الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

بسم الله الرحمن الرحيم

مُخْتَصَرٌ فِي النِّكَاحِ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ

أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ نَصًّا فِي كِتَابِهِ وَصَرِيحًا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وانعقد بها سالف إجماع الأمة وتأكد بها سَالِفُ الْعِتْرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أيُّها النَّاسُ النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) {النساء: 1) قَوْلُهُ: " مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " يعني آدم.
" وخلق منها زوجها " يَعْنِي حَوَّاءَ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ حَيٍّ وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مِنْ ضِلْعٍ أَيْسَرَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِ الْخَلْفِ وَهُوَ مِنْ أَسْفَلِ الْأَضْلَاعِ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ: ضِلْعٌ أَعْوَجُ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فَهَمُّهَا فِي الرَّجُلِ وَخُلِقَ الرَّجُلُ مِنَ التُّرَابِ فَهَمُّهُ فِي التُّرَابِ ".
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً) {الروم: 21) فيه تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا حَوَّاءُ خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِ آدَمَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَلَقَ سَائِرَ الْأَزْوَاجِ مِنْ أمثالهم من الرجال والنساء ليستأنسوا إليها؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْأَنَسَةِ مَا لم يجعل من غيرهما.
{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) {الروم: 21) فيهما تأويلان:
أحدهما: أنها المودة والمحبة والرحمة والشفقة قاله السدي.
والثاني: أن المودة الجماع الرحمة الولد قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) {الفرقان: 54) يعني: الماء النطفة، والبشر الإنسان.

(9/3)


والنسب: من تناسب بِوَالِدٍ وَوَلَدٍ وَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْتَهُ إِلَى شَيْءٍ عَرَفْتَهُ بِهِ فَهُوَ مُنَاسَبُهُ، وَفِي الصِّهْرِ هَاهُنَا تَأْوِيلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الرَّضَاعُ قَالَهُ طَاوُسٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمَنَاكِحُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَصْلُ الصِّهْرِ الِاخْتِلَاطُ فَسُمِّيَتِ الْمَنَاكِحُ صِهْرًا لِاخْتِلَاطِ النَّاسِ بِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) {النور: 32) الْآيَةَ وَالْأَيَامَى جَمْعُ أَيِّمٍ وَهِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأَيْمَةِ يَعْنِي الْعُزْبَةَ وَفِي هَذَا الْخِطَابِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُنْكِحُوا أَيَامَاهُنَّ مِنْ أَكْفَائِهِنَّ إِذَا دَعَوْنَ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الأيامى عند الحاجة، وفي قوله " إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ إِلَى النِّكَاحِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ بِهِ عَنِ السِّفَاحِ.
وَالثَّانِي: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ إِلَى الْمَالِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ إِمَّا بقناعة الصالحين، وإما باجتماع الرِّزْقَيْنِ إِلَيْهِ.
رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ دَاوُدَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اطْلُبُوا الْغِنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمِ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) {النور: 32) قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) {النساء: 3) وَفِي هَذَا الشَّرْطِ أَرْبَعُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: يَعْنِي إِنْ خفتم أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى ولا تخافون أن لا تَعْدِلُوا فِي النِّسَاءِ فَقَالَ: كَمَا خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَهَكَذَا خَافُوا أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي النِّسَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ سعيد بن جبير.
الثاني: يَعْنِي إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي نِكَاحِ اليتامى فانكحوا ما حل لكم من غيرهن من النساء. وهو قول عائشة رضي الله عنها.

(9/4)


وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَقُّونَ أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ وَلَا يَتَوَقُّونَ الزِّنَا فَقَالَ: كَمَا خِفْتُمْ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَخَافُوا الزِّنَا وَانْكِحُوا مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، فَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُكْثِرُ التَّزْوِيجَ بِغَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ فَإِذَا كَثُرَ على الواحد منهم مؤن زوجاته وقل ما بيده مد يَدَهُ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ لِلْأَيْتَامِ فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّعَدِّي فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَفِي قَوْلِهِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النِّكَاحِ، وتقديره: فانكحوا النساء نكاحاً طيباً يعني حلالاً، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النساء، وتقديره: فانكحوا من النساء مَا حَلَّ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ فَهَذَا مِنْ كتاب الله تعالى ودال عَلَى إِبَاحَةِ النِّكَاحِ.
أَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وجاءٌ ".
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " تنكاحوا تكاثروا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حَتَى بِالسَّقْطِ ".
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " من أحب فطرتي فليستسن بسنتي ألا وهي النِّكَاحِ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لعكاف بن وداعة الهلالي: أتزوجت، قال: لا، قال أمن إخوان الشياطين أنت إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فمن سنتنا النكاح.
ووري أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَزَمُوا عَلَى جَبِّ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّخَلِّي لِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ فبلغ ذلك رسول الله فَنَهَاهُمْ وَقَالَ: لَا زِمَامَ وَلَا خِزَامَ وَلَا رَهْبَانِيَّةَ وَلَا سِيَاحَةَ وَلَا تَبَتُّلَ فِي الْإِسْلَامِ.

(9/5)


أَمَّا الزِّمَامُ وَالْخِزَامُ فَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ بنو إسرائيل من زم الأنوف، وخزم الترابي وأما الرهبانية فهو اجتناب النساء وترك اللحم.
وأما السياحة فهو تَرْكُ الْأَمْصَارِ وَلُزُومُ الصَّحَارِي.
وَأَمَّا التَّبَتُّلُ فَهُوَ الْوَحْدَةُ وَالِانْقِطَاعُ عَنِ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ عَلَيْهِ مُجْمِعَةٌ وَالضَّرُورَةُ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ غَضِّ الطَّرْفِ وَتَحْصِينِ الْفَرَجِ وَبَقَاءِ النَّسْلِ وَحِفْظِ النَّسَبِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَتْ مَنَاكِحُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: نِكَاحُ الرَّايَاتِ، وَنِكَاحُ الرَّهْطِ وَنِكَاحُ الِاسْتِنْجَادِ وَنِكَاحُ الْوِلَادَةِ.
فَأَمَّا نِكَاحُ الرَّايَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْعَاهِرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَنْصِبُ عَلَى بَابِهَا رَايَةً لِيَعْلَمَ المار بها عهرها فيزني بها فقد قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وبَاطِنَهُ) {الأنعام: 120) تأويلين:
أحدهما: أن ظاهر الإثم أولات الرايات من الزواني وباطنه ذوات الأخذان (لأنهن كن يستحللنه سراً) وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَهُ مَا حُظِرَ مِنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَبَاطِنَهُ الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَأَمَّا نكاح الرهط فهو أن الْقَبِيلَةَ أَوِ الْقَبَائِلَ كَانُوا يَشْتَرِكُونَ فِي إِصَابَةِ الْمَرْأَةِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ أُلْحِقَ بِأَشْبَهِهِمْ بِهِ.
وأما النكاح الِاسْتِنْجَادِ فَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ ولداً نجداً تحسباً، بذلت نفسها لتجيب كل قبيلة وسيدها فلا تلد إلا تحسباً بِأَيِّهِمْ شَاءَتْ.
وَأَمَّا نِكَاحُ الْوِلَادَةِ فَهُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الْمَقْصُودُ لِلتَّنَاسُلِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سفاحٍ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السلام من الأصلاب الذاكية إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَتَقَلُّبكَ فِي السَّاجِدِينَ) {الشعراء: 219) قَالَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى جَعَلَكَ نبياً وكان نور النبوة في أيامه ظَاهِرًا، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ كَاهِنَةً بِمَكَّةَ يُقَالُ لها فاطمة بنت الهرم قَرَأَتِ الْكُتُبَ فَمَرَّ بِهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ يُرِيدُ أَنْ يُزَوِّجَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فَرَأَتْ نُورَ النُّبُوَّةِ فِي وَجْهِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَتْ: هَلْ لَكَ أَنْ تَغْشَانِي وتأخذ مثل الإبل فقال عبد الله.
(أما الحرامُ فلممات دُونَهُ ... وَالْحِلُّ لَا حِلَّ فَاسْتَبِينُهُ)

(9/6)


(فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَبْغِينَهُ ... يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهُ؟ !)

فَلَمَّا تَزَوَّجَ آمِنَةَ وَحَمَلَتْ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ فِي عَوْدِهِ بِفَاطِمَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكِ فيما قلت: قد كان مرة فاليوم لا، فإذا سبعت فَقَالَ: زَوَّجَنِي أَبِي بِآمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الزُّهْرِيَّةِ، فَقَالَتْ: قَدْ أَخَذَتِ النُّورَ الَّذِي قَدْ كَانَ فِي وَجْهِكَ وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
(إِنِّي رَأَيْتُ مَخِيلَةً نشأت ... فتلألأت بحناتم القطر)

(فلمحتها نوراً يضيء به ... ما حوله كإضاءة الفجر)

(ورأيت سقياها حيا بلد ... وقعت به وعمارة القفر)

(ورأيته شرفا أبوه به ... مَا كُلُّ قَادِحِ زَنْدِهِ يُورِي)

(لِلَّهِ مَا زهرية سلبت ... منك الذي اسْتَلَبَتْ وَمَا تَدْرِي)

فَصْلٌ
فَأَمَّا اسْمُ النِّكَاحِ فهو حقيقة في العقد فجاز فِي الْوَطْءِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ حقيقة في الوطء فجاز فِي الْعَقْدِ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ جعل اسم النكاح حقيقة الْوَطْءِ حَرَّمَ بِوَطْءِ الزِّنَا مَا حُرِّمَ بِالنِّكَاحِ، وَمَنْ جَعَلَهُ حَقِيقَةً فِي الْعَقْدِ لَمْ يُحَرِّمْ بِوَطْءِ الزِّنَا مَا حُرِّمَ بِالنِّكَاحِ عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ وَدَلِيلُهُ، لَكِنَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أنه حقيقة في الْعَقْدِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ؛ وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَمَّا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ اسْمًا لِلْعَقْدِ حَقِيقَةً كَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ النِّكَاحِ فِي الْعَقْدِ أَكْثَرُ، وَهُوَ بِهِ أَخَصُّ وَأَشْهَرُ وَهُوَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ أَظْهَرُ قَالَ الشَّاعِرُ:
(بَنُو دارمٍ أكفاؤهم آل مسمعٍ ... وتنكح في أكفائها الخطبات)

(9/7)


بَابُ مَا جَاءَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأزواجه
مسألة
قال الشافعي رحمه الله: " إن الله تبارك وتعالى لما خص بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ وَحْيِهِ وَأَبَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ لِيَزِيدَهُ بِهَا إِنْ شَاءَ الله قربةً وَأَبَاحَ لَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَى خَلْقِهِ زِيَادَةً في كرامته وتبييناً لفضيلته ".
قال الماوردي: وهذا فَصْلٌ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مَعَ بَقِيَّةِ الْبَابِ مِنْ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " لِلشَّافِعِيِّ فَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَيْهِ إِيرَادَ ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِهِ لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنَّا فيما خص به الرسول من تخفيف وَلِوَفَاةِ زَوْجَاتِهِ الْمَخْصُوصَاتِ بِالْأَحْكَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا التَّشَاغُلُ بِمَا لَا يَلْزَمُ عَمَّا يَجِبُ وَيَلْزَمُ، فَصَوَّبَ أَصْحَابُنَا مَا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ وَرَدُّوا على هذا المعترض بما ذكروه من فرض الْمُزَنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدَّمَ مَنَاكِحَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تبركاً بها وَالتَّبَرُّكُ فِي الْمَنَاكَحِ مَقْصُودٌ كَالتَّبَرُّكِ فِيهَا بِالْخُطَبِ.
والثاني: أن سبق العلم بأن الأمة لا تساوي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مناكحته وَإِنْ سَاوَتْهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى مَا حُظِرَ عَلَيْهِ، ابتدأ به.

فصل
فأما قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِمَا خَصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ وَحْيِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لِمَا خَصَّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَالْأُخْرَى لَمَّا خَصَّ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، فَمَنْ رَوَى بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجَعَلَ " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي، وَاللَّامَ قَبْلَهَا لِلْإِضَافَةِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِأَجْلِ الَّذِي خص بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ وَحْيِهِ وَمَنْ رَوَى بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ وَجَعَلَ " مَا " بِمَعْنَى بَعْدَ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خص بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ وَحْيِهِ، وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ جَائِزَةٌ وَالْأُولَى أَظْهَرُ وَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصًا بِالْوَحْيِ وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) {النساء: 163) فَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ خُصَّ بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ عَصْرِهِ حَتَّى بُعِثَ رَسُولًا إِلَى جَمِيعِهِمْ فَكَانَ مَخْصُوصًا بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنِهِمْ.

(9/8)


وَالثَّانِي: أَنَّهُ خُصَّ بِانْتِهَاءِ الْوَحْيِ وَخَتْمِ النُّبُوَّةَ حَتَّى لَا يَنْزِلَ بَعْدَهُ وَحَيٌّ وَلَا يُبْعَثَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ فَصَارَ خَاتَمًا لِلنُّبُوَّةِ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً حَتَّى بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بعثت إلى الأحمر والأسود " وفيه تأويلان:
أحدهما: إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ.
وَالثَّانِي: إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خُصَّ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ الَّذِي يَبْقَى إِعْجَازُهُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ ويعجز عن معارضته أهل كل عصره، وَلَيْسَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَى مَنْ قَبْلِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِعْجَازٌ يَبْقَى فَصَارَ بِهَذَا الْوَحْيِ مَخْصُوصًا.

فصل
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَأَبَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بما فرض عليهم من طاعته " وطاعة أولي الأمر واجبة لوجوب طاعته قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُوا , الرَّسُولَ وَأُوُلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) {النساء: 59) وَفِي أُولِي الْأَمْرِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ.
وَالثَّالِثُ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، فَأَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ كَمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَيْنَ مَوْضِعُ الْإِبَانَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ؟ وَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ لِتَبَايُنِهِمْ عَنْهُ، وَقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ فَصَارَ هُوَ الْمَخْصُوصَ بِهَا دُونَهُمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَاجِبَةٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ مُخْتَصَّةٌ بِأُمُورِ الدُّنْيَا دُونَ الدِّينِ فَتَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ بَاقِيَةٌ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَطَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مُخْتَصَّةٌ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَبَقَاءِ نَظَرِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ الْإِبَانَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ لِيَزِيدَهُ بِهَا إِنْ شاء الله تعالى قربة وَأَبَاحَ لَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَى خَلْقِهِ زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَتَبْيِينًا لِفَضِيلَتِهِ ".
وَهَذَا صَحِيحٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرِّسَالَةِ وَفَرَضَ الطَّاعَةَ حَتَّى يُمَيَّزَ بِهِمَا عَلَى جميع المخلوقات وميزه عَنْهُمْ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَغْلِيظٌ.
وَالْآخَرُ: تَخْفِيفٌ.
فَأَمَّا التَّغْلِيظُ فَهُوَ أَنْ فَرْضُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ، وَذَلِكَ لأمرين:

(9/9)


أَحَدُهُمَا: لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَقْوَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَأَصْبِرُ عَلَيْهَا مِنْهُمْ.
وَالثَّانِي: لِيَجْعَلَ أَجْرَهُ بِهَا أَعْظَمَ مِنْ أُجُورِهِمْ وَقُرْبَهُ بِهَا أَزْيَدَ مِنْ قُرْبِهِمْ.
وَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِتَظْهَرَ بِهَا كَرَامَتُهُ وتبين بِهَا اخْتِصَاصُهُ وَمَنْزِلَتُهُ.
وَالثَّانِي: لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَا خصه مِنَ الْإِبَاحَةِ لَا يُلْهِيهِ عَنْ طَاعَتِهِ، وَإِنْ أَلْهَاهُمْ وَلَا يُعْجِزُهُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ، وَإِنْ أَعْجَزَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْدَرُ وَبِحَقِّهِ أَقُومُ فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " لِيَزِيدَهُ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قُرْبَةً إليه " كان على شك فيه حتى استثنى بمشيئة اللَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ: لَيْسَتْ شَكًّا وَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَحْقِيقٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى إِذَا شَاءَ اللَّهُ، وَتَكُونُ بمعنى، إذ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللهُ آمِنينَ) {الفتح: 27) .

مسألة
" فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ زَوْجَةً فليس عليه تخييرها وأمر عليه الصلاة والسلام أَنْ يُخَيِّرَ نَسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنَاكِحِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كِتَابُ النِّكَاحِ فَأَوْرَدَ مَا اخْتُصَّ بِالنِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْهُ مِنْ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " فَأَوْرَدَ مِنْهُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، فَمِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا خُصَّ بِهِ تَغْلِيظًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خلقه، فقال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً، وَإنْ كُنْتُنَّ تُرْدْنَّ اللهَ وَرَسُولََهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فإنَّ اللهَ أَعَدَّ للْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) {الأحزاب: 28، 29) ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا خَيَّرَهُنَّ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ وَبَيْنَ اخْتِيَارِ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ، ولم يخيرهن الطَّلَاقَ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خيرهن بين الطلاق أو المقام، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ هَذَا التَّخْيِيرِ عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ:

(9/10)


أَحَدُهَا: أَنَّ نِسَاءَهُ تَغَايَرْنَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُنَّ شَهْرًا فَأُمِرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا وَقُلْنَ: نُرِيدُ ما تريد النِّسَاءَ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَطَالَبْنَهُ وَكَانَ غَيْرَ مستطيع فأمر بتخييرهن (حكاه النقاش) .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ امْتِحَانَ قُلُوبِهِنَّ لِيَرْتَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْرَ نِسَاءِ خَلْقِهِ، فَخَيَّرَهُنَّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ، فَخَيَّرَهُنَّ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ فَلَمَّا أَجَبْنَ إِلَى ذَلِكَ أَمْسَكَهُنَّ، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تعالى خير نبيه بين الغنى وبين الفقر، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ يَا مُحَمَّدُ جعلت لك جبالاً ذَهَبًا فَقَالَ صِفْ لِي الدُّنْيَا فَقَالَ حَلَالُهَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عَذَابٌ، فَاخْتَارَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى وَالْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ: لِأَنْ أَجُوعَ يَوْمًا فأحبروأشبع يَوْمًا فَأَشْكُرُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ فَحِينَئِذٍ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ، لِمَا فِي طِبَاعِ النِّسَاءِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ التَّخْيِيرُ بَدَأَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَائِشَةَ وَكَانَتْ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ وَأَحْدَثَهُنَّ سِنًّا - فتلا عليها آية التخيير - حتى تستأمري أَبَوَيْكِ -، لِأَنَّهُ خَافَ مَعَ حُبِّهِ لَهَا أَنْ تُعَجِّلَ لِحَدَاثَةِ سِنِّهَا فَتَخْتَارُ الدُّنْيَا، فَقَالَتْ: أَفَيَكَ يا رسول الله استأمر أبويّ، قَدِ اخْتَرْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَكْتُمَ عَلَيْهَا اخْتِيَارَهَا عِنْدَ أَزْوَاجِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ما كان النبي أَنْ يَغُلَّ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ تَقُولُ: مَا اخْتَارَتْ عَائِشَةُ، فَيَقُولُ: اخْتَارَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الضَّحَّاكِ الْكِلَابِيَّةِ وَكَانَتْ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ فَقَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ الحياة الدنيا وزينتها فَسَرَّحَهَا فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وُجِدَتْ تَلْقُطُ الْبَعْرَ وَهِيَ تَقُولُ اخْتَرْتُ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة فلا دنيا ولا أخرة.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَخْيِيرِهِنَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حُكْمِ الِاخْتِيَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ وَبَيْنَ اخْتِيَارِ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ طَلَاقٌ حَتَّى يُطَلِّقَهُنَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ إِنِ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا كَمَا طَلَّقَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الضَّحَّاكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) {الأحزاب: 28) . والسراح الجميل يحتمل ثلاث تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الصَّرِيحُ مِنَ الطَّلَاقِ دُونَ الْكِنَايَةِ لِئَلَّا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أقل من ثلاث لتمكن فيه الرجعة.

(9/11)


وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوَفِّيَ فِيهِ الصَّدَاقَ وَيَدْفَعَ فِيهِ الْمُتْعَةَ فَإِنْ طَلَّقَ الْمُخْتَارَةَ مِنْهُنَّ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقُهَا بَائِنًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ كَطَلَاقِ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ رَجْعِيًّا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونَ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَلَّظَ عَلَيْهِ فِي التَّخْيِيرِ فَيُغَلَّظُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَفِي تَحْرِيمِهِنَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمْنَ عَلَى التأبيد يكون سَرَاحًا جَمِيلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ حَرُمْنَ عَلَى الْأَبَدِ، لِأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ فَلَمْ يَكُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا حُكْمُهُنَّ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَخْيِيرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا كَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِنَّهُ خيرهن بين الطلاق أو المقام فَتَخْيِيرُ غَيْرِهِ مَنْ أُمَّتِهِ يَكُونُ كِنَايَةً يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ فِي تَخْيِيرِهَا وَإِلَى نية الزوجة في اختيارها.
وقال مالك: وهو صَرِيحٌ، فَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا كَانَ صَرِيحًا في طلقه بائن.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ صَرِيحًا في طلقه بائن لا يرجع فيه إلى نية أحد منهما، وللكلام عليهما مَوْضِعٌ يَأْتِي.
وَأَمَّا تَخْيِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ففيه وجهان:
أحدهما: أنه كناية لتخيير غَيْرِهِ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنه صريح في الطلاق لا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ عَلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ هَلْ يَكُونُ بَائِنًا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الأبد أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، ثم تخيير غيره من أمته يراعى في اختيار الزوجة على الفور فمتى تَرَاخَى اخْتِيَارُهَا بَطُلَ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ فِي تَعْجِيلِ قَبُولِهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَأَمَّا تَخْيِيرُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُنَّ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى فِيهِ تَعْجِيلُ الِاخْتِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ تراخى بطل حكمه، لما ذكرنا من اعتبار بِقَبُولِ الْهِبَةِ الَّتِي هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ فِيهَا سَوَاءٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ عَلَى التراخي لما اختصصن به من النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَائِشَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ خَيَّرَهَا: " اسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ " فَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لَكَانَ بالاستئمار يبطل الاختيار.

فصل
فأما أَنَّهُ التَّخْيِيرُ فَفِيهَا دَلَائِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أُعْسِرَ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فَلَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتْعَةَ تَجِبُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ.
وَالثَّالِثُ: جَوَازُ تَعْجِيلِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ تَعْجِيلُ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ قَبْلَ الْوُجُوبِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ السَّرَاحَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، وَاللَّهُ أعلم.

(9/12)


مسألة
قال الشافعي: " فقال تَعَالَى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (الأحزاب: 52) ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَخْيِيرَ نِسَائِهِ فَاخْتَرْنَهُ حَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ وَحَظَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهِنَّ اسْتِبْدَالًا بِهِنَّ فَخَصَّهُ بِتَحْرِيمِ طَلَاقِهِنَّ وَتَحْرِيمِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَمُكَافَأَةً لَهُنَّ عَلَى صَبْرِهِنَّ مَعَهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فقال سبحانه تَعَالَى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ولاَ أَنْ تَبَدّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} لا يحل لك النساء من بعد نساءك اللَّاتِي خَيَّرْتَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وِرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَهُنَّ التِّسْعُ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ بَعْدَ الْعَاشِرَةِ الَّتِي فَارَقَهَا فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِنَّ وَمَمْنُوعًا مِنْ غَيْرِهِنَّ وَإِنَّ أَعْجَبَهُ حُسْنُهُنَّ.
وَقِيلَ: إِنَّ الَّتِي أَعْجَبَهُ حُسْنُهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بَعْدَ قَتْلِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْهَا فَجَازَاهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ طَلَاقِهِنَّ وَالتَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ، لأنه أحب الأشياء إلى النساء إذا اخترنا أزواجهن أن جازاهن بالجنة في الآخرة لقول الله تَعَالَى: {وَإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) {الأحزاب: 29) .
وَالْمُحْسِنَاتُ هُنَّ الْمُخْتَارَاتُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والأجر العظيم هي الجنة، وأن اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُنِ فِي الدُّنْيَا وَفَضَّلَهُنَّ عَلَى غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ بِتِسْعِ خصالٍ نَذْكُرُ تَفْصِيلَهَا مِنْ بَعْدُ مَشْرُوحَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مسألة
قال الشافعي: " قالت عائشة رضي الله عنها مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ قَالَ كَأَنَّهَا تَعْنِي اللَّاتِي حَظَرَهُنَّ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرَنَا في حظر اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في طَلَاقِ نِسَائِهِ بَعْدَ تَخْيِيرِهِنَّ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ النِّسَاءِ عَلَيْهِنَّ، فَأَمَّا تَحْرِيمُ طَلَاقِهِنَّ فَقَدْ كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وما كان من طلاقه لحفصة واسترجاعها وَإِزْمَاعِهِ طَلَاقُ سَوْدَةَ حَتَّى وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فإنما كان قبل التخيير، وإنما تَحْرِيمُ النِّكَاحِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ ونسخه، فكعم بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ كَانَ ثَابِتًا إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إليه بدلالة أشياء.
أحدهما: قَوْله تَعَالَى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النّسَاءَ مِنْ بَعْدُ) {الأحزاب: 52) ، وكان هَذَا عَلَى الْأَبَدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ مُقَابَلَةً عَلَى اخْتِيَارِهِنَّ عَلَى طَرِيقِ الْجَزَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ رُجُوعٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ طَلَاقِهِنَّ بَاقِيًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ بَاقِيًا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا جَزَاءٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ عليهن نسخ حِينَ اتَّسَعَتِ الْفُتُوحُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا مَاتَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ، وَهَذَا قول عائشة وأبي بن كعب، والدليل قوله

(9/13)


تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزْوَاجِكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ} الآية (الأحزاب: 50) .
والإحلال يقضي عدم الْحَظْرِ، وَلَمْ يُحْظَرْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النِّكَاحُ قَبْلَ التَّخْيِيرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِحْلَالَ والإباحة بعد حظر التخيير.
فإن قيل: فإن الإحلال إنما يوجه إلى نسائه اللاتي خيرهن واخترنه وهذا قول مجاهد قيل: لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ قَدْ كن حلاله قبل نزول هذه الآية بإحلالهن.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ) {الأحزاب: 50) ولم يكن في نسائه المتخيرات أَحَدٌ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَلَا مِنْ بَنَاتِ عماته.
فإن قيل؛ فهذه الآية متقدمة على التلاوة على قوله تعالى: {لاَ تَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِنْ بَعْدُ} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ نَاسِخًا لِلْمُتَأَخِّرِ، قِيلَ هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ فهي متأخرة في التنزيل، فجاز النسخ بِهَا كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً) {البقرة: 234) نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ وَيَذَرُونَ أزْوَاجاً وَصِيةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَولِ) {البقرة: 240) وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ لَكِنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ ما تأخر تنزيله؟
قيل: لأن جبريل عليه السلام كان إذا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي موضع كذا فإن قيل: فلما أمره بتقديم تلاوة ما تأخر تنزيله قيل: لسبق الْقَارِئُ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يعرف حكم ما بعده من المنسوخ أجزأه، وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْحَظْرِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ سَنَةَ ثمانٍ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ فقد قَالَتْ عَائِشَةُ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى أبيح له النساء، وهما بذلك أعرف؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ الْحَظْرِ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، فَإِذَا زَالَتْ زَالَ مُوجِبُهَا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ حَتَّى وَسَّعَ عَلَى نِسَائِهِ، وَأَجْرَى لِكُلِّ واحد مِنْهُنَّ ثَمَانِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَأَرْبَعِينَ صَاعًا من شعير سوى الهدايا والألطاف وأما الاستدلال بالآية فقد ذكرنا وجه نسخها، وأما الجزاء وهو مَشْرُوطٌ بِحَالِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ أَنَّ فِي طَلَاقِهِنَّ قَطْعًا لِعِصْمَتِهِنَّ وَيَخْرُجْنَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ فِي التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ قطع لعصمتهن فافترقا والله أعلم.
فإذا ثبت نسخ الحظر مما ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِبَاحَةِ هَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ أَوْ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ فِي الْآيَةِ. إِذَا هَاجَرْنَ مَعَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى المسميات مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَبَنَاتِ عَمَّاتِهِ وَبَنَاتِ خَالِهِ

(9/14)


وَبَنَاتُ خَالَاتِهِ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِرِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، قَالَتْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَرَادَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يتزوجني فنهي عَنِّي؛ لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا صَفِيَّةَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ فِيهَا، وَلِأَنَّ الْإِبَاحَةَ رَفَعَتْ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْحَظْرِ وَلِأَنَّهُ فِي اسْتِبَاحَةِ النِّسَاءِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنْ جَمِيعِ أُمَّتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَصِّرَ عنهم.

مسألة
قال الشافعي: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خَالِصةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ) {الأحزاب: 50) ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النِّكَاحِ تَخْفِيفًا أَنْ يَنْكِحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ بَدَأَ بِذِكْرِ مَا خُصَّ بِهِ في النكاح تغليظاً، وذلك في ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ.
وُجُوبُ التَّخْيِيرِ وَتَحْرِيمُ الطَّلَاقِ.
وَتَحْرِيمُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ.
ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا خُصَّ بِهِ تَخْفِيفًا فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تعالى أن يملكه نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُذْكَرُ مَعَ الْعَقْدِ، وَلَا يَجِبُ مِنْ بَعْدُ فَيَكُونُ مَخْصُوصًا بِهِ مِنْ بَيْنِ أُمَّتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ.
والثاني: أن يسقط منه الْمَهْرُ ابْتِدَاءً مَعَ الْعَقْدِ وَانْتِهَاءً فِيمَا بَعْدَهُ وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ فِيمَا بَعْدُ.
وقال أبو حنيفة: إنما اختص بسقوط الْمَهْرِ وَحْدَهُ، وَهُوَ وَأُمَّتُهُ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّمَا خُصَّ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تخصيصه بالأمرين، وإن كان للكلام مع أبو حنيفة موضع يأتي، وقوله تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خَالِصةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} (الأحزاب: 50) وَالْهِبَةُ تَتَمَيَّزُ بِلَفْظِهَا عقداً وَسُقُوطُ الْمَهْرِ فِيهَا بَدَلًا، وَقَدْ جَعَلَهَا خَالِصَةً لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي وَاحِدٍ مِنَ الحكمين.
وفي الآية قراءتان:
أحدهما: " إن وهبت " بالفتح وهو خبر عما مضى، والقراءة الأخرى بالكسر، وهو شروط فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امرأة وهبت له نَفْسَهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَالَ: لم يكن

(9/15)


عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مَوْهُوبَةٌ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ؛ وَمَنْ قرأ بالفتح جعله خَبَرًا عَنْ ماضٍ قَالَ: قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرِ بْنِ ضَبَابٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً، وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا ميمونةبنت الْحَارِثِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا، أَوْ شُرِطَ لَهُ في المستقبل أن تقبل من وهبت له نفسها خالصة مَنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى من خالف.
وروي عَنْ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي منك، فقال: " مالي فِي النِّسَاءِ مِنْ حاجةٍ " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهَا هِبَتَهَا.

فَصْلٌ: وَمِمَّا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مناكحه تخفيفان: أَنْ يَنْكِحَ أَيَّ عددٍ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزْوَاجِكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} الآية (الأحزاب: 50) ، وأحل لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَنْ أَتَاهَا أَجْرَهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِعَدَدٍ ثُمَّ ذَكَرَ بَنَاتِ عَمِّهِ وعماته وخاله وخالاته مَنْ يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بالإباحة مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ، وَقَدْ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ وَكَانَ يَقْسِمُ لثمانٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحُرُّ لِفَضْلِهِ على العبد يستبح من نكاح النساء أكثر مما يستبحه الْعَبْدُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ يَسْتَبِيحُ مِنَ النِّسَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " حبب إليّ من دنياكم ثلاث النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ".
فاختلف أهل العلم في معنى تحبيب النساء إليه عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الِابْتِلَاءِ وَالتَّكْلِيفِ حَتَّى لَا يَلْهُوَ بِمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ من النساء عما

(9/16)


كلف به مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَلَا يَعْجَزَ عَنْ تَحَمُّلِ أثقال النبوة فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره.
والقول الثاني: ليكون خَلْوَاتُهُ مَعَهُنَّ يُشَاهِدُهَا مِنْ نِسَائِهِ؛ فَيَزُولُ عَنْهُ مَا يَرْمِيهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ فَيَكُونُ تَحْبِيبُهُنَّ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ اللُّطْفِ بِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ الابتلاء له، وَعَلَى أَيِّ الْقَوْلَيْنِ كَانَ فَهُوَ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ نَقْصًا، وَهَذَا مِمَّا هو به مخصوص أيضاً.

مسألة
قال الشافعي: وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيَّ لَسْتُنَّ كَأَحِدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ} (الأحزاب: 32) فأبانهن به مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ أَنْ فَضَّلَ نِسَاءَهُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَسْتُنَّ كَأَحِدٍ مِنَ النِّسَاءِ) {الأحزاب: 32) وَذَلِكَ لِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: لِمَا خَصَّهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَلْوَةِ رَسُولِهِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ بَيْنَهُنَّ.
وَالثَّانِي: لِاصْطِفَائِهِنَّ لِرَسُولِهِ أَزْوَاجًا فِي الدُّنْيَا وَأَزْوَاجًا فِي الْآخِرَةِ.
وَالثَّالِثُ: لِمَا ضَاعَفَهُ لَهُنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَاتِ وَعِقَابِ السَّيِّئَاتِ.
وَالرَّابِعُ: لِمَا جَعَلَهُنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ أُمَّهَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ فَصِرْنَ بِذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ النِّسَاءِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ أَفْضَلِ نِسَاءِ زَمَانِهِنَّ.
والثاني: أفضل النساء كلهن وفي قوله " إن اتقيتن " تَأْوِيلَانِ مُحْتَمَلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ إِنِ اسْتَدَمْتُنَّ التَّقْوَى فَلَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ فَكُنَّ أَخَصَّهُنَّ بِالتَّقْوَى، فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي مَعْنَاهُ مَعْنَى الْأَمْرِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَخْضَعْنَّ بِالْقَولِ فَيَطْمَع الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) {الأحزاب: 32) وَفِي خُضُوعِهِنَّ بِالْقَوْلِ خَمْسَةُ تأويلات:
أحدها: فلا ترفعن بِالْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالثَّانِي: فَلَا تُرَخِّصْنَ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّالِثُ: فَلَا تكلمن بالرفث، وهو قول الحسن.
والرابع: هو الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ مَا يَهْوَى الْمُرِيبُ، وَهُوَ قول الكلبي.

(9/17)


والخامس: هُوَ مَا يَدْخُلُ مِنْ قَوْلِ النِّسَاءِ فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَفِي قوله {فَيَطْمَع الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْفُجُورُ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ النِّفَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَكَانَ أكثر ما يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المنافقون.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وخصه بأن جعله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا اختص اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِكَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خلقه أول بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب: 6) وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَهُوَ أَبُوهُمْ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَرَاهُ لَهُمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ آبائهم وأمهاتهم.
والثالث: أنه أولى بهم من دِفَاعِهِمْ عَنْهُ، وَمَنْعِهِمْ مِنْهُ مِنْ دِفَاعِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى لَوْ عَطِشَ وَرَأَى مَعَ عَطْشَانَ ما كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ، وَلَوْ رَأَوْا سُوءًا يَصِلُ إِلَيْهِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا وَقَاهُ طَلْحَةُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ يَوْمَ أحد.
والرابع: أنه أولى بهم من قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا مِنْ مؤمنٍ إِلَّا أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ) {الأحزاب: 6) فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ ديناً أو ضياعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ فَكَانَ هَذَا مِمَّا خَصَّ الله تعالى رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَكَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ قَضَاءِ الدُّيُونِ تَفَضُّلًا مِنْهُ لَا وَاجِبًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَقَامَ بِهِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ فيكون واجباً في سهم من الصدقات إن احتمله.
مسألة
قال الشافعي: " وأزواجه أمهاتهم قال أُمَّهَاتُهُمْ فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى وَذَلِكَ أَنَّهُ

(9/18)


لا يحل نكاحهن بحالٍ ولم تحرم بناتٌ لو كن لهن لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ ".
قَالَ الماوردي: وهذا مما خص به الله تعالى به رسوله مِنَ الْكَرَامَةِ، وَخَصَّ بِهِ أَزْوَاجَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ إن جعلهن أمهات المؤمنين، فقال عز وجل: {وَأَزْوَاجه أُمَهَاتِهِمْ) {الأحزاب: 6) يَعْنِي اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ وهن تسع فيجري عليهم أَحْكَامُ الْأُمَّهَاتِ فِي شَيْئَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَثَالِثٍ مُخْتَلِفٍ فِيهِ، أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ: تَعْظِيمُ حَقِّهِنَّ وَالِاعْتِرَافُ بفضلهن كما يلزم تعظيم حقوق الأمهات ولقوله تَعَالَى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النّسَاءِ) {الأحزاب: 32) .
وَالثَّانِي: تحريم نكاحهن حتى لا يحللن لأحد بعده مِنَ الْخَلْقِ كَمَا يَحْرُمُ نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) {الأحزاب: 53) وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَكَاهُ السُّدِّيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ أَيَحْجِبُنَا رَسُولُ اللَّهِ عن بنات عمنا ويتزوج نسائنا مِنْ بَعْدِنَا لَئِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ لِنَتَزَوَّجُنَّ نِسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ نِكَاحِهِنَّ لَا يَنْقَضِي بِمَوْتِهِ لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ كَتَحْرِيمِهِنَّ فِي حَيَاتِهِ.
فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ: اختلف فِيهِ فَهُوَ الْمُحَرَّمُ هَلْ يَصِرْنَ كَالْأُمَّهَاتِ فِي المحرم حتى لا يحرم النظر إليهن على وجهين:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ كَالْأُمَّهَاتِ نَسَبًا وَرَضَاعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ حِفْظًا لِحُرْمَةِ رَسُولِهِ فِيهِنَّ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا أَرَادَتْ دُخُولَ رَجُلٍ عَلَيْهَا أَمَرَتْ أُخْتَهَا أَسْمَاءَ أَنْ تُرْضِعَهُ حَتَّى يَصِيرَ ابْنَ أُخْتِهَا؛ فَيَصِيرُ مَحْرَمًا لَهَا وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ الأمهات في النفقة بالميراث؛ فلهذا قال الشافعي: " أمهاتهم فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى " وَإِذَا كُنَّ أُمَّهَاتِ المؤمنين ففي كونهن أمهات المؤمنين وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَكُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُؤْمِنَاتِ وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لَهَا: يَا أُمَّهْ، فَقَالَتْ: لَسْتُ لَكِ بِأُمٍّ وإنما أنا أم رجالكم.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهِنَّ بِوَفَاةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُنَّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ لأنهن حُرِّمْنَ كَانَ كُلُّ زَمَانِهِنَّ عِدَّةً.
وَالثَّانِي: يَجِبُ عليهن تعبداً أن يعتدون عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أشهرٍ وَعَشْرًا، لِمَا فِي الْعِدَّةِ مِنَ الْإِحْدَادِ وَلُزُومِ الْمَنْزِلِ ثُمَّ نَفَقَاتُهُنَّ تَجِبُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي سَهْمِهِ مِنْ خُمْسِ الخمس من

(9/19)


الْفَيْءِ، وَالْغَنِيمَةِ لِبَقَاءِ تَحْرِيمِهِنَّ وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَجْرَى لَهُنَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَطَاءً فَائِضًا، فَهَذَا حُكْمُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من زوجاته.

فَصْلٌ
فَأَمَّا اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَيَاتِهِ فَلَيْسَ لَهُنَّ مِنْ حُرْمَةِ التَّعْظِيمِ مَا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ وَفِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى الْأُمَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا لَا يَحْرُمْنَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهِنَّ أَوْ لَمْ يِدْخُلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) {الأحزاب: 28) وَإِرَادَةُ الدُّنْيَا مِنْهُنَّ هي طلب الأزواج لهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أَزْوَاجِي فِي الدُّنْيَا هُنَّ أَزْوَاجِي فِي الْآخِرَةِ " وَلَيْسَ الْمُطَلَّقَاتُ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهِنَّ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الرَّسُولِ فِيهِنَّ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ سَبَبٍ ونسبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سببي ونسبي " وليحفظ اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّةَ رَسُولِهِ فِي قُلُوبِ أُمَّتِهِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ يَبْغَضُ مِنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَزْوَاجِهَا وَالتَّعَرُّضِ لِبُغْضِ الرَّسُولِ كفرٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ لَمْ يَحْرُمْنَ، وَإِنْ كَانَ دخل بهن حرمن صيانة لخلوة الرسول أن تبدوا، فإن من عادة المرأة إن تزوجت ثانياً بعد الأول أَنْ تَذُمَّ عِنْدَهُ الْأَوَّلَ إِنْ حَمِدَتْهُ، وَتَحْمَدُ عِنْدَهُ الْأَوَّلَ إِنْ ذَمَّتْهُ؛ وَلِأَنَّهُ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُتَيْلَةَ أُخْتَ الْأَشْعَثِ بن قيس الكندي، ولم يدخل بها فأوصى فِي مَرَضِهِ أَنْ تُخَيَّرَ إِنْ شَاءَتْ، وَأَنْ يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين ويحرم عَلَيْهَا مَا يَجْرَي عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ فَاخْتَارَتِ النِّكَاحَ فَتَزَوَّجَهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ بِحَضْرَمَوْتَ، فبلغ ذلك أبا بكر فقال هممت أن أحرق عليكما فَقَالَ عُمَرُ مَا هِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا ضَرَبَ عَلَيْهَا حِجَابًا فَكَفَّ عَنْهَا أَبُو بَكْرٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ تَزَوُّجَ امْرَأَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تزوجها وفارقها فهم عمر برجمه مما حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَكَفَّ عَنْهُمَا، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَحْرُمُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا فِي سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْخُمُسِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ كَمَا تَجِبُ نَفَقَاتُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ قَبْلَ الْوَفَاةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ بَعْدَهَا، وَلِأَنَّهَا مَبْتُوتَةُ العصمة بالطلاق.

