَلَوْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فَاسِقَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِسْقُهُمَا ظَاهِرًا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ كَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِرَدِّهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ الْبَاطِنَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا الْحُكَّامُ لِفَضْلِ اجْتِهَادِهِمْ، فَلَوْ أَشْهَدَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَلَوْ أَشْهَدَ رَجُلًا وَاحِدًا لِيَحْلِفَ مَعَهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَيِّنَةٌ فِي الْأَمْوَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُ، لِأَنَّ مِنَ الْحُكَّامِ مَنْ لَا يَحْكُمُ بِهَا فَصَارَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا.

فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ قَضَاءً لِدَيْنٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُودِعِ فِيهِ شَهَادَةٌ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ بِالدَّفْعِ فَيَبْرَأُ الْمُودِعُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُودِعِ فِيهِ شَهَادَةٌ فَفِي ضمان الدافع فيه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ لِلْمُودِعِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الدَّيْنِ إِنْ طُولِبَ بِهِ فَيَبْرَأُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ ضَامِنٌ، لِأَنَّ إِذْنَهُ يَضْمَنُ دَفْعًا لَا يَتَعَقَّبُهُ مُطَالَبَةٌ وَلَا يَتَوَجَّهُ فِيهِ يَمِينٌ، فَصَارَ بِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الشَّهَادَةِ مُفَرِّطًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ هِبَةً.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ فِيهَا لَا تَسْتَحِقُّ لَمْ يَضْمَنِ الدَّافِعُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ مُسْتَحَقَّةٌ ضَمِنَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ اسْتِيدَاعًا لَهَا عِنْدَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِيمَنْ أَوْدَعَ لِغَيْرِهِ مَالًا:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ، لِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَمَرَهُ الْمُودِعُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُودِعِ الْآمِرِ بِالرَّدِّ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى يَدِ هَذَا الْمُسْتَوْدَعِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ وَلَا عُذْرٍ، فَيَكُونُ الأمر متعديا

(8/374)


ضَامِنًا، وَقَوْلُ الدَّافِعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَلْ يَكُونُ لِلْآمِرِ الرُّجُوعُ إِذَا أَغْرَمَهَا عَلَى الدَّافِعِ إِذَا لَمْ يُشْهِدْ عِنْدَ الدَّفْعِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرُدَّهَا بِغَيْرِ أَمْرٍ لَكِنْ بِعُذْرٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَالِ عُذْرِهِ بِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الدَّافِعِ الْمَأْمُورِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَوْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَيْهِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْآمِرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمَالِكَ قَدِ ائْتَمَنَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُقْبَلَ قوله عليه، ولم يأتمن المأمور فلم يقبل قوله عليه.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهَا بِأَمْرِ مَالِكِهَا، لَكِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يَرُدُّهَا مَعَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ إِذَا صَدَّقَهُ الْمَالِكُ فِي الرَّدِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْمَأْمُورُ لَهُ يَعْمَلُ ضَامِنًا لَهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ لَا فِي حَقِّ الْآمِرِ [عَلَى الدَّفْعِ إِلَى الْمَأْمُورِ، وَقَوْلُ الْمَأْمُورِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمَالِكِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ] .
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهَا بِأَمْرِ مَالِكِهَا وَتَعْيِينِهِ لَهُ عَلَى الْمَأْمُورِ أَنْ يَرُدَّهَا مَعَهُ، فَقَوْلُ الْمَأْمُورِ هَاهُنَا مَقْبُولٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ قَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّعْيِينِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ مُصَدِّقًا لِلْآمِرِ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمَأْمُورِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَالْآمِرُ ضَامِنٌ، وَقَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمَأْمُورِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَوَّلَهَا مِنْ خَرِيطَةٍ إِلَى أَحْرَزَ أَوْ مِثْلِ حِرْزِهَا لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَهَا ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
والحكم فِي نَقْلِ الْوَدِيعَةِ مِنْ خَرِيطَةٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ، كَنَقْلِهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ، وَمِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وإن خالفنا أبو حنيفة خلافا تقدم الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الْخَرِيطَةُ مَخْتُومَةً مَشْدُودَةً أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مَشْدُودَةً مَخْتُومَةً فَكَسَرَ خَتْمَهَا وَحَلَّ شَدَّهَا وَنَقَلَهَا إِلَى غَيْرِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلَوْ لَمْ يَنْقُلْهَا بَعْدَ كَسْرِ الْخَتْمِ وَحَلِّ الشِّدَادِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخَرِيطَةُ غَيْرَ مَشْدُودَةٍ وَلَا مَخْتُومَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْخَرِيطَةُ لِلْمُسْتَوْدَعِ، لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ مُرْسَلَةً فَأَحْرَزَهَا الْمُسْتَوْدَعُ فِي خَرِيطَةٍ فَلَهُ نَقْلُهَا إِلَى مِثْلِهَا أَوْ أَحْرَزَ، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا ضَمَانَ لِعُذْرٍ كَانَ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ نَقَلَهَا إِلَى أَدْوَنِ مِنْهَا مِمَّا لَا يَكُونُ حِرْزًا لَهَا ضَمِنَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْخَرِيطَةُ لِلْمَالِكِ، فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهَا مِنْ تِلْكَ الْخَرِيطَةِ إِلَى غَيْرِهَا إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَإِنْ نَقَلَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَ، سَوَاءٌ نَقَلَهَا إِلَى أَحْرَزَ مِنْهَا أَمْ لَا، وَإِنْ نَقَلَهَا مِنْ عُذْرٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ النَّقْلِ هَلْ هُوَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مع يمينه، لأن الظاهر إخراجها عدوان إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عُذْرٍ.

(8/375)


مسألة:
قال الشافعي: " ولو أَكْرَهَهُ رَجُلٌ عَلَى أَخْذِهَا لَمْ يَضْمَنْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى أَخْذِ الْوَدِيعَةِ.
فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي مَالِكِ مَالٍ أَرَادَ أَنْ يُودِعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ فَأَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأَخَذَهَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُ كَرْهًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا فِي الْأَخْذِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ عُدْوَانٌ أَوْ تَفْرِيطٌ فَيَضْمَنُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا، فَقَدْ صَارَ حِفْظُهَا عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِهَا فِي يَدِهِ واجب، فَإِذَا خَالَفَهُ ضَمِنَ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْتِزَامَ حِفْظِهَا سَلَّمَهَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَسَقَطَ الْحِفْظُ وَالضَّمَانُ عَنْهُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ مُمْتَنِعًا مِنَ اسْتِرْجَاعِهَا.

فَصْلٌ:
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، هِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ قَبِلَ وَدِيعَةً طَوْعًا ثم تغلب عليه متغلب فأكرهه عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهَا الْمُتَغَلِّبُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْفَعَهَا الْمُسْتَوْدَعُ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا، فَهَذَا غَيْرُ ضَامِنٍ لَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْأَيْدِي الْغَالِبَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَهَا بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقِيَ مَالَ غَيْرِهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ فَحْلٌ فَغَلَبَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَلْقَى فِي الْبَحْرِ مَالَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الصَّائِمِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ فَأَكَلَ بِنَفْسِهِ وَتَخْرِيجًا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهِمَا وَحَلَفَ إِنْكَارًا لَهَا فَإِنْ جَعَلْنَاهُ ضَامِنًا لِلدَّفْعِ كَانَتْ يَمِينُهُ يَمِينَ مُكْرَهٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حِنْثٌ، وَإِنْ لم نجعله ضَامِنًا بِالدَّفْعِ حَنِثَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهَا فَتُؤْخَذُ بِدَلَالَتِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ وَالْأَخْذَ مُبَاشَرَةٌ، فَصَارَ كَالْمُحْرِمِ إِذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ فِي الْوَدِيعَةِ مَمْنُوعٌ مِنَ العدوان والتفريط وَالدَّلَالَةُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَضَمِنَ بِهَا وَإِنْ كَانَ معذورا.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَرْقُدَ عَلَى صُنْدُوقٍ هِيَ فِيهِ فَرَقَدَ عَلَيْهِ كَانَ قَدْ زَادَهُ حِرْزًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَوْمُهُ عَلَى الصُّنْدُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْهَاهُ الْمَالِكُ عَنْهُ فَهُوَ زِيَادَةُ حِرْزٍ لَا يَضْمَنُ بِهِ إِجْمَاعًا، فَأَمَّا إِذَا نَهَاهُ عَنِ النَّوْمِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِنَهْيِهِ التَّخْفِيفَ عَنْهُ وَالتَّرْفِيهَ عَلَيْهِ، فَمَتَى نَامَ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْهُ.

(8/376)


وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِالنَّهْيِ عَنِ النَّوْمِ عَلَيْهِ الْكَرَاهَةَ خَوْفًا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، فَفِي ضَمَانِهِ إِذَا نَامَ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهُ حِرْزًا، فَصَارَ كَمَنْ أُودِعَ خَرِيطَةً فَجَعَلَهَا فِي خَرِيطَةٍ ثَانِيَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، يَضْمَنُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَالْإِغْرَاءِ بِهَا، وَهَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْفِلَهَا بِقُفْلٍ وَاحِدٍ فَقَفَلَهَا بِقُفْلَيْنِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفِنَهَا فِي أَرْضٍ لَيْسَ عَلَيْهَا حَائِطٌ فَدَفَنَهَا فِيهَا وَبَنَى عليها حائط كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا فِي بَيْتٍ لَا يَحْفَظُهُ أَحَدٌ فَأَقَامَ فِيهِ مَنْ يَحْفَظُهُ فَسُرِقَتْ، فَإِنْ كَانَ الْحَافِظُ لَهَا سَرَقَهَا ضَمِنَ، وَإِنْ سَرَقَهَا غَيْرُهُ فضمانه على وجهين.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنْتَ اسْتَوْدَعْتَنِيهِ فَهَلَكَ ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا فَجَحَدَهَا وَقَالَ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ فَاعْتَرَفَ بِهَا وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ اسْتُودِعْتُهَا وَتَلِفَتْ، أَوْ قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ فَادَّعَى بِتَلَفِهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْجَحْدِ مُتَعَدِّيًا فَضَمِنَهَا، وَمَنْ ضَمِنَ وَدِيعَةً لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْغُرْمُ بِتَلَفِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِالْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ قَدْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِادِّعَاءِ التَّلَفِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى تَلَفِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ، فَلَا تُسْمَعُ وَالْغُرْمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بَعْدَ الضمان ولو سأل إحلاف المودع أنه لا يَعْلَمُ بِتَلَفِهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِهَا قَبْلَ الْجُحُودِ، فَفِي اسْتِمَاعِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يسمح وَيَحْكُمُ بِهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْغُرْمُ، لِأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ ضَمَانِهَا بِالْجُحُودِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ وَلَا تُسْقِطُ عَنْهُ الْغُرْمَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَذَّبَ لَهَا بِالْجَحُودِ الْمُتَقَدِّمِ.

فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ حِينَ طُولِبَ بِالْوَدِيعَةِ: لَيْسَ لَكَ مَعِي وَدِيعَةٌ، أَوْ لَا حَقَّ لَكَ فِي يَدِي، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا وَادَّعَى تَلَفَهَا قُبِلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ ليس في القولين تكاذب، وَمَنْ تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْهُ فَلَا وَدِيعَةَ مَعَهُ وَلَا فِي يَدِهِ، وَخَالَفَ حَالُ الْمُنْكِرِ لَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَكَاذُبِ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

(8/377)


مسألة:
قال الشافعي: " وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَرْبِطَهَا فِي كُمِّهِ فَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَيَدُهُ أَحْرَزُ ".
قَالَ الماوردي: هكذا روى الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَيَدُهُ أَحْرَزُ، وَرَوَى الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ يَضْمَنُ وَكُمُّهُ أَحْرَزُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحْمِلُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَيَدُهُ أَحْرَزُ مِنْ كُمِّهِ، لِأَنَّهَا قَدْ تُسْرَقُ مِنْ كُمِّهِ وَلَا تُسْرَقُ مِنْ يَدِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ فِي " الْأُمِّ ": أَنَّهُ يَضْمَنُ وَكُمُّهُ أَحْرَزُ مِنْ يَدِهِ، لِأَنَّ الْيَدَ حِرْزٌ مَعَ الذِّكْرِ دُونَ النِّسْيَانِ، وَالْكُمُّ حِرْزٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ وَامْتَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَلَى أَنَّهُ رَبَطَهَا فِي كُمِّهِ ثُمَّ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ فَلَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ يَدَهُ مَعَ كُمِّهِ أَحْرَزُ مِنْ كُمِّهِ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الرَّبِيعِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يَرْبِطْهَا فِي كُمِّهِ فَيَضْمَنُ، لِأَنَّ كُمَّهُ أَحْرَزُ مِنْ يَدِهِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا فِي يَدِهِ فَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ فَمَنْ جَعَلَ يَدَهُ أَحْرَزَ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ جَعَلَ كُمَّهُ أَحْرَزَ خرج ضمانه عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصِّ الْمُودِعِ هَلْ يَقْطَعُ اجْتِهَادَ الْمُسْتَوْدَعِ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُحْرِزَهَا فِي جَيْبِهِ فَأَحْرَزَهَا فِي كُمِّهِ ضَمِنَ لِأَنَّ جَيْبَهُ أَحْرَزُ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يحرزها في كمه فأحرزها فِي جَيْبِهِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ وَدِيعَةً وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَهَا فِي كُمِّهِ وَلَا فِي جَيْبِهِ وَلَا فِي يَدِهِ فَإِنْ وَضْعَهَا فِي كمه وَرَبَطَهَا كَانَ حِرْزًا، سَوَاءٌ رَبَطَهَا مِنْ دَاخِلِ كُمِّهِ أَوْ مِنْ خَارِجِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ جَعَلَهَا فِي ظَاهِرِ كُمِّهِ وَرَبَطَهَا مِنْ دَاخِلِهِ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الرَّبْطِ دَاخِلَةً فِي كُمِّهِ، وَإِنْ جَعَلَهَا دَاخِلَ كُمِّهِ وَرَبَطَهَا مِنْ خَارِجِهِ ضَمِنَ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الرَّبْطِ خَارِجَةً مِنْ كُمِّهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْكُمَّ بِهِ يَصِيرُ حِرْزًا لَا بِانْفِرَادِهِ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ، فَأَمَّا إِنْ تَرَكَهَا فِي كُمِّهِ وَلَمْ يَرْبِطْهَا، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذلك خفيفا قد ربما يسقط مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ضَمِنَ وَإِنْ كان ثقيلا، ولا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ سُقُوطِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ تَرَكَ الْوَدِيعَةَ فِي جَيْبِهِ فَإِنْ لَمْ يَزُرَّهُ عَلَيْهَا ضَمِنَ، وَإِنْ زَرَّهُ عَلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ الْجَيْبَ أَحْفَظُ لَهَا إِذَا أَمِنَ سُقُوطَهَا مِنْهُ لِبُعْدِهِ مِنَ السَّارِقِ، فَلَوْ كَانَ الْجَيْبُ مَثْقُوبًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَسَقَطَتْ أَوْ حَصَلَتْ بَيْنَ قَمِيصِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَسَقَطَتْ ضَمِنَهَا، وَلَوْ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا كَانَتْ يَدُهُ أَحْرَزَ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا فَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا يَأْمَنُ السَّهْوَ عَنْهَا ضَمِنَ وَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ حِرْزًا، وَإِنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً يَأْمَنُ السَّهْوَ فِيهَا لَمْ يَضْمَنْ، فَأَمَّا الْخَاتَمُ إِذَا لَبِسَهُ فِي أُصْبُعِهِ كَانَتْ حِرْزًا إِذَا كَانَ مُتَمَاسِكًا فِي خِنْصَرِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاسِعًا لَمْ يَكُنْ حِرْزًا، وَلَوْ لَبِسَ الْخَاتَمَ الْمُسْتَقِرَّ فِي

(8/378)


خِنْصَرِهِ فِي الْبِنْصِرِ مِنْ أَصَابِعِهِ لَمْ يَضْمَنْ، لأنها أغلظ، ولو لبسه فِي الْإِبْهَامِ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا وَإِنْ غَلُظَتْ، وَلَوْ لَبِسَ الْخَاتَمَ فِي إِحْدَى يَدَيْهِ ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى الْيَدِ الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعَمَلٍ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَهُ بِتِلْكَ الْيَدِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سَبَبٍ ضَمِنَ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا حَمَلَ مَا فِي كُمِّهِ أَوْ جَيْبِهِ أَوْ يَدِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ فَعَلَيْهِ إِحْرَازُهُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ كُمُّهُ وَلَا جَيْبُهُ وَلَا يَدُهُ حِرْزًا لَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي مَنْزِلِهِ، فَإِنَّ مُنْزِلَهُ أَحْرَزُ لَهُ فَلَوْ خَرَجَ بِهَا فِي جَيْبِهِ أَوْ كُمِّهِ أَوْ يَدِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ ضَمِنَ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ فَحَمَلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ فَإِنْ كَانَ الدُّكَّانُ حِرْزًا لِمِثْلِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَمْ يَضْمَنْ إِذَا حَمَلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَهَكَذَا لَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَحَمَلَهَا إِلَى دُكَّانِهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْزِلُهُ حِرْزًا لِمِثْلِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِمِثْلِهَا وَكَانَ الدُّكَّانُ أَحْرَزَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَسُرِقَتْ فَإِنْ كَانَ وَضْعُهُ لَهَا ارْتِيَادًا لِمَوْضِعٍ مِنْ دُكَّانِهِ يُحْرِزُهَا فيه لم يضمن لعدم تفريطه، وَإِنْ كَانَ اسْتِرْسَالًا وَإِمْهَالًا ضَمِنَ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَأَحْرَزَهَا فِيهِ ثُمَّ دَخَلَ مَنْ سَرَقَهَا مِنْهُ فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِهِ ضَمِنَ إِذَا نَالَتْهَا يَدُهُ، وَلَوْ سَرَقَهَا بَعْضُ أَهْلِ مَنْزِلِهِ مِنْ زَوْجَةٍ، أَوْ خَادِمٍ، أَوْ وَلَدٍ نُظِرَ فِي سَارِقِهَا، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالسَّرِقَةِ ضَمِنَ، لِأَنَّ تَمْكِينَ مِثْلِهِ مِنْ مَنْزِلٍ فِيهِ وَدِيعَةٌ لِغَيْرِهِ أَوْ تَرْكَ الْوَدِيعَةِ فِي منزل تركها في مثل تَفْرِيطٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِذَلِكَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا مِنْ وَرَاءِ حِرْزٍ فِي الْمَنْزِلِ كَبَابٍ وَقُفْلٍ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى التَّفْرِيطِ، وَإِنْ كَانَتْ بَارِزَةً تَمْتَدُّ إِلَيْهَا يَدُهُ فِي الْمَنْزِلِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ دَرَاهِمَ أَوْ حُلِيًّا أَوْ ثِيَابًا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَكُونَ حِرْزُهَا فِي الْمَنَازِلِ مُفْرَدًا عَنْ مَوَاضِعِ سَاكِنِيهِ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ خَافِيًا لَا يُحْرَزُ مِثْلَهُ إِلَّا فِي ظَوَاهِرِ الْمَنَازِلِ لم يضمن والله أعلم (بالصواب) .

مسألة:
وَإِذَا هَلَكَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ بِعَيْنِهَا فَهِيَ لِرَبِّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرٍ عَنْهَا مِثْلَ دَنَانِيرَ أَوْ مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ حَاصَّ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْغُرَمَاءَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا مَوْتُ الْمُسْتَوْدَعِ فَمُبْطِلٌ لِعَقْدِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّ مَالِكَهَا لَمْ يَأْتَمِنْ وَارِثَهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا حَاضِرًا وَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ رَدُّهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا غَائِبًا لَزِمَ الْوَارِثَ إِعْلَامُ الحاكم بها حتى يأمره فيها بِمَا يَرَاهُ حَظًّا لِمَالِكِهَا مِنْ إِحْرَازِهَا فِي يَدِ الْوَارِثِ، أَوْ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحَاكِمُ بِهَا وَيَسْتَأْذِنْهُ فِيهَا ضَمِنَ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَزِمَ الْمُسْتَوْدَعَ رَدُّهَا عَلَى وَارِثِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْمَوْتِ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَالْوَارِثُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْوَارِثُ إِيدَاعَهَا عِنْدَهُ فَتَصِيرُ وَدِيعَةً مُبْتَدَأَةً، وَلَوْ أَنَّ الْمَالِكَ الْمُودِعَ جُنَّ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بالسفه لبطل الْوَدِيعَةُ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ رَدُّهَا عَلَى وَلِيِّهِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ أَنْ يَكُونَ ذَا نَظَرٍ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ

(8/379)


الْمُسْتَوْدَعُ ذَلِكَ ضَمِنَ، وَلَوْ جُنَّ الْمُسْتَوْدَعُ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ كَانَ عَلَى وَلِيِّهِ رَدُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى رَبِّهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَهَا الْوَلِيُّ، لِزَوَالِ الِائْتِمَانِ بِطُرُوءِ الْجُنُونِ وَالسَّفَهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَمَاتَ الْمُسْتَوْدَعُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً بِعَيْنِهَا أَوْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَعَيْنُهَا بَاقِيَةٌ لَزِمَ الْوَارِثَ تَسْلِيمُهَا إِلَى مَالِكِهَا وَذَلِكَ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ.
إِمَّا بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، وَإِمَّا بِإِقْرَارِ الوارث، وإما ببينة يضمها الْمُودِعُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً وَلَا وَصِيَّةً وَأَنْكَرَ الْوَارِثُ وَادَّعَاهَا مِلْكًا فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مَوْجُودَةً بِعَيْنِهَا فَأَمَّا إِذَا لَمْ تُوجَدِ الْوَدِيعَةُ بِعَيْنِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ تَلَفُهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ إِمَّا بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ أَكْذَبَ الْمَالِكُ الْمَيِّتَ فِي وَصِيَّتِهِ بِتَلَفِهَا فَلَهُ إِحْلَافُ الْوَرَثَةِ ثُمَّ هُمْ بَرَاءٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهَا تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ وَتَعَدِّيهِ إِمَّا بِوَصِيَّةٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ وَيُحَاصُّ الْمَالِكُ بِهَا جَمِيعَ الْغُرَمَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْهَلَ حَالُهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُحَاصُّ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْغُرَمَاءَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا أَنَّهَا تَلِفَتْ بِفِعْلِهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي تَرِكَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى أَمَانَتِهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا كَانَتْ مَضْمُونَةً فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ جِنْسِهَا شَيْءٌ فِي تَرِكَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وهذا قول أبي حامد المروزي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ وُجُودِ جِنْسِهَا أَنَّهَا فِيهِ أَوْ مِنْهُ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَ فِي وَصِيَّتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً كَانَتْ مَضْمُونَةً فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ لَا يُوصِي بِالْوَدِيعَةِ إِلَّا وَهِيَ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا صَارَتْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَضْمُونَةً فِي تَرِكَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِهَا شَيْءٌ حَاصَّ رَبُّ الْوَدِيعَةِ بِهَا جَمِيعَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ شيء من جنسها فيه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَتَقَدَّمُ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ اعْتِبَارًا بالظاهر من الجنس أنه منها.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ أُسْوَتَهُمْ وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمُ اعتبارا باليقين في الاشتراك.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ الْوَدِيعَةَ مِثْلَ عَبْدٍ أَوْ بَعِيرٍ فَقَالَ هِيَ لِأَحَدِكُمَا وَلَا أَدْرِي أَيُّكُمَا هُوَ قِيلَ لَهُمَا هَلْ تَدَّعِيَانِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا بِعَيْنِهِ؟ فَإِنْ قَالَا لَا أُحْلِفَ الْمُودَعُ بالله

(8/380)


مَا يَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ وَوَقَفَ ذَلِكَ لَهُمَا جَمِيعًا حَتَى يَصْطَلِحَا فِيهِ أَوْ يُقِيمُ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً وَأَيُّهُمَا حَلَفَ مَعَ نُكُولِ صَاحِبِهِ كَانَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بِيَدِهِ عَبْدٌ أَوْ بِعِيرٌ ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إِيَّاهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي جَوَابِهِ لَهُمَا مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُنْكِرَهُمَا وَيَدَّعِيَهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُنْكِرَهُمَا وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِغَيْرِهِمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لَهُمَا مَعًا.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا لا يعرفه بعينه.
والسادس: أن يقر بأنه وَدِيعَةٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مُودِعَهَا هَلْ هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا؟ أَوْ غَيْرُهُمَا؟ .
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَهُمَا وَيَدَّعِيَهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِينَ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهَا لَهُ بريء مِنْ مُطَالَبَتِهَا وَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِينَ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهِمَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَإِنْ سَبْقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَةِ بَرِئَ بِإِحْلَافِهِ. وَإِنِ ادَّعَيَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقَدِّمُ بِالْقُرْعَةِ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِي: يُقَدِّمُ بِاجْتِهَادِهِ مَنْ رَأَى مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ قَضَى بِهَا لِلْحَالِفِ دُونَهُ النَّاكِلُ، وَإِنْ نَكَلَا مَعًا فَلَا حَقَّ فِيهِمَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِلْكًا وَإِنْ حَلَفَا مَعًا نُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا مِلْكًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُوَقَّفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا.

فصل:
وأما القسم الثاني: وهو أن ينكرهما وَيُقِرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِغَيْرِهِمَا فَلِلْمُدَّعِينَ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْأَلَاهُ عَنْ مَالِكِهَا.
وَالثَّانِيةُ: أَنْ لَا يَسْأَلَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْأَلَاهُ عَنْ مَالِكِهَا جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُ، وَكَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهَا لَهُمَا، وَلَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُحَلِّفُهُ أَنَّهَا لِغَيْرِهِمَا، فَإِنْ حَلَفَ أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً لِمَنْ يُقِرُّ لَهُ بِهَا، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً لِمَنْ هِيَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ سُلِّمَتْ إِلَى الْحَالِفِ مِنْهُمَا، ثُمَّ نَظَرَ الْحَاكِمُ فَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مما لا تنقل لم يطالب المدفوعة إلي بِكَفِيلٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُنْقَلُ طَالَبَهُ بِكَفِيلٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ، لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِغَائِبٍ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِقْرَارٌ وَلَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ.

(8/381)


وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُنْزَعُ من يده ويقسم بَيْنَهُمَا، وَيُطَالِبُهُ الْحَاكِمُ بِكَفِيلٍ لِمَالِكِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُوقَفُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا تنتزع من يده، فإن قالا الْمُدَّعِيَانِ لَا نَرْضَى بِأَمَانَتِهِ ضَمَّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا يَرْضَيَانِ بِهِ، وَإِنْ سَأَلَ الْمُدَّعِيَانِ صَاحِبَ اليد عن مالكها حين أقر بها لغيرهما وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا أَنْ يَذْكُرَهُ، وَلَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا، لِأَنَّ ذِكْرَ الْحَاضِرِ يُفِيدُ، وَذِكْرَ الْغَائِبِ لَا يُفِيدُ، وإذا كان هذا سَأَلَهُ الْحَاكِمُ أَحَاضِرٌ مَالِكُهَا أَمْ غَائِبٌ؟ (فَإِنْ قَالَ: غَائِبٌ) لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ قَالَ: حَاضِرٌ، سَأَلَهُ عَنْهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ صَارَ هُوَ الْخَصْمُ فِي الْوَدِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَذْكُرَهُ، لِامْتِنَاعِهِ مِنْ بَيَانِ مَا لَزِمَهُ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا القسم الثالث: وهو أن يُقِرُّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وفي وجوب اليمين عليه قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْيَمِينُ، لِإِنْكَارِهِ الْآخَرَ.
وَالثَّانِي: أنه لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ فَهِيَ لِلْمُصَدَّقِ مِنْهُمَا، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ الْمُكَذَّبُ الدَّعْوَى عَلَى الْمُصَدَّقِ سُمِعَتْ مِنْهُ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الْمُكَذَّبِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا اسْتَقَرَّتِ الْوَدِيعَةُ مَعَ الْمُصَدَّقِ، وَإِنْ حَلَفَ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
أحدهما: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ يَمِينَ الْمُكَذَّبِ بَعْدَ النُّكُولِ تُسَاوِي الْإِقْرَارَ لِلْمُصَدِّقِ فَاسْتَوَيَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُنْتَزَعُ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ وَتُوقَفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهَا لِلْأَوَّلِ وَيُغَرَّمُ لِلْمُكَذِّبِ الْحَالِفِ بَعْدَ نُكُولِهِ قِيمَتَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ الْمُتَقَدِّمِ كَالْمُتْلِفِ لَهَا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لَهُمَا مَعًا فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ، وَقَدْ صَارَ مُصَدِّقًا لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى النِّصْفِ مُكَذِّبًا لَهُ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ، فَهَلْ يَحْلِفُ فِي تَكْذِيبِهِ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ يمين أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، ثُمَّ الْجَوَابُ إِنْ حَلَفَ أَوْ نَكَلَ عَلَى مَا مَضَى، فَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا وَاسْتَأْنَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الدَّعْوَى عَلَى صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ الَّذِي بِيَدِهِ سُمِعَتْ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَا عِلْمَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَدَّعِيَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَا عِلْمَهُ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَيَتَحَالَفُ عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَانِ،

(8/382)


فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى يَصْطَلِحَا وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا حُكِمَ بِهِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُوقَفُ في يد صاحب اليد حتى يصطلحا، وإن ادَّعَيَا عِلْمَهُ أُحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِمَنْ هِيَ مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَتَحَالَفَ الْمُدَّعِيَانِ، فَإِنْ نَكَلَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّهُ قَالَ: أُقَسِّمُ الْوَدِيعَةَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ وَأُغَرِّمُهُ الْقِيمَةَ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ إِنْ نَكَلَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قِيلَ لَهُمَا هَلْ تَدَّعِيَانِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا بِعَيْنِهِ؟ فَإِنْ قَالَا: لَا، أُحْلِفَ، وَوُقِفَ ذَلِكَ لَهُمَا رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُغَرَّمُ الْقِيمَةَ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا مَا ادَّعَيَا إِلَّا وَدِيعَةً عَيْنُهَا بَاقِيَةٌ وَلَمْ يَسْتَهْلِكْهَا عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْإِقْرَارِ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَكَيْفَ يُغَرَّمُ قِيمَةً لَا يَدَّعِيَانِهَا وَمَا ادَّعَيَاهُ كَانَ لَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ فَإِحْلَافُ الْمُسْتَوْدَعِ لَا يُفِيدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ شَيْئًا، لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ إِنْ نَكَلَ؟ قِيلَ قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ لِأَجْلِ هَذَا إلى أن اليمين غير واجبة، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى وُجُوبِهَا، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا غُرِّمَ، وَقَدْ يَجُوزُ إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنْ يَنْزَجِرَ بِهَا فَيُبَيِّنُ عِلْمًا قَدْ كَتَمَهُ، فَعُلِمَ بِهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ [بَيَانٌ تَحَالَفَ الْمُدَّعِيَانِ، فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتِ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ] ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا قَضَى بِهَا لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا بِأَثْمَانِهِمَا.
وَالثَّانِي: يَكُونُ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا وَأَيْنَ تُوقَفُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ عَلَى مَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ.
وَالثَّانِي: ينتزع مِنْ يَدِهِ وَيُقِرُّهَا الْحَاكِمُ فِي يَدِ مَنْ يَرْضَيَانِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ قَدْ صَارَ بِالنُّكُولِ وَالْإِنْكَارِ خَصْمًا.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ وَلَيْسَ يَعْلَمُ هَلْ هِيَ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، ثُمَّ يَتَحَالَفُ الْمُتَدَاعِيَانِ فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَهَلْ يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ بِكَفِيلِ الْمَالِكِ لَهَا لَوْ حَضَرَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْوَارِثِ إِذَا دُفِعَتْ إِلَيْهِ التَّرِكَةُ وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بَعْدَ طُولِ الْكَشْفِ بِأَنْ لَا وارث سواه، وإن حلف مَعًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وجهان.
والثاني: أنهما تُوقَفُ، وَفِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى يَدِهِ وَجْهَانِ.

(8/383)


فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلًا دَابَّةً ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي رُكُوبِهَا جَازَ أَنْ يَرْكَبَهَا، ثُمَّ هُوَ قَبْلَ الرُّكُوبِ مُسْتَوْدَعٌ لَا يَضْمَنُ، فَإِذَا رَكِبَ صَارَ مُسْتَعِيرًا ضَامِنًا، فَإِنْ تَرَكَ الرُّكُوبَ لن يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالرَّدِّ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُودِعُ بَعْدَ الْكَفِّ عَنِ الرُّكُوبِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهَا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي سُقُوطِهِ عَنْهُ بَعْدَ تَسْلِيمِهَا وَجْهَانِ مِنْ عُدْوَانِ الْمُسْتَوْدَعِ إِذَا أُبْرِئَ مِنْهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَذِنَ الْمُودِعُ لِلْمُسْتَوْدَعِ فِي إِجَارَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا إِيَّاهُ فَهُوَ عَلَى أَمَانَتِهِ فِي يَدِهِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا وَسَلَّمَهَا فَقَدِ ارْتَفَعَتْ يَدُهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَوْ أَعَادَهَا بِإِذْنِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا مِنَ الْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهَا فِي الْإِجَارَةِ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ يَدِهِ بِعَقْدٍ وَاجِبٍ، وَفِي الْعَارِيَةِ بِعَقْدٍ جَائِزٍ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ وَدِيعَةً إِلَى صَبِيٍّ اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا كَانَ مُغَرَّرًا بِمَالِهِ، لأن الصبي لا يباشر حفاظ مَالِهِ فَكَيْفَ مَالُ غَيْرِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الصَّبِيِّ لَمْ يَخْلُ تَلَفُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَتْلَفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا جِنَايَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا، لِأَنَّ الْبَالِغَ لَا يَضْمَنُهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَتْلَفَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ضَمِنَهَا الْبَالِغُ، لِأَنَّ حِفْظَهَا لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ صَاحَبَهَا هُوَ الْمُفَرِّطُ دُونَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَتْلَفَ بِجِنَايَتِهِ، فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا فِي مَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَالِكَهَا هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى اسْتِهْلَاكِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثانِي: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ الِائْتِمَانَ عَلَيْهَا لَيْسَ بِإِذْنٍ فِي اسْتِهْلَاكِهَا، فَصَارَ كَمَنْ أَبَاحَ صَبِيًّا شُرْبَ مَاءٍ فِي دَارِهِ وَأَكْلَ طَعَامِهِ فَدَخَلَ وَاسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْدَعَ صَبِيٌّ رَجُلًا وَدِيعَةً لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا نَظَرَ لَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا الرَّجُلُ مِنْهُ ضَمِنَهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى وَلِيِّهِ، أَوِ الْحَاكِمِ فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى الصَّبِيِّ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ عَنْهُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَخْذِ الْوَدِيعَةِ مِنَ الصَّبِيِّ خَائِفًا عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا فَأَخَذَهَا لِيَدْفَعَهَا إِلَى وَلِيِّهِ أَوْ إِلَى الْحَاكِمِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ فَفِي ضَمَانِهِ لَهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ قَصَدَ خَلَاصَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهَا، لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُحْرِمِ إِذَا خَلَّصَ طَائِرًا فِي جَارِحٍ أَوْ حَيَّةٍ فَتَلِفَ، فَفِي ضمانه بالجزاء قولان - والله أعلم بالصواب -.
آخر كتاب الوديعة والحمد لله كثيرا ولله العصمة.

(8/384)


مُخْتَصَرٌ مِنْ كِتَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَقَسْمِ الْغَنَائِمِ

مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَصْلُ مَا يَقُومُ به الولاة من جمل الْمَالِ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ تَطْهِيرًا لَهُ فَذَلِكَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ مَا أُخِذَ من مال مشرك كلاهما مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفعله فأحدهما الغنيمة قال تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] . الآية. والوجه الثاني هو الفيء قال الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} [الحشر: 7] الآية. (قال الشافعي) رحمه الله: فالغنيمة والفيء يجتمعان في أن فيهما معا الخمس من جميعهما لمن سماه الله تعالى له في الآيتين معا سواء ثم تفترق الأحكام في الأربعة الأخماس بما بين الله تبارك وتعالى على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي فعله فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة على ما وصفت من قسم الغنيمة وهي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير والفيء هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فَكَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قرى عربية أفاءها الله عليه أربعة أخماسها لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاصة دون المسلمين يضعه حيث أراه الله تعالى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حيث اختصم إليه العباس وعلي رضي الله عنهما فِي أَمْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاصة دون المسلمين فكان يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فوليها أبو بكر بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم وليها عمر بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبو بكر فوليتكماها على أن تعملا فيها بمثل ذلك فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي أكفيكماها (قال الشافعي) وفي ذلك دلالة على أن عمر رضي الله عن حكى أن أبا بكر وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ما رأيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعمل به فيها وأنه لم يكن لهما مما لم يوجف عليه من الفيء ما للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأنهما فيه أسوة المسلمين وكذلك سيرتهما وسيرة من بعدهما وقد مضى من كان ينفق عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم أعلم أحدا من أهل العلم قال إن

(8/385)


ذلك لورثتهم ولا خالف في أن تجعل تلك النفقات حيث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجعل فضول غلات تلك الأموال فيما فيه صلاح للإسلام وأهله قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يقتسمن ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة " قال فما صار في أيدي المسلمين من فيء لم يوجف عليه فخمسه حيث قسمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأربعة أخماسه على ما سأبينه وكذلك ما أخذ من مشرك من جزية وصلح عن أرضهم أو أخذ من أموالهم إذا اختلفوا في بلاد المسلمين أو مات منهم ميت لا وارث له أو ما أشبه هذا مما أخذه الولاة من المشركين فالخمس فيه ثابت على من قسمه الله له من أهل الخمس الموجف عليه من الغنيمة وهذا هو المسمى في كتاب الله تبارك وتعالى الفيء وفتح فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتوح من قرى عربية وعدها الله رسوله قبل فتحها فأمضاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن سماها الله له ولم يحبس منها ما حبس من القرى التي كانت له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومعنى قول عمر لرسول الله خاصة يريد ما كان يكون للموجفين وذلك أربعة أخماس فاستدللنا بذلك أن خمس ذلك كخمس ما أوجف عليه لأهله وجملة الفيء ما رده الله على أهل دينه من مال من خالف دينه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْغَنِيمَةُ فَهِيَ مِنَ الْغُنْمِ، وَالْغُنْمُ مُسْتَفَادٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسَ:
(وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ)

وَأَمَّا الْفَيْءُ: فَهُوَ الرُّجُوعُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أَيْ تَرْجِعَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ مِنَ الظِّلِّ فَيْءٌ لِرُجُوعِهِ وَالْأَنْفَالُ لِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَيْءٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسَ:
(تَيَمَّمَتِ الْعَيْنُ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي)

[الْقَوْلُ فِي حَدِّ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ]

وَالْغَنِيمَةُ كُلُّ مَالٍ أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا - بِقِتَالٍ - بِإِيجَافِ خَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ.
سُمِّيَ غَنِيمَةً، لِاسْتِقَادَتِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ.
وَالْفَيْءُ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ.
سُمِّيَ فَيْئًا لِرُجُوعِهِ إِلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَهْلِ طَاعَتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْهُمْ إِلَى أَعْدَائِهِ وأهل معصيته.

(8/386)


وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: الْغَنِيمَةُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْفَيْءُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ شَذَّ بِهِ عن الكافة فكان مطرحا معمل فِي الْفَيْءِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] ، وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْقُرَى.
وَالْأَصْلُ فِي الْغَنِيمَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] .
وَالْأَصْلُ فِي الفيبء قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى والمساكين} [الحشر: 7] الآية.

فَصْلٌ:
وَقَدْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَتْ تُجْمَعُ فَتَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُحْرِقُهَا إِلَى أَنْ أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي " إِلَى أَنْ قَالَ: " وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ " الْحَدِيثَ. فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِلْكًا لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالصا دون غيره بقوله تعالى: {ويسألونك عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 1] . وَالْأَنْفَالُ: هِيَ الْغَنَائِمُ، لِأَنَّ النَّفْلَ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ، وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
(إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ}
فَسُمِّيَتِ الْغَنَائِمُ أَنْفَالًا، لِأَنَّهَا زِيَادَةُ مَالٍ مُسْتَفَادٍ، وَفِي السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ شَكُّوا فِي غَنَائِمِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] . وَلَمْ يَعْلَمُوا حُكْمَ إِبَاحَتِهَا وَحَظْرِهَا حَتَّى سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] .
وَالثَّانِي: أَنَّ شُبَّانَ الْمُقَاتِلَةِ يَوْمَ بَدْرٍ تَسَارَعُوا إِلَى الْقِتَالِ، وَثَبَتَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الشُّبَّانُ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْغَنَائِمِ لِقِتَالِنَا، وَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُوا عَلَيْنَا فَإِنَّا كُنَّا ردءا لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فِيهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ اخْتَلَفُوا وَكَانُوا أَثْلَاثًا فِي الْغَنَائِمِ أَيُّهُمْ أَحَقُّ بِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَجَعَلَهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ دُونَهُمْ حَسْمًا لِتَنَازُعِهِمْ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِمْ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَأَدْخَلَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةً لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، مِنْهُمْ

(8/387)


عثمان بن عفان، وطلحة - رضي الله عنهما - أَمَّا عُثْمَانُ فَلِتَشَاغُلِهِ بِتَمْرِيضِ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَّا طَلْحَةُ فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ أَنْفَذَهُ لِيَتَعَرَّفَ خَبَرَ الْعِيرِ وَأَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ، فَلَمَّا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى مَالَ الْغَنِيمَةِ إِلَى الْغَانِمِينَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ خُمُسِهِ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَنْ سَمَّى مَعَهُ أَهْلَ الْخُمُسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى والمساكين وابن السبيل} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . فَدَلَّ إِضَافَةُ الْمَالِ إِلَيْهِمَا عَلَى اسْتِثْنَاءِ الثُّلُثِ مِنْهُ لِلْأُمِّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي لِلْأَبِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَارَةً مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَتَارَةً مُسْنَدًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " فَصَارَ مَالُ الْغَنِيمَةِ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، خَمْسَةٌ مِنْهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذوي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينُ، وَابْنُ السَّبِيلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يُذْكَرُ مِنْ بَعْدُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ عِشْرُونَ سَهْمًا تُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، وَلَا يُفَضَّلُ ذُو غِنًى عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا حُكْمُ مَالِ الْغَنِيمَةِ.

فَصْلٌ:
[حكم مال الفيء]
وَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ، وَهِيَ الْأَمْوَالُ الْوَاصِلَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، كَالَّذِي انْجَلَى عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَوْفًا وَرُعْبًا، كَالْأَمْوَالِ الَّتِي صَالَحُونَا بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وأموالهم استكفافا وتورعا، والمأخوذة من عشور أموالهم إذا دخلوا علينا فجارا وَالْجِزْيَةِ الَّتِي نُقِرُّهُمْ بِهَا فِي دَارِنَا، وَقَالَ: الخراج الْمَضْرُوبِ عَلَى أَرَاضِيهِمْ، وَالْأَرْضِينَ الْمَأْخُوذَةِ عَفْوًا مِنْهُمْ، وَقَالَ مَنْ مَاتَ فِي دَارِنَا وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنْهُمْ، كُلُّ ذَلِكَ فَيْءٌ، لِأَنَّهُ وَاصَلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في الجديد، وله في التقديم قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الْفَيْءَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا انْجَلَى عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا وَرُعْبًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَعُشُورِ تِجَارَتِهِمْ وَمِيرَاثِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ فَيْئًا، وَيَكُونُ مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ وَلَا يُخَمَّسُ، وَالْقَوْلُ الأول من قوله أصح، لاستواء جميعها في الوصول إلينا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَيْئًا فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَمْلِكُ جَمِيعَ الْفَيْءِ كَمَا مَلَكَ جَمِيعَ الْغَنِيمَةِ، وَلِذَلِكَ مَلَكَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ، فَكَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ وَصَارَتْ مِنْ صَدَقَاتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا إِلَى أَنْ أَنْزَلَ الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل

(8/388)


الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] الْآيَةَ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ حِينَئِذٍ، فِيمَا اسْتَقَرَّ حكم الفيء عليه عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة: أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَلَا يُخَمَّسُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهَا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا سَهْمٌ كَأَحَدِ أَهْلِ الْخُمُسِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مَرْدُودٌ فِيكُمْ ".
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْ خُمُسَهُ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ، مِنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهْمٌ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ خَاصَّةً، فَيَكُونُ جَمِيعُ مَالِ الْفَيْءِ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، منها أحد وعشرين سَهْمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ هِيَ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ هُمْ ذَوُو الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينُ، وَابْنُ السَّبِيلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين} فَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَيْءَ إِلَى رَسُولِهِ كَمَا أَضَافَ الْغَنِيمَةَ إِلَى الْغَانِمِينَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مَنِ اسْتَثْنَاهُ فِي سَهْمِ الْغَانِمِينَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الْفَيْءِ مَحْمُولًا على المقدار المجعول لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ الْخُمُسُ، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَهُ لِمَنْ أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِ وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ أَضَافَهَا إِلَيْهِ وَهُمُ الْغَانِمُونَ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكَ بْنَ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَالْعَبَّاسَ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَخْتَصِمَانِ إِلَيْهِ فِي أموال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عُمَرُ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَالِصًا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ فَمَا فَضَلَ مِنْهَا جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم وليتها بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلْتُمَانِي أَنْ أُوَلِّيكُمَاهَا فَوَلَّيْتُكُمَاهَا عَلَى أَنْ لَا تَعْمَلَا فِيهَا إِلَّا بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ وَلِيتُمَاهَا ثُمَّ جِئْتُمَانِي تَخْتَصِمَانِ، أَتُرِيدَانِ أَنْ أَدْفَعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا نِصْفًا أَتُرِيدَانِ مِنِّي قضاء غير ما قضيت بينكما، أو لا؟ فَلَا وَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا قَضَاءً غَيْرَ هَذَا فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ أَكْفِيكُمَاهَا.

(8/389)


فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَقْتَضِي كُلَّ مَرَّةٍ بِأَنَّ جَمِيعَ الْفَيْءِ مِلْكٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَظَاهِرُ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْفَيْءِ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ فَاقْتَضَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْخَبَرِ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ خَالِصٌ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ خُمُسَهُ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ حتى يستعمل عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَنَافَيَا وَلَا يَسْقُطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى أبي حنيفة أَنَّ مَا يَمْلِكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُهُ خُمُسًا كَالْغَنِيمَةِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهَا أَنَّهُ لما كَانَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا بِالرُّعْبِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أربعة أخماس الفيء ملكا للرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للوصل إِلَيْهِ بِالرُّعْبِ مِنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ فَالْعَدُوُّ يَرْهَبُنِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ ".
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَصْرِفُ ذَلِكَ فِي الْمَصَالِحِ، فَهُوَ أَنَّ أَمْوَالَهُ كَانَ يَصْرِفُهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا يَدُلُّ لِقُرْبِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لَهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا لِيَ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَنِيمَةِ دُونَ الْفَيْءِ، لِأَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْنَا، وَالْغَنِيمَةُ هِيَ الْمُضَافَةُ إِلَيْنَا، فَأَمَّا الْفَيْءُ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ لَا إِلَيْنَا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ فَالَّذِي مَلَّكَ اللَّهُ تعالى رسوله منهما مما يبين:
أَحَدُهُمَا: خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَالثَّانِي: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، فَأَمَّا الصَّفِيُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَقَدْ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ، فَيَصْطَفِي مِنَ الْغَنِيمَةِ مَا شَاءَ مِنْ جَارِيَةٍ وَثَوْبٍ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ مِمَّا اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ بِخَيْبَرَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا.
وَقِيلَ إِنَّهَا سُمِّيَتْ صَفِيَّةً لِأَنَّهُ اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَكَانَتِ الصَّفَايَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا مُلُوكُ الْعَرَبِ مِنْ جَاهِلِيَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(لَكَ الْمِرْبَاعُ فِيهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ)

فَصَارَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَالِكًا لِأَرْبَعَةِ أَمْوَالٍ، مَالَيْنِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ، وَالصَّفِيُّ، وَمَالَيْنِ مِنَ الْفَيْءِ وَهُوَ خُمُسُ خُمُسِهِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ.
فَأَمَّا حُكْمُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ قَدْ مَلَكَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَالنِّصْفِ مِنْ فَدَكٍ، وَالثُّلُثِ مِنْ وَادِي الْقُرَى، وَثُلُثِهِ حُصُونٍ مِنْ خَيْبَرَ الْكَتِيبَةِ، وَالْوَطِيحِ، وَالسَّلَالِمِ فَهَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ لَا تُورَثُ عَنْهُ، وَمَا مُلِكَ مِنْ ذَلِكَ بعد

(8/390)


وَفَاتِهِ فَسَهْمُهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَصْرُوفٌ بَعْدَهُ فِي الْمَصَالِحِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَأَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ، وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ، وَعِمَارَاتِ الْمَسَاجِدِ وَقَنَاطِرِ السَّائِلَةِ، وَأَمَّا سَهْمُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَفِي مَصْرِفِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْمُقَاتِلَةِ من الجيش الذي يَذُبُّونَ عَنِ الْبَيْضَةِ وَيُمْنَعُونَ عَنِ الْحِرْفَةِ وَيُجَاهِدُونَ الْعَدُوَّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَلَكَهُ فِي حَيَاتِهِ لِرُعْبِ الْعَدُوِّ مِنْهُ وَرُعْبِ العدو بعده من الجيش المقاتلة، فملكوه بَعْدَهُ مَا مَلَكَهُ، فَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ جَمِيعُهُ فِيهِمْ وَإِنْ فَضَلَ عَنْ كِفَايَتِهِمْ وَلَا يُصْرَفُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ جَمِيعُهُ فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ وَيَصْرِفُهُ فِيهَا، فَمِنَ الْمَصَالِحِ إعطاء الجيش، وأرزاق المقاتلة، وما قدمنا ذكر مِمَّا فِيهِ إِعْزَازُ الْإِسْلَامِ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَى هَذَا لَا تَزْدَادُ جُيُوشُ الْمُقَاتِلَةِ عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ، لِخُرُوجِ الزِّيَادَةِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا الصَّفِيُّ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُهُ وَبَطَلَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَهْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَهُ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَصْرُوفٌ فِيمَا وَصَفْنَا فَالْإِمَامُ النَّاظِرُ فِيهِ كَأَحَدِ أَهْلِ الْجَيْشِ فِيمَا يَسْتَحِقُّ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ كِفَايَتِهِ، يَأْخُذُهُ رِزْقًا كَأَرْزَاقِ الْجَيْشِ.
وَقَالَ: يَمْلِكُ الْإِمَامُ بَعْدَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَصِيرُ مَالِكًا لِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَلِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَّا جَعَلَهَا لِلَّذِي أَتَى بَعْدَهُ ".
وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم " فصار مردودا عليها بَعْدَ مَوْتِهِ لَا عَلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يَتَمَلَّكُوا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ، فَانْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى رَدِّ مَا خَالَفَهُ.
فَأَمَّا الْخَبَرُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ فَمَعْنَاهُ: مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً إِلَّا جَعَلَ النَّظَرَ فِيهَا لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ لَا مِلْكًا لَهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُورَثُ، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ لَا يَمْلِكُهُ، ثَبَتَ مِنَ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَصْرِفَهُ فِيمَا وَصَفْنَاهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ يَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَأَمَّا وَجْهَا الِاجْتِمَاعِ.
فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ.

(8/391)


وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُخَمَّسُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: مَالُ الْفَيْءِ لَا يُخَمَّسُ، وَفِي نص الآية ما يدفع قوله.
وأما وجه الِافْتِرَاقِ:
فَأَحَدُهُمَا: فِي الِاسْمِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِاسْمٍ وَالثَّانِي: فِي حُكْمِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا فَإِنَّ مَصْرِفَهَا مُخْتَلِفٌ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ " أَصْلُ مَا يَقُومُ بِهِ الْوُلَاةُ مِنْ جَعْلِ الْمَالِ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ تَطْهِيرًا لَهُ فَذَاكَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ، وَكِلَاهُمَا مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفعله، فجعل نظر الإمام في الأموال مختص بِثَلَاثَةِ أَمْوَالٍ:
أَحَدُهَا: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ تَطْهِيرًا لَهُمْ وَهِيَ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً وَهُوَ الْغَنِيمَةُ.
وَالثَّالِثُ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا وَهُوَ الْفَيْءُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الثَّلَاثَةِ مَنْصُوصٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى وُجُوبِهِ وَجِهَةِ مَصْرِفِهِ، وَلَيْسَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِهِ إِلَّا قِيَامَ نِيَابَةٍ إِلَّا أَنَّهُ فِي الزكاة ينوب عن معطيها ومستحقها معا، وفي الفيء والغنيمة ينوب عن مستحقها دُونَ مُعْطِيهَا، لِأَنَّ نِيَابَتَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا عَنِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَنَا اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْفَصْلِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: "
أَحَدُهُمَا: قَالُوا: قَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ نَظَرَ الْإِمَامِ مَقْصُورًا عَلَى النَّظَرِ فِي ثَلَاثَةِ أَمْوَالٍ، وَقَدْ يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي الْمَوَاتِ وَفِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَدْ خُصَّ الْأَمْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِنَظَرِهِ لِاخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا لِكِتَابِ اللَّهِ وَتَعَيُّنِ مُسْتَحِقِّيهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسَ غَيْرُهَا مُسَاوِيًا لَهَا فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ فَتَمَيَّزَتْ فِي نَظَرِهِ.
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: قَدْ جُعِلَ الْإِمَامُ مُخْتَصًّا بِالْوِلَايَةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَلَوْ أَخْرَجَهَا أَرْبَابُهَا أَجْزَاءً فَلَمْ يَكُنْ يَخْتَصُّ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهَا، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَمَّا الْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ وَإِنْ جَازَ لِأَرْبَابِهَا أَنْ يَنْفَرِدُوا بِإِخْرَاجِهَا فَوِلَايَتُهُ فِيهَا عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ جَبْرًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهَا لَمَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِهَا جبرا منهم، وأما الأموال الظاهرة قولان:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ أَرْبَابِهَا أَنْ ينفردوا بإخراجها، فعلى هذا تكون وِلَايَتُهُ عَامَّةً عَلَى الْمُعْطِي وَالْمُمْتَنِعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَنْفَرِدُوا بِإِخْرَاجِهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ دُونَ المعطي والله أعلم.

(8/392)


باب الأنفال
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْخُمُسِ شيء غير السلب للقاتل قال أبو قتادة رضي الله عنه خرجنا مع رسول الله عام حنين قال فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا من المسلمين قال فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمَّ أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر فقال ما بال الناس؟ قلت أَمْرُ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سلبه " فقمت فقلت من يشهد لي؟ ثم جلست يقول وأقول ثلاث مرات فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهْ منه. فقال أبو بكر رضي الله عنه لاها الله إذا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تعالى يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صدق فأعطه إياه " فأعطانيه فبعت الدرع وابتعت بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مال تأثلته في الإسلام وروي أن شبر بن علقمة قال بارزت رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَبَلَغَ سَلَبُهُ اثْنَيْ عَشَرَ ألفا فنفلنيه سعد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَنْ قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُشْرِكًا فِي مَعْرَكَةِ الْحَرْبِ فَلَهُ سَلَبُهُ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَهُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَلَا يُخَمِّسْهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. لَكِنْ يُخَمِّسُهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ سَلَبُهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْإِمَامُ لَهُ فَيُعْطِيهِ لِلشَّرْطِ مِنْ جُمْلَةِ الْخُمُسِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] .
وَرِوَايَةُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ " وَبِرِوَايَةِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَرَافَقَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَتَلَ رُومِيًّا فَأَخَذَ سَلَبَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فأخذ منه السَّلَبِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ، قُلْتُ لَتَرُدَّنَّهُ عَلَيْهِ أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يرده،

(8/393)


فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْيَمَنِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا خَالِدُ ارْدُدْهُ عَلَيْهِ، قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ يَا خَالِدُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا ذَاكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ وَقَالَ: " يَا خَالِدُ لا ترده عليه، هل أنتم تاركون لي أُمَرَائِي؟ لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ ".
قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَلَوِ اسْتَحَقَّهُ الْقَاتِلُ لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ لِغَضَبٍ وَلَا غَيْرِهِ، قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَوْفٍ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو قَتَلَا أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَبَهُ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو، فَلَوْ كَانَ لِلْقَاتِلِ مَا خَصَّ بِهِ أَحَدَهُمَا.
وَاسْتَدَلُّوا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ بِأَنْ قَالُوا: كُلُّ مَالٍ يُسْتَحَقُّ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ اسْتِحْقَاقُهُ بِشَرْطِ الْإِمَامِ كَالنَّفْلِ، وَلِأَنَّ السَّلَبَ لَوِ اسْتُحِقَّ بِالْقَتْلِ لوجب إذا قتل موليا أَوْ رَمَاهُ مِنْ صِفِّهِ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَعَ وُجُودِ الْقَتْلِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْقَتْلِ، وَلِأَنَّ السَّلَبَ لَوْ صَارَ بِالْقَتْلِ مِلْكًا لِلْقَاتِلِ لَوَجَبَ إِذَا وُجِدَ قَتِيلًا عَلَيْهِ سَلَبٌ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ أَنْ لَا يَغْنَمَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِمُسْلِمٍ لَا يُعْرَفُ، وفي إجماعهم على قسمة في الْغَنِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْقَتْلِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: " مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ كَافِرًا فَأَخَذَ أَسَلَابَهُمْ.
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ بَيِّنٍ فِيهِ فَاسْتُحِقَّ بِهِ السَّلَبُ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي محمد مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَدَرْتُ لَهُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ قَالَ: فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالَ أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَجَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ وَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَجَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ القصة، فقال

(8/394)


رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهْ عَنِّي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا هلم اللَّهِ إِذَنْ لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ " قَالَ أَبُو قَتَادَةَ فَأَعْطَانِيهِ فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، وَإِجَازَةِ الْغَنِيمَةِ وَبَعْدَ قَتْلِ أَبِي قَتَادَةَ لِلْكَافِرِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ لَا بِالشَّرْطِ، فَإِنْ حَمَلُوا عَلَى شَرْطِ تَقَدُّمٍ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِثْبَاتُ مَا لَمْ يُنْقَلْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانُ شَرْعٍ وَإِنْ تَقَدَّمَ كَمَا يَكُونُ بَيَانُهُ، لِأَنَّهُ نَقْلُ سَبَبٍ عُلِّقَ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ شَرْطٌ لَأَخَذَهُ أَبُو قَتَادَةَ وَلَمْ يَدَّعِيهِ أَوْ لَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ بَالْبَيِّنَةِ وَقَدْ أَعْطَاهُ أَبَا قَتَادَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ نَفْلًا لَاحِقًا، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ كَانَ يَدُهُ عَلَى السَّلَبِ فَقَدْ صَدَّقَهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيِّنَةٍ.
وَالثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ شَهِدَ لِأَبِي قَتَادَةَ اثْنَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَالٌ مَغْنُومٌ، يُسْتَحَقُّ بِسَبَبٍ لَا يَفْتَقِرُ تَقْدِيرُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ شَرْطُ الْإِمَامِ كَسَهْمِ الْغَانِمِينَ طَرْدًا أَوِ النَّفْلِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّهُ ذُو سَهْمٍ تَحَرَّرَ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِ كَافِرٍ فَقَاتَلَ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّلَبَ خَارِجٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] وَلَيْسَ السَّلَبُ مَا غَنِمُوهُ وَإِنَّمَا غَنِمَهُ أَحَدُهُمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفْسَ الْإِمَامِ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ طَابَتْ بِهِ فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ أَنْ تَطِيبَ بِهِ نَفْسُ إِمَامٍ مِنْ بَعْدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ يُحْمَلُ عَلَى النَّفْلِ، وَيُخَصُّ مِنْهُ السَّلَبُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عوفا وخالد اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَلَكِنِ اسْتَكْثَرَهُ خَالِدٌ، وَاسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ لَا يَسْقُطُ بِالْكَثْرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَوْفًا حِينَ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَسْأَلْ عَنِ الشَّرْطِ.

(8/395)


وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَ خَالِدًا بِرَدِّهِ عَلَى الْقَاتِلِ، فأما قوله لخالد حين غضب " لا ترده " فَتَأْدِيبٌ مِنْهُ لِعَوْفٍ حَتَّى لَا يَنْبَسِطَ الرَّعَايَا عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهُ مِنْ بَعْدُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِعْطَائِهِ سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لِأَحَدِ قَاتِلِيهِ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ ابْنَيْ عَفْرَاءَ أَثْخَنَا أَبَا جَهْلٍ جِرَاحًا، وَخَرَّ صَرِيعًا فَأَتَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لِيَجُزَّ رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ رُوَيْعِينَا بِالْأَمْسِ فَمَكِّنْ يَدَيْكَ وَجُزَّ الرَّقَبَةَ مَعَ الرَّأْسِ إِذَا لَقِيتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ قَتَلْتَ أَبَا الْحَكَمِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ مَعَ القبة وَكَانَ قَصْدُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَبْهَى لِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أُمَّهُ بِذَلِكَ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ تِسْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِكَ، ودفع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى ابْنَيْ عَفْرَاءَ أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَثْخَنَهُ بِالْجِرَاحِ وَبِإِثْخَانِ الْمَقْتُولِ يُسْتَحَقُّ السَّلَبُ لَا بِإِمَاتَةِ نَفْسِهِ وَرُوحِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّفْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ افْتِقَارُ النَّفْلِ إِلَى تَقْدِيرِ الْإِمَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّلَبُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْقَتْلِ لَاسْتَحَقَّهُ إِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ، فَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ بِقَتْلٍ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْقَاتِلِ مِغْرَارًا بِنَفْسِهِ وَيَكُفَّ شَرَّ الْمَقْتُولِ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ إِذَا رَمَاهُ لَمْ يُغَرِّرْ، وَإِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا فَقَدْ كَفَّ الْمُوَلِّي شَرَّ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَحَقَّهُ بِشَرْطِ الْإِمَامِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ السَّلَبُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُغْنَمَ سَلَبُ مَقْتُولٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِقَتْلٍ عَلَى صِفَةٍ لَمْ يُغْنَمْ بِغَنِيمَةٍ فَيُمْنَعُ مِنْ قَسْمِهِ، فَلِذَلِكَ قُسِّمَ، أَلَا تَرَى لَوْ شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَكَانَ مَغْنُومًا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ مُسْتَحِقَّهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا السَّلَبَ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى تَخْمِيسِ السَّلَبِ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَغْنُومٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْغَنَائِمِ، وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ إِعْطَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّلَبَ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ. وَرُوِيَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ قَتَلَ رَجُلًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَهُ سَلَبُهُ ".
وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَتَلْتُ رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَبَلَغَ سَلَبُهُ اثني عشر ألفا فنفلنيه سعد، ولأنه أَهْلَ الْغَنِيمَةِ أَقْوَى مِنْ أَهْلِ الْخُمُسِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ سَهْمِهِمْ.
وَالثَّانِي: حُضُورُهُمُ الْوَقْعَةَ مَعَ الْقَاتِلِ، ثُمَّ كَانُوا مَعَ قُوَّتِهِمْ لَا يُشَارِكُونَ الْقَاتِلَ فِي السَّلَبِ، فَلَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ أَهْلُ الْخُمُسِ الَّذِينَ هُمْ أَضْعَفُ أَوْلَى، وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ مَدْفُوعٌ بهذا الاستدلال.

(8/396)


فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ فَهُوَ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: هُوَ لَهُ مِنَ الْخُمْسِ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُعَدِّ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ، فَإِنْ زَادَ السَّلَبُ عَلَيْهِ رُدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى الْقِسْمَةِ اعْتِبَارًا بِالنَّفْلِ الْمُسْتَحَقِّ من الخمس، وهذا غير صحيح؛ لأنه قَتِيلَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَبَهُ لَهُ أَجْمَعَ - وَكَانَ جَمِيعَ الْغَنِيمَةِ - لِأَنَّهُ لَمْ يَغْنَمْ سِوَاهُ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا شَرْطٍ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ دُونَ الْخُمُسِ كَالسِّهَامِ، وَخَالَفَ النَّفْلَ الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ أَوْ شَرْطٍ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا صَحَّ مَا وَصَفْنَا مِنَ اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ: هَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ أَوْ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ، ولهذين الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنْ يُعْطَى السَّلَبُ مَنْ قَتَلَ مُشْرِكًا مُقْبِلًا مُقَاتِلًا مِنْ أَيِّ جهة قتله مبارزا أو غير مبارز وقد أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سلب مرحب من قتله مبارزا وأبو قتادة غير مبارز ولكن المقتولين مقبلان ولقتلهما مقبلين والحرب قائمة مؤنة ليست له إذا انهزموا أو انهزم المقتول وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه دل عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من قتل قتيلا له عليه بينة " يوم حنين بعد ما قتل أبو قتادة الرجل فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذلك حكم عندنا (قال الشافعي) ولو ضربه ضَرَبَهُ فَقَدَّ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَتَلَهُ آخر فإن سلبه للأول وإن ضربه ضربة وهو ممتنع فقتله آخر كان سلبه للآخر ولو قتله اثنان كان سلبه بينهما نصفين وهذا صحيح ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ فَاسْتِحْقَاقُ الْقَاتِلِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ قَائِمَةً وَالْقِتَالُ مُسْتَمِرًّا، فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَانْجِلَاءِ الْوَاقِعَةِ فَلَا سَلَبَ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُقْبِلًا عَلَى الْحَرْبِ، سَوَاءٌ كَانَ يُقَاتِلُ أَوْ لَا يُقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَهُوَ رَدٌّ لِمَنْ تَقَاتَلَ، فأما إن قتله وهو مولي عن الحرب تاركا لَهَا فَلَا سَلَبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَّ فَيَكُونُ لَهُ سَلَبُهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ كَرٌّ وَفَرٌّ، لَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ مِنْ أَمَامِهِ أَوْ مِنْ وَرَائِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَلَبِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَتَلَ الْمُشْرِكَ الَّذِي أَخَذَ سَلَبَهُ مِنْ وَرَائِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ فِي قَتْلِهِ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ إِمَّا بِأَنْ يَقْتُلَهُ مُبَارَزَةً أَوْ غَيْرَ مُبَارَزَةٍ، وَإِذَا خَرَجَ الْقَاتِلُ عَنْ صَفِّهِ فَغَرَّرَ، فَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ مِنَ الصَّفِّ بِسَهْمٍ رَمَاهُ فَلَا سَلَبَ لَهُ.