(9/20)


فصل
فأما من وطئها من إمائه، فإن كانت بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ مِثْلُ مَارِيَةَ أُمِّ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ حَرُمَ نِكَاحُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ كَالزَّوْجَاتِ أَمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ لنقصها بالرق، وإن كان قد باعها وملكها مشتريها بقي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَجْهَانِ كَالْمُطَلَّقَةِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد زوج بناته وهن أخوات المؤمنين وإنما أراد به الشافعي: أنهم وإن كن كالأمهات في تحريمهن فلسن كالأمهات في جميع أحكامهن إن لو كان كَذَلِكَ لَمَا زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَدًا مِنْ بَنَاتِهِ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعًا مِنْ بَنَاتِهِ، فَزَوَّجَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ: زَيْنَبَ بِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَزَوَّجَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ رقية بعتبة بن أبي لهب، وطلقها بعد النبوة فزوجها بعده عثمان بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَبَلَغَ سِتَّ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَ هُوَ وَأُمُّهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَدْرٍ ثُمَّ زَوَّجَهُ بَعْدَهَا بِأُمِّ كُلْثُومَ، فَمَاتَتْ عِنْدَهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَوْ كَانَ لَنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْنَاكَ وَزَوَّجَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاطِمَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فلما زوج رسول الله مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ بَنَاتِهِ عُلِمَ اخْتِصَاصُ نِسَائِهِ مَنْ حُكْمِ الْأُمَّهَاتِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَّا أَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ غلطٌ مِنْهُ فِي النَّقْلِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنَ الْأُمِّ: قَدْ زوج بناته وهن غير أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فَغَلِطَ فِي النَّقْلِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى صِحَّةِ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ، وَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ وَالتَّقْرِيرِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ قَدْ زَوَّجَ بناته أو يخرجهن وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ.
فَصْلٌ
وَمِمَّا خَصَّ اللَّهُ تعالى به نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تفضيلاً لَهُنَّ وَإِكْرَامًا لِرَسُولِهِ أَنْ ضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ عِقَابَ السيئات، وضاعف عليهن ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيَّنَةٍ يُضَاعَفُ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) {الأحزاب: 30) وفي الفاحشة المبينة ها هنا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالثَّانِي: النشور وَسُوءُ الْخُلُقِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي مضاعفة العذاب لهما ضِعْفَيْنِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَذَابَانِ فِي الدُّنْيَا لِعِظَمِ جُرْمِهِنَّ بِأَذِيَّةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ مُقَاتِلٌ: حَدَّانِ فِي الدُّنْيَا غَيْرُ السَّرِقَةِ.

(9/21)


وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَجُعِلَ عَذَابَهُنَّ ضِعْفَيْنِ وَعَلَى مَنْ قَذَفَهُنَّ الْحَدَّ ضِعْفَيْنِ، وَلَمْ أَرَ لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ غَيْرَ أَنَّ الأشبه بظاهر كلامه إنما حدان في الدنيا، فإن قيل: في أمر مُضَاعَفَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ مِنْ تَفْضِيلِهِنَّ.
قِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْعَبْدِ نِصْفَ حَدِّ الْحَرِّ لِنَقْصِهِ عَنْ كَمَالِ الْحُرِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مضاعفة الحد عليهن من تفضيلهن عَلَى غَيْرِهِنَّ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلهِ وَرَسُولِهِ) {الأحزاب: 31) أي يطيع الله ورسوله والقنوت الطاعة ثم قال: {وَتَعْمَلُ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً) {الأحزاب: 31) فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ كَمَا ضُوعِفَ عَلَيْهِنَّ الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ فَصَارَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ تَفْضِيلًا لَهُنَّ وَزِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِنَّ، وَفِي " أجرها مرتين " قولان لأهل العلم:
أحدها: أَنَّ كِلَا الْأَجْرَيْنِ فِي الْآخِرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَدَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ قوله {وَاعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} تَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَلَالًا فَقَدْ كَانَ رِزْقُهُنَّ مِنْ أجل الأرزاق.
والثاني: واسعاً؛ فقد صار رِزْقُهُنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَفِي أَيَّامِ عُمَرَ مِنْ أَوْسَعِ الْأَرْزَاقِ.

فَصْلٌ
وَصَارَ مَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنَاكِحِهِ، مِمَّا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ، وَاتَّصَلَ بِهِ نَقْلٌ عَشْرُ خِصَالٍ، تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ منها ثلاثة خِصَالٍ تَغْلِيظٌ، وَثَلَاثُ خِصَالٍ تَخْفِيفٌ، وَأَرْبَعُ خِصَالٍ كَرَامَةٌ.
فَأَمَّا الثَّلَاثُ التَّغْلِيظُ:
فَإِحْدَاهُنَّ: مَا أَوْجَبَهُ عليه من تخيير نسائه.
والثانية: ما حظر عَلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهِنَّ.
وَالثَّالِثَةُ: مَا مَنَعَهُ مِنَ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ.
وَأَمَّا الثَّلَاثُ التَّخْفِيفُ:
فَإِحْدَاهُنَّ: مَا أباحه له من النكاح من غير تقدير مَحْصُورٍ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْلِكَ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ أَمَةً عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَانَ عِتْقُهَا نِكَاحًا عَلَيْهَا وَصَدَاقًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَصَارَتْ بِالْعِتْقِ زَوْجَةً وَصَارَ الْعِتْقُ لَهَا صَدَاقًا.
فَأَمَّا الْأَرْبَعُ الْكَرَامَةُ:

(9/22)


فإحداهن: أنه فضل نسائه على نساء العالمين.
والثانية: أنه جعلن أمهات المؤمنين.
والثالثة: حرمهن على جميع المسلمين.
والرابعة: ما ضاعف من ثوابهن وعقابهن.

فصل
وإذ قد مَضَى مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصًا بِهِ فِي مَنَاكِحِهِ نَصًّا؛ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ فِي مَنَاكِحِهِ مِنْ طَرِيقِ الاجتهاد والنص، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ جواز الاجتهاد لنقصه وَكَذَلِكَ فِي الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي النَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ، كَمَا اجْتَهَدُوا فِيمَا لَمْ يَحْدُثْ مِنَ النَّوَازِلِ، فَاجْتَهَدُوا فِي سَبْعِ مَسَائِلَ أَفْضَى بهم الاجتهاد إلى الاختلاف فيها:
فأحدها: أن اختلفوا هَلْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ وغيره سواء في أن يَنْكِحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح "، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى مَنَاكِحِهِ.
والوجه الثاني: أن يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شاهدين؛ لقول الله تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ) {الأحزاب: 6) ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: مَا لِي وَلِيٌّ حَاضِرٌ فَقَالَ مَا يَكْرَهُنِي مِنْ أَوْلِيَائِكِ حَاضِرٌ وَلَا غَائِبٌ ثُمَّ قَالَ لِابْنِهَا عُمَرَ وَكَانَ غَيْرَ بَالِغٍ قُمْ زَوِّجْ أُمَّكَ وَقَدْ أَنْكَرَ أحمد بن حنبل على من قال غَيْرَ بَالِغٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يُرَادُ لِالْتِمَاسِ الْأَكْفَاءِ وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْضَلُ الْأَكْفَاءِ، وَالشُّهُودُ إِنَّمَا يُرَادُونَ حَذَرَ التَّنَاكُرِ، وهذا غير مرهوم في الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَكُونَ مِنْهُ أَوْ لَهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْتَقِرْ نِكَاحُهُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ.
فَصْلٌ
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنِ اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتُهُمْ) {الأحزاب: 6) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَزْوَاجِي فِي الدُّنْيَا هُنَّ أَزْوَاجِي فِي الْآخِرَةِ " وهذان الأمران منتفيان عَنْ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فيما أَبَاحَهُ لِرَسُولِهِ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ، وَعَمَّاتِهِ الْهِجْرَةَ فَقَالَ {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) {الأحزاب: 50) فَلَمَّا حُظِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ مَنْ لَمْ تُهَاجِرْ فَكَيْفَ يَسْتَبِيحُ مَنْ لَمْ تُسْلِمْ وَلَمْ تُهَاجِرْ؟
وَالْوَجْهُ الثاني: تحل لَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النِّكَاحِ أَوْسَعُ مِنْ

(9/23)


حُكْمِ أُمَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحِلُّ لِأُمَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَمْتَعَ بِأَمَتِهِ رَيْحَانَةَ بِنْتِ عَمْرٍو بِمِلْكِ يَمِينِهِ، وَكَانَتْ يَهُودِيَّةً مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ مِنْ بَعْدُ، فَلَمَّا بُشِّرَ بِإِسْلَامِهَا سُرَّ بِهِ، وَالْكُفْرُ فِي الْأَمَةِ أَغْلَظُ مِنْهُ فِي الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ حَرَامٌ، وَنِكَاحَ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ مُبَاحٌ، فما لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَيْهِ الْحُرَّةُ الْكِتَابِيَّةُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا نَكَحَ الْكِتَابِيَّةَ فَهَلْ عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا أَنْ تُسْلِمَ فَيُمْسِكَهَا، أَوْ تُقِيمَ عَلَى دِينِهَا فَيُفَارِقَهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا، فَإِنْ أَسْلَمَتْ ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى دِينِهَا فَارَقَهَا لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا خَيَّرَ رَيْحَانَةَ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ وَأَقَامَ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يتزوجها، وإن جاز أن يستمتع بها لملك يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ مَشْرُوطٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ، وهذا غير مجوز عليه.

فصل
والمسألة الثالثة: أن اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ فِي إِحْرَامِهِ، فَذَهَبَ أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ إِلَى جوازه له خُصُوصًا لِرِوَايَتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ مُحْرِمًا، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ النِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِيَّاهُمْ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ وَمَا نَكَحَ مَيْمُونَةَ إلا حلالاً.
وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنِ اخْتَلَفُوا فِي الَّتِي خَطَبَهَا هَلْ يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {استَجِيبُوا للهِ وَلِلْرَسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ) {الأنفال: 24) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ كَمَا لَا يَلْزَمُهَا إِجَابَةُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَاكِحِ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ.
وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا مَهْرًا هَلْ يَلْزَمُهُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يلزم كما يلزم غيره لقوله تعالى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّوَصُّلُ إلى ثواب الله تعالى.
والمسألة السادسة: أن اخْتَلَفُوا فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنَ الطَّلَاقِ هَلْ هُوَ مَحْصُورٌ بِعَدَدٍ أَمْ مُرْسَلٌ بِغَيْرِ أَمَدٍ؟ عَلَى وجهين:

(9/24)


أَحَدُهُمَا: مُرْسَلٌ بِغَيْرِ أَمَدٍ وَلَا مَحْصُورٍ بِعَدَدٍ وَمَهْمَا طَلَّقَ كَانَ لَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَنْ يراجع؛ لأنه لما م يَنْحَصِرْ عَدَدُ نِسَائِهِ لَمْ يَنْحَصِرْ طَلَاقُهُنَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْصُورٌ بِالثَّلَاثِ وَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرْ عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ أَغْلَظُ؛ فَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَكْمَلَ طَلَاقَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا هَلْ تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ زَوْجٍ أَمْ لَا.
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَحِلُّ لِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ نِسَائِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا لِمَا عَلَيْهِ مِنَ التَّغْلِيظِ فِي أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ.
وَالْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِنِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ عليه بين أزواجه، على وجهين:
أحدهما: كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ، وَيَقُولُ " اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تؤاخذني فيما لا أملك يعني: قلبه وطيفه عَلَى نِسَائِهِ مَحْمُولًا فِي مَرَضِهِ حَتَّى حَلَلْنَهُ فِي الْمُقَامِ عِنْدَ عَائِشَةَ.
وَهَمَّ بِطَلَاقِ سَوْدَةَ، فَقَالَتْ؛ قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُحْشَرَ فِي جُمْلَةِ نِسَائِكَ، وَقَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ فَكَفَّ عَنْ طَلَاقِهَا وَكَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ يَوْمًا يَوِمًا، ولعائشة يومين، يومها، ويوم سودة، وقيل: فِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ عَلَى بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) {النساء: 128) وهو قول السدي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَإِنَّمَا كَانَ يَتَطَوَّعُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَطَائِفَةٍ لِمَا فِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ مِنَ التَّشَاغُلِ عَنْ لَوَازِمَ الرِّسَالَةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءَ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشَاء) {الأحزاب: 51) وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ تَعْزِلُ مَنْ شِئْتَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فَلَا تَأْتِيهَا وَتَأْتِي مَنْ شِئْتَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فَلَا تَعْزِلُهَا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ تُؤَخِّرُ مَنْ شِئْتَ مِنْ أَزْوَاجِكَ وَتَضُمَّ إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ من أزواجك، وهذا قول قتادة {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ) {الأحزاب: 51) أي من ابتغيت فآويته إليك ممن عزلت أن تؤويه إليك، " فلا جناح عليك " فيه تأويلان:

(9/25)


أَحَدُهُمَا: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِيمَنِ ابْتَغَيْتَ وَفِيمَنْ عَزَلْتَ: وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ سَلَامٍ.
وَالثَّانِي: فلا جناح عليك فيمن عزلت أن تؤيه إليك، وهو قول مجاهد. {وَذَلِكَ أدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) {الأحزاب: 51)
أَحَدُهُمَا: إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ لَهُ رَدَّهُنَّ إِلَى فراشه إذا اعتزلهن قرت أعينهن فلم يحزن وفيه تأويلان: وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ هَذَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِنَّ قَرَّتْ أَعْيُنُهُنَّ وَلَمْ يَحْزَنَّ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ أَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد نزول هذه الآية أحداً من نسائه أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يُرْجِ مِنْهُنَّ أَحَدًا وَأَنَّهُ مَاتَ عَنْ تِسْعٍ فكان يَقْسِمُ مِنْهُنَّ لثمانٍ، لِأَنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعائشة، روى منصور عن ابن رُزَيْنٍ قَالَ: بَلَغَ بَعْضَ نِسْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُنَّ فَأَتَيْنَهُ فَقُلْنَ: لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، فَأَرْجَأَ مِنْهُنَّ نِسْوَةً وَآوَى نِسْوَةً، فَكَانَ مِمَّنْ أَرْجَأَ مَيْمُونَةُ وَجُوَيْرِيَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَصْفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَكَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ مَا شَاءَ، وَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ وَحَفْصَةُ فَكَانَ قَسْمُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِيهِنَّ سَوَاءً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
وإذا قد مضى ما قد خص بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنَاكِحِهِ نَصًّا وَاجْتِهَادًا وَمَا خُصَّ بِهِ أزواجه تفضيلاً وَحُكْمًا
فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَزْوَاجِهِ لِيَعْلَمَ ما يميز مِنْ نِسَاءِ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهُنَّ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً مِنْهُنَّ سِتٌّ مِتْنَ قَبْلَهُ وتسع مات قبلهن وثمانٍ فارقهن، فأما الست اللَّاتِي مِتْنَ قَبْلَهُ فَإِحْدَاهُنَّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الشَّامِ، وَهِيَ أُمُّ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ كَانَ الْمُقَوْقِسُ أَهْدَاهَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَى خَدِيجَةَ أحداً حتى ماتت.
والثانية: زينبت بنت خزيمة الهلالية أم المساكين ودخل بِهَا وَأَقَامَتْ عِنْدَهُ شُهُورًا ثُمَّ مَاتَتْ وَكَانَتْ أخت ميمونة من أمها.
والثالثة: سنا بِنْتُ الصَّلْتِ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ.
والرابعة: شراق أُخْتُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ.
وَالْخَامِسَةُ: خَوْلَةُ بِنْتُ الْهُذَيْلِ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ.
وَالسَّادِسَةُ: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ مَاتَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا وَقِيلَ: إِنَّهَا هِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهؤلاء ست متن قبله دخلن مِنْهُنَّ بِاثْنَتَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِأَرْبَعٍ.

(9/26)


وَأَمَّا التِّسْعُ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ فَإِحْدَاهُنَّ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، عَقَدَ عَلَيْهَا بِمَكَّةَ وَهِيَ ابْنَةُ سَبْعٍ، وَدَخَلَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ ابْنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ.
وَالثَّانِيَةُ: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ عَائِشَةَ، وَكَانَتْ أُمَّ خَمْسِ صِبْيَةٍ فَلَمَّا عَرَفَ أَخُوهَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حثى التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: إِنِّي لِسَفِيهٌ لَمَّا حَثَوْتُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِي، حِينَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أختي.
والثالثة: حفصة بِنْتُ عُمَرَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ سَوْدَةَ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ خَطَبَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْ عُثْمَانَ وَأَدُلُّ عُثْمَانَ عَلَى مَنْ هُوَ خير لها مِنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا، وَزَوَّجَ بِنْتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِعُثْمَانَ.
وَالرَّابِعَةُ: أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نَزَلَ فِي تَزْوِيجِهَا {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) {الممتحنة: 7) وَلَمَّا تَنَازَعَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَضَانَةِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ادْفَعُوهُ إِلَى أم حبيبة فإنها أقربهن منه رَحِمًا.
وَالْخَامِسَةُ: أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَّيَّةَ.
وَالسَّادِسَةُ: زَيْنَبُ، بِنْتُ جَحْشٍ، نَزَلَ عَنْهَا زَيْدُ بن حارثة فتزوجها، وَفِيهَا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا) {الأحزاب: 37) وَكَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَطَّلِبَ.
وَالسَّابِعَةُ: مَيْمُونَةُ بنت الحارث، وكان بالمدينة فوكل أم رافع في تزويجه بها وبقي بِمَكَّةَ، وَدَخْلٍ بِهَا عَامَ الْفَتْحِ بِسَرِفَ، وَقَضَى الله تعالى أَنْ مَاتَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَرِفَ.
وَالثَّامِنَةُ: جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مَنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ سَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غزوة الْمُرَيْسِيعِ الَّتِي هَدَمَ فِيهَا مَنَاةَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وتزوجها.
وقال الشَّعْبِيُّ: وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما بقي أحد من المسلمين عبداً مِنْ قَوْمِهَا إِلَّا أَعْتَقُهُ لِمَكَانَتِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ أَبْرَكَ امْرَأَةٍ عَلَى قَوْمِهَا.
وَالتَّاسِعَةُ: صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ بْنِ أَخْطَبَ اصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من سبي النَّضِيرِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَهِيَ الَّتِي أَهْدَتْ إِلَيْهَا زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيَّةُ شَاةً مَسْمُومَةً فَأَكَلَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَؤُلَاءِ تِسَعٌ مَاتَ عَنْهُنَّ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ منهن.
وأما الثماني اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ فِي حَيَاتِهِ.
فَإِحْدَاهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ النعمان النكدية، دخل عليهان فَقَالَ لَهَا: تَعَالَيْ، فَقَالَتْ: إِنَّا مِنْ قَوْمٍ نُؤْتَى وَلَا نَأْتِي، فَقَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا، فقال: ملكة تحت سوقةٍ، فَغَضِبَ وَقَالَ: لَوْ رَضِيَكِ اللَّهُ لِي لأمسكتك وطلقها.
والثانية: ليلى بنت الحطيم أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ غَافِلٌ فَضَرَبَتْ ظَهْرَهُ، فَقَالَ: مَنْ

(9/27)


هَذَا؟ أَكَلَهُ الْأُسُودُ فَقَالَتْ: أَنَا لَيْلَى قَدْ جِئْتُكَ أَعْرِضُ نَفْسِي عَلَيْكَ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُكِ ثم علمت كثرة ضرائرها فاستقالته فأقلها، قد خلت حَائِطًا بِالْمَدِينَةِ فَأَكَلَهَا الذِّئْبُ.
وَالثَّالِثَةُ: عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ الْكِلَابِيَّةُ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَآهَا تَتَطَلَّعُ فَطَلَّقَهَا.
وَالرَّابِعَةُ: الْعَالِيَةُ بِنْتُ ظَبْيَانَ، دَخَلَ بِهَا ومكثت عنده ماشاء اللَّهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا.
وَالْخَامِسَةُ: فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ الكلابية، لما خير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِسَاءَهُ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ فَفَارَقَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا.
وَالسَّادِسَةُ: قُتَيْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أُخْتُ الْأَشْعَثِ وَصَّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَخْيِيرِهَا فِي مَرَضِهِ فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ فَفَارَقَهَا قَبْلَ الدخول.
والسابعة: مليكة بنت كعب الليثية كانت مذكورة بالجمال فدخلت عليها عائشة، فقالت: ألا تستحين أن تَتَزَوَّجِينَ قَاتِلَ أَبِيكِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَعِيذِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعِيذُكِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَالَ: قَدْ أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنِّي وَطَلَّقَهَا.
وَالثَّامِنَةُ: امْرَأَةٌ من عفان تزوجها ورأى بكشحها لَطْخًا فَقَالَ: ضُمِّي إِلَيْكِ ثِيَابَكِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ فَهَؤُلَاءِ ثمانٍ فَارَقَهُنَّ فِي حَيَاتِهِ دَخْلَ مِنْهُنَّ بثلاث والله أعلم.

فَصْلٌ
وَإِذْ قَدْ مَضَى مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مناكحه فالكلام فيما خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غير مناكحه وهو يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أقسامٍ:
أَحَدُهَا: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ فَرْضٍ.
وَالثَّانِي: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ حَظْرٍ.
وَالثَّالِثُ: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ إِبَاحَةٍ.
وَالرَّابِعُ: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ مَعُونَةٍ.
وَالْخَامِسُ: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ كَرَامَةٍ.
فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ فَرْضٍ فَثَمَانِي خِصَالٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ: " فُرِضَ عَلَيَّ الْوِتَرُ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَيْكُمْ ".
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: " فُرِضَ عَلَيَّ السِّوَاكُ وَلَمْ يُفْرَضْ عليكم ".
ومنها قوله: " فُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُفْرَضْ عَلَيْكُمْ ".
وَمِنْهَا: أَنَّ فَرْضَهُ فِي الصَّلَاةِ كَامِلٌ لَا خَلَلَ فِيهِ.
وَمِنْهَا: مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، هَلْ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ؟ عَلَى وجهين.

(9/28)


وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ لَأْمَةَ سِلَاحِهِ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ لِقَاءِ عَدُوِّهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ كان إذا بارز في الحرب رجلاً لم ينكف عنه حتى يقتله.
ومنها: أنه لا يفر من الزحف ويقف بارزاً عدوه وإن كثروا.

فَصْلٌ
فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ حَظْرٍ فخمسة خِصَالٍ:
مِنْهَا: قَوْلُ الشِّعْرِ وَرِوَايَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) (يس: 69) .
وَمِنْهَا الْكِتَابَةُ وَالْقِرَاءَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تُخُطُهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ المُبْطِلُونَ) {العنكبوت: 49) .
ومنها: أن لَيْسَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ. لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ عَامَ الْفَتْحِ بِقَتْلِ سِتَّةٍ وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ أَتَاهُ عُثْمَانُ بِأَحَدِهِمْ وَكَانَ قَرِيبَهُ لِيَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا مِنْهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ فأمنه، فلما ولي قال: لمن حضر من أصحابه هلا قتلتموه، قال: هلا أومأت إلينا بعينيك فَقَالَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ.
وَمِنْهَا: مَنْعُهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ.
وَمِنْهَا مَنْعُهُ مِنْ أَكْلِ مَا تُؤْذِي رَائِحَتُهُ مِنَ الْبُقُولِ لِهُبُوطِ الوحي عليه.
فَصْلٌ
فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ إِبَاحَةٍ فَأَرْبَعُ خِصَالٍ:
مِنْهَا الْوِصَالُ بَيْنَ صَوْمِ الْيَوْمَيْنِ بِالْإِمْسَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الْوِصَالِ وَوَاصَلَ قَالَ " إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ ربي فيطعمني وَيَسْقِينِي ".
وَمِنْهَا: الصَّفِيُّ يَصْطَفِي مِنَ الْمَغَانِمِ مَا شَاءَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُحْيِي نَفْسَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ وَنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ ضَرُورَتِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ خُصَّ بِحِمَى الْمَوَاتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ مَعُونَةٍ فَسَبْعُ خِصَالٍ:
مِنْهَا: مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ.
وَمِنْهَا: مَا مَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ.
وَمِنْهَا: أَنْ لَا يُقِرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَطَأٍ.
وَمِنْهَا: مَا أَمَدَّهُ به من ملائكة.
وَمِنْهَا: مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ عِصْمَتِهِ فِي قوله: " والله يعصمك من الناس ".
ومنها: ما وعده به من نصرته.

(9/29)


وَمِنْهَا: مَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رهبته حتى قال " نصرت بالرعب ".

فصل
فأما مَا خُصَّ بِهِ مِنْ كَرَامَةٍ فَعَشْرُ خِصَالٍ:
مِنْهَا: أَنْ بَعَثَهُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ.
وَمِنْهَا: أَنْ جَعَلَهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَمِنْهَا: أَنْ جَعَلَهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَمِنْهَا: أَنْ جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ الْأُمَمِ.
وَمِنْهَا أَنْ تَنَامَ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامَ قَلْبُهُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَرَى مَنْ وَرَائَهُ كَمَا يَرَى مَنْ أَمَامَهُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يبلغ السلام بعد الموت.
ومنها: أنه مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَشْهَدُ لِجَمِيعِ النَّبِيِّينَ بِالْأَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

(9/30)


الترغيب في النكاح وغيره من الجامع ومن كتاب النكاح جديدٌ وقديمٌ ومن الإملاء على مسائل مالكٍ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأُحِبُّ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أن يتزوجها إِذَا تَاقَتْ أَنْفُسُهُمَا إِلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أمر به ورضيه وندب إليه وبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حتى بالسقط " وأنه قال: " من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح " ويقال إن الرجل ليرفع فدعاء ولده من بعده ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ النِّكَاحُ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَقَالَ دَاوُدُ: النِّكَاحُ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: 3) وهذا أمر وبقوله عليه السلام: " تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا " قَالَ: وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ بِقَوْلِ صَحَابِيَّيْنِ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُمَا:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي الزَّوَائِدِ لَا يَمْنَعُكَ مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ.
وَالثَّانِي: قَوْلُ مُعَاذٍ فِي مَرَضِهِ: زوجوي لا ألقى الله عزباً؛ لأن فِي النِّكَاحِ مِنْ تَحْصِينِ النَّفْسِ مِثْلَ مَا فِي الْغِذَاءِ، فَلَمَّا لَزِمَ تَحْصِينُهَا بِالْغِذَاءِ لَزِمَ تَحْصِينُهَا بِالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ إِعْفَافُ أَبِيهِ كَانَ إِعْفَافُ نَفْسِهِ أَوْلَى.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثَلاثَ وَرُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) وَمِنْهُ دَلِيلَانِ:
أحدهما: أنه علق بطيب النفس، ولو كان لازماً واجباً للزم بِكُلِّ حَالٍ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا ملكت أيمانكم " فَخَيَّرَهُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَقْتَضِي تَسَاوِي حُكْمِهِمَا، فَلَمَّا كَانَ مِلْكُ الْيَمِينِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ وَقَالَ تعالى: {ذَلِكَ مَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَكُمْ} فَأَبَاحَ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِمَنْ خَشِيَ الزِّنَا وَجَعَلَ الصبر خير لَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا، لَكَانَ الصَّبْرُ شَرًّا لَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " خياركم بعد المأتين كُلُّ خَفِيفٍ حَاذٍّ قِيلَ: وَمَنِ الْخَفِيفُ الْحَاذُّ، قَالَ: الَّذِي لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ ".

(9/31)


وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الصَّبْرُ عَنِ النِّسَاءِ خَيْرٌ مِنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِنَّ خَيْرٌ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى النَّارِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مِسْكِينٌ مِسْكِينٌ رَجُلٌ لَا امْرَأَةَ لَهُ وَمِسْكِينَةٌ مِسْكِينَةٌ امْرَأَةٌ لَا رَجُلَ لَهَا فَأَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الرَّحْمَةِ، وَتَارِكُ الْوَاجِبِ لَا يحرم؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ مَقْصُودُ النِّكَاحِ وَهُوَ الْوَطْءُ كَانَ النِّكَاحُ بِأَنْ لَا يَجِبَ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْ نَيْلِ شَهْوَةٍ، وَإِدْرَاكِ لَذَّةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ كَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ شَهْوَتِهِ بِالنِّكَاحِ لَوَجَبَ قَطْعُهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ بِمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ دَوَاءٍ وَعِلَاجٍ، وَلِأَنَّ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الشَّهَوَاتُ خَارِجٌ مِنْ جُمْلَةِ الْوَاجِبَاتِ؛ لأن من صفات الواجبات تكلف المشاق فيها وَتَحَمَّلُ الْأَثْقَالِ لَهَا فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ جَعَلْنَاهَا دَلِيلًا.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ أَمْرٌ بِالنِّكَاحِ لِلْمُكَاثَرَةِ بِالْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ " تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حَتَّى بِالسَّقْطِ " وَلَيْسَتِ الْمُكَاثَرَةُ وَاجِبَةً، وكذلك ما جعل طريقاً إليها.
أما قَوْلُهُ: أَنَّ فِيهِ تَحْصِينَ النَّفْسِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ مِنْ تَحْصِينِ النَّفْسِ مَا خِيفَ مِنْهُ التَّلَفُ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ النِّكَاحِ خَوْفُ التَّلَفِ.
وَأَمَّا قوله لما لزمه إِعْفَافُ أَبِيهِ لَزِمَهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَقُولُ: إِنَّ إِعْفَافَ أمته لَا يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْفَافُ ابْنِهِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُهُ وَلَا يَجُبْ عليه في نفسه كما يلزمه فِي حَقِّ أَبِيهِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِ مِنَ الْقُوتِ والكسوة ولا يلزمه ذلك في حق نفسه، فكذلك النكاح.
فأما قول عمر لأبي الزوائد: ما منعك مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ، فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّرْغِيبِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَلَوْ كَانَ واجباً لزمه وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاذٍ: زَوِّجُونِي لَا أَلْقَى اللَّهَ عَزَبًا، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ذَا أولادٍ ويجوز أن يكون اختار ذلك ندباً.

مسألة
قال الشافعي: " وَمَنْ لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَحَبُّ إلي أن يتخلى لعبادة الله تعالى (قال) وقد ذكر الله تعالى {وَالقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء) {النور: 60) وذكر عبداً أكرمه فقال " سيداً وحصوراً " والحصور الذي لا يأتي النساء ولم يندبهن إلى النكاح فدل أن المندوب إليه من يحتاج إليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْإِنْسَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَائِقَ النَّفْسِ إِلَى النِّكَاحِ شَدِيدَ الشهوة له تنازعه نفسه إليه وإن لم يُحَدِّثْهَا بِهِ فَهَذَا مَنْدُوبٌ إِلَى النِّكَاحِ وَمَأْمُورٌ بِهِ، وَنِكَاحُهُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ؛ لِئَلَّا تَدْعُوَهُ شدة الشهوة إلى مُوَاقَعَةَ الْفُجُورِ، وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَتْ أَخْبَارُ النَّدْبِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفَ الشَّهْوَةِ عَنْهُ غَيْرَ تَائِقٍ إِلَيْهِ، وَمَتَى حَدَّثَ نَفْسَهُ بِهِ لَمْ تُرِدْهُ، فَالْأَفْضَلُ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ وَتَرَكُهُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، لِئَلَّا يَدْعُوَهُ الدُّخُولُ فِيهِ

(9/32)


إِلَى الْعَجْزِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَتْ أَخْبَارُ الْكَرَاهَةِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فِي تَرْكِ النِّسَاءِ فَقَالَ {وَسَيِّداً وَحَصُوراً) {آل عمران: 39) وَفِيهِ تأويلان:
أحدهما: أن السيد الخليفة وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ الْفَقِيهُ، وَالْحَصُورَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ سعيد بن المسيب وذكر الله تعالى: {وَالقَوَاعِدِ مِنَ النَّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} (النور: 60) وَالْقَوَاعِدُ: هُنَّ اللَّاتِي قَعَدْنَ بِالْكِبَرِ عَنِ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ فَلَا يُرِدْنَ الرِّجَالَ وَلَا يُرِيدُهُنَّ الرِّجَالُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُعْتَدِلَ الشَّهْوَةِ إِنْ صبرت نفسه عنه صبر، وإن حدثها به فسدت فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أن يكون مشتغلاً بالطاعة أو مشتغلاً بالدنيا، فَإِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِطَاعَةٍ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ فَتَرْكُهُ لِلنِّكَاحِ تَشَاغُلًا بِالطَّاعَةِ أَفْضَلُ لَهُ وأولى به، وإن كان متشاغلاً بالدنيا فالنكاح أولى به من تركه لأمرين:
أحدهما: للتشاغل بِهِ عَنِ الْحِرْصِ فِي الدُّنْيَا.
وَالثَّانِي: لِطَلَبِ الْوَلَدِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: سبع يجري على الْعَبْدُ أَجْرُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ مَنْ كَرَى نَهْرًا أو حفر بئراً أو وقف وقفاً أو ورق مُصْحَفًا أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ خَلَّفَ وَلَدًا صَالِحًا يَدْعُو لَهُ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وإذا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا حَاسِرَةً وَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وهي متغطيةٌ بإذنها وبغير إذنها قال الله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) {النور: 31) قال الوجه والكفان ".
قال الماوردي: قد مضى الكلام أَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ وَكَفَّيْهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظََهَرَ مِنْهَا) {النور: 31) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مخرمة: هو الكحل، والخاتم عبارة عَنِ الْوَجْهِ بِالْكُحْلِ

(9/33)


وَعَنِ الْيَدَيْنِ بِالْخَاتَمِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا لَا غَيْرُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَنْظُرُ مَعَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ إِلَى رُبُعِ السَّاقِ.
وَقَالَ دَاوُدُ: يَنْظُرُ مِنْهَا إِلَى مَا يَنْظُرُ من الأمة إذا أراد شرائها، ورواه الأشهب عن مالك.
وروي عن الْأَشْهَبِ مِثْلُ قَوْلِنَا.
وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَأَمَّا أبو حنيفة فإنه اعتبر القدمين بالكفين، لأنه أحد الطرفين، فلم يجعلها عَوْرَةً، وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي حَدِّ الْعَوْرَةِ قَدْ مَضَى، وَأَمَّا دَاوُدُ: فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فليولج بصره فيها فإنما هو مسر. وَأَمَّا الْمَغْرِبِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَالثَّانِيَةَ عَلَيْكَ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى أبي حنيفة قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يَخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) {النور: 31) يَعْنِي السَّاقَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى دَاوُدَ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني الوجه والكفين، ويدل عليها مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن أسماء دخلت على عائشة، وعليها ثوب رقيق، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا حَاضَتْ حَرُمَ كُلُّ شيءٍ مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ ".
وَدَلِيلُنَا عَلَى الْمَغْرِبِيِّ رِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا، أَوْ قَالَ: سُوءًا.
وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِ أَحَدِكُمْ خطبة امرأةٍ فليتأمل خلقتها ".
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا النِّسَاءُ لُعَبٌ فَإِذَا اتَّخَذَ أَحَدُكُمْ لُعْبَةً فَلْيَسْتَحْسِنْهَا ".
وَرَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اذْهَبْ فَانْظُرَ إِلَيْهَا فَإِنَهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بينكما ".

(9/34)


وَفِي يُؤْدَمُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الحديث: أنه يعني يَدُومُ فَقَدَّمَ الْوَاوَ عَلَى الدَّالِ كَمَا قَالَ في ثمر الأراكة: " كلوا منه الأسود فإنه أطيب " بِمَعْنَى أَطْيَبَ فَيَكُونُ مَأْخُوذًا مِنَ الدَّوَامِ.
وَالْقَوْلُ الثاني: - وهو قول أهل اللغة - أنه المحابة وإن لا يتنافروا مأخوذاً من إدام الطعام، لأنه يطيب به فيكون مأخوذاً من إدام لا من الدوام، ثم من مر الدليل على جواز أن ينظر المعقود عليه أبلغ في صحة العقد من فَقْدِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَى نَظَرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْ حُكْمِ الْعَوْرَةِ وَإِنَّ فِي الْوَجْهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْجَمَالِ، وَفِي الْكَفَّيْنِ مَا يستدل به على خصب البدن ونعمته فَأَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ.

فَصْلٌ
[الْقَوْلُ فِي النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِلَا إِذْنٍ]
فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ جَازَ نَظَرُهُ بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إن خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ " قَالَ: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا، وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّظَرُ مُبَاحًا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْإِذْنِ.
فَصْلٌ
[الْقَوْلُ في حالات جواز النظر إلى الأجنبية]
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ نَظَرُ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ أَحَدِ أمرين: إما أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ أَوْ لِغَيْرِ سَبَبٍ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ مُنِعَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبْصَارِِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) {النور: 31) . وَمُنِعَتْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) {النور: 31) ، وَلِأَنَّ نَظَرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صاحبه داعية إلى الافتتان به رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَرَفَ وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَكَانَ رَدِيفَهُ بِمِنَى عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْخَثْعَمِيَّةِ، وَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَقَالَ: شَابٌّ وَشَابَّةٌ، وَأَخَافُ أَنْ يَدْخُلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ نَظَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ نَظَرَ إلى عورة غيره كَانَ مَكْرُوهًا، فَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِسَبَبٍ فَضَرْبَانِ: محظور ومباح، فالمحظور كالنظر بمعصية وَفُجُورٍ فَهُوَ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا، وَأَشَدُّ مَأْثَمًا مِنَ النَّظَرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَالْمُبَاحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِضَرُورَةٍ كَالطَّبِيبِ يُعَالِجُ مَوْضِعًا مِنْ جَسَدِ الْمَرْأَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ما دعت إليه الْحَاجَةُ إِلَى عِلَاجِهِ مِنْ عَوْرَةٍ وَغَيْرِهَا، إِذَا أَمِنَ الِافْتِتَانَ بِهَا وَلَا يَتَعَدَّى بِنَظَرِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجِهِ.

(9/35)


وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِتَحَمُّلِ شَهَادَةٍ أَوْ حُدُوثِ مُعَامَلَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِهَا دُونَ كَفَّيْهَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ شَاهِدًا فَلْيَعْرِفْهَا فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَنْهَا، وَفِي أَدَائِهَا عليها، وإن كان مبايعاً فَلْيَعْرِفْ مَنْ يُعَاقِدُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرِيدَ خطبتها فهو الذي جوزنا له تعمد النَّظَرَ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُ النَّظَرَ إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَسَدِهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(9/36)


بَابُ مَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَإِنْكَاحُ الْأَبِ الْبِكْرَ بغير إذنها ووجه النكاح والرجل يتزوج أمته ويجعل عتقها صداقها من جامع كتاب النكاح وأحكام القرآن وكتاب النكاح إملاءً على مسائل مالكٍ، واختلاف الحديث والرسالة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: فدل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على أن حقا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُزَوِّجُوا الْحَرَائِرَ الْبَوَالِغَ إِذَا أردن النكاح ودعون إلى رضا قال الله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {قال) وهذه أبين آيةٍ في كتاب الله تعالى دلالةً على أن ليس للمرأة أن تتزوج بغير ولي (قال) وقال بعض أهل العلم نزلت في معقل بن يسار رضي الله عنه وذلك أنه زوج أخته رجلاً فطلقها فانقضت عدتها ثم طلب نكاحها وطلبته فقال زوجتك أختي دون غيرك ثم طلقتها لا أنكحكها أبداً فنزلت هذه الآية "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: بَدَأَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ مِنْ نِكَاحِ الْأَيَامَى إِذَا دعون إلى رضى ووجوبه على الأولياء معتبر بخمس شرائط، وهو أَنْ تَكُونَ حُرَّةً بَالِغَةً عَاقِلَةً تَدْعُو إِلَى كُفْءٍ عَنْ تَرَاضٍ فَيَلْزَمُهُ إِنْكَاحُهَا وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ مَنْعُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 232) وَفِي الْعَضْلِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَنْعُ وَمِنْهُ قولهم: داء عضال إذا امتنع من أن يداوى وفلان عضلة أي داهية لأنه امْتَنَعَ بِدَهَائِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الضَّيِّقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَدْ أَعْضَلَ بِالْجَيْشِ الْفَضَاءُ إِذَا ضَاقَ بِهِمْ وَقَوْلُ عُمَرَ قَدْ أُعْضِلَ بِي أَهْلُ الْعِرَاقِ لَا يَرْضَوْنَ عَنْ والٍ وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ والٍ، وفي قوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} تأويلان:
أحدهما: إذا تراضا الزَّوْجَانِ بِالْمَهْرِ.
وَالثَّانِي: إِذَا رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ بِالزَّوَاجِ المكافئ، وفيمن نزلت هذه الآية قَوْلَانِ:
أَحَدُهَا: - وَهُوَ الْأَشْهَرُ - أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ زَوَّجَ أُخْتَهُ رَجُلًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَتَرَاضَيَا بَعْدَ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَضَلَهَا وَحَلَفَ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَضَلِهَا، وَأَمْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا فَفَعَلَ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَالشَّافِعِيِّ.

(9/37)


وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَعَ بِنْتِ عَمٍّ لَهُ وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ خَطَبَهَا فَعَضَلَهَا وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ.

فصل
[القول في اشتراط الولي في عقد النكاح]
فإن أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ على ستة مذاهب.
مذهب الشافعي منها: أَنَّ الْوَلِيَّ شَرْطٌ فِي نِكَاحِهَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إِلَّا بِهِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بالعقد على نفسها، وإن أذن لها وليها سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، شَرِيفَةً أَوْ دنية، بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ، وَشُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، ومن الفقهاء: الأوزاعي، والثوري، ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا وِلَايَةٌ لِبُلُوغِهَا وَعَقْلِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي نِكَاحِهَا وِلَايَةٌ، وَجَازَ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى نفسها وترده إلى من شَاءَتْ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ وَلَا اعْتِرَاضَ عليها من الوالي إِلَّا أَنْ تَضَعَ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا وِلَايَةٌ لِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ لَمْ تَنْكِحْ نَفْسَهَا إِلَّا بِوَلِيٍّ.
قال مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ شَرَفٍ أَوْ جَمَالٍ أو مال صَحَّ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ.
وَقَالَ دَاوُدُ: إِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا صَحَّ بِغَيْرِ وَلِيٍّ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنْ أَذِنَ لَهَا وَلِيُّهَا جَازَ أَنْ تَعْقِدَ عَلَى نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ أبو يوسف: تَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَتْ مِنَ الرِّجَالِ فِي تَزْوِيجِهَا دُونَ النِّسَاءِ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهَا.
فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 234) فَنَسَبَ النِّكَاحَ إِلَيْهِنَّ وَرَفْعَ الِاعْتِرَاضَ عَنْهُنَّ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " الأيم أحق بنفسها من وليه، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها ".
وبرواية نافع بن جبير وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس لولي مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ ".

(9/38)


وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: إِنْ أَبِي وَنِعْمَ الْأَبُ هُوَ زَوَّجَنِي بِابْنِ أَخٍ لَهُ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ فَرَدَّ نِكَاحَهَا.
فَقَالَتْ قَدِ اخْتَرْتُ مَا فَعَلَ أَبِي، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ لِيَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي نِكَاحِهِ كَالرَّجُلِ طَرْدًا وَالصَّغِيرِ عَكْسًا، ولأنه عقد يجوز أن يتصرف فيه الرجل فجاز أن تتصرف فيه المرأة كالبيع، ولأنه عقد على منفعة فجاز أن تتولاه المرأة كالإجارة، ولأن لما جاز تصرفها في المهر وهو بدل من العقد جاز تصرفها في العقد.
وتحريره: أن من جاز تصرفه في البدل جاز تصرفه في المبدل كالبالغ في الأموال طرداً وكالصغير عَكْسًا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضِلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 232) فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَهْيُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ عَضْلِهِنَّ، والعضل المنع في أحد التأويلين، والتضييق فِي التَّأْوِيلِ الْآخَرِ، فَلَوْ جَازَ لَهُنَّ التَّفَرُّدُ بِالْعَقْدِ لَمَا أَثَّرَ عَضْلُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ نَهْيٌ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 232) . وَالْمَعْرُوفُ مَا تناوله العرف بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ الْوَلِيُّ وَشَاهِدَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَنْعُ من العضل إنما توجه إلى الأزواج لتقديم ذِكْرِهِمْ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآية ذكر، فمن ذلك جوابان:
أحدهما: أنه لا يجوز توجيه النَّهْيِ إِلَى الْأَزْوَاجِ، لِأَنَّهُ إِنْ عَضَلَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْعِدَّةِ فَحَقٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ عَضَلَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فِي أَشْهَرِ القولين أو جابر في أضعفهما يوجب حمله عَلَى الْأَوْلِيَاءِ دُونَ الْأَزْوَاجِ، وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ يَعُودَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ إِذًا دَلَّ الْخِطَابُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) {العاديات: 6، 7) يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى: {وَإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ) {العاديات: 8) . يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَنْكِحُوهٌنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ) {النساء: 25) أَيْ أَوْلِيَائِهِنَّ، فَجَعَلَ إِذَنَ الْأَوْلِيَاءِ شَرْطًا فِي نِكَاحِهِنَّ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِعَدَمِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، وَأَنَسٌ، وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَثْبَتُ الرِّوَايَاتِ رِوَايَةُ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ ".

(9/39)


وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عدلٍ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ نكاح من صغيره وكبيره وشريفة ودنية وَبِكْرٍ وَثَيِّبٍ.
فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَلِيَّةُ نَفْسِهَا فَإِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا كان نكاحها بولي.
فعن ذلك جوابان أَنَّهُ خِطَابٌ لَا يُفِيدُ، لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِمَنْكُوحَةٍ وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْعُقُودِ، وَقَدْ خُصَّ النِّكَاحُ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ رَجُلًا، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرَادُ لَقَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيَّةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدِ الزَّنْجِيِّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا - أَوْ قَالَ: اخْتَلَفُوا - فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ.
وَهَذَا نَصٌّ فِي إِبْطَالِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا تَمْيِيزٍ، واعترضوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِثَلَاثَةِ أَسْئِلَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ قَالُوا: مَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنه قال لقيت الزهري فسألته عنه قال: لَا أَعْرِفُهُ وَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ عَنِ الزَّهْرِيِّ أَرْبَعَةٌ: سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَرَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ ثَلَاثَةٌ: الزُّهْرِيُّ وَهُشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَأَبُو الْغُصْنِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَلَمْ يَصِحَّ إِضَافَةُ إِنْكَارِهِ إِلَى الزهري مع العدد الذي رووه عنه، ولو صح إنكاره له لما أثر فيه من رِوَايَةِ غَيْرِ الزُّهْرِيِّ لَهُ عَنْ عُرْوَةَ.
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الزُّهْرِيَّ أَنْكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى وَقَالَ لَا أَعْرِفُهُ وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْكِرَهُ الزُّهْرِيُّ وَلَا يَعْرِفَهُ وَلَيْسَ جَهْلُ الْمُحَدِّثِ بِالرَّاوِي عَنْهُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَلَا مَعْرِفَتُهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ حَدِيثِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِنْكَارِ الْمُحَدِّثِ لِلْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وليس استدامة ذكر

(9/40)


المحدث شَرْطًا فِي صِحَّةِ حَدِيثِهِ فَإِنَّ رَبِيعَةَ رَوَى عَنْ سهيلٍ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " ثُمَّ نَسِيَ سهيلٌ الْحَدِيثَ فَحَدَّثَ بِهِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سُهَيْلٌ إِذَا حدث به قال: أخبرني علي عَنْ أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ".
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ عَنْ عَائِشَةَ فقد رَوَيْتُمُوهُ عَنْهَا، لِأَنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: أمثلي يقتات عليه في بناته فأمضى النكاح. وقيل إن ما روته مِنَ الْحَدِيثِ أَثْبَتُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، مِمَّا رُوِيَ عَنْهَا مِنْ نكاحٍ ابْنَةِ أَخِيهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ لِإِبْطَالِهِ وُجُوهًا عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ: قَدْ أَفْرَدَ لِلْجَوَابِ عَنْهُ بَابًا فَنَحْنُ نَذْكُرُهُ فِيهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عَلَيْهَا مِنَ النِّسَاءِ وِلَايَةٌ بِصِغَرٍ أَوْ رقٍ وَتِلْكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إِلَّا بولي، وقد روي في الخبر: أن امرأة نكحت بغير إذن مواليها، فنكاحها باطل، فَاقْتَضَى صَرِيحُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَمْلَهَا عَلَى الْأَمَةِ، ودليل تلك آكد وأن حمله عَلَى الصَّغِيرَةِ وَخَرَجَتِ الْحُرَّةُ الْكَبِيرَةُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ وِلَايَةً، لِجَوَازِ اعْتِرَاضِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى جَمِيعِهِنَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِاسْتِوَاءِ الصغير والصغيرة فيه، ولانتفاء تخصيص النِّسَاءِ بِالذِّكْرِ تَأْثِيرٌ
وَالثَّانِي: لِاسْتِوَاءِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِ النِّكَاحِ بِالذِّكْرِ تَأْثِيرٌ وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَمَةِ لَا يَجُوزُ مِنْ وجهين.
أحدهما: لاستواء العبد والأمة فيه لم يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْأَمَةِ تَأْثِيرٌ.
وَالثَّانِي: لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْخَبَرِ: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلَيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ " وَالسُّلْطَانُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا للأمة، وإن عضلها مواليها، وروايتهم أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ". وَالْمَوْلَى يَنْطْلِقُ عَلَى الْوَلِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) {مريم: 5) . يَعْنِي الْأَوْلِيَاءَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رِقٌّ فَيَكُونُ لَهُ مَوْلَى، عَلَى أَنَّنَا نَسْتَعْمِلُ الرِّوَايَتَيْنِ فَتَكُونُ رِوَايَتُنَا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْحُرَّةِ، وَرِوَايَتُهُمْ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْأَمَةِ فَلَا

(9/41)


يَتَعَارَضَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ المرأةَ وَلَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا " وَالَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا هِيَ الزَّانِيَةُ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ: الزَّوْجُ، وَالْوَلِيُّ، وَشَاهِدَانِ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ قَوْلُ مِنْ ذَكَرْنَا مِنَ الرُّوَاةِ الثَّمَانِيَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَمَّا عَلَيٌّ فَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ أَشَدُّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمَّا عُمَرُ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا أَوِ السُّلْطَانِ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا إِنْ كَانَ وَاحِدًا، أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، أَوِ السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يكن لها ولي.
الثاني: بإذن وليها إن لم كان لها ولي، فإن كان لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ بِمَشُورَةِ ذي الرأي من أهلها وذوي أَرْحَامِهَا، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّابِعَيْنِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ.
ويدل على ذلك من القياس هو أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ زَوَائِدِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَانَ شَرْطًا فِيهِ كَالشُّهُودِ، وَلِأَنَّ مَا اخْتُصَّ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ بِزِيَادَةِ عَدَدٍ كَانَتِ الزِّيَادَةُ شَرْطًا فِيهِ كَالشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَارَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لَمْ يملكه الْمُفْتَرَشَةَ كَالْأَمَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي فَسْخِهِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ عَقْدِهِ كَالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ إِذَا زَوَّجَا أَنْفُسَهُمَا، ولأن من منع من الوفاء معقود العقد خرج من العقد كالمحجور عليه، ولأنه أَحَدُ طَرَفَيِ الِاسْتِبَاحَةِ فِلَمْ تَمْلِكُهُ الْمَرْأَةُ كَالطَّلَاقِ، ولأن لولي المرأة قبل بلوغها حقين: حقاً في طلب الكفاءة، وحقاً في طلب الْعَقْدِ، فَلَمَّا كَانَ بُلُوغُهَا غَيْرَ مُسْقِطٍ لِحَقِّهِ فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ كَانَ غَيْرَ مُسْقِطٍ لِحَقِّهِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ.
وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ:
أحدها: أنه أحد حقي الولي فلم يسقط بلوغها كَطَلَبِ الْكَفَاءَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مِنْ ثَبَتَ عَلَيْهَا حَقُّ الْوَلِيِّ فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ ثَبَتَ عليه حَقُّهُ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ كَالصَّغِيرَةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِرَفْعِ الْجَنَاحِ عَنْهُنَّ أَنْ لَا يُمْنَعْنَ من النكاح فإذا أَرَدْنَهُ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهِنَّ بِغَيْرِ وَلِيٍّ كما لم يَدُلَّ عَلَى تَفَرُّدِهِنَّ بِغَيْرِ شُهُودٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 234) . يقتضي

(9/42)


فِعْلُهُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْحَسَنِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْحَسَنِ أَنْ تُنْكِحَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا " فَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْأَيِّمِ قولين:
أحدهما: الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَإِنْ لَمْ تُنْكَحْ قَطُّ يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَيِّمٌ، إِذَا كَانَتْ خَلِيَّةً مِنْ زَوْجٍ وَرَجُلٌ أَيِّمٌ إِذَا كَانَ خَلِيًّا مِنْ زَوْجَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا يُقَالُ لَهَا أَيِّمٌ إِلَّا إِذَا نَكَحَتْ ثُمَّ حَلَّتْ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... يدا الدهر ما لم تنكحي أَتَأَيَّمِ)

فَأَمَّا الْأَيِّمُ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهَا الثَّيِّبُ مِنَ الْخَالِيَاتِ الْأَيَامَى دُونَ الْأَبْكَارِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ".
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا قَابَلَ الْأَيِّمَ بِالْبِكْرِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْبِكْرُ غَيْرَ الْأَيِّمِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْبِكْرِ إِلَّا الثَّيِّبُ فَلِهَذَا عَدَلَ بِالْأَيِّمِ عَنْ حَقِيقَةِ اللُّغَةِ إِلَى مُوجِبِ الْخَبَرِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَعَنِ الْخَبَرِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أحدها: أنها أحق بنفسها فِي أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ إِنْ أَبَتْ وَلَا تمنع إن طلبت تدل تَفَرُّدَهَا بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا وَلِيًّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهَا أحق بنفسها موجب أن لا يسقط وِلَايَتُهُ عَنْ عَقْدِهَا لِيَكُونَ حَقُّهَا فِي نَفْسِهَا وَحَقُّ الْوَلِيِّ فِي عَقْدِهَا فَيَجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " فِي الْعَقْدِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَةَ " أَحَقُّ " مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمُسْتَحَقِّ إِذَا كَانَ حق أحدها فِيهِ أَغْلَبَ كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو إِذَا كَانَا عَالِمَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ وَأَعْلَمُ، وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا، وَعَمْرٌو جَاهِلًا لَكَانَ كلاماً مردوداً، لأنه لا يَصِيرُ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ الْعَالِمُ أَعْلَمُ مِنَ الْجَاهِلِ، وهذا الفرد إذا كان ذلك موجباً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ وَحَقُّ الثَّيِّبِ أَغْلَبُ، فَالْأَغْلَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَتِهَا الْإِذْنُ وَالِاخْتِيَارُ من جهة قَبُولِ الْإِذْنِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ ".

(9/43)


فَالْأَمْرُ هُوَ الْإِجْبَارُ وَالْإِلْزَامُ وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُ الثيب وإلزامها ولا يقتضي ذلك أن ينفرد بِالْعَقْدِ دُونَ وَلِيِّهَا كَمَا لَا تَنْفَرِدُ بِهِ دون الشهود.
فأما حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا، فَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ فُلَانٍ، فَإِنْ كَانَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُرْسَلُ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَالْمُرْسَلُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الرَّاوِي تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ حَدِيثِهِ ثُمَّ لَا حُجَّةَ فِيهِ لَوْ صَحَّ، لِأَنَّهُ رد [نكاحاً انفرد بِهِ الْوَلِيُّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لَوْ أَجَازَ نكاحاً] تفردت به المرأة.
وأما قياسهم عَلَى الرَّجُلِ فَالْمَعْنَى فِي الرَّجُلِ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ فِي الْكَفَاءَةِ لم يكن له في العقد عليه ولاية، ولما كان للولي على المرأة اعتراض في الكفاءة لم تكن له في العقد عليها ولاية، وكذا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ اعْتِرَاضٌ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَقْدُ نِكَاحِهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَهْرِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا فِيهِ وَيَمْنَعَهَا بِأَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَقَلَّ من مهرها ثم هو منتقض بقطع الأطراف فِي إِبْدَالِهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْقَطْعِ وَالْإِبَاحَةِ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا مَالِكٌ فَفَرَّقَ بَيْنَ الشريفة والدنية بِأَنَّ الْوَلِيَّ يُرَادُ لِحِفْظِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَضَعَ نفسها في غير كفء والدنية مُكَافِئَةٌ لِكُلِّ الْأَدْنِيَاءِ فَلَمْ يَبْقَ لِوَلِيِّهَا نَظَرٌ وَاحْتِيَاطٌ فِي طَلَبِ الْأَكْفَاءِ فَجَازَ عَقْدُهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَمْ يَجُزْ عَقْدُ الشَّرِيفَةِ إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دَنِيَّةٍ إِلَّا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الرِّجَالِ مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْهَا فَاحْتِيجَ إِلَى احْتِيَاطِ الْوَلِيِّ فِيهَا، ثُمَّ لَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ فرقة فقبل الشَّرِيفَةُ يَمْنَعُهَا كَرَمُ أَصْلِهَا مِنْ وَضْعِ نَفْسِهَا في غير كفء فلم يحتج إلى احتياط الولي، والدنية يمنعها لُؤْمُ أَصْلِهَا عَلَى وَضْعِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ لَكَانَ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ، فَوَجَبَ إِسْقَاطُ الْفَرْقِ بينهما، ثم يقال له لما لم يكن هذا الفرق مَانِعًا مِنِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ فَهَلَّا كَانَ غير مانع من استوائهما فِي الْوَلِيِّ مَعَ كَوْنِ النُّصُوصِ فِي الْوَلِيِّ عَامَّةً لَا تُخَصُّ بِمِثْلِ هَذَا الْفَرْقِ.
فَصْلٌ
وأما دَاوُدُ فَخَصَّ الثَّيِّبَ بِالْوِلَايَةِ دُونَ الْبِكْرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ " لِيُطَابِقَ بَيْنَ الإخبار في الاستعمال، وقد قدمنا وجه استعمالهما وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَاقِعٌ فِي الْأَخْبَارِ فَكَانَ جَوَابًا، ثُمَّ فَرَّقَ دَاوُدُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ بِأَنَّ الثَّيِّبَ قَدْ خَبَرَتِ الرِّجَالَ فَاكْتَفَتْ بِخِبْرَتِهَا عن اختيار وليها والبكر لم تخبر فَافْتَقَرَتْ إِلَى اخْتِيَارِ وَلِيِّهَا وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ وَعَكْسُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى، لِأَنَّ خِبْرَةَ الثَّيِّبِ بِالرِّجَالِ تَبْعَثُهَا عَلَى فَرْطِ الشَّهْوَةِ فِي وَضْعِ نَفْسِهَا، فمن قَوِيَتْ فِيهِ شَهْوَتُهَا وَالْبِكْرُ لِعَدَمِ الْخِبْرَةِ أَقَلُّ شَهْوَةً فَكَانَتْ لِنَفْسِهَا أَحْفَظَ عَلَى أَنَّ الشَّهْوَةَ مذكورة فِي طِبَاعِ النِّسَاءِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خلقت المرأة من الرجل فهما فِي الرَّجُلِ " فَغَلَبَ حُكْمُ الشَّهْوَةِ فِي

(9/44)


جميعهن ثيباً وأبكاراً حتى يمنعن مِنَ الْعَقْدِ إِلَّا بِوَلِيٍّ يُحْتَاطُ لِئَلَّا تَغْلِبَهَا فَرْطُ الشَّهْوَةِ عَلَى وَضْعِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ فَيَدْخُلُ بِهِ الْعَارُ عَلَى أَهْلِهَا.

فَصْلٌ
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ: فَرَاعَى إِذْنَ الْوَلِيِّ دُونَ عقدة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " فَكَمَا يُرَاعَى فِي نِكَاحِ السَّفِيهِ إِذْنُ الْوَلِيِّ دُونَ عَقْدِهِ كَذَلِكَ هَذَا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ صَرِيحَ الْخَبَرِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ النِّكَاحِ لِعَدَمِ إذنه ودليل خطأئه نقيض صِحَّةِ النِّكَاحِ بِوُجُودِ إِذْنِهِ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِمَا رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ عَنِ ابن جريج بإسناده المتقدم ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لهما: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ لَمْ يُنْكِحْهَا وَلِيُّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ".
وَالثَّانِي: أَنَّ إِذْنَ الْوَلِيِّ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ النكاح هو إذن لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، وَهُوَ الْوَكِيلُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تصح أَنْ تَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ، لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهَا فلم تكن هي النائبة فيه لاختلاف القرضين فَجَرَى مَجْرَى الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي لَا يجوز أن يبيع على نفسه لاختلاف عرضه وعرض مُوَكِّلِهِ وَلَيْسَ لِاعْتِبَارِهِ بِالْإِذْنِ لِلسَّفِيهِ وَجْهٌ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ فِي حُقِّ نَفْسِهِ، وَالْحَجْرَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حُقُوقِ الْأَوْلِيَاءِ فَافْتَرَقَا.
فَصْلٌ
وأما أبو يوسف فاعتبر أن يعقد رَجُلٌ عَنْ إِذْنِهَا لِقُصُورِهَا عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدَ بِنَفْسِهَا وَجَعَلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهَا لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الْأَكْفَاءِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِنَابَةِ، وإن كانت غير مالكة لم يصح مِنْهَا الِاسْتِنَابَةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الِاسْتِنَابَةُ شَرْطًا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى إِجَازَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا لَمْ تَحْتَجْ إِلَيْهَا فَصَارَ مَذْهَبُهُ فاسد من هذين الوجهين.

مسألة
قال الشافعي: " وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا امرأةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطلٌ ثَلَاثًا فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا أَوْ قَالَ اخْتَلَفُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ له (قال) وفي ذلك دلالات. منها أن للولي شركاً فِي بُضْعِهَا لَا يَتِمُّ النِّكَاحُ إِلَّا بِهِ ما لم يعضلها ولا نجد لشركه في بضعها معنىً إلا فضل نظره لحياطة الموضع أن ينالها من لا يكافئها نسبه وفي ذلك عارٌ عليه وأن العقد بغير ولي باطلٌ لا يجوز بإجازته وأن الإصابة إذا كانت بشبهةٍ ففيها المهر ودرئ الحد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ اسْتِدْلَالِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا تَضَمَّنَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ والأحكام نصاً واستنباطاً منها في قوله: " أيما امرأة " فَذَكَرَ خَمْسَةَ أَحْكَامٍ وَذَكَرَ أَصْحَابُهُ ثَلَاثِينَ حُكْمًا سِوَاهَا فَصَارَتْ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ حُكْمًا أَخَذَتْ دَلَائِلَهَا مِنَ الْخَبَرِ بِنَصٍّ وَاسْتِنْبَاطٍ.

(9/45)


منها في قوله: " أيما امرأة " أربعة دَلَائِلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ " أَيُّ " لَفْظَةُ عُمُومٍ، لَهُ صِيغَةٌ لِتَنَاوُلِهِ جَمِيعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فَخَالَفَ قَوْلَ دَاوُدَ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ.
وَالثَّانِي: أَنْ " مَا " الْمُتَّصِلَةَ بِأَيِّ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، لِأَنَّهَا لو حذفت فقيل: أي امرأة صح، مثله قَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) {آل عمران: 159) . أَيْ فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الصِّلَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْكَلَامِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ أَحْكَامٌ.
وَالثَّالِثُ: اشْتِمَالُهُ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ يُخَالِفُ قَوْلَ أبي حنيفة، وشريفة ودنية يُخَالِفُ قَوْلَ مَالِكٍ، وَبِكْرٍ وَثَيِّبٍ يُخَالِفُ قَوْلَ دَاوُدَ.
وَالرَّابِعُ: خُرُوجُ الرِّجَالِ عَنْ حُكْمِ النِّسَاءِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ.
وَمِنْهَا فِي قوله: " نكحت بغير إذن ولها " خمسة دَلَائِلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ فَخَالَفَ قَوْلَ أبي حنيفة.
وَالثَّانِي: ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ في نكاحهن قَوْلُ مَنْ قَدَّمْنَا خِلَافَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُوكِّلَ، لِأَنَّ إِذْنَهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا لوكيل ينوب عنه.
والرابع: أن لَا وِلَايَةَ لِوَصِيٍّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ وَلَا نَائِبٍ عَمَّنْ هُوَ فِي الْحَالِ وَلِيٌّ.
وَالْخَامِسُ: أن العقد فاسد قَدْ يُضَافُ إِلَى عَاقِدِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ.
وَمِنْهَا فِي قَوْلِهِ: " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ "، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فنكاحها باطل ستة دَلَائِلَ:
أَحَدُهَا: بُطْلَانُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بِخِلَافِ قول من أجازه بغير ولي.
والثاني: لَا يَكُونُ إِذَا بَطَلَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النكاح الفاسد لا يفسخ بطلقه إن كَانَ مُخْتَلِفًا فِيهِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ يُسَمَّى نِكَاحًا.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ تَكُونُ حَقِيقَةً، وَمَجَازًا.
وَالسَّادِسُ: جَوَازُ تكرار اللفظ وزيادة في البيان وتوكيد للحكم، لِأَنَّهُ قَالَ: فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ثَلَاثًا.
وَمِنْهَا فِي قوله: " وَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " خَمْسَةَ عَشَرَ دَلِيلًا.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَسِيسَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَطْءَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ النكاح الفاسد إذا خلا من الإنابة لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْمَهْرُ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْخَلْوَةَ لا تكمل بِهَا الْمَهْرُ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة.

(9/46)


وَالسَّادِسُ: أَنَّ الْمُسْتَكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة.
وَالسَّابِعُ: أَنَّ الْإِصَابَةَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْجَيْنِ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ يُوجِبُ الْمَهْرَ، لِأَنَّهُ فَرْجٌ.
وَالثَّامِنُ: أَنَّ ذَاتَ الزَّوْجِ إِذَا أُصِيبَتْ بِشُبْهَةٍ فَلَهَا الْمَهْرُ دُونَ الزَّوْجِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ لِلزَّوْجِ.
وَالتَّاسِعُ: أن الموطوءة بشبهة يكون لها المهر لَا فِي بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ.
وَالْعَاشِرُ: أَنَّ تَكْرَارَ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ بِهِ إِلَّا مهر واحدة ما لم تغرم المهر عما تقدم به.
وَالْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْإِصَابَةَ دُونَ الْفَرْجِ لَا تُوجِبُ الْمَهْرَ.
وَالثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ الْغَارَّةَ لِلزَّوْجِ يسقط عنه مهره بالغرور.
والثالث عشر: أن الموطوءة في العدة بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ كَالْمَوْطُوءَةِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وتحريم المصاهرة لاستوائهما في وجوب المهر ولحوق النسب والعدة وتحريم المصاهرة.
وَالْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْمَهْرَ إِذَا اسْتُحِقَّ بِالْإِصَابَةِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة: أَنَّهُ يُوجِبُ أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى.
وأما قَوْلِهِ: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ " خَمْسَةُ دَلَائِلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَصَبَةَ أحق بالولاية عليها من السلطان.
والثانية: أنهم إذا عدموا انتقلت الولاية عليها إِلَى السُّلْطَانِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَقْرَبَ مِنْ عَصَبَتِهَا أَوْلَى مِنَ الْأَبْعَدِ، كَمَا أَنَّ الْعَصَبَةَ لِقُرْبِهِمْ أَوْلَى مِنَ السُّلْطَانِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إِذَا كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ إِذَا اشْتَجَرُوا أَحَقَّ مِنَ الْبَاقِينَ إِلَّا بِقُرْعَةٍ أو لتسليم.
والخامس: أنهم إذا اشتركوا فِي نِكَاحِهَا عَضْلًا لَهَا لَا تَنَازُعًا فِيهَا زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ.
وَالِاشْتِجَارُ عَضْلًا: أَنْ يَقُولَ كُلُّ واحد منهما زوجها أنت ليصيروا جميعاً عضلة فزوجها السلطان. والاشتجار إذا تَنَازَعًا أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا أزوجها فلا تنقل الولاية إلى السلطان، لأنهم غيرة عضلة بل يفرع بَيْنَهُمْ وَيُزَوِّجُهَا مِنْ قُرِعِ مِنْهُمْ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَجَمَعَتِ الطَّرِيقُ رُفْقَةً فِيهِمُ امْرَأَةٌ ثيبٌ فَوَلَّتْ أمرها رجلاً منهم فزوجها فجلد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناكح والمنكح ورد نكاحهما ".

(9/47)


قال الماوردي: وهذا الأمر المروي عن عمر وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ ولي فالمقصود به يَتَعَلَّقُ عَلَى الْمُتَنَاكِحَيْنِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَإِذَا تَنَاكَحَ الزَّوْجَانِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَتَرَافَعَا فِيهِ إِلَى حاكمٍ أَمْ لَا فَإِنْ تَرَافَعَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحَاكِمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَافِعِيًّا يَرَى إِبْطَالَ النِّكَاحِ بغير ولي، أو يكون حنيفاً يَرَى جَوَازَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا يَرَى إِبْطَالَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، حَكَمَ بإبطاله وفرق بينهما فإن اجتمعا حكم فيه بمذهبه، وقضى بينهما، عَلَى الْإِصَابَةِ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا كَانَا زَانِيَيْنِ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ، لِأَنَّ شُبْهَةَ الْعَقْدِ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ، فَلَوْ تَرَافَعَا بعد إبطال الحاكم الشافعي إِلَى حَاكِمٍ حَنَفِيٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يحكم بجوازه لنفوذ الحكم بإبطاله وإن كان فِي الِابْتِدَاءِ قَدْ تَرَافَعَا إِلَى حَاكِمٍ حَنَفِيٍّ يَرَى صِحَّةَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بصحته، وأذن لهما بالاجتماع فيه فلم يَكُنْ عَلَيْهِمَا فِي الْإِصَابَةِ حَدٌّ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بالإباحة، فلو ترافعا بعد حكم الحنفي بصحة إِلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِبْطَالِهِ وَيَنْقُضَ حَكَمَ الْحَنَفِيِّ بِصِحَّتِهِ وَإِمْضَائِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهِ وَنَقْضِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِإِمْضَائِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ: " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " ثَلَاثًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمًا قَدْ نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ، وَالنَّصُّ فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ.

فَصْلٌ
وَإِذَا لَمْ يَتَرَافَعَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ وَلَا حُكِمَ فِيهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ صِحَّةٍ أَوْ إِبْطَالٍ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِيهِ عَلَى الْإِصَابَةِ حَتَّى افْتَرَقَا فَلَا عِدَّةَ عليهما، وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يتوارثا وإن اجتمعا فيه على الْإِصَابَةِ لَمْ تَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أحدهما: أَنْ يَعْتَقِدَا الْإِبَاحَةَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَا تَحْرِيمَهُ.
والثالث: أن يجهلا حكمه، فإن اعتقدا الإباحة لِاعْتِقَادِهِمَا مَذْهَبَ أبي حنيفة فِيهِ فَلَا حَدَّ عليهما، لاستباحتهما له من اجْتِهَادٍ مُسَوَّغٍ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيِسَ لَوْ شَرِبَ النَّبِيذَ مَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ أبي حنيفة فِي إِبَاحَتِهِ حَدَدْتُمُوهُ، فَهَلَّا حَدَدْتُمْ هَذَا مَعَ اعْتِقَادِهِ إِبَاحَتَهُ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشُّبْهَةُ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَقْوَى لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَصْلَيْ حَظْرٍ مِنْ زِنَا وَإِبَاحَةٍ مِنْ نكاح، وإباحة الشبهة في النبيذ الذي لا يرجع إلا إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ فِي الْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ الخمر.
والثاني: أن النكاح الذي عقده وَلِيٍّ قَدْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى اسْتِبَاحَتِهِ بِوَلِيٍّ فَاقْتُصِرَ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ عَلَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ، وَلَيْسَ كَالنَّبِيذِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِبَاحَتِهِ فَلَمْ يَقْتَصِرْ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ عَلَى مجرد النهي حتى يضم إليه حكم هُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ، لِيَكُونَ أَمْنَعَ مِنَ الإقدام عليه.

(9/48)


فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَا جَاهِلَيْنِ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ ولي فلا حد عليهما، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ أَقْوَى شُبْهَةً، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادرأوا الحدود بالشبهات "، ولأن من جهل تحريم الزنا لحدوث إسلامه لم يجد فكان هذا بدرء الحد أولى، ألا ترى أن قول عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَمَةٍ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا إِقْرَارَ جَاهِلٍ بِتَحْرِيمِهِ أَرَاهَا تَشْهَدُ بِهِ كَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ، وَإِنَّمَا الْحَدُّ عَلَى مَنْ علم.
ثم يتعلق عَلَى هَذِهِ الْإِصَابَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَتَعَلَّقُ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ إِلَّا فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِ فيوجب العدة، ويلحق بالنسب، وَيَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ وَلَكِنْ فِي ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَثْبُتُ بِهَا الْمَحْرَمُ كَمَا تَثْبُتُ بِهَا تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَلَا تُحْجَبُ عن أبيه وابنه ولا تحجب عنه أمها وبنتها.
والوجه الثاني: أن يثبت المحرم وإن ثبت به تحريم المصاهرة، لأننا أثبتنا تحريم المصاهرة تغليظاً فاقتضى أن ينتفي عَنْهُ ثُبُوتُ الْمَحْرَمِ تَغْلِيظًا.
فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَا مُعْتَقِدَيْنِ لِتَحْرِيمِهِ يَرَيَانِ فِيهِ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ مِنْ إبطال النكاح بغير ولي فمحظور عليهما الإصابة فإن اجتمعا عليها وَوَطِئَهَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا حد عليهما وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - وهو مذهب الزهري، وأبي ثور: الحد عَلَيْهِمَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " البغي من نكحت بغير ولي ".
والأثر المروي عن عمر في المرأة والرجل جَمَعَتْهُمَا رُفْقَةٌ فَوَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا مِنْهُمْ فَزَوَّجَهَا فَجَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَبَرِ الْمَاضِي: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " فَأَبْطَلَ النِّكَاحَ وَأَوْجَبَ المهر دون الْحَدَّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ادرأوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ " وَأَقْوَى الشُّبَهَاتِ عَقْدٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِبَاحَتِهِ فَكَانَ بِإِدْرَاءِ الْحَدِّ أَوْلَى. فَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْبَغِيُّ مَنْ نَكَحَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ " فَهِيَ لَا تَكُونُ بَغِيًّا بِالنِّكَاحِ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا يَقُولُ مَنْ يُوجِبُ الْحَدَّ، إِنَّهَا تَكُونُ بِالْوَطْءِ بَغِيًّا فَلَمْ يَكُنْ فِي التَّعَلُّقِ بِهِ دَلِيلٌ، ثُمَّ يحمل على أنه يتعلق عليها بعض الأحكام الْبَغِيِّ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ، وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُسَمَّى بَعْضُ أَحْكَامِ الْبَغْيِ بَغْيًا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ " فَسَمَّاهُ بِبَعْضِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ كَافِرًا، وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ فَالْجَلْدُ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعْزِيرِ أَلَّا تَرَاهُ جَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْكِحِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَزَّرَهُمَا.

(9/49)


فَصْلٌ
وَإِذَا تَنَاكَحَ الزَّوْجَانِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ثُمَّ طلقها ثلاثاً ففي حكم طلاقه وحكم تحريمها عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أحدهما: يجز عَلَيْهِ حُكْمَ الطَّلَاقِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ اعْتِبَارًا بِأَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَمَنْ عَاضَدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ لَهُمْ فيه سَلَفٌ إنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ للحكم بإبطاله وإنما تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي نِكَاحٍ، وَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، فَإِنْ قِيلَ بِهَذَا الْوَجْهِ إِنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَهَا، قَبْلَ زَوْجٍ، فَإِنَّهُ إِذَا أَصَابَهَا لَمْ تَحِلَّ بِإِصَابَتِهِ لَهَا للزوج إن كان طَلَّقَهَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهِ لَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيره فهل تحل بإصابته لها الزوج إِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا أَمْ لَا فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَحِلُّ لَهُ لِإِجْرَائِنَا عَلَى طَلَاقِهِ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ لِأَنَّنَا ألزمناه حكم طلاقه تغليظاً عليهما فَكَانَ مِنَ التَّغْلِيظِ أَنْ لَا تَحِلَّ لِغَيْرِهِ بإصابته.
فصل
وإذا عدمت المرأة ولياً مناسباً وكانت فِي بَلَدٍ لَا حَاكِمَ فِيهِ وَأَرَادَتْ نِكَاحَ زَوْجٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تنكح حتى تجد ولياً بحكم أو بنسب كَمَا عَدِمَتِ الشُّهُودَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَزَوَّجَ حتى تجد الشهود.
والوجه الثاني: أن يَجُوزَ لِلضَّرُورَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُرَادُ لِنَفْيِ الْعَارِ عَنْهُ بِتَزْوِيجِ غَيْرِ الْكُفْءِ فَإِذَا عدم زال معناه وخالف الشهود المعقود بِهِمُ الِاسْتِيثَاقَ لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا جَوَّزَ لَهَا التَّزْوِيجَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْوَلِيِّ قَدْ أَسْقَطَ حُكْمَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُوَلِّي أَمْرَهَا رَجُلًا يَكُونُ بَدَلًا مِنْ وَلِيِّهَا حَتَّى لَا يَخْلُوَ الْعَقْدُ مَنْ عَدَدِهِ، وَيُحْتَمَلُ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْخَصْمَيْنِ إِذَا حَكَّمَا رَجُلًا هَلْ يَلْزَمُهُمَا حُكْمُهُ كَلُزُومِ الْحَاكِمِ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَا وِلَايَةَ لِوَصِيٍّ لِأَنَّ عَارَهَا لَا يَلْحَقُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:

(9/50)


إذا وصى الْأَبُ بِتَزْوِيجِ بِنْتِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَصِيِّهِ أَنْ يزوجها صغيرة كانت أم كَبِيرَةً عُيِّنَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ لَمْ يعين وَلَا يُزَوِّجْهَا إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً إِلَّا أَنْ يُعَيَّنَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُزَوِّجُهَا الْوَصِيُّ بِكُلِّ حَالٍ اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَى مَالِهَا وَنِكَاحِهَا فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِهَا جَازَ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى نِكَاحِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْأَبِ أَنْ يستنيب في حياته وكيلاً جاز له أن يستنيب بعد مَوْتِهِ وَصِيًّا كَالْمَالِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " وَلَيْسَ الْوَصِيُّ وَلِيًّا، وَلِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: زَوَّجَنِي خَالِيَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ بِابْنَةِ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَمَضَى الْمُغِيرَةُ إِلَى أُمِّهَا وَأَرْغَبَهَا فِي الْمَالِ فَمَالَتْ إِلَيْهِ، وَزَهِدَتْ فِيَّ فَأَتَى قدامة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أَنَا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا وَمَا نَقَمُوا مِنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَّا أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا يَتِيمَةٌ وَإِنَّهَا لَا تُنْكَحُ إِلَّا بِإِذْنِهَا " فَرَدَّ نِكَاحَهُ مَعَ كَوْنِهِ وَصِيًّا مِنْ غَيْرِ أن يستبرئ حال صغرها وكبرها ولا هل عين الأب على الزوج أم لا؟ فدل على أن النكاح إنما يجاز له؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَلِأَنَّ وِلَايَةَ النكاح قد انتقلت بِمَوْتِ الْأَبِ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ فَصَارَ مُوصِيًا فِيمَا غَيْرُهُ أَحَقُّ بِهِ فكان مردود الوصية كما وَصَّى بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ أَطْفَالِهِ وَلَهُمْ جَدٌّ إِلَى غَيْرِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ، كَذَلِكَ هَذَا.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا وِلَايَةٌ قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ فَلَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا بِالْوَصِيَّةِ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ مَعَ وُجُودِ الْجَدِّ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْعَصَبَةَ إِنَّمَا اخْتُصُّوا بِالْوِلَايَةِ فِي نِكَاحِهَا لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ عَارِهَا بِنِكَاحِهَا غَيْرَ كُفْءٍ فَصَارَ حَقُّ الولاية بينهم مشتركاً لرفع الْعَارِ عَنْهُمْ وَعَنْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الوصي الذي لا يلحقه عارها فلم نثبت وِلَايَتَهُ لِفَقْدِ مَعْنَاهَا، وَلَيْسَ كَالْوَكِيلِ الَّذِي هُوَ نائب غير مُسْتَحِقٍّ لَهَا وَهُوَ مِنْ وَرَائِهِ مُرَاعٍ لِنَفْيِ العار عنه وعنها.

مسألة
قال الشافعي: " وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا " دَلَّالَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بين الثيب والبكر فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إِذْنَ الْبِكْرِ الصَّمْتُ والتي تخالفها الْكَلَامُ وَالْآخَرُ أَنَّ أَمْرَهُمَا فِي وِلَايَةِ أَنْفُسِهِمَا مختلفٌ فَوِلَايَةُ الثَّيِّبِ أَنَّهَا أَحَقٌ مِنَ الْوَلِيِّ وَالْوَلِيُّ ههنا الْأَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بالأيم هاهنا الثيب لما قدمنا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي كلمتين:

(9/51)


إحداهما: الفرق بينهما في صفة الإذن.
والثاني: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْعَقْدِ، وَنَحْنُ نُقَدِّمُ الْكَلَامَ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْعَقْدِ لِأَنَّهُ أصل لم يعقبه بِصِفَةِ الْإِذْنِ فِي مَوْضِعِهِ، فَنَقُولُ: النِّسَاءُ ضَرْبَانِ: أَبْكَارٌ، وَثَيِّبٌ.
فَأَمَّا الثَّيِّبُ فَيَأْتِي حُكْمُهُنَّ.
وَأَمَّا الْأَبْكَارُ فَلَهُنَّ حَالَتَانِ حَالَةٌ مَعَ الْآبَاءِ، وَحَالَةٌ مع غيرهم من الأولياء.
فما حالهن مع الآباء فهن ضَرْبَانِ: صِغَارٌ، وَكِبَارٌ.
فَأَمَّا صِغَارُ الْأَبْكَارِ فَلِلْآبَاءِ إِجْبَارُهُنَّ عَلَى النِّكَاحِ فَيُزَوِّجُ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعِيَ فِيهِ اخْتِيَارَهَا وَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا لَهَا فِي صِغَرِهَا وَبَعْدَ كِبَرِهَا، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا يَقُومُ فِي تَزْوِيجِ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ مَقَامَ الْأَبِ إِذَا فُقِدَ الْأَبُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ وِفَاقًا قَوْله تَعَالَى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ) {الطلاق: 4) يَعْنِي الصِّغَارَ، وَالصَّغِيرَةُ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فِي الصِّغَرِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنَا ابْنَةُ سَبْعٍ، وَدَخَلَ بِي وَأَنَا ابْنَةُ تسع، ومات عني، وأنا ابنة ثماني عشر.