(8/397)


وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُمْتَنِعًا بِسَلَامَةِ جِسْمِهِ حَتَّى قُتِلَ لِيَكُونَ فِي الْقَتْلِ كَفٌّ لِشَرِّهِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بِجِرَاحٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَسَلَبُهُ لِمَنْ كَفَّهُ وَمَنَعَهُ دُونَ مَنْ قَتَلَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ ابْنَ عَفْرَاءَ دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَعَاهُ فَجَرَحَاهُ وَكَفَّاهُ عَنِ الْقِتَالِ، وَصِفَةُ الْكَفِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ أَنْ يَجْتَمِعَ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنَالَهُ مِنَ الْجِرَاحِ مَا يَعْجِزُ مَعَهُ عَنِ الْقِتَالِ فَيَصِيرُ بِهِ مَكْفُوفَ الشَّرِّ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ أَطْرَافَهُ الْأَرْبَعَةَ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ كَانَ الْجِرَاحُ فِي غَيْرِ أَطْرَافِهِ، وَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ: " وَلَوْ ضَرَبَهُ فَقَدَّ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَتَلَهُ آخَرُ فَإِنَّ سَلَبَهُ لِلْأَوَّلِ ".
وَرَوَى الرَّبِيعُ: " وَلَوْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ " وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِيمَا يَصِيرُ بِهِ مَكْفُوفًا كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِأَنْ يَصِيرَ بِالْجِرَاحِ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ صَرِيعًا.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَطُولَ بِهِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْجِرَاحِ، فَيُكْفَى شَرَّ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَيَصِيرُ بِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ سَلَبُهُ لِلْجَارِحِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي الْقَاتِلِ.
وَأَمَّا إِنْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً لَا تَطُولُ مُدَّةُ الْحَيَاةِ بَعْدَهَا لَكِنَّهُ قَدْ يُقَابِلُ مَعَهُ فَلَا سَلَبَ لِجَارِحِهِ؛ لِأَنَّ مَا كَفَى شَرَّ قِتَالِهِ وَالسَّلَبُ لِقَاتِلِهِ وَلَوْ نَالَهُ بِالْجِرَاحِ مَا كَفَّهُ عَنِ الْقِتَالِ وَأَعْجَزَهُ عَنْهُ أَبَدًا، لَكِنْ طَالَتْ بِهِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ بَعْدَهُ فَفِي سَلَبِهِ قَوْلَانِ مِنْ قَتْلِ الشُّيُوخِ:
أَحَدُهُمَا: السَّلَبُ لِجَارِحِهِ دُونَ قَاتِلِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الشُّيُوخَ وَالرُّهْبَانَ لَا يُقْتَلُونَ.
وَالثَّانِي: لِقَاتِلِهِ دُونَ جَارِحِهِ إِذَا قِيلَ يُقْتَلُونَ، فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرْنَا يُسْتَحَقُّ السَّلَبُ بِهَا، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لِابْنِ عَفْرَاءَ دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ كَانَ قَاتِلًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ تقلد منه سيفه وحده.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالسَّلَبُ الَّذِي يَكُونُ لِلْقَاتِلِ كُلُّ ثَوْبٍ يَكُونُ عَلَيْهِ وَسِلَاحُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَفَرَسُهُ إِنْ كَانَ رَاكِبَهُ أَوْ مُمْسِكَهُ وَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ يَدِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ السَّلَبُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ انْتَقَلَ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ مِنَ الْقَاتِلِينَ.
الثَّانِي: فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ عَنِ الْمَقْتُولِينَ.
وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَكُونُ سَلَبًا مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: الْقَاتِلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ فَهُوَ كُلُّ ذِي سَهْمٍ فِي الْغَنِيمَةِ مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ فَلَهُ سَلَبُ قَتِيلِهِ.
فَأَمَّا مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ فَضَرْبَانِ:

(8/398)


أَحَدُهُمَا: مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ لِكُفْرِهِ.
وَالثَّانِي: لِنَقْصِهِ.
فَأَمَّا مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ بِكُفْرِهِ كَالْمُشْرِكِ إِذَا قَتَلَ مُشْرِكًا فَلَا سَلَبَ لَهُ إِنْ قُتِلَ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ غَنِيمَةٌ نَقَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَلَ عَنْهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا يُعْطَوْنَ إِذَا قَاتَلُوا أَجْرًا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لَا سَهْمًا مِنَ الْغَنِيمَةِ.
وَأَمَّا مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ لِنَقْصِهِ كَالْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ، وَالنِّسَاءِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ فِي السَّلَبِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي السَّلَبِ، هَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ أَوْ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُعْطِيَهُ الْقَاتِلُ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ لَمْ يُعْطَ الْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانُوا قَاتِلِينَ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ السَّهْمِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مُسْتَحَقٌّ لِمُجَرَّدِ الْحُضُورِ؛ فَلَمَّا ضَعُفُوا عَنْ تَمَلُّكِهِ كَانُوا عَنْ تَمَلُّكِ السَّلَبِ أَضْعَفَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ مِنَ الْمَقْتُولِينَ فَهُمْ مَنْ جَازَ قَتْلُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُقَاتِلَةٌ ومن دونهم، من الذُّرِّيَّةِ، وَمَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الشُّيُوخِ وَالرُّهْبَانِ.
فَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَسَلَبُ مَنْ قُتِلَ سَهْمٌ لِقَاتِلِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ مُبَاحٌ لَهُ، سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا.
وَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ وَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَإِنْ قَاتَلُوا كَانَ قَتْلُهُمْ مُبَاحًا وَلِلْقَاتِلِ سَلَبُ مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا حَرُمَ قَتْلُهُمْ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَلَا سَلَبَ لِقَاتِلِهِمْ؛ لِحَظْرِ قَتْلِهِمْ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ مَغْنُومًا؛ لِأَنَّهُ مَالُ مُشْرِكٍ.
وَأَمَّا الشُّيُوخُ وَالرُّهْبَانُ فَإِنْ قَاتَلُوا جَازَ قَتْلُهُمْ، وَكَانَ لِلْقَاتِلِ سَلَبُ مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَفِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَلَبُهُمْ لِلْقَاتِلِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَعَلَى هَذَا لَا سَلَبَ لِقَاتِلِهِمْ وَيَكُونُ مَغْنُومًا.
فَصْلٌ:
[القول فيما يكون السلب]
وَأَمَّا مَا يَكُونُ سَلَبًا فَمَا ظُهِرَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْعَةِ مِنْ مَالِ الْمَقْتُولِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ سَلَبًا، وَهُوَ ما كان راكبه من فرسه أَوْ بَعِيرٍ، وَمُسْتَجِنًّا بِهِ مِنْ دِرْعٍ وَمِغْفَرٍ وَمُتَّقٍ بِهِ مِنْ تُرْسٍ وَدَرَقَةٍ وَمُقَاتِلٍ بِهِ مِنْ سَيْفٍ أَوْ رُمْحٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مَعَ مَا عَلَى الْفَرَسِ مِنْ سَرْجٍ وَلِجَامٍ، وَمَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ حُلِيٍّ وَلِبَاسٍ سَلَبٌ يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ سَلَبًا وَيَكُونُ غَنِيمَةً، وَهُوَ مَا فِي رَحْلِهِ مِنْ مَالٍ وَرَحْلٍ وَسِلَاحٍ وَخَيْلٍ، فَهَذَا كُلُّهُ غَنِيمَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْجَيْشِ، وَلَا يَخْتَصُّ الْقَاتِلُ بِشَيْءٍ مِنْهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ كلما كانت يده عليه في المعركة قوة على القتال

(8/399)


وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَاتِلٍ بِهِ فِي الْحَالِ كالفرس الذي بجنبه عدة لقتاله أو هيمان النفقة الذي في وسطه قوة ليستعين بِهَا عَلَى قِتَالِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ سَلَبًا؛ لِأَنَّهُ قُوَّةٌ لَهُ عَلَى قِتَالِنَا فَصَارَ كَالَّذِي يُقَاتِلُ بِهِ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ غَنِيمَةً وَلَا يَكُونُ سَلَبَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَاتِلٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ قُوَّةً لَهُ كَالَّذِي فِي رَحْلِهِ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا أَسَرَ الْمُسْلِمُ مُشْرِكًا غَرَّرَ بِنَفْسِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي أَسْرِهِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِ سَلَبِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَهَذَا لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَا كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ أَسْرِهِ فَإِنْ كَانَ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهُ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ.
وَالثَّانِي: لَا سَلَبَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُهَا بِانْقِضَائِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ أَسْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ؛ لِأَنَّ تَغْرِيرَهُ لِنَفْسِهِ فِي الْأَسْرِ أَعْظَمُ، وَلِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْأَسْرِ فَهُوَ عَلَى الْقَتْلِ أَقْدَرُ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْإِمَامِ حَيًّا أَعْطَاهُ الْإِمَامُ سَلَبَهُ، وَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْتَرِقَّهُ، أَوْ يُفَادِيَ، فَإِنْ قَتَلَهُ أَوْ مَنَّ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلَّذِي أَسَرَهُ غَيْرُ سَلَبِهِ، وَإِنِ اسْتَرَقَّهُ أَوْ فَادَى بِهِ عَلَى مَالٍ كَانَ حُكْمُ اسْتِرْقَاقِهِ وَمَالِ فِدَائِهِ كَحُكْمِ السَّلَبِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: غنيمة إذا قلنا إن السلب لمن أسره.
وَالثَّانِي: لِمَنْ أَسَرَهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ السَّلَبَ لمن أسره.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالنَّفْلُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ غَنِيمَةٍ قِبَلَ نَجْدٍ بَعِيرًا بَعِيرًا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ كَانُوا يُعْطَوْنَ النَّفْلَ مِنَ الخمس (قال الشافعي) رحمه الله نفلهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ خُمُسِهِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بِسَائِرِ مَالِهِ فِيمَا فِيهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا سِوَى سَهْمِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من جميع الخمس لمن سماه الله تعالى فينبغي للإمام أن يجتهد إذا كثر العدو واشتدت شوكته وقل من بإزائه من المسلمين فينفل منه اتباعا لسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإلا لم يفعل وقد روي في النفل في البداءة والرجعة الثلث في واحدة والربع في الأخرى وروى ابن عمر أنه نفل نصف السدس وهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يجاوزه الإمام ولكن على الاجتهاد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.

(8/400)


قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ النَّفْلَ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ زِيَادَةٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ ها هنا الزِّيَادَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ يُخْتَصُّ بِهَا بَعْضُ الْغَانِمِينَ دُونَ بَعْضٍ. وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: السَّلَبُ، يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالثَّانِي: ما ادعى إلى التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الظَّفَرِ، مِثْلَ: أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ مَنْ يُقَدَّمْ فِي السَّرَايَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ فَتَحَ هَذِهِ الْقَلْعَةَ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، أَوْ مَنْ قَتَلَ فُلَانًا فَلَهُ كَذَا، أَوْ مَنْ أَقَامَ كَمِينًا فَلَهُ كَذَا، فَهَذَا جَائِزٌ، سَوَاءً جَعَلَ مَا بَذَلَهُ مُقَدَّرًا فِي الْغَنِيمَةِ كَقَوْلِهِ: فَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ جَعَلَهُ شَائِعًا فِي الْغَنِيمَةِ كَقَوْلِهِ: فَلَهُ رُبْعُ الغنيمة أو ثلثها، أو جعله مقدار بِالسَّهْمِ فِيهَا كَقَوْلِهِ: فَلَهُ نِصْفُ مِثْلِ سَهْمٍ، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا ثُمَّ نَفَلُوا بَعِيرًا.
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بُدَائِهِ.
وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْفُلُ فِي الْبُدَاءَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرُّجْعَةِ الثُّلُثَ.
وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِإِنْفَاذِ سَرِيَّةٍ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجَعَلَ لَهَا الرُّبُعَ، وَالرُّجْعَةَ أَنْ يُنْفِذَ بَعْدَهَا سَرِيَّةً ثَانِيَةً فَيَجْعَلُ لَهَا الثُّلُثَ فَيَزِيدُ الثَّانِيَةَ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ بَعْدَ عِلْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِالْأُولَى.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يُنْفِذَ سَرِيَّةً فِي ابْتِدَاءِ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ فَيَجْعَلُ لَهَا الرُّبُعَ، وَلِلْرُّجْعَةِ أَنْ يُنْفِذَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ عَنْ دَارِ الْحَرْبِ فَيَجْعَلُ لَهَا الثُّلُثَ؛ لِأَنَّهَا بِرُجُوعِ الْجَيْشِ أَكْثَرُ تَغْرِيرًا مِنَ الْأُولَى.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْقَوْلِ فَيَقُولُ مَنْ يَفْتَحُ هَذَا الْحِصْنَ وَلَهُ الرُّبُعُ إِمَّا مِنْ غَنَائِمِهِ وَإِمَّا مِثْلٌ مِنْ رُبْعِ سَهْمِهِ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَيَرْجِعَ فَيَقُولُ ثَانِيَةً مَنْ يَفْتَحُهُ وَلَهُ الثُّلُثُ فَيُجَابُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بُدَاءَةً وَالثَّانِي رُجْعَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَتَحَدَّدُ الْأَقَلُّ فِي الْبُدَاءَةِ بِالرُّبُعِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّهُ نَفَلَ نِصْفَ السُّدُسِ بَعِيرًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَا يَتَحَدَّدُ الْأَكْثَرُ فِي الرُّجْعَةِ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ وَكَانَ تَقْدِيرُهُ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ مُوكَلًا

(8/401)


إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَلَوْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنْ يَبْذُلَ فِي الْبُدَاءَةِ بِدُخُولِ الْحَرْبِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَبْذُلُهُ فِي الرُّجْعَةِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي الْبُدَاءَةِ مُتَوَفِّرُونَ وَفِي الرُّجْعَةِ مَهْزُومُونَ جَازَ ثُمَّ يَكُونُ هَذَا النَّفْلُ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ فِي الْبُدَاءَةِ وَالرُّجْعَةِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَصْرُوفُ بَعْدَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِرِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفْلَ مِنَ الْخُمُسِ يَعْنِي خُمُسَ الْخُمُسِ؛ وَلِأَنَّهُ مَبْذُولٌ فِي الْمَصَالِحِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَصَالِحِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ بِشَرْطِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ بِخِلَافِ السَّلَبِ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لأمن أَصْلِ الْغَنِيمَةِ بِخِلَافِ السَّلَبِ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهُ كَالرَّضْخُ الْمُسْتَحَقُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ؛ لِأَنَّ الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَخُمُسَ الْخُمُسِ سَهْمٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَأْوِيلَانِ، وَهُمَا لَهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ مِمَّا اخْتَصَّتْ تِلْكَ السَّرِيَّةُ بِغَنِيمَةٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خُمُسَ خُمُسِ جَمِيعِ الْغَنَائِمِ ثُمَّ الَّتِي أَجَازَهَا جَمِيعَ الْخُمُسِ وَأَقَلَّ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى خُمُسِ الْخُمُسِ تَمَّمَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِ الَّتِي خُصَّ بِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ وَخُمُسُ خُمُسِهِ وَمَا يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ.

فَصْلٌ:
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ النَّفْلِ وَهُوَ الرَّضْخُ وَالرَّضْخُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَرْضَخُ بِهِ الْإِمَامُ لِمَنْ لَا سَهْمَ له من العبيد والصبيان الذين يشهدون الوقيعة.
وَالثَّانِي: مَا يَرْضَخُ بِهِ لِمَنِ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ فِي الْحَرْبِ مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ زِيَادَةً عَلَى سَهْمِهِ لِحُسْنِ أَثَرِهِ وَلَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ الزَّائِدِ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ فَقَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ وَنَفَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ وَنَفَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَاشِفَةِ وَفِي الرَّضْخِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ.
وَالثَّانِي: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
فَصْلٌ:
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ النَّفْلِ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ اللِّقَاءِ: مَنْ غَنِمَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ تَحْرِيضًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا يُخَافُ مِنْ كَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقُوَّةِ شَوْكَتِهِمْ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ كُلِّ إِنْسَانٍ بِمَا أَخَذَهُ، وَالْوَاجِبُ رَدُّ جَمِيعِهِ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَإِخْرَاجُ خُمُسِهِ، وَقِسْمَةُ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فِي جَمِيعِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: وَهَذَا الشَّرْطُ لَازِمٌ، وَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَلَا يُخَمَّسُ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ غَزَوْا وَبِهِ رَضَوْا.

(8/402)


وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَالَهُ قَائِلٌ كَانَ مَذْهَبًا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا لَهُ ثَانِيًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَصَحِّ فِي أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا حُكْمَ لَهُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمُسْنَدًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا بَعْضُهُمْ؛ وَلِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ الْغَنِيمَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ لِشَرْطِ الْإِمَامِ كَمَا لَوْ شَرَطَهَا لِغَيْرِ الْقَائِمِينَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ "، فَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ حَتَّى جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَدْرٍ لِمَنْ شَهِدَهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا، والله أعلم.

(8/403)


باب تفريق الغنيمة
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ مَا حُصِّلَ مِمَّا غُنِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ شَيْءٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قُسِّمَ إِلَّا الرِّجَالَ الْبَالِغِينَ فَالْإِمَامُ فِيهِمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَمُنَّ أَوْ يَقْتُلَ أَوْ يُفَادِيَ أو يسبي وسيبل مَا سُبِيَ أَوْ أُخِذَ مِنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ سَبِيلُ الْغَنِيمَةِ وَفَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ هِيَ أَمْوَالٌ مَنْقُولَةٌ، وَقِسْمٌ هِيَ أَرْضٌ ثَابِتَةٌ، وَقِسْمٌ هُمْ آدَمِيُّونَ مَقْهُورُونَ.
فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ: كَالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ، وَالسِّلَاحِ، وَالْآلَةِ وَالْعُرُوضِ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَالْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ فَالْوَاجِبُ إِخْرَاجُ خُمُسِهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ ثُمَّ يُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا بَيْنَ جَمِيعِ مَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةِ بِالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ إِلَّا ما استحقه الفارس بفرسه ولا يفضل ذا شَجَاعَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا مَنْ قَاتَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَا يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَاقِعَةَ.
وَقَالَ أبو حنيفة لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ فِي الْقَسْمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَاقِعَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاضَلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي غَنَائِمِ حُنَيْنٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ، وَيُعْطِيَ مِنْهَا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم من غنائم بدرا لثمانية لم يشهدوا بدار مِنْهُمْ: عُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ لِمَنْ غَنِمَ كَمَا قَالَ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَدَلَّ عَلَى أن الباقي للأب إذا اقْتَضَتِ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ أَوْجَبَ بِذَلِكَ التَّسْوِيَةَ مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُمْ غَيْرُهُمْ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ مِنَ الْمَغْنَمِ جُبَّةَ غَزْلٍ مِنْ شَعْرٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال أخذت هذه لأصلح بها بردعة بَعِيرِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّا مَا كَانَ لِيَ وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ

(8/404)


فهو لك فقال الرجل: أما إذا بَلَغَتْ مَا أَرَى فَلَا أَرَبَ لِي بِهَا، فَلَوْ جَازَ التَّفْضِيلُ لَفَضَّلَ بِهَذَا الْقَدْرِ الْيَسِيرِ وَلِأَنَّ مَا اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ تَمَلُّكِهِ أَوْجَبَ تَسَاوِيَهُمْ فِي مِلْكِهِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي صَيْدٍ وَاحْتِشَاشٍ، فَأَمَّا تَفْضِيلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ النَّاسِ فِي غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَأَلَّفَ عَدَدًا مِنْهُمْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِائَةِ بَعِيرٍ مِنْهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَاسْتَعْتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ مرداس فقال:
(أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ)

(وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع)

(وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ البوم لَا يُرْفَعِ)

فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقْطَعُوا لِسَانَهُ عَنِّي ".
وَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ بَعِيرًا، وكان مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ إِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ إِمَّا مِنْ سَهْمِهِ مِنَ الْخُمُسِ، وَإِمَّا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَبَتَ بِحُنَيْنٍ مَعَ ثَمَانِيَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَانْهَزَمَ جَمِيعُ النَّاسِ؛ فَصَارَتْ جَمِيعُ الْغَنَائِمِ لَهُ فَصَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ وَتَأَلَّفَ بِهَا مَنْ شَاءَ، وَلِذَلِكَ قَالَتِ الْأَنْصَارُ حِينَ رَأَوْهُ قَدْ تَأَلَّفَ قُرَيْشًا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ عَزَمَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ وَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَنْصَرِفُونَ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: رَضِينَا فَكَانَ مَا فَعَلَهُ مِنَ التَّفْضِيلِ بِحُنَيْنٍ مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا غَنَائِمُ بَدْرٍ فَكَانَتْ خَالِصَةً لَهُ فَوَضَعَهَا فِيمَنْ شَاءَ من حاضر وغائب على تساوي وتفضيل.

فصل:
وأما ما لا ينقل مِنَ الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ فَحُكْمُهُ عِنْدَنَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ المنقولة، يَكُونُ خُمُسُهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَتُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْإِمَامُ فِي الْأَرَضِينَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى الْغَانِمِينَ، أَوْ يُقَسِّمَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُقِرَّهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا الْمُشْرِكِينَ بِخَرَاجٍ يَضْرِبُهُ عَلَيْهَا، وَجِزْيَةٍ عَلَى رِقَابِ أَهْلِهَا، تَصِيرُ خَرَاجًا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لَا تَسْقُطُ عَنْ رِقَابِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ صَارَتْ بِالْغَلَبَةِ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ أَرْضَ السَّوَادِ، أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَشَاوَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَقَالَ دَعْهَا تَكُونُ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَرَكَهَا وَلَمْ يُقَسِّمْهَا وَضَرَبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ، وَكَانَ الْأَمِيرُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، قَالَ لَهُ الزُّبَيْرُ اقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَقَالَ: لَا حَتَّى أَكْتُبَ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ فَأَجَابَهُ عُمَرُ دَعْهَا حَتَّى يَغْدُوَ

(8/405)


فِيهِمَا حَبَلُ الْحَبَلَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى خَرَاجِهَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ كَالرِّقَابِ.
وَأَمَّا مالك فاستدل بقوله تعالى: {وللذين جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ مِنْهُمْ لِأَجْلِ مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ فُتُوحِ بِلَادِهِمُ الَّتِي اسْتَبْقَوْهَا وَقْفًا عَلَيْهِمْ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً فَلَمْ يُقَسِّمْهَا وَقَسَّمَ غَنَائِمَ هَوَازِنَ وَلَمْ يُقَسِّمْ أَرْضَهُمْ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ تَصِيرُ وَقْفًا لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَسَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْغَنَائِمَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ مَنْ سَلَفَ من الأنبياء تنزل نارا مِنَ السَّمَاءِ تَأْكُلُهَا فَأَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُمْ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأُمَّتِهِ وَالنَّارُ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِأَكْلِ الْمَنْقُولِ دُونَ الْأَرَضِينَ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَنْفُولِ بِالْغَنِيمَةِ الْمُسْتَبَاحَةِ دُونَ الْأَرَضِينَ.
وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] وَرَوَى مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسَّمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَانِمِينَ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، مِنْهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ أَعْطَى كُلَّ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، فَكَانَ لَهُمْ سِتُّمِائَةِ سَهْمٍ وَلِأَلْفٍ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا سَهْمٍ؛ صَارَتْ جَمِيعُ السِّهَامِ ألفا وثمان مائه سهم فقسمها على ثمانية عشرة مِنْهُمْ، وَأَعْطَى كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أن عمر رضي الله عنه ملك مائة سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ ابْتَاعَهَا، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي قَدْ أَصَبْتُ مَا لَمْ أُصِبْ قَطُّ مِثْلَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ؛ فَدَلَّتْ قِسْمَتُهَا وَابْتِيَاعُ عُمَرَ لَهَا لِمِائَةِ سَهْمٍ مِنْهَا عَلَى أَنَّهَا طِلْقٌ مَمْلُوكٌ وَمَالٌ مَقْسُومٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ظَهَرَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَسَّمَ عَقَارَهُمْ مِنَ الْأَرَضِينَ وَالنَّخِيلِ قِسْمَةَ الْأَمْوَالِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: عصبة اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَخُمُسُهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي إِنَّمَا قُرْبَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَغْنُومٌ فَوَجَبَ أَنْ يُقَسَّمَ كَالْمَنْفُولِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِهِ قِسْمَةُ الْمَنْفُولِ اسْتُحِقَّ بِهِ قِسْمَةُ غَيْرِ الْمَنْفُولِ كَالْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أبي حنيفة أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاوَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَسْمِ السَّوَادِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِ، فَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَمَ أَرْضَ السَّوَادِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَأَشْغَلُوهُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْغَانِمِينَ قَدْ تَشَاغَلُوا بِهِ عَنِ الْجِهَادِ؛ فَاسْتَنْزَلَهُمْ عَنْهُ فَنَزَلُوا؛ وَتَرَكَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ وَأَكْثَرَ قَوْمِهِ وَكَانَتْ نَخِيلُهُ رُبُعَ النَّاسِ، فَأَبَتْ طَائِفَةٌ منهم أن

(8/406)


يَنْزِلُوا فَعَاوَضَهُمْ عَنْهُ وَجَاءَتْهُ أُمُّ كُرْزٍ، فَقَالَتْ: إني أَبِي شَهِدَ الْقَادِسِيَّةِ، وَإِنَّهُ مَاتَ وَلَا أَنْزِلُ عن حقي إلا أن تركبني ناقة زلولا، عليها قطيفة حمراء، وتملاء كَفِّي ذَهَبًا، فَفَعَلَ حَتَّى نَزَلَتْ عَنْ حَقِّهَا، وَكَانَ قَدْرُ مَا مُلِئَ بِهِ كَفُّهَا ذَهَبًا نيفا وثمانين مثقالا، فولا أَنَّ قِسْمَةَ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ أَمْلَاكَ الْغَانِمِينَ عَلَيْهَا مُسْتَقِرَّةٌ، لَمَا اسْتَنْزَلَهُمْ عَنْهَا بِطِيبِ نَفْسٍ وَمُعَاوَضَةٍ، فَلَمَّا صَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ شَاوَرَ عَلِيًّا فِيهَا فَقَالَ: دَعْهَا تَكُونُ عُدَّةً لَهُمْ، فَوَقَفَهَا عَلَيْهِمْ، وَضَرَبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا هُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةٌ وَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ثَمَنٌ، وَأَمَّا أرض مصر فبعض فتوحها عنوة وبعضها صلح، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ نِزَاعُ عَمْرٍو وَالزُّبَيْرِ فِي أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَنِ الرِّقَابِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْمَنْفُولِ، فَإِنَّ عُمَرَ صَالَحَ نَصَارَى الْعَرَبِ عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَاشِيهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ خَرَاجًا بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ قَسْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ كَذَلِكَ الْأَرَضُونَ؛ ثُمَّ لَو سَلِمَ مِنْ هَذَا النَّقْصُ لَكَانَ الْمَعْنَى فِي الرِّقَابِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي وَقْتِ خِيَارِ الْإِمَامِ فِيهَا مَالًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ بِالِاسْتِرْقَاقِ مَالًا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ خِيَارٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وللذين جاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فَهُوَ أَنَّ هَذَا مِنْهُمْ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِتَمْهِيدِ الْأَرْضِ لَهُمْ، وَإِزَالَةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، وَنُصْرَةِ الدِّينِ بِجِهَادِهِمْ ثُمَّ بِمَا صَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِ الْفَيْءِ وَمَوَارِيثِ الْعَنْوَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فَتْحِ مَكَّةَ فَهُوَ أنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عِنْدَنَا صُلْحًا، فَالْكَلَامُ فِي فَتْحِهَا يَأْتِي، وَأَمَّا أَرْضُ هَوَازِنَ فَلَمْ تُغْنَمْ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا، وَإِنَّمَا قُوتِلُوا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا إِلَى حُنَينٍ، وَأَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ فِي أَوْطَاسٍ فَلَمَّا أَظْفَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ، وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَسُبِيَتْ ذَرَارِيهِمْ، آتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُدْلُونَ إِلَيْهِ بِحُرْمَةِ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ حَلِيمَةَ مُرْضِعَةَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ مِنْ هَوَازِنَ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا مَلَّحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ وَنَزَلْنَا مَعَهُ مَنْزِلَنَا مِنْكَ لَوَعَى ذَاكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْكَفِيلَيْنِ.
وَقَوْلُهُمْ مَلَّحْنَا: أَيْ رَضَّعْنَا وَأَنْشَدَ شَاعِرُهُمْ:
(امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ)

(امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ)

فَقَالَ: اخْتَارُوا أَمْوَالَكُمْ، أَوْ ذَرَارِيَكُمْ فَقَالُوا: خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا فَنَخْتَارُ أَحْسَابَنَا عَلَى أَمْوَالِنَا، فَقَالَ أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي هَاشِمٍ فَلِلَّهِ وَلَكُمْ، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: وَأَمَّا مَا لَنَا فلله ولرسوله ولكم فانكفوا إِلَى دِيَارِهِمُ الَّتِي لَا تُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ آمِنِينَ، وَقَدْ أَسْلَمُوا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَكْلِ النَّارِ الْمَنْفُولِ دُونَ الْأَرَضِينَ فَكَانَ هُوَ الْمَغْنُومُ، فهو

(8/407)


أنه استدل رَكِيكٌ وَضَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ لنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِقَوْلِهِ أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مِنْ قَبْلِي أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ عَلَى أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً كَذَلِكَ الْأَرْضُ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْآدَمِيُّونَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَظْفُورُ بِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَضَرْبَانِ: عَبِيدٌ وَأَحْرَارٌ.
فَأَمَّا الْعَبِيدُ فَمَالٌ مَغْنُومٌ.
وَأَمَّا الْأَحْرَارُ فَضَرْبَانِ: ذُرِّيَّةٌ وَمُقَاتِلَةٌ.
فَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَمِنْهُمْ لَا يَصِيرُونَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، مَرْقُوقِينَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ خِيَارٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِمْ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِكَوْنِهِمْ مَالًا مَغْنُومًا وَقَسَمَ سَبْيَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ وَقَسَمَ سبي هوازن بين الناس حتى استنزله هَوَازِنُ فَنَزَلَ وَاسْتَنْزَلَ.
وَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَلِلْإِمَامِ فِيهِمُ بالخيار اجْتِهَادًا وَنَظَرًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَمِنْهَا مَا رَآهُ صَالِحًا:
أَحَدُهُمَا: الْقَتْلُ.
وَالثَّانِي: الِاسْتِرْقَاقُ.
وَالثَّالِثُ: الْفِدَاءُ بِمَالٍ أَوْ رِجَالٍ.
وَالرَّابِعُ: الْمَنُّ، فَإِنْ كَانَ ذَا قُوَّةٍ يُخَافُ شَرُّهُ أَوْ ذَا رَأْيٍ يُخَافُ مَكْرُهُ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ مَهِينًا ذَا كَدٍّ وَعَمَلٍ اسْتَرَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ فَادَاهُ بِمَالٍ، وَإِنْ كَانَ ذَا جَاهٍ فَادَاهُ بِمَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَسْرَى، وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ وَرَغْبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَّ عليه وأطلقه من غير فداء، فيكون خيار لِلْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ، فَمَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ بِمَالٍ، أَوْ رِجَالٍ، أَوِ الْمَنِّ.
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: الْقَتْلُ، أَوِ الِاسْتِرْقَاقُ، وَلَيْسَ لَهُ الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ.
وَقَالَ صَاحِبَاهُ أبو يوسف ومحمد: هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ بِرِجَالٍ وَلَيْسَ لَهُ الْفِدَاءُ بِمَالٍ وَلَا الْمَنُّ، وَنَحْنُ نَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادِهِ.
أَمَّا الْقَتْلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية [التوبة: 5] وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْأَسْرَى أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ صَبْرًا، وَمِنْهُمْ: أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَابْنُ خَطَلٍ وَابْنُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، فَأَمَّا أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ فَإِنَّهُ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُنَّ عَلَيَّ، فَمَنَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَكَّةَ قَالَ سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ، وَعَادَ لِقِتَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اللهم أوقع أبا عزة فما أسر غيره فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ:

(8/408)


يَا مُحَمَّدُ مُنَّ عَلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمُنُّ عَلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَ مَكَّةَ فَتَقُولُ فِي نَادِي قُرَيْشٍ: سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ، لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، اقْتُلُوهُ فَقُتِلَ.
وَأَمَّا عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَلَمَّا أُسِرَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَتْلِهِ، فَقَالَ مَنِ الْمُصِيبَةُ فَقَالَ: النَّارُ، وَأَمَّا ابْنُ خَطَلٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ أَبَاحَ دَمَ سِتَّةٍ هُوَ مِنْهُمْ، فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ " وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَى السِّتَّةَ وَقَالَ اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا أُقِرَّ بِذَلِكَ قَالَ اقْتُلُوهُ فَقُتِلَ.
وَأَمَّا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِقَتْلِهِ حِينَ أُسِرَ فَقُتِلَ فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ اسْتَقْبَلَتْهُ قُتَيْلَةُ بِنْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَأَنْشَدَتْهُ:
(أَمُحَمَّدٌ وَلَدَتْكَ خَيْرُ نَجِيبَةٍ ... مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ)

(مَا كَانَ ضَرُّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ)

(فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تَرَكْتَ قَرَابَةً ... وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ)

فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ.
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسْرَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فشدوا الوثاق} وفي الآية تأويلان:
أحدها: إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ بِالظَّفَرِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ بِالْأَسْرِ.
وَالثَّانِي: إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ بِالْأَسْرِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ بِالِاسْتِرْقَاقِ وَقَدِ اسْتَرَقَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَهَوَازِنَ وَرَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ قَدْ أَسْلَمْتُ، فَقَالَ: لَوْ أَسْلَمْتَ قَبْلَ هَذَا لَكُنْتَ قَدْ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ فَاسْتِدْلَالُ أبي حنيفة عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثخن في الأرض} إِلَى قَوْلِهِ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68] يَعْنِي من أموال الفداء في أسرى

(8/409)


بدر وإذا مَنَعَتِ الْآيَةُ مِنَ الْفِدَاءِ بِمَالٍ كَانَتْ مِنَ الْفِدَاءِ بِالْمَنِّ لِمَنْ بَغَيرِ مَالٍ أَمْنَعُ، وَقَالَ تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَنَهَى عَنْ تَخْلِيَتِهِمْ بَعْدَ أَخْذِهِمْ وَحَصْرِهِمْ إِلَّا بِإِسْلَامِهِمْ فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِسِلَاحِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَلَا مَنْعُ السِّلَاحِ وَالْعَبِيدِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ تَبَعٌ يَقِلُّ ضَرَرُهُ قَصْدًا لِإِضْعَافِهِمْ فَكَانَ بِأَنْ لَا يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يُفَادَوْا بِمَالٍ عَنْ رِقَابِهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِهِمْ أَعْظَمُ، وَإِضْعَافَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ أَبْلَغُ وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي حَظْرِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَصَوَّرُوا جَوَازَهَا عِنْدَنَا أَقْدَمُوا عَلَى الْحَرْبِ تَعْوِيلًا عَلَى الْفِدَاءِ بَعْدَ الْأَسْرِ وَرَجَاءَ الْمَنِّ، وَإِذَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ إِذَا أَصَرُّوا كَانَ ذَلِكَ أَحْجَمَ لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ وَأَمْنَعَ مِنَ الْقِتَالِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ ظاهرة كان ما دعى إليها لازما.
والدليل عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لقيتم الذين كفروا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ دِينٌ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ صَرِيحًا فِي هَذَا الْآيَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ نَسْخُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْسَخَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَاسْتِعْمَالُهُمَا مُمْكِنٌ فِي جَوَازِ الْكُلِّ، وَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَإِبَاحَتُهُ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ خَاصَّةً مَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِأُسَارَى بَدْرٍ لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ، وهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا لِجَوَازِهِ عِنْدَهُ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ. قَالَ عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَبَرٌ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "، وَكَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَتَوْهُ مُسْلِمِينَ وَقَدْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى

(8/410)


أَنْ لَا يَعُودَ لِحَرْبِهِ أَبَدًا فَعَادَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَسَرَهُ، وَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَ صِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ زَيْنَبَ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْفِدَاءِ رواية عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ [أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فادى رجل برجلين رواه الشافعي مفسرا أن عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ] قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سرية فأسروا رجلا من بني عقيل فاستوثق منه، وطرح في الحرة فمن به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: فيما أخذت وفيم أُخذت سالفة الحاج يعني العضباء قال أخذت بجريرة حلفائكم مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ أَسَرُوا مُسْلِمِينَ فَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَعَطْشَانٌ فَاسْقِنِي، وَأَنَا مُسْلِمٌ فَخَلِّنِي فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْ قُلْتَ هَذَا قَبْلَ هَذَا أَفْلَحْتَ كُلَّ الفلاح، يعني: قبل أن تسترق وفاده بِرَجُلَيْنِ، وَحَبَسَ الْعَضْبَاءَ وَهِيَ نَاقَتُهُ الَّتِي خَطَبَ عَلَيْهَا بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُفَادِي بِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ.
قِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَرَقًّا فَصَارَتْ مُفَادَاتُهُ عِتْقًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ [مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِنَا بِالْجِزْيَةِ] مَعَ إِقْرَارِهِمْ فِي دَارِنَا جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمْ بِالْفِدَاءِ مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِنَا أَوْلَى.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ اعْتِيَاضُ رَقَبَةٍ مُشْرِكَةٍ فَجَازَ كَالْحُرِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَآلُفُ الْمُشْرِكِينَ بِإِعْطَائِهِمْ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ كَانَ تَآلُفُهُمْ بالْمَنِّ أَوْلَى، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَنُّ أَبْلَغَ فِي تَآلُفِهِمْ أَثَرًا أَوْ أعم صلاحاء.
وَحُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْخَوَارِجِ مِنْ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ فَلَمَّا رَآهُ مَنَّ عَلَيْهِ فَعَادَ إِلَى قَطَرِيٍّ، فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ: عُدْ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: هَيْهَاتَ عَلَا يَدًا مُطْلِقُهَا وَاسْتَرَقَّ رَقَبَةً مُعَتِقُهَا، وَأَنْشَدَ يَقُولُ:
(أُقَاتِلُ الْحَجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ ... بِيَدٍ تُقِرُّ بِأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ)

(إِنِّي إِذَنْ لَأَخُو الدَّنَاءَةِ وَالَّذِي ... شَهِدَتْ بِأَقْبَحِ فِعْلِهِ غدراته)

(ماذا أقول جار على أني إذن ... لَأَحَقُّ مَنْ جَارَتْ عَلَيْهِ وُلَاتُهُ)

(وَتَحَدَّثَ الْأَقْوَامُ أن ضائعا ... عَرَسَتْ لِذِي مُحْبَنْطِلٍ نَحَلَاتُهُ)

وَإِذَا كَانَ الْمَنُّ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ التَّآلُفِ وَالِاسْتِصْلَاحِ جَازَ إِذَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ أَنْ يُفْعَلَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] فَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ قَوْمُكَ وَعَشِيرَتُكَ فَاسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَقَالَ عُمَرُ: هُمْ

(8/411)


أَعْدَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وأخذ فداء الأسرى (ليتقوا بِهِ الْمُسْلِمُونَ) فَقِيلَ إِنَّهُ فَدَى كُلَّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لِلْمُهَاجِرِينَ: أَنْتُمْ عَالَةٌ يَعْنِي فُقَرَاءَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنْكَارًا عَلَى نَبِيِّهِ فِي فِدَاءِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ ما نجا غيرك في إنكار هذا الفداء فكان دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْفِدَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَهُوَ كَثْرَةُ الْقَتْلِ فَاقْتَضَى إِبَاحَةَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ وَقَدْ أَثْخَنَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ الْقَتْلِ وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ.
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَنَّهُ سَيُحِلُّ لَكُمُ الْغَنَائِمَ لَمَسَّكُمْ فِي تَعَجُّلِهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عذاب عظيم (قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وعبيدة) .
وَالثَّانِي: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ أنْ يُعَذِّبَهُمْ لَمَسَّهُمْ فِيمَا أَخَذُوا من فداء أسرى بدر عذاب عظيم (قاله مجاهد وسعيد بن جبير) .
وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] يَعْنِي بِهِ مَالَ الْغَنِيمَةِ وَالْفِدَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {اقتلوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فَهُوَ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ بعد حظر، وإذا أَبَاحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْقَتْلَ لَمْ تَمْنَعْ مِنْ جوز الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَحْرِيمِ الْمَنِّ عليهم لسلاحهم وعبدهم؛ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّلَاحَ وَالْعَبِيدَ وَالْمَالَ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِتْلَافُهُ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ المن به، وليس الرجال الأحرار مال لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِتْلَافُهُمْ فَجَازَ لَهُ الْمَنُّ بِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السِّلَاحَ وَالْعَبِيدَ قَدْ دَخَلَا فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ فِي الْمَنِّ بِهِمَا اجْتِهَادٌ. وَلَمْ يَدْخُلِ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمَامِ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِمُ اجْتِهَادٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فَهُوَ أَنَّنَا نُجَوِّزُهُ مَعَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فيمن يرجئ إِسْلَامُهُ أَوْ تَآلُفُ قَوْمِهِ وَيُمْنَعُ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ وَظُهُورِ الضَّرَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ خُمُسَ مَا حُصِّلَ بَعْدَ مَا وَصَفْنَا كَامِلًا وَيُقِرَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِأَهْلِهَا ثُمَّ يَحْسِبَ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ مِنَ الرجال

(8/412)


الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ وَيَرْضَخَ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنِّسَاءِ فَيَنْفُلُهُمْ شَيْئًا لِحُضُورِهِمْ وَيَرْضَخُ لِمَنْ قَاتَلَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ قِيلَ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْجَمِيعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَةُ مَالِ الْغَنِيمَةِ أَنَّهُ لِصِنْفَيْنِ: لِحَاضِرٍ، وَغَائِبٍ.
فَأَمَّا الْغَائِبُونَ فَهُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَوْصَافِهِمْ لَا بِحُضُورِهِمْ وَلَا يُزَادُ مِنْهُمْ حَاضِرٌ لِحُضُورِهِ عَلَى غَائِبٍ لِغَيْبَتِهِ.
وَأَمَّا الْحَاضِرُونَ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ تَفَرَّدَ مِنْهُمَا بِحَقٍّ مُعَيَّنٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ الْقَاتِلُ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ قَتِيلِهِ لَا يُشَارَكُ فِيهِ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ حَقُّهُ مُشْتَرِكًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُمْ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ عُيِّنَ لَهُ رَضْخٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَأَمَّا أَصْحَابُ السِّهَامِ الْمُقَدَّرَةِ فَهُمْ أَهْلُ الْقِتَالِ قَدْ تَعَذَّرَتْ سِهَامُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ بِأَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ لَا يُفَضَّلُ فِيهَا إِلَّا الْفَارِسُ بِفَرَسِهِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَى الرَّاجِلِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّضْخِ فَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَهُمْ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ: الصِّبْيَانُ، وَالْمَجَانِينُ، وَالنِّسَاءُ، وَالْعَبِيدُ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ لِحُضُورِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ غِيَابِهِمْ، وَيُفَضِّلُ مَنْ قَاتَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَا يَبْلُغُ بِرَضْخِ أَحَدِهِمْ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، بِسَهْمٍ لِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ وَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الغنيمة لمن شهد الواقعة " وَتَعْلِيَلًا بِأَنَّهُمْ شَهِدُوا الْوَاقِعَةَ فَأَسْهَمَ لَهُمْ كَأَهْلِ الْجِهَادِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال، 68، 69] فَلَمَّا كَانَ الْوَعْدُ فِيمَا أَخَذُوهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى أَهْلِ الْجِهَادِ كَانَ السَّهْمُ فِيمَا غَنِمُوهُ مُسْتَحَقًّا لِأَهْلِ الْجِهَادِ؛ وَلِأَنَّ سَهْمَ الْغَنِيمَةِ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْجِهَادِ فَلَمَّا خَرَجَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَرْضِ خَرَجُوا مِنَ السَّهْمِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ قَدْ حَضَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزَوَاتِهِ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ حَتَّى أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ عَلَى أَنَّنَا نَجْعَلُهَا لِجَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا نُفَاضِلُ بَيْنَ أَهْلِ الرَّضْخِ وَالْجِهَادِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُرْضَخُ لِهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ وَلَا يُسْهَمُ، فَالرَّضْخُ يَتَقَدَّرُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ أَوْ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ الْإِمَامُ مِنْ أَمِيرِ جَيْشٍ أَوْ قَاسِمِ يَغْنَمُ؛ فَيَقَعُ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْقِتَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا سُوِّيَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ تَفَاضَلُوا كالْغَانِمِينَ.

(8/413)


قِيلَ: لِأَنَّ سِهَامَ الْغَانِمِينَ مُقَدَّرَةٌ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِمُ التَّفَاضُلُ كَدِيَةِ الْحُرِّ، وَالرَّضْخُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَاعْتُبِرَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَغَنِيمَةِ الْعَبْدِ، وَلَا يُبْلَغُ بِالرَّضْخِ سَهْمُ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسِّهَامِ فَنُقِصَ عَنْ قَدْرِهَا كَحُكُومَاتِ الْجِرَاحِ عَلَى الأعضاء لما كانت تبع لِلْأَعْضَاءِ لَمْ تَبْلُغْ بِأَرْشِهَا دِيَاتِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الرَّضْخُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا كَالسَّلَبِ لِأَنَّهُمْ أَعْوَانٌ. فصاروا كحافظي الغنيمة (وحامليها الذين أعطون أجورهم من أصل الْغَنِيمَةِ) ؛ فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِإِعْطَاءِ السَّلَبِ وَأُجُورِ الْحَفَظَةِ وَالْحَمَّالِينَ ثُمَّ الرَّضْخِ ثُمَّ يُخَمِّسُ الْبَاقِيَ، فَيَعْزِلُ خُمُسَهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَتُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الْغَانِمِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَرْضَخَ لَهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَضْعَفُ مِنَ الْغَانِمِينَ حُكْمًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونُوا أَقْوَى حَقًّا؛ فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ بِالسَّلَبِ ثُمَّ بِالْأُجُورِ ثُمَّ بِالْخُمُسِ ثُمَّ بِالرَّضْخِ ثُمَّ يُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَتِهَا وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقَاوِيلِ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في بعض منصوصاته.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ثُمَّ يَعْرِفُ عَدَدَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْقِتَالَ فَيَضْرِبُ كَمَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلَلْفَارِسِ سَهْمًا وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَلَيْسَ يملك الفرس شيئا إنما يملكه صاحبه لما تكلف من اتخاذه واحتمل من مؤنته وندب الله تعالى إلى اتخاذه لعدوه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا أَفْرَدَ الإمام خمس الغنيمة على أربعة أخامسها يَبْدَأُ بالْغَانِمِينَ، فَقَسَّمَ فِيهِمْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، وقدمهم على أهل الخمس لثلاثة معاني:
أَحَدُهَا: لِحُضُورِهِمْ وَغَيْبَةِ أَهْلِ الْخُمُسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اجْتِهَادِهِمْ فَصَارَ مُعَاوَضَةً وَحَقُّ أَهْلِ الخمس مواساة.
والثالث: أن يهم مِلْكَ أَهْلِ الْخُمُسِ خُمُسَهُمْ؛ فَكَانُوا أَقْوَى فِي الْغَنِيمَةِ مِنْهُمْ فَإِذَا شَرَعَ فِي قِسْمَتِهَا فِيهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونُوا رَجَّالَةً لَا فَارِسَ فِيهِمْ، أَوْ فُرْسَانًا لَا رِجَالَ فِيهِمْ أَوْ يَكُونُوا فُرْسَانًا وَرِجَالًا.
فَإِنْ كَانُوا رَجَّالَةً لَا فَارِسَ فِيهِمْ أَوْ فُرْسَانًا لَا رِجَالَ فِيهِمْ سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَقَسَمَهَا عَلَى أَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ وَلَمْ يُفَضِّلْ شُجَاعًا عَلَى جَبَانٍ، وَلَا مُحَارِبًا عَلَى كَافٍّ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ حَاضِرٌ مُكَثِّرٌ، وَرَدٌّ مَهِيبٌ كَمَا يُسَوَّى فِي الْمَوَارِيثِ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ، وَالْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي النَّسَبِ.

(8/414)


وَإِنْ كَانُوا فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً فَضَّلَ الْفَارِسَ عَلَى الرَّاجِلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُفَضِّلُ بِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي الْفَارِسَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَيُعْطِي الرَّاجِلَ سَهْمًا وَاحِدًا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مَعَ أَهْلِ مِصْرَ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ مَعَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَالثَّوْرِيُّ وأبو يوسف ومحمد مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، إِلَّا أبا حنيفة وَحْدَهُ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ عَنْهُمْ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ فَبِرِوَايَةِ الْمِقْدَادِ قَالَ أَعْطَانِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِفَرَسِي وَبِرِوَايَةِ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَمِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ فَأَعْطَى الْفَارِسَ سهمين، والراجل سهما؛ لأنه جعل لثلاث مائة فَارِسٍ سِتَّمِائَةِ سَهْمٍ حَتَّى صَارَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ وَاحِدٌ مِنْ خَيْبَرَ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى سَهْمٍ كَالرَّاجِلِ؛ وَلِأَنَّ الْفَرَسَ تَبَعٌ أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَضَرَ بِلَا صَاحِبِهِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَلَوْ حَضَرَ صَاحِبُهُ بِلَا فَرَسٍ أُسْهِمَ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ التَّابِعِ أَفْضَلَ مِنْ سَهْمِ الْمَتْبُوعِ؛ وَلِأَنَّ عَنَاءَ صَاحِبِهِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا وَتَأْثِيرُهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَاتِلُ دُونَ الْفَرَسِ، وَسَهْمُ الْغَنِيمَةِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِحَسَبِ الْعَنَاءِ وَعَلَى قَدْرِ الْبَلَاءِ؛ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَضَّلَ مَا قَلَّ تَأْثِيرُهُ عَلَى مَا كَثُرَ قَالَ أبو حنيفة: لِأَنَّ فِي إِعْطَاءِ الْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَصَاحِبِهِ سَهْمًا تَفْضِيلًا لِلْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ وَإِنِّي لِأَسْتَحِي أَنَّ أُفَضِّلَ بَهِيمَةً عَلَى آدَمِيٍّ.
قَالَ أَصْحَابُهُ: وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُسْهَمَ لِلْفَرَسِ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ كَالسِّلَاحِ؛ وَلِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ كَالْبِغَالِ، وَلَكِنْ صِرْنَا إِلَى إِعْطَائِهِ سَهْمًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ وَمَنَعَ الْقِيَاسُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ.
ودليلنا ما رواه عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَسْهَمَ لِلرَّاجِلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ قَالُوا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسهم للفارس

(8/415)


ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ اسْتِدَامَةِ فِعْلِهِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَدَارَ هَذَا عَلَى بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ، وَفِيهِ لِينٌ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم سهما لَهُ؛ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٍ لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ، لِأَنَّهَا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نُصُوصٌ تَمْنَعُ مِنَ الْخِلَافِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ السَّهْمُ الثَّالِثُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دفعه إلى الفارس نقلا كما نقل الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ فَعَنْ ذلك أربعة أجوبة:
أحدهما: أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسْتَحَقِّ لَا عَنِ النَّفْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّفْلَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ فِي الْفَرَسِ شَرْطٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّفْلَ لَا يَكُونُ لِلْفَرَسِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ حُكْمَ السَّهْمِ الثَّالِثِ كَحُكْمِ السَّهْمَيْنَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونَا نَفْلًا لَمْ يَكُنِ الثَّالِثُ نَفْلًا.
ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ يَزِيدُ عَلَى مُقَدَّرٍ عَلَى وَجْهِ الرِّفْقِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالضَّعْفِ قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَّا مَسَحَ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَرْفَقَ الْمُسَافِرَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ولياليهن؛ ولأن مؤنة الفرس أقصر لِمَا يُتَكَلَّفُ مِنْ عُلُوفِهِ وَأُجْرَةِ خَادِمِهِ وَكَثْرَةِ آلَتِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ أَكْثَرَ؛ وَلِأَنَّهُ فِي الْحَرْبِ أَهْيَبُ، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْكَرِّ وَالْفَرِّ أَظْهَرُ. فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ أَوْفَرَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو العمري فيمن ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ أَقْوَى عِنْدَهُمْ مِنْهُ وَأَصَحُّ حَدِيثًا، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُ خِلَافَ مَا رَوَاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ أَزْيَدُ مِنْ خَبَرِهِ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَحْمِلُ سَهْمَ الْفَارِسِ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا بِفَرَسِهِ عَلَى السَّهْمِ الرَّاتِبِ لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ كَمَا رَوَيْنَا اسْتِعْمَالًا لِلرِّوَايَتَيْنِ فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ

(8/416)


إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى كَمَا رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا فَحَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّكْبِيرِ الزَّائِدِ عَلَى التَّكْبِيرَةِ الرَّاتِبَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِقْدَادِ فَقَدْ رَوَتْ عَنْهُ بِنْتُهُ كَرِيمَةُ أَنَّهُ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لِي، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِي فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ عَنْهُ وَسَقَطَتَا وَاسْتُعْمِلَتَا عَلَى مَا وَصَفْنَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ مَجْمَعًا وهم في حديثه. أنهم كانوا ثلاث مائة فَارِسٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ فَهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ تُوَافِقُهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْجَيْشَ هُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُمْ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّاجِلِ لِعِلَّةِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ فَهُوَ أَنَّ الْفَرَسَ لَا يُسْهَمُ لَهُ وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِصَاحِبِهِ لِأَجْلِهِ؛ فَكَانَ الْوَصْفُ غَيْرَ سَلِيمٍ ثُمَّ المعنى في الفرس أن مؤنته أكثر وبلائه أَظْهَرُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ أَكْثَرَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ تَابِعٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمِ الْمَتْبُوعِ.
فالجواب عنه أن كِلَا السَّهْمَيْنِ لِلْمَتْبُوعِ لَيْسَ لِلتَّابِعِ سَهْمٌ وَهُوَ أَكْثَرُ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ لَجَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَتْبُوعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عَنَاءَ صَاحِبِهِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَاتِلُ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ كِلَا الْعَنَائَيْنِ مُضَافٌ إِلَى صَاحِبِهِ إِلَّا أَنَّ تَأْثِيرَهُ لِفَرَسِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفَرَسِ يَلْحَقُ إِنْ طَلَبَ وَلَا يُلْحَقُ إِنْ هَرَبَ.
وَأَمَّا قَوْلُ أبي حنيفة: " إِنَّنِي أَسْتَحِي أَنَّ أُفَضِّلَ بَهِيمَةٍ عَلَى آدَمِيٍّ " [فَيُقَالُ لَهُ لَئِنِ اسْتَحْيَيْتَ أَنْ تفضل بينهما] فاستحي أَنْ تُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا وَأَنْتَ قَدْ سَوَّيْتَ.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَلَسْتَ قَدْ فَضَّلْتَ قِيمَةَ الْبَهِيمَةِ إِذَا تَلَفَتْ عَلَى ذِمَّةِ الْحُرِّ إِذَا قُتِلَ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الِاسْتِحْيَاءَ، فَكَذَلِكَ فِي السَّهْمِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ السَّهْمُ لِلْبَهِيمَةِ فَيَسْتَحِي مِنْ تَفْضِيلِهَا بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِصَاحِبِهَا وَالْبَهِيمَةُ لَا تَمْلِكُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ مِنَ السَّهْمِ لِلْبَهِيمَةِ فَهَذَا قِيَاسٌ قَدْ أَبْطَلَهُ النَّصُّ فبطل.

(8/417)


فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، فَالْفُرْسَانُ هُمْ أَصْحَابُ الْخَيْلِ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْمَطَايَا وَالْفِيَلَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الخيل مقعود بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ " وَلِأَنَّهَا هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْخَيْلُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَتِيقِهَا وبَرَاذِينِهَا ومقارفها وهجنها؛ والعتيق: ما كان أبواه عربين.
وَالْبِرْذَوْنُ: مَا كَانَ أَبَوَاهُ أَعْجَمِيَّيْنِ.
وَالْمُقْرِفُ: مَا كَانَتْ أُمُّهُ عَرَبِيَّةً وَأَبُوهُ أَعْجَمِيُّ.
وَالْهَجِينُ: مَا كَانَ أَبُوهُ عَرَبِيًّا وَأُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً وَبِهَذَا قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ الْفَرَسُ عَتِيقًا أُسْهِمَ لَهُ سَهْمَانِ وَإِنْ كَانَ بِرْذَوْنًا لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقْرِفًا أو هجينا أسهم له بسهم وَاحِدٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُسْهَمُ لِلْعَتِيقِ سَهْمَانِ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْخَيْلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمُخْتَصَّةَ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ هِيَ الْعُتْقُ فَاخْتَصَّتْ بِالسَّهْمِ الْأَوْفَى وَكَانَ مَا سِوَاهُمَا بِالنَّقْصِ أَوْلَى وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] وَلِأَنَّ الْعَتِيقَ وَإِنْ كَانَ أَحَدَّ وَأَسْرَعَ فَالْبِرْذَوْنُ أَشَدُّ وَأَبْهَى وَأَصْبَرُ فَصَارَ اخْتِصَاصُ الْعَتِيقِ بِالْحِدَّةِ فِي مُقَابَلَةِ اخْتِصَاصِ الْبِرْذَوْنِ بِالشِّدَّةِ فَتَقَابَلَا وَاسْتَوَيَا، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الْخَيْلِ لَمَّا اسْتَوَى عَرَبِيُّهُمْ وعَجَمِيُّهُمْ فِي السُّهُمِ فَالْخَيْلُ أَوْلَى بِأَنْ يَسْتَوِيَ عَرَبِيُّهَا وَعَجَمِيُّهَا فِي السُّهُمِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلٌ وانفصال والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ حَضَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ يُعْطَ إِلَّا لواحد لأنه لا يلقى إلا بواحد ولو أسهم لاثنين لأسهم لأكثر ولا يسهم لراكب دابة غير دابة الخيل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا حَضَرَ الْفَارِسُ الْوَقْعَةَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُعْطَ إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ حَضَرَهَا بِمِائَةِ فَرَسٍ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ، وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَضَرَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِ؛ ولأن الثاني عدة

(8/418)


مجيئها يرواح بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ إِنْ أَعْيَا أَوْ زَمِنَ فَكَانَ تَأْثِيرُهُمَا أَكْثَرَ مَعَ مَا قَدْ تَكَلَّفَهُ لَهُمَا مِنْ زِيَادَةِ الْمُؤْنَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ أَفْرَاسٌ فَلَمْ يُسْهِمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ: السَّكْبُ وَالظَّرِبُ وَالْمُرْتَجِزُ فَلَمْ يَأْخُذِ السَّهْمَ إِلَّا لِوَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّهُ لا يقاتل إلا على واحد منهما وَلَوْ تَحَوَّلَ عَنْهُ صَارَ تَارِكًا لَهُ وَيَكُونُ الثَّانِي إِنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَالثَّالِثِ فِي أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ وَلَا يُسْهَمُ لَهُ فَكَذَلِكَ الثَّانِي، وَيَصِيرُ مَا سِوَى الْأَوَّلِ زِينَةً وَاسْتِظْهَارًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ كَخَدَمِ الزَّوْجَةِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا نَفَقَةَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِ وَيَصِيرُ مَا عَدَاهُ زِينَةً وَزِيَادَةً وَاسْتِظْهَارًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ مَكْحُولٍ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافَهُ وَهُوَ صَحَابِيٌّ خَبَرُهُ مُسْنَدٌ وَذَاكَ تَابِعِيٌّ خَبَرُهُ مُرْسَلٌ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ الثَّانِيَ عُدَّةٌ وَقَدْ تُكُلِّفَ لَهُ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ فَهَذَا حَالُ الثَّالِثِ أَيْضًا وَلَا يُوجِبُ السَّهْمَ لَهُ فَكَذَلِكَ الثَّانِي.

فَصْلٌ:
وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ الْوَقْعَةَ بِفَرَسٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ هَيَّبَ بِهِ وَقَدْ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَاتَلَ فِي الْمَاءِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُبَّمَا انتقل إلى البئر وَقَاتَلَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَاتَلَ عَلَى حِصَارِ حِصْنٍ أُسْهِمَ لِفَرَسِهِ، لِأَنَّهُ عُدَّةٌ يَلْحَقُ بِهِ أَهْلَ الْحِصْنِ إِنْ هَرَبُوا أَوْ يُرْهِبَهُمْ بِهِ إِنْ حُوصِرُوا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ فَرَسًا، فَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ، أُسْهِمَ لِلْفَرَسِ لِلْحُضُورِ مَعَ الْغَاصِبِ، لِظُهُورِ التَّأْثِيرِ فِيهِ، وَحُصُولِ الْإِرْهَابِ بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْغَصْبُ مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ مُسْتَحَقًّا، فَفِي مُسْتَحِقِّهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيهِ فِي رِبْحِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْغَاصِبِ بِعَمَلِهِ، جُعِلَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ لِقِتَالِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ رِبْحَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِرَبِّ الْمَالِ بِحَقِّ مَالِهِ، جُعِلَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ لِمَالِهِ بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ صَاحِبٌ مِمَّنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ فَغَصَبَ فَرَسَهُ غَاصِبٌ قَاتَلَ عَلَيْهِ كَانَ سَهْمُ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ دُونَ غَاصِبِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِالْحُضُورِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْغَصْبِ، وَيَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ السَّهْمُ لِغَيْرِهِ لِوُجُوبِهَا بِالْغَصْبِ.
فَصْلٌ:
وَلَوِ اسْتَعَارَ فَرَسًا أَوِ اسْتَأْجَرَهُ، فَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ نُظِرَ، فَإِنِ اسْتَعَارَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ مَلَكَ سَهْمَهُ، لِتَمَلُّكِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِالْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَإِنِ اسْتَعَارَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلرُّكُوبِ دُونَ الْقِتَالِ صَارَ كَالْغَاصِبِ فَيَكُونُ فِي سَهْمِهِ وَجْهَانِ.

(8/419)


فَصْلٌ:
وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ بِفَرَسٍ فَضَلَّ مِنْهُ الْفَرَسُ نُظِرَ، فَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْوَقْعَةِ وَمَصَافِّ الْقِتَالِ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا وَتَجَاوَزَ مَصَافَّ الْقِتَالِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْهَمُ لَهُ لِبَقَائِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْذَارَ تُؤَثِّرُ فِي تَمَلُّكِ الْأَمْوَالِ كَمَا لَوْ ضَلَّ صَاحِبُهُ عَنْ حُضُورِ الْوَقْعَةِ حَتَّى فَاتَتْهُ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وإِنْ كَانَ مَعْذُورًا.
فَصْلٌ:
وَإِنْ خَلَفَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ فِي مُعَسْكَرِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ وَقْعَةَ الْقِتَالِ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَوْ تَأَخَّرَ فِي الْمُعَسْكَرِ عَنْ حُضُورِ الْوَقْعَةِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، فَفَرَسُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْهَمَ لَهُ وَلَكِنْ لَوِ اسْتَخْلَفَهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِالْمُعَسْكَرِ عَلَى حِفْظِهِ وَحِرَاسَتِهِ حَظْرًا مِنْ هُجُومِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ أُسْهِمَ لَهُ وَلِفَرَسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ لِلْجَيْشِ مِنْ حُضُورِهِ مَعَهُمْ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْجَيْشِ أَفْرَدَ مِنْهُمْ كَمِينًا لِيَظْفَرَ مِنَ الْعَدُوِّ بِفَرِّهِ، أُسْهِمَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ؛ لِأَنَّهُمْ عَوْنٌ فِيهَا يَخَافُهُمُ الْعَدُوُّ وَيَقْوَى بِهِمُ الْجَيْشُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْخَيْلَ فَلَا يُدْخِلُ إِلَّا شَدِيدًا وَلَا يُدْخِلُ حَطِمًا وَلَا قَمْحًا ضعيفا ولا ضرعا (قال المزني) رحمه الله القحم الكبير والضرع الصغير ولا أعجف رازحا وإن أغفل فدخل رجل على واحدة منها فقد قيل لا يسهم له لأنه لا يغني غناء الخيل التي يسهم لها ولا أعلمه أسهم فيما مضى على مثل هذه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ خَيْلَ الْمُجَاهِدِينَ وَتَجْهِيزَهَا، وَلَا يُدْخِلُ فِيهَا حَطِمًا وَهُوَ الْكَبِيرُ وَلَا ضَرْعًا وَهُوَ الصَّغِيرُ، وَلَا أَعْجَفَ رَازِحًا وَهُوَ الْهَزِيلُ الَّذِي لَا حَرَاكَ بِهِ لِأَنَّهَا لَا تَفِي عَنَاءَ الْخَيْلِ الشَّدِيدَةِ وَقَدْ تَضُرُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عجزهما عَنِ النَّهْضَةِ وَعَجْزُ رَاكِبِهَا عَنِ الْمُقَاتَلَةِ.
وَالثَّانِي: ضِيقُ الْغَنِيمَةِ بِالْإِسْهَامِ لَهَا عَلَى ذَوِي الْعَنَاءِ وَالشِّدَّةِ، فَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الضَّعِيفَةِ الْعَاجِزَةِ عَنْ عَنَاءِ الْخَيْلِ السَّلِيمَةِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَدْ نَادَى فِيهِمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنَ الْجَيْشِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَلَا سَهْمَ لِمَنْ دَخَلَ بِهَا لأن في الْبِغَالَ الَّتِي لَا سَهْمَ لَهَا مَا هُوَ عناء منها، وإن لم ينادي فِيهِمْ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا وفي الأم قيل: لَا يُسْهَمُ، وَقِيلَ يُسْهَمُ لَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ حَيْرَانَ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُسْهَمُ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ فَعَجْزُهَا عَنِ الْعَنَاءِ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُسْهَمُ لَهَا؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُمَا فِي السَّهْمِ كَالْمُقَاتِلَةِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ

(8/420)


فَقَوْلُهُ يُسْهَمُ لَهَا إِذَا أَمْكَنَ الْقِتَالُ عَلَيْهَا مَعَ ضَعْفِهَا، وَقَوْلُهُ لَا يُسْهَمُ لَهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْقِتَالُ عَلَيْهَا لِضَعْفِهَا.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ إِذَا حَضَرَ صَاحِبُهُ شَيْئًا مِنَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ فَارِسًا إِذَا دَخَلَ بِلَادَ الْعَدُوِّ ثُمَّ مَاتَ فَرَسُهُ أَوْ كَانَ فَارِسًا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَرْبِ وَجَمْعِ الْغَنِيمَةِ فَلَا يُضْرَبُ لَهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الدِّيوَانِ حِينَ دَخَلَ لَكَانَ صَاحِبُهُ إِذَا دَخَلَ ثَبَتَ فِي الدِّيوَانِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ أَحَقُّ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَارِسًا، ثُمَّ نَفِقَ فَرَسُهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ أَجَّرَهُ قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ حَتَّى حَضَرَهَا رَاجِلًا، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُسْهَمُ لَهُ إِذَا زَالَ عَنْ مِلْكِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْحَرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ.
وَقَالَ محمد بن الحسن: إِنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَنِفَاقِهِ أَوْ سَرِقَتِهِ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ زَالَ بِاخْتِيَارِهِ كَبَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أبي حنيفة مِثْلُهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا، فَصَارَ عن أبي حنيفة ثلاثة رِوَايَاتٍ أَشْهَرُهَا الْأُولَى.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَنْ دَخَلَ أرض العدو راجلا، ثم ملك قبل تقضي الْحَرْبُ فَرَسًا بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ فَحَضَرَ بِهِ الْوَقْعَةَ أُسْهِمَ لَهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُسْهَمُ لَهُ اعْتِبَارًا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا اسْتِدْلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْإِعْدَادُ، وَقَدْ أَعَدَّهُ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ قَدْ حَصَّلَ الْإِذْلَالَ وَالْقَهْرَ، فَاسْتُحِقَّ بِهِ السَّهْمُ، قَالُوا: وَلِأَنَّ سَهْمَ فَرَسِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَا تَكَلَّفَهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ، وَقَدْ تَكَلَّفَهَا فَاسْتَحَقَّ السَّهْمَ بِهَا، وَرُبَّمَا حَرَّرُوا هَذَا الِاعْتِلَالَ قِيَاسًا فَقَالُوا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا مُجَاهِدًا، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفَارِسِ كَالْحَاضِرِ لِلْوَاقِعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ استحقاق السهم في الفصين مَعًا بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ لَا بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَاعْتُبِرَ بِمِلْكٍ حَالَ الْمَغْنَمِ إِجَازَتُهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ الْفَرَسَ تَابِعٌ وَالْمَالِكَ مَتْبُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمَالِكِ الْمَتْبُوعِ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ وَقَبْلَ الْوَقْعَةِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِهِ، فَالْفَرَسُ التَّابِعُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مَانِعًا مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ ذُو سَهْمٍ مَاتَ قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ كَالْمَالِكِ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا دَخَلَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَثْبَتُ وَأَقْوَى مِنْهَا عَلَى ما في دار الحرب (فلما

(8/421)


استوى اعتبار سهم الفارس والفرس في دار الإسلام بحضور الإسلام، كان أولى أن يعتبر فِي دَارِ الْحَرْبِ) بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ.
وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ حَالٍ مَنَعَ مَا قَبْلَهَا مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَارِسِ مَنَعَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَرَسِ قِيَاسًا عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَغْنَمٍ مُنِعَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ مَنَعَتْ دَارُ الْحَرْبِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ قِيَاسًا عَلَى مَوْتِ الْفَارِسِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْقِتَالُ بَعْدَ الِاسْتِعْدَادِ لَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ، أَلَا تَرَى أَنْ لَوِ اسْتَعَدَّ وَلَمْ يَحْضُرْ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَلَوْ حَضَرَ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ أُسْهِمَ لَهُ فَإِنْ قِيلَ: فَالرَّهْبَةُ قَدْ وَقَعَتْ بِالْفَرَسِ فِي دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الرَّهْبَةِ بِالْفَارِسِ لَا بِالْفَرَسِ ثُمَّ لَيْسَتِ الرَّهْبَةُ مِنَ الْفَارِسِ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ مُوجِبَةً لِسَهْمِهِ، فكذلك لفرسه.
وأما قول عليه بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا "، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْغَزْوَ فِي الدَّارِ هُوَ الْإِذْلَالَ لَا دُخُولَ الدَّارِ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُمْلَكُ بِالْإِذْلَالِ، وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْغَلَبَةِ وَالْإِجَازَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا تَكَلَّفَهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ تَكَلُّفُ الْمُؤْنَةِ مُوجِبًا لِمِلْكِ السَّهْمِ فِي الْمَغْنَمِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَكَلَّفَهَا لِفَرَسِهِ فَهَلَكَ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ تَكَلَّفَهَا لِنَفْسِهِ وَهَلَكَ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُسْهَمْ لِوَاحِدٍ مِنْهَا، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بذلك.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ دَخَلَ يُرِيدُ الْجِهَادَ فَمَرِضَ وَلَمْ يُقَاتِلْ أُسْهِمَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّحِيحُ إِذَا حَضَرَ الْوَاقِعَةَ فَلَهُ سَهْمُهُ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ حُنَينٍ إِلَى أَوَطَاسٍ فَغَنِمَتْ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أَقَامَ بِحُنَينٍ، وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمْ، فَكَانَ الْحَاضِرُ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ أَوْلَى أَنْ يَشْرُكَهُمْ وَلِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ هَيَّبَ وَكَثَّرَ وَأَرْهَبَ وَخَوَّفَ، فَصَارَ حُضُورُهُ مُؤَثِّرًا كَالْمُقَاتِلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ جَمِيعِ الْجَيْشِ أَنْ يُقَاتِلَ وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ بَعْضُهُمْ، وَيَكُونُ الْبَاقُونَ رِدًّا لَهُمْ لِتَقْوَى نَفْسُ الْمُقَاتِلِ بِحُضُورِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ.
وَأَمَّا إِذَا حَضَرَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ كَانَ صَحِيحًا فَمَرِضَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ كالصُّدَاعِ وَالسُّعَالِ وَنُفُورِ الطِّحَالِ وَالْحُمَّى الْقَرَنِيَّةِ، فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ، لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ، وَقِلَّةِ خُلُوِّ الْأَبْدَانِ مِنْ مِثْلِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ مَعَهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا:

(8/422)


أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ هَا هُنَا أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ "؛ وَلِأَنَّهُ مُهَيِّبٌ وَمُكَثِّرٌ كَالصَّحِيحِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَعُ بِرَأْيِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ بِقِتَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُسْهَمَ لَهُ وَيُعْطَى رَضْخًا؛ لِأَنَّهُ مَسْلُوبُ النُّهُوضِ بِالْمَرَضِ فَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَرِيضًا يَخْرُجُ بِهِ، مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ كَالْعَمَى وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ أَوِ الزَّمَانَةِ الْمُقْعِدَةِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَيُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الصِّحَّةِ كَالْحُمَّى الشَّدِيدَةِ، وَرَمَدِ الْعَيْنِ، وَانْطِلَاقِ الْجَوْفِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَجِيرٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فَقَدْ قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يسهم له وتطرح الإجارة وَلَا يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ يُرْضَخُ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْأَجِيرَ إِذَا حَضَرَ الْوَاقِعَةَ لَمْ يَخْلُ حَالُ إِجَارَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ أَوْ مُعَيَّنَةً فِي رَقَبَتِهِ.
فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُقُوقِ فِي الذِّمَمِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فِي الْمَغْنَمِ كَالدُّيُونِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فِي رَقَبَتِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً بِالزَّمَانِ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ كَرَجُلٍ استأجر لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ صِنَاعَةِ حُلِيٍّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ إِجَارَةً لَازِمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ إِجَارَةً يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا فَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ بِالْعَقْدِ مُسْتَحَقَّةٌ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ فَعَلَى هَذَا يُرْضَخُ لَهُ وَهُوَ عَلَى إِجَارَتِهِ مُسْتَحِقٌّ لِأُجْرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَضْ عَنْ مَنْفَعَتِهِ فَانْصَرَفَتْ إِلَى إِجَارَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَنَافِعِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ أَحْكَامِ قُرْبِهِ كَالْحَجِّ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ أَحْكَامَ الْعَبْدِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ حُضُورُ الْوَقْعَةِ لَا يمنع

(8/423)


مِنْ مَنَافِعِ إِجَارَتِهِ كَأَجِيرٍ يَخْدُمُ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ مَعَ السَّهْمِ كَمَا يَكُونُ لَهُ الْحَجُّ مَعَ الْأُجْرَةِ وَإِنْ كَانَ حُضُورُ الْوَقْعَةِ يَمْنَعُ مِنْ مَنَافِعِ إِجَارَتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْعُوَهُ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى خِدْمَتِهِ فَيَأْبَى وَيَغْلِبَهُ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ. فَهَذَا يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَ مُدَّةَ حُضُورِهِ لِئَلَّا يَجْمَعَ فِيهَا بَيْنَ بَدَلَيْنِ وَقَدِ امْتَلَكَهَا فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: لَا يَدْعُوهُ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى خِدْمَتِهِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّهَا تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: يَسْتَحِقُّهَا؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَالتَّمْكِينُ مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ تُقَدَّرُ عَلَى قَسْمِهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: لَا يُسْهَمُ لَهُ سَوَاءً أَقَامَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدُ أَوْ فَسَخَ.
وَالثَّانِي: يُسْهَمُ لَهُ سَوَاءً أَقَامَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدُ أَوْ فَسَخَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ وَيُعْطَى رَضْخًا وَتَكُونَ لَهُ الْأُجْرَةُ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ فَيُسْهَمُ لَهُ وَتَسْقُطُ الْأُجْرَةُ.
فَإِذَا قِيلَ: يُسْهَمُ لَهُ فَسَوَاءً قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ لَهُ سَهْمُهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْجَيْشِ.
وَإِذَا قِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ مَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي حُضُورِهِ، فَأَمَّا إِذَا قَاتَلَ وَأَبْلَى فِإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ السَّلَبَ إِنْ قَتَلَ قَتِيلًا، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو الْفَيَّاضِ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِبَلَائِهِ وَظُهُورِ عَنَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ بِالْحُضُورِ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَإِنْ قَاتَلَ كَأَهْلِ الرَّضْخِ طردا وأهل الجهاد عكسا.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أفلت إليهم أسير قبل تحرز الْغَنِيمَةَ فَقَدْ قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ فَيُقَاتِلُ فَأَرَى أَنْ يُسْهَمَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ أَسِيرٌ وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ وَقْتَ الْقِتَالِ وَصَارَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالْجَيْشِ أَوْ لَا يَخْتَلِطُ فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ وَتَوَجَّهَ إِلَى وَطَنِهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَإِنِ اخْتَلَطَ فِي الْجَيْشِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَحْضُرَ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبِ فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُسْهَمُ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ الْجِهَادَ وَلَا تَكَلَّفَ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَلِأَنَّ مَنْ أُسْهِمَ لَهُ إِذَا قَاتَلَ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ كَسَائِرِ الْجَيْشِ؛ وَلِأَنَّ مَا عَانَاهُ مِنْ شِدَّةِ الْأَسْرِ وَذُلِّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سببا لحرمانه فأمانية الْقَصْدِ وَتَكَلُّفُ الْمُؤَنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي سَهْمِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ فِي سَهْمِهِ.

(8/424)


وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْضُرَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَقَبْلَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ مَتَى يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ الْغَنِيمَةَ.
فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَهُمْ بِانْقِضَاءِ الْحَرْبِ أَنْ يَتَمَلَّكُوهَا، فَعَلَى هَذَا يُسْهَمُ مِنْهَا لِأَسِيرٍ لِأَنَّهُ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي سَهْمِ التَّمَلُّكِ لَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَتَمَلَّكُونَهَا بِشَرْطَيْنِ: الْقِتَالُ عَلَيْهَا وَالْإِحَازَةُ لَهَا.
فَعَلَى هَذَا لَا سَهْمَ لِأَسِيرٍ بِحُضُورِهِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الْجَيْشُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا.
فَإِذَا قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ، فَبِحَسَبِ حَالِهِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا وَإِذَا قِيلَ: لَا يُسْهَمُ لَهُ، فَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فَلَا رَضْخَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ قِسْمَتِهَا رُضِخَ لَهُ مِنْهَا، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ أَنْ لَا يُرْضَخَ لَهُ لِفَوَاتِ زَمَانِ التَّمَلُّكِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ دَخَلَ تُجَّارٌ فَقَاتَلُوا لَمْ أَرَ بَأْسًا أن يسهم لهم وقيل لَا يُسْهَمُ لَهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اتَّبَعَ الْجَيْشَ تُجَّارٌ وَصُنَّاعٌ قَصَدُوا كَسْبَ مَنَافِعِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ فَإِنْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْوَقْعَةِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ وَإِنْ حَضَرُوهَا نُظِرَ فَإِنْ قَاتَلُوا أُسْهِمَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْقِتَالِ قَدْ عَدَلُوا عَنْ قَصْدِ الْكَسْبِ إِلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا سَهْمَ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُسْهَمُ لَهُمْ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَمْنَعِ التِّجَارَةُ وَالصِّنَاعَةُ مِنَ الْحَجِّ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْجِهَادِ، فَإِذَا أُسْهِمَ لَهُمُ اعْتُبِرَتْ أَحْوَالُهُمْ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً.
وَإِذَا قِيلَ: لَا يُسْهَمُ، أُعْطَوْا رَضْخًا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِإِدْرَاكِهِمْ زَمَانَ الِاسْتِحْقَاقِ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو جاءهم مرد قبل أن تنقضي الْحَرْبُ فَحَضَرُوا مِنْهَا شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ شَرَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ فَإِنِ انْقَضَتِ الْحَرْبُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَنِيمَةِ مَانِعٌ لَمْ يَشْرُكُوهُمْ ".
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَلْحَقَ بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الحرب مرد لم يخل حال المرد مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُدْرِكُوا الْوَقْعَةَ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبُ فَيَكُونُوا شُرَكَاءَ لِلْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ سَوَاءً قَاتَلُوا مَعَهُمْ أَمْ لَا وَسَوَاءً احْتَاجَ الْجَيْشُ إِلَيْهِمْ أَمْ لَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ وَلِأَنَّ لِوُرُودِهِمْ تَأْثِيرًا فِي الْقُوَّةِ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلظَّفَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُدْرِكُوهُمْ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبُ، وَانْجِلَاءِ الْوَقْعَةِ، وَقَبْلَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ.

(8/425)


وَالْإِحَازَةُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَيُوَلِّيَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ وَنَأْمَنُ رَجَعَتَهُمْ فِي الْحَالِ فَتَكْمُلُ الْإِحَازَةُ بهذه الشروط الثلاثة فإن انحزم شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ تَكْمُلِ الْإِحَازَةُ، فَإِذَا كَانَ حضور المرد بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبُ وَقَبْلَ الْإِحَازَةِ فَهَلْ يُشْرِكُونَهُمْ فِيهَا أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنَ الْمَاضِيَيْنِ نَصًّا، وَتَخْرِيجًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُدْرِكُوهُمْ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبُ وَبَعْدَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْإِحَازَةِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الغنيمة والجيش أحق بها من المرد.
وقال أبو حنيفة: المرد شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ إِذَا أَدْرَكُوهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ أُحْرِزَتِ الْغَنَائِمُ مَا لَمْ يَقْتَسِمُوهَا أَوْ يَكُنِ الْإِمَامُ قَدْ بَاعَهَا وَلَوْ كان المرد أَسْرَى لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إجازة الغنائم لم يشركوهم.
واستدل على مشاركة المرد لَهُمْ بِأَنَّهُمْ جَيْشٌ اجْتَمَعُوا عَلَى نَفْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يُشْرَكُوا فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْحَاضِرِينَ قَبْلَ الْحَرْبِ؛ وَلِأَنْ لَمَّا كان الرد مشاركا وجب أن يكون المرد مُشَارِكًا لِأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ عَوْنٌ وَلِلْجَيْشِ بِهِمَا قُوَّةٌ، وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِحَازَةِ إلى دار الإسلام فصار المرد مدركا لها قبل إحازتهما.
ودليلنا قوله ^: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَالَّذِي شَهِدَهَا الْجَيْشُ دون المرد فوجب أن يكون أحق بها من المرد.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّرَ أَبَّانَ بْنَ سَعِيدٍ عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ فَقَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخَيْبَرَ، وَقَدْ فَتَحَهَا وَأَجَازَهَا فَسَأَلَهُ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنْهَا فَأَبَى؛ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الجيش بها دون المرد، وَلِأَنَّ لُحُوقَهُمْ بِالْجَيْشِ بَعْدَ إِجَازَةِ الْغَنِيمَةِ يَمْنَعُ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ قِيَاسًا عَلَى الْأَسْرَى وَلِأَنَّ كُلَّ غَنِيمَةٍ لَا يُسْهَمُ لِلْأَسْرَى مِنْهَا لَمْ يُسْهَمْ لِلْمَرَدِّ مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى مَا نُفِلَ أَوْ قُسِّمَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى نَفْلِ الْغَنِيمَةِ فَلَيْسَ النَّفْلُ عِلَّةً فِي التَّمَلُّكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَسْرَى لَوْ نَفَلُوا لَمْ يَتَمَلَّكُوا وَكَذَلِكَ الْأُجَرَاءُ عَلَى النَّفْلِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالرَّدِ، فَهُمْ وَالْمَرَدُّ سَوَاءٌ إِنْ أَدْرَكَ الْوَقْعَةَ أُسْهِمَ لَهُمْ كَالرِّدِّ وَإِنْ لَمْ يدرك الرد الْوَقْعَةَ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ كَالْمَرَدِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْغَنِيمَةَ يُمْكِنُ إِحَازَتُهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فليس للدار تأثيرا في تملكها وإنما تملك بمجرد الإجارة عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب.

مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَوْ أَنَّ قَائِدًا فَرَّقَ جُنْدَهُ فِي وَجْهَيْنِ فَغَنِمَتْ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ أَوْ غَنِمَ الْعَسْكَرُ وَلَمْ تَغْنَمْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا شَرَكُوهُمْ لِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ وكلهم ردء

(8/426)


لصاحبه وقد مضت خيل المسلمين فغنموا بأوطاس غنائم كثيرة وأكثر العساكر بحنين فشركوهم وهم مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكن لو كان قوم مقيمين ببلادهم فخرجت منهم طائفة فغنموا لم يشركوهم وإن كانوا منهم قريبا لأن السرايا كانت تخرج من المدينة فتغنم فلا يشركهم أهل المدينة ولو أن إماما بعث جيشين على كل واحد منهما قائد وأمر كل واحد منهما أن يتوجه ناحية غير ناحية صاحبه من بلاد عدوهم فغنم أحد الجيشين لم يشركهم الآخرون فإذا اجتمعوا فغنموا مجتمعين فهم كجيش واحد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلِلسَّرَايَا الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْجُيُوشِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَسْرِيَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ خَارِجٍ فِي الْجِهَادِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَسْرِيَ من جملة جيش مقيم.
فأما الحالة الْأُولَى وَهُوَ أَنْ تَسْرِيَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ خَارِجٍ فِي الْجِهَادِ فَصُورَتُهَا أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ لِجَيْشِهِ أَوْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْجَيْشِ أَمِيرًا فَيُنْفِذَ السَّرَايَا مِنْ جُمْلَةِ الْجَيْشِ الْخَارِجِ فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْ جُمْلَتِهِ سَرِيَّةٌ وَاحِدَةٌ إِلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ؛ فَتَكُونُ السَّرِيَّةُ وَالْجَيْشُ شُرَكَاءَ بِجَمِيعِ مَا غَنِمُوهُ، فَإِنْ غَنِمَتِ السرية شاركهم الجيش، وإن غنم الجيش شركتهم السَّرِيَّةُ وسَوَاءً كَانَ تَفَرُّدُ السَّرِيَّةِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الْجَيْشُ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَتَمَيَّزُ حُكْمُ السَّرِيَّةِ عَنِ الْجَيْشِ وَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا غَنِمَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ هَزَمَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ أَسْرَى قِبَلَ أَوْطَاسٍ سَرِيَّةً غَنِمَتْ فَقَسَّمَ غَنَائِمَهُمْ فِي الْجَمِيعِ.
وَرَوَى عُمَرُ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ويجيد عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدُّ مُشَدُّهُمْ عَلَى مُضْعَفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ السَّرَايَا تَرُدُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَلِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ردا لِصَاحِبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَيْشَ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ وَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لَحِقَ بِهَا.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْفِذَ مِنَ الْجَيْشِ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ أَوْ طَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ الْجَيْشُ وَالسَّرِيَّتَانِ جَيْشًا وَاحِدًا إِنْ غَنِمَتِ السَّرِيَّتَانِ اشْتَرَكَتَا مَعَ الْجَيْشِ، وَإِنْ غَنِمَتْ إِحْدَاهُمَا شَرَكَتْهَا الْأُخْرَى وَالْجَيْشُ، وَإِنْ غَنِمَ الْجَيْشُ شَارَكَتْهُ السَّرِيَّتَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ والتعليل.

(8/427)


والمسألة الثانية: أَنْ يُنْفِذَ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَتَكُونُ السريتان مشاركتين للجيش والجيش مشارك لِلسَّرِيَّتَيْنِ، وَهَلْ تَكُونُ إِحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ مُشَارِكَةً لِلْأُخْرَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَكُونُ مُشَارِكَةً لَهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ وَاحِدٍ فَصَارَ الْكُلُّ جَيْشًا وَاحِدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِكُلِّ واحد مِنَ السَّرِيَّتَيْنِ حُكْمُ نَفْسِهَا لَا تُشَارِكُ الْأُخْرَى ولا يشاركها؛ لأن الجيش أصل السريتين وليس إحدى السريتين أصل للأخرى.

فصل:
وأما الحالة الأخرى وهو أَنْ يَكُونَ الْجَيْشُ مُقِيمًا وَالسَّرَايَا مِنْهُ نَافِذَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشِهِ الْمُقِيمِ سَرِيَّةً فَتَغْنَمُ فَتَخْتَصُّ السَّرِيَّةُ بِغَنِيمَتِهَا وَلَا يَشْرُكُهَا الْجَيْشُ الْمُقِيمُ سَوَاءً أَسْرَتْ إِلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُنْفِذُ السَّرَايَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَلَا يُشْرِكُهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ وَلَيْسَ الْمُقِيمُ مُجَاهِدًا.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جملة جيشه المقيم سريتين إلى وجهة واحدة في طريق واحد أو طريقتين فَتَكُونُ السَّرِيَّتَانِ جَيْشًا وَاحِدًا، أَيُّهُمَا غَنِمَتْ شَارَكَتْهَا الأخرى، ولا يشاركهما الجيش المقيم لكون غَيْرَ مُجَاهِدٍ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ الْجَيْشِ الْمُقِيمِ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَقَدْ أَفْرَدَ كُلَّ سَرِيَّةٍ مِنْهُمَا بِقَائِدٍ فَإِنِ اجْتَمَعَتِ السَّرِيَّتَانِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي غَنَائِمِهَا دُونَ الْجَيْشِ الْمُقِيمِ، وَإِنِ انْفَرَدَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ بِالْجِهَةِ الَّتِي أُنْفِذَتْ إِلَيْهَا لَنْ تُشَارِكَهَا الْأُخْرَى فِي غَنَائِمِهَا، وَلَا يُشَارِكُ الْجَيْشُ وَاحِدَةً مِنْهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّرِيَّتَيْنِ إِذَا اخْتَصَّتْ بِجِهَةٍ لَمْ تَكُنْ رِدًّا للأخرى فصارت جيشا منفردا فلو انضم نفرا مِنْ إِحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَغَنِمُوا شَارَكُوهَا فِي غَنَائِمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهَا قَدْ صَارُوا مِنْ جُمْلَتِهَا فَإِذَا حَازَ النَّفَرُ سَهْمَهُمْ مِنْهَا فَهَلْ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ بَاقِي أَصْحَابِهِ مِنَ السَّرِيَّةِ الْأُخْرَى أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ بَاقِي السَّرِيَّةِ غَنِمَتْ شَارَكَهُمْ فِيهَا النَّفَرُ الْمُنْفَرِدُ عَنْهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ يَخْتَصُّونَ بِمَا أَخَذُوا مِنَ السَّرِيَّةِ الَّتِي انْضَمُّوا إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا مِنْ جُمْلَتِهَا بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهَا خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ سَرِيَّتِهِمْ بِالِانْفِرَادِ عَنْهَا؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْبَاقِينَ مِنْ سَرِيَّتِهِمْ غَنِمُوا لَمْ يُشَارِكُوهُمْ كَمَا لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/428)


باب تفريق الخمس
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية وروي أن جبير بن مطعم قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قسم سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه فقلنا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ الله به مِنْهُمِ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وتركتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هكذا وشبك بين أصابعه " وروى جبير بن مطعم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل من ذلك شيئا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، فَأَمَّا خُمُسُهَا وَخُمُسُ الْفَيْءِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَلِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ حُكْمٌ يُخَالِفُ حُكْمَ خُمُسِهِ، وَخُمُسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَقْسُومٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَيَاتِهِ وَيُصْرَفُ بَعْدَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَسَهْمٍ لِذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بَاقٍ لَهُمْ مَا بَقَوْا، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِبَنِي السَّبِيلِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةِ أسهم: سهم منها لله تعالى مصروف في رياح الْكَعْبَةِ وَزِينَتِهَا، ثُمَّ الْخَمْسَةُ الْأَسْهُمِ بَعْدَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ أُسْقِطَ مِنْهَا سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَوْتِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِبَنِي السَّبِيلِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ نُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ أُسْقِطَ مِنْهَا سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُصْرَفُ الْخُمُسُ مَعَ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ.
فَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ

(8/429)


عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ " فَلَوْ كَانَ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةٍ لَقَالَ إِلَّا السُّدُسَ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ لِلتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ، وَلِإِبَاحَةِ الْمَالِ بَعْدَ حَظْرِهِ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْأَمْوَالِ لَهُ، وَلِتَغَلُّظِ حَظْرِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَنْ سَمَّاهُ.
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاقِطٌ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ مَلَكَ فِي حَيَاتِهِ حَقًّا كَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِمَّا مَوْرُوثًا، وَإِمَّا سَاقِطًا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَوْرُوثًا سَقَطَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ سَهْمَهُ مِنَ الْخُمُسِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُ مِنَ الْغَنِيمَةِ الصَّفِيَّ فَلَمَّا سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الصَّفِيِّ بِمَوْتِهِ سَقَطَ سَهْمُهُ مِنَ الْخُمُسِ بِهِ.
وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا على أن لا حق لذوي القرب فِيهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أهل القربى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فَحَظَرُوا بِهَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَثُبُوتُ حَقِّهِمْ فِيهِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ؛ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: دَعَانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ عَزَلَ لَنَا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فقلت إن بني هاشم عنه في غناء وإن بالمسلمين حلة وَفَاقَةً فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا تَرَكَهُ لِلْغَنِيِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَهُ بِالْفَقْرِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يَجُزْ صرفه إلى أغنياء غير ذي القربة لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَى أَغْنِيَاءِ ذِي الْقُرْبَى كَالصَّدَقَاتِ؛ وَلِأَنَّهُمْ صِنْفٌ مُسَمًّى فِي الْخُمُسِ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقُّوهُ مَعَ الْغِنَى كَالْيَتَامَى وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ: فَدَلَّ رَدُّهُ ثُبُوتَهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ حُكْمُهُ، لَا عَلَى سُقُوطِهِ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ. فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ مِثْلَ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ وَلِيَهَا عُمَرُ بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ فَمَوْضِعُ الدِّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَلَكَا بِحَقِّهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَسْلَكَهُ بِحَقِّهِ فِي حَيَاتِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى بَقَائِهِ وَثُبُوتِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ مِنْ سِهَامِ الْخُمُسِ لَمْ يَسْقُطْ كَسَائِرِ السهام.

(8/430)


فَصْلٌ:
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ يُسْتَحَقُّ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] فَأَضَافَ الْخُمُسَ إِلَى خَمْسَةِ أَصْنَافٍ بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ تَسَاوِيَهُمْ بِجَمِيعِهِمْ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي أَضَافَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَهُوَ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِذِي الْقُرْبَى فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ لَا بِالْفَقْرِ وَقَالَ تَعَالَى: {فأتى ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم: 38] قَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا قَسَمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ مِنْهُمِ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَإِنَّمَا قَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ.
وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عثمان بن عفان وجبير كانا من أغنياء قريش، سألاه لما أَعْطَيْتَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَحَرَمْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ؟ فَلَمْ يَجْعَلْ سَبَبَ الْمَنْعِ الْغِنَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ فِيهِ كَالْفَقِيرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَقَدْ أَعْطَاهُمْ. وَكَانَ فِي عَبْدِ شَمْسٍ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَقَدْ حَرَمَهُمْ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقَرَابَةَ دُونَ الْفَقْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَبَرَ النُّصْرَةَ دُونَ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وعبد شمس ونوفل كَانُوا أُخْوَةً وَكُلُّهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَقَدْ خص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سهم ذي القربة بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ وَجَمِيعُهُمْ فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ، لِمَا قَالَ فِي ضَمِّ بَنِي الْمُطَّلِبِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ بِأَنَّهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ قَدْ خَالَفُوهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَطَاءَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ النُّدْرَةِ الَّتِي مَيَّزَتْهُمْ بِهَا دُونَ الْقَرَابَةِ الَّتِي قَدِ اشْتَرَكُوا فِيهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أحدهما: أن الاستحقاق بالقرابة وحدها دون النصرة، ولأنهم لَيْسَ لِلنُّصْرَةِ فِيهَا تَأْثِيرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ عُثْمَانُ وَجُبَيْرٌ فِي طَلَبِهِمَا وَلَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنْعِهِمَا وَدَفَعَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا نُصْرَةَ

(8/431)


فِيهِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَمَنَعَ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَنْ قَامَ بِالنُّصْرَةِ مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَبِي دُجَانَةَ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَمَنَعَهُمْ وَأَعْطَى مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ نُصْرَةً مِنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِالْقَرَابَةِ لَا بِالنُّصْرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَالتَّقْدِيمَ بِالنُّصْرَةِ كَمَا نَقُولُ فِي الْأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْآخَرُ لِأَبٍ ابْنُهُمَا فِي التَّعْصِيبِ بِالْأَبِ سَوَاءٌ، وَيُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِلْأُمِّ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي التَّعْصِيبِ، كَذَلِكَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَإِنْ شَارَكُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ فِي الْقَرَابَةِ قُدِّمُوا عَلَيْهِمْ بِمَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنَ النُّصْرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ بِالنُّصْرَةِ فَهَلَّا زَالَ حُكْمُهُمَا بِزَوَالِهَا، وَقَدْ زَالَتِ الْيَوْمَ.
قِيلَ: النُّصْرَةُ فِي الْآبَاءِ أَوْجَبَتْ ثُبُوتَ حُكْمِهَا فِي الْأَبْنَاءِ كَمَا نَقُولُ فِي تَمْيِيزِ كَفَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ إِنَّ حُرْمَةَ آبَائِهِمْ حِينَ كَانُوا عَلَى حَقٍّ أَوْجَبَتْ ثُبُوتَهَا لِأَبْنَائِهِمْ وَإِنْ زَالُوا عَنِ الْحَقِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَحْدَهَا، وَالْمَنْعَ مَعَ وُجُودِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا نَقُولُ فِي ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا قَاتِلٌ إِنَّهُمَا وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْبُنُوَّةِ، فَالْقَاتِلُ مَمْنُوعٌ بِعِلَّةٍ، فَكَذَلِكَ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ وَإِنْ سَاوَوْا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْقَرَابَةِ، فَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُمْ كَمَا يَسْقُطُ حَقُّ الِابْنِ الْقَاتِلِ.
فَإِنْ قِيلَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى حَدِيثِهِ فِي أَحْكَامِ غَنَائِهِمَا فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الْخَبَرَ فِي خُمُسِ خَيْبَرَ، وَقَدْ كَانَ بَعْدَهَا غَنَائِمُ يُحْمَلُ خَبَرُهُ عَلَى خُمُسِهَا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: قَدْ كَانَ أَكْثَرُهَا فَيْئًا فَيُسْتَغَلُّ فِي كُلِّ عَامٍ فَكَانَ خُمُسُهُ بَاقِيًا.
وَرُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ اسْتَشْفَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعلي - رضوان الله عليهما فِي عِمَالَةِ الصَّدَقَاتِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " أَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ " فَجَعَلَ لَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ تَنْزِيهًا عَمَّا يُمْلَكُ بِالْفَقْرِ مِنَ الصَّدَقَاتِ؛ فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْفَقْرِ الْمَشْرُوطِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ يَكُونُ في أحدهما نصا مسندا، فَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ تَوَلَّيْنَا حَقَّنَا مِنْ هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْسِمْهُ فِي حَيَاتِكَ كَيْ لَا يُنَازِعَنَا أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَفْعَلُ ذَلِكَ " فَوَلَّانِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَسَمْتُهُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ فِي وِلَايَةِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَتْ آخِرَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ، فَإِنَّهُ أَتَاهُ

(8/432)


مَالٌ كَثِيرٌ فَعَزَلَ حَقَّنَا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقُلْتُ: لَنَا عَنْهُ الْعَامَ غَنَاءٌ، وَبِالْمُسْلِمِينَ الْآنَ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَقِيتُ الْعَبَّاسَ بَعْدَ مَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ يَا عَلِيُّ: حَرَمْتَنَا لَا تُرَدُّ عَلَيْنَا أَبَدًا، وكان راجلا دَاهِيًا فَلَمْ يَدْعُنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ.
فَدَلَّ قَوْلُ عَلِيٍّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنَا حَقَّنَا عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِهِمْ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْفَقْرِ الَّذِي هُوَ فِي غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ إِجْمَاعًا مُنْعَقِدًا فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ عيينة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: لَقِيتُ عليا عليه السلام عند أحجار الركب فَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي وَأُمِّي مَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَقِّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الْخُمُسِ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فَقَدْ أَوْفَانَاهُ، وَأَمَّا عُمَرُ فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِينَا حَتَّى جاءه مال السوس والأهواز أو قال أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فَقَدْ أَوْفَانَاهُ، وَأَمَّا عُمَرُ فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِينَا حَتَّى جَاءَهُ مَالُ السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ أَوْ قَالَ مَالُ فَارِسَ - الشَّافِعِيُّ يَشُكُّ -، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ بِالْمُسْلِمِينَ خَلَّةً فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُمْ حَقَّكُمْ فَجَعَلْنَاهُ فِي خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَنَا مَالٌ فَأُوَفِّيَكُمْ حَقَّكُمْ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ: لا تطعمهم فِي حَقِّنَا، فَقُلْتُ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَلَسْنَا أَحَقَّ مَنْ أَجَابَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَدَفَعَ خَلَّةَ الْمُسْلِمِينَ، فَتُوُفِّيَ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ مَالٌ فَيَقْضِينَاهُ. فَدَلَّ اسْتِنْزَالُ عُمَرَ لَهُمْ ثَمَنَهُ بِخَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْفَقْرِ الَّذِي قَدْ شَارَكُوا فِيهِ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ لَا يَسْقُطُ بِمُطَالَبَتِهِمْ وَلَا يُؤَخَّرُ لِفَقْرِهِمْ، وَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ قَضَاءَ مَا أُخِّرُوهُ مِنْ حَقِّهِمْ.
وَرَوَى زيد بْنُ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ حِينَ حَجَّ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَقُولُ لِمَنْ تَرَاهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِقُرْبَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَسَمَهُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَوَّضَ مِنْ ذَلِكَ عِوَضًا رَأَيْنَاهُ دُونَ حَقِّنَا فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ، وَأَبَيْنَا أَنْ نَقْبَلَهُ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَحَدُ أَصْنَافِ أَهْلِ الْخُمُسِ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَصْنَافِ.
وَلِأَنَّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ فِي جميع الأحوال ثبت لهم سهم في خمس الخمس كالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَلِأَنَّهُمْ عُوِّضُوا عَنِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ بِخُمُسِ الْخُمُسِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو ليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ النَّاسِ، فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ ثَابِتًا لَا يَزُولُ؛ كَانَ مَا عُوِّضُوهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ثَابِتًا لَهُمْ لَا يَزُولُ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ ما تميز به ذوو الْقُرْبَى فِي الْأَمْوَالِ اسْتَلْزَمَ ثُبُوتَهُ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَمْ يَكُنْ مَوْرُوثًا كَانَ سَاقِطًا، فَهُوَ أَنَّ الْمِيرَاثَ إِذَا انْتَفَى عَنْهُ رُدَّ إِلَى مَا قَدْ أُقِيمَ مَقَامَهُ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِقَوْمِهِ فِي حَقِّهِ مَقَامَ الْمِيرَاثِ فِي حَقِّ غيره، فوجب أن يكون ذَلِكَ مَصْرِفُ مَالِهِ.

(8/433)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنَ الصَّفِيِّ بِمَوْتِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ مِنَ الصَّفِّيِّ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَا يَكُونُ ثَابِتًا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ مَا شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ وَاخْتِيَارِهِ لِلصَّفِيِّ مَعْدُومٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَسَقَطَ بِخِلَافِ غيره.
وأما الجواب عن استتدلال أبي حنيفة فِي سُقُوطِ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الْخُمُسِ وَلَيْسَ هُوَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّ سَهْمَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السبيل يستحق بالفقر.
والثاني: أنه سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لَيْسَ هُوَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَمَا كَانَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ استدلاله بحديث علي (عليه السلام) أَنَّهُ رَدَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لِغِنَاهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اخْتَارَ تَرْكَ حَقِّهِ وَمَنْ يَتْرُكُ حَقَّهُ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى سُقُوطِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخَّرَهُ لِخَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِيَأْخُذَ عِوَضَهُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِمْ فَكَانَ حَقُّهُ ثَابِتًا بَاقِيًا، وَهُوَ أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يُدْفَعَ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَغْنِيَاءِ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْغَارِمِينَ فَهُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مُوَاسَاةٌ؛ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْفُقَرَاءُ أَحَقَّ بِهَا، وَالْخُمُسُ يُمْلَكُ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا لَا بِالْمُوَاسَاةِ؛ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ الْفُقَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ كالْغَانِمِينَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قياسهم على الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَهُوَ أَنَّ مَا أُخِذَ بِاسْمِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ فِيهِ شَرْطًا، وَمَا أُخِذَ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ الْقَرَابَةُ شَرْطًا فِيهِ إِذَا وُجِدَتْ وَلَمْ يَكُنِ الْفَقْرُ شَرْطًا وَمَا أُخِذَ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ الْقَرَابَةُ كالميراث والله أعلم. (قال الشافعي) : " فيعطى سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى فِي ذِي الْقُرْبَى حَيْثُ كَانُوا وَلَا يُفَضَّلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ حَضَرَ الْقِتَالَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ إِلَّا سَهْمَهُ فِي الْغَنِيمَةِ كَسَهْمِ الْعَامَّةِ وَلَا فَقِيرٌ عَلَى غَنِيٍّ وَيُعْطَى الرَّجُلُ سَهْمَيْنِ وَالْمَرْأَةُ سَهْمًا لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا باسم القرابة فإن قيل فقد أعطى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل قيل لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ ذَا وَلَدٍ فَإِذَا أَعْطَاهُ حَظَّهُ وَحَظَّ غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ غيره والدلالة على صحة ما حكيت من التسوية أن كل من لقيت من علماء أصحابنا لم يختلفوا في ذلك وإن باسم القرابة أعطوا وإن حديث جبير بن مطعم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطلب ".

(8/434)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ وَثُبُوتُهُ يَقْتَضِي إِبَانَةَ أَحْكَامِهِمْ فِيهِ وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ:
فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي ذِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ؟ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ، وَجَمِيعُهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ لِعَبْدِ مَنَافٍ مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ خَامِسٌ اسْمُهُ عَمْرٌو وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ فَأَمَّا هَاشِمٌ فَهُوَ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ؛ فَهَاشِمٌ فِي عَمُودِ الشَّرَفِ الَّذِي تَعَدَّى شَرَفُهُ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أُخْوَتِهِ، وَالْمُطَّلِبُ أَخُوهُ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ وَلَدِهُ ثُمَّ عَبْدُ شَمْسٍ أَخُوهُمَا وَعُثْمَانُ مِنْ وَلَدِهِ ثُمَّ نَوْفَلٌ أَخُوهُمْ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ مِنْ ولده؛ فاختص بسهم ذي القربة بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ " يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَنَاصِرِينَ بِحِلْفٍ عَقَدُوهُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ؛ وَلِهَذَا الْحَلِفِ دَخَلَ بَنُو الْمُطَّلِبِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ الشِّعْبَ بِمَكَّةَ حِينَ دَخَلَهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ جبير بن مطعم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.

فَصْلٌ:
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَبَيْنَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا حَقَّ لِغَنِيِّهِمْ فِيهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى مِنْهُ الْعَبَّاسَ وَكَانَ لِيَسَارِهِ يَعُولُ عَامَّةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْقَرَابَةِ اسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْمِيرَاثِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ شَاقَقَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ لَمْ يُشَاقِقْهُ فِي أَنَّهُمْ سَوَاءٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي سَهْمِهِمْ إِلَّا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ خَارِجًا عَنْ حَقِّهِ فِي الْخُمُسِ.
فَصْلٌ:
وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَخَذَ مِنَ الْخُمُسِ سَهْمَ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْقَرَابَةِ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَالْمِيرَاثِ وَخَالَفَ الْعَقْلَ الَّذِي يَخْتَصُّ الرِّجَالُ بِتَحَمُّلِهِ دُونَ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ مَنْ ذَبَّ عَنِ الْقَاتِلِ مُنِعَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِأَجْلِ النَّسَبِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَإِذَا ثَبَتَ اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيهِ فُضِّلَ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ وَكَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ كَالْمِيرَاثِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَالْوَصَايَا لِلْقَرَابَةِ يُسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ سَهْمِهِمْ بِالْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالْوَصَايَا من وجهين:

(8/435)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِيرَاثَ وَسَهْمَ ذِي الْقُرْبَى عَطِيَّتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَصَايَا عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ تَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي ذِي الْقُرْبَى نُصْرَةً هِيَ بِالذُّكُورِ أَخَصُّ فَجَازَ أَنْ يَكُونُوا بِهَا أَفْضَلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْوَصَايَا ثم لاحظ لأولاد الإناث فيه إذا لم يكن أبائهم مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى الْآبَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى.

فَصْلٌ:
وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الذُّكُورِ وَيُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الْإِنَاثِ وَيُفَضَّلَ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ، وَيُسَوَّى بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَبَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَبَيْنَ الْعَدْلِ وَالْبَاغِي كَمَا يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَعْطَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْضَهُمْ مِائَةَ وَسْقٍ، وَبَعْضَهُمْ أَقَلَّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ ذَا وَلَدٍ فَإِذَا أَعْطَاهُ حَظَّهُ وَحَظَّ غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُسِّمَ سَهْمُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَمَا يُقَسَّمُ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى اجْتِهَادِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَأْخُذُونَ سَهْمَهُمْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي قَدْ تَخْتَلِفُ فِيهِمْ فَجَازَ أَنْ يُفَضِّلَ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِلْقَرَابَةِ الَّتِي قَدْ صَارُوا فِيهَا سَوَاءً فَوَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا.
فَصْلٌ:
وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ غَنَائِمِ جَمِيعِ الثُّغُورِ مَقْسُومٌ بَيْنَ جَمِيعِ ذوي القربى في جميع الأقليم.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يُقَسِّمُ سِهَامَهُمْ مِنْ غَيْرِ كُلِّ ثَغْرٍ فِي إِقْلِيمِ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِينَ هُمْ بِالْجِهَادِ فِيهِ أَخَصُّ، وَلَا يَنْتَقِلُ سَهْمُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ ثَغْرِ الْمَشْرِقِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِيُحَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى غَنَائِمِ الثَّغْرِ الَّذِي فِي إِقْلِيمِهِمْ فَيَكُونُ أَسْهَلَ كما يحال ثغر كل بلد على ذكواته وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِعْطَاءِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خَطَأٌ يُخَالِفُ نَصَّ الْآيَةِ وَخَالَفَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِعْطَاءُ بَعْضِ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ دُونَ جَمِيعِهِمْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى، جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا فُقَرَاءُ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا نُقِلَ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى وَغَنِيمَةُ الثَّغْرِ إِلَى بِلَادِ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَجَبَ نَقْلُهُ إِلَى جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ.
وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْغَنِيمَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هُوَ أَنَّ فِي كُلِّ الْبِلَادِ زَكَوَاتٍ وَفُقَرَاءَ، فَجَازَ أَنْ يُحَالَ فُقَرَاءُ كُلِّ بَلَدٍ عَلَى زَكَوَاتِهِ وَلَيْسَ لِكُلِّ بَلَدٍ غَنِيمَةٌ وَلَا فِي

(8/436)


كُلِّ بَلَدٍ ذَوِي الْقُرْبَى؛ فَلِذَلِكَ اشْتَرَكَ جَمِيعُ ذَوِي الْقُرْبَى فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ حَتَّى لَا يُخْتَصَّ بِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيُفَرَّقُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْخُمُسِ عَلَى مَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ يُحْصَوْنَ ثُمَّ يُوَزَّعُ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سهمه لا يعطى أحد مِنْهُمْ سَهْمُ صَاحِبِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي سَهْمِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى مِنَ الْخُمُسِ؛ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى بَاقِي السِّهَامِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِبَنِي السبيل على ما تضمنه الآية من قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] .
فَأَمَّا الْيَتَامَى فَهُمُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَإِنْ بَقِيَتْ أمهاتهم فيكون اليتيم بِمَوْتِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ لِاخْتِصَاصِ الْآبَاءِ بِالنَّسَبِ فَاخْتُصُّوا بِالْيُتْمِ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ لُغَةً لِتَفَرُّدِهِمْ بِمَوْتِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ كَمَا يُقَالُ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ لِتَفَرُّدِهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَظِيرٌ ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ مَعَ فَقْدِ الْآبَاءِ شَرْطَانِ آخَرَانِ: هُمَا الصِّغَرُ وَالْإِسْلَامُ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ شَرْعًا لَا لُغَةً؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ يَعُمُّ مُسْلِمَهُمْ وَمُشْرِكَهُمْ، إِنَّمَا خَصَّ الشَّرْعُ بِهَذَا السَّهْمِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَالٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَاخْتَصَّ بِهِ أَهْلَ طَاعَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَالٌ قَدْ مُلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ لِغَيْرِهِمْ لَا لَهُمْ، وَأَمَّا الصِّغَرُ فَكَانَ فِيهِمْ معتبرا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لا يتيم بَعْدَ الْحُلُمِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الشَّرْطِ هَلْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا أَمْ لُغَةً، فَقَالَ بعضهم: يثبت اعتباره شرعا للخير وإلا فهو اللغة يَنْطَلِقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَثْبُتُ اعْتِبَارُهُ لُغَةً وَشَرْعًا لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِمَنْ كَانَ مُتَضَعِّفًا مَحْرُومًا، وَهَذَا بِالصِّغَارِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْكِبَارِ فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي الْيَتَامَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطٍ رَابِعٍ فِيهِمْ وَهُوَ الْفَقْرُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَقْرَ شَرْطٌ رَابِعٌ يُعْتَبَرُ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِهَذَا السَّهْمِ مِنَ الْخُمُسِ، لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ، فَخَرَجَ مِنْهُمُ الِاعْتِبَارُ وَلِأَنَّهُ إِرْفَاقٌ لِمَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْمَعُونَةُ وَالرَّحْمَةُ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْفَقْرُ وَأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ لِذَوِي الْقُرْبَى اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتُبِرَ فِيهِمُ الْفَقْرُ لَدَخَلُوا فِي جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ، وَلَمَّا كَانَ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ فَائِدَةً: فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَقْرَ فِيهِمْ مُعْتَبَرٌ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِمْ بَيْنَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ أَوْ قُتِلَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَاجَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِمْ.

(8/437)


وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْيَتَامَى دُونَ جَمِيعِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ كَالْفُقَرَاءِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْفَقْرَ فِيهِمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ تُخَالِفُ تِلْكَ:
فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ أَبُوهُ فِي الْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِ رِعَايَةً لِنُصْرَةِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ كَذَوِي الْقُرْبَى.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُفَرَّقُ فِي أَيْتَامِ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُفَرَّقُ فِي إِقْلِيمِ ذَلِكَ الثَّغْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أنه يسوي بينهم من غير تفضيل كذي الْقُرْبَى وَأَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى؛ لِأَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى كَالْمِيرَاثِ؛ ففضل فيه الذكر على الأنثى وسهم اليتامى عطية كالوقف والوصية يسوي فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ وَالْفُقَرَاءُ يَدْخُلُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ إِذَا أُطْلِقُوا وَكَذَلِكَ إِذَا أُطْلِقَ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ يَدْخُلُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ وَيُمَيَّزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذَا جُمِعُوا، وَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يَكْفِيهِ فَصَارَ الْفَقِيرُ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَإِذَا دَخَلَ الْفُقَرَاءُ مَعَ الْمَسَاكِينِ فِي سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُسْتَحِقِّيهِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمَسَاكِينِ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لِدُخُولِ الْمَسْكَنَةِ فِي جَمِيعِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِهِ مَسَاكِينُ أَهْلِ الْجِهَادِ الَّذِينَ قَدْ عَجَزُوا عَنْهُ بِالْمَسْكَنَةِ أَوِ الزَّمَانَةِ وَلَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْغَنِيمَةِ لِأَهْلِ الْجِهَادِ أَخَصُّ وَلِيَصِيرَ ذَوُو الْقُدْرَةِ عَلَى الْجِهَادِ أَحْرَصَ؛ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي جَمِيعِ الْمَسَاكِينِ وَيَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الْمَسَاكِينِ دُونَ جَمِيعِهِمْ كَالزَّكَاةِ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ وَسَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَحَقِّهِمْ فِي الْكَفَّارَاتِ فَيَصِيرُ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَمْوَالٍ:
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَخُصُّ بِهِ مَسَاكِينَ أَهْلِ الْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَيَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ؛ فَعَلَى مذهب

(8/438)


الشَّافِعِيِّ فِي مَسَاكِينِ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي مَسَاكِينِ إِقْلِيمِ الثَّغْرِ الْمَغْنُومِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَوِي بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ وَلَا يُفَضَّلُ ذَكَرٌ عَلَى أُنْثَى، وَلَا صَغِيرٌ عَلَى كَبِيرٍ، فَإِنِ اجْتَمَعَ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مَسْكَنَةٌ وَيُتْمٌ أُعْطِيَ بِالْيُتْمِ دُونَ الْمَسْكَنَةِ؛ لأن اليتيم صِفَةٌ لَازِمَةٌ وَالْمَسْكَنَةُ صِفَةٌ زَائِلَةٌ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ، لِتَمَيُّزِ أَهْلِ الْفَيْءِ عَنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَتَمَيُّزِ مَسَاكِينِ الْخُمُسِ عَنِ مَسَاكِينِ الزَّكَاةِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إليهم من الكفارات فيصير إليهم مالان ويمنعوا مَالًا، وَلَا يَخْتَصُّ الْكَفَّارَاتِ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا بَنُو السَّبِيلِ فَهُمُ الْمُسَافِرُونَ سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ بِمُلَازَمَةِ سَبِيلِ السَّفَرِ قَدْ صَارُوا كَأَبْنَائِهِ وَهُمْ ضَرْبَانِ: مُنْشِئُ سَفَرٍ، وَمُجْتَازٌ فِيهِ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْحَاجَةُ فِي سفرهم ولا يدفع إِلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَّا أَنَّ النَّاشِئَ لِسَفَرِهِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَعَ الْفَقْرِ وَالْمُجْتَازُ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى إِذَا كَانَ فِي سَفَرِهِ مُعْدِمًا ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ خَاصَّةً، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْمَسَاكِينِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الْمَسَاكِينِ دُونَ جَمِيعِهِمْ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ.
والحكم الثالث: أنه يجوز أن يجمع لهم بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ بَنُو السَّبِيلِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ؛ فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ؛ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُفَرَّقُ فِي بَنِي السَّبِيلِ فِي الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُفَرَّقُ فِي بَنِي السَّبِيلِ فِي إِقْلِيمِ الثَّغْرِ الْمَغْنُومِ فِيهِ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِيهِ تَقْسِيطًا عَلَى مَسَافَةِ أَسْفَارِهِمْ فَيَكُونُ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الظَّاهِرِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَايَنُوا الْمَسَاكِينَ الذي يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمٍ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمٍ مِنَ الزَّكَاةِ، وَتَمَيَّزَ بَنُو السَّبِيلِ فِي الْخُمُسِ عَنْ بَنِي السَّبِيلِ فِي الزَّكَاةِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ شَخْصًا جَمَعَ بين

(8/439)


الْمَسْكَنَةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ ابْنَ السَّبِيلِ أُعْطَى بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ بِهِ مِنَ الْآخَرِ وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " فَقَدْ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأبي هو وأمي - فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِي سَهْمِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ الَّذِينَ ذكرهم الله تعالى معه لأني رأيت المسلمين قالوا فيمن سمي له سهم من الصدقات فلم يوجد رد على من سمي معه وهذا مذهب يحسن ومنهم من قال يضعه الإمام حيث رأى على الاجتهاد للإسلام وأهله ومنهم من قال يضعه في الكراع والسلاح والذي أختار أن يضعه الإمام في كل أمر حصن به الإسلام وأهله من سد ثغر أو إعداد كراع أو سلاح أو إعطاء أهل البلاء في الإسلام نفلا عند الحرب وغير الحرب إعدادا للزيادة في تعزيز الإسلام وأهله على ما صنع فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإنه أعطى المؤلفة ونفل في الحرب وأعطى عام حنين نفرا من أصحابه من المهاجرين والأنصار أهل حاجة وفضل وأكثرهم أهل حاجة ونرى ذلك كله من سهمه والله أعلم ومما احتج به الشافعي في ذوي القربى أن روى حديثا عن ابن أبي ليلى قال لقيت عليا رضي الله عنه فَقُلْتُ لَهُ بِأَبِي وَأُمِّي مَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَقِّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الخمس؟ فقال علي أما أبو بكر رحمه الله فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فقد أوفاناه وأما عمر فلم يزل يعطيناه حَتَّى جَاءَهُ مَالُ السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ أَوْ قَالَ مال فارس (الشافعي يشك) وقال عمر في حديث مطر أو حديث آخر إن في المسلمين خَلَّةً فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُمْ حَقَّكُمْ فَجَعَلْنَاهُ فِي خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَنَا مَالٌ فَأُوَفِّيَكُمْ حَقَّكُمْ منه فقال العباس لا تطعمه فِي حَقِّنَا فَقُلْتُ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَلَسْنَا من أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خَلَّةَ الْمُسْلِمِينَ فَتُوُفِّيَ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ مال فيقضيناه وقال الحكم في حديث مطر أو الآخر إن عمر رضي الله عنه قال لكم حقا ولا يبلغ عملي إذ كثر أن يكون لكم كله فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم فأبينا عليه إلا كله فأبى أن يعطينا كله (قال الشافعي) رحمه الله للمنازع في سهم ذي القربى أليس مذهب العلماء في القديم والحديث أن الشيء إذا كان منصوصا في كتاب الله مبينا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بخبر الثقة لا معارض له في إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غنيا لا دين عليه في إعطائه العباس بن عبد المطلب وهو في كثرة ماله يعول عامة بني المطلب دليل على أنهم استحقوا بالقرابة لا بالحاجة كما أعطى الغنيمة من حضرها لا بالحاجة وكذلك من استحق الميراث بالقرابة لا بالحاجة وكيف جاز لك أن تريد إبطال اليمين مع الشاهد بأن تقول هي بخلاف ظاهر القرآن وليست مخالفة له ثم تجد سهم ذي القربى منصوصا في آيتين من كتاب الله تعالى ومعهما سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فترده؟ أرأيت لو عارضك معارض فأثبت سهم ذي القربى وأسقط اليتامى والمساكين وابن السبيل ما حجتك عليه إلا كهي عليك ".

(8/440)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ثُبُوتِ سهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَصْرِفِهِ فَحَكَى الشَّافِعِيُّ فيه مذاهب فمنه مَنْ جَعَلَهُ مَصْرُوفًا إِلَى الْإِمَامِ الْقَائِمِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِوَرَثَتِهِ، وَمِنْهُمْ من جعله مصروفا في القراع وَالسِّلَاحِ خَاصَّةً وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ سَهْمَهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ".
وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَا فَضَلَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ بَعْدَ فَوْتِ سَنَةٍ يَصْرِفُهُ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي ثُبُوتِ سَهْمِ ذِي الْقَرَابَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَاسْتَوْفَيْنَا حُكْمَ كُلِّ سَهْمٍ مِنَ السِّهَامِ الْخَمْسَةِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(8/441)


بَابُ تَفْرِيقِ مَا أُخِذَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الفيء غير الموجف عليه
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مَنَ الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ مَنْ قَدِ احْتَلَمَ أَوِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنَ الرِّجَالِ وَيُحْصِيَ الذُّرِّيَّةَ وَهُمْ مَنْ دُونَ الْمُحْتَلِمِ وَدُونَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالنِّسَاءَ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ وَيَعْرِفَ قَدْرَ نَفَقَاتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَاتِهِمْ بِقَدْرِ مَعَاشِ مِثْلِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً بِقِتَالٍ، فَأَمَّا الْفَيْءُ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا تَرَكُوهُ عَلَيْنَا خَوْفًا وَرُعْبًا كَالْأَمْوَالِ الَّتِي انْجَلَوْا عَنْهَا وَمَا بَذَلُوهُ صُلْحًا فِي كَفِّنَا وَرَدِّنَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَهَذَا يُخَمَّسُ وَيَكُونُ خُمُسُهُ كَخُمُسِ الغنيمة مقسوم عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا وَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا رُعْبٍ كَالْجِزْيَةِ وَعُشْرِ تِجَارَتِهِمْ وَمَالِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا وَلَا وَارِثَ لَهُ فَفِي تَخْمِيسِهِ قَوْلَانِ:
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ وَيَكُونُ خُمُسُهُ مَقْسُومًا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] وَلِأَنَّهُ كَالْمَتْرُوكِ رُعْبًا فِي كَوْنِهِ فَيْئًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَمَّسًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ مَالًا يُخَمَّسُ وَهُوَ السَّلَبُ كَانَ في الفيء مالا يخمس وهو العقر وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ.
فَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَفِي مَصْرِفِهِ الْآنَ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَبِنَاءِ الحصون والمساجد والقناطر وإعداد القراع وَالسِّلَاحِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ فَيَصْرِفُهُ فِي هَذِهِ الْمَصَالِحِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي أَرْزَاقِ الْجَيْشِ الْمُقَاتِلَةِ الْخَاصَّةِ الْمَنْدُوبُونَ لِجِهَادِ

(8/442)


الْعَدُوِّ وَالذَّبِّ عَنِ الْبَيْضَةِ، وَالْمَنْعِ مِنَ الْحَرِيمِ، لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ بِذَلِكَ بَعْدَ الرَّسُولِ فَمَلَكُوا بَعْدَهُ مَا كَانَ لَهُ، وَجُمْلَةُ الْمُجَاهِدِينَ ضَرْبَانِ: مُرْتَزِقَةٌ، وَمُتَطَوِّعَةٌ.
فَأَمَّا الْمُرْتَزِقَةٌ فَهُمُ الَّذِينَ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ يُشَّاغَلُوا إِلَّا بِهِ، وَثَبَتُوا فِي الدِّيوَانِ فَصَارُوا جَيْشًا لِلْمُسْلِمِينَ وَمُقَاتِلَةً لِلْمُشْرِكِينَ فَهَؤُلَاءِ يُرْزَقُونَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ وَأَمَّا الْمُتَطَوِّعَةُ فَهُمْ أَرْبَابُ الْمَعَائِشِ وَالصَّنَائِعِ وَالْأَعْرَابُ الَّذِينَ يَتَطَوَّعُونَ بِالْجِهَادِ إِنْ شَاءُوا وَيَقْعُدُونَ عَنْهُ إِنْ أَحَبُّوا، وَلَمْ يَثْبُتُوا فِي الدِّيوَانِ، وَلَا جُعِلَ لَهُمْ رِزْقٌ فَهَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ، وَلِهَذَا تَمَيَّزَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَقَدْ كَانَ الْمُتَطَوِّعَةُ يُسَمَّوْنَ أَعْرَابًا، وَيُسَمَّى الْمُقَاتِلَةُ مُهَاجِرِينَ فَتَمَيَّزُوا بِهَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْمَالَيْنَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(قَدْ حَسَّهَا اللَّيْلُ بِعُصْلُبِيٍّ ... أَرْوَعَ خَرَّاجٍ من الدادي)

(مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ)

فَصْلٌ:
وَإِذْ قَدْ تَمَيَّزَ أَهْلُ الْفَيْءِ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ بِمَا وَصَفْنَا فَسَنَذْكُرُ أَهْلَ الصَّدَقَةِ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَنُبَيِّنُ حُكْمَ أَهْلِ الْفَيْءِ فَنَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ الْمُقَاتِلَةَ فِي جَمِيعِ الثُّغُورِ وَالْبُلْدَانِ فِي دِيوَانِهِ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ وَمُؤْنَاتِهِمْ فيعطيهم مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ حَتَّى لَا يَتَشَاغَلُوا بِاكْتِسَابِ الْمَالِ عَنْ جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَيَكُونُوا مُتَشَاغِلِينَ بِالْحَرْبِ فِي الذَّبِّ عَنِ الْبَيْضَةِ.
وَإِذَا لَزِمَ الْإِمَامَ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمْ فَكِفَايَتُهُمْ تَخْتَلِفُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: كَثْرَةُ الْعِيَالِ وَقِلَّتُهُمُ الَّذِينَ تَلْزَمُ نَفَقَاتُهُمْ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ فَيُثْبِتُ ذُرِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلَادِهِ فَثَبَتَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْفَقْرِ ثُمَّ فِي حَالِ النُّشُوءِ وَالْكِبَرِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَتُعْطِي المنقوس شَيْئًا، وَكُلَّمَا كَبُرَ يُزَادُ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِ يَعْنِي أَنَّهُ يُعْطِي أَبَاهُ لِأَجْلِهِ وَيَزِيدُ لِكِبَرِهِ. وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ قَدْرَ مُؤْنَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ حَالَهُ هَلْ هُوَ مِنَ الرَّجَّالَةِ أَوِ الْفُرْسَانِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُرْسَانِ عَرَفَ عَدَدَ خَيْلِهِ وَظَهْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْرِفَ حَالَ بَلَدِهِ فِي قُرْبِهِ مِنَ الْمَغْزَى وَبُعْدِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ بَعُدَ كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ وَإِنْ قَرُبَ قَلَّتْ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يعرف خصب بلده وجدبه فإن المؤن في بلاد الخصب قليلة في بِلَادِ الْجَدْبِ كَثِيرَةٌ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَعْرِفَ غَلَاءَ السِّعْرِ وَرُخْصَهُ لِيَزِيدَهُ مَعَ الْغَلَاءِ، وَيَنْقُصَهُ مَعَ الرخص،

(8/443)


فَإِذَا كَشَفَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ عَرَفَ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ فَأَثْبَتَهَا أَوْ جَعَلَهَا مَبْلَغَ أَرْزَاقِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ غَيْرِ صَرْفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ؛ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ قَدْرُ أَرْزَاقِهِمْ، وَإِنْ وَجَبَتْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْقِيَامِ بِكِفَايَاتِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَلَغَ بِالْعَطَاءِ خَمْسَةَ آلاف درهما فَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَضَ لِلْمُقَاتِلَةِ أَكْثَرُ مِنْ كِفَايَتِهِمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ هَكَذَا لِأَنَّ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَعَ بُعْدِ الْمَغْزَى وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ لَيْسَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ كِفَايَةِ ذِي عِيَالٍ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ أَرْزَاقِهِمْ بِحَسَبِ كِفَايَاتِهِمْ خَرَجَ مَا يُعْطُونَهُمْ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي مَصْرِفِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ أُعْطُوا مِنْهُ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْهَا كَانَ الْفَضْلُ بَاقِيًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا كَانَ الْبَاقِي لَهُمْ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ المال، وإن قيل: إن لِلْجَيْشِ خَاصَّةً قُسِمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ بِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ رِزْقُ أَحَدِهِمُ الْكَافِي لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرِزْقُ الْآخَرِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَرِزْقُ الثَّالِثِ الْآخَرِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَرِزْقُ الرَّابِعِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ رِزْقُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ عُشْرُهَا وَلِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ خُمُسُهَا وَلِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِهَا وَلَصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ آلَافٍ خُمُسَاهَا، فَيَنْقَسِمُ الْحَاصِلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ عَلَى عَشْرَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ سَهْمَانِ، وَلِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَعَلَى هَذَا الْحِسَابِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ فَقَدِ اسْتَوْفَوْهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قُسِمَ جَمِيعُهُ عَلَى هَذَا أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَهُمْ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ كَانَ النُّقْصَانُ عَلَيْهِمْ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ لَهُمْ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِذَا اتَّسَعَ المال لم يزادوا على أرزاقهم، وَعَلَى الثَّانِي يُزَادُونَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِذَا ضَاقَ الْمَالُ يَقْضُونَ بَقِيَّةَ أَرْزَاقِهِمْ وَعَلَى الثَّانِي لَا يَقْضُونَ.