فصل
وأما البكر الكبيرة فللأب أو للجد عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَهَا جَبْرًا كَالصَّغِيرَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْذِنُهَا عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْعَقْدِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِلْأَبِ إِجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغِ على العقد إِلَّا عَنْ إِذْنٍ.
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، فجعل الإجبار معتبراً بالصغيرة دون البكارة، وجعل الشافعي الإجبار معتبراً بالبكارة دون الصغر، واستدل من نص قَوْلَ أبي حنيفة بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أن رجلاً زوج ابنته وهي بكر فمات فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمَا، وَبِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ " فَكَانَ عَلَى عمومه، ولأنها متصرفة في مالها فلا يجوز إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالثَّيِّبِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ زال عنه الحجر فِي مَالِهِ زَالَ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي نِكَاحِهِ كالرجل.
ودليلنا رواية الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ نَافِعِ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا " فَلَمَّا جَعَلَ الثيب أحق بنفسها من وليها علم أَنَّ وَلِيَّ الْبِكْرِ أَحَقُّ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا ويكون قوله: " والبكر تستأذن في نفسه " مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ اسْتِطَابَةً لِلنَّفْسِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْوُجُوبِ لَصَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا كَالثَّيِّبِ.

(9/52)


وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ قبض صداقها بعد رضاعها جَازَ لَهُ عَقْدُ نِكَاحِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا كَالْأَمَةِ وَكَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ؛ وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْوِلَايَةِ فِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ اسْتُحِقَّ بِالْوِلَايَةِ فِي نِكَاحِ الْكَبِيرَةِ قِيَاسًا عَلَى طَلَبِ الْكَفَاءَةِ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهَا جَبْرًا فِي الْكِبَرِ لَمَا كَانَ لَهُ تَفْوِيتُ بُضْعِهَا فِي الصِّغَرِ كَالطِّفْلِ يُقْتَلُ أَبُوهُ لَمَّا لم يكن لولي تفويت خياره عليه في القود والدية بعد البلوغ لم يكن له تفويته عَلَيْهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَكَانَ الْقَاتِلُ مَحْبُوسًا حَتَّى يَبْلُغَ فَيَخْتَارُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَبْطُلُ بِالصَّبِيِّ فَإِنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى النِّكَاحِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
قُلْنَا: لَيْسَ فِي تَزْوِيجِ الِابْنِ تَفْوِيتٌ لِمَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَالثَّيِّبُ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلَاصِ نفسها من عقد الأب إن لم يشاء. وَأَمَّا خَبَرُ عَائِشَةَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّيِّبِ دُونَ الْبِكْرِ تَخْصِيصًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الثَّيِّبِ فَالْمَعْنَى فِيهَا؛ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ عَقْدُ نِكَاحِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَمَّا جَازَ لِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِ الْبِكْرِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَ أبي حنيفة وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ جاز له أن يعقد نكاحا بغير رضاها، لأن التصرف في المبدل معتبر بالتصرف فِي الْبَدَلِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجُلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ فِي نِكَاحِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبِكْرُ.

فَصْلٌ
فإذا ثَبَتَ أَنَّ لِلْأَبِ إِجْبَارَ الْبِكْرِ عَلَى النِّكَاحِ صغيرة أو كبيرة، وكذلك الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ لَيْسَ الْإِجْبَارُ إِلَّا لِلْأَبِ دُونَ الْجَدِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لِلْجَدِّ إِجْبَارُ الصَّغِيرَةِ كَالْأَبِ وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ الْكَبِيرَةِ بِخِلَافِ الْأَبِ وَفَرَّقَا بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، بِأَنَّ الْجَدَّ يَمْلِكُ الْوِلَايَةَ بِوَسِيطٍ كَالْإِخْوَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِلَة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) {الحج: 78) فَسَمَّاهُ أَبًا إجراءً لحكم الْأَبِ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الِاسْمِ، وَلِأَنَّهُ لما ثبت ولاية الجد على الأب فأولى أن يثبت عَلَى مَنْ يَلِي عَلَيْهِ الْأَبُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَى الْجَدُّ الْأَبَ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى مَالِهَا سَاوَاهُ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى نِكَاحِهَا وَبِهَذَا فَرَّقَ بينه وبين سائر الْعَصَبَاتِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا حَالُ الْبِكْرِ مَعَ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ فَلَا تَخْلُو حَالُهَا مَعَهُمْ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِجْبَارُهَا إِجْمَاعًا، وَلَيْسَ لَهُمْ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآبَاءِ، وَالْعَصَبَاتِ؛ أَنَّ فِي الْآبَاءِ بَعْضِيَّةً لَيْسَتْ فِي الْعَصَبَاتِ فَقَوِيَتْ بِهَا

(9/53)


وِلَايَتُهُمْ حَتَّى تَجَاوَزَتْ وِلَايَةَ النِّكَاحِ إِلَى وِلَايَةِ المال فصاروا بذلك أعجز، ولأنه مِنَ الْعَصَبَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبِكْرُ صَغِيرَةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَصَبَاتِ تَزْوِيجُهَا بِحَالٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لِجَمِيعِ الْعَصَبَاتِ تَزْوِيجُهَا صَغِيرَةً كَالْأَبِ وَلَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ بِخِلَافِهَا مَعَ الْأَبِ.
وَقَالَ أبو يوسف: لَهُمْ تَزْوِيجُهَا وَلَا خِيَارَ لَهَا كَهِيَ مَعَ الْأَبِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) {النساء: 127) .
قَالَ: وَالْيَتِيمَةُ مَنْ لَا أَبَ لَهَا مِنَ الصِّغَارِ وَالَّذِي كُتِبَ لَهَا صَدَاقُهَا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ لَهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا فِي الْكِبَرِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَزْوِيجِهَا فِي الصِّغَرِ كَالْأَبِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْآبَاءُ وَالْعَصَبَاتُ فِي إِنْكَاحِ الثَّيِّبِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوُوا فِي إِنْكَاحِ الْبِكْرِ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ زَوَّجَ ابنة أخيه بعبد الله بن عمر فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَهُ فَقَالَ إِنَّنِي عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إنها يتيمة وإنها لا تتزوج إِلَّا بِإِذْنِهَا " فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ تَزْوِيجَهَا إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ لم يَمْلِكْ قَبْضَ صَدَاقِهَا لَمْ يَمْلِكْ عَقْدَ نِكَاحِهَا كالعم مع الثيب طرداً، أو كالسيد مع أمته عكساً، ولأنها ثبتت لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ الْعَصَبَاتِ كَوِلَايَةِ المال، ولأن النكاح إذا لم ينعقد لأن ما كَانَ فَاسِدًا كَالْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِخِيَارِ التَّحَكُّمِ وَالِاقْتِرَاعِ قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الثَّيِّبِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَتُحْمَلُ عَلَى إِنْكَاحِهَا قبل اليتم أو على إنكاح الجد، لِأَنَّ الْيُتْمَ يَكُونُ بِمَوْتِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ بَاقِيًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَبِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْوِلَايَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْإِجْبَارِ، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَمَرْدُودٌ بِافْتِرَاقِهِمَا فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " ومثل هذا حديث خنساء زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ ثيبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَرَدَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَهُ وَفِي تَرْكِهِ أَنْ يَقُولَ لِخَنْسَاءَ " إِلَّا أَنْ تَشَائِي أَنْ تُجِيزِي مَا فَعَلَ أَبُوكِ " دلالةٌ عَلَى أَنَّهَا لَوْ أَجَازَتْهُ مَا جَازَ والبكر مخالفةٌ لها لاختلافهما في لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو كانا سواء كان لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنهما أحق بأنفسهما. وقالت عائشة رضي الله عنها تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأذا، ابنة سبع سنين ودخل بي وأنا ابنة تسع وهي لا أمر لها وكذلك إذا بلغت ولو كانت أحق بنفسها أشبه أن لا يجوز ذلك عليها قبل بلوغها كما قلنا في المولود يقتل أبوه ويحبس قاتله حتى يبلغ فيقتل أو يعفو ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ لَا يَصْحُ وَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْنِ مِنْ صِحَّةٍ أَوْ فَسَادٍ، سَوَاءً كَانَ موقوفاً على إجازة الزوجة، أو الزوج أَوِ الْوَلِيِّ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِحُّ النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ عَلَى إجازة الزوجة، أو الزوج، أو الولي،

(9/54)


وَيَصِحُّ الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ عَلَى إِجَازَةِ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أَبِي وَنِعْمَ الْأَبُ هُوَ زَوَّجَنِي بِابْنِ أَخٍ لَهُ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ مَا فَعَلَ أَبِي وَإِنَّمَا أردت لتعلم النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَلَمَّا خَيَّرَهَا وَالْخِيَارُ لَا يَثْبُتُ فِي اللَّازِمِ وَلَا فِي الْفَاسِدِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كان موقوفاً على خيارها وإجازتها قال: لأنه لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَارِثِ، وَاللُّقَطَةُ إِذَا تَصَدَّقَ بِهَا الْوَاحِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ لِكَوْنِ الْمُجِيزِ لَهُمَا مَوْجُودًا جَازَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَكُونُ فِي حَالِ الْوَقْفِ مَوْجُودًا.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُجِيزُهُ مَوْجُودًا جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِجَازَتِهِ مَوْقُوفًا كَاللُّقَطَةِ، وَالْوَصِيَّةِ.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْفَسْخِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الِاخْتِيَارِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَالْفَسْخِ قَالَ: وَلِأَنَّ حَالَ الْعَقْدِ بَعْدَ كَمَالِهِ أَقْوَى مِنْ حَالِهِ قَبْلَ كَمَالِهِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ قبل كماله موقوفاً بعد البذل عَلَى إِجَازَةِ الْقَبُولِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ أَحَدُ حالتي الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْحَالِ الْأُولَى.
وَدَلِيلُنَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطل فَلَوْ صَحَّ بِالْإِجَازَةِ لَوَقَفَهُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ، ولما حكم بإبطاله؛ حدث خَنْسَاءَ بِنْتِ خِدَامٍ أَنْ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكاحها ولم يقل إلا أن تشاء أَنْ تُجِيزِي مَا فَعَلَ أَبُوكِ مَعَ حَثِّهِ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ أجازته لَمْ يَجُزْ؛ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْمَنْكُوحَةِ إِذَا لَمْ تَصِرِ الْمَرْأَةُ بِهِ فِرَاشًا كَانَ فَاسِدًا كَالْمَنْكُوحَةِ في ردة أو عدة.
وقال أبو حنيفة: إِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ فِي النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمِ يَلْحَقْ بِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا انْتَفَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنَ الطلاق، والظهار، وَالتَّوَارُثِ لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا كَالْمُتْعَةِ.
وَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا فِي زَمَانِ الْوَقْفِ طَلَاقٌ، وَلَا ظِهَارٌ، وَلَا تَوَارُثٌ؛ وَلِأَنَّ ما افتقر إليه عقد النكاح كان تأخره عن العقد مبطلاً للنكاح كالشهادة؛ ولأن اشترط لُزُومِ النِّكَاحِ إِلَى مُدَّةٍ أَقْوَى مِنِ اشْتِرَاطِ لُزُومِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّ مِنَ الْعُقُودِ مَا يَنْعَقِدُ إِلَى مُدَّةٍ كَالْإِجَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْهَا مَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَلَمَّا بَطَلَ بِاشْتِرَاطِ لُزُومِهِ بعد مد كقوله: تزوجتها شَهْرًا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِاشْتِرَاطِ لُزُومِهِ كقوله تزوجتها عَلَى إِجَازَتِهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ بِمَا لَهُ فِي الصِّحَّةِ نَظِيرٌ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِمَا ليس له في الصحة نظير؛ لأن النِّكَاحَ إِذَا اعْتُبِرَ لُزُومُهُ بِشَرْطٍ مُتَيَقَّنٍ بَعْدَ الْعَقْدِ كَانَ أَقْوَى وَأَوْكَدَ مِنِ اعْتِبَارِ لُزُومِهِ بشرط مجوز بَعْدَ الْعَقْدِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: قد

(9/55)


تَزَوَّجْتُكِ الْآنَ إِذَا أَهَلَّ شَهْرُ رَمَضَانَ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَأَوْلَى إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مُدَّةِ إجازتها أن يكون فاسداً إلا أن إِذَا بَطَلَ فِي أَقْوَى الْحَالَيْنِ كَانَ بُطْلَانُهُ فِي أَضْعَفِهِمَا أَوْلَى.
فَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا به فضعيف، والمشهور من الرواية أنه رد نِكَاحَهَا وَلَمْ يُخَيِّرْهَا، وَلَوْ سَلَّمَنَا أَنَّهُ خَيَّرَهَا لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى وَقْتِ الْفَسْخِ لَا وَقْتَ الْإِمْضَاءِ؛ لِأَنَّ أَبَاهَا قَدْ كَانَ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوَقْفِ الْوَصِيَّةِ، وَالتَّصَدُّقِ بِاللُّقَطَةِ، فَالْوَصِيَّةُ يَجُوزُ وَقْفُهَا لِجَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ وَلَيْسَ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِلَيْنِ عَلَى الْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ، وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِاللُّقَطَةِ فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ بَلْ إِنْ لَمْ يَتَمَلَّكِ اللُّقَطَةَ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَإِنْ تَمَلَّكَهَا فتصدق بها كانت عن نفسه وإذا لم يعلم الأجل بَطَلَ الْقِيَاسُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَازِ وَقْفِ النِّكَاحِ على الفسخ فكذلك على الإجازة باطل؛ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْفَسْخِ قَدْ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ أحكام النكاح فصح الموقوف على الإجازة وقد انْتَفَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ النِّكَاحِ فَبَطَلَ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوَقْفِهِ بَعْدَ الْبَذْلِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّا نَمْنَعُ مِنْ وَقْفِ الْعَقْدِ، وَهُوَ قَبْلَ تَمَامِهِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ لَيْسَ بِعَقْدٍ، فَلَمْ يَجُزْ أن يستدل بوقف ما ليس يَلْزَمُ عَلَى وَقْفِ عَقْدٍ يَلْزَمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي: " والاستئمار للبكر على استطابة النفس قَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} لَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدٍ رَدَّ مَا رَأَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكن لاستطابة أنفسهم وليقتدي بسنته فيهم وقد أمر نعيماً أن يؤامر أم بنته ".
قال الماوردي: أما الثَّيِّبُ فَاسْتِئْذَانُهَا وَاجِبٌ، لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وليها وإذنها يكون بالقول الصَّرِيحِ وَأَمَّا الْبِكْرُ فَيَلْزَمُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ أن يستأذنها سَوَاءً كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِجْبَارُهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة، وداود: يلزمه اسْتِئْذَانُهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا ".
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ الْأَبِ لَهَا لَا يَجِبُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ جَوَازِ إِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً؛ وَمَا رَوَاهُ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ "، وَالْيَتِيمَةُ وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا فَلَمَّا خَصَّ الْيَتِيمَةَ بِالِاسْتِئْمَارِ وَهِيَ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْأَبِ لَا يَلْزَمُ اسْتِئْمَارَهَا.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: " والبكر تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا " فَيُحْمَلُ مَعَ غَيْرِ الْأَبِ عَلَى الْإِيجَابِ وَمَعَ الْأَبِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمُشَاوَرَةِ أُمَّتِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) {آل عمران: 159) لَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدٍ رَدَّ مَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.

(9/56)


قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَكِنْ عَلَى اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِهِمْ وَلِيَقْتَدُوا بِسُنَّتِهِ فِيهِمْ وَاخْتُلِفَ فِيمَا أُمِرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِيهِ فقال قوم: في الحرب ومكائد الْعَدُوِّ خَاصَّةً.
وَقَالَ آخَرُونَ: فِي أُمُورِ الدُّنْيَا دُونَ الدِّينِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: فِي أُمُورِ الدِّينِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى عِلَلِ الْأَحْكَامِ وَطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَرَ نُعَيْمًا أَنْ يُؤَامِرَ أُمَّ ابْنَتِهِ، وَقَالَ: وأمروا الأمهات فِي بَنَاتِهِنَّ " وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِهِنَّ لا على وجوب استئمارهن، وكذلك استئمار الأب للبكر على استطابة النفس لَا عَلَى الْوُجُوبِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِئْمَارَ الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ اسْتِحْبَابًا فَإِذْنُهَا يَكُونُ بِالصَّمْتِ دُونَ النُّطْقِ بِخِلَافِ الثَّيِّبِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وصمتها إِقْرَارُهَا ".
وَرَوَى ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا خُطِبَ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ دَنَا مِنَ الْخُدُورِ وَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا خَطَبَ فُلَانَةَ فَإِنْ هِيَ رَضِيَتْ سَكَتَتْ فَكَانَ سُكُوتُهَا رِضَاهَا، وَإِنْ هِيَ أَنْكَرَتْ طَعَنَتْ فِي الْخِدْرِ فَكَانَ ذلك منها إنكاراً فلا يزوجها، ولا البكر أكثر خفراً وَتَحَذُّرًا مِنَ الثَّيِّبِ فَهِيَ تَسْتَحِي مِمَّا لَا تَسْتَحِي مِنْهُ الثَّيِّبُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْأَزْوَاجِ فَجُعِلَ سُكُوتُهَا إِذْنًا وَرِضًا وَلَمْ يُجْعَلْ إِذْنُ الثَّيِّبِ إِلَّا نُطْقًا، فَأَمَّا مَنْ عَدَا الْآبَاءَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الْبِكْرِ فَعَلَيْهِمُ اسْتِئْمَارُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ إِجْبَارُهَا وَإِذْنُهَا مَعَهُمُ الصَّمْتُ كَإِذْنِهَا مَعَ الْأَبِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذنها معهم بِالنُّطْقِ الصَّرِيحِ كَالثَّيِّبِ بِخِلَافِهَا مَعَ الْأَبِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَعَهُمْ فِي وُجُوبِ الِاسْتِئْمَارِ كَالثَّيِّبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُهَا نُطْقًا صَرِيحًا كَالثَّيِّبِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْأَخْبَارِ، ولما ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ الِاسْتِحْيَاءِ وَلَعَلَّ حَيَاءَهَا مَعَ غير الأب أكثر لقلة مخالطته فكان إذنها معهم بأن يكون صمتها أَوْلَى، وَهَكَذَا السُّلْطَانُ مَعَ الْبِكْرِ كَالْعَصَبَاتِ إِذَا فقدوا لا يزوجوها إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا بِإِذْنِهَا وَإِذْنُهَا مَعَهُ الصَّمْتُ وَسَوَاءً كَانَتِ الْبِكْرُ مِمَّنْ قَدْ تَزَوَّجَتْ مَرَّةً وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ إذا كانت البكارة باقية في أن حكمها ما ذكرنا مع الأب والعصبات. الْقَوْلُ فِي الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ

مَسْأَلَةٌ (قَالَ المزني) رحمه الله وروى الشافعي عَنِ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عدلٍ " ورواه غير الشافعي في عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ واجبة وقال داود غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وعبد الله بن الزبير، وعمر، وعبد الله بن عباس.
وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، والنخعي.

(9/57)


ومن الفقهاء: أبو حنيفة، والثوري، وأحمد بن حنبل ومالك وَأَبُو ثَوْرٍ غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا جَعَلَ الْإِشْهَادَ به وترك التراخي بِكَتْمِهِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء) {النساء: 3) فكان على عمومه وكما رَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ سِنَانٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ألا أنكحك آمنة بنت ربيعة بن الحارث قال: بلى، قد أنكحتها ولم يشهد، ولما رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا زَوَّجَ بِنْتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ من عمر ولم يشهد.
قالوا: وَلِأَنَّ الْعُقُودَ نَوْعَانِ: عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ كَالْبَيْعِ، وَعَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ كَالْإِجَارَةِ وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ شَرْطًا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ النِّكَاحُ مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا.
وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ خُصُوصًا فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ "، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ " وروى ابن مسعود عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ".
وروى هشام بن عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: زَوْجٍ وَوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ "، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَمَّا خَالَفَ سَائِرَ الْعُقُودِ فِي تَجَاوُزِهِ عَنِ الْمُتَعَاقِدِينَ إِلَى ثَالِثٍ هُوَ الْوَلَدُ الَّذِي يَلْزَمُ حفظ نسبه خالفها فِي وُجُوبِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ حِفْظًا لِنَسَبِ الْوَلَدِ الغائب لئلا يبطل نسبه فيجاهد الزَّوْجَيْنِ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فِي إِلْحَاقِهِ إِمَّا بِعُقُودِ الْأَعْيَانِ، أَوْ بعقود المنافع.
فأما الجواب عن الأول: فهو أن المقصود بها من يستباح من المنكوحات ولم يرد فِي صِفَاتِ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَزْوِيجِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آمنة بنت ربيعة ولم يشهد وتزوج عَلِيٍّ بِنْتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ولم يشهد فهذا جَوَابٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ حَضَرَ الْعَقْدَ شُهُودٌ لَمْ يَقُلْ لَهُمُ اشْهَدُوا إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُوَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَالِ بُرُوزِهِ مِنْ حُضُورِ نَفْسَيْنِ فَصَاعِدًا وَكَذَلِكَ حَالُ عُمَرَ مَعَ عَلَيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَا يَخْلُو أَنْ يَحْضُرَهُ نَفْسَانِ، وَإِذَا حَضَرَ الْعَقْدَ شَاهِدَانِ بِقَصْدٍ أَوِ اتِّفَاقٍ صَحَّ الْعَقْدُ بِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُقَلْ لَهُمَا اشْهَدَا فَلَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: وَلَمْ يُشْهِدْ، أَيْ لَمْ يَقُلْ لِمَنْ حَضَرَ اشهدوا وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ نِكَاحًا حَضَرَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فقال هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ، وَلَوْ تَقَدَّمْتُ في لَرَجَمْتُ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:

(9/58)


أَحَدُهُمَا: يَعْنِي لَوْ تَقَدَّمْتُ فِيهِ فَخُولِفْتُ.
وَالثَّانِي: يَعْنِي لَوْ تَقَدَّمْتُ بِالْوَاجِبِ وَتَعَدَّيْتُ إِلَى مَا لَيْسَ بِجَائِزٍ لَرُجِمْتُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ عليه السلام: " وأعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف " ففيه جوابان:
أحدهما: أن إعلانه يكون بالشهادة وكيف يكون مكتوماً ما شهده الشُّهُودُ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ مُعْلَنًا مَا خَلَا من بينة وشهود.
والجواب الثاني: أن يُحْمَلَ إِعْلَانُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ كَمَا حَصَلَ ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ لِمَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي عَصْرِنَا غَيْرَ مَحْمُولٍ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَلَا عَلَى الْإِيجَابِ وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ فَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي لَمْ يَشْهَدُهُ الشُّهُودُ، أَلَّا تَرَى أَنَّ عُمَرَ رَدَّ نِكَاحًا حَضَرَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، وَقَالَ: هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(وسرك ما كان عند أمري ... وسر الثلاثة غير الخفي)

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ وَأَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ فَلَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَنْعَقِدُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ) {البقرة: 282) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَصَحَّ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوِي عَدْلٍ مِنْكُمْ) {الطلاق: 2) فلما أمر بالرجعة بِشَاهِدِينَ وَهِيَ أَخَفُّ حَالًا مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ كَانَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ".
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ غلب في اللغة اللفظ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ فَلَمْ يَمْنَعْ جَمْعُ الشَّاهِدَيْنَ من أن يكون شاهداً وامرأتين.
قيل: وهذا وإن صح في الجمع؛ لأن المذكر والمؤنث بلفظ التَّثْنِيَةِ يُمْنَعُ مَنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجَمْعَ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ وَلَا فِي الْفُقَهَاءِ مَنْ يَحْمِلُ التَّثْنِيَةَ عَلَى الْجَمْعِ فَإِنْ حَمْلَهُ عَلَى شَاهِدٍ وَامْرَأَةٍ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، وَقَوْلَ الْأُمَّةِ، وَإِنْ حَمْلَهُ عَلَى شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ خَالَفَ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ إِلَى الْجَمْعِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ وَقَدْ رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يُصَدَّقْ في خبره فبطل ما تأولوه.
من القياس: أن الفروج لا يسوغ فيها البذل وَالْإِبَاحَةُ فَلَمْ يُسْتَبَحْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ

(9/59)


كَالْقَصَاصِ، وَلِأَنَّ مَا خُصَّ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ بشاهدين لم يجز أن يكون وَلَا أَحَدُهُمَا امْرَأَةً كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ شُهُودِ النِّكَاحِ بِانْفِرَادِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ شُهُودِهِ مَعَ غَيْرِهِمْ كَالْعَبِيدِ والكفار.
فأما الْآيَةُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَمْوَالِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا وَلِتَخْصِيصِ عمومها بما ذكرناه فأما القياس على سائر العقود فمردودة بِمَا فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الشَّهَادَةِ والله أعلم.

فصل
فإذا تقرر أن النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَا عَدْلَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِحُّ بِفَاسِقَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ حضورهما للعقد إنما هو حال فحمل الشَّهَادَةِ وَعَدَالَةُ الشُّهُودِ إِنَّمَا يُرَاعَى وَقْتَ الْأَدَاءِ لا وقت التحمل، ألا ترى لو تحمل شهادة صَبِيٌّ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ عَبَدٌ ثُمَّ أُعْتِقَ، أو كافراً ثُمَّ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمُ اعْتِبَارًا بِحَالِهِمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ التَّحَمُّلِ كَذَلِكَ شَهَادَةُ الْفَاسِقِينَ في النكاح.
وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ تَحَمَّلَ شَهَادَةً عَلَى عَقْدٍ فَجَازَ أن يصح من الفاسقين قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ شَرْطًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يُرَاعَ فِيهِ العدالة كالزوجين، ولأنه لم يصح النِّكَاحِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الزوجين صح أن تنعقد بِشَهَادَةِ فَاسِقِينَ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ) {الطلاق: 2) فَلَمَّا شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَهِيَ أَخَفُّ كَانَ اشْتِرَاطُهَا فِي النِّكَاحِ المغلط أَوْلَى وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ " وَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ اعْتُبِرَتْ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالْحُقُوقِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْأَدَاءِ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِهَا كَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ كَالْأَدَاءِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ حُضُورَ الْعَقْدِ حَالُ تَحَمُّلٍ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْعَدَالَةُ فَخَطَأٌ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إِنْ كَانَتْ تَحَمُّلًا فَهِيَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَدَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَجُوبُهَا في العقد كوجوبها في الأداء.
والثاني: أن يُرَاعَى فِيهِ حُرِّيَّةُ الشُّهُودِ وَإِسْلَامُهُمْ وَبُلُوغُهُمْ كَمَا يراعى في الأداء وإن لم تراع فِي تَحَمُّلِ غَيْرِهِ مِنَ الشَّهَادَاتِ، فَكَذَلِكَ الْفِسْقُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى فِسْقِ الزَّوْجَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْعَدَالَةَ تُرَاعَى فِي الشَّاهِدَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ فِي الْعَاقِدَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا رُوعِيَ حُرِّيَّةُ الشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُرَاعَ حُرِّيَّةُ الزَّوْجَيْنِ كَذَلِكَ فِسْقُ الشَّاهِدِينَ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى شَهَادَةِ الْعَدُوَّيْنِ فَمَذْهَبُنَا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِمَا مَا نذكره من اعتداد حالهما، فإن كانا عدوي لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِمَا؛ لأن شهادتهما

(9/60)


فِي الْأَدَاءِ قَدْ تُقْبِلُ عَلَى مَنْ لَيْسَ له عدوين خالفاً الْفَاسِقَيْنَ إِذْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بحال، وإن كَانَا عَدُوَّيْنِ لِلزَّوْجَيْنِ مَعًا فَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بهما وجهان لأصحابنا:
أحدهما: لا تنعقد كَالْفَاسِقَيْنِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا عَلَى أحد الزوجين بحال.
والوجه الثاني: هو ظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ إِنَّ النكاح بهما منعقد وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا أَدَاؤُهُ بِخِلَافِ الْفَاسِقَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْفَاسِقَيْنِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا أداء هذه الشهادة صح منهما أداء غيرها من الشهادات، وهذا لو كان الشاهدان ابْنَيِ الزَّوْجَيْنِ كَانَا كَالْعَدُوَّيْنِ، لَأَنَّ شَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ مَرْدُودَةٌ، كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَرْدُودَةٌ، فَإِنْ كَانَا ابْنِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِمَا لِإِمْكَانِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَحَدِهِمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ابْنَ الزَّوْجِ وَالْآخَرُ ابْنَ الزَّوْجَةِ فَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِمَا الْوَجْهَانِ الْمَاضِيَانِ، ومن أصحابنا مع منع من انعقاد النكاح بِكُلِّ حَالٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَدُوَّيْنِ بِأَنَّ فيما بغضية لَا تَزُولُ، وَلَيْسَتْ كَالْعَدَاوَةِ الَّتِي قَدْ تَزُولُ والله أعلم بالصواب.

مسألة
(وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ) بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ " لَا نكاح إلا بولي مرشدٍ وشاهدي عدلٍ " وأن عمر رد نكاحاً لم يشهد عليه إلا رجل وامرأةٌ فقال " هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ وَلَوْ تَقَدَّمْتُ فيه لرجمت " وقال عمر رضي الله عنه " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا أَوْ ذي الرأي من أهلها أو السلطان " (قال الشافعي) والنساء محرمات الفروج فلا يحللن إلا بما بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فبين " وليا وشهوداً وإقرار المنكوحة الثيب وصمت البكر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ رُشْدُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَاسِقًا بَطَلَ عَقْدُهُ عَلَى الظَّاهِرِ من مذهب الشافعي، والمشهور من قوله سواء كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ أَوْ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ كَالْعَصِبَاتِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُجْبِرُ كَالْأَبِ بَطَلَ عَقْدُهُ بِالْفِسْقِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ كَالْعَصِبَاتِ لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُهُ بِالْفِسْقِ لأنه يكون مأموراً كالوكيل.
وقال أَبُو حَنِيفَةَ: فِسْقُ الْوَالِي لَا يُبْطِلُ عَقْدَهُ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ قَوْلًا عَنْهُ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) {النور: 32) وَلِأَنَّ من تعين في عقد النكاح لم يعتبر فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالزَّوْجِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَقْبَلَ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَلِيَ عَلَى النِّكَاحِ غَيْرَهُ كَالْعَدْلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْفَاسِقِ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ جَازَ لَهُ تَزْوِيجُ وَلِيَّتِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَلِيًّا فِي نِكَاحِ ابْنَتِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْفَاسِقُ وَلِيًّا فِي نِكَاحِ ابْنَتِهِ.

(9/61)


وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ " وأيما امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل.
ورواه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ: " مُرْشِدٍ " وَلَمْ يَقُلْ رَشِيدٍ يَقْتَضِي أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِعْلُ الرُّشْدِ فِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ إِذَا زَوَّجَهَا بِكُفْءٍ كَانَ مُرْشِدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا.
قِيلَ: هَذَا تَأْوِيلٌ يَفْسَدُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنه صفة مدح تتعدى عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَمَنْ لَيْسَ بِرَشِيدٍ لَا يتوجه إليه مذمة وَلَا يَتَعَدَّى عَنْهُ رُشْدٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الخبر الآخر في قوله: وأيما امرأة أنكحها وَلِيٌّ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَلِأَنَّهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْوِلَايَةِ كَالرِّقِّ؛ وَلِأَنَّهَا ولاية تمنع مِنْهَا الرِّقَّ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا الْفِسْقُ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مُنِعَ الْفِسْقُ مَنْ عقده كالحاكم.
فأما الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّهَا خِطَابٌ إِمَّا لِلْأَزْوَاجِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ، أَوْ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلَيْسَ الْفَاسِقُ بِوَلِيٍّ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الزَّوْجِ فالمعنى في الزوج: أنه يتولى فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ رُشْدُهُ كَمَا لم تعتبر حُرِّيَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ وَالْوَلِيُّ يَتَوَلَّاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ رُشْدُهُ كَمَا اعْتُبِرَتْ حُرِّيَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْعَدْلِ فَالْمَعْنَى فِي الْعَدْلِ: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّتْ وِلَايَتُهُ عَلَى الْمَالِ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ على النكاح والفاسق لما بطلت ولايته على المال بطلت وِلَايَتُهُ عَلَى النِّكَاحِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعَقْدِ الْفَاسِقِ عَلَى أَمَتِهِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَعْقِدُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَلَا تَرَاهُ يَمْلِكُ الْمَهْرَ دُونَهَا فَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالزَّوْجَيْنِ وَالْوَلِيُّ يَعْقِدُهُ في حق غيره فاعتبرت فيه العدالة كالحاكم.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْكَافِرِ فَلِأَنَّهُ عَدْلٌ فِي دِينِهِ وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ وَبَيْنَ أَهْلِ ملة أبطلنا ولايته وكذا كالفاسق في ديننا.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وِلَايَةَ الْفَاسِقِ فِي النكاح باطلة، فالولاية تنقل عنه إلى ما هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ فَإِنْ زَالَ فِسْقُهُ عَادَتِ الْوِلَايَةُ إِلَيْهِ وَانْتَقَلَتْ عَمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، فلو زوجها الأبعد يعد عَدَالَةِ الْأَقْرَبِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِعَدَالَةِ الْأَقْرَبِ أَوْ عَلِمَتِ الزَّوْجَةُ بِهَا أَوِ الزَّوْجُ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَدَالَةِ الْآخَرِ حَتَّى عُقِدَ الْعَقْدُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَكِيلِ إِذَا عَقَدَ بَعْدَ عَزْلِ موكله قبل علمه.

(9/62)


فَصْلٌ
فَلَوْ أَنَّ هَذَا الْوَلِيَّ الْفَاسِقَ وَكَّلَ وكيلاً عدلاً كانت وكالته باطلة؛ لأن الفسق قد زالت عنه الولاية فلم يصح مِنْهُ الْوَكَالَةُ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ عَدْلًا فَوَكَّلَ وَكِيلًا فَاسِقًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ الْفِسْقُ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ مَعَ قُوَّتِهَا كَانَ أَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ وِلَايَةَ الْوَكِيلِ مَعَ ضَعْفِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ وَيَصِحُّ عَقْدُهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ وَالْوَلِيُّ مِنْ وَرَائِهِ لاستدراك ذلك.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَكِيلًا لِوَلِيِّ غيرها عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ بِفِسْقِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهَا فَصَارَتْ وِلَايَةَ تَفْوِيضٍ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لِمَنْ لَا يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ صَحَّتْ وَكَالَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِدُ إِلَّا عَنِ اسْتِئْذَانِهَا.
فَصْلٌ
فَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ أَعْمَى فَفِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَجَوَازِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَى يَمْنَعُهُ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ لِوَلِيَّتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ وَعَقْدَهُ صَحِيحٌ، لأن شعيب زَوَّجَ مُوسَى بِابْنَتِهِ، وَكَانَ ضَرِيرًا وَلِأَنَّهُ قَدْ يصل إلى معرفة الحظ بالبحث والسؤال لأن معرفة الحظ لا توصل إِلَيْهِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ.
فَإِنْ قِيلَ بِهَذَا الْوَجْهِ صَحَّ عَقْدُهُ وَتَوْكِيلُهُ.
وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ فَهَلْ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ توكيله؛ لأنه لما لم تصح مِنْهُ مُبَاشَرَتُهُ كَانَ بِأَنْ لَا تَصِحَّ عَنْهُ الاستنابة أَوْلَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْمُبَاشَرَةُ لَهُ بِنَفْسِهِ كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بنفسه ويصح أن يوكل فيه.
فصل
ولو كَانَ الْوَلِيُّ أَخَرَسًا فَفِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَجَوَازِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وِلَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَعَقْدَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَظِّ وَقَدْ تَقُومُ إِشَارَتُهُ فِيهِ مَقَامَ النُّطْقِ كَمَا يَقُومُ مَقَامُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يُوكِّلَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ إِشَارَتَهُ مُحْتَمَلَةٌ، وَإِذَا أُقِيمَتْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لضرورة مَقَامَ نُطْقِهِ لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي احتمال الإشارة موجود في توكيله لوجوده فِي عَقْدِهِ فَلَمْ يَصِحَّا مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فصل
فأما إن كان الولي عدواً للزوجة، أو الزوج، أَوْ لَهُمَا فَهُوَ عَلَى وِلَايَتِهِ وَعَقْدُهُ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الشُّهُودِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَلِيِّ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ وَمِنَ الشُّهُودِ الْأَدَاءُ، وَالْعَدَاوَةُ تَمْنَعُ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَا تَمْنَعُ مِنَ العقد.

(9/63)


فإن قيل: فإذا كان عدواً لهما وَضَعَهَا فِي غَيْرِ كفءٍ.
قِيلَ: رُشْدُهُ وَمَا يخافه من لحوق العار به يمنع من هذا التوهم.

فصل
فإذا كَانَ الْوَلِيُّ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ.
فَإِنْ قِيلَ: إن حجره جاري مجرى الْمَرَضِ كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ، فَفِي وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا وِلَايَةَ لَهُ كَالسَّفِيهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ، لأن حجره وإن جرى مجرى حجر السفه في ماله لم يجز مجراة في عدالته والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " والشهود عَلَى الْعَدْلِ حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ يَوْمَ وَقْعِ النِّكَاحِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْعَدَالَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي شُهُودِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَقْدِهِ هِيَ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الَّتِي يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ عند الحاكم خَصْمًا جَاحِدًا فَاسْتُكْشِفَ لِأَجْلِهِ عَنْ عَدَالَةِ الْبَاطِنِ، وَلَيْسَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ تُعْتَبَرْ إِلَّا عَدَالَةُ الظَّاهِرَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاكِمَ يقدر من استبرأ العدالة في الباطن مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْحَاكِمِ، وإذا كان ذلك فَعَدَالَةُ الظَّاهِرِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، وَالْإِقْلَالُ مِنَ الصَّغَائِرِ فإن عَقَدَ الزَّوْجَانِ نِكَاحًا بِشَاهِدِينَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَعَقْدُ النِّكَاحِ بِهِمَا صَحِيحٌ لِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِمَا وَإِثْبَاتُهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ جَائِزٌ لِعَدَالَةِ بَاطِنِهِمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَعَقْدُ النِّكَاحِ بِهِمَا صَحِيحٌ لعدالة ظاهرهما لكن إثباته عِنْدَ الْحُكَّامِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاسْتِبْرَاءِ عَدَالَةِ بَاطِنِهِمَا فَيَكْشِفُ عَنْ عَدَالَةِ الْبَاطِنِ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْعَقْدِ، فَإِنْ صَحَّتْ لِلْحَاكِمِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا فِي الْأَدَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا فِي الْأَدَاءِ، وَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ من الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا تَقَدُّمُ الْفِسْقِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا فَاسِقَيْنِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، فَلَوْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ مَعَ تَقَدُّمِ الفسق وقت العقد كَانَ الْعَقْدُ عَلَى فَسَادِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَا مَجْهُولَيِ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ فِيهِمَا عَدَالَةٌ وَلَا فِسْقٌ فَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَالنِّكَاحُ بِهِمَا جَائِزٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَدَالَةُ وَالْفِسْقُ طَارِئٌ، وهو معنى قول الشافعي: والشهود على العدل حتى يعلم الحرج يَوْمَ وَقْعِ النِّكَاحِ وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ بِهِمَا مَعَ الْجَهَالَةِ بِحَالِهِمَا لَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بِهِمَا من إِثْبَاتِ الْعَقْدِ عِنْدَهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ حَالِهِمَا في الظاهر والباطن فإذا استبرأهما لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام:

(9/64)


أَحَدُهَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَالَةُ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا فيحكم بها فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفِي ثُبُوتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَالَةُ ظَاهِرِهِمَا دُونَ بَاطِنِهِمَا فَلَا يَحْكُمُ بِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْعَقْدِ فَإِنْ شهد بعقد النكاح بهما شاهدا عدل حينئذٍ بِثُبُوتِ الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ فَيَكُونُ صِحَّةُ الْعَقْدِ بِهِمَا بِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِمَا وَثُبُوتُهُ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِسْقُهُمَا فَلَا يَخْلُو حال الفسق من ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وُجُودُ الْفِسْقِ وَقْتَ الْعَقْدِ فالنكاح باطل.
والقسم الثاني: أن يتبن لَهُ حُدُوثُ الْفِسْقِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَا يَفْسُدُ بِحُدُوثِ فِسْقِهِمَا لَكِنْ لَا يَحْكُمُ بِثُبُوتِهِ عِنْدَهُ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عدلان أنه عقد بهما فيحكم حينئذ ثبوته.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَشْهَدُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِهِمَا عدلان غيرهما؟ ولو حضره عدلان غيرهما لاستغى بِهِمَا عَنْ غَيْرِهِمَا.
قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ الزَّوْجَانِ عِنْدَ عَدْلَيْنِ أَنَّهُمَا عَقَدَا النِّكَاحَ بِهَذَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِسْقُهُمَا فِي الْحَالِ وَلَا يَعْلَمُ تَقَدُّمَهُ وَلَا حُدُوثَهُ والنكاح عَلَى الصِّحَّةِ لَا يَحْكُمُ بِفَسَادِهِ لِجَوَازِ حُدُوثِ الْفِسْقِ مَعَ سَلَامَةِ الظَّاهِرِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ وَقْتَ الْعَقْدِ " وَإِذَا لَمْ يَحْكُمُ بِفَسَادِهِ لَمْ يَحْكُمْ بإثباته إِلَّا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا.

فَصْلٌ
فَإِذَا أَقَرَّ الزَّوْجَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُمَا عَقَدَا النِّكَاحَ بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وشاهدي عدل حكم عليهما بصحة النكاح بناء على إقرارهما وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ عَدَالَةِ الشَّاهِدِينَ وَرُشْدِ الْوَلِيِّ فلو تناكر الزوجان من بعد أو ادَّعَى أَحَدُهُمَا سَفَهَ الْوَلِيِّ وَفِسْقَ الشَّاهِدِينَ أَلْزَمَهُ صِحَّةُ النِّكَاحِ بِسَابِقِ إِقْرَارِهِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ حُدُوثُ إِنْكَارِهِ فَلَوْ قَالَ: أَنَا أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بما ادعيت من سفه الولي وفسق الشاهدين لم يسمعهما منه؛ لأن إِقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةٍ أُكَذِّبُهَا بِهِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ أَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدِي عَدْلٍ، وَقَالَ الشَّاهِدَانِ بَلْ كُنَّا وَقْتَ الْعَقْدِ فَاسْقِينَ حَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِإِقْرَارِ الزوجين ولم يلتفت إلى قول الشاهدين فلو اختلف الزوجان فقالت الزوجة: عقدناه بشاهدين فاسقين، وَقَالَ الزَّوْجُ: عَقَدْنَاهُ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وهو قول الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُمَا عَدْلَانِ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَصْحِبٌ لِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ إِنَّهُمَا فَاسِقَانِ وَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَصْحِبَةٌ أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: كَانَ الشَّاهِدَانِ فَاسِقِينَ وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: كَانَا عَدْلَيْنِ، فَالنِّكَاحُ قَدِ ارْتَفَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ وَلَكِنْ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ وجهان:

(9/65)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَسْقُطُ تَغْلِيبًا لِقَوْلِ الزوجة لاستصحابها ظاهر العدالة.
والوجه الثاني: قد سقط الْمَهْرُ تَغْلِيبًا لِقَوْلِ الزَّوْجِ لِاسْتِصْحَابِهِ أَنْ لَا عقد بينهما والله أعلم.

فصل
فإذا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ أَنَّهُمَا تَنَاكَحَا بِوِلَايَةِ الْأَبِ وَأَنَّ الْأَبَ زَوَّجَهَا مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْأَبُ أَنْ يَكُونَ زَوَّجَهَا فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الْأَبِ أَنَّهُ مَا عَقَدَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا لِلْأَبِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْكَارُ الْأَبِ، وَهَكَذَا لَوْ تَصَادَقَا أَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بِشَاهِدَيْنِ هُمَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو، فَأَنْكَرَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَنْ يَكُونَا حَضَرَاهُ فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الشَّاهِدِينَ، لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجَيْنِ دُونَ الشَّاهِدَيْنِ.
فَصْلٌ
وَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الشَّاهِدِينَ حَتَّى يَسْمَعَا لَفْظَ الْوَلِيِّ بِالْبَذْلِ وَلَفْظَ الزَّوْجِ بِالْقَبُولِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ فَإِنْ سَمِعَا مَعَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ذِكْرَ الصَّدَاقِ شَهِدَا بِهِ وَبِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا ذِكْرَ الصَّدَاقِ شَهِدَا بِالْعَقْدِ دُونَ الصَّدَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا بِالصَّدَاقِ بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ.

مسألة
قال الشافعي: " ولو كَانَتْ صَغِيرَةً ثَيِّبًا أُصِيْبَتْ بنكاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالنِّسَّاءُ ضَرْبَانِ: أَبْكَارٌ، وَثَيِّبٌ.
فَأَمَّا الْأَبْكَارُ فَقَدْ مَضَى حُكْمُهُنَّ وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ.
وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَضَرْبَانِ: عَاقِلَةٌ، وَمَجْنُونَةٌ.
فَأَمَّا الْعَاقِلَةُ فَضَرْبَانِ: صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهَا وَلَا تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِاخْتِيَارِهَا وَعَنْ إِذْنِهَا سَوَاءً كَانَ وَلِيِّهُا أَبًا أَوْ عُصْبَةً، وَإِذْنُهَا النُّطْقُ الصَّرِيحُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا وَإِذْنِهَا، فَإِنْ زَوَّجَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِإِذْنٍ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا جَمِيعُ أَوْلِيَائِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ فَإِنْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا إِذَا بَلَغَتْ وَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا مِنَ الْعَصَبَاتِ كانت بالخيار إذا بلغت بين المقام والفسخ. وَقَالَ أبو يوسف: لَا خِيَارَ لَهَا فِي تَزْوِيجِ الْعَصَبَاتِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) {النور: 32) وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ فِي مَالِهِ جَازَ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ وَكَالْغُلَامِ وَلِأَنَّ لَهَا مَنْفَعَتَيْنِ اسْتِخْدَامٌ، واستمتاع، فلما كان لولي العقد على استخدام منفعتها بالإجازة جَازِ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بالنكاح.
وتحريره: أنها إحدى منفعتيها فجاز العقد عليها قبل بلوغها كالإجازة.

(9/66)


ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مَنْ وَلِيِّهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِجْبَارُهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ نفسها، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ خرج بها الولي عن كمال الولاية قبل البلوغ قِيَاسًا عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ لَمَّا كَانَ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَانِعًا مِنْ إِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ كَانَ حُدُوثُهُ قبل البلوغ مانعاً من إجبارها وعليه، ولأنها حرة سليمة ذهبت عدتها بِجِمَاعٍ فَلَمْ يَجُزْ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالْكَبِيرَةِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَمَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبِكْرِ وَالْغُلَامَ اعْتِبَارًا بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الولاية بِالْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمَالِ أَوْسَعُ لِثُبُوتِهَا لِلْوَصِيِّ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى النِّكَاحِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبِكْرِ وَالْغُلَامِ أَنَّهُ لما لم يثبت لهما خيار جاز إجبارهم وَلَيْسَ كَالثَّيِّبِ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا عندهم وَأَمَّا استدلالهم بمنفعة الاستخدام فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ أَنْ مُدَّةَ الِاسْتِخْدَامِ مقررة بِأَمَدٍ يَنْقَضِي يَصِلُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَعْدَ بُلُوغِهَا وَمُدَّةُ الِاسْتِمْتَاعِ مُؤَيَّدَةٌ وَهِيَ لَا تَصِلُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَعْدَ بُلُوغِهَا فافترقا.

فَصْلٌ
فَأَمَّا الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ فَلَهَا حَالَتَانِ: صَغِيرَةٌ، وَكَبِيرَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً جَازَ لِأَبِيهَا إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ لِلْإِيَاسِ مِنْ صِحَّةِ إِذْنِهَا إِلَّا أن يكون مِمَّنْ تُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَتُفِيقُ فِي زَمَانٍ فَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهَا لِإِمْكَانِ اسْتِئْذَانِهَا فِي زَمَانِ إفاقتها وإنما يجوز إجبارها إذا طبق الْجُنُونُ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ أَبٌ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ عَصَبَتِهَا تَزْوِيجُهَا؛ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِوِلَايَةِ الْمَالِ الثَّابِتَةِ بَعْدَ الأب والجد وللحاكم دُونَ الْعَصَبَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ صَغِيرَةً لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ إِجْبَارُهَا مِنْ حَاكِمٍ وَلَا عَصَبَةٍ، وَهَلْ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ إِجْبَارُهَا إذا كان ما يؤس الْبُرْءُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ إِجْبَارُهَا قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لها الزَّوْجِ عَفَافٌ وَشِفَاءٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنْ جَازَ لَهُ إِجْبَارُهَا بعد البلوغ لأن برئها قبل البلوغ إرجاء وَالْإِيَاسُ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَقْوَى فَمُنِعَ مِنْ إِجْبَارِهَا لِيَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ بُرْئِهَا.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الثَّيِّبِ وَأَنَّهَا مُفَارَقَةٌ لِلْبِكْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبِكْرَ تجبر والثيب لا تجبر.
والثاني: أَنَّ إِذَنَ الْبِكْرِ الصَّمْتُ، وَإِذْنَ الثَّيِّبِ النُّطْقُ وجب أن نصف الثَّيِّبَ بِمَا تَمْتَازُ بِهِ عَنِ الْبِكْرِ. وَالثَّيِّبُ: هِيَ الَّتِي زَالَتْ عُذْرَتُهَا، وَزَوَالُ الْعُذْرَةِ عَلَى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يزول بوطء.
والثاني: أن تزول بظفرة أَوْ جِنَايَةٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَزُولَ خِلْقَةً وَهِيَ أَنَّ تُخْلَقَ لَا عُذْرَةَ لَهَا.

(9/67)


فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَزُولَ عُذْرَتُهَا بِوَطْءٍ، فَالْوَطْءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَلَالًا إِمَّا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ، أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً.
وَالثَّالِثُ: أن يكون زنى حراماً وجميع ذلك يزول به الْبِكَارَةِ سَوَاءً كَانَ الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ، أَوْ سِفَاحٍ وَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الثَّيِّبِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِزِنًا كَانَتْ فِي حُكْمِ البِكْر إِلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الزَّانِيَةَ إِذَا تَذَكَّرَتْ مَا فَعَلَتْ مِنَ الزِّنَا خجلت واستحييت مِنَ التَّصْرِيحِ بِطَلَبِ الْأَزْوَاجِ فَكَانَ حَالُهَا أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْبِكْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ لَا يُبِيحُ الرَّجْعَةَ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَمْ يَزُلْ بِهِ حُكْمُ الْبَكَارَةِ كَالْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ.
وَدَلِيلُنَا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ بَكَارَتَهَا زَالَتْ بِوَطْءٍ فَوَجَبَ أَنْ تكون في حكم الثيب كالموطؤة فِي نِكَاحٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ إِذَا كَانَ حَلَالًا زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ إِذَا تَكَرَّرَ زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ كَالْمَنْكُوحَةِ، وَقَدْ قال: إنه لو تكرر منها الزنا صارت ثيباً وكذلك إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرُ وَلِأَنَّ صَمْتَ الْبِكْرِ إِنَّمَا صار إذناً لاستحيائها بدوام الخفر وقلة اختيارها لِلرِّجَالِ فَتَمَيَّزَتْ عَنِ الثَّيِّبِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَ خفرها وخبرت الرِّجَالَ فَصَارَتْ أَقَلَّ حَيَاءً مِنَ الْبِكْرِ وَالزَّانِيَةُ لَمْ تُقْدِمْ عَلَى الزِّنَا إِلَّا لِزَوَالِ الْحَيَاءِ وَارْتِفَاعِ الْخَفْرِ فَصَارَتْ أَجْرَأَ عَلَى الْقَوْلِ وَأَخْبَرَ بالرجال من ذات الزَّوْجِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ عَمَّا أَوْرَدَهُ فأما قِيَاسُهُ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِتَكْرَارِ الزِّنَا فَالْمَعْنَى فِي الوطء في غير القبل بقاء العذرة مفارق الزنا الذي زالت به العذرة في الوطء في غير القبل.

فصل
وأما زَوَالُ الْعُذْرَةِ بِإِصْبَعٍ أَوْ ظُفْرَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ غَيْرِ الْوَطْءِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خيران من أصحابنا إلى أنه رُفِعَ حُكْمُ الْبَكَارَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ.
فَالْمَذْهَبُ أن الشافعي قال: أصيبت بنكاح أو غيره.
وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ: أَنَّ الْحُكْمَ تَابِعٌ لِلِاسْمِ فَلِمَّا زَالَ بِذَلِكَ اسْمُ الْبَكَارَةِ وَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِهِ حُكْمُ الْبَكَارَةِ وَهَذَا خَطَأٌ بَلْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ حُكْمِ الْبَكَارَةِ جَارٍ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ صَمْتَ الْبِكْرِ إِنَّمَا كَانَ نطقاً لما هي عَلَيْهِ مِنَ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ الْخِبْرَةِ بِالرِّجَالِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الَّتِي زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِغَيْرِ وَطْءٍ فَلَمَّا وُجِدَ مَعْنَى الْبِكْرِ فِيهَا وَجَبَ أَنْ يُعَلَّقَ بِهَا حُكْمُ الْبِكْرِ، وَتَعْلِيقُ أَحْكَامُ الْبِكْرِ بِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهَا بِمُجَرَّدِ الْأَسْمَاءِ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ المذهب فقد زال فِيهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " أُصِيبَتْ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ " يَعْنِي أَوْ غَيْرِ نِكَاحٍ مِنْ شُبْهَةٍ، أَوْ زِنًا وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ " الأم ".
وأما التي زالت عُذْرَتُهَا خِلْقَةً فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبِكْرِ وَهَذَا مِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ قَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ حَيْثُ اعْتَبَرَ الْحُكْمَ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ.

(9/68)


فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَأَرَادَ الْوَلِيُّ نكاح الْمَرْأَةِ فَذَكَرَتْ أَنَّهَا بِكْرٌ قَبِلَ قَوْلَهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهُ وَأَجْرَى عَلَيْهَا حُكْمَ الْبِكْرِ، فَإِنْ قَالَتْ: أَنَا ثَيِّبٌ قَبِلَ قَوْلَهَا، وَإِنْ لم يعلم لها زوج تقدم ولم يسأل عَنِ الْوَطْءِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ ثَيِّبًا وَأَجْرَى عَلَيْهَا حُكْمَ الثَّيِّبِ، فَلَوْ زَوَّجَهَا الْأَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا بِكْرٌ فَادَّعَتْ بَعْدَ عَقْدِهِ أَنَّهَا ثَيِّبٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي إِبْطَالِ النِّكَاحِ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْبَكَارَةُ، فَإِنْ أَقَامَتْ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ شهدن لها أنهن شاهدنها قبل النكاح ثيباً لم يبطل العقد إمضاء لجواز أن تكون عذرتهازالت بظفرة، أو اصبع، أو حلقة.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا يزوج البكر بغير إذنها ولا يزوج الصَّغِيرَةُ إِلَّا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ نِكَاحَ الْبِكْرِ مُعْتَبَرٌ بِأَوْلِيَائِهَا وَنِكَاحَ الثَّيِّبِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ الثيب لا تزوج مع الْأَوْلِيَاءِ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَالْبِكْرَ يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بَعْضُ أوليائها، وإن كانت كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ وَلِيُّ الْبِكْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَبًا أَوْ عَصَبَةً فَإِنْ كَانَ وَلَيُّهَا أباً وزوجها جبراً سواء كانت صغيرة أو كبيرة أو عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً، وَهَكَذَا الْجَدُّ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ يَقُومُ فِي إِجْبَارِهَا مَقَامَ الْأَبِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ قَامَ مَقَامَ الْأَبِ لِأَنَّهُ مشارك له في اسم الأب، أو لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ أَبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِلَةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ) {الحج: 78) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبِ وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الِاسْمِ لِمَا فِيهِ من صفتي الأب التي تميز بها عن سائر الأولياء، وهما الولادة، والتعصب، فبالولادة تميز عن الإخوة، وبالتعصب تَمَيَّزَ عَنِ الْجَدِّ لِلْأُمِّ، وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْبِكْرِ عَصَبَةً رُوعِيَ حَالُهَا حينئذٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ عَصَابِتِهَا تَزْوِيجُهَا سواء كانت عاقلة أو مجنونة وإن كانت كبيرة زوجها أقرب عصبتها إِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً بِاخْتِيَارِهَا وَعَنْ إِذْنِهَا وَإِنْ كانت مجنونة لم يزوجوها؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا فِي الْجُنُونِ مُعْتَبَرٌ بِالنَّظَرِ فِي مصالحها ولا نظر للعصبات في مصالحها، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي حَالِهَا وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْبِكْرِ الْحَاكِمَ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهَا عَاقِلَةً كَانَتْ أَوْ مَجْنُونَةً؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمَنَاكِحِ فَتُزَوَّجُ وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فَتُسْتَأْذَنُ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً زَوَّجَهَا إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَصَبَةِ تَزْوِيجُهَا فِي حَالِ جنونها.
والفرق بينها: أن للحاكم نظر في مصالحها شارك به الأب وفارق به العصبة ولذلك ولي على مالها، وإن لم يَلِيَ عَلَيْهِ الْعَصَبَةُ.
فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ابن ابن وله بنت ابن آخر فأراد أن يزوج ابن ابنه بنت ابْنِهِ فَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُمَا بَاقِيَيْنِ لَمْ يَكُنْ له تزويجهما لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ وإن كان أبواها

(9/69)


مَيِّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ ابْنُ ابْنِهِ بَالِغًا فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ فَإِنْ كَانَتْ بِنْتُ ابْنِهِ ثَيِّبًا فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ، وإن كان ابن ابنه صغيراً أو بنت ابْنِهِ بِكْرًا فَلَهُ إِجْبَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَإِنْ أَرَادَ تَزْوِيجَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَفِي جَوَازِهِ جَبْرًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَبْلُغَ الِابْنُ فَيَكُونُ هُوَ الْقَابِلَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل نكاح لم يحضره أربع فهو سفاح " ولأن لا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ طَرَفَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ لابن العم أن يزوج موليته، لأن لا يَصِيرَ مُتَوَلِّيًا لِلْعَقْدِ مِنْ طَرَفَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ وَطَائِفَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِلْجَدِّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَيَتَوَلَّى الْعَقْدَ من طرفيه كما يجوز له فيما ينفق من مال عَلَى ابْنِ ابْنِهِ إِذَا كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ طَرَفَيْهِ وَخَالَفَ ابْنُ العم في تزويجه ابنة عمه إِذَا كَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن وِلَايَةُ الْجَدِّ تُوجِبُ الْإِجْبَارَ لِقُوَّتِهَا وَوِلَايَةُ ابْنِ الْعَمِّ تُمْنَعُ مِنَ الْإِجْبَارِ لِضَعْفِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَدَّ فِي الطَّرَفَيْنِ عَاقِدٌ لِغَيْرِهِ وَابْنُ الْعَمِّ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيِّ وَطَائِفَةٍ، فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ لِلْجَدِّ مِنْ أَنْ يَتَلَفَّظَ فِي عقد نكاحها بالإيجاب فيقول: قد زوجت ابن ابني ببنت ابْنِي وَهَلْ يَحْتَاجُ فِيهِ الْقَبُولَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ بتلفظ فيه القبول فَيَقُولُ: وَقَبِلْتُ نِكَاحَهَا لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بكر ابن الحداد، ولأنه يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِوِلَايَتَيْنِ فَقَامَ فِيهِ مَقَامَ وَلِيَّيْنِ فلم يكن بد فيه من لفظتين:
أَحَدُهُمَا: إِيجَابٌ، وَالْآخَرُ قَبُولٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يحتاج أن يتلفظ فيه بالقبول، وهذا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ وَلِيَّيْنِ فَقَامَ لَفْظُهُ مَقَامَ لَفْظَيْنِ.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى النِّكَاحِ زَوَّجَهُ وَلِيُّهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَجَاوَزَ مَهْرَ مثلها رد الفضل ".
قال الماوردي: المولى عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّزْوِيجِ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَا لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ، إِمَّا بِأَنْ يُرَى يَتَوَثَّبُ عَلَى النِّسَاءِ لِفَرْطِ الشَّهْوَةِ وَإِمَّا بِأَنْ يَحْتَاجَ إلى خادم وخدمة النساء له أرفق به فيجوز لوليه أَنْ يُزَوِّجَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ التي هذا منها وليصده بذلك عن مواقعة الزنا الموجب للحد وَالْمَأْثَمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَوَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ فَإِنْ زَوَّجَهُ الْوَلِيُّ جَازَ أَنْ يَعْقِدَ لَهُ النِّكَاحَ عَلَى مَنْ يَخْتَارُهَا لَهُ من الأكفاء

(9/70)


وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَصَالِحِهِ الَّتِي لَا تَقِفُ عَلَى إِذْنِهِ كما لا تقف على إذن مَا عَقَدَهُ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَلَا يَزِيدُ الْمَنْكُوحَةَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَا يَزِيدُ في عقود أمواله على أَعْوَاضِ أَمْثَالِهَا، فَإِنْ زَوَّجَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ المثل كانت الزيادة مردودة ولا تَجُبْ فِي مَالِ السَّفِيهِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي التَّزْوِيجِ لِيَتَوَلَّاهُ السفيه بنفسه جاز.
فإن قبل فَهَلَّا مُنِعَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يصح منه مع إذن وليه كما لم يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْبَيْعِ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ وَلِيُّهُ؟ .
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ حَيْثُ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَبَيْنَ الْبَيْعِ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَنْ يَعْقِدَهُ، وَإِنْ أذن فيه الولي من وجهين:
أحدهما: إن الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ حِفْظُ الْمَالِ دُونَ النِّكَاحِ فَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْعَقْدُ فِي الْمَالِ وَصَحَّ مِنْهُ الْعَقْدُ فِي النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ رَفَعُ النِّكَاحِ بِالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِإِذْنٍ وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إنزاله مِلْكَهُ عَنِ الْأَقْوَالِ بِالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ بِإِذْنٍ وَلَا غَيْرِ إِذْنٍ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عُقُودُ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا بِإِذْنٍ وَلَا غَيْرِ إِذْنٍ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثبت أن يَجُوزَ أَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ على وليه عند إذنه لَهُ فِي النِّكَاحِ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ لِيَقْطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي الْعَقْدِ حَتَّى لَا ينكح من يعظم مهرها.
والثاني: عليه أن يعين له على الْقَبِيلَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ حَتَّى لَا يَنْكِحَ مِنْ ذوي الأنساب الذي يَعَظُمُ مُهُورُ نِسَائِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيِّنَ له على المرأة من نساء القبيلة لأن يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِ النُّفُوسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمَنْكُوحَةَ وَلَا عَلَى قَبِيلَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي يَجُوزُ إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لَهُ فِي النكاح أن لا يعين له عَلَى الْمَنْكُوحَةِ وَلَا عَلَى قَوْمِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ مِثْلَهُ فِي الْإِذْنِ فَإِذَا نَكَحَ السفيه بمقتضى الْإِذْنِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ لَزَمَهُ الْمَهْرُ والنفقة في ماله أن ينكح بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ صَحَّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ مَرْدُودَةً لَا تَلْزَمُهُ فِي وَقْتِ الْحَجْرِ وَلَا بَعْدَ فَكِّهِ عَنْهُ وَخَالَفَ الْعَبْدَ الَّذِي إِذَا نَكَحَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَزَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي ذِمَّتِهِ يؤديها بعد عتقه والرفق بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ فَلَوْ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجَرِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ مَحْفُوظًا عَلَيْهِ وَالْعَبْدُ إنما حجر عَلَيْهِ لِأَجْلِ سَيِّدِهِ، وَحِفْظِ مَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ مِنْ كَسْبِهِ فَإِذَا لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ عِتْقِهِ سَلَّمَ حَقَّ السَّيِّدِ وَصَارَ مَالُهُ مَحْفُوظًا عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا نَكَحَ السَّفِيهُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

(9/71)


أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَعْلَمَهُ وَلِيُّهُ، وَلَا اسْتَأْذَنَهُ فَمَنَعَهُ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الحجر يمنع من جواز التصرف في العقد، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فرق بينهما ثم ينظر فإن كَانَتْ عَالِمَةً بِحَجْرِهِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ فِي حال الحجر ولا بعد فك الحجر وتصير كالمبرئة مِنْهُ لِعِلْمِهَا بِحَجْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِحَجْرِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَجْرِ دَفْعُ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَنَعَ الْحَجْرُ مِنْهُ وَفِي لُزُومِهِ لَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ بَعْدَ فَكِّ حَجَرِهِ لِئَلَّا يصير ممتنعاً بِبَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يلزمه دفعه بعد فكاك الحجر عنه كما لم يلزمه قبل فكه عنه ليكون ماله بالحجر محفوظاً عليه كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَ جَهْلُهَا بِحَالِهِ عُذْرًا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَعْلِمَ فَتَعْلَمُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ قَدْ سَأَلَ وَلِيَّهُ النِّكَاحَ فَمَنَعَهُ وَاسْتَأْذَنَهُ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَفِي نِكَاحِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِتَأْثِيرِ الْحَجْرِ فِي عُقُودِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْوَلِيِّ فَإِذَا مَنَعَهُ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ كَالدَّيْنِ إِذَا مُنِعَ صَاحِبُهُ مِنْهُ جَازَ أَنَّ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النِّكَاحُ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ وَيَدْفَعُ مهر المثل والنفقة من ماله.

فَصْلٌ
فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَدَامَ الْجُنُونِ لَا يُفِيقُ فِي شَيْءٍ من زمانه، فهذا ينظر في حاله، وإن لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَلَا أَنْ يُوجِبَ في ماله غرم النفقة والمهر مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِهِ إِلَى النكاح حاجة، وذلك في أحد الحالين:
إِمَّا أَنْ يُرَى يَتَوَثَّبُ عَلَى النِّسَاءِ لِفَرْطِ شهوة، وَإِمَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خِدْمَةِ النِّسَاءِ، وَالزَّوْجَةُ أَرْفَقُ بِهِ فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَيْهِ لِيَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ السَّفِيهِ، لِأَنَّ السَّفِيهَ مُكَلَّفٌ يتعلق بقوله حكم، والمجنون غير مكلف لا يتعلق بكلامه حُكْمٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَجْنُونُ مِمَّنْ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيَفِيقُ فِي زَمَانٍ فَهَذَا عَلَى أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ جُنُونِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ إِفَاقَتِهِ فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِ إِذَا رَآهُ مُحْتَاجًا إِلَى النِّكَاحِ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ، وَلَا يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَيْهِ كَالَّذِي طبق بِهِ الْجُنُونُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ وَأَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَيْهِ كَالسَّفِيهِ، لأن الحجر عليه قبل زَمَانِ إِفَاقَتِهِ لَا يَرْتَفِعُ

(9/72)


لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي زَمَانِ الْجُنُونِ حُكْمَ الْحَجْرِ بِالْجُنُونِ، وَفِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ حُكْمَ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَنِ جُنُونِهِ، فَالْحَجْرُ يَرْتَفِعُ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ في حال جنونه لما يرجى إفاقته ويجوز له أن يزوج بنفسه فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي إِفَاقَتِهِ لِارْتِفَاعِ حَجْرِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَسَاوَى زَمَانُ جنونه وزمان إفاقته، ففي أغلبها حُكْمًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْجُنُونِ أَغْلَبُ تغليباً لحكم ثبوت الْحَجْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِيمَنْ كَثُرَ زَمَانُ جُنُونِهِ وَقَلَّ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْإِفَاقَةِ أَغْلَبُ تَغْلِيبًا لِأَصْلِ السَّلَامَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَالضَّرْبِ الثَّانِي فِيمَنْ كَثُرَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ وَقَلَّ زَمَانُ جنونه.

مسألة
قال الشافعي: " ولو أَذِنَ لِعَبْدِهِ فَتَزَوَّجَ كَانَ لَهَا الْفَضْلُ مَتَى عَتَقَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا عَبْدٍ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فهو عاهر ".
والعاهر: الزاني فشبه بِالزَّانِي لِتَحْرِيمِ عَقْدِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَانِيًا فِي الْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ فلم يكن له تفويتها بِتَزْوِيجِهِ، فَإِنْ تَزَوُّجَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْحَجْرِ قَدْ رَفَعَهُ بِإِذْنِهِ فَعَادَ إِلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهِ وَإِنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهِ كَانَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ السَّيِّدِ وَقَالَ مَالِكٌ: نِكَاحُهُ جَائِزٌ وَلِلسَّيِّدِ فَسْخُهُ عَلَيْهِ.
وَالدَّلِيلُ عليها رواية نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا نَكَحَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ "، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ الْمَانِعَ مِنْ جواز المناكح يمنع من صحتها كالجنون.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِكَاحَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ بَاطِلٌ، وَبِإِذْنِهِ جَائِزٌ فَلِلسَّيِّدِ إِذَا إذن لعبده في النكاح حالتان:
إحداهما: أن يعين عَلَى الْمَنْكُوحَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا فَإِنْ نَكَحَ غَيْرَهَا كَانَ نِكَاحًا بِغَيْرِ إِذْنٍ.

(9/73)


وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ وَيَكُونُ إِذْنُهُ مُطْلَقًا فَيَجُوزُ بِخِلَافِ السَّفِيهِ الذي يلزم الولي أن يعين عَلَى الْمَنْكُوحَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ مَنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ وَلَيْسَ السَّفِيهُ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ فَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ الْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ نَظَرَ فِي الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ فِي كَسْبِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَزِمَ قَدْرَ مَهْرِ المثل في كسبه ونالت الزِّيَادَةَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُعْتَقَ فَيُؤَدِّي وَفَارَقَ السَّفِيهَ فِي إِبْطَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فَعَضَلَهُ وَمَنَعُهُ نُظِرَ فِي الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ يُجْبِرِ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِهِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَهَلْ يُجْبِرُ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِهِ إِنْ أَقَامَ عَلَى عَضْلِهِ وَمَنْعِهِ زَوَّجَهُ الْحَاكِمُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَشَارَ إِلَيْهِ في كتاب التعرض بالخطبة أن السيد بجبر على تزويج العبد لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ حَاجَتِهِ وَكَمَالِ مَصْلَحَتِهِ وَسُكُونِ نَفْسِهِ فَشَابَهَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ تَمَامِ قُوَّتِهِ وَكَمَالِ كِسْوَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَالْجَدِيدِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَلَاذِ وَالشَّهَوَاتِ وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ تَمْكِينُ عَبْدِهِ مِنْ مَلَاذِهِ وَشَهَوَاتِهِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ القولين لو كان السيد مولى عليه لصغره أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ.
فَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ السَّيِّدَ يُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِ عَبْدِهِ لَزِمَ وَلِيَّ السَّيِّدِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ إِذَا طَلَبَ النِّكَاحَ وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يُجْبِرَ عَبْدَهُ عَلَى التَّزْوِيجِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا كَانَ لِسَيِّدِهِ إجباره على النكاح، ولأنه لَمَّا كَانَ لَهُ إِجْبَارُ وَلَدِهِ فِي صِغَرِهِ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَإِجْبَارُ عَبْدِهِ فِي صِغَرِهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَالِغًا فَهَلْ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَهُ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ لأنه لما ملك العقد، على منافعه ورقيته جَبْرًا كَانَ النِّكَاحُ مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا فِي عَقْدِهِ عَلَيْهِ جَبْرًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَلَاذِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي ليس للسيد إجبار عبده عليها، ولأن معقود الْوَطْءَ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَيْهِ فَكَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لو كان السيد مولى عليه لصغر أو سَفَهٍ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِمَا فِي إِجْبَارِهِ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ كَسْبِهِ.

(9/74)


فَصْلٌ
فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَهُوَ كَالْعَبْدِ فِي إِجْبَارِ السَّيِّدِ لَهُ عَلَى النِّكَاحِ، وَفِي إِجْبَارِ السَّيِّدِ على تزويجه إذا ادعى إِلَى النِّكَاحِ.
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِهِ الْمَهْرَ والنفقة في كسبه، وأما إذا دعى سَيِّدَهُ إِلَى النِّكَاحِ، فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَيْهِ إن قيل إِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى تَزْوِيجِ مُكَاتَبِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى تَزْوِيجِ مُكَاتَبِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ مُكَاتَبِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اكْتِسَابَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَزْوِيجِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَاكْتِسَابِ الْمُكَاتَبِ لِنَفْسِهِ فَأُجْبِرَ السَّيِّدُ عَلَى تَزْوِيجِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَؤُولُ إِلَى الْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا كَانَ بَيْنَ شريكين وليس لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِإِذْنِ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَأْذَنَا لهما جَمِيعًا فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَزْوِيجِهِ فَهَلْ لَهُمَا إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ دَعَاهُمَا إِلَى النِّكَاحِ فَهَلْ يُجْبَرَانِ عَلَى تَزْوِيجِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ حُرًّا وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حُرِّيَّةً لا ولاية عليه فيها، وإن دَعَا سَيِّدَهُ إِلَى النِّكَاحِ فَفِي إِجْبَارِهِ قَوْلَانِ.

مسألة
قال الشافعي: " وَفِي إِذْنِهِ لِعَبْدِهِ بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ إِذَا وجبت عليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ فَنَكَحَ، فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ، وَالنَّفَقَةُ بالتمكين، ولوجوبها مَحَلٌّ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْعَبْدِ وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُكْتَسِبًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ وَلَا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا فَالْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي كَسْبِهِ؛ لأن الإذن بالنكاح إذن به وبموجبه وأولى مَا تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِكَسْبِهِ، لِأَنَّهُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ فإن قيل: أفليس لو أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَلَزِمَهُ فِيهَا دَيْنٌ زَادَ عَلَى مَا بِيَدِهِ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَهَلَّا اسْتَوَيَا؟ .
قِيلَ: الفرق بينها: أن الإذن بالتجارة معقود بالاكتساب، وَالدَّيْنَ ضِدَّ الِاكْتِسَابِ فَصَارَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَالْإِذْنُ بِالنِّكَاحِ معقودة الِاسْتِمْتَاعُ الْمُوجِبُ لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَصَارَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ مِنْ مُوجِبَاتِ إِذْنِهِ فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِكَسْبِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فِي كَسْبِهِ فَالْمَهْرُ يُسْتَحَقُّ فِي كَسْبِهِ بَعْدَ عتقه، والنفقة تستحق من كسبه بعد تمكنه من الاستمتاع؛ لأنهما يُسْتَحَقَّانِ فِي الْكَسْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ

(9/75)


وجوبها ولا يستحقان في كسب تقدمها؛ لأن الكسب لم يتعلق به إذن فصار خالصاً لسببه فَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ اسْتُحِقَّ ذَلِكَ فِي الْكَسْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لِلسَّيِّدِ: عَلَيْكَ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلَ عَبْدِكَ وَتَرْفَعَ عَنْهُ يَدَكَ لَيْلًا وَنَهَارًا، أما النهار فللاكتساب الكسب وَالنَّفَقَةِ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَلِلِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ ثُمَّ لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى إِبْطَالِ حَقِّهِ مِنْ تَمْكِينِهِ لَيْلًا مِنْ نَفْسِهِ وَلَكَ السَّبِيلُ إِلَى مَنْعِهِ نَهَارًا مِنْ نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي اسْتِمْتَاعِهِ لَيْلًا لَا بَدَلَ لَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ وَلِحَقِّهِ مِنَ اكْتِسَابِ النَّهَارِ بَدَلٌ يلتزمه السيد فقط ثم لا يخلو حال كسبه إذا مكن مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلسَّيِّدِ وَلَا عَلَيْهِ وَقَدْ خَلَصَ جَمِيعُ كَسْبِهِ لَهُ فِي نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَكِسْوَتِهَا وَمَهْرِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَسْبُهُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَلِلسَّيِّدِ الْفَاضِلِ مِنْهُمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ أَكْثَرَ مِنْ كَسْبِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ عليه جَمِيعَ كَسْبِهِ لِيَصْرِفَهُ فِي الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَيَكُونُ حَالُهُ فِي الْبَاقِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ كَحَالَ مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ وَلَا هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ.

فَصْلٌ
فَلَوْ أَنَّ سَيِّدَ هَذَا الْعَبْدِ المكتسب إذا استخدمه نهاراً لزمه جَمِيعُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ سَوَاءً كَانَ كسبه مساوياً لهما أو مقصوراً عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْدَامِ كَالضَّامِنِ لَهُمَا وَلَوْ أَنَّ سيده لم يستخدمه ولكن حبسه في زمان كسبه لَزِمَهُ غُرْمُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَلَوْ حَبَسَهُ غَيْرُ سَيِّدِهِ لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّيِّدَ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ فِي حَقِّ عَبْدِهِ فَلَزِمَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَبْدُ مِنْ مَهْرِ زَوْجَتِهِ وَنَفَقَتِهَا، وَالْأَجْنَبِيُّ يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَلَزِمَهُ قيمة ما استهلكه من منافعه.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَعْطَى مِمَّا فِي يَدَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَكُونُ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ فِي حَقِّ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَمَالِ الْكَسْبِ فِي حَقِّ الْمُكْتَسِبِ لِكَوْنِهِمَا مِلْكًا للسيد الآذن لكن اختلف أصحابنا في المال هاهنا يقول الشَّافِعِيُّ: أَعْطَى مِمَّا فِي يَدَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه:
أحدها: أن يُعْطِيَهُ مِنْ مَالِ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَيُعْطِي الْمَهْرَ مِنَ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالنَّفَقَةَ مِنَ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ التَّمْكِينِ كَمَا قلنا في المكتسب إنه يعطيهما مِنْ كَسْبِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ وُجُوبِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن يُعْطِيهِمَا مِنْ جَمِيعِ مَا بِيَدِهِ مِنَ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَبَعْدَهُ وَلَا يُعْطِيهِمَا مِنْ أصل المال؛ لأن جميعهما نماء المال، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَسْبِ، وَالرِّبْحِ أَنَّ كَسْبَ الْعَمَلِ حَادِثٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْسَ كَسْبُ التِّجَارَةِ حَادِثًا فِي كُلِّ يَوْمٍ.

(9/76)


وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعْطِيهِمَا مِنْ جَمِيعِ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ مِنْ رِبْحٍ وَأَصْلٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ وَقَدْ صَارَ بالإذن كالمأمور يدفعهما فتعلق الإذن لجميع مَا بِيَدِهِ كَالدَّيْنِ، فَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ خَلَصَ مَالُ التِّجَارَةِ وَرِبْحُهُ لِلسَّيِّدِ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنْ أَحْوَالِ الْعَبْدِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ وَلَا مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إِمَّا لِأَنَّهُ زَمِنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى عَمَلٍ وَإِمَّا لأنه محارف محروم لا يقدر شيئاً، وَإِنْ عَمِلَ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَعَلَى السَّيِّدِ الْتِزَامُ نَفَقَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْتِزَامُ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، وَيُقَالُ لها زوجك معتبر بِنَفَقَتِكِ وَأَنْتِ بِالْخِيَارِ فِي الصَّبْرِ مَعَهُ عَلَى إِعْسَارِهِ أَوْ فَسْخِ نِكَاحِهِ فَأَمَّا الْمَهْرُ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَا يؤخذ السَّيِّدُ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ الَّذِي قَدْ صَارَ مِلْكًا لِلْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ وَمَنْ مَلَكَ ذَا بَدَلٍ مُلِّكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْبَدَلُ، وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ وَأَظْهَرُهُمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ إِذْنَهُ بِالنِّكَاحِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْتِزَامِ الْمَهْرِ مُوجِبٌ لِالْتِزَامِ ذَلِكَ الْمَهْرِ كَالدُّيُونِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا مَهْرَ وَلَا نَفَقَةَ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ قد أسقط ما تَضَمَّنَهُ مِنَ الْعِوَضِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرُ مِثْلِهَا لِوَطْءِ الشبهة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَأَيْنَ يَكُونُ الْمَهْرُ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، لِأَنَّهُ حق وجب برضى مُسْتَحِقِّهِ فَأَشْبَهَ الدُّيُونَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: خَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ كَلَامٍ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَكُونُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ يُبَاعُ فِيهِ إلا أن يفديه به سَيِّدُهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْوَطْءِ الَّذِي هُوَ إِتْلَافٌ فَأَشْبَهَ الْجِنَايَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
وَإِذَا أَذِنَ السيد لعبده في نكاح فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا، فَفِي دُخُولِهِ فِي إِذْنِ السيد: قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي حُكْمِ إذن لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى فَاسِدِهِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى صَحِيحِهِ وَلِوُجُوبِ الْمَهْرِ فِي فَاسِدِهِ كَوُجُوبِهِ فِي صَحِيحِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَحَلَّ الْمَهْرِ كَمَحَلِّهِ فِي النكاح الصحيح إن كان مكتسباً ففي كسبه وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ فيها بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ وَلَا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ.
وَالثَّانِي: فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي جملة إذنه، لأن

(9/77)


إطلاق الْأَمْرِ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَهْرَ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ؛ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِيهِ إذن، فعلى هذا في محل هذا المهر الْقَوْلَانِ الْمَاضِيَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ.
وَالثَّانِي: فِي رَقَبَتِهِ.