فَصْلٌ:
وَيَنْبَغِي لِوَالِي الْجَيْشِ أَنْ يَسْتَعْرِضَ أَهْلَ الْعَطَاءِ فِي وَقْتِ كُلِّ عَطَاءٍ فَمَنْ وُلِدَ لَهُ مِنْهُمْ زَادَهُ لِأَجْلِ وَلَدِهِ وَمَنْ مات له ولد نقصه قسط ولده وإذا ينفس الْمَوْلُودُ زَادَهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ حَتَّى يَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، وَصَارَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَأَثْبَتَهُ فِي الدِّيوَانِ، وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ رِزْقًا، وَرَاعَى حَالَ مَنْ يَنْكِحُ مِنَ الزَّوْجَاتِ أَوْ يُطَلِّقُ وَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ أَوْ يَبِيعُ لِيَزِيدَهُ مِمَّنْ نَكَحَ أَوْ مَلَكَ وَيَنْقُصَهُ لِأَجْلِ مَنْ طَلَّقَ أَوْ بَاعَ وَكَذَا يُرَاعِي حَالَ خَيْلِهِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي شراء العبيد والخيل فلا يزاد لأجلهم.

(8/444)


مسألة:
قال الشافعي: " ثُمَّ يُعْطِي الْمُقَاتِلَةَ فِي كُلِّ عَامٍ عَطَاءَهُمْ وَالذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَنَتِهِمْ فِي كُسْوَتِهِمْ وَنَفَقَاتِهِمْ طَعَامًا أَوْ قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يُعْطِي الْمَنْفُوسَ شَيْئًا ثُمَّ يُزَادُ كُلَّمَا كَبُرَ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِ وَهَذَا يَسْتَوِي لِأَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الكفاية ويختلف في مبلغ العطاء باختلاف أسعار البلدان وحالات الناس فيها فإن المؤنة في بعض البلدان أثقل منها في بعض ولا أعلم أصحابنا اختلفوا في أن العطاء للمقاتلة حيث كانت إنما يكون من الفيء وقالوا لا بأس أن يعطى الرجل لنفسه أكثر من كفايته وذلك أن عمر رضي الله عنه بلغ في العطاء خمسة آلاف وهي أكثر من كفاية الرجل لنفسه ومنهم من قال خمسة آلاف بالمدينة ويغزو إذا غزى وليست بأكثر من الكفاية إذا غزا عليها لبعد المغزى (قال الشافعي) وهذا كالكفاية على أنه يغزو وإن لم يغز في كل سنة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِذَا قَدْ مَضَى مَا يَتَعَذَّرُ بِهِ الْعَطَاءُ فَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَقْتُ الْعَطَاءِ وَزَمَانُهُ.
وَالثَّانِي: جِنْسُهُ وَنَوْعُهُ.
وَهَذَانِ الْفَصْلَانِ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَالِ الْفَيْءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَوَقْتُ الْعَطَاءِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَكَامَلُ فِيهِ حُصُولُ الْمَالِ سَوَاءً تَعَجَّلَ أَوْ تَأَجَّلَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُمْ إِذَا حُصِّلَ وَلَا لَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ إِنْ تَأَخَّرَ إِلَّا أَنْ يُؤَخِّرَ جِبَايَتَهُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ فَلَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِاجْتِبَائِهِ وَاسْتِخْلَاصِهِ، ثُمَّ الْجِنْسُ الْحَاصِلُ مِنَ الْمَالِ هُوَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ دَفْعُهُ إِلَيْهِمْ سَوَاءً كَانَ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ عُرُوضٍ فَتُبَاعُ وَتُضَمُّ أَثْمَانُهَا إِلَى الْمَالِ ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْمَعُ الْفَيْءُ فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ فَيُقَسَّمُ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْفَيْءِ حَتَّى يَتَسَاوَى جَمِيعُ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي كُلِّ مَالِ الْفَيْءِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُقَسَّمُ مَالُ كُلِّ إِقْلِيمٍ فِي أَهْلِهِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي مِنْهَا عَطَاءُ الْجَيْشِ وَجَبَ بَيَانُ الْفَصْلَيْنِ فِي وَقْتِ الْعَطَاءِ وَجِنْسِ الْمَالِ الْمُعْطَى.
فَأَمَّا وَقْتُ الْعَطَاءِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَالِ الْفَيْءِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ جُعِلَ وَقْتُ الْعَطَاءِ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّنَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنَ السَّنَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الفيء ليقدر إليه نفقاتهم يتوقعوا فيهم أَرْزَاقَهُمْ وَيُنْظِرَهُمْ إِلَيْهِ تُجَّارُهُمْ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُحَرَّمِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِذَا حَلَّ وَفَّاهُمْ عَطَاءَ السَّنَةِ بِأَسْرِهِ، وَإِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ مُسْتَحَقًّا فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى مِنَ السَّنَةِ جَعَلَ لِلْعَطَاءِ وَقْتَيْنِ وَقَسَمَهُ نِصْفَيْنِ وَأَعْطَاهُمْ بعد كل سنة

(8/445)


أَشْهُرٍ نِصْفَهُ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعَطَاءِ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتَيْنِ وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ مُشَاهَرَةً، وَإِنْ قُبِضَ مَالُ الْفَيْءِ مُشَاهَرَةً لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِئَلَّا يَصِيرَ الْجَيْشُ مُتَشَاغِلًا فِي كُلِّ السَّنَةِ بِالْقَبْضِ وَالطَّلَبِ.
وَالثَّانِي: كَيْ لَا يَنْقَطِعَ عَنِ الْجِهَادِ تَوَقُّعًا لِحُلُولِ الشُّهُورِ أَوْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ إِنْ خَرَجُوا.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَكُونُ الْعَطَاءُ لِمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ أَوْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْهَا.
قِيلَ: لَيْسَ هُوَ لِمَا مَضَى وَلَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ تَجْرِي مَجْرَى الْجُعَالَةِ، وَالْوُجُوبُ مُتَعَلِّقٌ بِحُصُولِ الْمَالِ وَالْأَدَاءُ مُسْتَحَقٌّ بِحُلُولِ الْوَقْتِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْوُجُوبُ وَالْأَدَاءُ مَعًا مُتَعَلِّقَيْنِ بِحُصُولِ الْمَالِ وَاللَّهُ أعلم.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا جِنْسُ الْمَالِ الْمُعْطَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ مَا قَدَّرَهُ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ طَعَامٌ لِأَقْوَاتِهِمْ وَشَعِيرٌ لِدَوَابِّهِمْ وَثِيَابٌ لِكُسْوَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْأَمْصَارِ فَيَجِبُ اخْتِلَافُهَا عَلَى قَدْرِ عَادَاتِهَا؛ فَيُقَوِّمُ مَا سِوَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ فَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ فِي مَالِ الْفَيْءِ الْمُسْتَحَقِّ حِنْطَةٌ وَشَعِيرٌ قَدَّرَهُ لَهُمْ حَبًّا، وَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ مَعَ أَرْزَاقِهِمْ مِنَ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِ الْفَيْءِ الْمُسْتَحَقِّ حِنْطَةٌ وَلَا شَعِيرٌ أَعْطَاهُمْ قِسْمَتَهُ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا بِسِعْرِ وَقْتِهِ وَالْوَرِقُ أَخَصُّ بِالْعَطَاءِ مِنَ الذَّهَبِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اتِّبَاعُ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي قَلِيلِ النَّفَقَاتِ وَكَثِيرِهَا فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الذَّهَبِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ ذَهَبًا أَوْ كَانَ هُوَ الْأَغْلَبَ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، فَلَوْ تَعَامَلَ النَّاسُ بِالْفُلُوسِ لَمْ يَجْعَلْ مَالَ الْعَطَاءِ فُلُوسًا، لِأَنَّهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ نَادِرَةٌ وَلِذَلِكَ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا الرِّبَا، وَتَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ وَلَا الْأَعْرَابِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
الْمَمْلُوكُ لَا يُفْرَدُ لَهُ فِي الْعَطَاءِ سَوَاءً قَاتَلَ مَعَ سَيِّدِهِ أَوْ تَشَاغَلَ بِخِدْمَتِهِ لَكِنْ يُزَادُ السَّيِّدُ فِي عَطَائِهِ لِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ نَفَقَةِ عَبْدِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْعَبِيدَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَمَهُمْ. وَلَمْ يُعْطِهِمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَإِنَّمَا هُوَ عَوْنٌ لِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَكُسْوَتُهُ وَلَهُ كَسْبُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَيُعْطَى عَطَاءَ الْمُجَاهِدِينَ أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقِتَالُ فِيهَا.

(8/446)


فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ فَادَّعَى فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ، وَأَبُو بَكْرٍ قَدْ خَالَفَ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ خِلَافِهِ فَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَنْ لَقِيَهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَهُوَ لَمْ يُعَاصِرِ الصَّحَابَةَ.
وَالثَّانِي: قَدْ يَعْقُبُ خِلَافَ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَعْصَارِ فَصَارَ حُكْمُ الْخِلَافِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أصحابنا مرتفعا.
والثالث: أنه أشار ذلك إِلَى عَبِيدِ الْخِدْمَةِ لَا عَبِيدِ الْمُقَاتِلَةِ وَلَمْ يعطهم أبو بكر ولا أحد بعدهم شَيْئًا.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْأَعْرَابُ فَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي دِيوَانَ الْجَيْشِ، وَلَا الْتَزَمَ مُلَازَمَةَ الْجِهَادِ وَلَكِنْ يَغْزُو إِذَا أَرَادَ وَيَقْعُدُ إِذَا شَاءَ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ أَعْرَابًا سَوَاءً كَانُوا عَرَبًا أَوْ عَجَمًا فَيُعْطَى هَؤُلَاءِ إِذَا غزو مِنَ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مَا يُعِينُهُمْ عَلَى غَزْوِهِمْ وَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ شَيْئًا، فَإِنْ دَخَلُوا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَأَثْبَتُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدِّيوَانِ وَالْتَزَمُوا الْجِهَادَ مَعَهُمْ، إِذَا جَاهَدُوا صَارُوا فِي عَدَدِ الْجَيْشِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ فَيُفْرَضُ لَهُمْ فِي عَطَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ وَيُخْرَجُوا مِنْ عِدَادِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ وَيُحْرَمُوا مَا كَانُوا يُعْطَوْهُ مِنْهَا كَيْ لَا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَالِ الصَّدَقَةِ وَمَالِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ مَيَّزَ أَهْلَ الصَّدَقَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي أَيَّامِهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ فَصَارَ الْغُزَاةُ ضَرْبَيْنِ.
أَهْلَ صَدَقَةٍ وَهُمْ مَا ذَكَرْنَا.
وَأَهْلَ فَيْءٍ وَهُمْ مَنْ وَصَفْنَا، وَحُكْمُهُمَا مُتَمَيِّزٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ الْأَعْرَابَ الْمُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَةِ دُونَ الْفَيْءِ الَّذِينَ هُمْ أَشْذَاذٌ مُفْتَرِقُونَ لَا يَرْهَبُهُمُ الْعَدُوُّ وَلَا يَسْتَعِينُ بِهِمُ الْإِمَامُ، فَإِنْ قَوِيَ جَمْعُهُمْ وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ حَتَّى رَهِبَهُمُ الْعَدُوُّ وَاسْتَعَانَ بِهِمُ الْإِمَامُ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْأَوَّلُ هُوَ المذهب والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْضِيلِ عَلَى السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ فَمِنْهُمْ من قال أسوي بين الناس فإن أبا بكر رضي الله عنه حين قال له عمر أتجعل للذين جاهدوا في سبيل اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا الدنيا بلاغ وسوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين الناس ولم يفضل (قال الشافعي) رحمه الله: وهذا الذي أختاره وأسأل الله التوفيق وذلك أني رأيت الله تعالى قسم المواريث على العدد فسوى فقد تكون الإخوة متفاضلي الغناء عن الميت في الصلة في الحياة والحفظ بعد الموت وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم لمن حضر الوقعة من الأربعة الأخماس على العدد فسوى ومنهم من يغنى غاية الغناء ويكون الفتوح على يديه ومنهم من يكون محضره إما غير نافع وإما ضارا بالجبن والهزيمة فلما

(8/447)


وجدت الكتاب والسنة على التسوية كما وصفت كانت التسوية أولى من التفضيل على النسب أو السابقة ولو وجدت الدلالة على التفضيل أرجح بكتاب أو سنة كُنْتُ إِلَى التَّفْضِيلِ بِالدِّلَالَةِ مَعَ الْهَوَى أَسْرَعَ (قال الشافعي) وإذا قرب القوم من الجهاد ورخصت أسعارهم أعطوا أقل ما يعطى من بعدت داره وغلا سعره وهذا وإن تفاضل عدد العطية تسوية على معنى ما يلزم كل واحد من الفريقين في الجهاد إذا أراده ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالتَّفْضِيلِ بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ، وَفِي السَّابِقَةِ الَّتِي أُشِيرُ بِالتَّفْضِيلِ إِلَيْهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا السَّابِقَةُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَالثَّانِي: السَّابِقَةُ فِي الْهِجْرَةِ فَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَلَمْ يُفَضِّلْ أَحَدًا بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ، وَأَعْطَى الْعَبِيدَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَتَجْعَلُ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ يَعْنِي بَلَاغٌ إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ، فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ فَضَّلَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَمْ يُعْطِ الْعَبِيدَ. وَأَعْطَى عَائِشَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَأَعْطَى غَيْرَهَا مِنْ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَرَبِيَّاتِ عَشْرَةَ آلَافٍ وَأَعْطَى صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَّةَ سِتَّةَ آلَافٍ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مُعْتَقَتَيْنِ وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ سِتَّةَ آلَافٍ، وأعطى كل واحد من المهاجرين وَالْأَنْصَارِ السَّابِقِينَ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَأَعْطَى الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كُلَّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَأَعْطَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَلْفَيْنِ، وَأَعْطَى ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَتُفَضِّلُ عَلَيَّ أُسَامَةَ وَتَنْقُصُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْكَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِيكَ؛ فَلَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِلَى عَلِيٍّ رَجَعَ إِلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَلَا يُفَضِّلُ أَحَدَهُمْ بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ، وَمَذْهَبُ عُمَرَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ أَوْلَى مِنَ التَّفْضِيلِ اتِّبَاعًا لِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَا سَوَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَمْ يُفَضِّلْ ذَا غِنًى عَلَى فَقِيرٍ، وَلَا فَضَّلَ شُجَاعًا عَلَى جَبَانٍ بَعْدَ مَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ؛ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ أَهْلِهِ لِإِرْصَادِ أَنْفُسِهِمْ لِلْجِهَادِ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ كَاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فِي خُمُسِهِ.

(8/448)


وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى فِي الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ، وَبَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمُشَاقِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ كَذَلِكَ أَهْلُ الْفَيْءِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ وَجَدْتُ الدِّلَالَةَ عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ أَرْجَحُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُنْتُ إِلَى التَّفْضِيلِ بِالدِّلَالَةِ مَعَ الْهَوَى أَسْرَعَ بِمَكَانَ الشَّافِعِيِّ مِنَ السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ الَّذِي لَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ التَّفْضِيلَ لَكَانَ أَسْرَعَ إِلَى هَوَاهُ مِنَ التَّسْوِيَةِ وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الدِّلَالَةِ أحق.

مسألة:
قال الشافعي " وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَغْزُوَا إِذَا غُزُوا وَيَرَى الْإِمَامُ فِي إِغْزَائِهِمْ رَأْيَهُ فَإِنِ اسْتَغْنَى مُجَاهِدُهُ بِعَدَدٍ وَكَثْرَةٍ مِنْ قُرْبِهِ أَغْزَاهُمْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ مُجَاهِدِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْأَعْرَابِ أَنْ يَغْزُوا إلا بأمر الإمام وإذنه لأمورا مِنْهَا:
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَغْزُو عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا بِأَمْرِهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، ولأن الإمام أعرف بأحول الْعَدُوِّ وَفِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ وَخَصْبٍ وَجَدْبٍ وَاخْتِلَافٍ وَوِفَاقٍ وَيُنْفِذُ مِنَ الْجَيْشِ مَنْ يُكَافِئُ الْعَدُوَّ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اضْطُرُّوا لِتَكَاثُرِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ إِلَى مَدَدٍ فَيَمُدُّهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا احْتَاجُوا إِلَى مَيْزَةٍ فَيُمَيِّزُهُمْ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا عَرَفَ لِاتِّصَالِ الْأَخْبَارِ به من مكامن الْعَدُوِّ مَا سَدَّدَهُمْ.
فَبِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَظَائِرِهَا مَا مُنِعُوا مِنَ الْغَزْوِ إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِالْغَزْوِ لَزِمَتْهُمْ طَاعَتُهُ وَإِجَابَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يُطِيعُوهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ سَقَطَتْ أَرْزَاقُهُمْ؛ لِأَنَّ مَا يُرْزَقُونَ مِنَ الْعَطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَأْخُذُونَ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ، فَإِذَا قَعَدُوا عَنْهُ بَعْدَ الْأَمْرِ سَقَطَ مَا يُعْطَوْنَهُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ كَالزَّوْجَاتِ لَمَّا اسْتَحَقُّوا نَفَقَاتِهِمْ بِالطَّاعَةِ سَقَطَتْ بِالنُّشُوزِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ مِنَ الْجِهَادِ مَعَ الْمُكْنَةِ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَحْقِيقًا لِوَعْدِهِ تَعَالَى وَإِظْهَارًا عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَ فِي كُلِّ عام إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ خُلَفَائِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا تَرَكَهُ فِي كُلِّ عَامٍ مُنْذُ فُرِضَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، وَكَيْ لَا يَمْضِيَ عَطَاءُ الْعَامِ هَدَرًا، وَكَيْ لَا يَقْوَى الْعَدُوُّ بِالْمُشَارَكَةِ، وَكَيْ لَا يَأْلَفَ أَهْلُ الْجِهَادِ الرَّاحَةَ.

فَصْلٌ:
قَالَ الشافعي: الْإِمَامُ فِي إِغْزَائِهِمْ رَأْيُهُ: يَعْنِي: فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِالْغَزْوِ إِلَيْهِ وَالْعَدَدِ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ اخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الزَّمَانِ أُولَاهُ، وَمِنَ الْمَكَانِ أَدْنَاهُ، وَيَنْدُبُ عَنْ كُلِّ طَائِفَةٍ إِلَى مَنْ يَلِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وَلِأَنَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَنْ يَلِيهِمْ أَخْبَرُ، وَعَلَى قِتَالِهِمْ أَقْدَرُ وَمَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي قِتَالِهِمْ أَيْسَرُ، فَلَا يُنْفَذُ أَهْلُ ثَغْرٍ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يُسْلِمَ أَهْلُهُ فَيَنْقُلُهُمْ عَنْهُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي لَمْ يُسَلِمْ أَهْلُهَا وَيَسْتَوْطِنُوا فِيمَا يُقَابِلُهَا وَيَلِيهَا.

(8/449)


وَإِمَّا لِظُهُورِ قُوَّةٍ مِنْ عَدُوٍّ فِي غَيْرِ جِهَتِهِمْ، فَأَقْرَبُهَا عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ يَكُونُ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَيَسْتَمِدُّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْفَعُ بِهِمْ قُوَّةَ الْآخَرِينَ، ثُمَّ يَعُودُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ، فَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ هَذَا بِهِمْ زَادَهُمْ نَفَقَةَ مَا تَكَلَّفُوهُ مِنْ زِيَادَةِ سَفَرِهِمْ، فَإِنْ تَزَايَدَتْ قُوَّةُ الْعَدُوِّ فِي إِحْدَى الْجِهَاتِ وَضَعُفَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْجِهَاتِ عَنِ الْمُنَادَاةِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الْقَوِيَّةِ جَمِيعَ أَهْلِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّ فِي كَسْرِهَا كسر لِمَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، وَلَيْسَ فِي كَسْرِ الْأَضْعَفِ كَسْرٌ إِلَيْهَا، وَيَفْعَلُ فِي إِعْطَاءِ الْمَنْقُولِ من زيادة النفقة ما ذكرنا.

مسألة:
قال الشافعي: " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِعْطَاءِ الذُّرِّيَّةِ وَنِسَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُعْطَوْنَ وَأَحْسِبُ مِنْ حجتهم فإن لم تفعل فَمُؤنَتُهُمْ تَلْزَمُ رِجَالَهُمْ فَلَمْ يُعْطِهِمُ الْكِفَايَةَ فَيُعْطِيهِمْ كَمَالَ الْكِفَايَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِذَا أُعْطُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا فَلَيْسُوا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ذُرِّيَّةِ الْأَعْرَابِ وَنِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يُعْطَوْنَ مِنَ الْفَيْءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مُرْتَزِقٌ وَخَلَفَ ذُرِّيَّةً لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ جَمِيعُ عَطَائِهِ، وَفِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ، قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ خِلَافًا عَنْ أَصْحَابِهِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمُ اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ فِي تَرْغِيبِ أَهْلِ الفيء في الجهاد، ثقة لحفظ الذرية وإلا يتشاغلوا عنه بطلب الكسب لمن يخلفون، أو يجبنوا عن الْجِهَادِ فَلَا يُقْدِمُونَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِهِ الْعَطَاءُ وَهُوَ إِرْصَادُ النَّفْسِ لِلْجِهَادِ مَفْقُودٌ فِيهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا تَبَعًا فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ بَطَلَ حُكْمُ التَّابِعِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي الذُّرِّيَّةِ مِنْ أَصَاغِرِ الذُّكُورِ يُرْجَى أَنْ يكون أَهْلِ الْفَيْءِ إِذَا بَلَغَ أُعْطُوا قَدْرَ الْكِفَايَةِ، وَإِلَّا مُنِعُوا فَامْتَنَعَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَخَرَّجَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الدَّقَّاقِ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ اعْتُبِرَتْ أَحْوَالُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَلَا فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَأُعْطُوا مِنْهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ قَدْرَ الْكِفَايَةِ فَسَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ ذَوِي كِفَايَةٍ أَوْ فُقَرَاءَ ذَوِي حَاجَةٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِمَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ وَاجِبَةً عَلَى مَيِّتِهِمْ مِنْ أَوْلَادِهِ الْأَصَاغِرِ وَزَوْجَاتِهِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ وَأَقَمْنَ عَلَى رِعَايَةِ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ ذُرِّيَّتِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجْنَ قُطِعَ عَطَاؤُهُنَّ فَإِذَا بَلَغَ الْأَوْلَادُ خَرَجُوا بِالْبُلُوغِ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ أُثْبِتُوا فِي دِيوَانِهِ وَصَارُوا بِأَنْفُسِهِمْ مُرْتَزِقِينَ وَتَبِعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ، وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ رَغْبَةً فِي غَيْرِهِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ لَا تَبَعًا وَلَا مَتْبُوعِينَ لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ بِالْبُلُوغِ وَمِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ بِالْعُدُولِ عَنْهُ وَاللَّهُ أعلم.

(8/450)


مسألة:
قال الشافعي: " حَدَّثَنِي سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أيمانكم أعطيه أو منعه (قال الشافعي) وهذا الحديث يحتمل معاني منها أن نقول ليس أحد بمعنى حاجة من الصدقة أو بمعنى أنه من أهل الفيء الذين يغزون إلا وله في مال الفيء أو الصدقة حق وكان هذا أولى معانيه به فإن قيل ما دل على هذا؟ قيل قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الصدقة " لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة مكتسب " والذي أحفظ عن أهل العلم أن الأعراب لا يعطون من الفيء (قال) وقد روينا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أهل الفيء كانوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمعزل عن أهل الصدقة وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَكُمْ وَمِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ، لَا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْجَامِعِ لِمَالِ الْفَيْءِ وَمَالِ الصَّدَقَاتِ، وَالنَّاسُ صِنْفَانِ: أَغْنِيَاءُ وَحَقُّهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَفُقَرَاءُ وَحَقُّهُمْ فِي مَالِ الصَّدَقَةِ، أَمَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَالِ الْفَيْءِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ، أَمَّا الْفُقَرَاءُ فَفِيهِ خُمُسُهُ مِنْ سَهْمِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَبَنِي السَّبِيلِ، وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فَالْعَطَاءُ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِمْ فَمِنَ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَالِ الْفَيْءِ، لِأَنَّهُ إِنِ اخْتُصَّ بِأَهْلِ الْفَيْءِ فَنَفْعُهُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لَذَبِّ أَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُمْ وَقِيَامِهِمْ بِالْجِهَادِ الَّذِي بِهِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ، فَصَارَ الْمَالُ الْمَصْرُوفُ إِلَى مَنْ قَامَ بِغَرَضِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ كَالْمَصْرُوفِ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي جعله ملكا للجيش خاصة.
مسألة:
قال الشافعي: " وَالْعَطَاءُ الْوَاجِبُ فِي الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ مِثْلُهُ الْقِتَالَ (قَالَ) ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.

(8/451)


لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ إِلَّا مَنِ اسْتَكْمَلَ شُرُوطَ الْجِهَادِ فَصَارَ مِنْ أَهْلِهِ، فَحِينَئِذٍ يُثْبِتُ نَفْسَهُ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ وَيُفْرَضُ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ، وَشُرُوطُ الْجِهَادِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْجِهَادِ بِهَا وَيَجُوزُ الدخول في أهل الفيء معها ستة وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا مُسْلِمًا قَادِرًا عَلَى الْقِتَالِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَلَا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، وَإِنِ اسْتَكْمَلَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ الْفَرْضُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالِاسْتِطَاعَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَطِيعُ بِعَطَائِهِ إِذَا أَخَذَهُ على القتال إذا ندب.

مسألة:
قال الشافعي: " فَإِنْ كَمَّلَهَا أَعْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَبَدًا أَوْ مَنْقُوصُ الْخَلْقِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَبَدًا لَمْ يُفْرَضْ لَهُ فَرْضُ الْمُقَاتِلَةِ وَأُعْطِيَ عَلَى كِفَايَةِ الْمَقَامِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالذُّرِّيَّةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا بَلَغَ الصِّغَارُ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَهْلِ الْفَيْءِ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْقِتَالِ أَوْ عَاجِزِينَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ سَوَاءً كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَمْوَاتٍ أَوْ أَحْيَاءٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ جَعَلَ الْبُلُوغَ فَرْقًا بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُقَاتِلَةِ، وَلِأَنَّ بُلُوغَ الذُّرِّيَّةِ يُسْقِطُ نَفَقَاتِهِمْ عَنِ الْمُقَاتِلَةِ فَخَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، ثُمَّ هُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَكْتُبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَفْعَلُوا فَيُمْنَعُوا مِنَ الْفَيْءِ، وَيَصِيرُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ بَلَغُوا عَاجِزِينَ عَلَى الْقِتَالِ لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُثْبَتُوا فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ مُنْفَرِدِينَ وَهَلْ يُبْقَوْا عَلَى حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي إِعْطَائِهِمْ مَالَ الْفَيْءِ تَبَعًا أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي فِي مَنْعِهِمْ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ وَإِعْطَائِهِمْ قَدْرَ الْكِفَايَةِ بَيْنَ مَالِ الْفَيْءِ، سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةً لِأَحْيَاءٍ أَوْ لِأَمْوَاتٍ، اسْتِصْحَابًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا فِي حُكْمِ الذَّرَارِي لِتَمَيُّزِهِمْ بِالْبُلُوغِ، وَيُعْدَلُ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَسَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةً لِأَحْيَاءٍ أَوْ لِأَمْوَاتٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَمْوَاتٍ مُنِعُوا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَعُدِلَ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَحْيَاءٍ بَقَوْا فِي مَالِ الْفَيْءِ عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي وَمُنِعُوا مَالَ الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ الْحَيَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا فِي مَالِ الْفَيْءِ لِبَقَاءِ عَطَائِهِ، وَالْمَيِّتَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا فِيهِ لِسُقُوطِ عَطَائِهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَقْعَدَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مُوجِبًا لِنَفَقَاتِهِمْ عَلَى الْآبَاءِ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ، كَوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ فِي صِغَرِهِمْ كَالْجُنُونِ وَالزَّمَانَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الِاكْتِسَابِ بَقُوا عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي فِي مَالِ الْفَيْءِ، وَلَمْ يُعْدَلْ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةَ أَحْيَاءٍ أَوْ أَمْوَاتٍ؛ لِأَنَّ بقاء حكمهم في وجوب النفقة موجبا لبقائهم

(8/452)


عَلَى حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَإِنْ كَانَ مَا أَعْجَزَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَا يُوجِبُ نَفَقَاتِهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاكْتِسَابِ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِتَالِ خَرَجُوا عَنْ حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي مَالِ الْفَيْءِ، وَعُدِلَ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةَ أَحْيَاءٍ أَوْ أَمْوَاتٍ، لِأَنَّ سُقُوطَ نَفَقَتِهِمْ بِالْبُلُوغِ تُخْرِجُهُمْ عَنْ حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة:
قال الشافعي: " فَإِنْ فُرِضَ لِصَحِيحٍ ثُمَّ زَمِنَ خَرَجَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَإِنْ مَرِضَ طَوِيلًا يُرْجَى أُعْطِيَ كَالْمُقَاتِلَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَرِضَ أَحَدُ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَرَضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ يجرى مِنَ اللَّهِ زَوَالُهُ، أَوْ لَا يُرْجَى فَإِنْ كَانَ زَوَالُهُ مَرْجُوًّا كَانَ عَلَى حَقِّهِ فِي الْعَطَاءِ سَوَاءً أَكَانَ مَرَضًا مُخَوِّفًا أَمْ غَيْرَ مُخَوِّفٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ تَنَاوَبُ وَلَا تَنْفَكُّ الْأَبْدَانُ مِنْهَا فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَمَى وَالْفَالَجِ سَقَطَ عَطَاؤُهُ فِي الْمُقَاتِلَةِ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِتَالِ، وَصَارَ كَالذُّرِّيَّةِ إِذَا انْفَرَدُوا، فَهَلْ يُعْطَى كِفَايَتُهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ، أَوْ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْطَى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَالذُّرِّيَّةِ فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ فَيُمْنَعُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ زَمَانَتُهُ بِمَرَضٍ عُدِلَ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ زَمَانَتُهُ عن جِرَاحٍ نَالَتْهُ فِي الْقِتَالِ، فَهَلْ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، أَوْ إِلَى سَهْمِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى سَهْمِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ، وَيُمَيَّزُ عَنْ مَسَاكِينِ الصَّدَقَاتِ اسْتِيفَاءً لِحُكْمِ الْفَيْءِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، كَالذي زَمَانَتُه بِمَرَضٍ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَيُخْرَجُ الْعَطَاءُ لِلْمُقَاتِلَةِ كُلَّ عَامٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ لَا يَجِيءُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ عَامٍ لَمْ يُجْعَلِ الْعَطَاءُ إِلَّا مَرَّةً فِي كُلِّ عَامٍ، فِي وَقْتٍ مِنْهُ مَعْلُومٍ يَتَقَدَّرُ بِاسْتِكْمَالِ الْمَالِ فِيهِ، وَأَوْلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُحَرَّمِ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْفَيْءِ يُحَصَّلُ فِي مَرَّتَيْنِ مِنْ كُلِّ عَامٍ أَوْ مرارا لم ينبغي أَنْ يُجْعَلَ الْعَطَاءُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَشَاغُلِ الْمُجَاهِدِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، وَتَشَاغُلِ الْإِمَامِ بِالْعَطَاءِ، ثُمَّ يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي أَرْفَقِ الْأَمْرَيْنِ بِهِ وَبِالْجَيْشِ، فَإِنْ كَانَ الأرفق أصلح أَنْ يَجْعَلَهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً لِبُعْدِ الْمَغْزَى أَوْ طُولِ الْمُدَّةِ فَعَلَ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْفَقُ الْأَصْلَحُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَرَّتَيْنِ مِنْهَا صَيْفًا وَشِتَاءً، كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ بِحِفْظِ الْمَالِ إِذَا اسْتَبْقَاهُ وَلَا يَسْتَبْطِئُ الْجَيْشُ مَعَ قُرْبِ الْمَغْزَى وَبُعْدِ مَدَاهُ فَعَلَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي

(8/453)


ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ كُلِّ عَامٍ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ كَالزَّكَاةِ لَا تَجِبُ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً فَلَمَ يَجُزْ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً، وَفِي الْفَيْءِ مَا قَدْ يُحَصَّلُ فِي السَّنَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، فَجَازَ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْعَامِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ والله أعلم بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي: " وَإِذَا صَارَ مَالُ الْفَيْءِ إِلَى الْوَالِي ثُمَّ مَاتَ مَيِّتٌ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ عَطَاءَهُ أُعْطِيَهُ وَرَثَتُهُ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ مَالُ ذَلِكَ الْعَامِ لَمْ يُعْطَهُ وَرَثَتُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَطَاءِ يَكُونُ بِحُصُولِ مَالِ الْفَيْءِ وَأَدَاؤُهُ يَجِبُ بِحُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ.
وَقَالَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: اسْتِحْقَاقُهُ وَأَدَاؤُهُ يَكُونَانِ مَعًا بِحُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِحُصُولِ الْمَالِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْأَدَاءِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى مُؤَدِّيهِ لَمْ يَجِبْ بِمُسْتَوْفِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُ الْعَطَاءِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ مَالِ الْفَيْءِ عَلَى أَهْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَطَاءَ يَتَعَلَّقُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَيْنٍ لَا بِذِمَّةٍ وَفِي اعْتِبَارِ وُجُوبِهِ بِالْوَقْتِ دُونَ الْمَالِ نَقْلٌ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الذِّمَّةِ، فَبَطَلَ تَقْدِيرُ مَا اعْتَبَرَهُ.
وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْمَالِ مُعْتَبَرًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حُصُولَهُ هُوَ قَبْضُهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: حُصُولُهُ هُوَ حُلُولُ وُجُوبِهِ عَلَى أَهْلِهِ.
وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ وُجُوبُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِمَوْتٍ وَإِعْسَارٍ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ حَقُّهُ فِيهِ ثَابِتًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَبَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، فَحَقُّهُ فِيهِ ثَابِتٌ وَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ لئلا يختلفوا.
القسم الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ حَقُّهُ ثَابِتًا فِيهِ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ وَقَبْلَ حُصُولِ الْمَالِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ يَكُونُ حَقُّهُ فيه ثابتا يورث عنه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن فضل من الفيء شيء بعد ما وَصَفْتُ مِنْ إِعْطَاءِ الْعَطَايَا وَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي إِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالِازْدِيَادِ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَكُلِّ ما قوي

(8/454)


بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَإِنِ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ وَكَمُلَتْ كُلُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ فُرِّقَ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي مَالِ الْفَيْءِ إِذَا حُصِّلَ أَنْ يَبْدَأَ مِنْهُ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ بِأَرْزَاقِ الْجَيْشِ، لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا شَرِيكَ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لِلْمَصَالِحِ فَمِنْ أَهَمِّهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْهُ مَتَى أُعْطُوا جَمِيعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَكَانَ يَفْضُلُ مِنْ بَعْدِ إِعْطَاءِ جَمِيعِهِمْ فَضْلٌ فَمَصْرِفُ الْفَضْلِ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَصْرِفِ الْفَيْءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً وَاسْتَوْفَوْا مِنْهُ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ رَدَّ الْفَاضِلَ عَلَيْهِ بِقِسْطِ أَرْزَاقِهِمْ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنَ الْفَضْلِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَإِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ استحقاقهم لَهُ كَالْغَنِيمَةِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ تَكَلَّفُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَيَبْدَأُ بَعْدَ أَرْزَاقِهِمْ بِشِرَاءِ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَإِصْلَاحِ مَا تَشَعَّثَ مِنَ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ، ثُمَّ رَدِّ مَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ قَدَّمَ الْجَيْشَ مِنْهُ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ، وَصُرِفَ الْفَضْلُ فِي الْكُرَاعِ والسلاح وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ بَعْدَ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا فَضْلٌ فَفِي رَدِّهِ عَلَى الْجَيْشِ، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُسْتَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَجَدَّدُ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مُعَدًّا لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْجَيْشِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْمَصَالِحِ، بِقِسْطِ أَرْزَاقِهِمْ وَلَا يُسْتَبْقَى لِمَصْلَحَةٍ لَمْ يُعْلَمْ بِهَا مَعَ ظُهُورِ المصلحة في اتساع الجيش بِهَا، وَلِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَفَ فِي الْمَالِ الْمَحْمُولِ مِنْ فَارِسَ أَنَّهُ لَا يَأْوِي تَحْتَ سَقْفٍ حَتَّى يُقَسِّمَهُ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي أَهْلِ الرَّمَادَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَبْقَى لَهُمْ فِي بيت المال ما يسد بهم خَلَّتَهُمْ، حَتَّى انْتَظَرَ بِهِمْ مَا يَأْتِي مِنْ مَالٍ بَعْدَ مَالٍ إِلَى أَنِ اسْتَقَلُّوا فَرَحَلُوا، فَعَلَى هَذَا فِي حُكْمِ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مَعُونَةً لَهُمْ لَا يُحْتَسَبُ بِهَا عَلَيْهِمْ.
وَالثَّانِي: يُرَدُّ عَلَيْهِمْ سَلَفًا مُعَجَّلًا، يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ الْعَامِ القابل والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَإِنْ ضَاقَ عَنْ مَبْلَغِ الْعَطَاءِ فَرَّقَهُ بَيْنَهُمْ بَالِغًا مَا بَلَغَ لَمْ يُحْبَسْ عَنْهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ضَاقَ مَالُ الْفَيْءِ عَنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ وَجَبَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ، كَمَا لَوْ ضَاقَتْ أَمْوَالُ الْمُفْلِسِ عَنْ دُيُونِ غُرَمَائِهِ قُسِّمَ بَيْنَهُمْ على قدر

(8/455)


دُيُونِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ بَعْضَ الْجَيْشِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ مَالَ الْمُفْلِسِ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِهِمْ.
فَإِنْ قيل إن مال الفيء لِلْجَيْشِ سَقَطَ الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَقْضُوهُ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ مَا يُتَمِّمُونَ بَاقِي كِفَايَاتِهِمْ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ كَانَ الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ، دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ يَقْضُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ عَوَّضُوهُمْ بِمَغْنَمٍ قبله كان أولى.

مسألة:
قال الشافعي: " وَيُعْطَى مِنَ الْفَيْءِ رِزْقُ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأَحْدَاثِ وَالصَّلَاةِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ وَالٍ وَكَاتِبٍ وَجُنْدِيٍّ مِمَّنْ لَا غَنَاءَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُ رِزْقُ مِثْلِهِ فإن وجد من يغني غناءه وكان أمينا بأقل لم يزد أحدا على أقل ما يجد لأن منزلة الوالي من رعيته منزلة والي اليتيم من ماله لا يعطى منه عن الغناء لليتيم إلا أقل ما يقدر عليه ومن ولي على أهل الصدقات كان رزقه مما يؤخذ منها لا يعطى من الفيء عليها كما لا يعطى من الصدقات على الفيء (قال) واختلف أصحابنا وغيرهم في قسم الفيء وذهبوا مذاهب لا أحفظ عنهم تفسيرها ولا أحفظ أيهم قال ما أحكي من القول دون من خالفه وسأحكي ما حضرني من معاني كل من قال في الفيء شيئا فمنهم من قال هذا المال لله تعالى دل على من يعطاه فإذا اجتهد الوالي ففرقه في جميع من سمى له على قدر ما يرى من استحقاقهم بالحاجة إليه وإن فضل بعضهم على بعض في العطاء فذلك تسوية إذا كان ما يعطى كل واحد منهم سد خلته ولا يجوز أن يعطي صنفا منهم ويحرم صنفا ومنهم من قال إذا اجتمع المال نظر في مصلحة المسلمين فرأى أن يصرف المال إلى بعض الأصناف دون بعض فإن كان الصنف الذي يصرفه إليه لا يستغني عن شيء مما يصرفه إليه وكان أرفق بجماعة المسلمين صرفه وحرم غيره ويشبه قول الذي يقول هذا أنه إن طلب المال صنفان وكان إذا حرمه أحد الصنفين تماسك ولم يدخل عليه خلة مضرة وإن ساوى بينه وبين الآخر كانت على الصنف الآخر خلة مضرة أعطاه الذين فيهم الخلة المضرة كله (قال) ثم قال بعض من قال إذا صرف مال الفيء إلى ناحية فسدها وحرم الأخرى ثم جاءه مال آخر أعطاها إياه دون الناحية التي سدها فكأنه ذهب إلى أنه إنما عجل أهل الخلة وأخر غيرهم حتى أوفاهم بعد (قال) ولا أعلم أحدا منهم قال يعطى من يعطى من الصدقات ولا مجاهدا من الفيء وقال بعض من أحفظ عنه وإن أصابت أهل الصدقات سنة فهلكت أموالهم أنفق عليهم من الفيء فإذا استغنوا عنه منعوا الفيء ومنهم من قال في مال الصدقات هذا القول يرد بعض مال أهل الصدقات (قال الشافعي) رحمه الله: والذي أقول به وأحفظ

(8/456)


عمن أرضى ممن سمعت أن لا يؤخر المال إذا اجتمع ولكن يقسم فإن كانت نازلة من عدو وجب على المسلمين القيام بها وإن غشيهم عدو في دارهم وجب النفير على جميع من غشيه أهل الفيء وغيرهم (قال الشافعي) رحمه الله أخبرنا غير واحد من أهل العلم أنه لما قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مال أصيب بالعراق فقال له صاحب بيت المال ألا ندخله بيت المال؟ قال لا ورب الكعبة لا يأوي تحت سقف بيت حتى أقسمه فأمر به فوضع في المسجد ووضعت عليه الأنطاع وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار فلما أصبح غدا معه العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف آخذا بيد أحدهما أو أحدهما أخذ بيده فلما رأوه كشفوا الأنطاع عن الأموال فرأى منظرا لم ير مثله الذهب فيه والياقوت والزبرجد واللؤلؤ يتلألأ فبكى فقال له أحدهما إنه والله ما هو بيوم بكاء لكنه والله يوم شكر وسرور فقال إني والله ما ذهبت حيث ذهبت ولكن والله ما كثر هذا في قوم قط إلا وقد بأسهم بينهم ثم أقبل على القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني أسمعك تقول: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " ثم قال أين سراقة بن جعشم؟ فأتي به أشعرالذراعين دقيقهما فأعطاه سواري كسرى وقال البسهما ففعل فقال قل الله أكبر فقال الله أكبر قال فقل الحمد لله الذي سلبهما كسرى ابن هرمز ونظر وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابيا من بني مدلج، وإنما ألبسه إياهما لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لسراقة ونظر إلى ذراعه " كأني بك وقد لبست سوارى كسرى " ولم يجعل له إلا سواريه وجعل يقلب بعض ذلك بعضا ثم قال إن الذي أدى هذا لأمين فقال قائل أنا أخبرك أنك أمين الله وهم يؤدون إليك ما أديت إلى الله فإذا رتعت رتعوا قال صدقت ثم فرقه (قال الشافعي) وأخبرنا الثقة من أهل المدينة قال أنفق عمر رضي الله عنه على أهل الرمادة في مقامهم حتى وقع مطر فترحلوا فخرج عمر رضي الله عنه راكبا إليهم فرسا ينظر إليهم كيف يترحلون فدمعت عيناه فقال رجل من محارب خصفة أشهد أنها انحسرت عنك ولست بابن أمية فقال عمر رضي الله عنه ويلك ذاك لو كنت أنفق عليهم من مالي أو مال الخطاب إنما أنفق عليهم من مال الله عز وجل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ وَكُتَّابُهُمْ وَقُضَاتُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَمُؤَذِّنِيهِمْ وَعُمَّالُهُمْ فَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ على قولين مَعًا، وَأَمَّا أَرْزَاقُ الْقُضَاةِ بَيْنَ الْكَافَّةِ وَوُلَاةِ الأحدايث وَهُمْ أَصْحَابُ الشُّرْطِ وَأَئِمَّةُ الْجَوَامِعِ وَالْمُؤَذِّنُونَ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ أُعْطُوا مِنْهَا أَرْزَاقَهُمْ.
وَإِنْ قِيلَ؛ إِنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَوْا مِنْهُ وَأُعْطُوا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ وَهُوَ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَصْرُوفُ بَعْدَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَإِذَا وَجَدَ الْإِمَامُ مُتَطَوِّعًا بِالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا وَإِذَا وَجَدَ مُرْتَزِقًا بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ

(8/457)


مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُكْمِلَ لَهُ جَمِيعَ أُجْرَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا مُسْتَوْفِيًا لِأُجْرَتِهِ وَفَّاهُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.
فَأَمَّا عُمَّالُ الصَّدَقَاتِ فَأَرْزَاقُهُمْ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْزَقُوا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، فَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ وَمَالُ الصَّدَقَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ وَمَصْرِفُهُمَا مُتَمَيِّزَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ بَيْنَهُمَا وَلَا أَنْ يُعْدَلَ بِأَحَدِهِمَا إِلَى مَصْرِفِ الْآخَرِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ قَهَرَهُ بِالدَّلِيلِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.

(8/458)


بَابُ مَا لَمْ يُوجَفُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرَضِينَ بخيل ولا ركاب
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " كُلُّ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ بِغَيْرِ قِتَالِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فسبيله سبيل الفيء على قسمه وما كان من أَرَضِينَ وَدُورٍ فَهِيَ وَقْفٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُسْتَغَلُّ وَيُقَسَّمُ عليهم في كل عام كذلك أبدا (قال) وأحسب ما ترك عمر رضي الله عنه من بلاد أهل الشرك هكذا أو شيئا استطاب أنفس من ظهر عليه بخيل وركاب فتركوه كما استطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنفس أهل سبي هوازن فتركوا حقوقهم وفي حديث جرير بن عبد الله عن عمر رضي الله عنه أنه عوضه من حقه وعوض امرأته من حقها بميراثها كالدليل على ما قلت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
لَا يَخْلُو مَالُ الْفَيْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ قُسِمَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ بِوَضْعِ خُمُسِهِ فِي أَهْلِهِ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فِي مُسْتَحِقِّهِ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ إِلَّا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ لِانْقِطَاعِ اجْتِهَادِهِ فِيهِ وَأَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الْفَيْءِ غَيْرَ مَنْقُولٍ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالْأَرَضِينَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فَهِيَ وَقْفٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِمَا فِي وَقْفِهَا مِنِ اسْتِدَامَةِ الْمَصْلَحَةِ وَاسْتِدْرَارِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَأَنَّهُ يَسْتَغِلُّهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ فِي كُلِّ عَصْرِهِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَالَ الْفَيْءِ مِلْكًا لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهَا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ كَالْغَنِيمَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ وَقْفُ دُورِهَا وَأَرَضِيهَا إِلَّا بِرِضَى الْغَانِمِينَ وَاخْتِيَارِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْغَلَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ أَمَدُّ وَأَنْفَعُ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ قَامُوا فِي تَمَلُّكِهِ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَقِّهِ وَمَا مَلَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَقُّهُ مِنَ الْفَيْءِ وَقْفٌ، فَكَذَلِكَ مَا مَلَكَهُ الْجَيْشُ بَعْدَهُ فَصَارَ الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَصْرِفَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ يَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً أَمْ لَا؟ على وجهين.

(8/459)


فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ وَقْفًا كَانَ جَمِيعُهُ مِنَ الْخُمُسِ وَغَيْرِهِ وَقْفًا إِلَّا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى وَحْدَهُ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ يَصِيرُ سَهْمُهُمْ مِنْهُ وَقْفًا مَعَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِيرُ وقفا إلا عن رضى مِنْهُمْ وَاخْتِيَارٍ لِتَمَلُّكِهِمْ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّهُ قَدْ صَارَ وَقْفًا لِأَنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوا خُمُسَ الْخُمُسِ مِنْ مَالٍ مَحْكُومٍ لَهُ بِالْوَقْفِ فَلَمْ يُمَيَّزْ حُكْمُ سَهْمِهِمْ مِنْهُ عَنْ حُكْمِ جَمِيعِهِ وَصَارَ مَا مَلَكُوهُ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِغْلَالُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَكُونُ وَقْفًا فَإِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِمَصِيرِهَا فِيهَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى وَاقِفٍ يَقِفُهَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: لَا تَصِيرُ وَقْفًا إِلَّا أَنْ يَقِفَهَا الْإِمَامُ لَفْظًا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَنْزَلَ أَهْلَ السَّوَادِ عَنْهُ وَعَارَضَ مَنْ أَبَى أَنْ يَنْزِلَ عَنْهُ ثُمَّ وَقَفَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا لَا يَتِمُّ وَقْفُهُ إِلَّا بِاللَّفْظِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا رُدَّ إِلَى خِيَارِ الْوَاقِفِ فِي تَمَلُّكِهِ وَوَقْفِهِ وَهَذَا غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى خِيَارِ الْوَاقِفِ فِي تملكه وَوَقْفِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ حُكْمٌ قَدْ يَثْبُتُ لِأَرْضِ الْفَيْءِ عِنْدَ انْتِقَالِهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَصَارَتْ بِالِانْتِقَالِ وَقْفًا، وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِي فِعْلِهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ أَنْ حَكَمَ بِوَقْفِهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ اسْتَنْزَلَ الْغَانِمِينَ عَنْ مِلْكٍ فَجَازَ أَنْ يَقِفَهُ بِلَفْظٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَيْءُ، وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا} الْآيَةَ (قَالَ) وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا (قال) وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للمهاجرين شعارا وللأوس شعارا وللخزرج شعارا (قال) وعقد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الألوية فعقد للقبائل قبيلة فقبيلة حتى جعل في القبيلة ألوية كل لواء لأهله وكل هذا ليتعارف الناس في الحرب وغيرها فتخف المؤنة عليهم باجتماعهم وعلى الوالي كذلك لأن في تفرقهم إذا أريدوا مؤنة عليهم وعلى واليهم فهكذا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَمِيزَ الْجَيْشَ بِمَا يَتَزَيَّنُونَ بِهِ وَيَتَعَارَفُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا} [الحجرات: 13] وَفِي الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أن الشعوب للنسب الأبعد والقبائل للنسب الْأَقْرَبُ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الشُّعُوبَ عَرَبُ الْيَمَنِ مِنْ قَحْطَانَ وَالْقَبَائِلَ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ وَسَائِرُ عَدْنَانَ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ الشُّعُوبَ بُطُونُ الْعَجَمِ وَالْقَبَائِلَ بُطُونُ الْعَرَبِ فَجَعَلَ ذَلِكَ سِمَةً لِلتَّعَارُفِ وَأَصْلُهُ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

(8/460)


أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ.
وَالثَّانِي: مَا يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ.
فَأَمَّا مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْعُرَفَاءُ وَالنُّقَبَاءُ وَاخْتِلَافُ الشِّعَارِ.
فَأَمَّا الْعُرَفَاءُ فَهُوَ أَنْ يُضَمَّ إِلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَكُونُ عَرِيفًا عَلَيْهِمْ وَقَيِّمًا بِهِمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي عَوَارِضِهِمْ، وَيَرْجِعُ الْإِمَامُ إِلَيْهِ فِي تَعَرُّفِ أَحْوَالِهِمْ وَيُضِيفُهُمْ إِلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَغْزَاهُمْ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا، وَقَدْ سُمِّيَ الْعُرَفَاءُ فِي وَقْتِنَا هَذَا قُوَّادًا.
وَأَمَّا النُّقَبَاءُ فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُرَفَاءِ نَقِيبًا؛ لِيَكُونَ لَهُمْ مُرَاعِيًا وَلِأَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ أَصْحَابِهِمْ مُنْهِيًا وَلَهُمْ إِذَا ارْتَدُّوا مُسْتَدْعِيًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتَارَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ بَايَعَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا.
وَأَمَّا الشِّعَارُ فَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا كُلُّ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي مَسِيرِهِمْ وَفِي حُرُوبِهِمْ حَتَّى لَا يَخْتَلِطُوا بِغَيْرِهِمْ وَلَا يَخْتَلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تضافرهم لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِلْمُهَاجِرِينَ شِعَارًا وَلِلْأَنْصَارِ شِعَارًا عَلَامَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: الرَّايَةُ الَّتِي يَتَّبِعُونَهَا وَيَسِيرُونَ إِلَى الْحُرُوبِ تَحْتَهَا فَتَكُونُ رَايَةُ كُلِّ قَوْمٍ مُخَالِفَةً لِرَايَةِ غَيْرِهِمْ.
وَالثَّانِي: مَا يُعَلَّمُونَ بِهِ فِي حُرُوبِهِمْ فَيُعَلَّمُ كُلُّ قَوْمٍ بِخِرْقَةٍ ذَاتِ لَوْنٍ مِنْ أَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ أو أخضر تكون إما عصابة على رؤوسهم، وَإِمَّا مَشْدُودَةً فِي أَوْسَاطِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: النِّدَاءُ الَّذِي يَتَعَارَفُونَ بِهِ فَيَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَا آَلَ كَذَا أَوْ يَا آَلَ فُلَانٍ أَوْ كَلِمَةً إِذَا تَلَاقَوْا تَعَارَفُوا بِهَا لِيَجْتَمِعُوا إِذَا افْتَرَقُوا وَيَتَنَاصَرُوا إِذَا أُرْهِبُوا، فَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ كَانَ سِيَاسَةً وَلَمْ يَكُنْ فِقْهًا، فَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْأُمُورِ فِي مَصَالِحِ الْجَيْشِ وَأَحْفَظِهَا لِلسِّيَرِ الشَّرْعِيَّةِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ فَهُوَ الدِّيوَانُ الْمَوْضُوعُ لِإِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ وَمَبْلَغِ أَرْزَاقِهِمْ يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: النَّسَبُ.
وَالثَّانِي: السَّابِقَةُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى إِذَا دُعُوا لِلْعَطَاءِ أَوِ الْغَزْوِ قُدِّمَ فِيهِ الْمُقَدَّمُ فِي الدِّيوَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَ الدِّيوَانَ عَلَى هَذَا حِفْظًا لِلْأَسْمَاءِ وَالْأَرْزَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ لِمَ اسْتَحْدَثَ عُمَرُ وَضْعَ الدِّيوَانِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل محدث بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النار.

(8/461)


قِيلَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْحَاجَةُ دَعَتْهُ إِلَيْهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْجَيْشِ وَاخْتِلَافِ الثُّغُورِ لِيَحْفَظَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ لَا تَنْحَفِظُ بِغَيْرِهِ:
أَحَدُهَا: حِفْظُ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ.
وَالثَّانِي: حِفْظُ أَرْزَاقِهِمْ وَأَوْقَاتِ عَطَائِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: تَرْتِيبُهُمْ بِالنَّسَبِ وَالسَّابِقَةِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَبِأَنْفُسِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِيَاطٌ فِي الدِّينِ وَمُسْتَحْسَنٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ الله سيء " فَهَذَا وَجْهٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ فَعَلَ مَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى وَضْعِ الدِّيوَانِ وَإِنْ أَخَّرَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ مَعَ اجْتِمَاعِ الْجَيْشِ وَقِلَّتِهِمْ كَالَّذِي فَعَلَهُ مِنْ تَعْرِيفِ الْعُرَفَاءِ وَاخْتِيَارِ النُّقَبَاءِ وَالْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الشِّعَارِ وَالنِّدَاءِ، فَتَمَّمَ عُمَرُ بِوَضْعِ الدِّيوَانِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنِ مُقَدِّمَاتِهِ حِينَ احْتَاجَ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا ولا مبتدعا، وبالله التوفيق.

مسألة:
قال الشافعي: " وَأُحِبُّ لِلْوَالِي أَنْ يَضَعَ دِيوَانَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ وَيَسْتَظْهِرَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ وَمَنْ جَهِلَ مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ قَبَائِلِهِمْ (قال الشافعي) رحمه الله وأخبرني غير واحد من أهل العلم والصدق من أهل المدينة ومكة من قبائل قريش وكان بعضهم أحسن اقتصاصا للحديث من بعض وقد زاد بعضهم على بعض أن عمر رضي الله عنه لما دون الديوان قال أبدأ ببني هاشم ثم قال حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعطيهم وبني المطلب فإذا كَانَتِ السِّنُّ فِي الْهَاشِمِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْمُطَّلِبِيِّ وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُطَّلِبِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْهَاشِمِيِّ فوضع الديوان عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءَ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ استوت له بنو عبد شمس ونوفل في قدم النسب فقال عبد شمس إخوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبيه وأمه دون نوفل فقدمهم ثم دعا ببني نوفل يلونهم ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفيهم أنهم من المطيبين وقال بعضهم هم حلف من الفضول وفيهم كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل ذكر سابقة فقدمهم على بني عبد الدار ثم دعا بني عبد الدار يلونهم ثم انفردت له زهرة فدعاها تتلوا عبد الدار ثم استوت له تيم ومخزوم فقال في تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل ذكر سابقة وقيل ذكر صهرا فقدمهم على مخزوم ثم دعا مخزوما يلونهم ثم استوت له سهم وجمح وعدي بن كعب فقيل ابدأ بعدي فَقَالَ بَلْ أُقِرُّ نَفْسِي حَيْثُ كُنْتُ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَخَلَ وَأَمْرُنَا وَأَمْرُ بَنِي سَهْمٍ وَاحِدٌ ولكن انظروا بين جمح وسهم فقيل قَدَّمَ بَنِي جُمَحَ ثُمَّ دَعَا بَنِي سَهْمٍ وكان ديوانه عدي وسهم مختلطا كالدعوة الواحدة فلما خلصت إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً عَالِيَةً ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي

(8/462)


أَوْصَلَ إِلَيَّ حَظِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم دعا عامر بن لؤي (قال الشافعي) فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله الجراح الفهري رضي الله عنه لما رأى من تقدم عليه قال أكل هؤلاء يدعى أمامي؟ فقال يَا أَبَا عُبَيْدَةَ اصْبِرْ كَمَا صَبَرْتُ أَوْ كلم قَوْمَكَ فَمَنْ قَدَّمَكَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ أمنعه فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا قال فقدم معوية بعد بني الحارث بن فهر ففصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى وشجر بين بني سهم وعدي شيء فِي زَمَانِ الْمَهْدِيِّ فَافْتَرَقُوا فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبَنِي عَدِيٍّ فَقُدِّمُوا عَلَى سَهْمٍ وجُمَحَ لِسَابِقَةٍ فِيهِمْ (قال) فإذا فرغ من قريش بدئت الأنصار على العرب لمكانهم من الإسلام (قال الشافعي) الناس عباد الله فأولاهم أن يكون مقدما أقربهم بخيرة الله تعالى لِرِسَالَتِهِ وَمُسْتَوْدَعِ أَمَانَتِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال الشافعي) ومن فرض له الوالي من قبائل العرب رأيت أن يقدم الأقرب فالأقرب منهم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإذا استووا قدم أهل السابقة على غير أهل السابقة ممن هو مثلهم في القرابة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا كَانَ وَضْعُ الدِّيوَانِ مَأْثُورًا قَدْ عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مِنْهُ بُدًّا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالدِّيوَانِ.
فَقَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّ كِسْرَى اطَّلَعَ يَوْمًا عَلَى كِتَابِهِ وَهُمْ مُنْتَحُونَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: " دِيوَانُهُ " أَيْ مَجْنُونٌ فَسُمِّيَ وَضْعُ جُلُوسِهِمْ دِيوَانًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيوَانَ اسْمٌ لِلسَّلَاطِينِ فَسُمِّي الْكِتَابُ بِاسْمِهِمْ لِوُصُولِهِمْ إِلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ وَضَبْطِهِمُ الشَّاذَّ وَجَمْعِهِمُ الْمُتَفَرِّقَ ثُمَّ سُمِّيَ مَوْضِعُ جُلُوسِهِمْ بِاسْمِهِمْ فَقِيلَ دِيوَانٌ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَضَعَ دِيوَانَ الْجَيْشِ قَدَّمَ فِيهِ الْعَرَبَ عَلَى الْعَجَمِ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِهِ من رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّاسُ عِبَادُ اللَّهِ وَأَوْلَاهُمْ أَنْ يكون مقدما أقربهم فخيره اللَّهِ لِرِسَالَتِهِ وَمُسْتَوْدَعِ أَمَانَتِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الْعَرَبِ قَدَّمَ مِنْهُمْ قُرَيْشًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ بِحَسَبِ قُرْبِ آبَائِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قَصِيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ. فَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا بَنُو هَاشِمٍ وَضَمَّ إِلَيْهِمْ بَنُو الْمُطَّلِبِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ وَضْعَ الدِّيوَانِ قَالَ بِمَنْ أَبْدَأُ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا عَلَى عَادَةِ الْفُرْسِ فِي تَقْدِيمِ الْوُلَاةِ، وَإِمَّا لِتَخَيُّرِ

(8/463)


عُمَرَ فِيمَا يَفْعَلُهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه أذكرتني بأن أبدأ ببني هاشم فإن حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعْطِيهِمْ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَكَانَ إِذَا كَانَتِ السِّنُّ فِي الْهَاشِمِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْمُطَّلِبِيِّ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُطَّلِبِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْهَاشِمِيِّ فَوَضَعَ دِيوَانَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءَ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ عَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ فِي قِدَمِ النَّسَبِ لِأَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا أَخَوَا هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لِهَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ الْبَدْرَانِ وَلِعَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ الْأَبْهَرَانِ.
وَأَصْلُ عَبْدِ شَمْسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عَبَاءُ الشَّمْسِ أَيْ يَسْتُرُ الشَّمْسَ ثُمَّ خَفَّفُوا فَقَالُوا عَبْدُ شَمْسٍ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأَصْغَرَهُمُ الْمُطَّلِبُ فَقَدَّمَ عُمَرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى بَنِي نَوْفَلٍ، لِأَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَنَوْفَلٌ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِآدَمَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
(يَا أَمِيرُ إِنِّي قَائِلٌ قَوْلَ ... ذِي دِينٍ وَبِرٍّ وحسب)

(عبد شمس [ ... ،...] أَنَّهَا ... عَبْدُ شَمْسٍ عَمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ)

(عَبْدُ شمس كان يتلوها شما ... وَهُمَا بَعْدُ لِأُمٍّ وَلِأَبْ)

فَقَدَّمَ عُمَرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ثُمَّ دَعَا بَعْدَهُمْ بَنِي نَوْفَلٍ ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ بَنُو عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَهُمَا أَخَوَا عَبْدِ مَنَافٍ وَجَمِيعُهُمْ بَنُو قُصَيٍّ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَدَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَخَوَيْ عَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ الدَّارِ ابْنَيْ قُصَيٍّ، فَقَدَّمَ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ.
مِنْهَا: إِنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّ خَدِيجَةَ مِنْهُمْ.
وَمِنْهَا السَّابِقَةُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، لِأَنَّهُ مِنْهُمْ.
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ.
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ، فَأَمَّا حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ فَإِنَّهُ حِلْفٌ عَقَدَتْهُ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى رَدْعِ الظَّالِمِ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَقَالُوا إِنَّ لَنَا حَرَمًا يُعَظَّمُ وَبَيْتًا يُزَارُ فَأَخْرَجُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَعَدُّوهُ لِلتَّعَاوُنِ عَلَى حِلْفِهِمْ فَصَارَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى هَذَا الْحِلْفِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي النَّسَبِ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِحِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ، فَقَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّهُمْ طَيَّبُوا مَكَّةَ بِرَدْعِ الظَّالِمِ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، لِأَنَّ قُرَيْشًا تَسَلَّطُوا حِينَ قَوُوا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْرَجَتْ لَهُمْ عِنْدَ عَقْدِ هَذَا الْحِلْفِ جِفْنَةً فِيهَا طِيبٌ فَغَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِيهَا عِنْدَ التَّحَالُفِ وَتَطَيَّبُوا بِهِ فَسُمِّيَ حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ وَكَانَ مَنْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ قُرَيْشٍ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنُو أَسَدٍ، وَبَنُو زُهْرَةَ، وبنو تيم، وبنو الحرث بْنِ فِهْرٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ نَحَرُوا جَزُورًا ثُمَّ قَالُوا مَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ

(8/464)


فِي دَمِهَا ثُمَّ عَلَّقَ مِنْهُ فَهُوَ مِنَّا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ فَأَدْخَلَتْ أَيْدِيَهَا بَنُو هَاشِمٍ فَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ بَنُو سَهْمٍ وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَبَنُو جُمَحَ وَبَنُو عَدِيٍّ وَبَنُو مَخْزُومٍ فَسُمِّيَ هَذَا أَحْلَافَ اللَّعْقَةِ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فِي ذَلِكَ.
(وَسُمِّينَا الْأَطَايبَ مِنْ قُرَيْشٍ ... عَلَى كَرَمٍ فَلَا طِبْنَا وَلَا طَابَا)

(وَأَيُّ الْخَيْرِ لَمْ نَسْبِقْ إِلَيْهِ ... وَلَمْ نَفْتَحْ بِهِ لِلنَّاسِ بَابَا)

وَأَمَّا حِلْفُ الْفُضُولِ فَهُوَ حِلْفٌ عَقَدَتْهُ أَيْضًا قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ وَكَانَ سَبَبُهُ مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: أَنَّ قَيْسَ بْنَ شَيْبَةَ السلمي باع متاعا على أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ فَلَوَاهُ وَذَهَبَ بِحَقِّهِ، فَاسْتَجَارَ عَلَيْهِ بَنِي جُمَحَ فَلَمْ يُجِيرُوهُ فَقَامَ قَيْسٌ مُنْشِدًا فَقَالَ:
(يَا آَلَ قُصَيٍّ كَيْفَ هَذَا فِي الْحَرَمْ ... وَحُرْمَةُ الْبَيْتِ وَأَخْلَاقُ الْكَرَمْ)

(أَظُلْمٌ لَا يُمْنَعُ مَنْ ظُلِمْ)

فَجَدَّدُوا لِأَجْلِهِ حِلْفَ الْفُضُولِ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ عَلَى رَدِّ الظُّلْمِ بِمَكَّةَ، وَأَنْ لَا يُظْلَمَ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنَعُوهُ وَدَخَلَ فِي الْحِلْفَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنُو زُهْرَةَ وَبَنُو تَيْمٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَئِذٍ مَعَهُمْ وَذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَقَضْتُهُ وَمَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً وَلَمْ يَدْخُلْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِحِلْفِ الْفُضُولِ فَقَالَ قَوْمٌ: لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لِأَنَّ قُرَيْشًا وَسَائِرَ الْأَحْلَافِ كَرِهُوهُ فَعَابُوا مَنْ دَخَلَ فِيهِ وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْفُضُولِ. فَسُمِّيَ بِحِلْفِ الْفُضُولِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سُمِّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ لِأَنَّهُمْ تَحَالَفُوا عَلَى مِثْلِ مَا تَحَالَفَ عَلَيْهِ قَومٌ مِنْ جُرْهُمٍ فِيهِمُ الْفَضْلُ وَفُضَالٌ وَفُضَيْلٌ وَسُمِّيَ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِمْ حِلْفَ الْفُضُولِ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ بَنِي قُصَيٍّ ثم انفرد، بعدهم بنو زهرة أخوا قُصَيٍّ وَهُمَا ابْنَا كِلَابٍ، وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ مِنْ غَيْرِهِمَا وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: صريح قريش ابنا كلاب يعني قصي وَزُهْرَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا لِأَنَّ أَبَاهُ مِنْ قُصَيٍّ، وَأُمَّهُ مِنْ زُهْرَةَ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ بَعْدَ بَنِي كِلَابٍ بَنُو تَيْمٍ وَبَنُو مَخْزُومٍ لِأَنَّ تَيْمًا وَمَخْزُومًا أَخَوَا كِلَابٍ وَجَمِيعُهُمَا بَنُو مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ فَقَدَّمَ بَنِي تَيْمٍ عَلَى بَنِي مَخْزُومٍ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ.
مِنْهَا السَّابِقَةُ لِأَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ منهم.