فَصْلٌ
وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ فَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ مَهْرٌ وَلَا نَفَقَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ وَجَبَا لَكَانَا لِلسَّيِّدِ وَلَا يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَهْرِ، هَلْ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ثُمَّ سَقَطَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ثُمَّ سَقَطَ لِئَلَّا يَكُونَ كَالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي جُعِلَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِلْكُ السَّيِّدِ مَانِعًا مِنَ اسْتِدَامَةِ اسْتِحْقَاقِهَ كَانَ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ، أَلَّا تَرَاهُ لَوْ أَتْلَفَ مَالَ سَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُهُ لَا فِي الِابْتِدَاءِ وَلَا فِي الِاسْتِدَامَةِ كَذَلِكَ الْمَهْرُ، وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَمْوَالَ قَدْ تجوز أَنْ تُمَلَّكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَالْبُضْعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلَّكَ إِلَّا بِبَدَلٍ، فَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ بَعْدَ تَزْوِيجِ عَبْدِهِ بِأَمَتِهِ أَعْتَقَهُمَا مَعًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ عَبْدِهِ بِالْمَهْرِ بَعْدَ عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَلَا لِلْأَمَةِ بعد عتقها مطالبة الزوج ولا السيد بِمَهْرِهَا؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ لَهَا بِالْعَقْدِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ بِعَبْدِ غَيْرِهِ وَلَمْ تقبض مهرها مِنْهُ حَتَّى اشْتَرَاهُ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْعَبْدِ مِنْ كَسْبِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَبَعْدَ النِّكَاحِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي يَأْخُذُهُ مِنْ مَهْرِ أَمَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِيهِ حَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِ الْعَبْدِ مَنْ كَسْبِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ شَيْءٌ فَلَا مُطَالَبَةَ لِمُشْتَرِيهِ بِمَهْرِ أَمَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ عَبْدَهُ وَلَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذَا الشِّرَاءُ أَسْقَطَ الْمَهْرَ أَوْ مَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَهْرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ الْمَهْرَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمِلْكُ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ كَانَ مَانِعًا مِنْ بَقَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ مَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ وَلَمْ يسقطه؛ لأن الحقوق ثابتة في الذمم لا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء، وَلَيْسَ الشِّرَاءُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَتَأْثِيرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ بِعِتْقِ الْعَبْدِ أَوْ بَيْعِهِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الشِّرَاءَ قَدْ أَسْقَطَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ عتقه أو بيعه.
فإن قيل: إنه مَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ وَلَمْ يُسْقِطْهُ كَانَ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْ بَيْعِهِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِأَمَةِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا السَّيِّدُ كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ وَمَهْرُهَا

(9/78)


مُسْتَحَقٌّ لِبَائِعِهَا لِوُجُوبِهِ فِي مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِشِرَاءِ زَوْجَتِهِ، فَإِنْ أمره أن يشتريها لسيده فالنكاح بِحَالِهِ وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ لِتُكُونَ أمة لبعد لا للسيد ففيه قولان:
أحدهما: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟ فَعَلَى قَوْلِهِ في الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُمَلَّكُ إِذَا مَلَكَ فَالشِّرَاءُ لِلْعَبْدِ وَقَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ، لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ بطل نكاحها وعلى القول الْجَدِيدِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ لِلسَّيِّدِ وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوَ ضَمِنَ لَهَا السَّيَدُ مَهْرَهَا وَهَوَ ألفٌ عَنِ الْعَبْدِ لَزِمَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّةً فَتَزَوُّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ ضَمِنَ لها ألف عَنْ عَبْدِهِ صَحَّ الضَّمَانُ لِوُجُوبِهِ كَالدُّيُونِ وَيَكُونُ الألف كَسْبَ عَبْدِهِ بِالْعَقْدِ، وَفِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ بِالضَّمَانِ وَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُطَالِبَ الْعَبْدَ بِهَا من كسبه بحكم عقده أو تُطَالِبَ السَّيِّدَ بِهَا بِحُكْمِ ضَمَانِهِ، فَإِنْ دَفْعَهَا الْعَبْدُ مِنْ كَسْبِهِ بَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهَا، وَإِنْ دَفْعَهَا السَّيِّدُ مِنْ مَالِهِ بَرِئَ الْعَبْدُ مِنْهَا وَلَمْ يَرْجِعِ السَّيِّدُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ مَالٌ فَلَوْ طَلَّقَ هَذَا الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ نُظِرَ فِي طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزَّوْجَةُ قَبَضَتْ صَدَاقَهَا بَرِئَ الزَّوْجُ مِنْ نصف وَبَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِ هَذَا النِّصْفِ، لِأَنَّ براءة المضمون عنه توجب المرأة الضَّامِنِ وَبَقِيَ لِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الصَّدَاقِ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى السَّيِّدِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزَّوْجَةُ المطلقة قبل الدخول قد قبضت صدقها رَجَعَ عَلَيْهَا نِصْفُهُ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُطَلِّقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ عِنْدَ طَلَاقِهِ أَوْ قَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ فَالسَّيِّدُ هُوَ الرَّاجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لِأَنَّه مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ بِالطَّلَاقِ وَاكْتِسَابِ العبد لسيده، وإن كَانَ مِلْكُ السَّيِّدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ بعتقٍ أَوْ بَيْعٍ فَفِي مُسْتَحِقِّ هَذَا النِّصْفِ مِنَ الصَّدَاقِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ إِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْعَبْدُ إِنْ كَانَ قَدْ أُعْتِقَ أَوْ مُشْتَرِيهِ إِنْ كَانَ قَدْ بِيعَ وَلَا حق فيه لسيده الدافع له، لأن نصف الصداق كسب ما مَلَكِ بِالطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ السيد فلم يستحق ما ملك بِهِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْأَبِ يُزَوِّجُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى صَدَاقٍ يَدْفَعُهُ الْأَبُ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يُطَلِّقُ الِابْنُ عِنْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِزَوْجَتِهِ فَيَمْلِكُ الِابْنُ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْأَبِ وَإِنْ دَفْعَهُ مِنْ مَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بن الحداد في " فروعه " - أنه يَكُونُ لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَالُهُ فَمَا رَجَعَ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ عَادَ إِلَيْهِ وَإِنْ زَالَ مُلْكُهُ عن العبد.

(9/79)


وَذَهَبَ إِلَى هَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَيْضًا، وَفُرِّقَ بَيْنَ الْأَبِ إِذَا دَفَعَ الصَّدَاقَ عَنِ ابْنِهِ وَبَيْنَ السَّيِّدِ إِذَا دَفَعَهُ عَنْ عبده، بأن الابن يملك فكان دفع الأب تمليك له ثم قضاء لِلصَّدَاقِ عَنْهُ فَإِذَا طَلَّقَ الِابْنُ قَبْلَ الدُّخُولِ عَادَ نِصْفُ الصَّدَاقِ إِلَيْهِ لِسَابِقِ مِلْكِهِ وَلَيْسَ كَالْعَبْدِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَلَمْ يَكُنْ دَفْعُ الصَّدَاقِ عَنْهُ تَمْلِيكًا لَهُ فَإِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَمْلِكْ مَا لَمْ يُجْبَرْ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَسَوَاءً دَفَعَ السَّيِّدُ الصَّدَاقَ مِنْ مَالِهِ أَوْ دَفَعَهُ الْعَبْدُ مِنْ كَسْبِهِ، لِأَنَّ كَسْبَهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا.

مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ بَاعَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِتِلْكَ الْأَلْفِ بعينها فالبيع باطلٌ من قبل أن عُقْدَةَ الْبَيْعِ وَالْفَسْخِ وَقَعَا مَعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ضَمِنَ السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ صَدَاقَ زَوْجَتِهِ وَهُوَ أَلْفٌ ثُمَّ إِنَّهَا ابْتَاعَتْ زَوْجَهَا مِنْ سَيِّدِهِ بِأَلْفٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَبْتَاعَهُ بألفٍ فِي ذِمَّتِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَبْتَاعَهُ بِالْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا فإن ابتاعته بألف فِي ذِمَّتِهَا فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ بَعْدُ، وإن ابتاعه بِالْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا كَأَنَّهَا قَالَتْ لِلسَّيِّدِ بِعْنِي زَوْجِي بِالْأَلْفِ الَّتِي ضَمِنْتَهَا مِنْ صَدَاقِي، فللجواب عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَتَانِ نَذْكُرُهُمَا، ثُمَّ نَبْنِي الْجَوَابَ عَلَيْهِمَا.
إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَإِنَّمَا بَطَلَ، لِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ مُتَضَادَّةٌ، لِأَنَّهُ كَانَ مالكاً لبعضها فصارت مالكة لرقبته، وصار مُسْتَحِقَّ الْحَجْرِ عَلَيْهَا بِالزَّوْجِيَّةِ فَصَارَتْ تَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِالرِّقِّ وَكَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ فَصَارَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهَا وَإِذَا تَضَادَّتْ أَحْكَامُهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ ثبت أقواهما وانتفى أضعفها، وَمِلْكُ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُخْتَصُّ بِمِلْكِ الْبُضْعِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَسْتَوْعِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ كُلِّهَا فَلِذَلِكَ ثَبَتَ مِلْكُ الْيَمِينِ وَبَطَلَ عَقْدُ النِّكَاحِ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ أَسْقَطَ جَمِيعَ صَدَاقِهَا كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لَمْ يسقط الصداق إلا نصفه كما لو ارتد، وَهُوَ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ بابتياعها له.
فإن قيل الفسخ هَاهُنَا إِنَّمَا وَقَعَ بِالِابْتِيَاعِ الَّذِي هُوَ مِنْهُمَا وَالْفَسْخُ إِذَا وَقَعَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ غَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ كَالْخُلْعِ.
قِيلَ: قَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا هَذَا، فَأَخْطَأَ فيه، مَذْهَبًا، وَحِجَاجًا.
أَمَّا الْمَذْهَبُ فَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى خِلَافِهِ، وَجَعَلَ الْفَسْخَ مُضَافًا إِلَى الزَّوْجَةِ فِي إِسْقَاطِ جَمِيعِ صَدَاقِهَا.
وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ الْفَرْقُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الِابْتِيَاعِ وَالْخَلْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

(9/80)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِابْتِيَاعَ إِنَّمَا كَانَ بَيْنَ السَّيِّدِ والزوجة من غير أن يكون للزوج فيه صنع ولا اختبار فلم يجز أن يضاف إليه الخلع، وإنما كَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَجَازَ لِاخْتِصَاصِ الزَّوْجِ بِالْفُرْقَةِ أَنْ يُضَافَ الْفَسْخُ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَ فِي الْخُلْعِ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنِ الْبُضْعِ إِلَى غير مالك كالعتق الذي يزيل بِهِ الْمُعَتِقُ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ وَالِابْتِيَاعُ قَدْ زَالَ بِهِ مِلْكُ الْبَائِعِ وَانْتَقَلَ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ وَابْتَاعَتْ زَوْجَهَا بِالْأَلْفِ الَّذِي ضَمِنَهُ السَّيِّدُ مِنْ صَدَاقِهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الِابْتِيَاعِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَإِنِ ابْتَاعَتْهُ بعد دخوله بها كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا لِابْتِيَاعِهَا إِيَّاهُ مِنْ مَالِكِهِ بثمن قد استحقته ذِمَّتِهِ لِاسْتِكْمَالِهَا لِلصَّدَاقِ بِالدُّخُولِ فَصَارَ كَابْتِيَاعِهَا إِيَّاهُ بِدَيْنٍ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ بَطَلَ النِّكَاحُ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَبَرِئَتِ الزَّوْجَةُ مِنَ الثَّمَنِ لِكَوْنِهِ صَدَاقًا، وَبَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِ الصَّدَاقِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا صَدَاقٌ، لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَوْفَتْهُ مِنْ ضَامِنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى عَبْدِهِ بما غرمه عنه من ضمانه، لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ عَنْهُ فِي حَالِ مِلْكِهِ.
فَصْلٌ
وَإِنِ ابْتَاعَتْهُ بِصَدَاقِهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَالْبَيْعُ يَكُونُ بَاطِلًا، وَتَعْلِيلُ بُطْلَانِهِ قَدْ أَجْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: " لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ وَالْفَسْخِ وَقَعَا مَعًا ".
وَبَيَانُهُ: أَنَّ فِي إِثْبَاتِ البيع إبطال النكاح، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ إِذَا صَحَّ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ صَدَاقُهَا وَإِذَا سَقَطَ الصَّدَاقُ بَطَلَ ضَمَانُهُ، لِأَنَّ بَقَاءَ الضَّمَانِ يَكُونُ لِبَقَاءِ الْحَقِّ الْمَضْمُونِ، وَإِذَا بَطَلَ الضَّمَانُ بَطَلَ الثَّمَنُ، لِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الصَّدَاقُ الْمَضْمُونُ، وَإِذَا بَطَلَ الثَّمَنُ بَطَلَ الْبَيْعُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَمَنٍ، فَلَمَّا أَدَّى إِثْبَاتُ الْبَيْعِ إِلَى إِبْطَالِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ حُكِمَ بِإِبْطَالِ الْبَيْعِ وَبَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى ثُبُوتِهِ، لِأَنَّ مَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إِلَى إِسْقَاطِهِ وَإِسْقَاطِ غَيْرِهِ حُكِمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِإِسْقَاطِهِ وَثُبُوتِ غَيْرِهِ لِيُدْفَعَ بِأَقَلِّ الضَّرَرَيْنِ أَكْبَرُهُمَا، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ.
فَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ أخاً وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ، فَأَقَرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُ الِابْنِ وَلَمْ يَرِثْ، لِأَنَّهُ لَوْ ورث لحجب الْأَخَ فَلَمْ يَرِثْ، وَإِذَا لَمْ يَرِثِ الْأَخُ بَطَلَ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقِرَّ بِالنَّسَبِ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ، وَإِذَا بَطَلَ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُ هَذَا الِابْنِ مُؤَدِّيًا إِلَى إِبْطَالِ نَسَبِهِ وَمِيرَاثِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَبَطَلَ مِيرَاثُهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ، لِأَنَّ عِتْقَهُ فِي الْمَرَضِ كَالْوَصِيَّةِ لَهُ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الثُّلُثِ، فَلَوْ وَرِثَ لمنع الوصية، لأنه لا وصية لوارث وإن مُنِعَ الْوَصِيَّةَ بَطَلَ الْعِتْقُ، وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُهُ مُؤَدِّيًا إِلَى إِبْطَالِ عِتْقِهِ وَمِيرَاثِهِ ثَبَتَ عِتْقُهُ وَسَقَطَ مِيرَاثُهُ. ومنها: أن يوصي لرجل بابن له مملوكه فمات قبل الوصية، وخلف أَخًا هُوَ وَارِثُهُ فَيَقْبَلُ الْأَخُ الْوَصِيَّةَ لِأَخِيهِ بِابْنِهِ فَإِنَّ الِابْنَ يَعْتِقُ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّهُ لو ورث

(9/81)


لحجب الْأَخَ، وَإِذَا حَجَبَهُ بَطَلَ قَبُولُهُ لِلْوَصِيَّةِ وَإِذَا بَطَلَ قَبُولُهُ بَطَلَ عِتْقُ الِابْنِ وَإِذَا بَطَلَ عِتْقُهُ سَقَطَ مِيرَاثُهُ فَلَمَّا أَدَّى ثُبُوتُ مِيرَاثِهِ إلى سقوط عتقه وبطلانه ثبت العتق وسقط الْمِيرَاثُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدَّعِيَ عَبْدَانِ عَلَى سَيِّدِهِمَا العتق، وهو منكر فيشهد لَهُمَا شَاهِدَانِ بِالْعِتْقِ فَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا ثُمَّ يَشْهَدُ الْمُعَتَقَانِ بِجَرْحِ الشَّاهِدِينَ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا بِالْجَرْحِ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ فِي الْجَرْحِ رَدَّتْ شَهَادَةَ الشَّاهِدِينَ بِالْعِتْقِ، وَصَارَ الْمُعَتَقَانِ عَبْدَيْنِ مَرْدُودِيِ الشَّهَادَةِ، فَلَمَّا أَدَّى قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا إِلَى رَدِّهَا وَإِبْطَالِ الْعِتْقِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا وَثَبَتَ الْعِتْقُ وَلِذَلِكَ مِنَ النَّظَائِرِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَمْثِلَةً يُؤَدِّي دَوْرُهَا إِذَا ثَبَتَ إِلَى سُقُوطِهَا فَلَمْ يثبت - وبالله التوفيق -.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوَ بَاعَهَا إِيِّاهُ بألفٍ لَا بِعَيْنِهَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَعَلَيْهَا الثَّمَنُ وَالنِّكَاحُ مفسوخٌ مِنْ قبلها وقبل السيد ".
قال الماوردي: وهذه المسألة الثانيةمن ابتياعها لزوجها إن ابتاعته بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهَا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لِانْعِقَادِهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ وَمِلْكَ الْيَمِينِ لَا يَجْتَمِعَانِ لِتَنَافِي أَحْكَامِهِمَا فَأُثْبِتُ أَقْوَاهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِهَا لَهُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَصَدَاقُهَا قَدْ سَقَطَ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِذَا سَقَطَ الصَّدَاقُ بَطَلَ ضَمَانُ السَّيِّدِ لَهُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ فَرْعٌ لِأَصْلٍ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ الْمَضْمُونُ فَبَرِئَ الضَّامِنُ مِنْهُ وَلِلسَّيِّدِ عَلَيْهَا الْأَلْفُ الَّذِي اشترت بها زوجها ولا مطالبة لها بصداقها.

فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِهَا لَهُ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا بالدخول على الزوج قد ملكته فصار عبداً لها، قبل تبرأ الزوج منه بحدوث ملكها أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَرِئَ مِنْهُ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَصِحُّ أَنَّ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ مَالٌ فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهِ لِبَرَاءَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهَا بِالْأَلْفِ الَّذِي هُوَ ثَمَنٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَبْرَأُ مِنْ صَدَاقِهَا، وَإِنْ صَارَ عَبْدًا لَهَا لِاسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ مِلْكِهَا لَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَإِنْ صَارَ لَهَا عَبْدًا، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ لَهَا ابْتِدَاءً فِي ذِمَّتِهِ مَالٌ بَعْدَ أَنْ صَارَ لَهَا عَبْدًا، فَأَمَّا أَنَّ يكون الحق ثابتاً فلا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمِلْكِ بَاقِيًا فَعَلَى هَذَا لَهَا عَلَى السَّيِّدِ الْأَلْفُ الَّذِي هُوَ صداقها، وللسيد عليها الألف التي هي ثمن زوجها، فإن كانت الألفان من نقدين مختلفين لم يصر قصاصاً، وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى السَّيِّدِ الْأَلْفَ التي هي ثَمَنُ زَوْجِهَا وَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا الْأَلْفَ الَّذي هِوَ صَدَاقُهَا.
فَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَدْفَعُ مَا عَلَيَّ حَتَّى أقبض مالي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لأحد المالين بالآخر، فأيهما بَدَأَ بِالْمُطَالَبَةِ قُضِيَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالدَّفْعِ فإن تبارءا من

(9/82)


الْأَلْفَيْنِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ، فَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ قَدْ أَبْرَأْتُكَ إِنْ أَبْرَأْتَنِي لَمْ يَصِحَّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْيِيدِ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ، وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ فَأَبْرِئْنِي فَهُوَ مُبَرِّئٌ مِنْ حَقِّهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَصَحَّتْ بَرَاءَتُهُ وَطَلَبَ إِلَى الْآخَرِ أَنْ يُبَرِّئَهُ وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أن يبرئه أو لا يبرئه، وإن كانت الْأَلْفَانِ مَنْ نَقْدٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ فَكَانَتِ الْأَلْفُ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ الْأَلْفِ الصَّدَاقِ، وَعَلَى صِفَتِهَا فَهَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ قَصَاصًا أَمْ لَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ يَصِيرَ قَصَاصًا اخْتَارَا أَوْ لَمْ يَخْتَارَا فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْه يَصِيرَ قَصَاصًا إِنِ اخْتَارَا أو أحدهما ولا تصير قَصَاصًا إِنْ لَمْ يَخْتَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَصِيرُ قَصَاصًا إِنِ اخْتَارَاهُ مَعًا وَلَا يكون قصاصاً إن اختاره أحدهما.
والرابع: - وَهُوَ مُخَرَّجٌ - أَنَّهُ لَا يَصِيرَ قَصَاصًا بِحَالٍ وَإِنِ اخْتَارَاهُ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُؤْدِيَ إِلَى صَاحِبِهِ مَالَهُ وَيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ.
وَوَجْهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ من كتاب المكاتب إن شاء الله.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ وَفِي مِصْرِهِ إِلَّا فِي الْحِينِ الَّذِي لَا خِدْمَةَ لَهُ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلسَّيِّدِ إِذَا أَذِنَ لعبده في النكاح فعلى حالتين:
إحداها: أَنْ يَلْتَزِمَ لِزَوْجَتِهِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَلْتَزِمَ فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ عَبْدَهُ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ نَهَارًا وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ لَيْلًا فَيَكُونُ تَخْلِيَتُهُ نَهَارًا لِلِاكْتِسَابِ وَلَيْلًا لِلِاسْتِمْتَاعِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ فِي مَنْزِلِ سَيِّدِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ تَخْلِيَتُهُ لَيْلًا لِوُصُولِهِ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ سَيِّدِهِ فَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنَّ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لما فيه من منعه من الِاكْتِسَابِ، فَإِنْ قَهَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ أَبُو حامد الإسفراييني: يَضْمَنُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، لِأَنَّ أُجْرَتَهُ إِنْ زَادَتْ كَانَ لَهُ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ النَّفَقَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِنْدِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَضْمَنُ لَهَا النَّفَقَةَ وَلَا يَضْمَنُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَلَزِمَتْهُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ تَلْزَمْهُ أُجْرَةُ الْعَبْدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَالَ إِجْبَارِهِ أَعْظَمُ مِنْ حَالِ خِيَارِهِ فَلَمَّا لَزِمَهُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ضَمَانُ النفقة

(9/83)


فَأَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ فِي حَالِ الْإِجْبَارِ ضَمَانُ النفقة فما إِذَا قَهَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَيْلًا وَأَرْسَلَهُ نَهَارًا فقد تعدى كتعديه ولو قَهَرَهُ نَهَارًا غَيْرَ أَنَّهُ يَضْمَنُ زَمَانَ نَهَارِهِ وَلَا يَضْمَنُ زَمَانَ لَيْلِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ زَمَانَ لَيْلِهِ مُسْتَحَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَمْ يُضْمَنْ، وَزَمَانُ نَهَارِهِ مُسْتَحَقٌّ لِلْكَسْبِ الذي يقابله عوض ضمن.

فَصْلٌ
فَإِنِ الْتَزَمَ السَّيِّدُ لَهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي مِصْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا التزم له المهر والنفقة سقط عنه ما لزمه بِالزَّوْجِيَّةِ فَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْحَضَرِ وَالسِّفْرِ فَكَذَلِكَ الْآنَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْزِلَةَ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ كَمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي نَفْسِهِ فَكُلُّ مَا جَازَ لِلْحُرِّ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ مِنْ تَصَرُّفٍ فِي الْحَضَرِ وَتَقَلُّبٍ فِي السَّفَرِ جَازَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ عَبْدِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلسَّيِّدِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي مِصْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ نَهَارًا وَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ لَيْلًا، لِأَنَّ زمان الاستخدام هو النهار فيعلق حَقُّ السَّيِّدِ بِهِ دُونَ اللَّيْلِ وَزَمَانُ الِاسْتِمْتَاعِ هو الليل فيعلق حق العبد به دون النهار.
والحال الثالثة: أَنْ يُسَافِرَ بِهِ، فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ وَيَقْطَعَهُ عَنْ زَوْجَتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ اللَّيْلُ فِي الْحَضَرِ مُسْتَثْنَى مَنْ حَقِّ السَّيِّدِ فَهَلَّا كَانَ فِي السَّفَرِ كَذَلِكَ، قِيلَ: لِأَنَّ السَّيِّدَ فِي الْحَضَرِ قَدْ يَصِلُ إِلَى حقه من استخدام النهار وإذا أَرْسَلَهُ لَيْلًا لِلِاسْتِمْتَاعِ وَلَا يَصِلُ فِي السَّفَرِ إِلَى حَقِّهِ مِنَ اسْتِخْدَامِ النَّهَارِ إِذَا أَرْسَلَهُ ليلاً للاستمتاع فكذلك صار زمان الليل مستثنى في حال السيد في الحضر وغير مستثنى من السَّفَرِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُسَافِرَةً مَعَ الْعَبْدِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ الْحَضَرِ وَالسِّفْرِ فِي اسْتِثْنَاءِ الليل منها، فأما إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مِمَّنْ عَمَلُهُ وَاسْتِخْدَامُهُ فِي الليل دون النهار كالبزارين والرياحين وَالْحَدَّادِينَ، صَارَ اللَّيْلُ زَمَانَ اسْتِخْدَامِهِ لِعَبْدِهِ، وَالنَّهَارُ زَمَانَ إِرْسَالِهِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَلَا يَنْبَغِي لِلسَّيِّدِ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ بِهِ وَبِزَوْجَتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي مِصْرِهِ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ " فَقَدْ ذكرنا جوازه وقوله: " وَيَمْنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ وَفِي مِصْرِهِ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إذا كانت امرأته فيه، وإن كَانَتْ خَارِجَةً مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا.
وَالثَّانِي: - وَهُوَ أَشْبَهُ التَّأْوِيلَيْنِ عِنْدِي - أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ نهاراً، لأن زَمَانُ الِاسْتِخْدَامِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ لَيْلًا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ أَلَّا تَرَى الشَّافِعِيَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: " إِلَّا فِي الْحِينِ الَّذِي لَا خِدْمَةَ لَهُ فِيهِ " يَعْنِي اللَّيْلَ.

(9/84)


مسألة
قال الشافعي رحمه الله: " ولو قالت له أَمَتُهُ اعْتِقْنِي عَلَى أَنْ أَنْكِحَكَ وَصَدَاقِي عِتْقِي فَأَعْتَقَهَا عَلَى ذَلِكَ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَنْكِحَ أَوْ تَدَعَ وَيَرْجِعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهَا فَإِنْ نكحته ورضي بالقيمة التي عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنْ لَا يُجِيزَ هَذَا الْمَهْرَ حَتَى يَعْرِفَ قِيمَةَ الْأَمَةِ حِينَ أَعْتَقَهَا فَيَكُونُ الْمَهْرُ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ الْمَهْرَ غَيْرَ معلومٍ (قال المزني) سألت الشافعي رحمه الله عن حديث صفية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعتقها وجعل عتقها صداقها فقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في النكاح أشياء ليست لغيره ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ وَيَكُونَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا، إِمَّا أَنِ ابْتَدَأهَا بِذَلِكَ أَوْ سَأَلَتْهُ فَأَجَابَهَا إِلَى ذلك فقد عتقت، وهي بالخيار في الحالين بَيْنَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ أَوْ لَا تَتَزَوَّجَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: قَدْ صَارَتْ لَهُ بِهَذَا الْعِتْقِ زَوْجَةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ.
وَقَالَ الأوزاعي: لا تصير زوجة بالعتق ولكن تخير عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ بِعَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ.
وَاسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا " وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عَقَدَ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَيْهَا ثُمَّ دَخَلَ بها.
وَاسْتَدَلَّ الْأَوْزَاعِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى مَعْلُومٍ من خدمته أَوْ عَمَلٍ أُخِذَتْ بِهِ جَبْرًا فَكَذَلِكَ عَلَى التَّزْوِيجِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ بَدَلَ الْعِوَضِ عَلَى نِكَاحٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَعْطَاهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ بَعْدَ يَوْمٍ لَمْ يَصِحَّ كَذَلِكَ هَذَا، وَلِأَنَّ الذِّمَّةَ إِنَّمَا ثَبَتَتْ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَالْأَعْمَالُ، فَالْأَمْوَالُ كَالْقَرْضِ، وَالسَّلَمِ، وَالْأَعْمَالُ كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ، فَأَمَّا الْعُقُودُ فَلَا يثبت فِي الذِّمَّةِ كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا عَلَى أن تبيعه داراً، أو يؤجره عَبْدًا لَمْ يَصِحَّ كَذَلِكَ النِّكَاحُ لَا يَثْبُتُ في الذمة بما نفذ مِنَ الْعِتْقِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ عَمَّا استدل به الأوزاعي، لأن قطع الخيار قبل ما يملك به استحقاق الْخِيَارِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أُسْقِطَ الشَّفِيعُ خِيَارَهُ فِي أَخْذِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، لَمْ يَسْقُطِ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبَيْعِ كَذَلِكَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ فِي التَّزْوِيجِ يَكُونُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَيَدُلُّ عَلَى أَحْمَدَ خُصُوصًا أَنَّ الْعِتْقَ مُزِيلٌ لِمِلْكِ الْمُعَتِقِ عَنِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ نَفْيَ شَيْءٍ اسْتَحَالَ أَنْ يُوجِبَ إثباته وإثبات بعضه لكونهما ضدين متنافيين.
فأما اسْتِدْلَالُ أَحْمَدَ بِحَدِيثِ صَفِيَّةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصٌ فِي مَنَاكِحِهِ بِمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ.

(9/85)


قَالَ الْمُزَنِيُّ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ الْمُزَنِيُّ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا خُصَّ بِهِ فِي أَمْرِ صَفِيَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ صَارَ عِتْقُهَا نِكَاحَهَا وَلَا يَصِيرُ عِتْقُ غَيْرِهِ مَنْ أُمَّتِهِ نِكَاحًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ وَلَا يجب على غيرها أن تتزوج بغيره.
والثالث: أنه خُصَّ بِأَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ لَهَا صَدَاقٌ وَغَيْرُهُ يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ صَارَتْ قِيمَتُهَا وَإِنْ جَهِلَتْ صَدَاقًا مِنْهُ وَلَا تَكُونُ الْقِيمَةُ إِذَا جَهِلَتْ صَدَاقًا مِنْ غَيْرِهِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِهِ إِذَا أَبَتْ فَكَذَلِكَ لَوْ بَذَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى نِكَاحِهَا إِذَا أَبَى لَأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا لَمْ يُوجِبْ إِجْبَارَهَا لَمْ يُوجِبْ إِجْبَارَهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خِيَارِهِ، وإذا كانا كذلك فلها حَالَتَانِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَنَاكَحَا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَتَنَاكَحَا.
فَإِنْ لَمْ يَتَنَاكَحَا إِمَّا لِامْتِنَاعِهِ أَوِ امْتِنَاعِهَا فَلَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا، لِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا عَلَى شَرْطِ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ لُزُومِهِ، فَإِذَا فَاتَهُ الرُّجُوعُ بِرَقَبَتِهَا لِنُفُوذِ الْعِتْقِ رَجَعَ بِقِيمَتِهَا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا على حمى أو حرى تَجِبُ لَهُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْعِتْقِ لَا يَوْمَ الرُّجُوعِ بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّ بِالْعِتْقِ وَقَعَ الِاسْتِهْلَاكُ الْمُوجِبُ لِلْقِيْمَةِ، وَهَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبَتَهُ أَوْ مُدَبَّرَتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بِهِ وَكَانَ لَهُ عَلَى كل واحدة منهن لأنهن سواء في تفارقهن فَتَسَاوَيْنَ فِي عِتْقِهِنَّ، وَهَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُنَّ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُنَّ صَدَاقَهُنَّ كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا وَلَهُ عَلَيْهِنَّ قيمتهن، لأن الشرط الذي فِي مُقَابَلَةِ عِتْقِهِنَّ لَمْ يَلْزَمْهُنَّ فَوَجَبَ الْعُدُولُ عنه إلى قيمتهن.
فصل
فإذا اتفقا على أن نكحها فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى صداق معلوم معيناً أو في الذمة فالنكاح بلا صداق جائز وَلَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا وَلَهَا عَلَيْهِ صَدَاقُهَا، فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا أَيْضًا، وإن كان في الذمة مَنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ فَهَلْ يَكُونُ قِصَاصًا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْأَرْبَعَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَالصَّدَاقُ بَاطِلٌ وَقَالَ أبو حنيفة: الصَّدَاقُ جَائِزٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا عَمَلٍ يُعْتَاضُ عَلَيْهِ بمال

(9/86)


فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا وَصَحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ بُطْلَانَ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَتَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ فَاسِدٍ مِنْ حَرَامٍ أَوْ مجهول ويكون له عليهما قيمتها فإن كانت القيمة مهر الْمِثْلِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَكُونَا قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَا مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهَلْ يَكُونَا قِصَاصًا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى أَنْ تكون قيمتها صداقاً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ وَالصَّدَاقُ جَائِزَيْنِ، لِأَنَّهُ تزوجها على معلوم في ذمتها فعاد كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهَا من ثمن أو قرض وتبرأ من قيمتها بالصداق، ويبرأ مِنْ صَدَاقِهَا بِالْقِيمَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا جاهلين بقدر القيمة أو أحدها، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عقد غَيْرِ مَوْصُوفٍ وَلَا مُعَيَّنٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الصَّدَاقَ الْمُعَيَّنَ إِذَا بَطَلَ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ لا بمهر المثل، فتصح هَاهُنَا، لِأَنَّ قِيمَةَ الصَّدَاقِ هِيَ الْقِيمَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا أَرَادَ سَيِّدُ الْأَمَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا خِيَارٌ فِي الِامْتِنَاعِ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: إِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فِي غدٍ فَأَنْتِ الْيَوْمَ حُرَّةٌ، فَهِيَ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فِي غَدٍ بَاقِيَةٌ عَلَى الرِّقِّ، لَا خِيَارَ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَإِذَا تَزَوَّجَهَا أَوْجَبَ التَّزْوِيجُ تَقَدُّمَ عِتْقِهَا، وَبَانَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَيْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ فَصَحَّ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: هَذَا خَطَأٌ، وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، فَصَارَ الْعَقْدُ وَاقِعًا فِي حَالِ الرِّقِّ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْكِحَ أَمَتَهُ فَبَطَلَ الْعَقْدُ وَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ، لأن الْعِتْقُ إِذَا عُلِّقَ بِعَقْدٍ تَعَلَّقَ بِصَحِيحِهِ دُونَ فَاسِدِهِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِعَبْدِهَا: قَدْ أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِي أَوِ ابْتَدَأَهَا الْعَبْدُ فَقَالَ اعْتِقِينِي عَلَى أَنْ أَتَزَوَّجَ بِكِ فَأَعْتَقَتْهُ عَتَقَ فِي الْحَالَيْنِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا وَلَا يَلْزَمْهَا إِنْ رَضِيَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَلَا قِيمَةَ لَهَا عَلَى عَبْدِهَا بِخِلَافِ عِتْقِ السَّيِّدِ لِأَمَتِهِ عَلَى هذا الشَّرْطِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ مِنَ التَّمْلِيكِ يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا شَرَطَهُ السَّيِّدُ عَلَى أَمَتِهِ كَانَ شَرْطًا له، فإذا فاته رجع ببذل كما لو أعتقها على مال يأخذه استحقه عليها، وإذا شرطت الْمَرْأَةُ عَلَى عَبْدِهَا كَانَ شَرْطًا عَلَيْهَا فَلَمْ يكن سقوطه عنها موجباً

(9/87)


لرجوعها بِبَدَلِهِ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ إِلَيْهَا لَمْ يَلْزَمْهَا دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ.

فَصْلٌ
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِسَيِّدِ عَبْدٍ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي فَأَعْتَقَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بعد العتق، لم يَلْزَمْهُ تَزْوِيجُ بِنْتِهِ بِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَفُ وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كان قال له: أعتق عبدي عَنِّي عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي كَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا عَلَى الْبَاذِلِ لِلنِّكَاحِ دُونَ السَّيِّدِ، وَكَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ عَبْدِهِ، لِأَنَّهُ أعتقه عنه على بذل لم يحصل، وإن قال له: أعتقه من نفسك عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي فَفِي وُجُوبِ قِيمَةِ العبد على وجهان من اختلاف قوليه فيمن قال لعبده: أعتق عبدك على نَفْسِكَ عَلَى أَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ فَفِي وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ نفع، فعلى هذا لا يجب عليه هاهنا قيمة.
والقول الثاني: تجب عَلَيْهِ الْقِيمَةُ الْأَلْفُ، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقْ زوجتك على ألف لك علي لزمه الْأَلْفُ كَذَلِكَ فِي الْعِتْقِ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَاهُنَا الْقِيمَةُ.
فَصْلٌ
وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ في أَمَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فِي حَالِ عِتْقِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَفِي النِّكَاحِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا في العتق هل وقع بإجزاء فِي الظَّاهِرِ أَوْ مَوْقُوفًا.
فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ وَقَعَ بإجزاء فِي الظَّاهِرِ لِخُرُوجِهَا مِنَ الثُّلُثِ فِي حَالِ الْعِتْقِ فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ مَاتَ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ اسْتَقَرَّ الْعِتْقُ مِنْ وَقْتِ التَّلَفُّظِ بِهِ، فَإِنْ تَلَفَ مَالُهُ ثُمَّ مَاتَ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ أُبْطِلَ الْعِتْقُ الواقع في الظاهر بما تجدد من السبب الْمَانِعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْعِتْقَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ صِحَّتِهِ وَلَا يحكم في المال بِصِحَّةٍ وَلَا فَسَادٍ، فَإِنْ صَحَّ أَوْ مَاتَ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ بَانَ أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ وَاقِعًا بِاللَّفْظِ، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ غَيْرُ خارجة من الثلث أو أتلف مَالُهُ أَوْ حُدُوثُ دَيْنٍ أَحَاطَ بِجَمِيعِهِ بَانَ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَمْ يُقْطَعْ بِأَحَدِهِمَا وَوَجَبَ أَنْ يكون موقوفاً على ما يستقر منهما.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ تَفَرَّعَ النِّكَاحُ وَغَيْرُهُ من الأحكام عليها فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ نَاجِزًا فِي الظَّاهِرِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَأَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِهِ وَجَازَ لَوْ وَهَبَهَا وَلَمْ يُعْتِقْهَا أَنْ يَطَأَهَا الْمَوْهُوبَةُ لَهُ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَحُدَّ قَاذِفُهَا وَإِنْ قُذِفَتْ أُكْمِلَ حَدُّهَا وَتَرِثُ وَتُورَّثُ.
وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: إِنَّ الْعِتْقَ مَوْقُوفٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَكَانَ النِّكَاحُ إِنْ تَزَوَّجَهَا أَوْ زَوَّجَهَا بَاطِلًا، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا وَلَمْ يَجُزْ إِنْ وُهِبَتْ وَلَمْ يُعْتِقْ

(9/88)


أن يطأها الموهوبة له ولا أن يَتَصَرَّفُ فِيهَا، لِأَنَّهُ كَمَا يَكُونُ الْعِتْقُ مَوْقُوفًا فكذلك الهبة تكون موقوفة، ولا تقبل شهادتها، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُا، وَإِنْ قُذِفَتْ لَمْ يُكْمَلْ حدها ويقف ميراثها على ما يتبين مِنْ أَمْرِهَا.

فَصْلٌ
فَإِذَا وَضَحَ مَا وَصَفْنَا فسد حُكْمُ النِّكَاحِ إِنْ صَحَّ أَوْ فَسَدَ.
فَإِذَا قِيلَ إِنِ النِّكَاحَ بَاطِلٌ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا السَّيِّدُ حَتَّى مَاتَ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلْثِ وَقْتَ الْوَفَاةِ، فَإِنْ عَجْزَ الثُّلْثُ عَنْهَا عَتَقَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَرَقَّ بَاقِيهَا إِنْ لَمْ يُمْضِ الْوَرَثَةُ عِتْقَهَا.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَمَاتَ، وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا اسْتَقَرَّ عتقها وعليها عدة الوفاة ودخل بِهَا السَّيِّدُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِيرَاثِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِهِ، لِأَنَّ عِتْقَهَا فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ لَهَا، وَإِذَا ورثت منعت الوصي، وَإِذَا مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ بَطَلَ الْعِتْقُ، وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ وَمَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ لَمْ يَثْبُتْ.
فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ أَخَذَتْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وإن كان أكثر من مهل الْمِثْلِ كَانَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ المال، وكانت الزيادة عليه وصية لها تعطاها مِنَ الثُّلُثِ إِنِ احْتَمَلَهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ وَارِثَةٍ فلو كانت قيمتها تخرج من الثلث وقت الْعِتْقِ وَلَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَقْتَ الْمَوْتِ نظر في الورثة فإن يُجِيزُوا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أُعْتِقَ مِنْهَا قدر ما احتمله الثُّلُثُ وَيُرَقُّ الْبَاقِي وَكَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا عَلَى الوجهين معا، فإن لم يدخل بها فلا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا كَانَ لَهَا مَهْرِ الْمِثْلِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهَا وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا رَقَّ وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْعِتْقَ عَتَقَ جَمِيعُهَا.
فَأَمَّا النِّكَاحُ فَعَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ هَلْ هِيَ تَنْفِيذٌ لِلْوَصِيَّةِ أَوِ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، فَإِنْ قِيلَ إنما تنفيذ ما فعله كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلْثِ وَقْتَ الْعِتْقِ وَوَقْتَ الموت وكان المهر إن دفع نقص من الثُّلْثُ عَنْ قِيمَتِهَا نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَالْعِتْقُ فِي جَمِيعِهَا نَافِذٌ، وَالنِّكَاحُ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ جَائِزٌ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَهْرِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِهِ لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ قِيمَتِهَا وَعَجْزِهِ يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ بَعْضِهَا وَرِقُّ بَعْضِهَا يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ نِكَاحِهَا وَسُقُوطِ مَهْرِهَا، وَمَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إلى سقوط لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ بِالدُّخُولِ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنْهُ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِقِيمَتِهَا فَنَفَذَ عِتْقُهَا وَصَحَّ نِكَاحُهَا، وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ اسْتَحَقَّتْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا تَحَرَّرَ مِنْ عِتْقِهَا وَكَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهَا وَدَخَلَهُ الدُّوْرُ وَسَنَذْكُرُ مِنْ طَرِيقِ الْعَمَلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ قَدْرُ مَا تَتَحَرَّرُ مِنَ الْعِتْقِ عَلَى حقيقة - والله أعلم.
فَصْلٌ
فَنَقُولُ: إِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً لَهُ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا وَتَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ معا، فإن لم

(9/89)


يَدْخُلُ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَعَتَقَ ثُلُثُهَا إِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ عِتْقَ جَمِيعِهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنَ الْمَهْرِ عَتَقَ مِنْهَا الثُّلْثُ وَرَقَّ الثُّلْثَانِ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِمَا تستحقه من مهر مثلها داخلة الدور وبان العمل فيه من طريق الخبر أن يقول: لِلْأَمَةِ بِالْعِتْقِ شَيْءٌ وَلَهَا بِالْمَهْرِ نِصْفُ شَيْءٍ، لِأَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ مثلاً مما يخرج بالعتق، ويصير الْجَمِيعُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ فَاضْرِبُهَا فِي مَخْرَجِ الْكَسْرِ الَّذِي هُوَ النِّصْفُ، وَذَلِكَ اثْنَانِ تكن سبعة أشياء للعتق منها سهمان سبعاها وذلك ثمانية وعشرين دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَلِلْمَهْرِ سَهْمٌ هُوَ سبعها وقيمة أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَسُبْعَانِ وَذَلِكَ سُبْعَا مَهْرِ مثلها وهو قدر مَهْرِ مَا عَتَقَ مِنْهَا وَيَرِقُّ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أسباعها وذلك بسبعة وخمسين دِرْهَمًا وَسُبْعُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مَثَلًا مَا عَتَقَ منها ما يُقَالُ لِلْوَرَثَةِ: إِنْ دَفَعْتُمْ قِيمَةَ السُّبْعِ الْمُسْتَحَقِّ في المهر صار لكن خمسة أسباعها، وإن لم تدفعوه بيع ودفع ثمنه إليها.