(8/465)


وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن عَائِشَةَ مِنْهُمْ.
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ.
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ.
ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَدِيٍّ وَبَنُو سَهْمٍ وَبَنُو جُمَحَ لِأَنَّهُمْ أُخْوَةُ مُرَّةَ وَجَمِيعُهُمْ بَنُو كَعْبِ بْنِ عَامِرٍ فَقِيلَ لَهُ: ابْدَأْ بِبَنِي عَدِيٍّ وَهُمْ قَوْمُهُ، فَقَالَ؛ بَلْ أُقِرُّ نَفْسِي حَيْثُ كُنْتُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَخَلَ وَأَمْرُنَا وَأَمْرُ بَنِي سَهْمٍ وَاحِدٌ وَلَكِنِ انْظُرُوا بَيْنَ بَنِي جُمَحَ وَبَنِي سَهْمٍ فَقِيلَ إِنَّهُ قَدَّمَ بَنِي جُمَحَ ثُمَّ دَعَا بَنِي سَهْمٍ وَكَانَ دِيوَانُ عَدِيٍّ وَسَهْمٍ مُخْتَلِطًا كَالدَّعْوَةِ الْوَاحِدَةِ فَلَمَّا بَلَغَتْ إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً عَالِيَةً ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْصَلَ إِلَيَّ حَظِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ دَعَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَاضِرًا وَهُوَ مِنْ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمَّا رَأَى مَنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ قَالَ: أَكُلُّ هَذَا يُدْعَى أَمَامِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا أَبَا عبيدة اصبر كما صبرت أو كلم قَوْمَكَ، فَمَنْ قَدَّمَكَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ أَمْنَعْهُ، فَأَمَّا أَنَا وَبَنُو عَدِيٍّ فَنُقَدِّمُكَ عَلَى أَنْفُسِنَا إِنْ أَحْبَبْتَ ثُمَّ دَعَا بَعْدَ بَنِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
ثُمَّ دَعَا بِعْدَهُمْ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ حَتَّى اسْتَكْمَلَ قُرَيْشًا وَاخْتَلَفَ النَّسَّابُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ فِي قُرَيْشٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ بَنُو فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ فَمَنْ تَفَرَّقَ نَسَبُهُ عن فهر فهو مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَزَ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَطَائِفَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قُرَيْشًا هُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ جَدِّ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ فِهْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ فَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَزَ النَّضْرَ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَطَائِفَةٍ أُخْرَى، وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ قُرَيْشًا عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِنَّ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ اسْمُهُ قُرَيْشًا وَإِنَّمَا نبزته أمه فهرا لقيا، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ سُمِّيَ قُرَيْشًا لِأَنَّ قُرَيْشَ بْنَ بَدْرِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ كَانَ دَلِيلَ بَنِي كِنَانَةَ فِي تِجَارَتِهِمْ، وَكَانَ يُقَالُ قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ فَسُمِّيَتْ قُرَيْشٌ بِهِ، وَأَبُوهُ بَدْرُ بْنُ مَخْلَدٍ هُوَ صَاحِبُ بَدْرٍ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُرَيْشًا وَهُوَ احْتَفَرَ بِئْرَهَا وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عُمَرَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا؛ لِأَنَّ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ سُمِّيَ قُرَيْشًا لِأَنَّهُ كَانَ يُقَرِّشُ عَنْ خَلَّةِ النَّاسِ وَحَاجَتِهِمْ فَيَسُدُّهَا وَالتَّقَرُّشُ هُوَ التَّفْتِيشُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بن حلزة.

(8/466)


(أَيُّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْرٍو، فَهَلْ لَهُ إِبْقَاءُ)

وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تُجَّارًا فِي رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، لِأَنَّ التُّجَّارَ يُقَرِّشُونَ وَيُفَتِّشُونَ عَنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَحَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِتَجَمُّعِهِمْ إِلَى الْحَرَمِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ لِأَنَّ قُصَيًّا جَمَعَهُمْ إِلَيْهِ وَالتَّقَرُّشُ التَّجَمُّعُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ.
(إِخْوَةٌ قَرَّشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِهِمْ وَقَدِيمِ)

وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى.
وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِقُوَّتِهِمْ تَشْبِيهًا بِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ قَوِيَّةٍ تُسَمَّى قُرَيْشًا كما قال تبع بن عمرو الجبري:
(وقريش هي التي تسكن البحر ... بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشُ قُرَيْشَا)

(تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ ولا تترك ... يوما من جَنَاحَيْنِ رِيشَا)

(هَكَذَا فِي الْعِبَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَشِيشَا)

(وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا)

(يَمْلَأُ الْأَرْضَ خيلة ورجالا ... يحشرون المطي حشرا كَمِيشَا)

فَلَمَّا فَرَغَ عُمَرُ مِنْ قُرَيْشٍ دَعَا بَعْدَهُمْ بِالْأَنْصَارِ وَقَدَّمَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ بَعْدَ قُرَيْشٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 100] وَلِنُصْرَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْأَنْصَارُ كِرْشِي وَعَيْبَتِي لَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَالْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَشَجَرَ بَيْنَ بَنِي سَهْمٍ وَعَدِيٍّ فِي زَمَانِ الْمَهْدِيِّ فَافْتَرَقُوا فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبَنِي عَدِيٍّ فَقُدِّمُوا عَلَى سَهْمٍ وجُمَحَ لِسَابِقَةٍ فِيهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ قِبَلِ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا يَنْبَغِي أن يكون منع الديوان على مثل ما وضعه عُمَرُ يَبْدَأُ بِقُرَيْشٍ فَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ بِنِي أَبٍ بَعْدَ أَبٍ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يُقَدِّمُ بَعْدَهُمُ الْأَنْصَارَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ يَعْدِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى مُضَرَ ثُمَّ

(8/467)


رَبِيعَةَ ثُمَّ جَمِيعِ وَلَدِ عَدْنَانَ، ثُمَّ يَعْدِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى قَحْطَانَ فَيُرَتِّبُهُمْ عَلَى السَّابِقَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قُرَيْشٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ الْعَرَبِ عَدَلَ بَعْدَهُمْ إِلَى الْعَجَمِ فَرَتَّبَهُمْ عَلَى سَابِقَةٍ إِنْ كَانَتْ لَهُمْ.
فَأَمَّا تَرْتِيبُ أَهْلِ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ مِنْهُمْ ذُو السَّابِقَةِ ثُمَّ ذُو السِّنِّ ثُمَّ ذُو الشَّجَاعَةِ، فَإِذَا أَرَادَ تَفْرِيقَ الْعَطَاءِ فِيهِمْ بَدَأَ بِالْقَبِيلَةِ الْمُقَدَّمَةِ فِي الدِّيوَانِ فَقَدَّمَهَا فِي الْعَطَاءِ وَقَدَّمَ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي الدِّيوَانِ مُقَدَّمًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِعْطَاءُ جَمِيعِهِمْ إِلَّا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَيُقَدِّمُ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ فِي الدِّيوَانِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَهْلِهِ، وبالله التوفيق.

(8/468)


مختصر كتاب الصدقات من كتابين قديم وجديد

مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا لِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ لَا يَسَعُهُمْ حَبْسُهُ عَمَّنْ أُمِرُوا بِدَفْعِهِ إليه أو ولائه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
اعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: الْمَالُ الذي تجب فيه.
والثاني: المال الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: الْمُسْتَحِقُّ الَّذِي تُصْرَفُ إِلَيْهِ.
فَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ " الزَّكَاةِ " أَنَّهُ الْمَالُ الثَّانِي عَلَى شُرُوطِهِ الْمَاضِيَةِ وَأَمَّا الْمَالِكُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُشْرِكِينَ هَلْ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا؟ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا، هَلْ خُوطِبُوا مَعَ الْإِيمَانِ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ كَمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمْ مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لقوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 42 و 43 و 44] وَقَالَ آخَرُونَ: وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ إِنَّهُمْ فِي حَالِ الْكُفْرِ إِنَّمَا خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمُ الْخِطَابُ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا بَعْدَ الإيمان لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دمائهم وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ لَوْ وَجَبَتْ عليهم لطولبوا بها بعد إسلامهم.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمُسْتَحِقُّ لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ فَهَذَا الْكِتَابُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] أَيْ تُطَهِّرُ ذُنُوبَهُمْ وَتُزَكِّي أَعْمَالَهُمْ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبٌ لِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِمُسْتَحِقِّهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] فَأَمَّا السَّائِلُ: فَهُوَ الَّذِي يسائل الناس لفاقته.

(8/469)


وَفِي الْمَحْرُومِ خَمْسَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ الْمُتَعَفِّفُ الذي لا يسأل [الناس شيئا ولا يعلم بحاجته] ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْمُحَارِفُ الَّذِي لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ مَكْسَبُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الَّذِي يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَتُدْبِرُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ الْمُصَابُ بِزَرْعِهِ وَثَمَرِهِ [يُعِينُهُ مَنْ لَمْ يُصَبْ] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ.
وَالْخَامِسُ: إِنَّهُ الْمَمْلُوكُ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " يَا مُعَاذُ بَشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ وَيَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ، ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ مَصْرُوفَةٌ فِي ذَوِي الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ حِرْفَةٍ وَلَا تَعَيُّشٍ وَكَانَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلمنا أنه من اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ كَانَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقْسِمُ قَسْمًا إِذْ جَاءَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ الْيَمَانِيُّ، فَقَالَ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ دَعْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّهَ نَبِيَّهُ عَنْ هَذَا الْعُتْبِ، وَتَوَلَّى قَسْمَهَا بَيْنَ أَهْلِهَا فَقَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] أَيْ عَلِيمٌ بِالْمَصْلَحَةِ حَكِيمٌ فِي الْقِسْمَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ " حَتَّى تَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ فَصَارَ مَالُ الزَّكَوَاتِ مَقْسُومًا فِي أَهْلِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَرَوَى زياد بن الحرث الصُّدَائِيُّ فَقَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايَعْتُهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ ".

فَصْلٌ:
فإذا ثبت أنها تصرف إِلَى مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَّا إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ

(8/470)


وإسحاق وأبي ثور، وقال أبي شُبْرُمَةَ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِمْ زَكَاةُ الْفِطْرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " وَبِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمُسْلِمِ.
وَدَلِيلُنَا، رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشَدْتُكَ اللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِنَا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ هُوَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَأْخُوذَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِمْ مَرْدُودَةً، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرِ فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إِلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَيْهِ كَالْأَغْنِيَاءِ وَذَوِي الْقُرْبَى؛ وَلِأَنَّ مَنْ نَقَصَ بِالْكُفْرِ حَرُمَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَوَّلَنَا أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ اسْتِعْلَاءً عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نُمَلِّكَهُمْ أَمْوَالَنَا اسْتِذْلَالًا لَهُمْ.
فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ مَخْصُوصَانِ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ افْتُرِضَ مِنْهُمْ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ فَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْفَرْضُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ فَمُنْتَقَضٌ بِذَوِي الْقُرْبَى، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ إِنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَا الذِّمِّيُّ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالْمُسْتَأْمَنِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَا يَسَعُ الْوُلَاةَ تَرْكُهُ لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى أَخْذِهِ لِأَهْلِهِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَّرَهَا عَامًا لَا يَأْخُذُهَا فِيهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ، وَبَاطِنَةٌ، فَالظَّاهِرَةُ هِيَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعُ وَالْمَعَادِنُ، وَالْبَاطِنَةُ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَعُرُوضُ التِّجَارَاتِ.

(8/471)


فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ: فَأَرْبَابُ التِّجَارَاتِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ فِي تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ لِيَتَوَلَّى تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ عَلَى أَرْبَابِهَا دَفْعَ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَلَا يُجْزِئُهُمْ تَفْرِيقُهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ أَرْبَابَهَا بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ تَفْرِيقِهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَدَلِيلُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَاجِبٌ، وَهُوَ مذهب مالك وأبي حنيفة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ الْأَخْذَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأَرْبَابِ الدَّفْعَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ " فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَوَافَقَتْهُ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مُخَالَفَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْأَخْذَ وَعَلَيْهِمُ الدَّفْعَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يتَعَلَّقُ بِالْمَالِ الظَّاهِرِ يُصْرَفُ إِلَى الْأَصْنَافِ عَلَى أَوْصَافٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفَرُّدُ الْإِمَامِ بِهِ شَرْطًا فِي إِجْزَائِهِ كَالْخُمُسِ.
وَدَلِيلُنَا، قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ تَفَرُّدَ أَرْبَابِهَا بِتَفْرِيقِهَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خير لكم} [البقرة: 271] فجعل كلا الأمرين مجزءا وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274] فَدَلَّ عُمُومُ الْآيَتَيْنِ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الصَّدَقَاتِ فَرْضًا وَنَفْلًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ حَمَلَ صَدَقَتَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَدَّهَا وَحَمَلَهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَرَدَّهَا وَحَمَلَهَا إِلَى عُمَرَ، فَرَدَّهَا، فَلَوْ كَانَ تَفَرُّدُهُ بِإِخْرَاجِهَا لَا يُجْزِئُهُ لَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لَهَا مِنْ غَيْرِ إِجْزَاءٍ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُخْرَجٌ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَرْبَابُهُ بِإِخْرَاجِهِ كَالْكَفَّارَاتِ؛ وَلِأَنَّ مَا أُخْرِجَ زَكَاةً لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إِلَى الْإِمَامِ كَالْمَالِ الْبَاطِنِ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ الْبَاطِنِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ الظَّاهِرِ كَالْإِمَامِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّ تَفْرِيقَ رَبِّهَا لَا يَجُوزُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا أَوْ جَائِرًا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى مَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا مِنْ عُمَّالِهِ وَسُعَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَالْعَامِلُ حَاضِرَيْنِ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ.
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ غَائِبًا عَنِ الْمَالِ وَالْعَامِلُ حَاضِرًا، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى

(8/472)


الْعَامِلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَإِذَا دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى عَامِلِهِ، بَرِئَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا، وَكَانَتْ يَدُ الْإِمَامِ وَيَدُ عَامِلِهِ سَوَاءً لِنِيَابَتِهِ عَنْهُ، فَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ كَانَ تَالِفًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ.
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ بِالْجَوْرِ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْأَمَانَةِ، وَجَازَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَمْ يُجْزِ رَبَّ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ وُصُولَهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَا يَكُونُ الْإِمَامُ الْجَائِرُ نَائِبًا عَنْهُمْ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ بِنَفْسِهِ، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ إِخْرَاجَهَا ثَانِيَةً سَوَاءً أَخَذَهَا الْإِمَامُ الْجَائِرُ مِنْهُ جَبْرًا أَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ مُخْتَارًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ أَخْذُ الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَهَا سَوَاءً أَخَذَهَا جَبْرًا أَوْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُخْتَارًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ الْجَائِرُ جَبْرًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُخْتَارًا لَمْ يُجْزِئْهُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ ذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " السُّلْطَانُ يُفْسِدُ، وَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَكْثَرُ، فَإِنْ عَدَلَ فَلَهُ الْأَجْرُ وَعَلَيْكُمْ، وَإِنْ جَارَ فَلَهُ الْوِزْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ " فَلَمَّا جَعَلَ وِزْرَ جَوْرِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ عَلَى غيره، وفي تكليف رد المال الإعادة يَحْتَمِلُ لِوِزْرِهِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ الْجَائِرَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ كَالْعَادِلِ فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ سَقَطَتِ الْحُدُودُ بِاسْتِيفَائِهِ لَهَا سَقَطَتِ الزَّكَاةُ بِقَبْضِهِ لَهَا كَالْعَادِلِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَا سَقَطَ بِاسْتِيفَاءِ الْإِمَامِ العادل له سقط باستفياء الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَهُ كَالْحُدُودِ وَلِأَنَّ خِيَانَةَ النَّائِبِ لَا تَقْتَضِي فَسَادَ الْقَبْضِ كَالْوَكِيلِ.
وَدَلِيلُنَا، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ " فَجَعَلَ حُدُوثَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بَعِيدًا رَافِعًا لِوُجُوبِ الطَّاعَةِ، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ طَاعَةُ الْوَالِي لِجَوْرِهِ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ الرَّعِيَّةِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الزَّكَاةُ بِأَخْذِهِمْ لَهَا، وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَنْ سَقَطَتْ طَاعَتُهُ سَقَطَتْ نِيَابَتُهُ كَالْعَاصِي.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَنْ بَطُلَتْ نِيَابَتُهُ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ كَالْوَكِيلِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَخْتَصُّ بِتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ كَمَا يَخْتَصُّ بِاسْتِيفَاءِ الْأَمْوَالِ فَلَمَّا لَمْ تُنَفَّذْ أَحْكَامُهُ بِجَوْرِهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِيفَاؤُهُ الْأَمْوَالَ بِجَوْرِهِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا وُقِفَتْ صِحَّتُهُ عَلَى عَدَالَةِ الْإِمَامِ كَانَ مَرْدُودًا بِجَوْرِهِ كَالْأَحْكَامِ، وَلِأَنَّ

(8/473)


إِمَامَتَهُ تَبْطُلُ بِجَوْرِهِ كَمَا تَبْطُلُ بِعَزْلِهِ وَخَلْعِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهَا بَعْدَ خَلْعِ نَفْسِهِ لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ كَذَلِكَ إِذَا قَبَضَهَا بَعْدَ جَوْرِهِ.
وَتَحْرِيرُهُ: إِنَّ مَا أَبْطَلَ إِمَامَتَهُ مَنَعَ مِنْ إِجْزَاءِ قَبْضِهِ كَالْخَلْعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ الْوِزْرِ بِالْإِمَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ وِزْرُهُ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَتَعَدَّ وَزِرُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، وَرَبُّ الْمَالِ مَأْخُوذٌ بِوِزْرِ زَكَاتِهِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ وِزْرُهَا لَهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ فَهِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا حَقَّ فِيهَا لِآدَمِيٍّ وَالْمَقْصُودُ بِهَا الزَّجْرُ الْحَاصِلُ بَعْدَ الْإِمَامِ وَجَوْرِهِ، وَلِذَلِكَ جَوَّزْنَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ مِنْ سَيِّدِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنْ يَحُدَّهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا وُصُولُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، وَذَلِكَ بِجَوْرِ الْإِمَامِ مَعْدُومٌ فَافْتَرَقَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَكِيلِ فَالْمَعْنَى فِي الْوَكِيلِ أَنَّ وِكَالَتَهُ لَا تَبْطُلُ بِجِنَايَتِهِ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّ قَبْضُهُ، وَالْإِمَامُ تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ بِجَوْرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْجَدِيدِ: إِنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّ تَفْرِيقَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَهَا جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا كَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي زَكَاةِ مَالَيْهِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بَيْنَ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَوْ إِلَى عَامِلِهِ وَإِنْ أَرَادَ تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَوْ بِوَكِيلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ؟ أَنْ يَدْفَعَ زكاة ماله إلى الإمام أو تفريقها بِنَفْسِهِ.
قِيلَ: إِنْ كَانَ مَالُهُ ظَاهِرًا فَدَفَعَ زَكَاتَهُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الطَّاعَةِ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْجَمَاعَةُ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ بَاطِنًا فَتَفَرُّدُهُ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ مِنْ إِقْرَارِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عَلَى إِخْرَاجِهَا، وَلِتَكُونَ مُبَاشَرَةُ التَّأْدِيَةِ مَا لَزِمَهُ مِنْ حَقِّهَا وَلِيَخُصَّ أَقَارِبَهُ وَذَوِي رَحِمِهِ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ؟ أَنْ تُخْفَى أَوْ تُبْدَى؟
قِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْمُفَرِّقُ لَهَا فَإِبْدَاؤُهَا أفضل من إخفائها سواء كان زَكَاةَ مَالٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِيهَا فَكَانَ إِظْهَارُ إِخْرَاجِهَا أَفْضَلَ لَهُ مِنْ إِخْفَائِهَا وَكَتْمِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُفَرِّقُ لَهَا رَبَّ الْمَالِ فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ ظَاهِرٍ فَالْأَفْضَلُ لَهُ إِظْهَارُهَا بِالْعُدُولِ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَنِ الْإِمَامِ إِلَيْهِ، وَلِيَعْلَمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ بَاطِنٍ فَالْأَفْضَلُ لَهُ إِخْفَاؤُهَا إِذَا أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ يَجْهَرَ بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فهو خير لكم} وَلِأَنَّ إِخْفَاءَهُ فِي حَقِّهِ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، وَفِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ أَبْعَدُ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ، والله أعلم.

(8/474)


مسألة:
قال الشافعي: " فَإِذَا أُخِذَتْ صَدَقَةُ مُسْلِمٍ دُعِيَ لَهُ بَالْأَجْرِ والبركة كما قال تعالى: {وصل عليهم} أَيِ: ادْعُ لَهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَفِي قَوْلِهِ: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الدُّعَاءُ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَفِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهم} ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: قُرْبَةٌ لَهُمْ رَوَاهُ الضَّحَّاكُ [عن ابن عباس] .
وَالثَّانِي: رَحْمَةٌ لَهُمْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي [طَلْحَةَ عن ابن عباس] .
وَالثَّالِثُ: أَمْنٌ لَهُمْ.
ثُمَّ الدُّعَاءُ نُدِبَ عَلَى الْآخْذِ لَهَا إِنْ لَمْ يُسْأَلِ الدُّعَاءَ وَأَوْجَبَهُ دَاوُدُ، وَإِنْ سُئِلَ الدُّعَاءَ، فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَدَقَاتِ قَوْمِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ علي فقال: اللهم صلي عَلَى آَلِ أَبِي أَوْفَى وَلِيَقَعَ بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الْمَأْخُوذَةِ صَغَارًا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ الْمَأْخُوذَةِ تَطْهِيرًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّ أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا كَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ الدُّعَاءُ لِفَاعِلِهَا.
وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْآخِذَ لَهَا لَزِمَهُ الدُّعَاءُ لِمَا فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ طَاعَتِهِ، وَإِنْ كان الفقير وهو الْآخِذَ لَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ وَقِيلَ: بِضِدِّهِ: إِنَّ الدُّعَاءَ يَلْزَمُ الْفَقِيرَ دُونَ الْإِمَامِ، لِأَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ مُتَعَيَّنٌ وَإِلَى الْفَقِيرِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَأَمَّا مَا يَدْعُو بِهِ الْآخِذُ فَقَدْ مَضَى في كتاب الزكاة.
مسألة:
قال الشافعي: " وَالصَّدَقَةُ هِيَ الزَّكَاةُ وَالْأَغْلَبُ عَلَى أَفْوَاهِ الْعَامَّةِ أَنَّ لِلثَّمَرِ عُشْرًا وَلِلْمَاشِيَةِ صَدَقَةً وَلِلْوَرِقِ زَكَاةً وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا كُلَّهُ صَدَقَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ

(8/475)


وَالثَّمَرِ يُسَمَّى عُشْرًا، وَالْمَأْخُوذَ مِنَ الْمَاشِيَةِ يُسَمَّى صَدَقَةً، وَالْمَأْخُوذَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ يُسَمَّى زَكَاةً، وَلَا يَجْعَلُ لِاخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ تَأْثِيرًا فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: هِيَ مُخْتَلِفَةُ الْأَسْمَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ فَخَصَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ بِاسْمِ الْعُشْرِ دُونَ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ، وَجَعَلَ حُكْمَهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِي مَالِهِمَا صَدَقَةٌ وَلَا زَكَاةٌ.
وَالثَّانِي: جَوَازُ مَصْرَفِ الْعُشْرِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، وَإِنْ لَمْ تُصْرَفْ فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَلَا زَكَاةٌ.
وقال الشافعي في الجديد: الأسماء المشتركة وَالْأَحْكَامُ مُتَسَاوِيَةٌ، وَإِنَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى صَدَقَةً وَزَكَاةً، أَمَّا تَسْمِيَتُهُ بالصدقة فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فما دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ زَكَاةً فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْكَرْمِ: " يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ ثَمَرًا " وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ مُشْتَرِكَةٌ ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ مُتَسَاوِيَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " ثَبَتَ أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ طُهْرَةً لِلْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ كَانَ زَكَاةً لِمَالِهِ كَالزَّكَاةِ.

مسألة:
قال الشافعي: " فَمَا أُخِذَ مِنْ مُسْلِمٍ مِنْ زَكَاةِ مَالٍ نَاضٍّ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ زَكَاةِ فِطْرٍ أَوْ خُمُسِ رِكَازٍ أَوْ صَدَقَةِ مَعْدِنٍ أو غيره مما وجب عليه في ماله بكتاب أو سنة أو إجماع عوام المسلمين فمعناه واحد وقسمه واحد وقسم الفيء خلاف هذا فالفيء ما أخذ من مشرك تقوية لأهل دين الله وله موضع غير هذا الموضع ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلَّمَا وَجَبَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ مِنْ حَقٍّ، إِمَّا بِحُلُولِ الْحَوْلِ كَالْمَوَاشِي وَزَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ أَوْ بِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ أَوْ بِالِاسْتِفَادَةِ كَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ أَوْ عَنْ رَقَبَةٍ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، فَمَصْرِفُ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ فِي السُّهْمَانِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ بقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية إلى أَنَّهُ مَا تَجِبُ زَكَاتُهُ بِالْحَوْلِ إِذَا حَالَ عَلَيْهِ فِي يَدِهِ أَحْوَالُ زَكَاةٍ فِي كُلِّ حَوْلٍ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَمَا يَجِبُ زَكَاتُهُ بِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، إِذَا بَقِيَ فِي يَدِهِ أَحْوَالٌ لَمْ يُزَكِّهِ إِلَّا الزَّكَاةَ الْأُولَى وَمَا اسْتُفِيدَ مِنْ مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ أَوْ رِكَازٍ زَكَّى فِي كُلِّ حَوْلٍ؛ لِأَنَّهُمَا ذَهَبٌ وَوَرِقٌ يُرَاعَى فِيهَا بَعْدَ الِاسْتِفَادَةِ حُلُولُ الْحَوْلِ، وَخُولِفَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَجَعَلَ أبو حنيفة مَصْرِفَ عُشْرِهَا مَصْرِفَ الْفَيْءِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

(8/476)


وَالثَّانِي: زَكَاةُ الْفِطْرِ جَعَلَ مَالِكٌ مَصْرِفَهَا فِي المساكين خاصة، وقال أبو سعيد الاصطرخي: إِنْ فُرِّقَتْ فِي ثَلَاثَةِ فُقَرَاءَ أَجْزَأَتْ.
وَالثَّالِثُ: الْمَعَادِنُ.
وَالرَّابِعُ: الرِّكَازُ، جَعَلَ أبو حنيفة مَصْرِفَهَا الْفَيْءَ اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: إِنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهَا الْخُمُسُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مُبَايَنَةً لِمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا، فَانْصَرَفَ مَصْرِفَ الْفَيْءِ لَا مَصْرِفَ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُعَجَّلٌ وَفِي الزَّكَاةِ مُؤَجَّلٌ فَلَوْ جَرَيَا مَجْرَى الزَّكَاةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَتَأَجَّلَتْ وَلَمَا تَعَجَّلَتِ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالثَّالِثُ: إِذَا اعْتُبِرَ بِالرِّكَازِ حَالُ الدَّافِنِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَقَدْ مُلِكَ عَنْهُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَدَلِيلُنَا، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " وَلِأَنَّهُ حق يجب فِي مَالِ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لَمَّا خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْفَيْءِ خَرَجَ خُمُسُهُ عَنْ حُكْمِ الْفَيْءِ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُسْتَبْقَى مِنْهُ حُكْمُ الْفَيْءِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ حُكْمُ الْفَيْءِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ لَمَّا اخْتُصَّ بِبَعْضِ أَمْوَالٍ دُونَ بَعْضٍ كَالزَّكَاةِ كَانَ زَكَاةً وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْخُمُسِ فِيهِ فَهُوَ أَنَّ مَقَادِيرَ الزَّكَوَاتِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً يَكُونُ رُبُعَ الْعُشْرِ وَتَارَةً نِصْفَ الْعُشْرِ وَتَارَةً الْعُشْرَ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ زَكَاةً فَكَذَلِكَ تَكُونُ تَارَةً الْخُمُسَ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ زَكَاةً وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْمَقَادِيرِ بِحَسَبَ اخْتِلَافِ الْمُؤَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا سُقِيَ بِنَاضِحٍ أَوْ رِشَاءٍ لَمَّا كثرت مؤنته قَلَّتْ زَكَاتُهُ، فَكَانَتْ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمَا بِسَيْحٍ أو سماء لما قلت مؤونته كَثُرَتْ زَكَاتُهُ، فَكَانَتِ الْعُشْرَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلرِّكَازِ مُؤْنَتُهُ أُضْعِفَتْ زَكَاتُهُ فَكَانَتِ الْخُمُسَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِتَعْجِيلِ الْحَقِّ فِيهِ فَهُوَ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَتِ الْفَائِدَةُ بِهِ فَتَعَجَّلَ الْحَقُّ، وَمَا تَأَجَّلَتِ الْفَائِدَةُ بِهِ تَأَجَّلَ الْحَقُّ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لَمْ تَكْمُلْ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِالْحَوْلِ رُوعِيَ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمَوَاشِي، وَمَا كَمُلَتْ فائدته قبل الحول لم يراعى فِيهِ الْحَوْلُ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِ بِحَالِ الدَّافِنِ دُونَ الْوَاجِدِ فَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَهُ بِالْوَاجِدِ دُونَ الدَّافِنِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اعْتُبِرَ بِحَالِ الدَّافِنِ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَا يُمَلَّكُ عَلَيْهِ مَالُهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِ مُوسَى وَعِيسَى قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ الدَّافِنُ.

(8/477)


وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ بِهِ الدَّافِنُ لَمَا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ الْوَاجِدُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، وَلَكَانَ إِمَّا مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ أَوْ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فَيَثْبُتُ أن اعتباره بحال الواجد أولى من اعتبار بحال الدافن والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَقَسْمُ الصَّدَقَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السبيل} ثُمَّ أَكَّدَهَا وَشَدَّدَهَا فَقَالَ " فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ " الْآيَةَ وَهِيَ سُهْمَانٌ ثَمَانِيَةٌ لَا يُصْرَفُ مِنْهَا سَهْمٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ أَهْلِهِ مَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ أَحَدٌ يَستَحِقُّهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَسْمُ الصَّدَقَاتِ يُسْتَحَقُّ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ وُجُودِ جَمِيعِهَا وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ اقْتِصَارُ أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ، وَإِنْ دَفَعَ جَمِيعَ الزَّكَاةِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجَزَأَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْفَعُهَا إِلَى أَمَسِّ الْأَصْنَافِ حَاجَةً.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنْ كَثُرَتِ الزَّكَاةُ دَفَعَهَا إِلَى الْأَصْنَافِ كُلِّهَا، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ قَلَّتْ دَفَعَهَا إِلَى أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ كَمَا قَالَ أبو حنيفة.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] فَجَعَلَ تَخْصِيصَ الْفُقَرَاءِ بِهَا خَيْرًا مَشْكُورًا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، وَصَرْفِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25] فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَفَرُّدِهِمْ بِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ "، وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيَّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَجْزَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ لَهُ انْطَلِقْ إِلَيَّ بصدقة بني زريق فتلدفع إليك فأطعم منه وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَهَا، فَدَلَّ نَصُّ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى جواز دفعها إلى نفس واحدة عن صِنْفٍ وَاحِدٍ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ بِالذِّكْرِ كَمَا خَصَّ الصِّنْفَ الْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الصِّنْفِ وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا صَدَقَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهَا بَعْضُ الْفُقَرَاءِ فَجَازَ أَنْ يُخَصَّ بِهَا بَعْضُ الْأَصْنَافِ كَالْكَفَّارَاتِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَنْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَاتِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الزَّكَوَاتِ، قِيَاسًا عَلَى بَعْضِ الْفُقَرَاءِ.

(8/478)


قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمًا يَخُصُّهُ لَمَا جَازَ فِيمَنْ فُقِدَ أَنْ يُرَدَّ سَهْمُهُ عَلَى مَنْ وُجِدَ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ فَقْدِ بَعْضِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ وُجُودِ بَعْضِهِمْ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا سَدُّ الْخَلَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَمَّ بِهَا الْجَمِيعُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ وَمِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَعْضِ الصِّنْفِ أَوْ مِنْ جَمِيعِهِ.
وَدَلِيلُنَا، قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ وَالدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أصناف الصدقة إلى الأصناف الثمانية بلا التَّمْلِيكِ وَعَطَفَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، وَكُلَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُمَلَّكَ اقْتَضَتِ الْإِضَافَةُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْإِضَافَةُ إِلَى الْأَشْخَاصِ تُوجِبُ التَّمْلِيكَ لِتَعْيِينِ الْمَالِكِ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْأَوْصَافِ لَا تُوجِبُ التَّمْلِيكَ لِلْجَهَالَةِ بِالْمَالِكِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَزَيْدٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِإِنْسَانٍ لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ.
قِيلَ: قَدْ يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْأَصْنَافِ كَمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِلْفُقَرَاءِ وَالْغَارِمِينَ صَحَّ أَنْ يَمْلِكُوهُ كَمَا يَصِحُّ إِذَا أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ أَنْ يَمْلِكُوهُ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: مِنَ الْآيَةِ أَنَّ لِلْإِضَافَةِ وَجْهَيْنِ: تَشْرِيكٌ وَتَخْيِيرٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صِيغَةٌ، وَصِيغَةُ التَّشْرِيكِ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ أَعْطِ هَذَا الْمَالَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمَا فِيهِ وَلَا يَقْتَضِي تَفَرُّدَ أَحَدِهِمَا بِهِ، وَصِيغَةُ التَّخْيِيرِ تَكُونُ بِ " أَوْ " كَقَوْلِهِ: أَعْطِ هَذَا الْمَالَ لِزَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي إِعْطَائِهِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْإِضَافَةُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى صِيغَةِ التَّشْرِيكِ دُونَ التَّخْيِيرِ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ مِلْكُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ لِجَمِيعِ الصَّدَقَاتِ لَا لِكُلِّ صَدَقَةٍ مِنْهَا فَنَدْفَعُ صَدَقَةَ زَيْدٍ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَصَدَقَةَ عَمْرٍو إِلَى الْمَسَاكِينِ وَصَدَقَةَ بَكْرٍ إِلَى الْغَارِمِينَ، قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أبا حنيفة لَا يَعْتَبِرُ هَذَا فِي الصَّدَقَاتِ.
وَالثَّانِي: أنه قد يجوز أن ينفق جَمِيعُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ عَلَى صَرْفِهَا كُلِّهَا فِي أَحَدِ الْأَصْنَافِ فَلَا يُوجَدُ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ صَدَقَةٍ لِمَنْ سُمِّيَ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدُّورُ الثَّلَاثَةُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ كَانَتْ كُلُّ دَارٍ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَلَمْ يُجْعَلْ كُلُّ دَارٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ

(8/479)


الصَّدَقَاتِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلَا مَلَكٍ مُقَرَّبٍ فَتَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ وَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ.
فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَقْسُومَةٌ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُعْطَى مِنْهَا إِلَّا قَدْرَ حَقِّهِ، وَهَذَا نَصٌّ لَا يُحْتَمَلُ خِلَافُهُ وَلِأَنَّهُ مَالٌ أُضِيفَ شَرْعًا إِلَى أَصْنَافٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ كَالْخُمُسِ وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَوْ جُعِلَ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ لَمْ يَعْدُهُ فَوَجَبَ إِذَا جَعَلَ الْأَصْنَافَ أَنْ يَقْتَسِمُوهُ كَالْوَصَايَا وَلِأَنَّ الْفُقَرَاءَ أَحَدُ أَصْنَافِ الصَّدَقَاتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَصُّوا بِهَا كَالْعَامِلِينَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ تَفْضِيلُ الْإِخْفَاءِ عَلَى الْإِبْدَاءِ لِإِتْيَانِ الْمَصْرِفِ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بَيَانُ الْمَصْرِفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ أَوْ تُحْمَلَ هَذِهِ عَلَى الْفَرْضِ وَتِلْكَ عَلَى التَّطَوُّعِ.
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فِي ذَلِكَ حَقًّا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ حَقٌّ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ أبا حنيفة وَإِنْ جَوَّزَ دَفْعَهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ فَلَيْسَ يَمْنَعُ مِنْ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَصْنَافِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " فُقَرَائِكُمْ " أَيْ فِي ذَوِي الْحَاجَةِ مِنْكُمْ وَجَمِيعِ أَهْلِ الْأَصْنَافِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ حَاجَاتُهُمْ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: الْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ عَوْدُ الصَّدَقَاتِ عَلَيْنَا وَأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَسْتَبِدُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَنَا فَحُمِلَ الْخَبَرُ عَلَى مَقْصُودِهِ كَالَّذِي رَوَاهُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي سَائِمَةِ الْإِبِلِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ فَحُمِلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِهِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَخْذِ الشَّطْرِ إِنْ مُنِعَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيِّ. فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَدَقَةَ بَنِي زُرَيْقٍ كَانَتْ وَقْفًا لَا زَكَاةً فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ.
وَالثَّانِي: أن مَعْنَاهُ فَلْيَدْفَعْ إِلَيْكَ حَقَّكَ مِنْهَا، أَوْ يَكُونُ: لم يبق منها إلا حق فيعتبر واحد فدفعه إليه.

(8/480)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ دَفْعُهَا إِلَى بَعْضِ الصِّنْفِ جَازَ دَفْعُهَا إِلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ فَهُوَ أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى بَعْضِ الصِّنْفِ تَخْصِيصُ عُمُومٍ فَجَوَّزْنَاهُ وَدَفْعُهَا إِلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ نَسْخُ نَصٍّ فَأَبْطَلْنَاهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِرَدِّ سَهْمِ مَنْ فُقِدَ مِنَ الْأَصْنَافِ عَلَى مَنْ وُجِدَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِمِيرَاثِ الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعِ الرُّبُعَ، وَلَوْ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ لَكَانَ لَهَا فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ سَدُّ الْخَلَّةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِبَعْضِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَبَعْضُهُ مَعُونَةٌ لِفَكِّ رِقَابِ الْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّاتِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا لَا بَعْضِهَا فَلَمْ يَسْلَمِ الدَّلِيلُ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ مَصْرِفِهَا فِي الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ رَبِّ المال من أن يتول تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ لَا عَمَلَ لَهُمْ فِيهَا وَقَسَمَ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ إِنْ وُجِدُوا فَإِنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهِمْ ضُمِنَ سَهْمُهُمْ مِنْهَا، وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ سَاعِيهِ كَانَتْ يَدُهُ يَدًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ بِنِيَابَتِهِ عَنْهُمْ وَوِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ حُصُولُهَا فِي يَدِ الْإِمَامِ أَوْ سَاعِيهِ مُسْقِطًا لِفَرْضِهَا عَنْ رَبِّ الْمَالِ ثُمَّ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ فِي أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَيَكُونُوا ثَمَانِيَةً يُدْخِلُ فِيهِمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا إِنْ عَمِلُوا فِيهَا أَوْ يَدْفَعُ كُلَّ صَدَقَةٍ إِلَى صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ إِذَا جُعِلَتْ بِيَدِهِ صَارَتْ كالصدقة الواحدة.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَا يَخْرُجُ عَنْ بَلَدٍ وَفِيهِ أَهْلُهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بعثه " فإن أجابوك فأعملهم أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ يَجِبُ صَرْفُهَا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا عَنْهُ، فَإِنْ نُقِلَتْ فَقَدْ أَسَاءَ نَاقِلُهَا وَفِي إِجْزَائِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَيَكُونُ عِنْدَهُ مُسِيئًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبَلَدُ الَّذِي نَقَلَهَا إِلَيْهِ أَمَسَّ حَاجَةً فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مُسِيئًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ نَقْلُهَا وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ.
فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ يُجْزِئُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة فَدَلِيلُهُ قَوْله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الْآيَةَ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ قَبِيصَةَ بْنَ الْمُخَارِقِ الْهِلَالِيَّ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فَأَعِنِّي، فَقَالَ: نُؤَدِّهَا عَنْكَ إِذَا قَدَّمْتَ لَنَا نَعَمَ الصَّدَقَةِ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ تُحْمَلُ إِلَيْهِ صَدَقَاتُ الْبِلَادِ.

(8/481)


وَرُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ حَمَلَ صَدَقَةَ قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْ بَعْدِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُنْقَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَكَاةُ الْيَمَنِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ إِخْرَاجُهُ لِلطُّهْرَةِ لَمْ يُخْتَصَّ بِبَلَدِهِ كَالْكَفَّارَةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْوُجُوبِ جَازَ نَقْلُ الزَّكَاةِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِ الْوُجُوبِ.
إِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَصَحُّ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.
فَجَعَلَ وُجُوبَ أَخْذِهَا مِنْ أَغْنِيَاءِ الْيَمَنِ مُوجِبًا لِرَدِّهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْيَمَنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ نَقْلِهَا عَنْ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِ الْيَمَنِ.
قِيلَ لَمَّا جَعَلَ مَحَلَّ الْوُجُوبِ مَحَلَّ التَّفْرِقَةِ اقْتَضَى أَنْ يَتَمَيَّزَ فِيهَا بِلَادُ الْيَمَنِ كَمَا يَتَمَيَّزُ بِهَا جَمِيعُ الْيَمَنِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَوَّزَ نَقْلَهَا سَوَّى فِي الْجَوَازِ بَيْنَ الْإِقْلِيمِ الْوَاحِدِ وَالْأَقَالِيمِ، وَمَنْ مَنَعَ مِنْ نَقْلِهَا سَوَّى فِي الْمَنْعِ بَيْنَ الْإِقْلِيمِ الْوَاحِدِ وَالْأَقَالِيمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَجَعْلُهُ النُّقْلَةَ عَنِ الْمَكَانِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ يَمْتَنِعُ مِنْ نَقْلِهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ صَادِرٌ عَنْهُ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ عَنْهُ نَصًّا، وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى الْأَبْدَانِ.
وَالثَّانِي: فِي الْأَمْوَالِ.
فَلَمَّا كَانَ فِي حُقُوقِ الْأَبْدَانِ مَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ مَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَهُوَ الزَّكَاةُ وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ الزَّكَاةِ بِالْمَكَانِ كَاخْتِصَاصِهَا بِأَهْلِ السُّهْمَانِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا عَنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا عَنِ الْمَكَانِ.
وَأَمَّا الْأَجْوِبَةُ عَنْ دَلَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْآيَةُ قَصْدُهَا بَيَانُ أَهْلِ السُّهْمَانِ دُونَ الْمَكَانِ فَلَمْ يُعْدَلْ بِهَا عَنْ مَقْصُودِهَا.

(8/482)


وَأَمَّا حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنَ الْمُخَارِقِ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا عَلَى مَا فِي سَوَادِ المدينة من الصدقات أو على ما لم يُوجَدُ فِي بَلَدِ الْمَالِ مُسْتَحِقٌّ لَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاذٍ " ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ " فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَالِ الْجِزْيَةِ، لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ يُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، وَلَا تُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الزَّكَاةُ.
وَأَمَّا نَقْلُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَفِي سَوَادِهَا فَنَقَلَ زَكَاتَهُمْ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَقَلَهَا وَمُسْتَحِقُّوهَا بِالْمَدِينَةِ لِيَتَوَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسْمَهَا فِيهِمْ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ أَظْهَرَ الطَّاعَةَ بِنَقْلِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ مَنَعَ النَّاسُ الزَّكَاةَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَدَّهَا إِلَيْهِ لِيُفَرِّقَهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ فِي الْجَوَازِ مَا جَعَلُوهُ فَرْقًا بَيْنَهُمَا فِي الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا نَقْلَ الزَّكَاةِ وَلَمْ يَكْرَهُوا نَقْلَ الْكَفَّارَةِ.
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْكَرَاهَةِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لا ينتفع أهل البلد بإقامتها فيهم، وينتفعوا أَهْلُ الْبَلَدِ بِتَفْرِيقِ الزَّكَاةِ فِيهِمْ فَجَازَ أَنْ يكون لهم في فريق الزَّكَاةِ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ حَقٌّ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ اخْتِصَاصُ الزَّكَاةِ بِمَكَانِهَا وَوُجُوبُ تَفْرِيقِهَا فِي نَاحِيَتِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ زَكَاةَ مَالٍ أَوْ زَكَاةَ فِطْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ فَالْمُرَاعَى فِيهَا مَكَانُ الْمَالِ لَا مَكَانُ الْمَالِكِ فَلَوْ كَانَ فِي نَاحِيَةٍ وَمَالُهُ فِي أُخْرَى كَانَ نَاحِيَةُ الْمَالِ وَمَكَانُهُ أَحَقَّ بِتَفْرِيقِ زَكَاتِهِ فِيهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْمَالِكِ ثُمَّ فِي نَاحِيَةِ الْمَالِ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ بِتَفْرِيقِ زَكَاتِهِ فِيهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا مِنَ الْمَالِ لِمَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهَا مَسَافَةُ الْإِقَامَةِ الَّتِي لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ فَكَانَتْ حَدًّا لِمُسْتَحَقِّ الزَّكَاةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، وَمَا أَحَاطَ بِهِ بِبِنَائِهِ دُونَ مَا خَرَجَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ زَرْعٍ وَثَمَرٍ فِي صَحْرَاءَ لَا بُنْيَانَ فِيهَا فَفِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ وَالْبُنْيَانِ إِلَيْهَا، وَسَوَاءً كَانَ الْبَلَدُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا يَكُونُ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ مُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ نَاضٍّ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ صَغِيرًا فَجَمِيعُ أَهْلِهِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا كالبصرة وبغداد كان جبران الْمَالِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَخَصَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى أَوْ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ أَوْلَى بِهِمَا لِأَجْلِ الْجِوَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَحَقَّ فَإِنْ فُرِّقَتْ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَجْزَأَ وَإِنْ عُدِلَ عَنِ الْأَوْلَى.

(8/483)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ أَحَقُّ بِهَا وَإِنْ فُرِّقَتْ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَمْ يُجْزِهِ إذا قيل إن نقل الزكاة، ولا يُجْزِئُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الجنب} [النساء: 36] يعني الجار ذِي الْقُرْبَى الْجَارَ الْقَرِيبَ فِي نَسَبِهِ، وَبِالْجَارِ الْجُنُبِ الْبَعِيدَ فِي نَسَبِهِ، فَاعْتُبِرَ فِي الْقَرِيبِ والبعيد الجوار ثم قال " والصاحب بالجنب " وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ الرَّفِيقُ فِي السفر [وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة] .
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الَّذِي يَلْزَمُكَ وَيَصْحَبُكَ رَجَاءَ نَفْعِكَ [وهو قول ابن زيد] .
وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا الزَّوْجَةُ الَّتِي تَكُونُ إِلَى جَنْبِكَ [وهو قول ابن مسعود] .
هَذَا إِذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُفَرِّقَ لِزَكَاتِهِ فَأَمَّا إِنْ فَرَّقَهَا الْإِمَامُ أَوْ عَامِلُهُ فَجَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ فِيهَا سَوَاءٌ، لِمَا فِي مُرَاعَاةِ الْإِمَامِ لِذَلِكَ مَعَ اجْتِمَاعِ الزَّكَوَاتِ بِيَدِهِ فِي الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ، فَإِنْ كَانَ مَالُ الْمُزَكِّي فِي بَلَدٍ أَخْرَجَهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْمَالِ لَا بَلَدُ الْمُزَكِّي لِتَعَلُّقِ وُجُوبِهَا بِالْمَالِ فَكَانَ بَلَدُ الْمَالِ أَحَقَّ أَنْ يُرَاعَى كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْمُزَكِّي لِأَنَّهَا عَنْهُ لَا عَنْ مَالِهِ فَكَانَ بَلَدُهُ أَنْ يُرَاعَى إِخْرَاجُهَا فِيهِ أَوْلَى مِنْ بَلَدِ مَالِهِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَتُرَدُّ حِصَّةُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا كَانُوا هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى عَامِلِ الْإِمَامِ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَرَّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِفَقْدِ عَمَلِهِمْ فِيهَا، وَوَجَبَ قَسْمُهَا عَلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ لَا يُفَضِّلُ صِنْفًا عَلَى سَهْمِهِ، وَإِنْ كَانُوا أَمَسَّ حَاجَةً وَلَا يَنْقُصُ صِنْفًا عَنْ سَهْمِهِ وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ حَاجَةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ وَقَطَعَ الِاجْتِهَادَ فِيهَا بِتَفْضِيلٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ فَضَّلَ صِنْفًا عَلَى غَيْرِهِ كَانَ التَّفْضِيلُ مُتَطَوَّعًا وَضُمِنَ لِلْمَفْضُولِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنَ الْفَضْلِ كَمَا لَوْ أَسْقَطَ جَمِيعَ سَهْمِهِ صَارَ لِجَمِيعِهِ ضَامِنًا.
فَأَمَّا سَهْمُ كُلِّ صِنْفٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَفْرِيقِهِ فِي جَمِيعِ الصِّنْفِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ فَرَّقَهُ فِي بَعْضِ الصِّنْفِ أَجْزَأَهُ إِذَا فَرَّقَهُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ فَصَاعِدًا، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ بَيْنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْحَاجَةِ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَاضَلَ أَجَزَأَ وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْحَاجَةِ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي العطية، وإن

(8/484)


كَانَ لَوْ سَوَّى أَجْزَأَهُ فَلَوْ فَرَّقَ سَهْمَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَدَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ الثَّالِثِ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِهِ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ، وَفِي قَدْرِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ ثُلُثَ ذَلِكَ السَّهْمِ اعْتِبَارًا بِالتَّسَاوِي فِيهِ.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُ قَدْرَ الْإِجْزَاءِ وَهُوَ الْقَلِيلُ الَّذِي لَوْ أَعْطَاهُ ثَالِثًا أَجْزَأَهُ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا بِقَبْضِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي فَرْضِهَا فَصَارَتْ يَدُهُ كَأَيْدِيهِمْ ثُمَّ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا قَدْ سَقَطَ مِنْهَا لِفَقْدِ عَمَلِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهُ لِأَنَّ نَظَرَهُ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّدَقَاتِ وَإِنْ تَوَلَّاهَا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهَا سَهْمًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَامُّ النَّظَرِ وَرِزْقُهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ وَيُفَرِّقَهَا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ ثُمَّ يُفَاضِلُ بَيْنَ كُلِّ صِنْفٍ أَوْ يُسَاوِي، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ كُلَّ صَدَقَةٍ إِلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ فَيُرَاعِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِصِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ فَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ ضَمِنَ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ لَا فِي مَالِ نَفْسِهِ قَدْرَ سَهْمِهِمْ من تلك الصدقات وخالف في ذلك رب المال الذي لا يضمنه في مال نفسه.
فَصْلٌ:
وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْعَامِلِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ سَهْمُ الْعَامِلِ فِيهَا ثَابِتًا فَإِنْ فَوَّضَ الْإِمَامُ إِلَيْهِ جِبَايَتَهَا وَتَفْرِيقَهَا أَخَذَ سَهْمَ الْجِبَايَةِ وَالتَّفْرِيقِ وَفَعَلَ فِيهَا مِثْلَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ إِلَّا أَنَّ خِيَارَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ وَيَصْرِفَهَا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بِكُلِّ صَدَقَةٍ صِنْفًا كَالْإِمَامِ لِأَنَّ نَظَرَ الْعَامِلِ خَاصٌّ لَا يَسْتَقِرُّ إل اعلى ما جباه وربما صرف فلم يقضي بَاقِيَ الْأَصْنَافِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ الْإِمَامُ بِالْعَامِلِ عَلَى جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ دُونَ تَفْرِيقِهَا أَخَذَ الْعَامِلُ مِنْهَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنَ الْجِبَايَةِ دُونَ التَّفْرِقَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يُفَرِّقَهَا، فَإِنْ فَرَّقَهَا ضَمِنَ مَا فَرَّقَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَكَانَ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَوَلَّى تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ فَيُسْقِطُ مِنْهَا سَهْمَ التَّفْرِقَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يُوَلِّيَ مِنْ عُمَّالِ الصَّدَقَاتِ مَنْ يُفَرِّقُهَا فَيَأْخُذُ مِنْهَا سَهْمَ التَّفْرِقَةَ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا عَدِمَ بَعْضَ الْأَصْنَافِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْدُمُوا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ فَيُسْقِطُ سَهْمَهُمْ بِعَدَمِهِمْ وَيُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ عَلَى مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْبَاقُونَ مِنَ الْأَصْنَافِ خَمْسَةً قُسِّمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَإِنْ بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ قُسِّمَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ صِنْفٍ سَهْمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ وَصَّى بثلثه لثلاثة فقد أحدهما لَمْ يَرُدَّ سَهْمَهُ عَلَى مَنْ وَجَدَ فَهَلَّا كَانَتْ سِهَامُ الْأَصْنَافِ هَكَذَا، قِيلَ: لِأَنْ لَيْسَ للصدقات غَيْرَ الْأَصْنَافِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَدَّ سَهْمُ الْمَفْقُودِ عَلَيْهِمْ وَالضَّرْبُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِمَالِ الْمَيِّتِ مَصْرِفٌ غَيْرُ أَهْلِ الْوَصَايَا فَلَمْ يُرَدَّ سَهْمُ المفقود عليهم.

(8/485)


وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدُمُوا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَيُوجَدُوا فِي غَيْرِ الْبِلَادِ، فَيَنْقَسِمُ حَالُ مَنْ عُدِمَ مِنْهُمْ فِي بَلَدِ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ، وَقِسْمٌ لَا يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِ سَهْمِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي يُوجَدُونَ فِيهَا فَهُمُ الْغُزَاةُ يُنْقَلُ سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ الْمَصْرُوفُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ الَّذِي فُقِدُوا فِيهِ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي يُوجَدُونَ فِيهَا مِنَ الثُّغُورِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي الثُّغُورِ وَيَقِلُّونَ فِي غَيْرِهَا فَلَمْ يَكْتَفُوا بِسَهْمِهِمْ مِنْ صَدَقَاتِ بِلَادِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ فَهُمُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا قَعَدُوا قَامَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ مَقَامَهُمْ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ سَهْمَهُمْ يَسْقُطُ مَعَ الْحُضُورِ إِذَا لَمْ يَعْمَلُوا فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا قَعَدُوا، وَأَمَّا مَنِ اخْتَلَفَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي نَقْلِ سَهْمِهِمْ فَهُمْ بَاقِي الْأَصْنَافِ، وَفِيهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُنْقَلُ اعْتِبَارًا بِتَغْلِيبِ الْمَكَانِ عَلَى الصِّنْفِ وَيُقَسَّمُ عَلَى مَنْ وُجِدَ دُونَ مَنْ فُقِدَ كَمَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ الْمَاءِ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِمَكَانِ عَدَمِهِ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ ابْنِ السَّبِيلِ بِمَكَانِ حَاجَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُنْقَلُ اعْتِبَارًا بِتَغْلِيبِ الصِّنْفِ عَلَى الْمَكَانِ فَيُنْقَلُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا مَنْ فُقِدَ مِنَ الْأَصْنَافِ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَافِ لَهَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَاخْتِصَاصَ الْمَكَانِ بِهَا ثَابِتٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِذَا تَعَارَضَ كَانَ تَغْلِيبُ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ مَا ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَيُجْمِعُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَاجَةٍ إِلَى مَالِهِمْ مِنْهَا وَأَسْبَابُ حَاجَتِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ وَكَذَلِكَ أَسْبَابُ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَالُ الصَّدَقَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ إِلَّا أَنَّهَا ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ والمكاتبون وأحد صنفي الغارمين الذي أُذِنُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ وَبَنُو السَّبِيلِ.
وَالضَّرْبُ الثاني: من تدفع إليه لحاجتنا إليه وهو الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَأَحَدُ صِنْفَيِ الْغَارِمِينَ وَهُمُ الَّذِينَ أُذِنُوا فِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْغُزَاةِ، فَمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ وَلَمْ يُجْزِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى.
وَمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ ثُمَّ يَنْقَسِمُ جَمِيعُهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُسْتَحْدَثٍ، فَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ أَخَذُوا وَبِهِ اسْتَحَقُّوا هُوَ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ وَالْعَمَلُ، وَذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْأَخْذِ فَإِذَا قَبَضُوهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَرْجَعَ مِنْهُمْ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ.

(8/486)


وَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُسْتَحْدَثٍ فَهُمْ صِنْفَانِ: بَنُو السَّبِيلِ، وَالْغُزَاةُ، فَيَأْخُذُ ابْنُ السَّبِيلِ لِيَبْتَدِئَ سَفَرَهُ، وَيَأْخُذُ الْغَازِي لِيَبْتَدِئَ جِهَادَهُ، فَإِذَا أَخَذُوا سَهْمَهُمْ مِنْهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُسَافِرَ ابْنُ السَّبِيلِ وَيُجَاهِدَ الْغَازِي فَيَسْتَقِرُّ حِينَئِذٍ مِلْكُهُمْ عَلَى مَا أَخَذُوا، فَإِنْ لَمْ يُسَافِرِ ابْنُ السَّبِيلِ وَلَمْ يُجَاهِدِ الْغَازِي اسْتَرْجَعَ مِنْهُمَا مَا أَخَذَاهُ لِفَقْدِ السَّبَبِ الَّذِي يُعْتَبَرُ بِهِ الْأَخْذُ وَالِاسْتِحْقَاقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ وَاسْتِحْقَاقٍ مُسْتَحْدَثٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ لِتَغَيُّرِ نِيَّاتِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَسْتَحِقُّونَهَا بِجِنْسِ نِيَّاتِهِمُ الْمُسْتَحْدَثَةِ وَالْمُكَاتَبُونَ يَأْخُذُونَهَا لِلْبَاقِي عليهم من أموال كتابتهم ويستحقونها بما يَسْتَحْدِثُونَ مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَزَوَالِ غُرْمِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ إِنْ حَدَثَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَخْذِهَا مَا بِهِ يَسْتَقِرُّ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ حُسْنِ نِيَّاتِ الْمُؤَلَّفَةِ وَعِتْقِ الْمُكَاتَبِينَ بِالْأَدَاءِ وَقَضَاءِ دُيُونِ الْغَارِمِينَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاسْتِقْرَارِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحَادِثُ بَعْدَ الْأَخْذِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَلَمْ يَحْسُنْ بِهِ نِيَّاتُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْمُكَاتَبُونَ ذَلِكَ فِي عِتْقِهِمْ وَلَا قَضَاهُ الْغَارِمُونَ فِي دُيُونِهِمْ فَهَذَا يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْأَخْذِ بَاقِيًا وَهُوَ بَقَاءُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِينَ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ عَلَى الْغَارِمِينَ لَمْ يُسْتَرْجَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ دَفْعُهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرْجَعَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ لِأَنَّ ضَعْفَ نِيَّاتِهِمُ الَّتِي قصدوا له بتآلفهم باق ويقتضي اسْتِئْنَافَ الْعَطَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَارَضَ بِالِاسْتِرْجَاعِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْأَخْذِ قَدْ زَالَ مَعَ بَقَاءِ الصَّدَقَةِ بِأَيْدِيهِمْ كَعِتْقِ الْمُكَاتَبِ تَبَرُّعًا أَوْ بِأَدَاءِ مَنْ كَسَبَ وَزَالَ الْغُرْمُ بِإِبْرَاءٍ أَوْ بِقَضَاءٍ مِنْ كَسْبٍ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ سبب الاستحقاق لم يوجد.

مسألة:
قال الشافعي: " فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَالْفُقَرَاءُ الزَّمْنَى الضِّعَافُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ وَأَهْلُ الْحِرْفَةِ الضَّعِيفَةِ الَّذِينَ لَا تَقَعُ فِي حِرْفَتِهِمْ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِمْ وَلَا يسألون الناس (وقال) وفي الجديد زمنا كان أولى أو غير زمن سائلا أو متعففا (قال الشافعي) والمساكين السؤال ومن لا يسأل ممن له حرفة لا تقع منه موقعا ولا تغنيه ولا عياله وقال في الجديد سائلا كان أو غير سائل (قال المزني) أشبه بقوله ما قاله في الجديد لأنه قال لأن أهل هذين السهمين يستحقونهما بمعنى العدم وقد يكون السائل بين من يقل معطيهم وصالح متعفف بين من يبدونه بعطيتهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ وَالْمَسْكَنَةَ اسْمَانِ يَشْتَرِكَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ فَهُوَ الضَّعْفُ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ شَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ حَتَّى لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ شَارَكَهُمُ الْمَسَاكِينُ وَلَوْ وَصَّى بِهِ لِلْمَسَاكِينِ شَارَكَهُمُ الْفُقَرَاءُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَفْتَرِقَانِ فِيهِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَمَيَّزَا ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَمَيُّزِهِمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ هَلْ يَكُونُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَاجَةِ أَوْ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ فَذَهَبَتْ

(8/487)


طَائِفَةٌ إِلَى تَمَيُّزِهَا بِالِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَةِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي الصِّفَةِ الَّتِي بِهَا وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ عَنِ السُّؤَالِ وَالْمِسْكِينَ هُوَ الْمُحْتَاجُ السَّائِلُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْفَقِيرَ هُوَ ذُو الزَّمَانَةِ وَالْمِسْكِينَ هُوَ الصَّحِيحُ الْجِسْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْفُقَرَاءَ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْمَسَاكِينَ غَيْرُ الْمُهَاجِرِينَ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّ الْفُقَرَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَمْيِيزَهُمَا بِالِاخْتِلَافِ فِي الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الصِّفَةِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْآخَرِ، فَبِذَلِكَ تَمَيَّزَ عَنْهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَسْوَأُ حَالًا الْفَقِيرُ أَوِ الْمِسْكِينُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ أَسْوَأُهُمَا حَالًا وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ أَوْ لَهُ يَسِيرٌ تَافِهٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ حَاجَتِهِ.
وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يُؤَثِّرُ فِي حَاجَتِهِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى كِفَايَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ كِفَايَةُ الْوَاحِدِ عَشَرَةً فَإِنْ وَجَدَهَا فَلَيْسَ بِمِسْكِينٍ وَلَا فَقِيرٍ، وَإِنْ عَدِمَهَا أَوْ وَجَدَ أَقَلَّهَا كَانَ فَقِيرًا، وَإِنْ وَجَدَ أَكْثَرَهَا كَانَ مِسْكِينًا وَهَذَا فِي أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ وَقَالَ أبو حنيفة الْمِسْكِينُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ فَالْمِسْكِينُ عِنْدَهُ عَلَى صِفَةِ الْفَقِيرِ عِنْدَنَا، وَالْفَقِيرُ عِنْدَهُ عَلَى صِفَةِ الْمِسْكِينِ عِنْدَنَا، وَهُوَ فِي أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي ملصق بِالتُّرَابِ لِضُرِّهِ وَعُرْيِهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة: 177] وَالسَّائِلُ أَحْسَنُ حَالًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِمَصْرِفِ أَمْوَالِ الطُّهْرَةِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنَ الْقُرَبِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى الْمَسَاكِينِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، فَدَلَّ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بسوء الحال.
قَالُوا: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ يُونُسَ قَالَ: قُلْتُ لِأَعْرَابِيٍّ أَمِسْكِينٌ أَنْتَ، فَقَالَ: لَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ فَقِيرٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ عَلَى أَحْسَنِ الْحَالَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُ:
(أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فلم يترك له سيد)

فَسَمَّاهُ فَقِيرًا وَلَهُ حَلُوبَةٌ هِيَ وَفْقَ عِيَالِهِ.

(8/488)


وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] فَبَدَأَ بِذَوِي الْحَاجَاتِ بِالْفُقَرَاءِ وَالْبِدَايَةُ تَكُونُ بِالْأَهَمِّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ أَسْوَأَ حَالًا، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 51] وَلَمْ يَقُلِ الْمَسَاكِينُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَمَسُّ حَاجَةً وَأَسْوَأُ حَالًا من المسكين، وقال تعالى: {وأما السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ وَلَهُمْ سَفِينَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المسكين أحسن حالا.
وروى أبو زهرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين المتعفف أقراءوا إن شئتم " لا يسألون الناس إلحافا " فَكَانَ هَذَا نَصًّا فِي أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا.
وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا على أن الفقير أسوأ حالا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْفَقْرِ اللَّازِبِ يَعْنِي اللَّازِمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ؛ لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ: الْمُحَارِفُ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِقَاقِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمَسْكَنَةِ.
أَمَّا الْفَقْرُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ انْكِسَارِ الْفَقَارِ، وَهُوَ الظَّهْرُ الَّذِي لَا تبقى مَعَهُ قُدْرَةٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَاقَةِ، وَمِنْ قَوْله تَعَالَى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:

(8/489)


أحدها: أنها [الفاقرة] الدَّاهِيَةُ الْعُظْمَى، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا الْهَلَاكُ الْمُسْتَأْصِلُ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الشَّرُّ الْمُحَلَّى، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَعَلَى أَيِّ التَّأْوِيلَاتِ كَانَ فَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي سُوءِ الْحَالِ.
وَأَمَّا الْمَسْكَنَةُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْتَمَسْكُنِ وَهُوَ الْخُضُوعُ، وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ، لِأَنَّ الْمِسْكِينَ مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا، وَلِأَنَّ شَوَاهِدَ أَشْعَارِ الْعَرَبِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لِبَعْضِ الْعَرَبِ.
(هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهْ ... تُغِيثُ مِسْكِينًا قَلِيلًا عَسْكَرُهْ)

(عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ ... قَدْ حَدَّثَ النَّفْسَ بِمِصْرٍ يَحْضُرُهْ)

فَسَمَّاهُ مِسْكِينًا وَلَهُ عَشْرُ شِيَاهٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمِسْكِينِ مَالًا وَأَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِسْكِينِ هَا هُنَا الْفَقِيرُ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ ذِكْرَهُ، وَلَكِنْ قَيَّدَهُ بِصِفَاتِ الْفُقَرَاءِ، وَقَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمِسْكِينِ عَلَى الْفَقِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْمِسْكِينِ الَّذِي قَدْ أُطْلِقَتْ صِفَتُهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فَهُوَ أَنَّ السَّائِلَ لَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُتَعَفِّفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ فَيُحْرَمُ وَيَتَعَفَّفُ فَيُعْطَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: لَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَا فَقِيرٌ، فَهُوَ إِذًا أَبَانَ بِذَلِكَ مَنْزِلَتَهُ فِي الشُّكْرِ مَعَ شِدَّةِ الضُّرِّ.
وَأَمَّا الشِّعْرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَخْذِ الْحَلُوبَةِ سَمَّاهُ فَقِيرًا حِينَ لَمْ يترك له سيد، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ فَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ سَائِلًا وَغَيْرَ سَائِلٍ وَقَدْ يَكُونُ الْمِسْكِينُ سَائِلًا وَغَيْرَ سَائِلٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ مِنَ التَّسْوِيَةِ فَظَنَّ الْمُزَنِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَجَعَلَ الْجَدِيدَ أَوْلَى وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ والله أعلم.

مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ جَلْدٌ يَعْلَمُ الْوَالِي أَنَّهُ صَحِيحٌ مُكْتَسِبٌ يُغْنِي عِيَالَهُ أَوْ لَا عِيَالَ لَهُ يُغْنِي نَفْسَهُ بِكَسْبِهِ لَمْ يُعْطِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمُكْتَسِبُ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ لَا يَكُونُ فَقِيرًا وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا حَتَّى يَمْلِكَ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا فَجَعَلَ الْفَقْرَ مُعْتَبَرًا بِعَدَمِ النِّصَابِ وَإِنْ

(8/490)


كَانَ قَادِرًا عَلَى كِفَايَتِهِ بِنَفْسِهِ وَجَوَّزَ لَهُ أَخْذَ الزَّكَاةَ، وَجَعَلَ الْغَنَاءَ مُعْتَبَرًا بِمِلْكِ النِّصَابِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَحَظَرَ عَلَيْهِ أَخْذَ الزَّكَاةَ اسْتِدْلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَالْفَقِيرُ هُوَ الْعَادِمُ، وَهَذَا عَادِمٌ وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَمَيَّزَ الْأَغْنِيَاءَ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ وَمَيَّزَ الْفُقَرَاءَ بِدَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ غَنِيًّا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ، وَمَنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَقِيرًا، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ " وَقَالَ: " أَعْطُوا السائل ولو جاء على فرس " وقد سئل الْمُكْتَسِبُ فَوَجَبَ أَنْ يُعْطَى؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا وَلَا قِيمَتَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنَ الْمُكْتَسِبُ غَنِيًّا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّتِ الزَّكَاةُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ حَلَّتْ لَهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسألاه من الصَّدَقَاتُ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهِمَا وَصَوَّبَ وَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ " فَجَعَلَ الْكَسْبَ كَالْغِنَى بِالْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ.
وَرَوَى سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُدْرَةٍ " فَحَرَّمَ الصَّدَقَةَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ كَمَا حَرَّمَهَا بِالْغِنَى؛ وَلِأَنَّهُ مُسْتَدِيمُ الْقُدْرَةِ عَلَى كِفَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ كَالْقَادِرِ عَلَى نِصَابٍ أَوْ كَالْمُشْتَغِلِ لِوَقْفٍ؛ وَلِأَنَّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ كَالْغَنِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاكْتِسَابُ كَالْغِنَى فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهِ عَنْ وَالِدِيهِ وَمَوْلُودِيهِ وَوُجُوبِهَا عَلَيْهِ لِوَالِدِيهِ وَمَوْلُودِيهِ كَانَ كَالْغِنَى فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْفَقْرَ لَيْسَ الْعَدَمَ وَإِنَّمَا هُوَ الْحَاجَةُ، وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ محتاج وأما الجواب عن قوله: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَهُوَ مَالِكُ مَا لَا يُزَكَّى فَكَذَلِكَ الْمُكْتَسِبُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ فَتُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهُوَ مَالِكُ مَا يُزَكَّى إِذَا كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ " فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْفَقْرَ قَبِلْنَا مِنْهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ في الناس العدم.

(8/491)


وأما قوله: " أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ "، فَهُوَ دَلِيلُنَا لِأَنَّ أبا حنيفة يَمْنَعُهُ إِذَا كَانَ ثَمَنُ فَرَسِهِ نِصَابًا وَنَحْنُ نُعْطِيهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ الْحَاجَةُ وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لما لم يكن الاكتساب كَالْمَالِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ كَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ " فَهُوَ فَاسِدٌ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ الَّتِي يُجْعَلُ الِاكْتِسَابُ فِيهَا كَالْمَالِ، ثُمَّ وُجُوبُ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ يَتَعَلَّقَانِ بِوُجُودِ الْمَالِ وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ وَاجِدٍ، وَتَحْرِيمُ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِالْكِفَايَةِ وَالْمُكْتَسِبُ مكتف وبالله التوفيق.

مسألة:
قال الشافعي: " فَإِنْ قَالَ الْجَلْدُ لَسْتُ مُكْتَسِبًا لِمَا يُغْنِينِي وَلَا يُغْنِي عِيَالِي وَلَهُ عِيَالٌ وَلَيْسَ عِنْدَ الوالي يقين ما قال فالقول قوله: واحتج بأن رَجُلَيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسألاه من الصدقة فقال " إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لذي قوة مكتسب " (قال الشافعي) رأى عليه الصلاة والسلام صحة وجلدا يشبه الاكتساب فأعلمهما أنه لا يصلح لهما مع الاكتساب ولم يعلم أمكتسبان أم لا فقال " إن شئتما " بعد أن أعلمتكما أن لا حظ فيها لغني ولا لمكتسب فعلت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا تَقَرَّرَ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ بِمَا ذَكَرْنَا فَخُصَّ رَجُلٌ ادَّعَى فَقْرًا مَسْكَنَةً فَلِلْوَالِي عَلَى الصَّدَقَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَهُ فَقِيرًا فَيَدْفَعُ إِلَيْهِ لِعِلْمِهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَلَا يُكَلِّفُهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينًا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَهُ غَنِيًّا فَلَا يَدْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ شَيْئًا فَإِنِ ادَّعَى تَلَفَ مَالِهِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ أَقَامَهَا عَلَى تَلَفِ مَالِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ غَنِيًّا سَمِعَهَا مِنْ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَسَوَاءً كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ أَمْ لَا، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى فَقْرِهِ لَمْ يَسْمَعْهَا إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتُرُ الْغِنَى وَيَتَظَاهَرُ بِالْفَقْرِ فَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْعِلْمِ بِغِنَاهُ إِلَّا مِمَّنْ يَعْرِفُ بَاطِنَ أَمْرِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ " إِنَّ الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ذَكَرَ فِيهَا أَوْ رجل أصابته جائحة " الخبر إِلَى أَنْ قَالَ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ إِنْ تَدَخَّلَتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الثَّلَاثَةِ هَلْ يَكُونُونَ شَرْطًا فِي بَيِّنَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ تَغْلِيظًا، وَأَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلَيْنِ مُجْزِئَةٌ.
والثاني: أن الثلاثة هاهنا شَرْطٌ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ شَهَادَةً أَوْ خَبَرًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا شَهَادَةٌ غُلِّظَتْ يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الشُّهُودِ فِي الْحُقُوقِ لِنَقْلِهَا خلاف المعلوم.

(8/492)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ خَبَرٌ لَزِمَ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ فَمُيِّزَ بِعَدَدٍ وَرُوعِيَ فِيهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِينَ لَا عَدَالَةُ الشُّهُودِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْهَلَ الْوَالِي أَمْرَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ غَنِيًّا وَلَا فَقِيرًا فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّائِلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ مُوَافِقًا لِمَسْأَلَتِهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهَا، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُوَافِقًا لِمَسْأَلَتِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ سِمَاتِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَدَلَائِلِ الضُّرِّ فِي ضَعْفِ بَدَنِهِ وَرَثَاثَةِ هَيْئَتِهِ فَهَذَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ تَعْوِيلًا عَلَى شَاهِدِ حَالِهِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ يُوعَظُ بِهِ وَلَا يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُخَالِفًا لِمَسْأَلَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الْبَدَنِ حَسَنَ الْهَيْئَةِ فَيَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَى طَرِيقِ الْوَعْظِ وَالْإِخْبَارِ بِحَالِ مَنْ يَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَّذَيْنِ سَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهِمَا، وَصَوَّبَ ثُمَّ قَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ " فَإِذَا قَالَ لَهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَأَقَامَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّهُ يستحق الصدقة أعطاه منها؛ لأنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ: " إِنْ شِئْتُمَا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهُمَا، وَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى فَقْرِهِ قَبْلَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْفَقْرُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا عَرَضَ الْيَمِينَ عَلَى الرَّجُلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُحَلِّفُهُ عَلَى فَقْرِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، فَأَمَّا إِنِ ادَّعَى عِيَالًا فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الْعِيَالِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِمْ، لِأَنَّهَا دَعْوَى تُخَالِفُ الظَّاهِرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمْ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهِ وَإِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ لَكِنْ لَا تُقْبَلُ إِلَّا يَمِينٌ يَحْلِفُ بِهَا وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَزِيدُ بِهَا عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا مَنْ وَلَّاهُ الْوَالِي قَبْضَهَا وَمَنْ لَا غِنَى لِلْوَالِي عَنْ مَعُونَتِهِ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ وَوَالِي الْإِقْلِيمِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَلِي قَبْضَ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَا مِنَ الْقَائِمِينَ بِالْأَمْرِ بأخذها فليسا عندنا ممن له فيها حق لأنهما لا يليان أخذها وشرب عمر رضي الله عنه لبنا فأعجبه فأخبر أنه من نعم الصدقة فأدخل أصبعه فاستقاءه (وقال) ويعطى العامل بقدر غنائه من الصدقة وإن كان موسرا لأنه يأخذه على معنى الإجارة ".
قال الماوردي: وقد ذَكَرْنَا أَنَّ سَهْمَ الْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ ثَابِتٌ إِذَا تَوَلَّوْا قَبْضَهَا وَتَفْرِيقَهَا، وَسَاقِطٌ مِنْهَا إِذَا تَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ فَإِنْ قَالَ رَبُّ المال المتولي للتفريق زَكَاتِهِ أَنَا آَخُذُ سَهْمَ الْعَامِلِينَ لِنَفْسِي لِلْقِيَامِ بِالْعَمَلِ فِي التَّفْرِقَةِ مَقَامَ الْعَامِلِينَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْعَامِلَ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ قَبْضَهَا وَتَفْرِيقَهَا نِيَابَةً عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَرَبُّ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ نَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا

(8/493)


يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ رَبِّ الْمَالِ إذا دفع زكاته مَالِهِ إِلَى الْوَالِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْأَمْرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَالِي الْإِقْلِيمِ النَّاظِرِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْعَامِلِ الَّذِي وَلَّاهُ الْإِمَامُ قَبْضَهَا وَجَعَلَ نَظَرَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْإِمَامُ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ قَدْ أَخَذَ رِزْقَهُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَمْ يُجْمَعْ لَهُ بَيْنَ رِزْقَيْنِ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ، وَلِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا فَقَالَ مَرَرْتُ بِلِقَاحِ الصَّدَقَةِ فَأَعْطَوْنِيهِ فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي فَاسْتَقَاءَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَالُ الصَّدَقَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَبْقِهِ فِي جَوْفِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَأْثِيرُ اسْتِقَائِهِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ وَمَنْ أَكَلَ حَرَامًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَسْتَقِيئَهُ.
قِيلَ فِي اسْتِقَائِهِ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ تَحْرِيمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْإِمَامِ.
والثاني: أن من أخذ مالا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَغْصُوبٍ وَغَيْرِهِ فَتَغَيَّرَ فِي يَدِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِخِلَافِ مَا قَالَ أبو حنيفة.
وَالثَّالِثُ: لِئَلَّا يَسْتَدِيمَ الِاغْتِذَاءُ وَالِانْتِفَاعُ بِحَرَامٍ، وَهَكَذَا لَوْ تَوَلَّى قَبْضَ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقَهَا وَالِي الْإِقْلِيمِ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ؛ لِأَنَّهُمْ فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ الَّذِي قَدِ ارْتَزَقَ عَلَى عَمَلِهِ فِيهِ جَارٍ مَجْرَى الْإِمَامِ.
فَأَمَّا إِذَا اخْتَصَّ لِعَامِلٍ بِقَبْضِ الزَّكَاةِ تَفْرِيقَهَا ثَبَتَ فِيهَا حِينَئِذٍ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى الْعَامِلِ وَأَعْوَانِهِ فِيهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُوصَفَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يكون عاملا فيها بها في القبض وَالتَّفْرِقَةِ وَهُوَ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ سِتُّ خِصَالٍ:
أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ لِأَنَّ الصِّغَرَ لَا يَصِحُّ مَعَهُ قَبْضٌ وَلَا تَقْبِيضٌ.
وَالثَّانِيَةُ: الْعَقْلُ الَّذِي يَصِحُّ التَّمْيِيزُ بِهِ.
وَالثَّالِثَةُ: الْحُرِّيَّةُ.
وَالرَّابِعَةُ: الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: آية 1] وَقَدِمَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى عُمَرَ بِحِسَابٍ اسْتَحْسَبَهُ عُمَرُ فَقَالَ مَنْ عَمِلَ هذا فقال كاتبي فقال: أين هو؟ هُوَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ: أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ ذِمِّيٌّ فَأَمَرَهُ بِعَزْلِهِ وَقَالَ: لَا تَأْمَنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا تقربوهم إذ بعدهم الله.

(8/494)


وَالْخَامِسُ: الْأَمَانَةُ لِأَنَّهَا بَيَانُهُ لِيُقْصَدَ بِهَا حِفْظُ الْمَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَنِيبِ فَأَشْبَهَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ الذي إن خفيت خِيَانَتُهُ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ.
وَالسَّادِسَةُ: الْفِقْهُ بِأَحْكَامِ الزَّكَوَاتِ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا تَجِبُ وَفِي مَقَادِيرِهَا وَقَدْرِ الْحَقِّ فِيهَا وَأَوْصَافِ مُسْتَحِقِّيهَا وَمَبْلَغِ اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنْهَا لِئَلَّا يَكُونَ جَاهِلًا بِمَا هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِهِ، فَلَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ كَالْحَاكِمِ إِذَا كَانَ جَاهِلًا وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ جَامِعَةٌ فَاحْتَاجَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَوِلَايَةُ عَامِلِ الصَّدَقَاتِ مَخْصُوصَةٌ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ عالما يعني بأحكامها، فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ السِّتَّةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عَلَيْهَا وَسَوَاءً كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَإِنْ كَرِهْنَا تَقْلِيدَ النِّسَاءِ لِذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِنَّ مِنْ لُزُومِ الْخَفَرِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَلِيَ أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ جَازَ أَنْ تَلِيَ أَمْوَالَ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا أَعْوَانُ الْعَامِلِ مِنْ كُتَّابِهِ وَحُسَّابِهِ وَجُبَاتِهِ وَمُسْتَوْفِيهِ فَأُجُورُهُمْ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ لِعَمَلِهِمْ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَالْفِقْهِ فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ خَدَمٌ فِيهَا مَأْمُورُونَ وَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْبُلُوغِ وَالْفَضْلِ وَالْإِسْلَامِ وَالْأَمَانَةِ.
وَأَمَّا الرُّعَاةُ وَالْحَفَظَةُ لَهَا بَعْدَ قَبْضِهَا فَفِي أُجُورِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي: مِنْ أَصْلِ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا أُجْرَةُ الْحَمَّالِينَ والنَّقَّالِينَ فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: كَالرُّعَاةِ، وَالْحَفَظَةِ وَإِنْ كَانَتْ لِحَمْلِهَا لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَأُجُورُهُمْ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَأَمَّا أُجُورُ الْكَيَّالِينَ وَالْوَزَّانِينَ وَالْعَدَّادِينَ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ وَالتَّمْكِينِ فَأَشْبَهَ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ فِي الْمَبِيعِ يَخْتَصُّ بِهَا الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا فِي سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ مَكِيلٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، وَهَذَا مَكِيلٌ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَصَارَ مَا يَلْزَمُ مِنْ أُجُورِ الْعَمَلِ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ فِي سَهْمِ الْعَامِلِينَ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَهُوَ الْعَامِلُ وَأَعْوَانُهُ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ غَيْرِ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَهُوَ أُجُورُ الْحَمَّالِينَ وَالنَّقَّالِينَ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ.
وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَمِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ أصحابنا فيه وهو أجرة الرعاة والحفظة فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ.

(8/495)


وَالثَّانِي: مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَالْإِمَامُ فِيمَنْ قَلَّدَهُ مِنْ عُمَّالِهِ الصَّدَقَةَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَعْقِدَ مَعَهُ إِجَارَةً عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ فِي زَمَانٍ مَعْلُومٍ بأجرة معلومة فيكون العقد لازما له وَلَهُ الْأُجْرَةُ إِذَا عَمِلَ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَهَا جُعَالَةً فَيَقُولُ: إِنْ عَمِلْتَ كَذَا فَلَكَ كَذَا، فَتَكُونُ هَذِهِ جُعَالَةً لَا تَلْزَمُ وَلَهُ إِنْ عَمِلَ مَا يُسَمَّى لَهُ فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ إِجَارَةٍ وَلَا جُعَالَةٍ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ثُمَّ لَا يَخْلُو سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَأَجْرُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَسَاوَيَا فَتَكُونُ الْأُجْرَةُ بِقَدْرِ سَهْمِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نقص فنقص عليها وَقَدِ اسْتَوْفَوْا أُجُورَهُمْ مِنْ سَهْمِهِمْ وَسَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا الْفَقْرُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: الْعَامِلُ عليها وغاز في سبيل الله " الحديث. وَرَوَى ابْنُ السَّاعِدِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا رَجَعْتُ بِهَا وَأَدَّيْتُهَا أَعْطَانِي عِمَالَتِي فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَإِنَّمَا أَجْرِي عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: خُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ فَقَدْ فَعَلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَ مَا فَعَلْتَ فَأُعْطِيتُ مِثْلَ مَا أُعْطِيتَ فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقَالَ: إِذَا أُعْطِيتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَبَرَيْنِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أُجُورُ الْعَامِلِينَ أَقَلَّ وَسَهْمُهُمْ أَكْثَرَ فَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ قَدْرَ أُجُورِهِمْ، وَيَرُدُّ الْفَاضِلَ مِنْهُ عَلَى السُّهْمَانِ كُلِّهَا بِالتَّسْوِيَةِ وَلَا يَسْتَبْقِي لِعَامِلِهِ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ أُجُورُ الْعَامِلِينَ أَكْثَرَ وَسَهْمُهُمْ أَقَلَّ فَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ سَهْمَهُمْ وَيُتَمِّمُ لَهُ بَاقِيَ أُجُورِهِمْ وَمِنْ أَيْنَ يُتَمِّمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا لِاخْتِصَاصِ عَمَلِهِمْ بِهَا.
وَالثَّانِي: مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى الصَّدَقَاتِ فَإِنْ تَطَوَّعُوا بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ جَازَ وَسَقَطَ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا كَمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهَا وَيَسْقُطُ سَهْمُ الْعَامِلِينَ مِنْهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْعَامِلُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذَ سَهْمَ عَمَلِهِ مِنْهَا، فَفِي جَوَازِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

(8/496)


أَحَدُهَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لَا يُرَاعَى فِيهَا الفقراء فلم يراعى فِيهَا النَّسَبُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَاضَلُوا عَلَى عَمَلِهِمْ فِيهَا مَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ مِنْ أُجْرَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَمَا يَلْزَمُ أَهْلَ الصَّدَقَاتِ مِنْ أُجْرَةِ الْحِفْظِ وَالنَّقْلِ، جَازَ أَنْ يُفَاضَلُوا عَلَيْهِ بِمَا يَلْزَمُ فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يجوز لتحريم الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ، رُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَالْمُطَّلِبَ بْنَ رَبِيعَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَاهُ عِمَالَةَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ لَا يَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَهْمَهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ عِوَضًا عَنْ مَالِ الصَّدَقَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنْ كَانُوا يُعْطَوْنَ سَهْمَهُمْ مِنَ الْخُمُسِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانُوا لَا يُعْطَوْنَ جاز لأن لا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَالَيْنِ إِنْ أُعْطُوا لَا يُحْرَمُوا المالين وإن منعوا، فأما مولى ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ كَذَوِي الْقُرْبَى فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ لِرِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَقُلْتُ لَهُ أَثْبِتْ لِي سَهْمًا مِنْهَا، فَقَالَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " إِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَإِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْهُمْ عَامِلًا عَلَيْهَا، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى لِأَمْرَيْنِ تَفَرَّدُوا بِهِمَا عَنْ مَوَالِيهِمْ:
أَحَدُهُمَا: شَرَفُ نَسَبِهِمُ الَّذِي فُضِّلُوا بِهِ.
وَالثَّانِي: سَهْمُهُمْ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي تَفَرَّدُوا بِهِ.
فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصُّوا بِتَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ دُونَ مَوَالِيهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
إِذَا تَلَفَتِ الصَّدَقَةُ فِي يَدِ الْعَامِلِ فَهُوَ عَلَيْهَا أَمِينٌ لَا يَضْمَنُهَا إِلَّا بِالْعُدْوَانِ ثُمَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَأْخُذْ، فَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِعَمَلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ أُجْرَةَ الْقَبْضِ وَالتَّفْرِيقِ، فَيَلْزَمُهُ إِذَا تَلَفَتْ قَبْلَ التَّفْرِيقِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَ أُجْرَةَ التَّفْرِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْمَالِ قَبْلَ تَلَفِهِ أُعْطِيَ أُجْرَةً مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ، وَلَمْ يُفَوَّتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

مسألة:
قال الشافعي: " وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فِي مُتَقَدِّمِ الْأَخْبَارِ ضَرْبَانِ ضَرَبٌ مُسْلِمُونَ أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ يُجَاهِدُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْوَى الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ مِنْ نِيَّاتِهِمْ مَا يَرَوْنَ مِنْ نِيَّاتِ غَيْرِهِمْ فَإِذَا كَانُوا هَكَذَا فَأَرَى أَنْ يُعْطَوْا مِنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مَا يُتَأَلَّفُونَ بِهِ سِوَى سِهَامِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا السَّهْمَ

(8/497)


خالصا لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرده في مصلحة المسلمين (وَاحْتَجَّ) بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطى المؤلفة يوم حنين من الخمس مثل عيينة والأقرع وأصحابهما ولم يعط عباس بن مرداس وكان شريفا عظيم الغناء حتى استعتب فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال الشافعي) رحمه الله لما أراد ما أراد القوم احتمل أن يكون دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منه شيء حين رغب عما صنع بالمهاجرين والأنصار فأعطاه على معنى ما أعطاهم واحتمل أن يكون رأى أن يعطيه من ماله حيث رأى أن يعطيه لأنه له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالصا للتقوية بالعطية ولا نرى أن قد وضع من شرفه فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أعطى من خمس الخمس النفل وغير النفل لأنه له وأعطى صفوان بن أمية ولم يسلم ولكنه أعاره أداة فقال فيه عند الهزيمة أحسن مما قال بعض من أسلم من أهل مكة عام الفتح وذلك أن الهزيمة كانت فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوم حنين أول النهار فقال له رجل غلبت هوازن وقتل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال صفوان بن أمية بفيك الحجر فوالله لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ من هوازن ثم أسلم قومه من قريش وكان كأنه لا يشك في إسلامه والله تعالى أعلم (قال الشافعي) فإذا كان مثل هذا رأيت أن يعطى مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهذا أحب إلي للاقتداء بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ولو قال) قائل كان هذا السهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكان له أن يضع سهمه حيث يرى فقد فعل هذا مرة وأعطى من سهمه بخيبر رجالا من المهاجرين والأنصار لأنه ماله يضعه حيث رأى ولا يعطى أحدا اليوم على هذا المعنى من الغنيمة ولم يبلغنا أن أحدا من خلفائه أعطى أحدا بعده ولو قيل ليس للمؤلفة في قسم الغنيمة سهم مع أهل السهمان كان مذهبا والله أعلم (قال) وللمؤلفة في قسم الصدقات سهم والذي أحفظ فيه من متقدم الخبر أن عدي بن حاتم جاء إلى أبي بكر الصديق أحسبه بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا وأمره أن يلحق بخالد بن الوليد بمن أطاعه من قومه فجاءه بزهاء ألف رجل وأبلى بلاء حسنا والذي يكاد يعرف القلب بالاستدلال بالأخبار أنه أعطاه إياها من سهم المؤلفة فإما زاده ترغيبا فيما صنع وإما ليتألف به غيره من قومه ممن لم يثق منه بمثل ما يثق به من عدي بن حاتم (قال) فأرى أن يعطى من سهم المؤلفة قلوبهم في مثل هذا المعنى إن نزلت بالمسلمين نازلة ولن تنزل إن شاء الله تعالى وذلك أن يكون العدو بموضع منتاط لا يناله الجيش إلا بمؤنة ويكون بإزاء قوم من أهل الصدقات فأعان عليهم أهل الصدقات إما بلية فأرى أن يقووا بسهم سبيل الله من الصدقات وإما أن لا يقاتلوا إلا بأن يعطوا سهم المؤلفة أو ما يكفيهم منه وكذا إذا انتاط العدو وكانوا أقوى عليه من قوم من أهل الفيء يوجهون إليه ببعد ديارهم وثقل مؤناتهم ويضعفون عنه فإن لم يكن مثل ما وصفت مما كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه من امتناع أكثر العرب بالصدقة على الردة وغيرها لم أر أن يعطى أحد من

(8/498)


سهم المؤلفة ولم يبلغني أن عمر ولا عثمان ولا عليا رضي الله عنهم أعطوا أحدا تألفا على الإسلام وقد أغنى الله - فله الحمد - الإسلام عن أن يتألف عليه رجال (وقال في الجديد) لا يعطى مشرك يتألف على الإسلام لأن الله تعالى خول المسلمين أموال المشركين لا المشركين أموال المسلمين وجعل صدقات المسلمين مردودة فيهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا وأبا حنيفة أَسْقَطَا سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ كَمَا أَسْقَطَ أبو حنيفة سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لِلِاسْتِغْنَاءِ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَاسْتِعْلَاءِ أَهْلِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى، فَأَمَّا سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] وَتَآلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَرْبَانِ مُسْلِمُونَ، وَمُشْرِكُونَ.
فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ فِيهِمْ قُوَّةٌ وَبَأْسٌ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نِيَّاتٌ لَكِنَّهُمْ إِنْ أُعْطُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَذَاهُمْ مُجْتَازِينَ، أَوْ مُسَافِرِينَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا قَاتَلُوهُمْ وَتَتَبَّعُوهُمْ بِالْأَذَى فِي أَسْفَارِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ مِثْلَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَقَدْ كَانَ ذَا غِلْظَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ أَهْلَ بَنِي مَعُونَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَآلَفُهُ وَيَسْتَكِفُّهُ فَأَتَى الْمَدِينَةَ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ شَارِكْنِي فِي أَمْرِكَ، وَكُنْتَ أَنْتَ عَلَى الْمَدَرِ وَأَنَا عَلَى الْوَبَرِ، فَقَالَ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِي قَالَ وَاللَّهِ لِأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَأَبْنَاءِ قَبِيلَةِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ يَعْنِي الْأَنْصَارَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بِأَخْبَثِ نِيَّةٍ فَأَخَذَتْهُ غُدَّةٌ مَاتَ بِهَا وَقَدْ نَزَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ سَلُولٍ قَالَ: وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْكُفَّارِ أَشْرَافٌ وَمُطَاعُونَ لهم في الإسلام ونيات لَمْ تُخْلَصْ إِنْ أُعْطُوا قَوِيَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا بَقَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ مِثْلَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ ذَا نِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتَعَارَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَدَاةً فَأَعَارَهُ مِائَةَ دِرْعٍ وَحَضَرَ مَعَهُ حُنَيْنًا وَقَالَ قَدِ انْهَزَمَتِ الصَّحَابَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْعَةِ أحسن مما قاله بعض المسلمون الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ غَلَبَتْ هَوَازِنُ، وَقُتِلَ مُحَمَّدٌ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ لِفِيكَ الْحَجَرُ، وَاللَّهِ لَرَبُّ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبِّ هَوَازِنَ، فَلَمَّا انْجَلَتِ الْوَقْعَةُ وَأُحِيزَتْ غَنَائِمُ هَوَازِنَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا مِائَةَ بَعِيرٍ، فَلَمَّا رَآهَا وَقَدِ امْتَلَأَ بِهَا الْوَادِي فَقَالَ هَذَا عَطَاءُ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ.
هَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأَلَّفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي جَوَازِ تَآلُفِهِمُ الْآنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَانِ:

(8/499)


أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَزَادَهُمْ مِنْ قُدْرَةٍ عَنْ أَنْ يتَآلَفُوا بِأَمْوَالِهِمْ مُشْرِكًا وَيَكُونُ تَآلُفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُمْ إِمَّا عَنْ حَاجَةٍ إِلَيْهِمْ عِنْدَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهِمْ مِنْ مَالِهِ الَّذِي مَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ فَكَانَ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ مِمَّا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوُلَاةِ أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَهُ.
فَإِذَا قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَآلَفُوا بِمَالٍ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ حَوْلًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا مُنِعُوا ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَإِذَا قِيلَ: بِجَوَازِ تَآلُفِهِمْ جَازَ إِذَا وُجِدَ فِيهِمْ نَفْعُ التَّآلُفِ يُعْطَوْا مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ لَا مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الْمُعَدَّةِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ فَضَرْبَانِ.
ضَرْبٌ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ وَحَمْلِهِمْ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْأَشْرَافُ الْمُطَاعُونَ وَقَدْ حَسُنَتْ فِي الْإِسْلَامِ نياتهم لكن في إعطائهم تآلف لقومهم وترغيب لِأَكْفَائِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ كَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهُمَا تَآلُفًا لِقَوْمِهِمَا وَتَرْغِيبًا لِنُظَرَائِهِمَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ قَدْ أَسْلَمُوا بِنِيَّاتٍ ضَعِيفَةٍ إِنْ أُعْطُوا قَوِيَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَإِنْ مُنِعُوا رُبَّمَا أَفْضَى بِهِمْ ضَعْفُ النِّيَّةَ إِلَى الرِّدَّةِ فَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ، فَإِنَّهُ تَآلَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِائَةِ بَعِيرٍ وَتَرَكَ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ فَلَمْ يُعْطِهِ ثِقَةً، بِحُسْنِ إِسْلَامِهِ كَمَا تَرَكَ الْأَنْصَارَ وَقَصَرَ بِهِ عَلَى مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ حَتَّى اسْتَعْتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِيمَا أَنْشَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
(كَانَتْ ذِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... وكَرِّي عَلَى الْقَوْمِ بِالْأَجْرَعِ)

(وَحَثِّي الْجُنُودَ لِكَيْ يُدْلِجُوا ... إِذَا هَجَعَ الْقَوْمُ لَمْ أَهْجَعِ)

(أَتَجْعَلُ نهبي وذهب العبيد ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ)

(8/500)


الْأَبْيَاتِ إِلَى آخِرِهَا.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأُعْطِيَ مِائَةَ بَعِيرٍ فَاحْتَمَلَ إِعْطَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ لَهُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ بِهِ حُسْنَ النِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ فَمَنَعَهُ ثُمَّ بَانَ مِنْهُ ضَعْفُ النِّيَّةِ فَتَآلَفَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حُسْنِ نيته لكن خشي نقص الرتبة وحظ الْمَنْزِلَةِ فَأَحَبَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَكْفَائِهِ فَأَعْطَاهُ مَعَ حُسْنِ إِسْلَامِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بِشِعْرِهِ، فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ مُؤَلَّفَةِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَآلَفَهُمْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَيَاتِهِ، وَفِي جَوَازِ تَآلُفِهِمُ الْآنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أتاه عدي بن حاتم الطائي بثلثمائة بَعِيرٍ مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ أَعْطَاهُ مِنْهَا ثَلَاثِينَ بَعِيرًا لِيَتَآلَفَ بِهَا قَوْمَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَلَحِقَ بِهِ فِي زُهَاءِ أَلْفِ رَجُلٍ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَآلَفُوا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ عَنْ أَنْ يُتَآلَفَ فِيهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا تَآلَفُوا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ أَحَدًا وَقَدْ رَوَى حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَتَى عُمَرَ فَسَأَلَهُ شَيْئًا فَلَمْ يُعْطِهِ فَقَالَ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فَإِنْ قِيلَ: لَا يُعْطَى الْكُفَّارُ فَلَا مَقَالَ وَإِذَا قِيلَ: يُعْطَوْنَ تَآلُفًا لِقُلُوبِهِمْ، فَعَنِ الْمَالِ الَّذِي يُتَآلَفُونَ مِنْهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ النَّصَّ عَلَى سَهْمِهِمْ مِنْهَا، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْطَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ثَلَاثِينَ بَعِيرًا مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ مِالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جملتها، ويعطون ذلك من الْغَنَاءِ وَالْفَقْرِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَعْرَابٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَرَفٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِإِزَاءِ مُشْرِكِينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا بِمَالٍ يُعْطَوْنَهُ، إِمَّا لِفَقْرِهِمْ، وَإِمَّا لِضَعْفِ نِيَّتِهِمْ وَفِي مَسِيرِ الْمُجَاهِدِينَ إِلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَالْتِزَامُ مَالٍ جَزِيلٍ.

(8/501)


وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْ ذَكَرْنَا بِإِزَاءِ قَوْمٍ مُرْتَدِّينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ إِلَّا بِمَالٍ إِمَّا لِفَقْرٍ أَوْ لِضَعْفِ نِيَّةٍ، وَفِي تَجْهِيزِ الْجَيْشِ إِلَيْهِمْ مُؤْنَةٌ ثَقِيلَةٌ.
وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: أن يكونوا قَوْمٍ مِنَ الْبُغَاةِ وَهَذِهِ حَالُهُمْ مَعَهُمْ.
وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونُوا بِإِزَاءِ قَوْمٍ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَلَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى بَذْلِهَا إِلَّا بِمَالٍ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ يَجُوزُ تَآلُفُهُمْ بِالْمَالِ لِمَا فِي تَآلُفِهِمْ مِنْ مَعُونَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَفْعِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ وَفِي الْمَالِ الَّذِي يُتَآلَفُونَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ وَرَابِعٌ مَعْلُولٌ:
أَحَدُهَا: مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ غُزَاةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمَعْلُولُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَسَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلٌ مَعْلُولٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ فِي دَفْعِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ سَبَبَيْنِ مِنْ سَهْمَيْنِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ إِعْطَاءَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاحِدَةِ بِسَبَبَيْنِ مِنْ سَهْمَيْنِ إِذَا كَانَا فِيهِ مَوْجُودَيْنِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي مَنَعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُعْطَوْنَ إِلَّا مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي إِعْطَائِهِمْ مِنَ السَّهْمَيْنِ مَعًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبَبَيْنِ فِيهِمْ مَعَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ إِعْطَائِهِ بِالسَّبَبَيْنِ لِمَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ إِلَيْنَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فِيمَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ مَانِعِي الزَّكَاةِ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَمَنْ قَاتَلَ مِنْهُمُ الْمُشْرِكِينَ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدِي فِي هَذَا الْقَوْلُ الرَّابِعُ غَيْرُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يُجْمَعُ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا بَيْنَ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَبَيْنَ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنْ يُصْبِحَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنَ السَّهْمَيْنِ لَكِنْ يُعْطَى بَعْضُهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُعْطَى بَعْضُهُمْ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ فَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ السهمين للجنس الْعَامِّ وَالْمَنْعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا أَصَحُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ هَذَا القول الرابع والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَالرِّقَابُ الْمُكَاتَبُونَ مِنْ حَيِّزِ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَا يُعْتَقُ عَبْدٌ يُبْتَدَأُ عِتْقُهُ فَيُشْتَرَى وَيُعْتَقُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالرِّقَابُ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي

(8/502)


الرقاب} فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِمْ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُمُ الْمُكَاتَبُونَ يُعْطَوْنَ الْمُسَمَّى لَهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي مَالِ كِتَابَتِهِمْ وَلَا يَبْتَدِئُ عِتْقَ رِقَابٍ تُشْتَرَى، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ.
وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أبي حنيفة وَالثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الرِّقَابُ أَنْ يُبْتَدَأَ عتق رقاب تشترى وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ استدلالا بقوله تعالى: {وفي الرقاب} وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْقِنَّ دُونَ الْمُكَاتَبِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يَقْتَضِي عِتْقَ الْعَبْدِ الْقِنِّ دُونَ الْمُكَاتَبِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ سُهْمَانَ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْأَصْنَافِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ: {إنما الصدقات للفقراء} وَخَالَفَ صِيغَةَ اللَّفْظِ فِي الرِّقَابِ بِأَنْ حَذَفَ لام التمليك، فقال: وفي الرقاب فَجَعَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْهُ لَهُمْ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْمُكَاتَبُونَ وَيُشْتَرَى بِهِ عَبِيدٌ يُعْتَقُونَ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ فَلَوْ أُرِيدُوا بِالْآيَةِ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْغَارِمِينَ عَنْ ذِكْرِهِمْ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ مِنْ أَمْوَالِ الطُّهْرَةِ نَوْعَانِ زَكَوَاتٍ وَكَفَّارَاتٍ فَلَمَّا كَانَ فِي الْكَفَّارَاتِ عِتْقٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّكَوَاتِ عِتْقٌ.
وَتَحْرِيرُهُ: إِنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الطُّهْرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِعِتْقٍ، وَيُفَرِّقَهُ كَالْكَفَّارَاتِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وفي الرقاب} [التوبة: 60] ومنه سَبْعَةُ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذلك في الرقاب لا في السادة، وملك يَجْعَلُهُ فِي السَّادَةِ لَا فِي الرِّقَابِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ سَائِرَ الْأَصْنَافِ لَمَّا اسْتَحَقُّوا الْأَخْذَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِنْفُ الرِّقَابِ مُسْتَحِقًّا الْأَخْذَ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ ثَمَانِيَةَ أَصْنَافٍ وَقَرَنَ فِيهَا بَيْنَ كُلِّ صِنْفَيْنِ يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا فَنُقَارِبُ فِي حَاجَتِنَا إِلَيْهِمْ وَفَرَّقَ بَيْنَ سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبًا فَلَمَّا أَخَذَ الْغَارِمُونَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ اقْتَضَى أَنْ يَأْخُذَ الرِّقَابُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَصْرُوفَ إِلَى الْأَصْنَافِ صَدَقَةً وَفِي صَرْفِهِ فِي الْعِتْقِ يَصِيرُ ثَمَنًا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ.
وَالْخَامِسُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ يُمْكِنُ دَفْعُ سَهْمِهِ إِلَيْهِ

(8/503)


مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ وَلَا يُمْكِنُ إِذَا جَعَلَ سَهْمَ الرِّقَابِ فِي الْعِتْقِ أَنْ يُعْتِقَ سَهْمَهُمْ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ وَإِذَا جُعِلَ فِي الْمُكَاتَبِينَ أَمْكَنَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ.
وَالسَّادِسُ: إِنَّهُ لَوْ صُرِفَ سَهْمُ الرِّقَابِ فِي مكاتبين وبقي عليهم من آخركم آخِرُ نَجْمِ مَا يُعْتَقُونَ بِهِ فَأَعْطَوْا مَا عُتِقُوا بِهِ أَجْزَأَ، وَلَوْ خَرَجُوا مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ لَمْ يُجْزِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ.
وَالسَّابِعُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ بِالرِّقَابِ الْمُعْتَقَ لَقَرَنَهُ بِذِكْرِ التَّحْرِيرِ كَالْكَفَّارَةِ حَيْثُ قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُحْمَلَ مُطْلَقُ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْهَا فِي الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ فِي الْمُطْلَقِ فِي الرِّقَابِ مَا يُجْزِئُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُكَاتَبِينَ، فَكَانَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُطْلَقِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَخَالَفَ تَقْيِيدَ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ فِي مَوْضِعٍ وَإِطْلَاقَهَا فِي آخَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّهَادَةِ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يكونوا على صفة يستحقوا بِهَا الْأَخْذَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ فَلَوْ أَعْتَقَ سَهْمُ الرِّقَابِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْمُعْتِقِ وَلَاءٌ أَوْ لَا يَثْبُتُ فَإِنْ لَمْ يثبت عليه، ولا سُلِبَ حُكْمَ الْعِتْقِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقٍ بِمَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ وَلَا اشْتُرِيَ لَهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ مِلْكًا كَسَائِرِ الْأَصْنَافِ فَثَبَتَ امْتِنَاعُ الْعِتْقِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَخَذَ الْغَارِمُ سَهْمَهُ وَعَلَيْهِ لِرَبِّ الْمَالِ دَيْنٌ جَازَ أَنْ يَسْتَعِيدَهُ مِنْ دَيْنِهِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لَهُ.
قِيلَ: لَيْسَ هَذَا فِي كُلِّ غَارِمٍ وَلَا الْغَارِمُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَلْزَمُهُ رَدُّ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ غَيْرُهُ أَجْزَأَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْقِنَّ دُونَ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ أَنَّ ادِّعَاءَ ذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُطْلِقَ تَنَاوَلَ الْقِنَّ وَغَيْرَهُ وَإِنْ قُيِّدَ بِقَرِينَةٍ كَالتَّحْرِيرِ تَخَصَّصَ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ بِالْقِنِّ دُونَ غَيْرِهِ فَلَمَّا أُطْلِقَ ذِكْرُ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَةِ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِهِ وَلَا يَجْرِي مَجْرَى مَا خُصَّ فِي الْكَفَّارَةِ بِقَرِينَةٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ

(8/504)


السُهمان بِلَامِ التَّمْلِيكِ إِلَّا الرِّقَابَ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْغُزَاةِ وَبَنِي السَّبِيلِ فَقَالَ: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ تَمْلِيكًا كَذَلِكَ الرِّقَابُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِيهَا بِأَنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ غَيْرُ الْغَارِمِينَ، لِأَنَّ دُيُونَهُمْ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ وَدُيُونُ الْغَارِمِينَ مُسْتَقِرَّةٌ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ وإن تقاربوا في المعنى فإن يُسْتَفَادُ بِذِكْرِهِمْ أَنْ لَا يُقْتَصَرَ عَلَى الْغَارِمِينَ لَوْ لَمْ يُذْكَرُوا وَعَلَيْهِمْ دُونَ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى ذِكْرِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَإِنْ كَانُوا مُتَقَارِبِينَ يُسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ذكر الآخر؛ لأن لا يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْكَفَّارَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِخْرَاجِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ هُوَ الْعِتْقُ لِذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً يَمْلِكُهَا أَجْزَأَهُ، وَالْمَأْمُورُ بِإِخْرَاجِهِ فِي الصَّدَقَاتِ هُوَ الْمَالُ وَلِذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ رقبة يملكها لَمْ يُجْزِهِ فَافْتَرَقَا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَهْمَ الرِّقَابِ مَصْرُوفٌ فِي الْمُكَاتَبِينَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِمَالٍ فِي يَدِهِ بِقَدْرِ الْبَاقِي مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ أَوْ بصناعة يكتسب به فذلك يكونا فِي الْحُكْمِ سَوَاءً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ هَذَا الْمُكَاتَبُ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَحُلَّ، فَإِنْ كَانَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، وَاسْتَحَقَّ السَّيِّدُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ دُفِعَ إِلَيْهِ وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَدْفَعَهُ الْمُكَاتَبُ إِلَى سَيِّدِهِ أَوْ يَدْفَعَهُ ابْتِدَاءً إِلَى السَّيِّدِ بِأَمْرِ الْمُكَاتَبِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ لَمْ يَحُلَّ وَمُطَالَبَةُ الْمُكَاتَبِ بِهِ لَمْ تَجِبْ فَفِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحُلُّ مَالُ النَّجْمِ فَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُ مَا أخذه من كتابته.
والقسم الثاني: يُعْتَقَ بِغَيْرِ أَدَاءِ مَالِ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ إِمَّا بِإِبْرَاءِ السَّيِّدِ لَهُ أَوْ بِأَدَاءِ آخَرَ عَنْهُ أَوْ بِأَدَائِهِ مِنْ كَسْبِهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءً، وَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ اسْتَرْجَعَ مِنْه مَا دَفَعَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَخْذِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ عِتْقِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ وَقَدْ أَدَّاهُ فِيهِ لَمْ يَسْتَرْجِعْ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لِذَلِكَ الدَّفْعِ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيرِ الْعِتْقِ وَلَوِ اسْتَرْجَعَ لَمْ يُعْتَقْ.

(8/505)


والقسم الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَرِقَّهُ السَّيِّدُ بِالْعَجْزِ فَلَا يَخْلُو حال المدفوع إليه مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ أَوْ فِيمَا قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ اسْتُرْجِعَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ سَوَاءً كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ أَوْ قَدْ قَبَضَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِتْقِ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ مِنَ النُّجُومِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَيُسْتَرْجَعُ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَا يَتَمَلَّكَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الرِّقِّ لِفَوَاتِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ لِلْأَخْذِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَهُ مِنْ مَالِ النَّجْمِ الَّذِي عَجَّزَهُ فِيهِ فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ أَيْضًا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ الْأَخْذِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ مِنْ مَالِ نَجْمٍ مُتَقَدِّمٍ قَبْلَ نَجْمِ التَّعْجِيزِ، فَفِي جَوَازِ اسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعِتْقِ فَشَابَهَ مَالَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِأَنَّ لِكُلِّ نَجْمٍ حُكْمًا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَتَلَفَ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَتْلَفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ أَوْ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ سَوَاءً تَلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ لَهُ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عَنِ الْعِتْقِ فَإِذَا فَاتَ الْعِتْقُ ضَمِنَهُ بِالرَّدِّ إِنْ بَقِيَ، وَبِالْغُرْمِ إِنْ تَلَفَ كَالْمَبِيعِ، وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ فَإِنْ تَلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ ضُمِنَ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ يُقَدَّمُ عَلَى دُيُونِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنْ ضَاقَ مَا بِيَدِهِ عَنْ غُرْمِهِ ضَمِنَهُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ تَلَفَ بِغَيْرِ اسْتِهْلَاكِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بِيَدِهِ قَبْلَ عَجْزِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ عَجْزِهِ فَإِنْ تَلَفَ قَبْلَ عَجْزِهِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ قَبْلَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ كان مؤتمنا على أدائه.
والثاني: يَتْلَفُ بَعْدَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ فَهَذَا على ضربين إما أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ نَجَمُ الْكِتَابَةِ وَأَخَّرَ دَفْعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ لِعُدْوَانِهِ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ فَفِي ضَمَانِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ عَلَيْهِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ إِذَا جُعِلَ كَالَّذِي حَلَّ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ.

(8/506)


وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ إِذَا لَمْ يُجْعَلْ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ كَالَّذِي حَلَّ عَلَيْهِ وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِهِ بَعْدَ عَجْزِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ رَدِّهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلِ فَهَذَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ لِعُدْوَانِهِ بِتَأْخِيرِ الرَّدِّ وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ مَا بِيَدِهِ لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِ مَا بِيَدِهِ فِي مُعَامَلَاتِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ قَبْلَ إِمْكَانِ رَدِّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُكَاتَبِ، لِأَنَّهُ مَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ وَلَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي جِنْسِهِ وَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى سَيِّدِهِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَبَضَهُ لِسَيِّدِهِ وَيَدُهُ بعد العجز كيده.

مسألة:
قال الشافعي: (وَالْغَارِمُونَ) صِنْفَانِ صِنْفٌ دَانُوا فِي مَصْلَحَتِهِمْ أَوْ مَعْرُوفٍ وَغَيْرِ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ أَدَاءِ ذَلِكَ فِي الْعَرْضِ وَالنَّقْدِ فَيُعْطَوْنَ فِي غُرْمِهِمْ لعجزهم فإن كانت لهم عروض يقضون منها ديونهم فهم أغنياء لا يعطون حتى يبرءوا من الدين ثم لا يبقى لهم ما يكونون به أغنياء وصنف دانوا في صلاح ذات بين ومعروف ولهم عروض تحمل حمّالاتهم أو عامتها وإن بيعت أضر ذلك بهم وإن لم يفتقروا فيعطى هؤلاء وتوفر عروضهم كما يعطى أهل الحاجة من الغارمين حتى يقضوا سهمهم (واحتج) بأن قبيصة بن المخارق قال تحملت بحمالة فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: " نؤديها عنك أو نخرجها عنك إذا قدم نعم الصدقة يا قبيصة " الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يمسك ورجل أصابته فاقة أو حاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه أن به فاقة أو حاجة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جائحة فاجتاحت ماله فحلت له الصدقة حتى يصيب سدادا من عيش أو قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَمَا سِوَى ذلك من المسألة فهو سحت " (قال الشافعي) رحمه الله: فبهذا قلت في الغارمين وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تحل له المسألة في الفاقة والحاجة " يعني والله أعلم من سهم الفقراء والمساكين لا الغارمين وقوله " حتى يصيب سدادا من عيش " يعني والله أعلم أقل اسم الغنا ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لغارم أو لرجل اشتراها بماله أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى المسكين فأهدى المسكين للغني " فبهذا قلت يعطى الغازي والعامل وإن كانا غنيين والغارم في الحمالة على ما أبان عليه السلام لا عاما ".

(8/507)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَالْغَارِمُونَ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] فَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ سَهْمًا وَهُمْ صِنْفَانِ:
صِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، وَصِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ غَيْرِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ.
وَالثَّانِي: فِي تَبْذِيرٍ.
وَالثَّالِثُ: فِي مَعْصِيَةٍ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ فَكَرَجُلٍ أَدَانَ فِي جَوَائِحَ أَصَابَتْهُ أَوْ نَفَقَاتٍ لَزِمَتْهُ أَوْ مُعَامَلَاتٍ أَضَرَّتْ أَوْ زَكَوَاتٍ وَجَبَتْ وَحَجٍّ أُدِّيَ وَفَرْضٍ قُضِيَ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ وِاجِبَاتٍ أَوْ مُبَاحَاتٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى مَنْ صَارَ بِهَا غَارِمًا مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَخْلُو مَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاضًّا أَوْ عَقَارًا فَإِنْ كَانَ مَالُهُ نَاضًّا كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْمَعُونَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو مُوسِرٌ مِنْ دَيْنٍ فَيَجْعَلُ كُلَّ الْمُوسِرِ مِنَ الْغَارِمِينَ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ عَقَارًا مِنْ دُورٍ وَضِيَاعٍ كَفَى أَثْمَانُهَا بِدَيْنِهِ فَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ قَوْلَانِ:
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ في هذا الموضع وأكثر كتبه أنه لا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ كَالْمُوسِرِ بِمَالٍ نَاضٍّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَحُكِيَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى، لِأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ قضاء الدين إلا من عقار مستقا هُوَ بِالْمُعْسِرِينَ أَشْبَهُ عَنْهُ بِالْمُوسِرِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي تَبْذِيرٍ كَرَجُلٍ بَذَّرَ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَأَسْرَفَ فِي الصِلاة وَالْهِبَاتِ لَا فِي بِرٍّ وَلَا تَقْوَى فَهَذَا لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ، وَلَهُ مَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ مِنْ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّبْذِيرِ، فَلَأَنْ يَعُودَ تَبْذِيرُهُ عَلَى مَالِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ نَاضٍّ وَلَا عَقَارٍ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْغُرْمِ وَالْحَاجَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا وَكَانَ مُصِرًّا عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا بِتَحَمُّلِ الْغُرْمِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ عَنْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْغِنَى بِمَالٍ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ فِي غُرْمِ الْمَعَاصِي أَوْلَى مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَعَ الْفَقْرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِبَقَاءِ الْغُرْمِ مَعَ زَوَالِ الْمَعْصِيَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غُرْمٌ سببه المعصية.

(8/508)


فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي تَحَمُّلِ دِيَةٍ لِنَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ كَفَّ بِهَا فِتْنَةً بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ وَقَطَعَ بِهَا حَرْبًا بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ، فَهَذَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْفَقْرِ والغنى الناض والعقار ولا يراعى فيه فقر، وَلَا اعْتِبَارٌ لِرِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ هَارُونَ بْنِ رَبَابٍ عَنْ كِنَانَةَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ: أَنَّهُ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ نُؤَدِّيهَا عَنْكَ وَنُخْرِجُهَا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جائحة فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أصابته حاجة وَفَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحجى من قومه إن قد حَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ غُرْمٌ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْغُرْمِ فِي الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُعْطَى فِي الْغُرْمِ مَنْ حَاجَتِهِ إِلَيْنَا، فَأَوْلَى أَنْ يُعْطَى فِي الْغُرْمِ مَنْ حَاجَتِنَا إِلَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي غُرْمِ مَالٍ كَفَّ بِهِ فِتْنَةً وَمَنَعَ بِهِ حَرْبًا فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِالْعَقَارِ وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَعَ الْغِنَى وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْغُرْمِ فِي الدَّمِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ قَطْعِ الْفِتْنَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِلدَّمِ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ فِتْنَةٍ وَلَا مَنْعِ حَرْبٍ كَرَجُلٍ أَدَانَ فِي عِمَارَةِ مَسْجِدٍ أَوْ جَامِعٍ أَوْ بِنَاءِ حِصْنٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ أَوْ فَكِّ أَسْرَى أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى ذلك من المصالح العامة التي تتعلق لحسم فِتْنَةٍ، فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِالْعَقَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَعَ الْغِنَى بِالنَّاضِّ؛ لِأَنَّهُ فِي النَّفْعِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُتَرَدِّدًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْغَارِمِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ دَيْنِهِ، وَيَكُونُ الْغَارِمُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِقَبْضِهِ وَدَفْعِهِ إِلَى غُرَمَائِهِ، فَإِنْ دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلُ حَقَّهُ إِلَى غُرَمَائِهِ بِإِذْنِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي يَجُوزُ دَفْعُ حَقِّهِ إِلَى سَيِّدِهِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ، وَلَيْسَ الْغَارِمُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي دُيُونِ غُرَمَائِهِ، فَلَوْ كَانَ الْغَارِمُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَدَفَعَ إِلَى غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَجْرِ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبِ، فَلَوْ كَانَ دَيْنُ الْغَارِمِ مُؤَجَّلًا فَفِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ كَالْمُكَاتَبِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا أَخَذَ الْغَارِمُ سَهْمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ بالخيار في دفعه إلى غرمائه شَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَارِمًا فِي حَمَالَةِ دِيَةٍ قَدْ أُعْطِيَ فِيهَا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ مع غنائه،

(8/509)


وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنَانِ دَيْنُ الْحَمَالَةِ وَدَيْنٌ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ مَا أَخَذَهُ فِي دَيْنِ الْحَمَالَةِ وَلَا يَصْرِفُهُ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَلَوْ قَدْ أَخَذَ مَعَ الْفَقْرِ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَصْرِفَهُ فِيمَا شَاءَ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ أَوْ دَيْنِ الْحَمَالَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ أَغْلَظُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا بِالْفَقْرِ وَدَيْنِ الْحَمَالَةِ، أَخَفُّ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَجَازَ أَنْ يَصْرِفَ مَا غَلُظَ شَرْطُ اسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا خَفَّ شَرْطُهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصْرِفَ مَا خَفَّ شَرْطُ اسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا غَلُظَ شَرْطُهُ، فَإِذَا أَرَادَ الْغَارِمُ أَنْ يَصْرِفَ مَا أَخَذَهُ فِي غَيْرِ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِاسْتِحْقَاقِهِ فِي الدَّيْنِ إِلَّا أَنْ يَعْدَمَ قُوتَ يَوْمِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قُوتَ يَوْمِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي دَيْنِهِ كَالْمُفْلِسِ يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ إِلَّا قُوتَ يَوْمِهِ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا أَخَذَ الْغَرِيمُ سَهْمَهُ فَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي دَيْنِهِ حَتَّى أُبْرِئَ مِنْهُ أَوْ قُضِيَ عَنْهُ أَوْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُكَاتَبِ إِلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ قَرْضٍ يقترضه فَلَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مَا أَسْقَطَ عنه الدين، وإنما انتقل من يستحق إِلَى مُسْتَحِقٍّ فَصَارَ كَالْحِوَالَةِ فَلَوْ أُبْرِئَ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ قَرْضٍ فَلَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى لَزِمَهُ دَيْنٌ آخَرُ صَارَ بِهِ مِنَ الْغَارِمِينَ فَفِي اسْتِرْجَاعِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتُرْجِعَ لَجَازَ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُسْتَسْلِفِ لَهُ قَبْلَ غرمه والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَيُقْبَلُ قَوْلُ ابْنِ السَّبِيلِ إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْبَلَدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَوِيٍّ حَتَّى تُعْلَمَ قُوَّتُهُ بالمال ومن طلب بأنه يغزو وأعطي ومن طلب بأنه غارم أو عبد مُكَاتَبٌ لَمْ يُعْطَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ أَصْلَ النَّاسِ أَنَّهُمْ غَيْرُ غَارِمِينَ حَتَّى يُعْلَمَ غُرْمُهُمْ وَالْعَبِيدُ غَيْرُ مُكَاتَبِينَ حَتَّى تُعْلَمَ كِتَابَتُهُمْ وَمَنْ طَلَبَ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ لَمْ يُعْطَ إِلَّا بِأَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ وَمَا وَصَفْتُ أَنَّهُ يَستَحِقُّهُ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالَّذِي قَصَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَنَحْنُ نَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.
أَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ غَنَاءٌ مُتَقَدِّمٌ قُبِلَ قَوْلُهُمْ فِي الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ عُلِمَ لَهُمْ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِي تَلَفِهِ وَفَقْرِهِمْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُمْ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَحَالُهُمْ فِي الْعَمَلِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجُوا إِلَى بَيِّنَةٍ أَوْ تَحْلِيفِ يَمِينٍ.
وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَلَا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِمْ بِظُهُورِ الصَّلَاحِ وَتَآلُّفِهِمْ.
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُونَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي دَعْوَى الْكِتَابَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهَا وَبِالْبَاقِي مِنْهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَاتَبِينَ فَإِذَا تَصَادَقَ الْمُكَاتَبُ وَالسَّيِّدُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْبَاقِي مِنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:

(8/510)


أحدهما: أن تصادقهما بغنى عن البينة بعد إحلافهما؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّصَادُقِ مُكَاتَبًا فِي الظَّاهِرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا مع التصادق إلا ببينة لأنهما قد يتواطآن عَلَى ذَلِكَ اجْتِلَابًا لِلنَّفْعِ.
وَأَمَّا الْغَارِمُونَ فَمَنِ اسْتَدَانَ مِنْهُمْ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَحَالُهُ فيه أظهر من أن يكلف عليه بينة فَإِنْ شُكَّ فِي قَضَائِهِ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ أُحْلِفَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ وَمَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَإِنْ تَصَادَقَ الْغَارِمُ وَرَبُّ الدَّيْنِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي فَقْرِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إِرَادَتِهِ لِلسَّفَرِ، وَفِي إِحْلَافِهِ عَلَى أَنَّهُ مُرِيدٌ لِلسَّفَرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ عَلَى إِرَادَةِ السَّفَرِ وَلَا يُعْطَى إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْلَفُ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُسَافِرِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَمَّا الْغَازِي فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهُ مِنْ غَزْوِهِ وَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى إِرَادَةِ الْغَزْوِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ وَهُوَ قَوْلُ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْلِفُ وَهُوَ قَوْلُ ابن أبي هريرة.