فصل
وإذا أعتق في مرضه أمته قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتَزَوُّجَهَا عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مَثْلِهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَمَاتَ وَخَلَّفَ مَعَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَقِيمَتُهَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَمَنْ تَابَعَهُ -، أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَقَدْ عَتَقَ جَمِيعُهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، عَتَقَ جَمِيعَهَا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَبْرَأْ مِنْهُ وَطَلَبَتْهُ رَقَّ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا عَجَزَ بِهِ الثُّلُثُ عن قيمتها بالخارج من مهرها وبابه من طريق الخبر ما قدمناه. وهو أن يقول له: بِالْعِتْقِ شَيْءٌ وَبِالْمَهْرِ نِصْفُ شَيْءٍ وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، ويصير الجميع ثلاثة أشياء ونصف شيء، أخبر بها في مخرج النصف، وهو اثنان تكن سبعة أشياء فيعتق منها سهمين بسهمين سُبْعَا التَّرِكَةِ وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْبَاعِ رَقَبَتِهَا، لِأَنَّ التركة ثلثمائة وقيمتها مائة فتكون قيمة ستة أسباعها خمسة وثمانين درهماً أو خمسة أسباع درهم ويكون لها مهر سِتَّةِ أَسْبَاعِهَا اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ التَّرِكَةِ وَهُوَ مائة واحد وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَدْرُ السبع الموقوف منها والباقي من التركة يعد مهرها، لأن قيمة سبعها أربعة عشر دِرْهَمًا وَسُبْعَانِ وَالْبَاقِي مِنَ الْمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْخَارِجِ من مهرها مائة درهم وسبعة وخمسون درهماً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ لم يدخل بها فلا لها وعتق جميعها نافذ بخروج جَمِيعِ قِيمَتِهَا مِنَ الثُّلُثِ وَسَقَطَ الْمَهْرُ، لِأَنَّ ثُبُوتَهُ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِهِ لِنُقْصَانِ الثُّلُثِ بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنْ مَهْرِهَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهَا، وَإِنْ طَلَبَتْهُ بَطَلَ النِّكَاحُ لِنُقْصَانِ الثُّلُثِ عَنْ قِيمَتِهَا وَحُكِمَ لَهَا بِقَدْرِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَهْرِ المثل دون المسمى، لأن بِفَسَادِ النِّكَاحِ يَبْطُلُ الْمُسَمَّى وَكَانَ وَجْهُ الْعَمَلِ فيه من طريق الخبر ما ذكرنا، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَتَحَرَّرُ مِنْ عِتْقِهَا مَا وَصَفْنَا - وبالله التوفيق -.

(9/90)


بَابُ اجْتِمَاعِ الْوُلَاةِ وَأَوْلَاهُمْ وَتَفَرُّقِهِمْ وَتَزْوِيجِ الْمَغْلُوبِينَ على عقولهم والصبيان من الجامع من كتاب ما يحرم الجمع بينه من النكاح القديم وإنكاح أمة المأذون له، وغير ذلك
مسألة
قال الشافعي: " وَلَا وِلَايَةَ لأحدٍ مَعَ الْأَبِ فَإِنْ مَاتَ فَالْجَدُّ ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ ثُمَّ أَبُو أَبِي الجد كذلك لأن كلهم أبٌ فِي الثِّيِّبِ وَالْبِكْرِ سواءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَقْرَبُ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ إِلَيْهَا وَأَحَقُّهُمْ بنكاحها الأب، لأنها بعضه وَهِيَ مِنْهُ بِمَثَابَةِ نَفْسِهِ.
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا يريبها ".
وقد قيل في قَوْله تَعَالَى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنَ وَالأَقْرَبِينَ) {النساء: 135) . أَنَّ الْأَنْفُسَ هَاهُنَا الْأَوْلَادُ، وَلِأَنَّ الْأَبَ أَكْثَرُ العصبات شفقة وحباً وأعظمهم رفقة وحنواً وصار بها أمس ويطلب الْحَظَّ لَهَا أَخَصَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الولد مبخلة مجبنة مجهلة محزنة " وَلِأَنَّ سَائِرَ الْعَصَبَاتِ بِهِ يَدُلُّونَ وَإِلَيْهِ يَنْتَسِبُونَ وَالَمُدَلَّى بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُدَلِي، وَلِأَنَّهُ يَلِي عَلَى الْمَالِ وَالنِّكَاحِ أَقْوَى مِمَّنْ تَفَرَّدَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ فَصَارَ الْأَبُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ أَوْلَى بِالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ.

فَصْلٌ
فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ أَوْ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِكُفْرٍ، أَوْ رِقٍّ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ فِسْقٍ، فَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ أَحَقُّ الْعَصَبَاتِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْأَبِ.
وَقَالَ مَالِكٌ الْأَخُ بَعْدَ الْأَبِ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْجَدِّ، لِأَنَّ الْأَخَ ابْنُ الْأَبِ والجد أبو أب الْأَبِ وَالِابْنُ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنَ الْأَبِ، وَهَذَا خطأ، لأن في الجد بعضية ليست في الأخ فصار بها متشابهاً لِلْأَبِ، وَلِأَنَّ لِلْجَدِّ وِلَايَةً عَلَى الْمَالِ وَالنِّكَاحِ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ الَّذِي تَخْتَصُّ وِلَايَتُهُ بِالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْجَدَّ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْأَبِ فَكَانَ بَعْدَهُ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ الَّذِي قَدْ كَانَ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْأَخَ ابْنُ الْأَبِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ أبيه ففاسد من وجهين بابن المرأة وأبيها.
فَصْلٌ
فَإِنْ مَاتَ الْجَدُّ أَوْ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِكُفْرٍ، أَوْ رِقٍّ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ فِسْقٍ قالوا: فالولاية

(9/91)


بعده لأبيه ثم تنتقل عنه إلى من فوقه مِنَ الْآبَاءِ كُلَّمَا عُدِمَ الْأَقْرَبُ كَانَتِ الْوِلَايَةُ بَعْدَهُ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ حَتَّى يَنْفَذَ جَمِيعُ الْآبَاءِ فَيَكُونُ الْجَدُّ الْأَبْعَدُ بِمَا فِيهِ مِنَ الولاية والبعضية أَحَقَّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْأَخِ وَإِنْ قَرُبَ وَيَكُونُ حكم الْأَجْدَادُ وَإِنْ بَعُدُوا فِي إِجْبَارِ الْبِكْرِ وَاسْتِئْمَارِ الثيب كالأب.

مسألة
قال الشافعي: " ولا ولاية بعدهم لأحدٍ مَعَ الْإِخْوَةِ ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَةِ (قال المزني) واختلف قوله في الإخوة (فَقَالَ) فِي الْجَدِيدِ مَنِ انْفَرَدَ فِي درجةٍ بَأُمٍّ كَانَ أَوْلَى (وَقَالَ) فِي الْقَدِيمِ هُمَا سواءٌ (قال المزني) قد جعل الأخ للأب والأم في الصلاة على الميت أولى من الأخ للأب وجعله في الميراث أولى من الأخ للأب وجعله في كتاب الوصايا الذي وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ إِذَا أوصى لأقربهم به رحماً أنه أولى من الأخ للأب (قال المزني) وقياس قوله أنه أولى بإنكاح الأخت من الأخ للأب ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ تَكُونُ لِلْأَبِ ثُمَّ لِمَنْ نَاسَبَ الْأَبَ وَلَا يستحقها بالنسب من لم يرجع بالنسب إِلَى الْأَبِ فَيَكُونُ الْأَبُ أَصْلًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ بِالنَّسَبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْآبَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَصَبَاتِ عَمُودٌ يَسْتَحِقُّ الولاية منهم الأقرب فالأقرب ومن هم من العصبات درج مرتبته تخرج مِنْ كُلِّ دَرَجَةٍ عَمُودٌ وَكُلُّ دَرَجَةٍ تَتَقَدَّمُ بِعَمُودِهَا عَلَى مَا بَعْدَهَا وَتَتَأَخَّرُ بِعَمُودِهَا قَبْلَهَا فَإِذَا انْقَرَضَ عَمُودُ الْآبَاءِ كَانَتِ الدَّرَجَةُ الْأُولَى بني الْأَبِ وَهُمُ الْإِخْوَةُ وَعَمُودُهَا بَنُوهُمْ، وَإِنْ سَفَلُوا، وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ بَنُو الْجَدِّ وَهُمُ الْأَعْمَامُ وَعَمُودُهَا بَنُوهُمْ، وَإِنْ سَفَلُوا وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ بَنُو أَبِي الْجَدِّ وَهُمْ أَعْمَامُ الْأَبِ وَعَمُودُهَا بَنُوهُمْ وَإِنْ سفلوا وكذلك بَنُو أَبٍ بَعْدَ أَبٍ حَتَّى يَنْقَرِضَ بَنُو جَمِيعِ الْآبَاءِ فَيَصِيرُ أَحَقَّ الْعَصَبَاتِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْآبَاءِ الْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ الْأَعْمَامُ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ وَبَنُوهُمْ وِإنْ سَفَلُوا ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ أَعْمَامُ جد الجد وبنوهم وإن سفلوا كَذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يَنْقَرِضَ بَنُو الْآبَاءِ كلهم فلا يبقى بعدهم ولي مناسب فينتقل حينئذ الولاية على الْمُنَاسِبِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوَالِي الْمُعْتِقِينَ ثُمَّ إِلَى عَصَبَتِهِمْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، ثُمَّ إِلَى السُّلْطَانِ فَهُوَ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي تَرْتِيبِ العصبات لاستحقاق الولاية فأول درجة ينتقل إِلَيْهَا الْوِلَايَةُ بَعْدَ الْآبَاءِ الْأُخْوَةُ، وَالْأُخْوَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: إِخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَإِخْوَةٌ لِأَبٍ، وَإِخْوَةٌ لِأُمٍّ.
فَأَمَّا الْأُخْوَةُ لِلْأُمِّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُمْ سَوَاءً اجْتَمَعُوا مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ أَوِ انْفَرَدُوا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُدْلُوْا بِالْأُمِّ وَلَمْ يَرْجِعُوا بنسبهم إِلَى الْأَبِ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الْعَصَبَاتِ الْمُنَاسِبِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ.
وَأَمَّا الْأُخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأُخْوَةُ لِلْأَبِ فَلَهُمُ الْوِلَايَةُ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ انْفَرَدَ كَانَ وَلِيًّا فَإِنِ انْفَرَدَ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لَهُ، وَإِنِ انْفَرَدَ الْأَخُ لِلْأَبِ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لَهُ وَإِنِ اجْتَمَعَا فَفِيهِ قولان:

(9/92)


أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك، وأبي ثور - أنهم سَوَاءٌ وَلَا يُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَإِنْ قُدِّمَ عَلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ مَنْ أَدْلَى بِهَا، لِأَنَّ الْمُدَلَّى بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُدَلِّي وَلَيْسَ كَالْمِيرَاثِ الَّذِي يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ للأب، لأن للأم في الميراث مدخل فَلِذَلِكَ يُرَجَّحُ مَنْ أُدْلَى بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ ولاية النكاح تختص بِهَا الذُّكُورُ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ فِيهَا مَنْ أَدْلَى بِالْإِنَاثِ كَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة -، إِنَّ الْأَخَ للأب والأم أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْأَخِ لِلْأَبِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأُمِّ كَالتَّقَدُّمِ بِدَرَجَةٍ بِدَلِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يَحْجُبُ الْأَخَ لِلْأَبِ كما يحجب ابن الأخ.
والثاني: للأخت مع الأب من الأم وَالْأُمِّ السُّدُسُ كَمَا يَكُونُ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ وَإِذَا كَانَ الْإِدْلَاءُ بِالْأُمِّ كَالتَّقَدُّمِ بدرجة بهذين البلدين وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِالْوِلَايَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ الْمُزَنِيُّ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمُدْلِيَ بِالْأَبَوَيْنِ أقرب من أدلى بأحدهما استشهاداً بِالْوَصَايَا فِيمَنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ وَتَرَكَ أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْآخَرُ لِأَبٍ أَنَّهُ يَكُونُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ اتِّفَاقًا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُرْبِ، فَكَذَلِكَ وِلَايَةُ النِّكَاحِ فَهَذَا وَجْهٌ.
والثاني: أن الأخ للأب والأم ادلائه بالسببين واشتراكهما فِي الرَّحِمَيْنِ أَكْثَرُ إِشْفَاقًا وَحُبًّا مِمَّنْ تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا فَصَارَ بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ أَخَصَّ وَبِطْلَبِ الْحَظِّ فِيهَا أَمَسَّ كَمَا كَانَ الْأَبُ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحَقَّ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ وَهَكَذَا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي أَحَقِّهِمَا بِهَا قَوْلَانِ وَهَكَذَا فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لِلدَّيَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخٌ لِأَبٍ قَوْلَانِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَأَمَّا في الميراث، وَالْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي هَذِهِ المسائل الثلاث أحق من الأخ للأب.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي الْأَخَوَيْنِ فَهَكَذَا بَنُوهُمَا فَيَكُونُ ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنُ أَخٍ لِأَبٍ فِي أَحَقِّهِمَا بِالْوِلَايَةِ قَوْلَانِ وهكذا بنو أبي الأخوين وإن سفلوا وإن اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ دَرْجُهُمْ قُدِّمَ الأقرب إن كان للأب فَيَكُونُ الْأَخُ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنَ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ، وَهَكَذَا الْأَعْمَامُ وبنوهم الإخوة وبنيهم فالعم للأم لا ولاية له لخروجه من العصبات وإن تَفَرَّدَ بِهَا عَمٌّ لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَتِ الْوِلَايَةُ له، وَإِنِ اجْتَمَعَا فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْقَدِيمُ - أَنَّهُمَا سَوَاءٌ.

(9/93)


والثاني: - وهو الجديد - أن العم للأب والأم أَوْلَى، وَهَكَذَا بَنُو هَذَيْنِ الْعَمَّيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَإِنِ اخْتَلَفَ الدَّرَجُ قُدِّمَ الْأَقْرَبُ، وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ فَيَكُونُ الْعَمُّ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنَ ابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي أَعْمَامِ الآباء والأجداد وبنيهم.

فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَبْنَاءُ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ فَفِيهَا قَوْلَانِ كَالْأَخِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنَ الْأَبِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمَا سَوَاءٌ كَانَ أَبْنَاءُ الْعَمِّ سَوَاءً، وَإِنْ كَانَ أحدهما أخاً لأم.
وإن قِيلَ: إِنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى كَانَ ابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ أَوْلَى لِفَضْلِ إِدْلَائِهِ بِالْأُمِّ، فَأَمَّا الْعَمَّانِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا خَالًا فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْخَالَ لَا يَرِثُ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ بِهِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ - والله أعلم -.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ ابْنُهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَصَبَةً لَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا وِلَايَةَ لِلِابْنِ عَلَى أُمِّهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِالْبُنُوَّةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة، وَصَاحِبُهُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يُزَوِّجَ أُمَّهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِهِ مَعَ الْأَبِ.
فَقَالَ مَالِكٌ، وأبو يوسف، وَإِسْحَاقُ: الِابْنُ أَوْلَى بِنِكَاحِهَا مِنَ الْأَبِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ومحمد بن الحسن: الْأَبُ أَوْلَى ثُمَّ الِابْنُ وَقَالَ أبو حنيفة: هُمَا سَوَاءٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَأَيُّهُمَا زَوَّجَهَا جَازَ.
وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِابْنِ عَلَيْهَا: بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي وَلِيٌّ حَاضِرٌ، فَقَالَ مَا لك ولي حاضر ولا غائب لا يرضاني. ثُمَّ قَالَ لِابْنِهَا عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: " قم يا غلام فزوج أمك " فهذا نص.
قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ زَوَّجَ أُمَّهُ أُمَّ سُلَيْمٍ مِنِ عَمِّهِ أَبِي طَلْحَةَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ ابْنَ الْمَرْأَةِ عَصَبَةٌ لَهَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي نِكَاحِهَا كَالْأَبِ، وَلِأَنَّ تَعْصِيبَ الابن أقوى من تعصيب الأب، لأنهما إن اجْتَمَعَا سَقَطَ بِالِابْنِ تَعْصِيبُ الْأَبِ، وَصَارَ مَعَهُ ذَا فَرْضٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِتَزْوِيجِهَا مِنَ الْأَبِ وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يُرَادُ لِحِفْظِ الْمَنْكُوحَةِ مِنْ تَزْوِيجِ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا فَيَدْخُلُ العار على أهلها والابن رافع لِلْعَارِ عَنْهَا وَعَنْ نَفْسِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ لِكَثْرَةِ أَنَفَتِهِ وَعِظَمِ حَمِيَّتِهِ فَكَانَ أَحَقَّ بِنِكَاحِهَا.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ نَسَبٍ لَا يَمْلِكُ به أو المنتسب الولاية لم يملك به المنتسب بالولاية كالأخ من الأم طرداً أو كالأخ مِنَ الْأَبِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِي نَسَبٍ أَدْلَى بِمَنْ لَا يَمْلِكُ الْإِجْبَارَ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ كَابْنِ الْأُخْتِ طَرْدًا، وَكَابْنِ الْأَخِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا نَسَبٌ لَمْ يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا وِلَايَةُ النَّسَبَ كَالِابْنِ مِنَ الرَّضَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالِابْنُ مُنَاسِبٌ وَالْمُرْتَضِعُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ قِيلَ الِابْنُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لأمه، لأنه يرجع

(9/94)


بنسبه إلى أبيه لا إليها أَلَّا تَرَى أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ النَّبَطِيِّ نَبَطِيٌّ، وَابْنَ النَّبَطِيَّةِ مِنَ الْعَرَبِيِّ عَرَبِيٌّ، وَلِأَنَّ وَلِيَّ الْأُخْتَيْنِ الْمُتَنَاسِبَتَيْنِ وَاحِدٌ وَوِلَايَةُ الْأَخَوَيْنِ الْمُتَنَاسِبَيْنِ وَاحِدَةٌ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الِابْنُ تَزْوِيجَ خَالَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ أُمِّهِ وَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْ أَخُوهُ لِأَبِيهِ تَزْوِيجَ أُمِّهِ لَمْ يَمْلِكْ هُوَ تَزْوِيجَ أُمَّهُ.
وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ: قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ امْرَأَةٍ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ أُخْتِهَا الْمُنَاسِبَةِ لَهَا قِيَاسًا عَلَى ابْنِ الْبِنْتِ طَرْدًا، وَعَلَى ابْنِ الْعَمِّ عَكْسًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا امْرَأَةٌ لَا تَمْلِكُ إخُوة الْمُنَاسِبُ لَهُ تَزْوِيجَهَا فَلَمْ يَمْلِكْ هُوَ تَزْوِيجَهَا كالخالة طرداً وكالعمة عكساً، ولأن كل مَوْضِعِ الْوِلَايَةِ بِالنَّسَبِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَلَدِ فلم يجز أن يصير للولد قِيَاسًا عَلَى وِلَايَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نكاحها لا يخلو أن يكون لإدِلَائه بِهَا أَوْ بِأَبِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يكون لإدِلَائه بِأَبِيهِ، لِأَنَّ أَبَاهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ لإدِلَائه بِهَا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لها وِلَايَةٌ لِمَنْ أَدْلَى بِهَا، وَإِذَا بَطَلَ الْإِدْلَاءُ بالسببين بطلت الولاية.
فإن قيل: فغير مُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ أَدْلَى بِهَا مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ مَا لَيْسَ لَهَا كَالْأَبِ يُزَوِّجُ أمة بنته إدلاء بها وَلَيْسَ لِلْبِنْتِ تَزْوِيجُهَا.
قِيلَ: لَمْ يُزَوِّجْهَا الْأَبُ إِدْلَاءً بِالْبِنْتِ لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْأَسْفَلِ إِلَى الْأَعْلَى وَلَا يَكُونُ مِنَ الْأَعْلَى بالأسفل وَإِنَّمَا زَوَّجَهَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَلِيًّا عَلَى بِنْتِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا عَلَى أَمَةِ بنته، لأن الولاية إذا أثبتت عَلَى الْأَقْوَى فَأَوْلَى أَنْ تَثْبُتَ عَلَى الْأَضْعَفِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَزْوِيجِ أُمِّ سَلَمَةَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ابْنَهَا زَوَّجَهَا، لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ الْبُنُوَّةِ مُنَاسِبًا لَهَا، لِأَنَّ عُمَرَ بن أبي سلمة بن عبد الأسد بْنِ هِلَالٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بن مخزوم فَكَانَ مِنْ بَنِي عَمِّهَا يَجْتَمِعَانِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: فَكَانَ أَقْرَبَ عَصَبَاتِهَا الْحَاضِرِينَ فَزَوَّجَهَا بِتَعْصِيبِ النَّسَبِ لَا بِالْبُنُوَّةِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قم فَزَوِّجْ أُمَّكَ " أَيْ فَجِئْنِي بِمَنْ يُزَوِّجُ أُمَّكَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي وَلِيٌّ حَاضِرٌ فَأَقَرَّهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمَ لكن وَلِيًّا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ وَقِيلَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ فَدَلَّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّزْوِيجِ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا بِإِحْضَارِ مَنْ يَتَوَلَّى التَّزْوِيجَ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصٌ فِي مَنَاكِحِهِ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فأمر ابنها

(9/95)


بِذَلِكَ اسْتِطَابَةً لِنَفْسِهِ لَا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ عَلَى أَنَّ رَاوِيَ هَذَا اللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَثَابِتٌ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ فَكَانَ مُنْقَطِعًا.
وَأَمَّا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَكَانَ مِنْ عَصَبَاتِ أُمِّهِ فَزَوَّجْهَا بِتَعْصِيبِ النسب لا بالبنوة.
وأما الجواب عن قياسه بِأَنَّهُ عَصَبَةٌ كَالْأَبِ فَهُوَ أَنَّ الِابْنَ عَصَبَةٌ في الميراث ليس بِعَصَبَةٍ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ عَلَا مِنَ الْعَصَبَاتِ وَالْمِيرَاثُ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ عَلَا وَسَفَلَ مِنَ الْعَصَبَاتِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَبِ لَمَّا كَانَ أَبُوهُ وَهُوَ الْجَدُّ وَلِيًّا لَهَا كَانَ الْأَبُ وَلِيًّا وَلَمَّا كَانَ أَبُو الِابْنِ وَهُوَ الزَّوْجُ غَيْرَ وَلِيٍّ لَهَا لَمْ يَكُنِ الِابْنُ وَلِيًّا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعْصِيبَ الِابْنِ أَقْوَى مِنْ تَعْصِيبِ الْأَبِ فَهُوَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمِيرَاثِ باستحقاق الولاية في النكاح، لَا فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يعتبر قوة التعصيب في الميراث لِأَنَّ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ مِنَ الْأَبْنَاءِ يُسْقِطُ فِي الْمِيرَاثِ تَعْصِيبَ الْآبَاءِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ وِلَايَةِ النكاح عن حكم الأب.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ أَعْظَمُ حَمِيَّةً وَأَكْثَرُ أَنَفَةً فِي مَنْعِهَا مِنْ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ فهذا المعنى هو الذي أبطل ولايته به وَبِهِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: " لِأَنَّهُ يَرَى نِكَاحَهَا عار " يَعْنِي أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ تَزْوِيجِهَا وَيَرَاهُ عَارًا فَهُوَ لَا يَطْلُبُ الْحَظَّ لَهَا فِي نِكَاحِ كُفْئِهَا وَالْوَلِيُّ مَنْدُوبٌ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا فَلِذَلِكَ خَرَجَ الِابْنُ عَنْ مَعْنَى الْأَوْلِيَاءِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَيْسَ لِلِابْنِ تَزْوِيجَ أُمِّهِ بِالْبُنُوَّةِ فَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَسْبَابٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَصَبَةً لَهَا مِنَ النَّسَبِ بِأَنْ يَكُونَ ابْنَ ابْنِ عَمِّهَا وَلَيْسَ لَهَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَيُزَوِّجُهَا، لِأَنَّ بُنُوَّتَهُ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ قُوَّةً لَمْ تَزِدْهُ ضَعْفًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهَا ابْنَا ابْنِ عَمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُهَا فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ هُمَا سَوَاءٌ كَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ، وعلى قياسه قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ابْنُهَا أَوْلَى لِفَضْلِ إِدْلَائِهِ بها.
والسبب الثاني: أن يكون موالٍ لها يزوجها بولاية الولاء، فلو كان لها ابنا مَوْلًى أَحَدُهُمَا ابْنُهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْآخِرُ لِأَبٍ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ أنهما سواء.
والثاني: وهو الجديد أن ابنها يفضل إِدْلَائه بِهَا أَوْلَى.
وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ابْنُهَا قَاضِيًا وَلَيْسَ لَهَا عَصَبَةٌ مُنَاسِبُ فَيَجُوزُ لابنه أَنْ يُزَوِّجَهَا بِوِلَايَةِ الْحُكْمِ.
وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِوَلِيِّهَا الْمُنَاسِبِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا نِيَابَةً عَنْهُ كَمَا يُزَوِّجُهَا الْمُسْتَنَابُ مِنَ الأجانب.
فصل
فإذا أعتقت المرأة أمة لها وَأَرَادَتْ تَزْوِيجَهَا وَكَانَ لَهَا أَبٌ وَابْنٌ فَأَبَوْهَا أَوْلَى بِتَزْوِيجِ الْمُعَتَقَةِ مِنَ ابْنِهَا فَلَوْ مَاتَتِ السَّيِّدَةُ الْمُعْتِقَةُ وَخَلَّفَتْ أَبَاهَا وَابْنَهَا فَوَلَاءُ أَمَتِهَا التي أعتقها لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ وَفَى أحَقِّهِمَا بِنِكَاحِهَا وَجْهَانِ:

(9/96)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى بِوِلَايَةِ نِكَاحِهَا مِنَ الِابْنِ كَمَا كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ فِي حَيَاةِ سيدها.
والوجه الثاني: أن الابن بعد موت السيد أَوْلَى بِنِكَاحِ الْمُعَتَقَةِ مِنَ الْأَبِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَمْلَكَ بِالْوَلَاءِ مِنَ الْأَبِ فَصَارَ أَمْلَكَ بِوِلَايَةِ النِّكَاحِ مِنَ الْأَبِ - وَاللَّهُ أعلم -.

مسألة
قال الشافعي: " ولا ولاية بعد النسب إلا للمعتق ثُمَّ أَقْرَبِ النَّاسِ بِعَصَبَةِ مُعْتِقِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْمُنَاسِبُونَ لَهَا مِنَ الْعَصَبَاتِ يَتَرَتَّبُونَ بِالْقُرْبِ إِلَيْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَمَتَى وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ بَعُدَ فَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِنِكَاحِهَا وَإِنْ عَدِمُوا جَمِيعًا قَامَ الْمَوْلَى المعتق في نكاحها مقام الأولياء المناسبين من عصبتها لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها بَاطِلٌ "، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى الْمُعْتِقَ قَدْ أَفَادَهَا بِالْعِتْقِ مَا أَفَادَهَا الْأَبُ الْحُرُّ مِنْ زَوَالِ الرِّقِّ حَتَّى صَارَتْ مَالِكَةً وَوَارِثَةً وَمَوْرُوثَةً وَمَعْقُولًا عَنْهَا فاقتضى أن تحل مَحَلَّ الْأَبِ وَالْعَصَبَاتِ فِي وِلَايَةِ نِكَاحِهَا، فَمَتَى وُجِدَ الْمَوْلَى الْمُعْتِقُ بَعْدَ فَقْدِ الْعَصَبَاتِ كَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِنِكَاحِهَا فَإِنْ عُدِمَ فَعَصَبَةُ الْمَوْلَى يَتَرَتَّبُونَ فِي وِلَايَةِ نِكَاحِهَا عَلَى مِثْلِ مَا يَتَرَتَّبُونَ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ وَلَائِهَا وَمِيرَاثِهَا فَيَكُونُ ابْنُ الْمَوْلَى ثُمَّ بَنَوْهُ أَحَقَّ بِوَلَائِهَا وَوِلَايَةِ نِكَاحِهَا مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ الْأَبُ بَعْدَ الْبَنِينَ وَبَنِيهِمْ ثُمَّ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ الْأَبِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: الْأُخْوَةُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْجَدُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْجَدُّ، ثُمَّ الْأُخْوَةُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْأُخْوَةُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ بنو الإخوة، ثم فيمن يستحقها من الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: الْأَعْمَامُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَبُو الْجَدِّ، ثُمَّ الْأَعْمَامِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْأَعْمَامُ ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ، ثُمَّ بَنُو الْأَعْمَامِ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ يَتَرَتَّبُونَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا عَلَى ما ذكرنا حتى جَمِيعِ عَصَبَاتِ الْمَوْلَى، فَإِنْ عُدِمُوا فَمَوْلَى الْمَوْلَى ثُمَّ عَصَبَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَوَالِي الْمُعْتِقِينَ وَعَصِبَاتِهِمْ أَحَدٌ وَكَانَتِ المرأة العادمة للعصبات حرة ولا وَلَاءَ عَلَيْهَا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ وَهُوَ النَّاظِرُ فِي الْأَحْكَامِ فَتَكُونُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ.

فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَ للمعتقة ابنا مَوْلًى اسْتَوَيَا فِي وِلَايَةِ نِكَاحِهَا فَأَيُّهُمَا زَوَّجَهَا جاز ولو كان لها موليان معتقان ولم يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِنِكَاحِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ أَوْ يَأْذَنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِنِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: أَيُّهُمَا انْفَرَدَ بِنِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ صَحَّ وَأَجْرَاهُمَا مَجْرَى أخوي الحرة

(9/97)


وَابْنِيْ مَوْلَى الْمُعَتَقَةِ، وَهَذَا الْجَمْعُ خَطَأٌ لِظُهُورِ الفرق بينهما، وهو أن كلاً مِنَ الْأَخَوَيْنِ وَابْنَيِ الْمَوْلَى مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْوِلَايَةِ وَالْوَلَاءِ لِانْتِقَالِ حَقِّ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا إِلَى الباقي ولي كل واحد من المعتقين ممن يسحق كُلَّ الْوِلَايَةِ وَالْوَلَاءِ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى الْبَاقِي فَمَنَعَ هَذَا الْفَرْقُ من صحة الجميع.
فلو مات أحد المعتقين وترك اثنين فَزَوَّجَهَا الْمُعْتِقُ الْبَاقِي بِأَحَدِ ابْنِيِ الْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ جاز، ولو زوجها ابنا الْمَيِّتِ دُونَ الْمُعَتِقِ الْبَاقِي لَمْ يَجُزْ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ التَّعْلِيلِ، وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلَانِ عَبْدًا أو أعتق الْعَبْدُ أَمَةً وَمَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ معتقيه تَزْوِيجُ الْأَمَةِ حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى نِكَاحِهَا، لِأَنَّ الَّذِي يَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْوَلَاءِ فإن تفرد أحدهما بنكاحها بطل وإن عَضَلَ أَحَدُ الْمُعْتِقَيْنَ الْأَمَةَ، أَوْ غَابَ، أَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ وَالْمُعَتِقُ الْبَاقِي لِيَنُوبَ الْحَاكِمُ عَمَّنْ مَاتَ، أَوْ عَضَلَ، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا دُونَ الْمُعَتِقِ أَوْ تَفَرَّدَ بِهِ الْمُعَتِقُ دُونَ الْحَاكِمِ كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا نِصْفُ الْوِلَايَةِ.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " فَإِنِ اسْتَوَتِ الْوُلَاةُ فَزَوَّجَهَا بَإِذْنِهَا دُونَ أَسَنِّهِمْ وأفضلهم كفؤاً جَازَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ جَمَاعَةُ أولياء يساوي الأخوال فِي التَّعْصِيبِ وَالْقُرْبِ كَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِي الْوِلَايَةِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا لَاسْتَحَقَّهَا، فَإِذَا شَارَكَ غَيْرَهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له " فجعلهم عند الاشتجار سواء، ولم يعدم منهم مع التكافئ أحداً، وإذا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَنْ يَتَشَاجَرُوا أَوْ لَا يَتَشَاجَرُوا، فَإِنْ لَمْ يَتَشَاجَرُوا: فالأولى أن يتولى العقد منهم أفضلهم مشياً وديناً وعلماً، أما المشي فلأنه أخبر بِالْأُمُورِ لِكَثْرَةِ تَجْرِبَتِهِ، وَأَمَّا الدِّينُ فَإِنَّهُ يُسَارِعُ إِلَى مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ لوليته، وأما العلم فَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ شُرُوطَ الْعَقْدِ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ، فَإِذَا تَوَلَّاهُ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كان أولى وأفضل وإن تولاه منهم من خالفهم فكان أصغرهم سناً وأقلهم علماً أو ديناً لكن كان بالغاً عدلاً بالنكاح جاز؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سِوَاهُ لَصَحَّ عَقْدُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِمَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَضْلِ تَأْثِيرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ.

فصل
فإن تشاجروا، أو طلب كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلْعَقْدِ لَمْ يَتَرَجَّحْ مِنْهُمْ عِنْدَ التَّشَاجُرِ بِالسِّنِّ وَالْعِلْمِ أَحَدٌ، وَكَانُوا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي الْوِلَايَةِ مَعَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَتَرَجَّحْ بِهَا أَحَدُهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْمُخَالَطَةِ وَالْجِوَارِ طَرْدًا وَكَالْعَدَالَةِ عكساً، وإذا كان كذلك وجب الإقراع بينهم ليتميز بالقرعة أحدهم، ولأن مَا اشْتَرَكَتِ الْجَمَاعَةُ فِي مُوجِبِهِ وَلَمْ يَكُنِ اشتراكهم في حكمه تميزاً فِيهِ بِالْقُرْعَةِ، كَمَا يُقْرَعُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْقِصَاصِ فِيمَنْ يَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ الطِّفْلِ فِيمَنْ يكفله من بينهم، فإذا قرع بَيْنَهُمْ كَانَ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْعَقْدِ أو يتولاه أو أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَهَلْ يَصِيرُ أَوْلَى بِهِ اسْتِحْقَاقًا أَوِ اخْتِيَارًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(9/98)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ أَوْلَى بِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ لِتَرَجُّحِهِ بِالْقُرْعَةِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنْ تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أولى به من طريق الاختيار ليكافئ الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ كَانَ تَارِكًا لِحَقِّهِ وَالْمُتَوَلَّى لَهُ قَائِمٌ فِيهِ بِحَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ من الجماعة بغير إذنه كالنكاح كان جائزاً.

مسألة
قال الشافعي: " وإن كَانَ غَيْرَ كفؤٍ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ قَبْلَ إِنْكَاحِهِ فَيَكُونُ حَقًّا لَهُمْ تَرَكُوهُ ".
قَالَ الماوردي: وإذا رضيت المرأة لنفسها رجلاً ودعت أوليائها إلى تزويجها به لم يخل حال الرجل من أن يكون كفؤاً لها وغير كفءٍ، فإن كان كفء لَزِمَهُمْ تَزْوِيجُهَا بِهِ، فَإِنْ قَالُوا نُرِيدُ مَنْ هو أكفأ منه لم يكن لهم ذاك، لِأَنَّ طَلَبَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْكَفَاءَةِ خُرُوجٌ عَنِ الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَسَقَطَ، وكانوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَضْلَةً يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ دُونَهُمْ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ تَزْوِيجِهَا لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِمُ عَارٌ مقض فَلَوْ رَضُوا بِهِ إِلَّا وَاحِدٌ كَانَ لِلْوَاحِدِ منعها منه لما يلحقه من عار وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ الْمَقْذُوفِ إِذَا أعفوا عن القاذف إلا واحد كان الواحد أن يجده لما يلحقه من معرة القذف، فلو بادر أَحَدُ أَوْلِيَائِهَا بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَاقِينَ وَرِضَاهُمْ فَزَوَّجَهَا بهذا الذي ليس كفءً لَهَا فَظَاهِرُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " إنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ قَبْلَ إِنْكَاحِهِ فَيَكُونُ حقاً لهم، وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْإِمْلَاءِ ": فَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كفءٍ كَانَ لَهُمُ الرَّدُّ، فَظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ النِّكَاحِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ الْفَسْخِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وهو ظاهر نص فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّ عَدَمَ الْكَفَاءَةِ نَقْصٌ يَجْرِي مَجْرَى العيوب في النكاح والبيع تُوجِبُ خِيَارَ الْفَسْخِ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ ظَاهِرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَقَعُ مَوْقُوفًا على الإجازة فإذا لم ينعقد لأن ما كان باطلاً، ولأن غير الكفؤ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْإِذْنُ فَكَانَ الْعَقْدُ فِيهِ بَاطِلًا كَمَنْ عُقِدَ عَلَى غَيْرِهِ بَيْعًا أَوْ نِكَاحًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهَذَا أَحَدُ مَذْهَبَيْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابَيْنَ عَلَى اخْتِلَافُ حَالَيْنِ وَلَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، والذي يقتضيه نصبه في هذا الموضع من إطلاق النِّكَاحِ، هُوَ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ الْعَاقِدُ عَالِمًا بِأَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُ كفءٍ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نَصُّهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " مِنْ جَوَازِ النِّكَاحِ

(9/99)


وثبوت خيار الْفَسْخِ فِيهِ لِبَاقِي الْأَوْلِيَاءِ، هُوَ إِذَا لَمْ يعلم الولي ذلك إِلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذْهَبَيْنِ وَأَوْلَى الطرفين، لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ مُخَالِفٌ وَمَعَ التَّدْلِيسِ مَغْرُورٌ فجرى مجرى الوكيل وإذا اشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ مَا يَعْلَمُ بِعَيْبِهِ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ، وَلَوِ اشْتَرَى لَهُ مَا لَا يَعْلَمُ بعيبه صح عقده وثبت فِيهِ الْخِيَارُ.

فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ أوليائها واحد فَرِضِيَ وَرَضِيَتْ بِغَيْرِ كفءٍ فَزَوَّجَهَا بِهِ وَأَنْكَرَهُ بَاقِي الْأَوْلِيَاءِ فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُمْ وَالنِّكَاحُ مَاضٍ، لِأَنَّ الْأَقْرَبَ قَدْ حَجَبَ الْأَبَاعِدَ عَنِ الْوِلَايَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اعْتِرَاضٌ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ هُوَ الْمُمْتَنِعَ والأباعد الراضون فمنع الأقرب أولى من رضا الأبلعد، وإن كثروا، لأن حجبهم عن الولاية لا يعتبر فيهم منع ولا رضى.
القول في الكفاءة بين الزوجين

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَيْسَ نِكَاحُ غَيْرِ الكفؤ بمحرمٍ فأرده بكل حالٍ إنما هو تقصيرٌ عن المزوجة والولاة ".
قال الماوردي: وأما الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ فَمُعْتَبِرَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي لحوق الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ولا تزوجهن إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ ".
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَأنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ ".
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ثلاثة لا تؤخرهم الصَّلَاةُ إِذَا أَتَتْ، وَالْجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إِذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا "، وَلِأَنَّ فِي نِكَاحِ غَيْرِ الكفء عار يدخل على الزوجة والأولياء وعضاضة تدخل على الأولاد يتعدى إليهم نقصاً فكان لها وللأولياء دفعة عنهم وعنها.

فصل: الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْكَفَاءَةِ وَالْأَصْلُ فِيهَا وَشَرَائِطُهَا
فإذا ثبت اعتبار الكفاءة فهي المساواة مأخوذ مَنْ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ لِتَكَافُئِهِمَا وَهِيَ مُعْتَبِرَةٌ بِشَرَائِطَ نذكرها.

(9/100)


أصلها ما رواه سعيد بن أبي شعبة عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا، وَحَسَبِهَا، وَدِينِهَا، وَجِمَالِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ".
يُقَالُ: تَرِبَ الرَّجُلُ إِذَا افْتَقَرَ وَأَتْرَبَ إِذَا اسْتَغْنَى، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - له ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن ترتب هَاهُنَا بِمَعْنَى اسْتَغْنَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى افْتَقَرَتْ فَتَصِيرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ لَمْ يخالف له أمراً مع أن دعاءه مَقْرُونٌ بِالْإِجَابَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ تَرِبَتْ يَدَاكَ إِنْ لَمْ تَظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، لِأَنَّ مَنْ لم يظفر بذات الدين سلبت الْبَرَكَةُ فَافْتَقَرَتْ يَدَاهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ تَخِفُّ على ألسنة العرب في خواتيم الكلام ولا يُرِيدُونَ بِهَا دُعَاءً وَلَا ذَمًّا، كَقَوْلِهِمْ مَا أَشْعَرَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَمَا أَرْمَاهُ شُلَّتْ يَدَاهُ.
فإذا ثبت هذا فالشروط الَّتِي تُعْتَبِرُ بِهَا الْكَفَاءَةُ سَبْعَةٌ وَهِيَ: الدِّينُ، والنسب، والحرية، والمكسب، والمال، والبشر، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ بالدين وحده.
وقال ابن أبي ليلى: مُعْتَبِرَةٌ بِشَرْطَيْنِ: الدِّينِ وَالنَّسَبِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هِيَ مُعْتَبِرَةٌ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ: الدِّينِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَالِ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة.
وَقَالَ أبو يوسف: هِيَ مُعْتَبِرَةٌ بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ: الدِّينِ، وَالنَّسَبِ، والمال، والمكسب.
الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: عَنْ أبي حنيفة.
وَنَحْنُ نَدُلُّ على كل شرط منها وَنُبَيِّنُ حُكْمَهُ.
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ فِي الْكَفَاءَةِ وَهُوَ الدِّينُ

أَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الدِّينُ فَإِنَّ اختلافهما فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ كَانَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي أصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ) {الحشر: 20) . وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ ".
وإن كان اختلافهما في الصفات والفجور مع اتفاقهما في الإسلام فَعِنْدَ محمد بن الحسن أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ معتبر، وعند الجماعة عنه: أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِي لاَ

(9/101)


يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إلاَّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٍ) {النور: 3) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ) {السجدة: 18) .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كره منها خلقاً رضي منها خلقاً ".
فَأَمَّا الْمُسْلِمَانِ إِذَا كَانَ أَبَوَا أَحَدِهِمَا مُسْلِمَيْنِ وأبوا الأخير كافرين فإنهما يكونا كفئين.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَكَافُؤَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لما لم يتكافئ الآباء لم يتكافئ الْأَبْنَاءُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ فَضْلَ النَّسَبِ يَتَعَدَّى وَفَضْلَ الدِّينِ لَا يَتَعَدَّى، لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْصُلُ لِلْأَبْنَاءِ إِلَّا مِنَ الْآبَاءِ فَتَعَدَّى فَضْلُهُ إِلَى الْأَبْنَاءِ، وَالدِّينُ قَدْ يَحْصُلُ لِلْأَبْنَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْآبَاءِ فَلَمْ يَتَعَدَّ فَضْلُهُ إِلَى الأبناء.