مسألة:
قال الشافعي: " وَسَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا وَصَفْتُ يُعْطَى مِنْهُ مَنْ أَرَادَ الْغَزْوَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا وَلَا يُعْطَى مِنْهُ غَيْرُهُمْ إِلَّا أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى الدَّفْعِ عَنْهُمْ فَيُعْطَاهُ مَنْ دَفَعَ عَنْهُمُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ مَصْرُوفٌ فِي الْغَزَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَمَالِكٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَهُوَ مَصْرُوفٌ فِي الْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ نَاقَةً لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَرَادَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تَحُجَّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارْكَبِيهَا فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ ".
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ إِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ محمول على الغزو ولقوله تعالى: {وجاهدوا في

(8/511)


سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} [التوبة: 41] وقوله تعالى: {إن الله يحب الذي يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَلِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ الْحَجُّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا فِي الْجِهَاتِ الْمَالِكَةِ فَخَرَجَ الْحَجُّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ كَانَ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَجِبُ إِلَّا مَعَ عَجْزِهِ وَفِي غَيْرِ زَكَاتِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ فِيهِ زَكَاةُ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحُجَّاجِ أُعْطُوا إِمَّا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوْ مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ فَبَطَلَ بِذَلِكَ مَا قَالُوهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِقَرِينَةٍ وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُهُ يَتَنَاوَلُ الْجِهَادَ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَهْمَ سَبِيلِ اللَّهِ مَصْرُوفٌ فِي الْغَزَاةِ فَالْغُزَاةُ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَهُمُ الْمُرْتَزَقَةُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانَ فَهُوَ لَا يَأْخُذُ أَرْزَاقَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ مال الفيء ولا يجوز أن يعطوا من مَالِ الصَّدَقَاتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ وَهُمُ الَّذِينَ لَا أَرْزَاقَ لَهُمْ إِنْ أَرَادُوا غَزْوًا وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا قَعَدُوا وَقَدْ سَمَّاهُمُ الشَّافِعِيُّ أَعْرَابًا فَهُمْ غُزَاةُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ يَجُوزُ أن يعطوا منها مع الغنى وَالْفَقْرِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ لَمْ يُعْطَوُا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " وَلِأَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ الصَّدَقَةُ كَالْأَصْنَافِ الْبَاقِيَةِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لِغَارِمٍ أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إِلَى الْغَنِيِّ "، وَلِأَنَّ مَنْ أَخَذَ الصَّدَقَةَ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ كَالْعَامِلِ.
فَإِنْ قيل: فالعامل يأخذه أَجْرَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ.
قِيلَ: هُوَ صَدَقَةٌ: وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ لِتَحْرِيمِهِ على ذوي القربى على أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْغَازِي فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ وَهُوَ الْجِهَادُ وَلِذَلِكَ يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُجَاهِدْ.
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَخْصُوصُ الْعُمُومِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَغَيْرُ مُسَلَّمِ الْأَصْلِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا أُعْطِيَ الْغَازِيَ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ إِنْ كَانَ الْمَالُ مُتَّسِعًا وَكِفَايَتُهُ تُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قُرْبُ الْمَغْزَى وَبُعْدُهُ.

(8/512)


وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا فَإِذَا أُعْطِيَ ذَلِكَ فَلَمْ يَغْزُ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ وَإِنْ غَزَا فَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ لَمْ تُسْتَرْجَعْ، لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ قَدْ عَمِلَهُ فَلَوْ خَرَجَ لِلْغَزْوِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ جَمِيعُ مَا أَخَذَهُ وَلَا يُعْطَى مِنْهُ قَدْرَ نَفَقَتِهِ، لِأَنَّ الْمَفْقُودَ مِنْ غَزْوِهِ قَدْ فَوَّتَهُ بِعَوْدِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ وقفة مع المشركين قابل فيها المجاهدون فتأخير هَذَا عَنْ حُضُورِهَا فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْغَزْوِ لِقَاءُ الْعَدُوِّ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ وَقْفَةٌ وَلَا حَارَبَ الْمُجَاهِدُونَ فِيهَا أَحَدًا لِبُعْدِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ فَهَذَا لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِغَزْوِهِمْ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى دِيَارِهِمْ وَقَدْ وُجِدَ لبعدهم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَابْنُ السَّبِيلِ عِنْدِي ابْنُ السَّبِيلِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ الَّذِي يُرِيدُ الْبَلَدَ غَيْرَ بَلَدِهِ لِأَمْرٍ يَلْزَمُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَبَنُو السَّبِيلِ هُمْ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وفي سبيل الله وابن السبيل} وَبَنُو السَّبِيلِ هُمُ الْمُسَافِرُونَ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ الطَّرِيقُ سُمُّوا بِهَا لِسُلُوكِهِمْ لَهَا وَهُمْ ضَرْبَانِ: مُجْتَازٌ، وَمُنْشِئٌ.
فَأَمَّا الْمُجْتَازُ فَهُوَ الْمَارُّ فِي سَفَرِهِ بِبَلَدِ الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا الْمُنْشِئُ: فَهُوَ الْمُبْتَدِئُ لِسَفَرِهِ عَنْ بَلَدِ الصَّدَقَةِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: ابْنُ السَّبِيلِ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ هُوَ الْمُجْتَازُ دُونَ الْمُنْشِئِ اسْتِدْلَالًا بقوله تعالى: {وابن السبيل} يعني ابن الطريق وهذا ينطبق إلى الْمُسَافِرِ الْمُجْتَازِ دُونَ الْمُنْشِئِ الَّذِي لَيْسَ بِمُسَافِرٍ مُجْتَازٍ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يُعْطَى لِمَا يَبْتَدِئُهُ مِنَ السَّفَرِ لَا لِمَا مَضَى مِنْهُ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُجْتَازُ وَالْمُنْشِئُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَدِئٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ دَخَلَ بَلَدًا أَوْ نَوَى إِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارَ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِينَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَصِيرُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْخُرُوجِ كَالْمُنْشِئِ ثُمَّ يَجُوزُ بِوِفَاقٍ فَكَذَا كُلُّ مُقِيمٍ مُنْشِئٌ وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُسَمَّى مَنْ لَمْ يُسَافِرْ مُسَافِرًا.
قِيلَ: كَمَا يُسَمَّى مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَاجًّا وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] .

(8/513)


فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُجْتَازَ وَالْمُنْشِئَ سَوَاءٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيمَا يُنْشِئُهُ مِنْ سَفَرٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَاعَةٍ أَوْ يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ يَكُونَ مُبَاحًا، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ طَاعَةً كَالْحَجِّ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ مَعُونَةً عَلَى سَفَرِهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ مَعْصِيَةً كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِتْيَانِ الْفُجُورِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى وَلَا يُعَانُ عَلَى مَعْصِيَةٍ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ رُخَصِ سَفَرِهِ، فَإِنْ تَابَ الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ صَارَ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَالْمُبْتَدِئِ لِلسَّفَرِ فَيُعْطَى نَفَقَةَ بَاقِي سَفَرِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ مُبَاحًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَالسَّفَرِ إِلَى نُزْهَةٍ وَتَفَرُّجٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى وَإِنْ أُبِيحَتْ لَهُ الرُّخَصُ لِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفٌ إِلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا وَلَكِنْ لَوْ سَافَرَ لِلنُّزْهَةِ بِمَالِهِ ثُمَّ انْقَطَعَتْ بِهِ النَّفَقَةُ لِعَوْدِهِ جَازَ أَنْ يُعْطَى لِحَاجَتِهِ وَضَرُورَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ كَالسَّفَرِ فِي طَلَبِ غَرِيمٍ هَرَبَ أَوْ عَبْدٍ أَبَقَ أَوْ جَمَلٍ شَرَدَ فَهَذَا يُعْطَى لِسَدِّ حَاجَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ لَكِنَّهَا غَيْرُ مَاسَّةٍ كَالسَّفَرِ فِي تِجَارَةٍ فَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْطَى لِوُجُودِ الْحَاجَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يُعْطَى لِأَنَّهُ طَالِبٌ لِلِاسْتِزَادَةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَنْ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ مَنْ بَنِي السَّبِيلِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْشِئًا لِلسَّفَرِ أَوْ مُجْتَازًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْشِئًا لِسَفَرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمِنِ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا فِي سَفَرِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَعَ الْعَدَمِ فِي سَفَرِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِمُرَاعَاةِ الْجِوَارِ فِي الْفَقْرِ، وَلَيْسَ الْمُجْتَازُ جَارًا ثُمَّ يُعْطَى عِنْدَ اتِّسَاعِ الْمَالِ بِحَسَبِ مَسَافَةِ سَفَرِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَوْدَ أُعْطِيَ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَنَفَقَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هِيَ مُقَامُ الْمُسَافِرِ فِي بِلَادِ سَفَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْعَوْدَ أُعْطِيَ نَفَقَةَ الذَّهَابِ وَحْدَهُ ولم يعطي نَفَقَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِانْتِهَاءِ سَفَرِهِ بِالْقُدُومِ، فَإِنْ قَصَّرَ بُعْدَ الْمَسَافَةِ فِي نَفَقَتِهِ وَضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيَّةٌ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَفَرِهِ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَازِي حَيْثُ لَمْ تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ بَقِيَّةُ نَفَقَتِهِ أَنَّ الْغَازِيَ كَالْمُعَاوَضِ عَلَى غَزْوِهِ عَنَاءً فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ الْبَاقِي لِاسْتِكْمَالِ الْعَمَلِ وَالْمُسَافِرُ مُعَانٌ عَلَى سَفَرِهِ فَلَزِمَهُ رَدُّ مَا زَادَ عَلَى مَعُونَتِهِ، فَإِنْ أَخَذَ ابْنُ السَّبِيلِ نَفَقَةَ سَفَرِهِ ثُمَّ أَفَادَ قَدْرَ نَفَقَتِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَلَوْ أَخَذَ الْفَقِيرُ ثُمَّ أَفَادَ مَا زَالَ بِهِ فَقْرُهُ لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يُعْطَى لِأَمْرٍ مُنْتَظَرٍ فَاعْتُبِرَتْ حَالُهُ فِيمَا بَعُدَ وَالْفَقِيرُ يُعْطَى لِلْحَالِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَلَمْ تُعْتَبَرْ حَالُهُ مِنْ بُعْدِهِ، وَلَوْ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ أَخَذَ نَفَقَةَ سَفَرِهِ إِلَى غَايَةٍ

(8/514)


قَدْرُهَا مِائَةُ فَرْسَخٍ فَسَافَرَ شَطْرَ الْمَسَافَةِ ثُمَّ قطع نَظَرْنَا فِي نَفَقَتِهِ، فَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ فِي شَطْرِ الْمَسَافَةِ جَمِيعَ نَفَقَتِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَلَاءِ سِعْرٍ أَوْ زِيَادَةِ مُؤْنَةٍ لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لِسُرْفٍ فِي شَهْوَةٍ وَإِكْثَارٍ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ نَفَقَةُ الْبَاقِي مِنْ سَفَرِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُسَافِرْ وَأَنْفَقَ فِي ذَلِكَ فِي مُقَامِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَسْتَقْبِلَ بِهَا مَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(8/515)


باب كيف تفريق قسم الصدقات
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " يَنْبَغِي لِلسَّاعِي أَنْ يَأْمُرَ بِإِحْصَاءِ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي عَمَلِهِ حَتَّى يَكُونَ فَرَاغُهُ مِنْ قَبْضِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ تَنَاهِي أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَحَالَاتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيُحْصِيَ مَا صَارَ فِي يَدَيْهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ فَيَعْزِلُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ فإن جاوز سهم العاملين رأيت أن يعطيهم سهم العاملين ويزيدهم قدر أجور أعمالهم مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الفيء والغنيمة ولو أعطاهم ذلك من السهمان ما رأيت ذلك ضيقا ألا ترى أن مال اليتيم يكون بالموضع فيستأجر عليه إذا خيف ضيعته من يحوطه وإن أتى ذلك على كثير منه (قال المزني) هذا أولى بقوله لما احتج به من مال اليتيم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَوَجَّهَ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ إِلَى عَمَلِهِ فِي جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقِهَا فَيَنْبَغِي لَهُ مَعَ ابْتِدَاءِ تَشَاغُلِهِ بِجِبَايَتِهَا أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَتَعَرَّفُ لَهُ أَحْوَالَ أَهْلِ السُّهْمَانِ حَتَّى يَعْرِفَ أَهْلَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ فَيُثْبِتُ كُلَّ وَاحِدٍ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَحِلْيَتِهِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْأَنْسَابَ وَالْحُلِيَّ لِئَلَّا يَأْخُذَ الْوَاحِدُ مِنْ صَدَقَةٍ مَرَّتَيْنِ فَيُمَيِّزُ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا لِيَعْلَمَ أَعْدَادَ الْأَصْنَافِ وَعَدَدَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمَا وَيَكُونُ فَرَاغُهُ مِنْ تَفْرِقَةِ ذَلِكَ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْ جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ أَهْلِهَا وَجُودُهُمْ وَلَا يَلْزَمُ لَهَا مؤونة بِالْإِمْسَاكِ، وَلَا تَكُونُ مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ بِالِاحْتِبَاسِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ أَوْ بَعْضُهُمْ، فَإِنْ كَانَ بِهَا جَمِيعُ الْأَصْنَافِ قَسَمَ الصَّدَقَةَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَلَا يُفَضِّلُ بَعْضَ الْأَصْنَافِ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْحَاجَةِ وَالْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا فِيهَا سَوَاءً فَإِنْ وَجَدَ خَمْسَةَ أَصْنَافٍ وَعَدِمَ ثَلَاثَةً قَسَمَ الصَّدَقَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَإِنْ وَجَدَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَعَدِمَ خَمْسَةً، قَسَمَ الصَّدَقَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَأَوَّلُ سَهْمٍ يَبْدَأُ بِقَسْمِهِ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى عَمَلٍ فَصَارَتْ كَالْمُعَاوَضَةِ وَغَيْرُهُ مُوَاسَاةٌ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِأُجُورِهِمْ مِنْ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانَ فَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِمْ أَوْ يكونوا أكثر من أجورهم فيعطوا مِنْهُ قَدْرَ أُجُورِهِمْ، وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى سِهَامِ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ أجورهم أن يتمم لَهُمْ أُجُورَهُمْ، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ تَمَامُهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَا هُنَا

(8/516)


أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَلَوْ أَعْطَاهُمْ مِنَ السُّهْمَانِ مَا رَأَيْتُ ذَلِكَ ضِيقًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: يَخْرُجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُتَمِّمَهَا مِنْ سِهَامِ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْعَمَلِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: يُتَمِّمُهَا مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ سَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا ولأن لا يُفَضَّلُوا عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَكِنْ لِلْإِمَامِ اجْتِهَادُ رَأْيِهِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ كَانَ مَذْهَبَنَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ تَمَاسُكٌ يُقْنِعُهُمُ الْبَاقِي بَعْدَ أُجُورِ الْعَامِلِينَ تُمِّمَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا ذَوِي فَاقَةٍ لَا يَتَمَاسَكُونَ بِمَا يَبْقَى تُمِّمَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَتُفَضُّ جَمِيعُ السُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا كَمَا أَصِفُ إن شاء الله تعالى كان الفقراء عشرة والمساكين عشرين والغارمون خمسة وهؤلاء ثلاثة أصناف وكان سهمانهم الثلاثة من جميع المال ثلاثة آلاف فلكل صنف ألف فإن كان الفقراء يغترفون سهمهم كفافا يخرجون به من حد الفقر إلى أدنى الغنى أعطوه وإن كان يخرجهم من حد الفقر إلى أدنى الغنى أقل وقف الوالي ما بقي منه ثم يقسم على المساكين سهمهم هكذا وعلى الغارمين سهمهم هكذا وإذا خرجوا من اسم الفقر والمسكنة فصاروا إلى أدنى اسم الغنى ومن الغرم فبرئت ذممهم وصاروا غير غارمين فليسوا من أهله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَقْسُومٌ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنْ كَمَلُوا قُسِمَتْ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنْ قَلُّوا قُسِمَتْ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْمَوْجُودُونَ بَعْدَ الْعَامِلِينَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ الْفُقَرَاءُ وَالْغَارِمُونَ وَالْمَسَاكِينُ، قُسِمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ سَوَاءً تَسَاوَى أَصْنَافٌ فِي الْأَعْدَادِ وَالْحَاجَةِ أَوْ تَفَاضَلُوا فَإِذَا كَانَ الْفُقَرَاءُ عَلَى الْمَثَلِ الَّذِي صَوَّرَهُ الشَّافِعِيُّ عَشْرَةً وَالْمَسَاكِينُ عِشْرِينَ، وَالْغَارِمُونَ خَمْسَةً، وَقَدْ قُسِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ فَكَانَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ قُسِّمَ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَفَاضَلَتْ حَاجَاتُهُمْ، وَرُبَّمَا تَسَاوَتْ، فَيُقَسَّمُ عَلَى الْحَاجَةِ لَا عَلَى الْعَدَدِ، وَكَذَلِكَ سَهْمُ الْمَسَاكِينِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَيُقَسَّمُ سَهْمُ الْغَارِمِينَ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، كَمَا يُقَسَّمُ مَالُ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى قدر ديونهم لا على أعداد رؤوسهم.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّهُمْ يَبْدَأُ بِالْعَطَاءِ قَبْلَ أَنْ يُعَجِّلَ حُضُورُ أَحَدِهِمْ، وَتَأَخَّرَ الْبَاقُونَ بَدَأَ بِمَنْ تَعَجَّلَ حُضُورُهُ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، وَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا، فَقَدْ قِيلَ: يَبْدَأُ بِأَشَدِّهِمْ حَاجَةً وَأَمَسِّهِمْ

(8/517)


ضَرُورَةً، وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِمَنْ إِذَا فِيضَ عَلَيْهِمْ سَهْمُهُمْ بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ لِتُقْضَى عَلَى الْبَاقِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى اسْتِئْنَافِ قِسْمَتِهَا مِنْهُ.
وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِمَنْ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِيهَا، فَأَمَّا الصِّنْفُ فَيَبْدَأُ بِأَسْبَقِ أَهْلِهِ، فَإِنْ جاؤوا مَعًا بَدَأَ بِأَمَسِّهِمْ حَاجَةً وَضَرُورَةً، فَإِنْ تَسَاوَوْا بَدَأَ بِمَنْ يَرَى، هَذَا كُلُّهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَبِأَيِّهِمْ بَدَأَ مِنَ الْأَصْنَافِ وَالْأَعْيَانِ جَازَ ثُمَّ يُقَسَّمُ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَشَرَةٌ بِحَسَبِ حَاجَاتِهِمْ وَيُقَسَّمُ سَهْمُ الْمَسَاكِينِ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ عِشْرُونَ بِحَسَبِ حَاجَاتِهِمْ، ويقسم سهم الغارمين هو أَلْفٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ خَمْسَةٌ بِحَسَبِ دُيُونِهِمْ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَيْنُ أَحَدِهِمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ ودين الآخر مائتي درهم، ودين الثالث ثلثمائة دِرْهَمٍ، وَدَيْنُ الرَّابِعِ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَدَيْنُ الْخَامِسِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ مَبْلَغُ دَيْنِهِمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةٍ، وَسَهْمُهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ هِيَ ثُلُثَا دَيْنِهِمْ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ دَيْنِهِ ثُلُثَهُ، وَلَوْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَكَانَ كَافِيًا لِجَمِيعِهِمْ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ جَمِيعَ دَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ دَيْنِهِ وَحُبِسَ الْبَاقِي عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا قَسَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَمَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ فَقَدِ اسْتَوْفَوْهَا وَخَرَجُوا بِهَا، إِنِ اسْتَحَقُّوا مِثْلَهَا مِنْ غَيْرِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ مُقَصِّرَةً عَنْ كِفَايَاتِهِمْ، فَإِذَا قَسَّمَهَا فِيهِمْ كَانَ مِنَ الْبَاقِي مِنْ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فِيمَا يَأْتِي مِنْهَا حَتَّى يَسْتَوفُوا قَدْرَ الْكِفَايَاتِ إِنْ أَمْكَنَتْ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ فَإِذَا أَخَذُوا مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ نُقِلَ الْفَاضِلُ عَنْهُمْ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ بَعْضِهِمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ وَسِهَامُ بَعْضٍ مُقَصِّرَةً عَنْ كِفَايَاتِهِمْ فَإِذَا قَسَّمَ الْكَافِيَ عَلَى أَهْلِهِ خَرَجُوا بِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، وَإِذَا قَسَّمَ الْمُقَصِّرُ عَلَى أَهْلِهِ كَانُوا فِي الْبَاقِي مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ بَعْضِهِمْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ وَسِهَامُ بَعْضِهِمْ نَاقِصَةً عَنْ كِفَايَاتِهِمْ، فَإِذَا فَضَّ النَّاقِصَ عَلَى أَهْلِهِ، وَحَبَسَ مِنَ الزَّائِدِ مَا فَضَلَ عَنْ وَفْقِ الْكِفَايَةِ فَفِي مَصْرِفِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَرُدُّ الْفَضْلَ إِلَى أَهْلِ السِّهَامِ الْمُقَصِّرَةِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمَكَانِ أَنْ لَا نَنْقُلَ صَدَقَةً إِلَى غَيْرِهِ، وَفِيهِ مُسْتَحِقُّهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَنْقُلَ الْفَضْلَ عَنِ السِّهَامِ الزِّائِدَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَصْنَافِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ وَلَا تُرَدُّ عَلَى غَيْرِهِمْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْأَعْيَانِ أَنْ لَا يُفَضَّلَ بَعْضُ الْأَصْنَافِ عَلَى بَعْضٍ.

(8/518)


وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ بَعْضِهِمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ وَسِهَامُ بَعْضِهِمْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ فَإِذَا قَسَّمَ الْكَافِيَ وَحَبَسَ الْفَضْلَ الزَّائِدَ عَنْ أَهْلِهِ نُقِلَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَكِنْ إِذَا نَقَلَهَا فَهَلْ يَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ أَوْ تَكُونُ كَالصَّدَقَةِ الْمُبْتَدَأَةِ تُقَسَّمُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ عَلَى وجهين بناء على الوجهين الماضيين:
أحدها: أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ إِذَا قِيلَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي بِتَغْلِيبِ الْأَعْيَانِ وَأَنَّ الْفَاضِلَ يُنْقَلُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ وَلَا يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَاضِلَ يُقَسَّمُ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ عَلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، إِذَا قِيلَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي بِتَغْلِيبِ الْمَكَانِ، وَأَنَّ الْفَاضِلَ يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَا وَقْتَ فِيمَا يُعْطَى الْفَقِيرُ إِلَّا مَا يخرجه من حد الفقر إلى الغنا قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ لَا تَجِبُ لِأَنَّهُ يَوْمَ يُعْطَاهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا وَلَا مَالَ لَهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَفَقِيرًا بِكَثْرَةِ الْعِيَالِ وَلَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا الْغِنَى وَالْفَقْرُ مَا يَعْرِفُ النَّاسُ بِقَدْرِ حَالِ الرِّجَالِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْفَقْرِ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُعْطَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِأَدْنَى الْغِنَى وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَدْنَى الْغِنَى عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ أَدْنَى الْغِنَى خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَلَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِمَنْ تَمَلَّكَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهَا، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أبو حنيفة: إِنَّ أَدْنَى الْغِنَى نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا يُحِلُّ الزَّكَاةَ لِمَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا وَلَا يُعْطَى مِنْهَا نِصَابًا، فَإِذَا مَلَكَ مَالًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ عَقَارٍ وَرَقِيقٍ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ كَدَارٍ يَسْكُنُهَا أَوْ دَابَّةٍ يَرْكَبُهَا أَوْ أَمَةٍ يَسْتَخْدِمُهَا حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ نِصَابٍ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْغِنَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ الدَّائِمَةِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إِمَّا بِضَاعَةً أَوْ تِجَارَةً أَوْ زِرَاعَةً، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: صُنَّاعٌ، وتجار، وأصحاب عقار، وأصحاب مواشي.
فَأَمَّا الصُّنَّاعُ فَكَالْفَلَّاحِينَ وَالْمَلَّاحِينَ وَالنَّجَّارِينَ وَالْبَنَّائِينَ، فَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَكْتَسِبُ بِضَاعَتَهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ عَلَى الدَّوَامِ لِنَفْسِهِ، وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ

(8/519)


يَمْلِكْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَكْتَسِبُ بِضَاعَتَهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ عَلَى الدَّوَامِ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا تَمَامَ كِفَايَتِهِ.
وأما التجار فهم الذي يَسْتَمِدُّونَ أَرْبَاحَ بَضَائِعِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ بِضَاعَةُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ تُرْبِحُهُ غَالِبًا قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَانَ غَنِيًّا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُرْبِحُهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَانَ فَقِيرًا وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ، مَا إِذَا ضَمَّهُ إِلَى بِضَاعَتِهِ رَبِحَ بِهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَتَاجِرِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْبَقْلِيُّ يَكْتَفِي بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ والْبَاقِلَّانِيُّ بِعَشَرَةٍ وَالْفَاكِهَانِيُّ بِعِشْرِينَ وَالْخَبَّازُ بِخَمْسِينَ وَالْبَقَّالُ بِمِائَةٍ وَالْعَطَّارُ بِأَلْفٍ وَالْبَزَّازُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَالصَّيْرَفِيُّ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَالْجَوْهَرِيُّ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَمَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا بِضَاعَتَهُ الَّتِي يَكْتَفِي بِرِبْحِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْهَا حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا تَمَامَ بِضَاعَتِهِ الَّتِي يَكْتَفِي بِرِبْحِهَا حَتَّى إِنَّ الْبَقْلِيَّ إِذَا مَلَكَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ هِيَ كِفَايَتُهُ كَانَ غَنِيًّا وَالْجَوْهَرِيَّ إِذَا مَلَكَ تِسْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ هِيَ دُونَ كِفَايَتِهِ كَانَ فَقِيرًا أَوْ مِسْكِينًا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَصْحَابِ الْعَقَارِ وَالْمَوَاشِي إِنْ كَانَ يَسْتَغِلُّ مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغِلُّ مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا يَشْتَرِي بِهِ مِنَ الْعَقَارِ وَالْمَوَاشِي مَا إِذَا ضَمَّهُ إِلَى مَالِهِ اكْتَفَى بِغَلَّتِهِ عَلَى الدَّوَامِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا أَحْمَدُ فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيٌّ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُمُوشًا أَوْ خُدُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا غِنَاهُ قَالَ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عَدْلُهَا ".
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَجَعَلَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَيْرَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ قَالُوا؛ وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنِصَابٍ مِنْ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ لَهُ كِفَايَةٌ عَلَى الدَّوَامِ قَالُوا: وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْكِفَايَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْتَبِرُوا كِفَايَةَ زَمَانِ الْمُقَدَّرِ أَوْ كِفَايَةَ الْعُمُرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ كِفَايَةُ الْعُمُرِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَأَمَّا الزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ فَلَسْتُمْ فِي اعْتِبَارِهِ بِسَنَتِهِ بِأَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِأَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْكِفَايَةِ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ: أَنَّهُ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْأَلُهُ فَقَالَ: نُؤَدِّهَا عَنْكَ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حتى يؤدها ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ حَتَّى تَكَلَّمَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ بِهِ حَاجَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ سُحْتٌ. فَدَلَّ نَصُّ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ بِالْحَاجَةِ وَتَحْرُمُ بِإِصَابَةِ الْقَوَامِ مِنَ الْعَيْشِ وَهُوَ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ النِّصَابُ، وَلِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْكِفَايَةِ الدَّائِمَةِ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْغِنَى كَالَّذِي لَا

(8/520)


يَمْلِكُ نِصَابًا، وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ وَالْحَاجَةَ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فَجَازَ اجْتِمَاعُ حُكْمِهِمَا، وَهُمَا أَخَذُ الصَّدَقَةِ مِنْهُ بِالنِّصَابِ وَدَفْعُهَا إِلَيْهِ بِالْحَاجَةِ كَالْعُشْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ قِيمَةِ النِّصَابِ مِنَ الْمَتَاعِ وَالْعُرُوضِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ مِلْكُ النِّصَابِ مَانِعًا مِنْهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ ذُو حَاجَةٍ فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى نِصَابٍ كَمَالِكِ الْمَتَاعِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَحْمَدَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ تَحْدِيدَ الْغِنَى فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَنْ كَانَتْ كِفَايَتُهُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ " يَعْنِي لِمَنْ كَانَ مُكْتَفِيًا بِهَا.
وَرَوَى سَهْلُ ابْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَقَدِ اسْتَكْثَرَ مِنَ النَّارِ " قِيلَ: وَمَا يُغْنِيهِ، قَالَ: قدر ما يغذيه ويعشيه وهذا فِيمَنْ يَكْتَسِبُ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ عَشَائِهِ وَغَذَائِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أبي حنيفة بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَهُوَ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ لَيْسَ يَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ كَالْعَامِلِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَكَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْعُشْرُ وَالْعُشْرُ عِنْدَنَا زَكَاةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِلْكِفَايَةِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْكِفَايَةِ لَا يَمْلِكُ النِّصَابَ فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُمْ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو اعْتِبَارُ الْكِفَايَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْعُمُرِ أَوْ بِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا في ذلك، فكان مذهب أبو الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ سَنَةٌ وَذَلِكَ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِأَقَلَّ مِنْهُمَا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بعد سنة، فاعتبر في مستحقها لكافية السَّنَةِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كِفَايَةُ الْعُمُرِ وَلَئِنْ كَانَ الْعُمُرُ مَجْهُولًا فَالْكِفَايَةُ فِيهِ لَا تُجْهَلُ؛ لِأَنَّ كِفَايَةَ الشهر من أجل معينا أَوْ صَنْعَةٍ تَدُلُّ عَلَى كِفَايَةِ الْعُمُرِ وَإِنْ جُهِلَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَمْرَضُ فَيَعْجِزُ عَنِ الكسب أو يغلا السِّعْرُ فَلَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ.
قِيلَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ صَارَ حِينَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ النِّصَابَ فيصير من أهل الصدقة.

مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَأْخُذُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا بِقَدْرِ أُجُورِهِمْ فِي مِثْلِ

(8/521)


كِفَايَتِهِمْ وَقِيَامِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ وَالْمُؤْنَةِ عَلَيْهِمْ فَيَأْخُذُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَيُعْطِي الْعَرِيفَ وَمَنْ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ وَكُلْفَتِهِ وَذَلِكَ خَفِيفٌ لِأَنَّهُ فِي بِلَادِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَيْسَ وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ ذَكَرَهُ فَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِيُبَيِّنَ قَدْرَ مَا يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، فَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا هُمْ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ مِنْهَا صَدَقَةً.
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ أُجْرَةٌ وَلَيْسَ بِصَدَقَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ مَعَ الْغِنَى وَلَوْ كَانَتْ صَدَقَةً حَرُمَتْ عِنْدَهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ عَنِ الصَّدَقَةِ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ الْمُتَمَلِّكِينَ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منع ذَوِي الْقُرْبَى مِنَ الْعَمَلِ عَلَيْهَا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْأُجْرَةِ مَا مَنَعَهُمْ مِنْهَا، وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ صَدَقَةً إِذَا كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا مُسْتَأْجَرِينَ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى فِيهِ مِنَ الْأُجْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ أُجُورِ أَمْثَالِهِمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ أَنْ يُسَمَّى لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَأْجَرِينَ، بِعَقْدٍ كَانَ لَهُمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَنِ اسْتَهْلَكَ عَمَلَهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا وَقِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأَمَانَاتُهُمْ " لَيْسَ يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ غَيْرُ أَمِينٍ وَلَكِنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْرُوفَ الْأَمَانَةِ كَانَتْ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْأَمَانَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا غَيْرُ أَمِينٍ، وَمِنَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا الْعَرِيفُ وَالْحَاشِرُ وَالْحَاسِبُ وَالْكَيَّالُ وَالْعَدَّادُ فَأَمَّا الْعَرِيفُ: فَعَرِيفَانِ: عَرِيفٌ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَعَرِيفٌ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ.
فَأَمَّا الْعَرِيفُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُ أَمْوَالَهُمْ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِيرَانِ أَهْلِ الْمَالِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِجَمِيعِهَا وَبِأَرْبَابِهَا.
وَأَمَّا عَرِيفُ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِيرَانِ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ وَبَاطِنِهَا، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ أُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَأُجْرَتُهُمَا أَقَلُّ لِأَنَّهُمَا مِمَّنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَطْعِ مَسَافَةٍ لِكَوْنِهِمَا مِنْ بَلَدِ الصَّدَقَةِ لَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحَاشِرُ فَحَاشِرَانِ:
حَاشِرٌ لَأَهِلِ السُّهْمَانِ يَقْتَصِرُ عَلَى النِّدَاءِ فِي النَّاحِيَةِ بِاجْتِمَاعِهِمْ لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ، وَهَذَا أَقَلُّهُمَا أُجْرَةً لِكَوْنِهِ أَقَلَّهُمْ تَحَمُّلًا.
وَالثَّانِي: حَاشِرُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ أَنْ يَتْبَعَ الْمَوَاشِيَ سَارِحَةً فِي مَرَاعِيهَا فَاحْتَاجَ إِلَى حَاشِرٍ يَحْشُرُهَا إِلَى مِيَاهِ أَهْلِهَا، وَهَذَا أَكْثَرُهُمَا أُجْرَةً لِكَوْنِهِ أَكْثَرَهُمَا عَمَلًا، وَكِلَاهُمَا أُجْرَتُهُمَا فِي سهم العاملين.

(8/522)


فَأَمَّا الْحَاسِبُ فَهُوَ الَّذِي يَحْسِبُ النُّصُبَ، وَقَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهَا وَمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ، وَأُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ، فَإِنْ كَانَ كَاتِبًا كَانَتْ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَاتِبًا وَكَانَ الْعَامِلُ يَكْتُبُ وَإِلَّا احْتَاجَ إِلَى كَاتِبٍ يَكْتُبُ مَا أُخِذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ مَنْ كُلِّ مَالِكٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ قَدْرُ مَالِهِ وَمَبْلَغُ صَدَقَتِهِ، وَمَا أُعْطِيَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِإِثْبَاتِ أَسْهُمِ كُلِّ وَاحِدٍ وَنَسَبِهِ وَحِلْيَتِهِ وَقَدْرِ عَطِيَّتِهِ، وَكَتَبَ بَرَاءَةً لِرَبِّ الْمَالِ بِأَدَاءِ صَدَقَتِهِ، وَيُعْطَى أُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ.
وَأَمَّا الْعَدَّادُ فَهُوَ الَّذِي يَعُدُّ مَوَاشِيَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَيُعْطَى أُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ.
وَأَمَّا الْكَيَّالُ: فَكَيَّالُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَكَيَّالٌ لِحُقُوقِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَأَمَّا كَيَّالُ الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَفِي أُجْرَتِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا.
وَأَمَّا الْكَيَّالُ لِحُقُوقِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَفِي أُجْرَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالثَّانِي: مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَرُبَّمَا احْتَاجَ الْعَامِلُ إِلَى غَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْأَعْوَانِ فَيَكُونُ أُجُورُ مَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اعْتِبَارِ حَالِهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ عَمَلِهِ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ أَحَدُ أَصْنَافِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَقْسَامِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَقَدْرُ مَا يُعْطَاهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَا يُتَآلَفُ بِهِ قَلْبُهُ فَيُقْلِعُ عن سيء الِاعْتِقَادِ فَإِذَا صَحَّ اعْتِقَادُهُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا أُعْطِيَ مُنِعَ لِئَلَّا يَكُونَ سَهْمُهُمْ مَصْرُوفًا فِي غَيْرِ نَفْعٍ، وَإِنْ أَثَّرَ تَأْثِيرًا لَمْ يُسْتَكْمَلْ مَعَهُ حُسْنُ الِاعْتِقَادِ أُعْطِيَ مِنْ بَعْدُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ حُسْنَ إِسْلَامِهِ وَصِحَّةَ اعْتِقَادِهِ.
مسألة:
قال الشافعي: " وَالْمُكَاتَبُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُعْتَقَ وَإِنْ دَفَعَ إِلَى سَيِّدِهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لِسَهْمِ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَقَدْرُ مَا يُعْطَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُعْتَبَرٌ بِمَا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي عَلَيْهِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ مِنْ آخِرِ نُجُومِهِ أُعْطِيَ جَمِيعَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْسَطِ نُجُومِهِ أُعْطِيَ مَالَ ذَلِكَ النَّجْمِ الَّذِي قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَجُوزُ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْمَالِ أَنْ يُعْطَى مَا عَلَيْهِ مِنْ بَاقِي نُجُومِهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ عِتْقَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَالَ النَّجْمِ قَبْلَ حُلُولِهِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْطَى مَالَ ذَلِكَ النَّجْمِ وَحْدَهُ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ إِعْطَاءُ النَّجْمِ قَبْلَ حُلُولِهِ.
وَالثَّانِي: يُعْطَى الْجَمِيعَ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُعْطَى مَالَ النَّجْمِ قَبْلَ حلوله.

(8/523)


مسألة:
قال الشافعي: " وَيُعْطَى الْغَازِي الْحَمُولَةَ وَالسِّلَاحَ وَالنَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ وَإِنِ اتَّسَعَ الْمَالُ زِيدُوا الْخَيْلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غزاة الصدقات فَلَهُمْ سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ مِنْهَا وَمَا يُعْطَوْنَهُ مِنْهَا مُعْتَبَرٌ بِمُؤْنَةِ غَزْوِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ فِي بَلَدِهِمْ أُعْطُوا النَّفَقَةَ وَالسِّلَاحَ وَالْحَمُولَةَ الَّتِي تَحْمِلُهُمِ وَرِحَالَهُمْ، إِمَّا فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى ظَهْرٍ ثُمَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا فُرْسَانًا أَوْ رَجَّالَةً فَإِنْ كَانُوا فُرْسَانًا أُعْطَوْا نَفَقَاتِ خَيْلِهِمْ ومُؤْنَتِهِمْ فِي ذَهَابِهِمْ وَعَوْدَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا رَجَّالَةً لَا خَيْلَ لَهُمْ فَإِنْ كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا رَجَّالَةً عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُعْطَوُا الْخَيْلَ، وَإِنْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ فُرْسَانًا أُعْطُوا الْخَيْلَ إِذَا عَدِمُوهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ وَلَيْسَ فِيهَا خَيْلٌ وَلَا سِلَاحٌ.
قُلْنَا: لَا يَخْلُو دَافِعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْوَالِيَ فَإِنْ كَانَ دَافِعُهَا رَبَّ الْمَالِ أَعْطَاهُمْ أَثْمَانَ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ لِيَتَوَلَّوْا شِرَاءَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهُ رَبُّ الْمَالِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهَا هُوَ الدَّافِعَ لَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُدْفَعُ إِلَيْهِمْ أَثْمَانُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَهَا رب الْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَنَّ لِلْوَالِي عَلَيْهِمْ وِلَايَةً لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَهُ لَهُمْ وَإِنْ لم يتوله رب المال.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُعْطَى ابْنُ السَّبِيلِ قَدْرَ مَا يُبَلِّغُهُ الْبَلَدَ الَّذِي يُرِيدُ مِنْ نَفَقَتِهِ وَحَمُولَتِهِ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا أَوْ كَانَ ضَعِيفًا وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَرِيبًا وَكَانَ جَلْدًا الْأَغْلَبُ مِنْ مِثْلِهِ لَوْ كَانَ غَنِيًّا الْمَشْيُ إِلَيْهَا أُعْطِيَ مُؤْنَتَهُ وَنَفَقَتَهُ بِلَا حَمُولَةٍ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ وَيَرْجِعَ أُعْطِيَ مَا يَكْفِيهِ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ مِنَ النَّفَقَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالَّذِي يُعْطَاهُ ابْنُ السَّبِيلِ مُعْتَبَرٌ بِكِفَايَتِهِ فِي سَفَرِهِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ وَبُعْدِهِ وَذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ فَيُعْطَى مَا يَكْفِيهِ مِنْ نَفَقَةٍ وَمَؤُونَةٍ، فَإِنْ كَانَ جَلْدًا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فِي سَفَرِهِ لَمِ يُزَدْ عَلَى مَؤُونَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ أَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي بَحْرٍ لَا يَجِدُ مِنَ الرُّكُوبِ بُدًّا أُعْطِيَ مَعَ النَّفَقَةِ كِرَاءَ مَرْكُوبِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَوْدَةَ أُعْطِيَ مَعَ اتِّسَاعِ الْمَالِ نَفَقَةَ الذَّهَابِ وَالْعَوْدَةِ وَنَفَقَةَ مُقَامِ الْمُسَافِرِ وَهُوَ مُدَّةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا أَقْنَعَ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَأْتِي عَلَى السَّهْمِ كُلِّهِ أُعْطِيَهُ كُلَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ابْنُ سَبِيلٍ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى سَهْمٍ، سَهْمٌ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ لَمْ يُزَدْ عَلَيْهِ ".

(8/524)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَخْلُو حَالُ ابْنِ السَّبِيلِ وَكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً وَهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقَصُونَ مِنْهَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ سَهْمَهُمْ بِقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ سَوَاءً كَانَ دَافِعُ الزَّكَاةِ هُوَ الْوَالِي أَوْ رَبُّ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ أُعْطَوْهُ فَإِنْ أُعْطِيَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَحُرِمَ الثَّالِثُ ضُمِنَتْ حِصَّتُهُ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْطِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ فَإِنْ كَانَ رَبَّ الْمَالِ قَسَّمَهُ عَلَى خِيَارِهِ مِنْ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِلَ قَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَوُكِلُوا فِي بَاقِي كِفَايَاتِهِمْ عَلَى مَا يَأْتِي مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ أُعْطِيَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَحُرِمَ الثَّالِثُ ضُمِنَتْ حِصَّتُهُ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ هُوَ الْعَامِلَ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ رَبَّ الْمَالِ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ثُلُثَ سَهْمِهِمُ اعْتِبَارًا بِالْعَدَدِ.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ لَا تَلْزَمُ، وَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ أُعْطُوا مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ الزِّيَادَةِ، وَفِيمَا يُصْنَعُ بِالْفَاضِلِ مِنْ سَهْمِهِمْ وَجْهَانِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ.
وَالثَّانِي: يُنْقَلُ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ.

فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَأَنَّهُمْ كَانُوا عَشَرَةً فَصَاعِدًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُمْ وَفْقًا لِكِفَايَةِ جَمِيعِهِمْ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَسَّمَ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَا يَجُوزَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَإِنِ اقْتَصَرَ الْمُعْطِي عَلَى بَعْضِهِمْ وَحَرَمَ الْبَاقِينَ ضَمِنَ لِمَنْ حَرَمَهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا سَوَاءً كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُمْ يَقْضِي عَنْ كِفَايَةِ جَمِيعِهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ ثُمُنُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ لِأَقَلِّ الْجَمْعِ فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى اثْنَيْنِ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ، وَفِي قَدْرِهَا وَجْهَانِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: الثُّلُثُ.
وَالثَّانِي: قَدْرُ الْأَجْزَاءِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي الْوَالِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَنَّ مَا يُعْطِيهِ رَبُّ الْمَالِ هُوَ بَعْضُ

(8/525)


الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَمَا يُعْطِيهِ الْوَالِي هُوَ جَمِيعُ الصَّدَقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يُفَرِّقَهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَهَذَا قِسْمٌ ثَانٍ.

فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَأَنَّهُ وَجَدَ وَاحِدًا لَمْ يَرَ سِوَاهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ فَيُعْطَى مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَفِيمَنْ يُنْقَلُ إِلَيْهِ الْفَاضِلُ مِنْهُ الْوَجْهَانَ الْمَاضِيَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ.
وَالثَّانِي: إِلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ كُلُّهُ بِقَدْرِ كِفَايَةِ هَذَا الْوَاحِدِ، فَفِي جَوَازِ دَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ السَّهْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ سِوَاهُ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الصِّنْفِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ سِوَاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ السَّهْمِ إِلَّا ثُلُثَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ لِجَمْعٍ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَيُنْقَلُ بَاقِي السَّهْمِ، وَهُوَ ثُلُثَاهُ إِلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ وَلَا يعاد على باقي الأصناف.

مسألة:
قال الشافعي: " ويقسم لِلْعَامِلِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ وَابْنِ السَّبِيلِ بِمَعْنَى الْبَلَاغِ لِأَنِّي لَوْ أَعْطَيْتُ الْعَامِلَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالْغَازِيَ بالاسم لم يسقط عن العامل اسم العامل ما لم يعزل ولا عن ابن السبيل اسم ابن السبيل ما دام مجتازا أو يريد الاجتياز ولا عن الغازي ما كان على الشخوص للغزو ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَصْدُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ تَمْيِيزُ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَأَنَّهُمْ صِنْفَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُعْطَى بِالِاسْمِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: مَنْ يُعْطَى لِمَعْنًى يَقْتَرِنُ بِالِاسْمِ، لَا يُرَاعِي زَوَالَهُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمُعْطَوْنَ بِالِاسْمِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُمْ فَأَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ.
الْفُقَرَاءُ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَسْتَغْنُوا فَيَزُولُ عَنْهُمُ اسْمُ الْفَقْرِ وَالْمَسَاكِينُ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَسْتَغْنُوا فَيَزُولَ عَنْهُمُ اسْمُ الْمَسْكَنَةِ، وَالْمُكَاتَبُونَ يُعْطَوْنَ حَتَّى يُعْتَقُوا فَيَزُولَ عَنْهُمُ اسْمُ الْكِتَابَةِ، وَالْغَارِمُونَ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَقْضُوا دُيُونَهُمْ، فَيَزُولَ عَنْهُمُ اسْمُ الْغُرْمِ، فَأَمَّا الْمُعْطَوْنَ لِمَعْنًى يَقْتَرِنُ بِالِاسْمِ وَلَا يُرَاعَى زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهُ فَأَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ.
الْعَامِلُونَ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ عُمَّالًا.
وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يُعْطَوْنَ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ مُؤَلَّفَةً.

(8/526)


وَالْغُزَاةُ يُعْطَوْنَ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ غُزَاةً، وَبَنُو السَّبِيلِ يُعْطَوْنَ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ بَنِي السَّبِيلِ وَلَا يُرَاعَى فِيهِمْ زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهُمْ كَمَا يُرَاعَى فِيمَنْ تَقَدَّمَهُمْ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَأَيُّ السُّهْمَانِ فَضَلَ عَنْ أَهْلِهِ رُدَّ عَلَى عدد من عدد من بقّى السُّهْمَانِ كَأَنْ بَقَّى فُقَرَاءَ وَمَسَاكِينَ لَمْ يَسْتَغْنُوا وغارمون لم تقض كل دُيُونَهُمْ فَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَإِنِ اسْتَغْنَى الْغَارِمُونَ رُدَّ بَاقِي سَهْمِهِمْ عَلَى هذين السهمين نصفين حتى تنفد السهمان وإنما رد ذلك لأن الله تعالى لما جعل هذا المال لا مالك له من الآدميين بعينه يرد إليه كما ترد عطايا الآدميين ووصاياهم لو أوصي بها لرجل فمات الموصى له قبل الموصي كانت وصيته راجعة إلى ورثة الموصي فلما كان هذا المال مخالفا المال يورث هَهنا لم يكن أحد أولى به عندنا في قسم الله تعالى وأقرب ممن سمى الله تعالى له هذا المال وهؤلاء من جملة من سمى الله تعالى له هذا المال ولم يبق مسلم محتاج إلا وله حق سواه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قُسِّمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ فَكَانَتْ سِهَامُ بَعْضِ الْأَصْنَافِ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ، وَسِهَامُ الْبَاقِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ، لَمْ يُعْطَ الْمُكْتَفُونَ بِبَعْضِ سِهَامِهِمْ إِلَّا قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ، وَنُقِلَ عَنْهُمُ الْفَاضِلُ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ: أَنْ يُرَدَّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ قَصَرَتْ سِهَامُهُمْ عَنْ كِفَايَاتِهِمْ عَلَى مَا وَصَفَهُ مِنَ الْمِثَالِ فِي الْقِسْمَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّهُ يُنْقَلُ الْفَاضِلُ مِنْ تِلْكَ السِّهَامِ إِلَى أَهْلِهَا فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ، ولا يرد على باقي الأصناف لأن لا يفاضل بين الأصناف مع تسوية الله تعال بَيْنَهُمْ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ بِالصَّدَقَةِ عَنْ جِيرَانِ الْمَالِ مَا وُجِدُوا، وَفِي هَذَا عُدُولٌ عَنْهُمْ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا عَدِمَ بَعْضَ الْأَصْنَافِ وَجَبَ رَدُّ سَهْمِهِ عَلَى مَنْ وُجِدَ وَلَا يُنْقَلُ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ عَنْ كِفَايَةِ الْمَوْجُودِينَ يُرَدُّ عَلَى مَنِ احْتَاجَ وَلَا يُنْقَلُ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْوَصَايَا إِذَا ضَاقَتْ وَرَدَّ بَعْضُهُمْ حِصَّتَهُ مِنْهَا رُدَّتْ عَلَى مَنْ بَقِيَ وَلَمْ تُرَدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ كَانَتِ الصدقة بمثابتها، والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " أَمَّا أَهْلُ الْفَيْءِ فَلَا يَدْخُلُونَ عَلَى أَهْلِ الصدقة وأما أهل الصدقة الأخرى فَهُوَ مَقْسُومٌ لَهُمْ صَدَقَتُهُمْ فَلَوْ كَثُرَتْ لَمْ يدخل عليهم غيرهم وواحد مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّهَا فَكَمَا كَانُوا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهَا شَيْئًا ".
قال الماوردي: وهذا كمال قَالَ وَهِيَ جُمْلَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:

(8/527)


أَحَدُهُمَا: تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ.
وَالثَّانِي: تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ.
فَأَمَّا تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَقُلْنَا لِمَنْ قَالَ: الْفَيْءُ لِأَهْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ، وأما الصدقة لأهلها، لا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَهْلُ الْفَيْءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ الْكَلَامِ فِيهِ.
وَأَمَّا تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ مُعْطِيهَا، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُعْطِيَ تَمَيَّزُوا بِالْجِوَارِ فَإِذَا أَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ لِأَهْلِهَا مِنْ جِيرَانِهِ فَإِنِ اكْتَفَوْا بِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ زَكَاةِ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكْتَفُوا جَازَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ زَكَاةٍ أُخْرَى، لِأَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ قَدْ يَتَجَاوَرُونَ فَيَكُونُ فِي جِيرَانِ جَمِيعِهِمْ أَهْلًا لِصَدَقَاتِهِمْ كُلِّهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْمُعْطِيَ فَأَهْلُ عَمَلِهِ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ الَّتِي يَجْبِيهَا، فَإِذَا فَرَّقَهَا فِيهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذُوا، مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ سَوَاءً اكْتَفَوْا بِمَا قَدْ أَخَذُوا مِنَ الصَّدَقَاتِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ لا حق لهم في صدقة ليس مِنْ أَهْلِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " فَكَمَا لَا يَدْخُلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ "، وَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا فَضَلَتْ عَنْ كِفَايَةِ بَعْضِهِمْ فَاحْتَاجَ إِلَيْهَا الْبَاقُونَ أَنَّهَا لَا تُنْقَلُ عَنْهُمْ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَدْخُلُوا عَلَى غَيْرِهِمْ فِي صَدَقَةٍ أُخْرَى لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ فِي الْفَاضِلِ مِنْ صَدَقَاتِ بَعْضِهِمْ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُعْطِيهِ الْعَامِلُ وَبَيْنَ مَا يُعْطِيهِ رَبُّ الْمَالِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يُعْطِي بَعْضَ الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يُعْطِيَ الْآخِذَ مِنْ صَدَقَةٍ أُخْرَى، وَالْعَامِلُ يُعْطِي جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ الْآخِذَ مِنْ صَدَقَةٍ أُخْرَى، وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " وإن اسْتَغْنَى أَهْلُ عَمَلٍ بِبَعْضِ مَا قُسِمَ لَهُمْ وَفَضَلَ عَنْهُمْ فَضْلٌ رَأَيْتُ أَنْ يُنْقَلَ الْفَضْلُ مِنْهُمْ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِمْ فِي الْجِوَارِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَغْنَى أَهْلُ نَاحِيَةٍ بِبَعْضِ صَدَقَاتِهِمْ وَجَبَ نَقْلُ فَاضِلِهَا إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا فَضَلَ عَنْ كِفَايَاتِهِمْ فَكَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِمْ أَحَقَّ بها مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَوْ قَرُبَ مِنْهُمْ بُلْدَانٌ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآخَرِ كَانَ أَقْرَبُ الْبَلَدَيْنِ أَوْلَى مِنْ أَبْعَدِهِمَا سَوَاءً كَانَ الْأَقْرَبُ مِصْرًا أَوْ قَرْيَةً، وَإِنْ كَانَا فِي الْقُرْبِ سَوَاءً نُظِرَ فِي الْعَامِلِ فِي الصَّدَقَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ رَبِّ الْمَالِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي إِخْرَاجِهَا فِي أَيِّ الْبَلَدَيْنِ شَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْوَالِي كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهَا فِي الْبَلَدَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَعُمَّ وَلَيْسَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَعُمَّ، وَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْقُرْبِ إِلَيْهِمْ قَرْيَةً وَبَادِيَةً اسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَانَا كَالْبَلَدَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقُرْبِ وَسَوَاءً كَانَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي جِهَتَيْنِ مِنْ عَمَلٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ عَمَلَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْبَلَدَيْنِ مِنْ وِلَايَةِ هَذَا الْعَامِلِ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ وِلَايَتِهِ فَيَكُونُ الْبَلَدُ الَّذِي هُوَ فِي وِلَايَتِهِ أَوْلَى بِنَقْلِ هَذَا الْفَاضِلِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي ليس فيه ولايته.

(8/528)


مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ ضَاقَتِ السُّهْمَانُ قُسِّمَتْ عَلَى الْجِوَارِ دُونَ النَّسَبِ وَكَذَلِكَ إِنْ خَالَطَهُمْ عَجَمٌ غَيْرُهُمْ فَهُمْ معهم في القسم على الجوار فإن كانوا أهل بادية عند النجعة يتفرقون مرة ويختلطون أخرى فأحب إلي لو قسمها على النسب إذا استوت الحالات وإذا اختلفت الحالات فالجوار أولى من النسب وإن قال من تصدق إن لنا فقراء على غير هذا الماء وهم كما وصفت يختلطون في النجعة قسم بين الغائب والحاضر ولو كانوا بالطرف من باديتهم فكانوا ألزم له قسم بينهم وكان كالدار لهم وهذا إذا كانوا معا أهل نجعة لا دار لهم يقرون بها فأما إن كانت لهم دار يكونون لها ألزم فإني أقسمها على الجوار بالدار (وقال في الجديد) إذا استوى في القرب أهل نسبهم وعدى قسمت على أهل نسبهم دون العدى وإن كان العدى أقرب منهم دارا وكان أهل نسبهم منهم على سفر تقصر فيه الصلاة قسمت على العدى إذا كانت دون ما تقصر فيه الصلاة لأنهم أولى باسم حضرتهم وإن كان أهل نسبهم دون ما تقصر فيه الصلاة والعدى أقرب منهم قسمت على أهل نسبهم لأنهم بالبادية غير خارجين من اسم الجوار وكذلك هم في المنعة حاضرو المسجد الحرام ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: إِنَّ الصَّدَقَةَ إِنْ قَسَّمَهَا الْعَامِلُ لَزِمَهُ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى طَائِفَةٍ حَتَّى يقسمها على جميعهم وإن قسهما رَبُّ الْمَالِ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى طَائِفَةٍ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي جَمِيعِ الصِّنْفِ إِلَّا أَنْ تَتَّسِعَ صَدَقَتُهُ لِجَمِيعِهِمْ فَيَلْزَمُهُ مَعَ الِاتِّسَاعِ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي الْجَمِيعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يُقَسِّمُ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِي جَمِيعِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقَسِّمُ بَعْضَ الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِي بَعْضِ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
والمقدمة الثانية: أن ينقل الصَّدَقَةِ عَنْ مَكَانِهَا لَا يَجُوزُ إِذَا وُجِدَ فِيهِ أَهْلُهَا، وَإِنْ نُقِلَتْ فَقَدْ أَسَاءَ نَاقِلُهَا، وَفِي إِجْزَائِهَا قَوْلَانِ.
فَإِنْ عُدِمَ أَهْلُ السُّهْمَانِ فِي مَكَانِهِمَا نُقِلَتْ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَاتَانَ الْمُقَدِّمَتَانِ فَلَا يَخْلُو قَسْمُ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَنْ يَتَوَلَّاهُ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلُ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْعَامِلُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ صَدَقَاتِ أَمْصَارٍ أَوْ بَوَادٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَدَقَاتِ أَمْصَارٍ لَزِمَهُ أَنْ يُقَسِّمَ صَدَقَةَ كُلِّ مِصْرٍ فِي أَهْلِهِ وَأَهْلُ الْمِصْرِ مَنِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ بُنْيَانُهُ وَأَحَاطَ بِهِمْ سُورُهُ، فَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْ سُورِهِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِبُنْيَانِهِ فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَصَاعِدًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي زَكَاةِ ذَلِكَ الْمِصْرِ حَقٌّ لِكَوْنِهِمْ مِنَ الْمِصْرِ عَلَى سَفَرٍ يُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافُوا إِلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَفِيهِمْ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:

(8/529)


أحدهما: أنهم مستحقون لصدقات المصر وهم كسكانه فِي أَنَّ الْخَارِجَ إِلَيْهِمْ لَا يَكُونُ مُسَافِرًا يستبيح المصر.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي صَدَقَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى بلد من ليس فيه والذي أراه مذهب وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْخَارِجِ عَنِ الْمِصْرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ حُضُورُهُ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ كَانَ مُضَافًا إِلَى أَهْلِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَقَاتِهِمْ كَمَا كَانَ مضافا إليهم في وجوب الجمعة عليهم فِي مِصْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ حُضُورُ الْمِصْرِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى أَهْلِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَقَاتِهِمْ كَمَا لَمْ يُضَفْ إِلَيْهِمْ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ فِي مِصْرِهِمْ، وَهَذَا حُكْمُ صَدَقَاتِ الْأَمْصَارِ إِذَا قَسَّمَهَا الْعَامِلُ فِي أَهْلِهَا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ قَاطِنًا فِي الْمِصْرِ أَوْ طَارِئًا إِلَيْهِ، وَأَقَارِبُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَجَانِبُ؛ لِأَنَّ اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِمْ فِي قِسْمَةِ الْعَامِلِ وَاجِبٌ.

فَصْلٌ:
[صَدَقَاتُ الْبَادِيَةِ]
وَإِنْ كَانَ مَا يُقَسِّمُهُ الْعَامِلُ صَدَقَاتِ بَادِيَةٍ لَا تَضُمُّهُمْ أَمْصَارٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ بِمَكَانٍ قَدِ اسْتَوْطَنُوهُ مِنْ بَادِيَتِهِمْ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا ولا ينقلون عنه لمرعى ولا كلاء، فَهَؤُلَاءِ كَأَهْلِ الْمِصْرِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْمُقَامِ، وَإِنِ اختلفوا في صفات المساكن فَتَكُونُ صَدَقَاتُهُمْ مَقْسُومَةً فِيمَنْ كَانَ نَازِلًا مَعَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ، وَهَلْ يُشْرِكُهُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَمْ لَا عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكونوا ممن ينتجع الْكَلَأَ، وَيَنْتَقِلُ لِطَلَبِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ لَا يَنْفَصِلُ حَالُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَجَمِيعُهُمْ جِيرَانٌ وَإِنْ تَمَيَّزَتْ أَنْسَابُهُمْ فَتُقَسَّمُ الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِهِمْ وَفِيمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَإِنْ تَمَيَّزُوا عَنْهُمْ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ؛ لِأَنَّ الْبَادِيَةَ لَمَّا لَمْ تَضُمَّهُمُ الْأَمْصَارُ رُوعِيَ فِي تَجَاوُرِهِمُ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ جَارًا لِقُرْبِهِ وَمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَكُنْ جَارًا لِبُعْدِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَيَّزَ حَالُهُمْ وَتَنْفَصِلَ كل حلة عن الأخرى، فتقسم زكاة كل حلة عن الأخرى فتقسم زكاة كل حلة عَلَى أَهْلِهَا، وَعَلَى مَنْ كَانَ مِنْهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، هَذَا حُكْمُ الْعَامِلِ إِذَا تَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْبَوَادِي.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِقَسْمِ زَكَاتِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ جَوَازِهِ فِي تَفْضِيلِ حُكْمِ الْمَالِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَوْ مِنَ الْبَوَادِي فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَكُنْ مَنْ خَرَجَ عَنْ مِصْرِهِ مِنْ جِيرَانِهِ، وَلَا مِنْ مُسْتَحِقِّي زَكَاتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا يقسمه العامل؛

(8/530)


لِأَنَّنَا نُرَاعِي فِيمَا يُقَسِّمُهُ رَبُّ الْمَالِ الْجِوَارَ وَفِيمَا يُقَسِّمُهُ الْعَامِلُ النَّاحِيَةَ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ مِصْرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا كَانَ جَمِيعُ أَهْلِهِ جِيرَانَهُ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ فِيهِ أَجَانِبَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوْ جَمِيعُهُمْ أَقَارِبَ لَهُ فَجَمِيعُهُمْ سَوَاءٌ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقَارِبَ لِرَبِّ الْمَالِ وَبَعْضُهُمْ أَجَانِبَ مِنْهُ كَانَ أَقَارِبُهُ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ " يَعْنِي المعادي، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَدَقَتُكَ عَلَى غَيْرِ ذِي رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " فَإِنْ عَدَلَ بِهَا عَنْ أَقَارِبِهِ إِلَى الْأَجَانِبِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْأَقَارِبِ مِنِ طَرِيقِ الْأَوْلَى مَعَ اشْتِرَاكِ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ كَبِيرًا وَاسِعًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يراعى فيه الجوار الخاص والجوار الْعَامُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُرَاعَى فِيهِ الْجِوَارُ الْخَاصُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جِيرَانُهُ مَنْ أُضِيفَ إِلَى مَكَانِهِ مِنَ الْبَلَدِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ إلى أربعين دار من داره، ولا يكون جميع أَهْلُ الْبَلَدِ جِيرَانَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْجِوَارُ الْعَامُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {والجار ذي القربى والجار الجنب} [النساء: آية 36] يَعْنِي الْبَعِيدَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ جِيرَانَهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنْ فَرَّقَهَا فِي غَيْرِ جِيرَانِهِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ كَانَ نَاقِلًا لِزَكَاتِهِ عَنْ مَحَلِّهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَكُونُ نَاقِلًا لَهَا وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ.

فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بَدَوِيًّا، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي حَلَّةٍ قَاطِنًا بِمَكَانِهَا لَا يَظْعَنُ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، فَهِيَ كَالْبَلَدِ وَجَمِيعُهَا جِيرَانٌ سَوَاءً صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْلُغُ وَإِنْ كَبُرَتْ مَبْلَغَ كِبَارِ الْأَمْصَارِ فَيَخُصُّ مِنْهُمْ أَقَارِبَهُ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُمْ إلى الأجانب أجزأ، وَلَا يَكُونُ مَنْ فَارَقَ الْحَلَّةَ جَارًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَارٌ لِلْحَلَّةِ، وَالْوَاحِدُ مِنَ الْحَلَّةِ جِيرَانُهُ أَهْلُ الْحَلَّةِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي حَلَّةٍ يَنْجَعُ الْكَلَأَ وَيَظْعَنُ لِطَلَبِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

(8/531)


أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْحَلَّةُ مُجْتَمِعَةً لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَجَمِيعُ أَهْلِهَا جِيرَانُهُ كَبُرَتْ أَمْ صَغُرَتْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَفَرِّقَةً كَتَمَيُّزِ كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، إِمَّا لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْأَنْسَابِ وَإِمَّا لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْأَسْبَابِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ، فَيَكُونُ جِيرَانُهُ مِنَ الْحَلَّةِ مَنْ يَرْحَلُ بِرَحِيلِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ وَلَا تَكُونُ الْفِرْقَةُ الَّتِي تُخَالِفُهُ فِي الرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ جِيرَانًا لَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقُوا فِي الرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ جَمِيعَ الْحَلَّةِ مِنَ الْفِرَقِ كُلِّهَا جِيرَانٌ لَهُ اعْتِبَارًا بِاتِّفَاقِهِمْ فِي النُّجْعَةِ، وَإِنْ تَفَرَّقُوا فِي الْبُقْعَةِ كَمَا يَتَفَرَّقُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ فِي مَحَالِّهِمْ، وَيَكُونُوا جِيرَةً إِذَا جَمَعَهُمُ الْمِصْرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ جِيرَانَهُ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي بُقْعَتِهِ دُونَ مَنْ فَارَقَهُ اعْتِبَارًا بِالْمَكَانِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنْ عَدَلَ بِزَكَاتِهِ إِلَى غَيْرِ طَائِفَتِهِ مِنْ فِرَقِ الْحَلَّةِ لَمْ يَكُنْ نَاقِلًا لَهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يكون ناقلا لها.

مسألة:
قال الشافعي: " وإذا وَلِيَ الرَّجُلُ إِخْرَاجَ زَكَاةِ مَالِهِ قَسَّمَهَا عَلَى قَرَابَتِهِ وَجِيرَانِهِ مَعًا فَإِنْ ضَاقَتْ فَآثَرَ قَرَابَتَهُ فَحَسَنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنْ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَقَارِبٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا جِيرَانًا أَوْ أَبَاعِدَ، فَإِنْ كَانَ أَقَارِبُهُ جِيرَانًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ أَجَانِبُ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَجَانِبُ فَقَدِ اسْتَحَقُّوا زَكَاةَ ماله بالجوار وجاز الْفَضِيلَةَ بِالْقَرَابَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَجَانِبُ، فَعَلَى ضربين:
أحدهما: أن تسع زَكَاتُهُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ فَيَفُضَّهَا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضِيقَ زَكَاتُهُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ فَأَقَارِبُهُ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَخْلِطَ بِأَقَارِبِهِ نَفَرًا مِنَ الْأَجَانِبِ أَوْ يَتَوَفَّرَ بِهَا عَلَى أَقَارِبِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَفَّرَ بِهَا عَلَى أَقَارِبِهِ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَخْلِطَ بِهِمْ نَفَرًا مِنَ الْأَجَانِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14، 15، 16] فَجَمَعَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَ جِيرَانُهُ أَجَانِبَ وَأَقَارِبُهُ أَبَاعِدَ فَجِيرَانُهُ الْأَجَانِبُ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْأَبَاعِدِ وَقَالَ أبو حنيفة: أَقَارِبُهُ الْأَبَاعِدُ أَوْلَى مِنْ جِيرَانِهِ الأجانب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ امْرِئٍ وَذُو رَحِمِهِ مُحْتَاجٌ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي النَّسَبِ صِفَةٌ لَازِمَةٌ واجتماعهم في

(8/532)


الْجِوَارِ صِفَةٌ زَائِلَةٌ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا وَجَبَتْ بِالنَّسَبِ دُونَ الْجِوَارِ كَانَ اعْتِبَارُ النَّسَبِ فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْجِوَارِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قوله تعالى: {والجار ذي القربى} الْآيَةَ وَعُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ " أَيْ بِقُرْبِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَمَيَّزَ الْأَقَارِبُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ تَمَيَّزَ الْجِيرَانُ بِاسْتِحْقَاقِ الزَّكَوَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جِيرَانُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْ زَكَاتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ جِيرَانُهُ فِي بَلَدِهِ أَوْلَى بها من أقاربه في غير بلده وتحريره قياسا أن قرب الدار أحق بالزكاة من قرب النسب قياسا على دار الْحَرْبِ فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
وَالثَّانِي: عَلَى ذِي الرَّحِمِ الَّذِي يَجِبُ نَفَقَتُهُ، فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ لِلُزُومِ الصِّفَةِ فِي النَّسَبِ دُونَ الْجِوَارِ فَفَاسِدٌ بِالشُّفْعَةِ حَيْثُ رُوعِيَ فِيهَا الْجِوَارُ دُونَ النَّسَبِ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ بِالنَّسَبِ دُونَ الْجِوَارِ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِمْ لِتَمَيُّزِ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ عَنْ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ الْمُحَاسَبُ عليها والمسؤول عَنْهَا وَأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَفْسِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَلِكَ دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنِ اسْتِنَابَةِ الْوَكِيلِ فِيهَا لِأَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِقَبْضِ الْإِمَامِ لَهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِقَبْضِ وَكِيلِهِ لَهَا، فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ وَالْإِمَامُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ ظَاهِرًا فَدَفْعُ زَكَاتِهِ إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ تَفَرُّدِ رَبِّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا عَلَى قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ لَكِنَّهَا عَلَى الْقَدِيمِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ وَعَلَى الْجَدِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ بَاطِنًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى وَتَفَرُّدَ رَبِّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَعُمُّ بِهَا جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى غَيْرِهَا، وَرَبُّ الْمَالِ يَخُصُّ بِهَا بَعْضَهُمْ وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِذَا دَفَعَهَا خَطَأً إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا عَنْهُ، وَلَوْ دَفَعَهَا الْإِمَامُ خَطَأً إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ رَبَّ الْمَالِ أَوْلَى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَا بَاشَرَهُ مَعَ عِبَادَاتِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّا عَوَّلَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَوْسَعُ اجْتِهَادًا فِي مُسْتَحِقِّي زَكَاتِهِ مِنَ الْإِمَامِ؛ وَلِأَنَّهُ أعرف منه بأقاربه وذوي رحمه.
مسألة:
قال الشافعي: " وَأَقَلُّ مَنْ يُعْطَى مِنْ أَهْلِ السُّهُمِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ

(8/533)


كُلَّ صِنْفِ جَمَاعَةٍ فَإِنْ أَعْطَى اثْنَيْنِ وَهُوَ يجد الثالث ضمن ثلث سهم وإن أخرجه إلى غير بلده لم يبن لي أن عليه إعادة لأنه أعطى أهله بالاسم وإن ترك الجوار ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَسْمَ الصَّدَقَةِ يَخْتَلِفُ فِيهَا حَالُ الْعَامِلِ وَحَالُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: إِنَّ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا يُقَسِّمُهُ أَنْ يَعُمَّ بِهِ جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي كُلِّ صِنْفٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْعَامِلَ يُقَسِّمُ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَعُمَّ بِهَا جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقَسِّمُ بَعْضَ الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يُقَسِّمَ سَهْمَ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمْ مَعَ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْحَاجَةِ وَلَا أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الْحَاجَةِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقَسِّمُ ذَلِكَ عَلَى خِيَارِهِ مَعَ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَامِلَ لَمَّا لَزِمَهُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَزِمَهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَرَبُّ الْمَالِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي قَدْرِ الْعَطَاءِ كَمَا كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي تَمَيُّزِ الْعَطَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ الْعَامِلُ؛ فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ كُلَّ صِنْفٍ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَقَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: آية 60] وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَرْقًا بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ، فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخِلَّ بِصِنْفٍ مِنْهُمْ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ كَالْعَامِلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ اسْتِيعَابُ كُلِّ صِنْفٍ بِخِلَافِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ زَكَاةٍ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِجَمِيعِ كُلِّ صِنْفٍ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ صِنْفٍ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ اعْتِبَارًا بِالْحَاجَةِ، فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَ أَجَزَأَهُ، فَإِنْ قَسَّمَهَا عَلَى اثْنَيْنِ مَعَ وُجُودِ الثَّالِثِ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ وَفِي قَدْرِ مَا ضَمِنَهُ، قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ثُلُثُ ذَلِكَ السَّهْمِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ عِنْدَ تَرْكِ الِاجْتِهَادِ فِي التَّفْضِيلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ اعْتِبَارًا بِمَا جُعِلَ مِنَ الْخِيَارِ واللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مسألة:
قال الشافعي: وَإِنْ أَعْطَى قَرَابَتَهُ مِنَ السُّهْمَانِ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْبَعِيدِ مِنْهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ قَرَابَتِهِ أَكْثَرَ مما يعلم من غيرهم وكذلك خاصته

(8/534)


ومن لا تلزمه نفقته من قرابته ما عدا ولده ووالده ولا يعطى ولد الولد صغيرا ولا كبيرا زمنا ولا أخا ولا جدا ولا جدة زمنين ويعطيهم غير زمنى لأنه لا تلزمه نفقتهم إلا زمنى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَقَارِبَ صَاحِبِ الْمَالِ مِنْ مَنَاسِبِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ أَوْلَى بِزَكَاةِ مَالِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُمْ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ.
فَأَمَّا مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ فَهُمُ الْوَالِدُونَ وَالْمَوْلُودُونَ، فَالْوَالِدُونَ الْآبَاءُ، وَالْأُمَّهَاتُ وَالْأَجْدَادُ، وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ.
وَأَمَّا الْمَوْلُودُونَ فَالْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ وَبَنُو الْبَنِينَ وَبَنُو الْبَنَاتِ.
وَأَمَّا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ فَهُمْ مَنْ عَدَا مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْأُخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَمَنِ اتَّصَلَ بِهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَجِبُ نَفَقَةُ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ فَإِذَا كَانَ الْأَقَارِبُ مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ كَانُوا أَوْلَى بِالزَّكَاةِ مِنَ الْأَجَانِبِ الْبُعَدَاءِ سَوَاءً كَانَ يَتَطَوَّعُ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنْ تَطَوَّعَ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ صَارُوا فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ كَمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ.
وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ لَهُ قَطْعَ مَا تَطَّوَّعَ بِهِ مِنَ النَّفَقَةِ فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمُ الصدقة كتطوعه بنفقات الأجانب.

فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ مَسَاكِينَ لِأَنَّهُمْ بِوُجُوبِ نَفَقَاتِهِمْ عَلَيْهِ قَدْ صَارُوا بِهِ أَغْنِيَاءَ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُرْتَفِقًا بِهَا فِي سُقُوطِ نَفَقَاتِهِمْ عَنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَأَمَّا إِنْ كَانُوا مِنَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ سَهْمَ الْعَامِلِينَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ سَهْمَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ فَكَانَ عِوَضًا فَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ إِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَلَمْ يُعْطِهِمْ مِنْهُ إِنْ كَانُوا فَقُرَاءَ، لِأَنَّهُ تَسْقُطُ نَفَقَاتُهُمْ عَنْهُ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُ فَصَارَ مُرْتَفِقًا بِهَا.
وَإِنْ كَانُوا مُكَاتَبِينَ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُكَاتَبِ لَا تَجِبُ عَلَى مُنَاسِبٍ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْغَارِمِينَ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ سَهْمِهِمْ سَوَاءً كَانُوا مِمَّنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ أَوْ مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ، فَلَا يُعْطَى إِلَّا مَعَ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ أدان في المصالح العامة فيعطى مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ؛ لِأَنَّ مَا يُعْطَوْنَهُ يَلْزَمُهُمْ صَرْفُ دُيُونِهِمُ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ يَرْتَفِقُ بِهَا فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهِمْ.
وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْغُزَاةِ أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْرَ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي مَؤُونَةِ

(8/535)


حُمُولَتِهِمْ، وَثَمَنِ سِلَاحِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَنَفَقَاتِ خَيْلِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ وَلَا يُعْطِيهِمْ نَفَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُرْتَفِقًا بِسُقُوطِهَا عَنْهُ.
وَإِنْ كَانُوا مِنْ بَنِي السَّبِيلِ أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِهِمْ كِرَاءَ مَسِيرِهِمْ وَلَمْ يُعْطِهِمْ نَفَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ إِلَّا مَا زَادَ عَلَى نَفَقَةِ الْحَضَرِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُرْتَفِقًا بِهَا فِي سُقُوطِهَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِمْ وَلَا يُقِرُّهُمْ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ دُيُونَهُمْ فَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهَا مَا اخْتَصَّ بِالسَّفَرِ وَالْغَزْوِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة:
قال الشافعي: " ولا يعطي زوجته لأن نفقتها تلزمه فإن ادّانوا أعطاهم من سهم الغارمين وكذلك من سهم ابن السبيل لأنه لا يلزمه قضاء الدين عنهم ولا حملهم إلى بلد أرادوه فلا يكونون أغنياء عن هذا به كما كانوا به أغنياء عن الفقر والمسكنة ".
قال الماوردي: قد مضى الكلام في الْأَقَارِبِ الْمُنَاسِبِينَ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقِيمَةً أَوْ مُسَافِرَةً فَإِنْ كَانَتْ مُقِيمَةً لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُطِيعَةً أَوْ نَاشِزَةً فَإِنْ كَانَتْ مُطِيعَةً تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهَا غَنِيَّةٌ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَاشِزَةً لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهَا وَسَقَطَتْ عَنْهُ بِالنُّشُوزِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكْتَسِبْ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَأَمَّا إِعْطَاءُ الزَّوْجَةِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ فَلَيْسَتْ مِمَّنْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الزَّكَاةِ فَيُعْطَاهُ.
وَأَمَّا مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى لِأَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ هُمُ الرِّجَالُ الْمُقَاتِلَةُ، وَلَوْ قِيلَ: يُعْطَى لَكَانَ مَذْهَبًا لِأَنَّ مَا يُقْصَدُ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الرَّجُلِ وَتَرْغِيبِ قَوْمِهِ فِي الْإِسْلَامِ مَوْجُودٌ فِي الْمَرْأَةِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً أَوْ غَارِمَةً جَازَ أَنْ تُعْطَى مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ دَيْنِهَا وَأَدَاءُ كِتَابَتِهَا، وَأَمَّا مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعْطَاهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَأَمَّا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ فَسَنَذْكُرُ حُكْمَ سَفَرِهَا، فَلَا يَخْلُو أَنْ تُسَافِرَ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ زَوْجِهَا فَإِنْ سَافَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَلَا يُعْطِيهَا مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ حُمُولَتِهَا تَلْزَمُهُ لِأَجْلِ إِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِكَوْنِهَا مَعَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ حُمُولَتُهَا لِخُرُوجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ كَرَاءَ حُمُولَتِهَا؛ لِأَنَّهُ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ وَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِكَوْنِهَا نَاشِزَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِخِلَافِ الْمُقِيمَةِ النَّاشِزَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُقِيمَةَ إِذَا نَشَزَتْ قَدَرَتْ عَلَى النَّفَقَةِ بِتَعْجِيلِ الْمُطَاوَعَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا بِإِذْنِهِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:

(8/536)


أَحَدُهُمَا: فِيمَا يَخْتَصُّ بِزَوْجِهَا فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَحُمُولَتُهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُخْتَصُّ بِهَا فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِغِنَاهَا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ لِأَنَّ حُمُولَتَهَا لَا تَلْزَمُهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقِهِ فَإِنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا لِكَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ حَامِلًا فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ، وَلَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ لِحَظْرِ السَّفَرِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تجب نفقتها لكونها حائلا في طلاق بَائِنٌ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ وطئه بشبهة فإن كانت حائلا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، فَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ لِحَظْرِ السَّفَرِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا يُعْطِيهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجِبُ نَفَقَتُهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَيَجُوزُ لَهَا دَفْعُ زَكَاتِهَا إِلَى زَوْجِهَا مِنَ السِّهَامِ كُلِّهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَمَنْعُ زَكَاةِ صَاحِبِهِ كَالزَّوْجِ إِلَى زَوْجَتِهِ.
وَلِأَنَّهُ وَارِثٌ لَا يَسْقُطُ بِالْحَجْبِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الزَّكَاةِ كَالْأَبِ.
وَلِأَنَّهُ قَدْ تَرْتَفِقُ بِدَفْعِ زَكَاتِهَا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَغْنِي بِهَا فَتَلْزَمُهُ لَهَا نَفَقَةُ مُوسِرٍ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِزَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ عَلَيْهِمْ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى الْوَلَدِ مِنَ الْفَرْضِ فَثَبَتَ أَنَّهُ التَّطَوُّعُ، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يكون أولاده من غيرها.

(8/537)


والثاني: وَهُوَ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ، إِنَّ أَوْلَادَهُ وَإِنْ كَانُوا مِنْهَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَالِغِينَ أَصِحَّاءَ فَسَقَطَتْ نَفَقَاتُهُمْ، وَجَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ نَسَبٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ فَلَمْ تَحْرُمْ بِهِ الصَّدَقَةُ قِيَاسًا عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ مَعَ الزَّوْجَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي اسْتِبَاحَةِ الصَّدَقَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَنْعِ الزَّوْجِ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى زَوْجَتِهِ فَهُوَ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا تَلْزَمُهُ فَمُنِعَتْ مِنْ صَدَقَتِهِ وَنَفَقَتُهُ لَا تَلْزَمُهَا فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ صَدَقَتِهَا وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْأَبِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْحَجْبِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَبَ تَمَيَّزَ بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ فَيُمْنَعُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّوْجُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهَا قَدْ تَرْتَفِقُ بِدَفْعِ زَكَاتِهَا إِلَيْهِ، فَهُوَ أَنَّهَا لَا تَرْتَفِقُ بِالدَّفْعِ، وَإِنَّمَا تَرْتَفِقُ بِمَا قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنَ الْيَسَارِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الزَّكَاةِ كَمَنْ دَفَعَهَا إِلَى غَرِيمٍ لَهُ فَأَخَذَهَا مِنْ بَعْدِ قَبْضِهَا مِنْ دَيْنِهِ جَازَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رِفْقًا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا لِحُصُولِ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ كَذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَأَمَّا آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِينَ جُعِلَ لَهُمُ الْخُمُسُ عِوَضًا مِنَ الصَّدَقَةِ فَلَا يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَاتِ الْمَفرُوضَاتِ وَإِنْ كَانُوا محتاجين وغارمين وهم أهل الشعب وهم صلبية بني هاشم وبني المطلب ولا تحرم عليهم صدقة التطوع وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقلت له أتشرب من الصدقة؟ فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة، وقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الهدية من صدقة تصدق بها على بريرة وذلك أنها من بريرة تطوع لا صدقة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ النَّاسَ فِي صَدَقَتَيِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ يَنْقَسِمُونَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ مِنْهُمْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَتَانِ جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفَرْضِ دُونَ التَّطَوُّعِ.
فَأَمَّا مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ فَهُوَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَدْرِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ.
رَوَى أَبُو رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ".
وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَدَ تَمْرَةً وَقَالَ: " لَوْلَا أَخَافُ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لِأَكَلْتُهَا ".
وَرُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ حَمَلَ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَبَقًا مِنْ رُطَبٍ فَقَالَ: " مَا هَذَا "؟ قَالَ: صَدَقَةٌ، قَالَ: " إِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ " فَحَمَلَ إِلَيْهِ طَبَقًا آخَرَ فَقَالَ: " مَا هَذَا "؟ قَالَ: هَدِيَّةٌ، قَالَ: إِنَّا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عليها ".

(8/538)


وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ صَدَقَةِ الْفَرْضِ تَحْرِيمًا، وَفِي امْتِنَاعِهِ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْهَا تَحْرِيمًا كَالْفَرْضِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل من لحم تصدق به على بريرة وقال: هو لها صدقة لنا وهدية، وَصَدَقَاتُ اللُّحُومِ بِالْمَدِينَةِ كَانَتْ مِنْ ضَحَايَا تَطَوُّعٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْهَا تَنْزِيهًا لَا تَحْرِيمًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَسَاجِدِ وَهِيَ صَدَقَاتٌ وَيَشْرَبُ مِنْ بِئْرِ رُومَةَ بِالْمَدِينَةِ وَبِئْرِ زَمْزَمَ بِمَكَّةَ وَهُمَا صَدَقَتَانِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا كَانَ مِنْ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْأَعْيَانِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مَسْأَلَةً عَلَى الْكَافَّةِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ مِثْلَ صَلَاتِهِ فِي الْمَسَاجِدِ وَشُرْبِهِ مِنَ الْآبَارِ.
وَالَّذِي أَرَاهُ عِنْدِي أَصَحَّ، أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا أَمْوَالًا مُقَوَّمَةً كَانَتْ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةً وَمَا لَمْ تَكُنْ أَمْوَالًا مُقَوَّمَةً كَانَتْ لَهُ مُبَاحَةً، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَشُرْبُهُ مِنْ بِئْرِ رُومَةَ وَزَمْزَمَ، وَلَوْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ الْمُسَيَّلَةُ ثِمَارًا لَا تَحِلُّ لَهُ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي هريرة تحل له.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ - الْفَرْضُ دُونَ التَّطَوُّعِ - فَهُمْ آلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أخذ تمرة من تمرة الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَنَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ فِيهِ بِلِعَابِهَا وَقَالَ كِخْ كِخْ، وَقَالَ: " إِنَّا آَلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ".
وَسَأَلَهُ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ عِمَالَةَ الصَّدَقَاتِ فَغَضِبَ وَقَالَ: " أَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ ".
فَدَلَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ عَلَى تَحْرِيمِ الْفَرْضِ عَلَيْهِمْ.
فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَحَلَالٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ شَرِبَ مِنْ سِقَايَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْكُمِ الصَّدَقَاتُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَوَّضَهُمْ مَالًا وَاحِدًا عَنْ مَالٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ آلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ دُونَ التَّطَوُّعِ فَهُمْ ذُو الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنَّمَا تَحْرُمُ عَلَى آَلِ العباس وآل حمزة وآل الحارث بني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلَى آلِ عَلِيٍّ وَآلِ جَعْفَرٍ وَالْفَضْلِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَى آلِ أَبِي لَهَبٍ وَلَا عَلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَا عَلَى جَمِيعِ بَنِي الْمُطَّلِبِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى

(8/539)


مُنِعَ صَدَقَةَ الْفَرْضِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مُشْتَرِكٌ بَيْنَ جَمِيعِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَكَذَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ حَرَامٌ عَلَى جَمِيعِ بَنِي هَاشِمٍ.
وَأَمَّا مَنْ تَحِلُّ لَهُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ فَهُمْ سَائِرُ النَّاسِ تَحِلُّ لَهُمْ صَدَقَاتُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ بِالْفَقْرِ وَصَدَقَاتُ التَّطَوُّعِ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ قبل.

مسألة:
قال الشافعي: " وَإِذَا كَانَ فِيهِمْ غَارِمُونَ لَا أَمْوَالَ لَهُمْ فَقَالُوا أَعْطِنَا بِالْغُرْمِ وَالْفَقْرِ قِيلَ لَا إِنَّمَا نُعْطِيكُمْ بِأَيِّ الْمَعْنَيَيْنِ شِئْتُمْ فَإِذَا أَعْطَيْنَاهُ بِاسْمِ الْفَقْرِ فَلِغُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّا فِي يَدَيْهِ حُقُوقَهُمْ وَإِذَا أَعْطَيْنَاهُ بِمَعْنَى الْغُرْمِ أَحْبَبْتُ أَنْ يتولى دفعه عنه وإلا فجائز كما يعطى المكاتب فإن قيل ولم لا يعطى بمعنيين؟ قيل الفقير مسكين والمسكين فقير يجمعهما اسم ويتفرق بهما اسم فلا يجوز أن يعطى إلا بأحد المعنيين ولو جاز ذلك جاز أن يعطى رجل بفقر وغرم وبأنه ابن سبيل وغاز ومؤلف فيعطى بهذه المعاني كلها فالفقير هو المسكين ومعناه أن لا يكون غنيا بحرفة ولا مال فإذا جمعا معا فقسم لصنفين بهما لم يجز إلا أن يفرق بين حاليهما بأن يكون الفقير الذي بدئ به أشدهما فقرا وكذلك هو في اللسان ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ جَمَعَ بَيْنَ سَبَبَيْنِ يَسْتَحِقُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا فِيهِمَا كَغَارِمٍ فَقِيرٍ، وَعَامِلٍ مِسْكِينٍ طَلَبَ أَنْ يُعْطَى بِالْفَقْرِ أَوْ بِالْغُرْمِ أَوْ بِالْعِمَالَةِ وَالْمَسْكَنَةِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَكْثَرِ كتبه أنه لا يجوز أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بِهِمَا وَلَا يُعْطَى إِلَّا بِأَحَدِهِمَا وَقَالَ فِي كِتَابِ فَرْضِ الزَّكَاةِ مِنْ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِالسَّبَبَيْنِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى إِلَّا بِأَحَدِ السَّبَبَيْنِ، وَهَذَا هو الأشهر في قَوْلِهِ، وَالْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِهِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى الْأَخْذِ بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ كَمَا لَا يُورَثُ الْمَجُوسِيُّ إِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ قَرَابَتَانِ إِلَّا بِأَحَدِهِمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِالسَّبَبِ الْوَاحِدِ إِذَا انْفَرَدَ بِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِالسَّبَبَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِيهِ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُورَثَ الزَّوْجُ إِذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ لَهَا بِالسَّبَبَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ لَا يُعْطَى إِلَّا بِأَحَدِهِمَا وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَهُمَا وَمَا قَالَهُ فِي فَرْضِ الزَّكَاةِ مِنْ جَوَازِ إِعْطَائِهِ بِالسَّبَبَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ زَكَاتَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِالسَّبَبَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِهِمَا إذا

(8/540)


اتَّفَقَا، فَاخْتِلَافُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ إِلَيْنَا، وَالْآخَرُ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ كَالْعَامِلِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا وَالْغَازِي إِذَا كَانَ مِسْكِينًا، وَاتِّفَاقُهُمَا أَنْ يَكُونَا مَعًا لِحَاجَتِهِ إِلَيْنَا كَالْفَقِيرِ إِذَا كَانَ غَارِمًا وَالْمِسْكِينِ إِذَا كَانَ مُكَاتَبًا، كَمَا أَنَّهُ لَا يُورَثُ أَحَدٌ بِسَبَبَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ كَفَرْضَيْنِ أَوْ نَصِيبَيْنِ، وَيُورَثُ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ فَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُعْطَى بِهِمَا وَكَانَ فَقِيرًا غَارِمًا خُيِّرَ فِي إِعْطَائِهِ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ مِنْ فَقْرٍ وَغُرْمٍ، فَإِنِ اخْتَارَ أَنْ يُعْطَى بِالْفَقْرِ سُلِّمَ إِلَيْهِ وَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ دَيْنِهِ، وَإِنِ اخْتَارَ أَنْ يُعْطَى بِالْغُرْمِ جَازَ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ وَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ بِأَمْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّهُمَا أَوْلَى، قُلْنَا: إِنْ كَانَ بِقَدْرِ دَيْنِهِ كُلِّهِ فَأَوْلَى دَفْعُهُ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَالْأَوْلَى دَفْعُهُ إِلَى الْغَارِمِ لَعَلَّهُ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ فَيَنْمَى، وَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِالسَّبَبَيْنِ أُعْطِيَ بِالْفَقْرِ وَالْغُرْمِ، فَإِنْ كَانَ فِي سَهْمِ الْغُرْمِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ اسْتُبْقِيَ سَهْمُ الْفَقْرِ، وَإِنْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْ دَيْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ سَهْمَ الْفَقْرِ لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ، واللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ".

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ ضُرِبَ عَلَيْهِ الْبَعْثُ فِي الْغَزْوِ وَلَمْ يُعْطَ فَإِنْ قَالَ لَا أَغْزُو وَاحْتَاجَ أُعْطِيَ فَإِنْ هَاجَرَ بَدَوِيٌّ (وَاحتَاجَ) وَاقْتَرَضَ وَغَزَا صَارَ مِنْ أهل الفيء وأخذ فيه ولو احْتَاجَ وَهُوَ فِي الْفَيْءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْفَيْءِ وَيَعُودَ إِلَى الصَّدَقَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمْ مَالُ الْفَيْءِ دُونَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمْ مَالُ الصَّدَقَاتِ دُونَ الْفَيْءِ، وَضَرْبٌ هُمْ مِنْ أهل الصدقة، فَأَمَّا غُزَاةُ أَهْلِ الْفَيْءِ فَهُمُ الْمُقْتَرِضُونَ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ فَهُمْ لَا يُعْطَوْنَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَأَمَّا غُزَاةُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَهُمُ الْمُتَطَوِّعَةُ مِنَ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ الصَّنَائِعِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ إِنْ شَاءُوا غَزَوْا وَإِنْ شَاءُوا أَقَامُوا، فَهَؤُلَاءِ إِذَا أَرَادُوا الْغَزْوَ أُعْطُوا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: كَانَ أَهْلُ الْفَيْءِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مُعْتَرِضًا فِي دِيوَانِهِ ضُرِبَ عَلَيْهِ الْبَعْثُ فِي الْغَزْوِ أَوْ لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهِ فَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالدُّخُولَ فِي أهل الصدقات ليغزوا إِنْ شَاءَ وَيَقْعُدَ عَنْهُ إِنِ اخْتَارَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عَقْدٌ لَازِمٌ وَإِنَّمَا هُوَ جُعَالَةٌ فَيَسْقُطُ رِزْقُهُ مِنْ دِيوَانِ الْفَيْءِ وَيُعْطَى مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَلَوْ أَنَّ أَعْرَابِيًّا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ هَاجَرَ وَأَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْ دِيوَانِ الْفَيْءِ جَازَ أَنْ يُقْرِضَهُ الْإِمَامُ فَإِذَا رَآهُ الْإِمَامُ أَهْلًا لِذَلِكَ، خرج من أهل الصدقات.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِقَابٌ وَلَا مُؤَلَّفَةٌ وَلَا غَارِمُونَ ابْتُدِئَ القسْم عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ أَخْمَاسًا على ما وصفت فإن ضاقت الصدقة قسمت على

(8/541)


عدد السهمان ويقسم بين كل صنف على قدر استحقاقهم ولا يعطى أحد من أهل سهم وإن اشتدت حاجته وقل ما يصيبه من سهم غيره حتى يستغني ثم يرد فضل إن كان عنه ويقسم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَتْ، فَذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ السُّهْمَانِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ فَإِنْ كَمَلُوا قُسِّمَتِ الزَّكَاةُ أَثْمَانًا بَيْنَهُمْ مُتَسَاوِيَةً، وَإِنْ عَدِمُوا نُقِلَتْ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُمْ قُسِّمَتْ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، وَسَقَطَ سَهْمُ مَنْ عَدِمَ إِلَّا الْغُزَاةُ فَإِنَّهُمْ يَسْكُنُونَ الثُّغُورَ فَيُنْقَلُ إِلَيْهِمْ سَهْمُهُمْ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْقَاسِمَ لَهَا.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِقَسْمِهَا سَقَطَ سَهْمُهُمْ إِنْ عَجَزَ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ سَهْمِهِمْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَافْتَرَقَ الْحُكْمُ فِيهِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " فَإِنِ اجْتَمَعَ حَقُّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ دِينَارٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوِ اجْتَمَعَ فِيهِ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ السهمان أو أكثر أعطوه ويشرك بينهم فيه وَلَمْ يُبْدَلْ بِغَيْرِهِ كَمَا يُعْطَاهُ مَنْ أُوصِيَ لَهُمْ بِهِ وَكَذَلِكَ مَا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ يَنْقَسِمُ قَلِيلُهُ وَيَتَجَزَّأُ كَالْحُبُوبِ أُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ حَقَّهُ مِنْهُ وَلَمْ يُشْرِكْ فِيهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الشَّرِيكِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ، كَالْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ فَإِنِ اتَّسَعَتِ الصَّدَقَةُ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَعِيرٍ لَهُ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ لَمْ يُشْرِكْ بَيْنَهُمْ وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَقِّهِ وَإِنْ ضَاقَتِ الصَّدَقَةُ عَنْ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُشْرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ سَوَاءً كَانَتِ الْجَمَاعَةُ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ أَوْ أَصْنَافٍ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ شُرَكَاءَ بِالسَّوِيَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ وَيُقَسِّمُ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ قَبْلَ أَنْ يُمَلِّكَهُ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ الْقِيَمَ في الزكاة لا تجزئ، وَسَوَاءً كَانَ الْقَاسِمُ رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ، لِأَنَّهُمْ أَهَلُ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ بِعَجْزِ أَرْبَابِ السِّهَامِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ الْعَامِلَ الضَّرُورَةُ إِلَى بَيْعِهِ، وَإِمَّا لِعَطَبِ الْحَيَوَانِ وَخَوْفِهِ مِنْ تلفه وإما لبعد المسافة وإحاطة مؤونة نَقْلِهِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَاتَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بَيْعُهُ لِلضَّرُورَةِ، وَقَسْمُ ثَمَنِهِ فِيهِمْ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ بِحَالٍ لِثُبُوتِ الزَّكَاةِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ دُونَ الْعَامِلِ وَأَنَّ لِلْعَامِلِ وِلَايَةً لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَذَلِكَ مَا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ يَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَتَجُوزُ لِلْعَامِلِ دُونَ رَبِّ المال.
مسألة:
قال الشافعي: " وَإِذَا أَعْطَى الْوَالِي مَنْ وَصَفْنَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ نَزَعَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنْ فَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ لِمَنْ يُعْطِيهِ ويأخذه مِنْهُ لَا لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّهُ كُلِّفَ فِيهِ الظَّاهِرَ وَإِنْ تَوَلَّى ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ ففيها قولان أحدهما أنه

(8/542)


يضمن والآخر كالوالي لا يضمن (قال المزني) ولم يختلف قوله في الزكاة أن رب المال يَضْمَنُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي زَكَاةٍ دُفِعَتْ إِلَى مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الظَّاهِرِ فَبَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الْبَاطِنِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ الضَّمَانُ فِيهِ عَلَى الدَّافِعِ وَاجِبًا سَوَاءً كَانَ الدَّافِعُ لَهَا إِمَامًا أَوْ مَالِكًا.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ سَوَاءً كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا.
وَالثَّالِثُ: مَا يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الدَّافِعِ إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَالِكًا فَهُوَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُ عَلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ كَالْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ، فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مُكَاتَبٌ أَوْ غَارِمٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَاتَبٍ وَلَا غَارِمٍ فَعَلَى الدَّافِعِ الضَّمَانُ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَالِكًا؛ لِأَنَّ إِخْلَالَهُ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ تَفْرِيطٌ مِنْهُ، فإن أمكنه استرجاعها من المدفوع إليه مكان مُسْتَرْجِعًا لَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِوُجُوبِ ضَمَانِهَا عَلَيْهِ فَلَوْ دَفَعَهَا بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ شَهِدَتْ بِزُورٍ أَوْ خَطَأٍ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ ضَامِنَةً فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ إِمَامًا ضَمِنَتِ الْبَيِّنَةُ ذَلِكَ لَأَهْلِ السُّهْمَانِ وَكَانَ الْإِمَامُ بَرِيئًا مِنَ الضَّمَانِ وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ مَالِكًا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ ضَامِنَةً لِلْمَالِكِ الَّذِي هُوَ رَبُّ الْمَالِ وَكَانَ وُجُوبُهَا بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي لَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ سَوَاءً كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ يَسْتَحْدِثُهُ كَابْنِ السَّبِيلِ وَالْغَازِي فَلَا يُسَافِرُ ابْنُ السَّبِيلِ وَلَا يَغْزُو الْغَازِي فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فِي الدَّفْعِ سَوَاءً كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا؛ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ قَدْ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْ رَبِّ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مراعا بِإِحْدَاثِ سَفَرٍ أَوْ جِهَادٍ لَكِنَّ عَلَى الدَّافِعِ مُطَالَبَةَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَامُ الزَّكَاةِ بَاقِيًا خَيَّرَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بَيْنَ رَدِّ مَا أَخَذَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ سَفَرًا، وَغَزْوًا، وَإِنْ كَانَ عَامُ الزَّكَاةِ قَدِ انْقَضَى طَالَبَهُ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ كُلِّ عَامٍ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَهْلِهَا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، لَا فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ حَتَّى سَافَرَ وَغَزَا فِي الْعَامِ الثَّانِي نَظَرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ زَكَاةٍ ثَانِيَةٍ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مَا اسْتَحَقَّهُ بِسَفَرِهِ وَغَزْوِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ زَكَاةٍ ثَانِيَةٍ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ بِمَثَابَةِ زَكَاةٍ أُخِّرَتْ مِنْ عَامٍ إِلَى عَامٍ، فَإِنَّهَا تَقَعُ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ، وَإِنْ كَرِهَ التَّأْخِيرَ مَعَ إِمْكَانِ التَّعْجِيلِ فَلَوْ مَاتَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَبْلَ السَّفَرِ وَالْغَزْوِ وَلَمْ يَكُنِ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَ، كَانَ ذَلِكَ تَالِفًا فِي حَقِّ أهل السهمان.

(8/543)


فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ الضَّمَانُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الدَّافِعِ إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ فَيَبِينُ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لا يستحقها لعدم الفقر.
والثاني: وَالثَّانِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهَا مَعَ وُجُودِ الْفَقْرِ لِسَبَبٍ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْأَخْذِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ ظَنَّ بِهِ فَقْرًا فَبَانَ غَنِيًّا، فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَمْ يَجْتَهِدْ عِنْدَ الدَّفْعِ ضَمِنَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا لِأَنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ تَفْرِيطٌ وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ عِنْدَ الدَّفْعِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَهَا إِمَامًا أَوْ وَالِيًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ أَمِيرٌ عَلَيْهَا لَمْ يُفَرِّطْ فِيهَا وَلَكِنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْآخِذِ لَهَا إِنْ كَانَ حَيًّا وَمِنْ تَرِكَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا سَوَاءً شَرَطَ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا زَكَاةٌ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ؛ لِأَنَّ الْوَالِيَ لَا يَدْفَعُ مِنَ الْأَمْوَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَهَا هُوَ رَبَّ الْمَالِ، فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَضْمَنُ كَالْإِمَامِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ بِخِلَافِ الْإِمَامِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ لِلْإِمَامِ عَلَيْهَا وِلَايَةً لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا إِلَّا بِالْعُدْوَانِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْإِمَامَ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ ضَمَانِهَا قَبْلَ الدَّفْعِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا إِلَّا بِتَفْرِيطٍ ظَاهِرٍ وَرَبُّ الْمَالِ مُرْتَهِنُ الذِّمَّةِ بِضَمَانِهَا قَبْلَ الدَّفْعِ فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ ظَاهِرٍ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْيَقِينِ فَلَمْ يَضْمَنْ إِذَا اجْتَهَدَ، وَرَبُّ الْمَالِ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بِيَقِينٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ مَضْمُونَةٌ إِذَا دَفَعَهَا بِالِاجْتِهَادِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا نُظِرَ فِي رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ شَرَطَ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا زَكَاةٌ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْآخِذِ لَهَا إِذَا كَانَ غَنِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عِنْدَ الدَّفْعِ نَظَرَ فِي الْآخِذِ لَهَا فَإِنْ صَدَّقَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ لَزِمَهُ ردها، وإن لم يصدقه من يَلْزَمْهُ رَدُّهَا بِخِلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ يُعْطِي فَرْضًا وَتَطَوُّعًا فَلَمْ يَسْتَرْجِعْ إِلَّا بِشَرْطٍ وَالْإِمَامُ لَا يُعْطِي إِلَّا فَرْضًا وَاجِبًا فَجَازَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ بِغَيْرِ شَرْطٍ؛ وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ فَكَانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ مَقْبُولًا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الْإِمَامِ وَرَبِّ الْمَالِ فِي جَوَازِ الِاسْتِرْجَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ إِحْلَافُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ؟ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخَذَهُ تَعْجِيلٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ إِحْلَافُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ لَزِمَهُ الرَّدُّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَرِّطُ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ التَّعْجِيلَ وَقَالَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ: لَمْ يَشْتَرِطْ، كَانَ لَهُ إِحْلَافُهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا مَعَ الْفَقْرِ لِسَبَبٍ يَمْنَعُ مِنْ

(8/544)


جَوَازِ الْأَخْذِ كَفَقِيرٍ دُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ الْحُرِّيَّةُ فَبَانَ عَبْدًا أَوْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ فَبَانَ كَافِرًا، أَوْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ فَبَانَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الْأَخْذِ لَهَا عِنْدَ الدَّفْعِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالِيًا كَانَ أَوْ مَالِكًا وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْخَطَأَ فِي ذَلِكَ كَالْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ فَلَا يَضْمَنُ إِنْ كَانَ وَالِيًا وَفِي ضَمَانِهِ إِنْ يكون مَالِكًا قَوْلَانِ، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ.
والطريق الثاني: إِنَّ الْخَطَأَ فِي هَذَا أَخَصُّ بِالضَّمَانِ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ إِنْ كَانَ مَالِكًا، وَفِي ضَمَانِهِ إِنْ كَانَ وَالِيًا قَوْلَانِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ وَبَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ يَقِينُ الْفَقْرِ قَطْعًا فَجَازَ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ. وَيُعْلَمُ يَقِينُ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ قَطْعًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ.
مِثَالُهُ: إِنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ أَوْ مُحْدِثٍ لَمْ يُعِدْ صَلَاتَهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ يَقِينَ طَهَارَةِ إِمَامِهِ قَطْعًا، فَإِذَا عَمِلَ فِيهَا عَلَى الظَّاهِرِ لَمْ يُعِدْ، وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ امْرَأَةٍ أَوْ كَافِرٍ، أَعَادَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ يَقِينَ كَوْنِ إِمَامِهِ رَجُلًا مُسْلِمًا فَإِذَا عَمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ أَعَادَ.
وَسَوَّى أبو حنيفة بَيْنَ خَطَأِ الْوَالِي وَالْمَالِكِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ وَبَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَفِيمَا مَضَى دَلِيلٌ كَافٍ.

مسألة:
قال الشافعي: " وَيُعْطَى الْوُلَاةُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ وَالْمَعْدِنِ وَالْمَاشِيَةِ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْوُلَاةُ لَمْ يسع أهلها إلا قسمها فإن جاء الولاة بعد ذلك لم يأخذوهم بها وإن ارتابوا بأحد فلا بأس أن يحلفوه بالله لقد قسمها في أهلها وإن أعطوهم زكاة التجارات والفطرة والركاز أجزأهم إن شاء الله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ كَالثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْمَوَاشِي، وَبَاطِنَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ وَالرَّكَازِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ فَمَا كَانَ مِنْهَا بَاطِنًا لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إِلَى الْإِمَامِ وَجَازَ لِأَرْبَابِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهَا وَقَسْمَهَا فِي أَصْلِهَا وَإِنْ دَفَعُوهَا إِلَى الْوُلَاةِ جَازَ وَمَا كَانَ مِنْهَا ظَاهِرًا فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا كَالْبَاطِنَةِ يَجُوزُ لِأَهْلِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَ زَكَاتِهَا وَلَا يَلْزَمُهُمْ دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ عَلَيْهِمْ دَفْعَ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ عَامِلِهِ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لِأَرْبَابِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهَا بِأَنْفُسِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ عَامِلِهِ عَلَيْهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ.

(8/545)


فَإِنْ تَأَخَّرَ الْإِمَامُ وَعَامِلُهُ وَتَعَذَّرَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ دَفْعُ زَكَاتِهِمْ إِلَيْهِ فَهَلْ لَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ إِخْرَاجُهَا بِأَنْفُسِهِمْ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَتَكُونُ مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ فَيَتَوَلَّى إِخْرَاجَهَا، لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ قَدْرَ مَالٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى غَيْرِهِ لِتَأَخُّرِهِ كَالدُّيُونِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجِبُ عَلَى أَهْلِهَا تَعْجِيلُ إِخْرَاجِهَا بِأَنْفُسِهِمْ إِذَا تَأَخَّرَ الْوَالِي عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِجِهَاتٍ يُمْكِنُ إِيصَالُهُ إِلَيْهَا وَالْوَالِي نَائِبٌ، وَتَأَخُّرُ الْوَالِي النَّائِبِ لَا يُوجِبُ تَأَخُّرَ الْحَقِّ كَالْوَالِي وَالْوَكِيلِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا أَرْبَابُهَا عِنْدَ تَأَخُّرِ الْوَالِي ثُمَّ حَضَرَ فَأَخْبَرُوهُ بِإِخْرَاجِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَلَهُ إِحْلَافُهُمْ إِنِ اسْتَرَابَ بِهِمْ، وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ بِالْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا بِالنُّكُولِ وَقَدْ مَضَى تَعْلِيلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَهْلُ السُّهْمَانِ سِوَى الْعَامِلِينَ حَقَّهُمْ يَوْمَ يَكُونُ القسْم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِلزَّكَاةِ يَكُونُ يَوْمَ الْقَسْمِ وَنَصَّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهَا إِذَا وَجَبَتْ فِي قَرْيَةٍ فَمَاتَ أَحَدُ أَهْلِ السُّهْمَانِ أَنَّ نَصِيبَهُ لِوَارِثِهِ فَجَعَلَهَا مُسْتَحَقَّةً يَوْمَ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ بِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَهَا مُسْتَحَقَّةً يَوْمَ الْوُجُوبِ إِذَا تَعَيَّنَ أَهْلُ السُّهْمَانِ فِيهَا.
مِثْلَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمْ فِي قَرْيَةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ ثَلَاثَةٌ فَمَا دون فيكونوا فِي اسْتِحْقَاقِهَا مُعَيَّنِينَ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُهُمْ لَهَا مُعْتَبَرًا بِيَوْمِ الْوُجُوبِ لَا بَعْدَ الْقَسْمِ، فَلَوْ مات أحدهم كان حقه لوارثه ولو غلب أَوْ أَيْسَرَ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهَا وَلَوْ حَضَرَ الْقَرْيَةَ بَعْدَ الْوُجُوبِ غَرِيبٌ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ.
وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَهَا مُسْتَحَقَّةً يَوْمَ الْقَسْمِ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَهْلُ السُّهْمَانِ فِيهَا مِثْلَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي بَلَدٍ كَبِيرٍ فِيهِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَدَدٌ كَبِيرٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كل صنف ثلاثة ويمنع الباقين، فلا يكونوا فِيهَا مُعَيَّنِينَ فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ يَوْمَ الْقَسْمِ لَا يَوْمَ الْوُجُوبِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَسْمِ لَمْ يُعْطَ وَارِثُهُ وَلَوْ غَابَ أَوْ أَيْسَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلَوْ حَضَرَ غَرِيبٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ الْقَسْمِ أُعْطِيَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(8/546)


باب ميسم الصدقات
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَنْبَغِي لِوَالِي الصَّدَقَاتِ أن يسم كل ما أخذ منها مِنْ بَقَرٍ أَوْ إِبِلٍ فِي أَفْخَاذِهَا وَيَسِمَ الْغَنَمَ فِي أُصُولِ آذَانِهَا وَمِيسَمُ الْغَنَمِ أَلْطَفُ مِنْ مِيسَمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَيَجْعَلُ الْمِيسَمَ مَكْتُوبًا للَّهِ لِأَنَّ مَالِكَهَا أَدَّاهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَتَبَ لِلَّهِ وَمِيسَمُ الْجِزْيَةِ مُخَالِفٌ لِمِيسَمِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهَا أديت صغارا لا أجر لصاحبها فيها وكذلك بلغنا عن عمال عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يسمون وقال أسلم لعمر إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه ندفعها إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا يَقْطُرُونَهَا بِالْإِبِلِ. قال قلت كيف تأكل من الأرض؟ قال عمر أمن نعم الجزية أو من نعم الصدقة؟ قلت لا بل مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ. فَقَالَ عُمَرُ أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أكلها فقلت إن عليها ميسم الجزية قال فأمر بها عمر فنحرت قال فكانت عنده صحاف تسع فلا تكون فاكهة ولا طريفة إلا وجعل منها في تلك الصحاف فيبعث بها إلى أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويكون الذي يبعث به إلى حفصة رضي الله عنها من آخر ذلك فإن كان فيه نقصان كان في حظها قال فجعل في تلك الصحاف من لحم تلك الجزور فبعث به إلى أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأمر بما بقي من اللحم فصنع فدعا عليه المهاجرين والأنصار (قال) ولا أعلم في الميسم علة إلا أن يكون ما أخذ من الصدقة معلوما فلا يشتريه الذي أعطاه لأنه خرج منه لله كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر رضي الله عنه في فرس حمل عليه في سبيل الله فرآه يباع أن لا يشتريه وكما ترك المهاجرون نزول منازلهم بمكة لأنهم تركوها لله تعالى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمِيسَمُ عِنْدَنَا مُسْتَحَبٌّ فِي مَوَاشِي الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة كَرَاهِيَتُهُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى الْعَبَّاسَ وَهُوَ يَسِمُ إِبِلَهُ فِي وُجُوهِهَا فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ لَا تَسِمْ فِي الْوَجْهِ، فَقَالَ: الْعَبَّاسُ وَاللَّهِ لَا وَسَمْتُهَا بَعْدَ هَذَا إِلَّا فِي الْجَاعِرَتَيْنِ.
وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُسْعَدِ بْنِ نُقَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نُقَادَةَ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ:

(8/547)


يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ مُغَفَّلٌ فَأَيْنَ أَسِمُ قَالَ: فِي مَوْضِعِ الْجِرْمِ مِنَ السَّالِفَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اطْلُبْ لِي طِلْبَةً، قَالَ: ابْغِنِي حَلْبَانَةً رَكْبَانَةً غَيْرَ أَنْ لَا تُولَدَ ذَاتَ وَلَدٍ عَنْ وَلَدِهَا.
الْمُغَفَّلُ صَاحِبُ الْإِبِلِ الْغُفْلِ الَّتِي لَا سِمَةَ عَلَيْهَا وَالْجِرْمُ: الزِّمَامُ.
وَالسَّالِفَةُ: مُقَدَّمُ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، وَالْحَلْبَانَةُ: ذَاتُ لَبَنٍ يُحْلَبُ وَالرَّكْبَانَةُ: ذَاتُ ظَهْرٍ يُرْكَبُ، وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ، فَقَالَ عُمَرُ ادْفَعْهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا يَقْطُرُونَهَا بِالْإِبِلِ، قُلْتُ: فَكَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ عُمَرُ: مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ أَمْ مِنْ نَعَمِ 1 الصَّدَقَةِ؟ فَقُلْتُ الْإِبِلُ هِيَ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ: عُمَرُ أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا فَقُلْتُ: إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَنُحِرَتْ الْحَدِيثَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِيسَمَ فِعْلُ الْأَئِمَّةِ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ بِهِ تَمْتَازُ الْأَمْوَالُ مَعَ تَمَيُّزِ مُسْتَحِقِّهَا وَلِيَكُونَ إِذَا ضَلَّتْ سَبَبًا لِرَدِّهَا فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَسْمِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمِيسَمُ مِنْهَا.
وَالثَّانِي: فَالَّذِي يُكْتَبُ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا مَكَانُهُ فَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ صَلُبَ مِنَ الْبَدَنِ وَقَلَّ شَعْرُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَعَلَى أَفْخَاذِهَا وَإِنْ كَانَ فِي الْغَنَمِ فَعَلَى أُصُولِ آذَانِهَا، وَيَكُونُ مِيسَمُ الْغَنَمِ أَلْطَفَ لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَصْبِرُ مِنَ الْأَلَمِ عَلَى مَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا، فَأَمَّا مَا يُكْتَبُ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ، إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهَا صَدَقَةً أَوْ طُهْرَةً أَوْ لِلَّهِ، وَهَذَا أَحَبُّهَا إِلَى الشَّافِعِيِّ تَبَرُّكًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْجِزْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ جِزْيَةً أَوْ يَكْتُبَ صِغَارًا، وَهَذَا اجْتِهَادُ الشَّافِعِيِّ اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَأَمَّا تَمْيِيزُهَا بِجَدْعِ الْأُنُوفِ وَقَطْعِ الْآذَانِ فَمَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/548)


باب الاختلاف في المؤلفة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لا مؤلفة فيجعل سهمهم وسهم سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ مَشْرُوحَةً بِدَلَائِلِهَا وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ مَقْصُورًا عَلَى ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهَا فَاقْتَصَرْنَا مِنْهُ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى تَفْصِيلِ مَا أَوْرَدَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ قَدَّمَهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ:
إِحْدَاهُمَا: فِي سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: فِي سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ.
فَأَمَّا سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ فَإِنَّ أبا حنيفة أَسْقَطَهُ وَزَعَمَ أَنْ لَا مُؤَلَّفَةَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ بِقُوَّةِ الدِّينِ وَإِعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَابِتٌ عَلَى الشَّرْحِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُمْ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ سَهْمًا فَلَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ؛ وَلِأَنَّ مَا بَقِيَ لِلْإِسْلَامِ أَعْدَاءٌ يَلْزَمُ جِهَادُهُمْ بَقِيَ مُؤَلَّفَةٌ يُتَآلَفُ قُلُوبُهُمْ كَالْعَصْرِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ أبا حنيفة زَعَمَ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ مَعَ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي ثَغْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْغُزَاةِ وَالْمُجَاهِدِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ كُرَاعًا وَلَا سِلَاحًا لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفًا إِلَى مَالِكِينَ فَإِنْ تَعَيَّنَ الْغُزَاةُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ تِلْكَ الصَّدَقَاتِ وَاحْتَاجُوا إِلَى كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ فَإِنْ كَانَ قَاسِمُ الصَّدَقَةِ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمْ بِسَهْمِهِمْ كُرَاعًا وَسِلَاحًا وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ عين ماله ليتولوا لأنفسهم شِرَاءَ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مَنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ لِئَلَّا يَصِيرَ رَبُّ الْمَالِ دَافِعَهَا قِيمَةَ زَكَاةٍ إِذْ يَمْنَعُ الشَّافِعِيُّ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ قَاسِمُ الصَّدَقَةِ وَالِيًا فَفِي جَوَازِ اتِّبَاعِهِ ذَلِكَ لَهُمْ وجهان مضيا.

فصل:
قال الشافعي: " وقال بعضهم ابن السبيل من مر يُقَاسِمُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ الصَّدقَاتُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ ثَالِثَةٌ أَرَادَ بِهَا أبا حنيفة حَيْثُ يَقُولُ إِنَّ ابْنَ السَّبِيلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ سَهْمَهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ هُوَ الْمُجْتَازُ بِبَلَدِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُنْشِئِ لِسَفَرِهِ مِنْهُ لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى مَنْ تَنَاوَلَهُ حَقِيقَةُ الِاسْمِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُجْتَازِ وَالْمُنْشِئِ اعْتِبَارًا

(8/549)


بالعموم؛ ولأن المنشئ جاز لِلْمَالِ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْمُجْتَازِ الْغَرِيبِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُعَانَ الْمُجْتَازُ عَلَى بَعْضِ سَفَرِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُعَانَ الْمُنْشِئُ عَلَى جَمِيعِ سفره.

فصل:
قال الشافعي: " وَقَالَ أَيْضًا حَيْثُ كَانَتِ الْحَاجَةُ أَكْثَرَ فَهِيَ واسعة كأنه يذهب إلى أنه فوضى بينهم يقسمونه على العدد والحاجة لأن لكل أهل صنف منهم سهما ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ أَرَادَ بِهَا أبا حنيفة حَيْثُ يَقُولُ: إِنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَلْزَمُ صَرْفُهُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَلَكِنْ يَصْرِفُ فِي أَمَسِّهِمْ حَاجَةً وَيَعْدِلُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ يَصْرِفُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمُسَمَّاةِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ حَقًّا، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْ بَعْضِهِمْ كَمَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْ جَمِيعِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَطَايَا الآدميين من الوصايا إذا سمى فيها أصناف لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا كَانَتْ عَطَايَا الله تعالى أولى؛ ولأنه لو كانت مُعْتَبَرَةً لَبَطَلَ حُكْمُ التَّصَرُّفِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال الشافعي: " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِذَا تَمَاسَكَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ وَأَجْدَبَ آخَرُونَ نُقِلَتْ إِلَى الْمُجدِبِينَ إِذَا كَانُوا يُخَافُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتُ كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَسَمَهُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ لِمَعْنَى صَلَاحِ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ خَامِسَةٌ أَرَادَ بِهَا أبا حنيفة، فَإِنَّهُ جَوَّزَ نَقْلَ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُ الْإِمَامِ إِلَيْهِ فِي شِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَقَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ صَدَقَاتِ قَومِهِمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْمَدِينَةِ قِيلَ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَا فَضَلَ مِنِ جِيرَانِ الْمَالِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ كَانَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ أَقْرَبَ النَّاسِ بِهِمْ نَسَبًا وَدَارًا فَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَوْلَهُمُ ارْتَدُّوا؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَقْتَ الرِّدَّةِ فَلَمْ يَسْتَحِقُّوهَا مَعَ الرِّدَّةِ فَنُقِلَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حُمِلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ إِظْهَارًا لِطَاعَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ كَانُوا مَنَعُوا الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَمَّا أَظْهَرُوا الطَّاعَةَ بِنَقْلِ الزَّكَاةِ رَدَّهَا عليهم ليتولوا قسمها في جيرانهم.
فصل:
قال الشافعي وَأَحْسَبُهُ يَقُولُ وَتُنْقَلُ سُهْمَانُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ إِنْ جَهِدُوا وَضَاقَ الْفَيْءُ وَيُنْقَلُ الْفَيْءُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ إِنْ جَهِدُوا وَضَاقَتِ الصدقات على معنى إرادة صلاح عباد الله (قال الشافعي) وإنما قلت بخلاف هذا القول لأن الله جل وعز

(8/550)


جعل المال قسمين أحدهما في قسم الصدقات التي هي طهرة فسماها الله لثمانية أصناف ووكدها وجاءت سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأن يؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم لا فقراء غيرهم ولغيرهم فقراء فلا يجوز فيها عندي والله أعلم أن يكون فيها غير ما قلت من أن لا تنقل عن قوم وفيهم من يستحقها ولا يخرج سهم ذي سهم منهم إلى غيره وهو يستحقه وكيف يجوز أن يسمي الله تعالى أصنافا فيكونون موجودين معا فيعطي أحد سهمه وسهم غيره ولو جاز هذا هذا عندي جاز أن يجعل في سهم واحد جميع سهام سبعة ما فرض لهم ويعطى واحد ما لم يفرض له والذي يخالفنا يقول لو أوصى بثلثه لفقراء بني فلان وغارمي بني فلان رجل آخر وبني سبيل بني فلان رجلا آخر إن كل صنف من هؤلاء يعطون من ثلثه وأن ليس لوصي ولا وال أن يعطى الثلث صنفا دون صنف وإن كان أحوج وأفقر من صنف لأن كلا ذو حق بما سمي له وإذا كان هذا عندنا وعند قائل هذا القول فيما أعطي الآدميون أن لا يجوز أن يمضي إلا على ما أعطوا فعطاء الله أولى أن لا يجوز أن يمضي إلا على ما أعطى (قال) وإذا قسم الله الفيء وسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن أربعة أخماسه لمن أوجف على الغنيمة للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم ولم نعلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فضّل ذا غناء على من دونه ولم يفضل المسلمون الفارس أعظم الناس غناء على جبان في القسم وكيف جاز لمخالفنا في قسم الصدقات وقد قسمها الله تعالى أمين القسْم بعضا دون بعض وينقلها عن أهلها المحتاجين إليها إلى غيرهم لأن كانوا أحوج منهم أو يشركهم معهم أو ينقلها عن صنف منهم إلى صنف غيره (أرأيت) لو قال قائل لقوم أهل غزو كثير أوجفوا على عدو أنتم أغنياء فآخذ ما أوجفتم عليه فأقسمه على أهل الصدقات المحتاجين إذا كان عام سنة لأنهم من عيال الله تعالى هل الحجة عليه إلا أن من قسم الله له بحق فهو أولى به وإن كان من لم يقسم له أحوج منه وهكذا ينبغي أن يقال في أهل الصدقات وهكذا لأهل المواريث لا يعطى أحد منهم سهم غيره ولا يمنع من سهمه لفقر ولا لغنى وقضى معاذ بن جبل رضي الله عنه أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غير مخلاف عشيرته فعشره وصدقته إلى مخلاف عشيرته ففي هذا معنيان. أحدهما: أنه جعل صدقته وعشره لأهل مخلاف عشيرته لم يقل لقرابته دون أهل المخلاف والآخر: أنه رأى أن الصدقة إذا ثبتت لأهل مخلاف عشيرته لم تحول عنهم صدقته وعشره بتحوله عنهم وكانت كما يثبت بدأ فإن قيل فقد جاء عدي بن حاتم أبا بكر رضي الله عنه بصدقات والزبرقان بن بدر فهما وإن جاءا بها فقد تكون فضلا عن أهلها ويحتمل أن يكون بالمدينة أقرب الناس بهم نسبا ودارا ممن يحتاج إلى سعة من مضر وطيّء من اليمن

(8/551)


ويحتمل أن يكون من حولهم ارتدوا فلم يكن لهم فيها حق ويحتمل أن يؤتى بها أبو بكر رضي الله عنه ثم يردها إلى غير أهل المدينة وليس في ذلك خبر عن أبي بكر نصير إليه فإن قيل فإنه بلغنا أن عمر رضي الله عنه كان يؤتى بنعم من الصدقة فبالمدينة صدقات النخل والزرع والناض والماشية وللمدينة ساكن من المهاجرين والأنصار وحلفاء لهم وأشجع وجهينة ومزينة بها وبأطرافها وغيرهم من قبائل العرب فعيال ساكني المدينة بالمدينة وعيال عشائرهم وجيرانهم وقد يكون عيال ساكني أطرافها بها وعيال جيرانهم وعشائرهم فيؤتون بها وتكون مجمعا لأهل السهمان كما تكون المياه والقرى مجمعا لأهل السهمان من العرب ولعلهم استغنوا فنقلها إلى أقرب الناس بهم وكانوا بالمدينة (فإن قيل) فإن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلٍ كثيرة إلى الشام والعراق فإنما هي والله أعلم من نعم الجزية لأنه إنما يحمل على ما يحتمل من الإبل وأكثر فرائض الإبل لا تحمل أحدا وقد كان يبعث إلى عمر بنعم الجزية فيبعث فيبتاع بها إبلا جلة فيحمل عليها (وقال) بعض الناس مثل قولنا في أن ما أخذ من مسلم فسبيله سبيل الصَّدَقَاتُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ سَادِسَةٌ أَرَادَ بِهَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَلَعَلَّ أبا حنيفة مَعَهُمْ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا نَقْلَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ، وَنَقْلَ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ اعْتِبَارًا بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ النَّقْلِ، هَلْ يُقْضَى مَنْ نُقِلَ عَنْهُ سَهْمُهُ إِذَا اتَّسَعَ مَالُ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَإِنْ جَهِدُوا وَلَا نَقْلُ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِنْ جَهِدُوا، وَيُقَسَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَالَيْنِ فِي أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِكُلِّ مَالٍ مَالِكًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْهُ لِمَا فيه من إبطال النص، ولأنه لما يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْغَنِيمَةِ عَمَّنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا انْقِيَادًا لِحُكْمِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَشَدَّ ضَرُورَةً وَأَمَسَّ حَاجَةً لَمْ يَجُزْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَطَايَا الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْوَصَايَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِهَا عَمَّنْ سُمِّيَتْ لَهُ فَعَطَايَا اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْمَوَارِيثِ عَمَّنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ هُوَ آثَرُ وَأَحْوَجُ، فَكَذَلِكَ مَالُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ؛ وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَسِمُ إبل الصدقة ميسم وإبل الجزية ميسم فَلَوْلَا تَمَيُّزُ الْمُسْتَحَقِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمِثَالَيْنِ لَمَا مَيَّزَ بِالْمِيسَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلٍ كَثِيرَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ جَوَابًا عَنْ هَذَا: إِنَّ عُمَرَ إِنَّمَا كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلِ الْجِزْيَةِ لَا عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ فَرَائِضِ الْإِبِلِ فِي الصَّدَقَاتِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بِنَعَمِ الْجِزْيَةِ فَيَبْعَثُ بِهَا فَيَبْتَاعُ بِهَا إِبِلًا يَحْمِلُ عَلَيْهَا.

(8/552)


فصل:
قال الشافعي: " وقالوا والركاز سبيل الصدقات ورووا ما روينا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي الرَّكَازِ الْخُمُسُ " وَقَالَ " الْمَعَادِنُ مِنَ الرِّكَازِ وَكُلُّ مَا أُصِيبَ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ رِكَازٌ " ثُمَّ عَادَ لَمَّا شَدَّدَ فِيهِ فَأَبْطَلَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ ركازا فواسع لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكْتُمَهُ وَلِلْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا يأخذه منه أو يدعه له فقد أبطل بهذا القول السنة في أخذه وحق الله في قسمه لمن جعله الله له ولو جاز ذلك جاز في جميع ما أوجبه الله لمن جعله له (قال) فإنا روينا عن الشعبي أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَرْبَعَةَ أَوْ خَمْسَةَ آلَافِ درهم فقال علي رضي الله عنه لأقضين فيها قضاء بيّنا أما أربعة أخماس فَلَكَ، وَخُمُسٌ لِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَالَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عليك (قال الشافعي) رحمه الله فهذا الحديث ينقض بعضه بعضا إذ زعم أن عليا قال والخمس لِلْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي مال رجل شيئا ثم يرده عليه أو يدعه له وهذا عن علي مستنكر وقد رووا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ أَنَّهُ قَالَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَكَ وَاقْسِمِ الْخُمُسَ في فقراء أهلك فهذا الحديث أشبه بحديث علي رضي الله عنه لعل عليا علمه أمينا وعلم في أهله فقراء من أهل السهمان فأمره أن يقسمه فيهم (قال الشافعي) رحمه الله وهم يخالفون ما رووا عن الشعبي من وجهين أحدهما أنهم يزعمون أن من كانت له مائتا درهم فليس للوالي أن يعطيه ولا له أن يأخذ شيئا من السهمان المقسومة بين من سمى الله تعالى ولا من الصدقات تطوعا والذي يزعمون أن عليا ترك له خمس ركازه رجل له أربعة آلاف درهم ولعله أن يكون له مال سواها ويزعمون أنه إذا أخذ الوالي منه واجبا في ماله لم يكن له أن يعود عليه ولا على أحد يعوله ويزعمون أن لو وليها هو لم يكن له حبسها ولا دفعها إلى أحد يعوله (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا كَانَ لَهُ أن يكتمها وللوالي أن يردها إليه فليست بواجبة عليه وتركها وأخذها سواء وقد أبطلوا بهذا القول السنة في أن في الركاز الخمس وأبطلوا حق من قسم الله له من أهل السهمان الثمانية فإن قال لا يصلح هذا إلا في الركاز قيل فإن قيل لك لا يصلح في الركاز ويصلح فيما سوى ذلك من صدقة وماشية وعشر زرع وورق فما الحجة عليه إلا كهي عليك؟ والله سبحانه تعالى أعلم ".
قال الماوردي: وهذه مسألة سابقة أَرَادَ بِهَا أبا حنيفة، فَإِنَّهُ جَعَلَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ ثُمَّ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، فَجَعَلَ وَاجِدَ الرَّكَازِ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِظْهَارِهِ لِلْإِمَامِ وَبَيْنَ كَتْمِهِ ثُمَّ جَعَلَ لِلْإِمَامِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الرِّكَازُ، مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِ خُمُسِهِ مِنْهُ وَبَيْنَ رَدِّهِ عَلَيْهِ وَعَوَّلَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ مُنْقَطِعًا: أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَرْبَعَةَ أَوْ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَقْضِيَنَّ فِيهَا قَضَاءً بَيِّنًا، أَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَلَكَ وَخُمُسٌ لِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ

(8/553)


قَالَ: وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ، وَهَذَا خَطَأٌ بَلِ الْخُمُسُ مُسْتَحَقٌّ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي الرَّكَائِزِ الْخُمُسُ " وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الْخُمُسِ عَلَى نَفْسِهِ بِوِفَاقِ أبي حنيفة فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا كَالْعُشْرِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَقَدْ قَالَ الشافعي بعضه ينقض بعضا إذا زَعَمَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إِنَّ الْخُمُسَ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ رَجُلٍ شَيْئًا ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عَنْ عَلِيٍّ مُسْتَنْكَرٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَكَ وَاقْسِمِ الْخُمُسَ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ وهل الحديث أشبه بعلي عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ، وَلِأَنَّ رَدَّ الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَيْءِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَمَنْ وَجَدَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ غَنِيًّا عِنْدَهُ بِبَعْضِهَا وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ يَمْلِكُ غَيْرَهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَدَقَةً هُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا وَلَوْ جَازَ مِثْلُ هَذَا فِي الرِّكَازِ لَجَازَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَتَنَاقُضِ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ.
تَمَّ كِتَابُ الصَّدَقَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، يَتْلُوهُ بِحَوْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ كِتَابُ النِّكَاحِ وَحَسْبُنَا الله ونعم الوكيل.

(8/554)