فصل: الشرط الثاني وهو النسب
فأما الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ " النَّسَبُ " فَمُعْتَبَرٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَحَسَبِهَا " يَعْنِي بِالْحَسَبِ النَّسَبِ ".
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " إياكم وخضراء الدمن " وما خضراء الدمن قال ذلك مثل المرأة الْحَسْنَاءِ مِنْ أَصْلٍ خَبِيثٍ "، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّاسُ يَتَرَتَّبُونَ فِي أَصْلِ الْأَنْسَابِ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: قُرَيْش، ثُمَّ سَائِرَ الْعَرَبِ، ثُمَّ الْعَجَمَ.
فَأَمَّا قُرَيْشٌ فَهِيَ أَشْرَفُ الْأُمَمِ لِمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ رِسَالَتِهِ وَفَضَّلَهُمْ بِهِ مِنْ نبوته ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا، وَتَعَلَّمُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَلَا تُعَلِّمُوهَا " فَلَا يُكَافِئُ قُرَيْشِيًّا أَحَدٌ مِنَ العرب والعجم.
واختلف أصحابنا هل تكون قريشاً كُلُّهُمْ أَكْفَاءً فِي النِّكَاحِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة -: أَنَّ جَمِيعَ قُرَيْشٍ أَكْفَاءٌ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ " فَلَمَّا كَانَ جَمِيعُ قُرَيْشٍ فِي الْإِمَامَةِ أَكْفَاءً، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا فِي النِّكَاحِ أَكْفَاءً ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - أَنَّ قُرَيْشًا يَتَفَاضَلُونَ بِقُرْبِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يتكافؤن، لرواية عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ فَقَالَ

(9/102)


لي: قلبت مشاق الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَرَ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَقَلَّبْتُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَرَ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَلِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا شَرُفَتْ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ كَانَ أَقْرَبُهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشْرَفَ مِنْ سَائِرِ قُرَيْشٍ، وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا تَرَتَّبُوا فِي الدِّيوَانِ بِالْقُرْبِ حَتَّى صَارُوا فِيهِ عَلَى عَشْرِ مَرَاتِبَ دَلَّ عَلَى تَمْيِيزِهِمْ بِذَلِكَ فِي الْكَفَاءَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَمِيعُ بَنِي هَاشِمٍ، وبني الْمُطَّلِبِ أَكْفَاءٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع بينهم في سهم ذوي القربى، وجمع عمر رضي الله تعالى عنه بَيْنَهُمْ فِي الدِّيوَانِ، ثُمَّ يَلِيهِمْ سَائِرُ بَنِي عبد مناف، وبني زهرة، ولا يفضل بني عَبْدِ شَمْسٍ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ عَلَى بَنِي نوفل، ولا بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَلَا بني عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى بَنِي زُهْرَةَ، وَإِنْ فَعَلْنَا ذلك في وضع الديوان لأمرين:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُشَقُّ اعْتِبَارُهُ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ ولا تشق اعْتِبَارُهُ فِي وَضْعِ الدِّيوَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَاءَةَ معتبرة في البطون الجامعة لا فِي الْأَفْخَاذِ الْمُتَفَرِّقَةِ، لِأَنَّنَا إِنْ لَمْ نَعُدْ إِلَى بَنِي أَبٍ أَبْعَدَ صَارَتِ الْمَنَاكِحُ مَقْصُورَةً عَلَى بَنِي الْأَبِ الْأَقْرَبِ فَضَاقَتْ، ثُمَّ جَمَعْنَا بَيْنَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي زُهْرَةَ فِي كفاءة النكاح، وإن لم يكونا بطناً واحدة لِرِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " صريح قريش ابناً كالأب " يَعْنِي بَنِي قُصَيٍّ، وَبَنِي زُهْرَةَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يرجع على قُصَيٍّ بِأَبِيهِ وَإِلَى زُهْرَةَ بِأُمِّهِ فَتَقَارَبَا فِي الكفاءة بأبويه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم يلي عبد مناف وبني زهرة سائر قريش فيكونوا جَمِيعًا أَكْفَاءً، فَلَوْ كَانَ فِيهِمْ بَنُو أَبٍ له سابقة في الإسلام فهل تكافئهم الْبَاقُونَ مِنْ قَوْمِهِمْ كَبَنِي أَبِي بَكْرٍ هَلْ يُكَافِئُهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَبَنِي عُمَرَ هل يكافئهم قومهم من بني عدي يتحمل وجهين:
أحدهما: أن يكونوا أكفاءهم بجدتهم قَدْ كَانُوا قَبْلَ الْكَثْرَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَاحِ بني أبينهم أَكْفَاءً لِعَشَائِرِهِمْ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْكَثْرَةِ وَالْقُدْرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: لا يكونوا أكفاءهم لما قد تميزوا مِنْ فَضْلِ الشَّرَفِ وَالسَّابِقَةِ وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونُوا قَبْلَ الْكَثْرَةِ أَكْفَاءً غَيْرَ مُتَمَيِّزِينَ، وَبَعْدَ الْكَثْرَةِ مُتَمَيِّزِينَ كَمَا تَمَيَّزَتْ بَنُو هَاشِمٍ بَعْدَ الْكَثْرَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزُوا قَبْلَ الْكَثْرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوَالِي قُرَيْشٍ هَلْ يَكُونُوا أكفاء فِي النِّكَاحِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ من مَوَالِي ذَوِي الْقُرْبَى هَلْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي قُرَيْشٍ.
فَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ سِوَى قُرَيْشٍ فَهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي قُرَيْشٍ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ جَمِيعَهُمْ أَكْفَاءٌ مِنْ عَدْنَانَ وَقَحْطَانَ، لِأَنَّ فِي عَدْنَانَ سَابِقَةَ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِي قَحْطَانَ سَابِقَةَ الْأَنْصَارِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّهُمْ يَتَفَاضَلُونَ ولا يتكافؤون فَتُفَضَّلُ مُضَرُ فِي الْكَفَاءَةِ عَلَى رَبِيعَةَ، وَيُفَضَّلُ عَدْنَانُ عَلَى قَحْطَانَ اعْتِبَارًا بِالْقُرْبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ سَمِعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا يَنْشُدُ.
(إِنِّي امرؤ حميري حين تسبني ... لَا مِنْ رَبِيعَةَ آبَائِي وَلَا مُضَرَ)

فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: ذَاكَ أَهْوَنُ لِقَدْرِكَ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنَ اللَّهِ، فَلَوْ تَقَدَّمَتْ قَبِيلَةٌ مِنَ

(9/103)


العرب على غيرها نظر، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لمأثرةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لِكَثْرَةِ عَدَدٍ كَانُوا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ أَكْفَاءً، وإن كَانَ لِسَابِقَةٍ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ المحتملين وأما سائر العجم، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ جَمِيعَهُمْ أَكْفَاءٌ للفرس مِنْهُمْ، وَالنَّبَط، وَالتُّرْكِ، وَالْقِبْطِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ إِنَّهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْكَفَاءَةِ، فَالْفُرْسُ أَفْضَلُ مِنَ النَّبَطِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لو كان الدين معلق بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ ".
وَبَنُو إسرائيل أفضل من القبض الَّذِينَ سَلَفَهُمْ وكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لِقَوْمٍ مِنَ الْفُرْسِ شَرَفٌ عَلَى غَيْرِهِمْ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ لِمُلْكٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ مَأْثَرَةٍ تَقَدَّمَتْ لَمْ يَتَقَدَّمُوا بِهِ فِي الْكَفَاءَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِسَابِقَةٍ فِي الْإِسْلَامِ احْتَمَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ.

فصل: الشرط الثالث وهو الحرية
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوِ الْحُرِّيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مٍِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بِلْ أكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) {النحل: 75) . فَمَنَعَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " المؤمنون تتكافئ دماءهم وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ " يَعْنِي عَبِيدَهُمْ، فَجَعَلَ الْعَبِيدَ أَدْنَى مِنَ الْأَحْرَارِ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنَ الملك وكمال التصرف، ويرفع الحجر للسيد فكان النَّقْصُ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ نَقْصِ النَّسَبِ، وَإِذَا كان كذلك لم يكن العبد كفء الحرة ولا الأمة كفء الحر، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُدَبَّرُ، وَلَا الْمَكَاتَبُ، وَلَا المعتق نصفه، ولا من جزء من الرق، وإن قل كفء الحرة ولا تكون المدبرة والمكاتبة وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ وَلَا الْمُعْتَقَةُ نِصْفُهَا، وَلَا مَنْ فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ، وَإِنْ قَلَّ كفء الحر واختلف أصحابنا هل يكون العبد كفء لمن عتق نصفها ورق بعضها، أو تكون الأمة كفؤاً لِمَنْ عَتَقَ بَعْضُهُ وَرَقَّ بَعْضُهُ أَمْ لَا؟ على وجهين:
أحدهما: لا تكون كفؤاً لِأَنَّ لِبَعْضِ الْحُرِّيَّةِ فَضْلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَكُونُ كفؤاً، لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ فَأَحْكَامُ الرِّقِّ عَلَيْهِ أَغْلَبُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْ عتق بعضه كفؤاً للحر تغليباً للرق صار كفء العبد، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ مَنْ ثُلُثِهِ حر لمن نصفه حر حتى تساوا مَا فِيهِمَا مِنْ حُرِّيَّةٍ وَرِقٍّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثاني يكونان كفؤاً وإن تفاضل بَاقِيهُمَا مِنْ حُرِّيَّةٍ وَرِقٍّ، فَأَمَّا الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ رِقٌّ قَبْلَ الْعِتْقِ لم يكن كفء فالحرة الأصل، وإن لم يكن يجري عليه رق لكونه ابن عتق من رق فهل يكون كفء الحرة الْأَصْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي موالي كل قبيلة هل يكونوا أكفائها في النكاح، فإن قيل يكونوا أكفائها صار المولي كفؤاً للحرة الأصل، وإن قيل لا يكونوا أكفاء لم

(9/104)


يصر المولي كفؤاً لِلْحُرَّةِ الْأَصْلِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَوْلَى لِعَرَبِيٍّ وَالْآخَرُ مَوْلَى لِنَبَطِيٍّ، فَإِنْ قيل مولى القبيلة كفءٌ لَهَا فِي النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ مَوْلَى النَّبَطِيِّ كفؤاً لمولى العربي، وإن قيل لا يكون كفئاً لها كان مولى النبطي كفئاً لمولى العربي.

فصل: الشرط الرابع وهو الكسب
فأما الشرط الرابع: وهو الكسب فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) {النحل: 71) . فيه تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي قَدْرِ الرِّزْقِ فَبَعْضُهُمْ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي أَسْبَابِ الرِّزْقِ فَبَعْضُهُمْ يَصِلُ إِلَيْهِ لعز وَدَعَةٍ وَبَعْضُهُمْ يَصِلُ إِلَيْهِ بَذْلٌ وَمَشَقَّةٌ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَإنْ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) {طه: 124) . ثلاثة تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الرِّزْقُ الضَّيِّقُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الكسب الحرام.
والثالث: أنه إنفاق من لَا يُوقِنُ بِالْخَلَفِ، وَالْمَكَاسِبُ تَكُونُ فِي الْعُرْفِ الْمَأْلُوفِ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالزِّرَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ، وَالصِّنَاعَاتِ، والحمايات، ولكل واحد منها رتب متفاضلة وكل واحد منها يفضل بعضها على غيره بحسب اختلاف البلدان والأزمان، وإن في بعض البلدان التجارات، وَفِي بَعْضِها الزِّرَاعَاتِ أَفْضَلُ، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ حُمَاةُ الْأَجْنَادِ أَفْضَلُ، وَفِي بَعْضِهَا أَقَلُّ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُفَضَّلَ بَعْضُهَا فِي عُمُومِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَالْأَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجُمْلَةِ مَا انْحَفَظَتْ به أربعة شروط، أن لا تكون مترذل الصناعة كَالْحَائِكِ، وَلَا مُسْتَخْبَثَ الْكَسْبِ كَالْحَجَّامِ، وَلَا سَاقِطَ المروءة كالحمال ولا مبتذلاً كالأجير فَمَنِ انْحَفَظَتْ عَلَيْهِ فِي مَكَاسِبِهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ لَمْ يُكَافِئْهُ فِي النِّكَاحِ مَنْ أَخَلَّ بها من حجام وكناس قيم وحائك فالعرق في اعتبار هذه الشروط الأربعة هو المحكم.

فصل: الشرط الخامس: المال
وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الْمَالُ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا ".
وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَحْسَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا هَذَا الْمَالُ ".
وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيد) {العاديات: 8) . يَعْنِي

(9/105)


الْمَالَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ يَتَفَاخَرُونَ وَيَتَكَاثَرُونَ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الأنساب فالمال فيهم معتبر في شرط الْكَفَاءَةِ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْبَوَادِي وَعَشَائِرُ الْقُرَى يَتَفَاخَرُونَ وَيَتَكَاثَرُونَ بِالْأَنْسَابِ دُونَ الْأَمْوَالِ فَفِي اعْتِبَارِ المال في شرط الْكَفَاءَةِ بَيْنَهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ كَأَهْلِ الْأَمْصَارِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ يَزُولُ فَيَفْتَقِرُ الْغَنِيُّ وَيَسْتَغْنِي الْفَقِيرُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " خير الناس مؤمن فقير يعطي جهده " يَعْنِي مُقِلًّا لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا يَزْهَدُ فِيهِ لِقِلَّتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ أُمَّتَيِ الَّذِينَ لَمْ يُوَسَّعْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَبْطَرُوا وَلَمْ يُقَتَّرْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسْأَلُوا "، ثُمَّ إِذَا جُعِلَ الْمَالُ شَرْطًا فِي الكفاءة ليس التماثل في قدره معتبراً حتى لا يتكافئ مَنْ مَلَكَ أَلْفَ دِينَارٍ إِلَّا مَنْ مَلَكَ مِثْلَهَا وَلَكِنْ أَنْ يَكُونَا مَوْصُوفَيْنِ بِالْغِنَى فَيَصِيرَا كفئين، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مَالًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَيْضًا التَّمَاثُلُ فِي أَجْنَاسِ الْمَالِ بَلْ إذا كان مال أحدهما دنانير، ومال الآخر عقاراً أو عروضاً كانا كفئين.

فصل: الشرط السادس: السن
وأما الشرط السادس: هو السن مما لَمْ يَخْتَلِفَا فِي طَرَفَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْكَفَاءَةِ فَيَكُونُ الْحَدَثُ كُفُؤًا لِلشَّابِّ وَالشَّابِّ كُفُؤًا لِلْكَاهِلِ، وَالْكَهْلُ كُفُؤًا لِلشَّيْخِ، وَلَكِنْ إِذَا اختلفا في طرفيه فكان أحدهما في أول سنه كالغلام والجارية، والأخرى فِي غَايَةِ سِنِّهِ كَالشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ فَفِي اعْتِبَارِهِ فِي الْكَفَاءَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فَلَا يَكُونُ الشَّيْخُ كُفُؤًا لِلطِّفْلَةِ وَلَا الْعَجُوزُ كفؤاً للطفل لما بينهما من التنافي التباين، وإن مَعَ غَايَاتِ السِّنَّ تَقِلُّ الرَّغْبَةُ وَيُعْدَمُ الْمَقْصُودُ بالزوجية.
والوجه الثاني: غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَطُولُ عُمُرُ الْكَبِيرِ وَيَقْصُرُ عُمُرُ الصَّغِيرِ، وَرُبَّمَا قَدَرَ الْكَبِيرُ مِنْ مَقْصُودِ النِّكَاحِ عَلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الصَّغِيرُ، ولأن مع نقص الكبير فضلاً لا يوجد في الصغير.

فصل: الشرط السابع: السلامة من العيوب
فأما الشرط السابع: هو السلامة من العيوب، فهي العيوب التي رد بها عقد النكاح وهي خمسة تشترك الرجال والنساء منها فِي ثَلَاثَةٍ: وَهِيَ الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ.
وَيَخْتَصُّ الرجال منها اثنتين هما: الجب والخصاء، وفي مقابلتهما من النساء القرن

(9/106)


والرتق وإنما اعتبرت هَذِهِ الْعُيُوبُ الْخَمْسَةُ فِي الْكَفَاءَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أوجبت وجودها فسخ النكاح الذي لا يوجبه نَقْصُ النِّسَبِ فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً فِي الكفاءة كالنسب.
فأما العيوب التي لا توجب وَتَنْفِرُ مِنْهَا النَّفْسُ كَالْعَمَى وَالْقَطْعِ، وَالزَّمَانَةِ وَتَشْوِيهِ الصُّورَةِ، فَفِي اعْتِبَارِهَا فِي الْكَفَاءَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يعتبر لعدم تأثيرها في عقود المناكح.
والثاني: يعتبر لِنُفُورِ النَّفْسِ مِنْهَا وَلِحُصُولِ الْمَعَرَّةِ بِهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: " أَتَزَوَّجْتَ يَا زَيْدُ "، قال: لا، قال " تزوج فتستعف مَعَ عِفَّتِكَ، وَلَا تَزَوَّجْ مِنَ النِّسَاءِ خَمْسًا "، قَالَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " لَا تَزَوَّجْ شَهْبَرَةً وَلَا لَهْبَرَةً وَلَا نَهْبَرَةً ولا هدرة وَلَا لَفُوتًا "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَا أَعْرِفُ مِمَّا قُلْتَ شَيْئًا. فَقَالَ: " أَمَّا الشَّهْبَرَةُ: فالزرقاء البذية، وَأَمَّا اللَّهْبَرَةُ: فَالطَّوِيلَةُ الْمَهْزُولَةُ، وَأَمَّا النَّهْبَرَةُ: فَالْعَجُوزُ المدبرة، وأما الهبدرة: فالقصيرة الدميمة، وأما اللفوت: فذات الولد من غيرك، لو لم يكن لهذه الأحوال ونظائرنا أثراً في الكفاءة لما أمر بالتحرز منها ".

فصل: الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ كفء
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ وَنَكَحَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كفءٍ لَمْ يَخْلُ نِكَاحُهَا من ثلاثة أقسام:
أحدهما: إن يكون قَدْ رَضِيَتْهُ الزَّوْجَةُ وَكَرِهَهُ الْأَوْلِيَاءُ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ اعْتِبَارًا بِحُقُوقِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَهُ الْأَوْلِيَاءُ وَكَرِهَتْهُ الزَّوْجَةُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ اعْتِبَارًا لِحَقِّهَا فِيهِ حَتَّى لَا يَعِرَّهَا مَنْ لَا يُكَافِئُهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَتْهُ الزَّوْجَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ فالنكاح جائز.
وقال مالك، وعبد الله بْنُ الْمَاجِشُونَ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يُفْسَخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُفَرَّقُ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ ". فَلَمَّا مَنَعَ مِنْ إنكاح غير الكفء كما منع من نكاح غَيْرِ الْوَلِيِّ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِغَيْرِ الْكُفْءِ كَمَا بَطَلَ بِغَيْرِ الْوَلِيِّ؛ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه أنه قال: " لا يملك الإيضاح إلى الْأَكْفَاءُ ".
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء آية: 3) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد زوج بناته ولا كفء لهن مِنْ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُنَّ أَصْلُ الشَّرَفِ، وقد زوج فاطمة بعلي، وزوج أم كثلوم وَرُقَيَّةَ بِعُثْمَانَ، وَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَدْ رُوِيَ

(9/107)


أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْمَخْزُومِيَّةِ وَهِيَ بِنْتُ عَمَّتِهِ وَقَدْ خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ انْكَحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ صَلِيبَةِ قُرَيْشٍ بنت عمته بأسامة بن زيد وهو مولاه وزوج أبا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَهِيَ بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب.
ثم نزل عليها بَعْدَهُ، وَزَوَّجَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ بِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا زَوَّجْتُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جحش، والمقداد بن الأسود ضباعة بِنْتَ الزُّبَيْرِ لِتَعْلَمُوا أَنَّ أَشْرَفَ الشَّرَفِ الْإِسْلَامُ "، وقد زوج أبو بكر الصديق بنت الأشعث بْنِ قَيْسٍ فَصَارَ سِلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ فَكَرِهَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ذَلِكَ، وَلَقِيَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَشَكَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: سَأَكْفِيكَ، وَلَقِيَ سَلْمَانَ، فَقَالَ: هَنِيئًا لَكَ: إِنْ أمير المؤمنين قد عزم أن يزوجك كريمته ليتواضع بك فقال: إني متواضع والله لأتزوجها؛ وَلِأَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَلَمَّا صَحَّ النِّكَاحُ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ لَا تُكَافِئُهُ صَحَّ النِّكَاحُ إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ بِرَجُلٍ لَا يُكَافِئُهَا.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ فَمَحْمُولَانِ على أحد الوجهين: أَمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى نِكَاحِ الْأَبِ لِلْبِكْرِ الَّتِي يُجْبِرُهَا وَاللَّهُ أعلم بالصواب.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ نَقْصُ الْمَهْرِ نَقْصًا فِي النَّسَبِ وَالْمَهْرُ لَهَا دُونَهُمْ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْكِحَ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهَا فِيهِ، وَلَا أَنْ يَمْنَعُوهَا مِنَ النِّكَاحِ لِنَقْصِهِ، فَإِنْ مَنَعُوهَا صار المانع لها فاصلاً وَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا في نقص المهر ولا يصيروا عَضْلَةً بِمَنْعِهَا مِنْهُ، وَإِنْ نَكَحَتْ فَلَهُمْ فَسْخُ نِكَاحِهَا إِلَّا أَنْ يُكْمِلَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا استدلالاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أدوا العلائق قيل: يا رسول، وما العلائق: قال ما ترضى بِهِ الْأَهْلُونَ " فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: " أَدَّوُا الْعَلَائِقَ " خطاباً للأزواج كان قوله: " ما ترضى به الأهلون " إشارة على الْأَوْلِيَاءِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَشْتَمِلُ عَلَى بَدَلَيْنِ، هُمَا: الْبُضْعُ، وَالْمَهْرُ، فَلَمَّا كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ فِي بُضْعِهَا أَنْ تَضَعَهُ فِي غَيْرِ كفءٍ كَانَ لَهُمُ الِاعْتِرَاضُ فِي مَهْرِهَا أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَيَتَحَرَّرَ مِنْهُ قِيَاسَانِ:

(9/108)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ فَجَازَ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ فِيهِ كَالْبُضْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ فِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ اعْتَرَضُوا به في نكاح الكبيرة كالكفاءة، وَلِأَنَّ فِي بَعْضِ الْمَهْرِ عَارًا عَلَى الْأَهْلِ بجهرهم بِكَثِيرِهِ وَإِخْفَائِهِمْ لِقَلِيلِهِ فَصَارَ دُخُولُ الْعَارِ عَلَيْهِمْ فِي نُقْصَانِهِ كَدُخُولِهِ عَلَيْهِمْ فِي نكاحٍ غَيْرِ كفوءٍ، فكان لهم رفع هَذَا الْعَارِ عَنْهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ فِي نقصان مهرها ضرراً لاحقاً بنساء أهلها غير اعتبار مهر أَمْثَالِهِنَّ بِهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ ".
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً تزوجت على نعلين فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أرضيت من نفسك وما لك بهاتين النعلين " قالت نعم " فأجاز " وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اعْتَبَرَ رضاها به دون الأولياء.
والثاني: أنه لَمْ يَسْأَلْ هَلْ ذَلِكَ مَهْرُ مِثْلِهَا؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نُقْصَانَ الْمَهْرِ وَرِضَا الْأَوْلِيَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرَيْنِ وَلِأَنَّ مَا مَلَكَتِ الْإِبْرَاءَ مِنْهُ مَلَكَتِ تَقْدِيرَهُ كَالْأَثْمَانِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ لَهَا فِي الأثمان ثبت لها في المهور كالإبراء؛ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي بُضْعٍ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي بَدَلٍ.
أَصْلُهُ: مهر أمثالها؛ وَلِأَنَّ لَهَا مَنْفَعَتَيْنِ: مَنْفَعَةَ اسْتِخْدَامٍ؛ وَمَنْفَعَةَ اسْتِمْتَاعٍ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْأَوْلِيَاءُ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ إِذَا أَجَّرَّتْ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهَا لَمْ يَمْلِكُوا الِاعْتِرَاضَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ الْمَنْفَعَتَيْنِ فَلَمْ يَمْلِكْ أَوْلِيَاؤُهَا مَعَ جَوَازِ أَمْرِهَا الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي بَدَلِهِ كَالْإِجَارَةِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً عَنِ اخْتِيَارٍ وَمُرَاضَاةٍ وَذَلِكَ فِي الْعُقُودِ، وَتَارَةً عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَمُرَاضَاةٍ وَذَلِكَ فِي إِصَابَةِ الشبهة وما شاكله فلما ملكت فحقيقة إِذَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا فَأَوْلَى أَنْ تَمْلِكَ بحقيقة إِذَا وَجَبَ بِاخْتِيَارِهَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الِاخْتِيَارِ أَخَفُّ وَمَعَ عَدَمِهِ أَغْلَظُ، وَلِأَنَّ يَلْحَقُ الْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْعَارِ إِذَا نَكَحَتْ بِأَخَسِّ الْأَمْوَالِ جِنْسًا كَالنَّوَى وقشور الرمان أكثر ما يَلْحَقُهُمْ إِذَا نَكَحَتْ بِأَقَلِّ الْمُهُورِ قَدْرًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِي خِسَّةِ الْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِي نُقْصَانِ الْقَدْرِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَدَّوُا الْعَلَائِقَ " فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ الْأَزْوَاجَ بِأَدَاءِ الْعَلَائِقِ وَقَوْلُهُ: " إِنَّ

(9/109)


العلائق ما تراضى به الأهلون " يعني أهلي الْعَلَائِقِ، وَأَهْلُوهَا هُمُ الزَّوْجَاتُ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ فَكَانَ الْخَبَرُ دَلِيلًا عَلَى أبي حنيفة لَا لَهُ.
وأما قياسه على البشع فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا مَلَكُوا الِاعْتِرَاضَ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصِ النِّسَبِ وَدُخُولِ الْعَارِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَلَيْسَ فِي تَخْفِيفِ الْمَهْرِ عَارٌ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي إِسْقَاطِهِ عَارٌ وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ، وَفِي جَوَابٍ عَنِ استدلال، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ فلو كان لهذا المعنى بمستحق الاعتراض فيه لا تستحقه النساء اللائي يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الضَّرَرُ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَاشْتَرَكَ فِيهِ القريب والبعيد ولا اعتراض عليهن في الجنس كالاعتراض في القدر، وكانت مَمْنُوعَةً مِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ كَمَا مُنِعَتْ مِنَ النُّقْصَانِ مِنْهُ فَلَمَّا فَسَدَ الِاعْتِرَاضُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي كان بالنقصان أفسد.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا وِلَايَةَ لأحدٍ مِنْهُمْ وَثَمَّ أَوْلَى مِنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
قَدْ ذَكَرْنَا بِأَنَّ أَقْرَبَ الْعَصَبَاتِ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْأَبْعَدِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّرْتِيبِ.
وَقَالَ مَالِكٌ إِذَا كَانَ الْأَبْعَدُ سَيِّدَ الْعَشِيرَةِ كَانَ أَحَقَّ مِنَ الْأَقْرَبِ كَالَّتِي لَهَا عَمٌّ هُوَ سَيِّدُ عَشِيرَتِهِ وَلَهَا إِخْوَةٌ فَالْعَمُّ أَحَقُّ بِنِكَاحِهَا مِنَ الْإِخْوَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا، أو السلطان " فحمل ذي الرَّأْيِ مُقَدَّما.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِفَضْلِ رِئَاسَتِهِ أَقْدَرُ عَلَى تَخَيُّرِ الْأَكْفَاءِ وَلِلرَّغْبَةِ فِيهِ تَعْدِلُ إِلَيْهِ الزُّعَمَاءُ وَهَذَا خَطَأٌ، وَاسْتِحْقَاقُ الْوِلَايَةِ بِالْقُرْبِ أَوْلَى مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا بِالرِّئَاسَةِ مَعَ الْبُعْدِ لِأُمُورٍ.
مِنْهَا: أن الرئاسة الْأَبْعَدَ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْوِلَايَةَ مَعَ الأب فكذلك مع كل عصبة هو الأقرب، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمُ بِالرِّئَاسَةِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِالرِّئَاسَةِ فِي الْوِلَايَةِ على النكاح، ولأن ما استحق بالتسليم يؤثر فيه الرياضة كالميراث.
فأما الأثر عن عمر رضي الله تعالى عَنْهُ فَهُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْوَلِيَّ عَلَى ذِي الرَّأْيِ مِنَ الْأَهْلِ، وَأَمَّا قُدْرَتُهُ عَلَى تخير الأكفاء وما يتوجه إليه من تخير الأكفاء فَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَزُولُ إِذَا بَاشَرَ عَقْدَهَا من هو أقرب منه.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِهَا مَفْقُودًا أَوْ غَائِبًا بعيدهً كانت غيبته أم قَرِيبَةً زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ بَعْدَ أَنْ يَرْضَى الْخَاطِبُ وَيَحْضُرَ أَقْرَبُ وُلَاتِهَا وَأَهْلُ الْحَزْمِ مِنْ أَهْلِهَا ويقول هَلْ تَنْقِمُونَ شَيْئًا؟ فَإِنْ ذَكَرُوهُ نُظِرَ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.

(9/110)


إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوِلَايَةَ يَسْتَحِقُّهَا الْأَقْرَبُ دُونَ الأبعد فكان الأقرب مفقوداً أو غائباً لم ينتقل الولاية عنه إلى ما هُوَ أَبْعَدُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ مَفْقُودًا انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ هُوَ أبعد وإن كان غائباً معروف المكان وإن كانت غيبته منقطعة انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ لَمْ تَنْتَقِلْ.
قَالَ محمد بن الحسن: وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ مِنَ " الْكُوفَةِ " إِلَى " الرِّقَّةِ " وَغَيْرُ الْمُنْقَطِعَةِ مِنَ " الْكُوفَةِ " إِلَى " بَغْدَادَ ".
وَاسْتَدَلَّ عَلَى انتقالها بالغيبة إلى الأبعد بأنه قد يتعذر منه تزويجها بالغيبة كما لا يتعذر منه بالجنون، والرق، فلما انتقلت بِجُنُونِهِ وَرِقِّهِ انْتَقَلَتْ عَنْهُ بِغَيْبَتِهِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لأنها ولاية لا تنتقل بغيبة منقطعة كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ وَلِأَنَّهَا غيبة لا ينقطع بها ولاء المال فوجب أن لا تنتقل بِهَا وِلَايَةُ النِّكَاحِ كَالْغَيْبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُنْقَطِعَةً، وَلِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تُزِيلُ وِلَايَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا فِي غَيْبَتِهِ صَحَّ، وَلَوْ وَكَّلَ فِي تزويجها جاز وإذا لم يزل عَنْهُ لَمْ تُنْتقَلْ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ كَالْحَاضِرِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَعَذُّرِ النِّكَاحِ مِنْهُ فَلَيْسَ تَعَذُّرُهُ مَعَ بَقَاءِ الْوِلَايَةِ يُوجِبُ انْتِقَالَهَا عنه كالعضل.

فَصْلٌ
فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهُ بِالْفَقْدِ وَالْغَيْبَةِ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَفْقُودًا أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ مَفْقُودًا لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ النَّائِبُ عَنِ الْغَيْبِ فِي حُقُوقِهِمْ كَمَا زَوَّجَهَا عَنْهُ إِذَا عَضَلَ.
وإن كان غائباً لم تخل المسافة غَيْبَتِهِ أَنْ تَكُونَ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ فِيهِ، لِأَنَّ اسْتِئْذَانَهُ مَعَ بُعْدِ الْغَيْبَةِ شَاقٌّ؛ وَلِأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ فِي بعد المسافة ففوت عَلَى الزَّوْجَةِ حَقَّهَا مِنَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ غيبته قريبة وهو أن يكون أقل من مسافة يوم وليلة وقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْحَاكِمِ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قَالَ: بَعِيدَةً كَانَتْ غَيْبَتُهُ أَوْ قَرِيبَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ إِذْ لَيْسَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِأَحْكَامِ السَّفَرِ، وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ " بعيدة كانت غيبته أم قريبة " على قرب الزمان كقرب الْمَكَانِ كَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَافَرَ مِنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ أَوْ مِنْ زَمَانٍ بَعِيدٍ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ أَوْ مَكَانٍ بَعِيدٍ.
فصل
إذا أراد الحاكم تزويجها بفقد الْوَلِيِّ وَغَيْبَتِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ لَهُ إِحْضَارَ أَهْلِهَا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ كَالْعَصَبَاتِ أَوْ لَا وِلَايَةَ لَهُ كَالْأَخْوَالِ لِيُشَاوِرَهُمْ في تزويجها

(9/111)


وليسألهم عَنْ كَفَاءَةِ زَوْجِهَا اسْتِطَابَةً لِنُفُوسِهِمْ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نعيماً أن يشاور ابنته إن لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْوِلَايَةِ حَقٌّ، وَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِحَالِهَا وَحَالِ الزَّوْجِ لِمَكَانِ اخْتِصَاصِهِمْ وَكَثْرَةِ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْحَاكِمِ فَإِذَا أَحْضَرَهُمُ الْحَاكِمُ لِلْمُشَاوَرَةِ فِي نِكَاحِهَا كَانَ مَعَهُمْ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَقُولَ لَهُمُ اخْتَارُوا زَوْجًا، فَإِذَا اخْتَارُوا نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي كَفَاءَتِهِ فَإِنْ كَانَ كفء زوجها عَنْ إِذْنِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ لَمْ يُزَوِّجْهَا بِهِ وَإِنْ أَذِنَتْ فِيهِ وَرَضِيَهُ أَهْلُهَا؛ لأن للغائب حقاً في طلب الأكفاء لها، وبين أن يختار الحاكم لها كفء ثُمَّ يَسْأَلُ الْأَوْلِيَاءَ عَنْهُ بَعْدَ إِذْنِ الزَّوْجَةِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدَحُوا فِي كَفَاءَتِهِ زَوَّجَهَا بِهِ سَوَاءً أَرَادُوهُ أَوْ لَمْ يُرِيدُوهُ، فَإِنْ قَدَحُوا فِيهِ نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْقَدْحِ فَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنَ الْكَفَاءَةِ لَمْ يزوجها به والتمس لها غيره، وإن كان غير مَانِعٍ مِنَ الْكَفَاءَةِ زَوَّجَهَا بِهِ وَإِنْ كَرِهُوهُ؛ لأن المعتبر رضى الْمَنْكُوحَةِ دُونَهُمْ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُمُ اخْتِيَارُ الْأَكْفَاءِ وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ إِذَا تَعَذَّرَ تَزْوِيجُهَا بِمَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارُ أَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَى الْحَاضِرِ دمن أَوْلِيَائِهَا لِيُكُونَ عَقْدُهُ مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَفَرَّدَ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَتِهِمْ جاز والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ عَضَلَهَا الْوَلِيُّ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ وَالْعَضْلُ أَنْ تَدْعُوَ إِلَى مِثْلِهَا فَيَمْتَنِعَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا دَعَتِ الْمَرْأَةُ وَلِيَّهَا إِلَى تَزْوِيجِهَا فَعَلَيْهِ إِجَابَتُهَا وَهُوَ حَرِجٌ إِنِ امْتَنَعَ قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضِلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) {البقرة: 232) فَإِنْ عَضَلَهَا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَرَجَتِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ غَيْرُهُ أَمْ لا فإن كان في درجة غيره كأنه وَاحِدٌ مِنْ إِخْوَتِهَا، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي عَمِّهَا عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ من أخوتها، أو بني عمتها، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ مَعَهُمْ مَدْخَلٌ إِذَا زَوَّجَهَا غَيْرُ العاضل من تساوا به فِي النَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِ من الأولياء أحد وكانوا أبعد منه تساو عدلت عن الفاضل إِلَى الْحَاكِمِ وَلَمْ تَعْدِلْ إِلَى الْبَعِيدِ فِي النَّسَبِ؛ لِأَنَّ عَضْلَهُ لَا يُزِيلُ وِلَايَتَهُ، وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُحْضِرَهُ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ سَبَبِ عَضْلِهِ؛ فإن كان الزَّوْجُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ غَيْرَ كُفْءٍ لَمْ يَكُنْ عَاضِلًا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ.
وَقَالَ لَهَا: إِنْ أَرَدْتِ زَوْجًا فَالْتَمِسِي غَيْرَهُ مِنَ الْأَكْفَاءِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الذي دعت إليه المرأة كفء وكان امتناع الولي لِكَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ لَا لِعَدَمِ كَفَاءتِهِ صَارَ الْوَلِيُّ حِينَئِذٍ عَاضِلًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْعَضْلُ أَنْ تَدْعُوَ إِلَى مِثْلِهَا فَيَمْتَنِعُ " فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا ولا يتولاه الحاكم ما لم يتم الْوَلِيُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَإِذَا أَجَابَ وَزَوَّجَ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ زَالَتْ يَدُ الْحَاكِمِ عَنِ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ حينئذٍ عَنْهُ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا أَوْ قَالَ: اخْتَلَفُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ "؛ وَلِأَنَّ تَزْوِيجَهَا حَقٌّ عَلَى وَلِيِّهَا وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَامْتَنَعَ مِنْهُ أَخَذَهُ الْحَاكِمُ بِهِ جَبْرًا فَقَامَ مَقَامَهُ في إدائه كقضاء الديون من ماله.

(9/112)


مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَوَكِيلُ الْوَلِيِّ يَقُومُ مَقَامَهُ فَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرَ كفؤٍ لَمْ يَجُزْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْوَكَالَةُ فِي التَّزْوِيجِ جَائِزَةٌ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لا يجوز اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أن يرضى بِالْوِلَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ نَائِبٌ فَلَمْ يَكُنْ أَنْ يُوَكِّلَ من ينوب عنه كالوكيل الذي يَجُوزُ أَنْ يُوكِّلَ غَيْرَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " وَإِذْنُ الْوَلِيِّ إِنَّمَا صَحَّ فِي الْوَكَالَةِ لَا لِلْمَنْكُوحَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَّلَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فأصدقها النجاشي عنه أَرْبَعَمِائَةَ دِينَارٍ: فَجَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكَ بْنُ مَرْوَانَ ذَلِكَ حَدَّ الصَّدَاقِ لِلشَّرِيفَاتِ مِنْ قَوْمِهُ، وَوَكَّلَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ بِمَكَّةَ سَنَةَ سَبْعٍ فَرَدَّتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَزَوَّجَهَا بِهِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ زَوْجَ أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ، فَإِنْ قِيلَ: فهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَعْقِدَ عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا رَدَّتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ وَلِيًّا لَهَا فَعَنْ هَذَا أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ في عقود المناكح واشتراط الولي.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَزْوِيجُهُ لَهَا بِأَنْ كَانَ سَفِيرًا فِي الْعَقْدِ وَمُشِيرًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلَيُّهَا رَدَّ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَزَوَّجَهَا.
وَالرَّابِعُ: قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصٌ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يُقْصَدُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ فَصَحَّتْ فِيهِ الْوَكَالَةُ كَالْبُيُوعِ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ به فإنها لم تصح لانقطاع ولايته بموته فصار موجباً فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ فِي الْوَكَالَةِ مُوَكِّلٌ مَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ فَصَحَّتْ وَكَالَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ وَصِيتُهُ، وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنَابٌ بِعَقْدٍ، وَالْوَلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يوكل؛ لأنه مالك بالشرع فافترقا.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ الْوَلِيَّ وَالزَّوْجَ، وَلَمْ يَجُزْ أن يوكل الزَّوْجَةَ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا التَّوْكِيلُ فِيهِ، وَإِذَا كان كذلك فحكم الوكالة فيه يتعلق بِفَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي تَوْكِيلِ الْوَلِيِّ.
وَالثَّانِي: فِي تَوْكِيلِ الزَّوْجِ.
فَأَمَّا تَوْكِيلُ الْوَلِيِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ إِلَّا مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بالغاً حراً مسلماً رشيداً فإذا اجتمعت هَذِهِ الْأَوْصَافُ السِّتَّةُ صَحَّ تَوْكِيلُهُ كَمَا تَصِحُّ

(9/113)


تَصِحُّ وِلَايَتُهُ، وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَوَكَّلَ امْرَأَةً، أَوْ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً، فَإِنْ عَقَدَ بِهَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِي الْوَكِيلِ هَذِهِ الشروط الست لم يحل حَالُ الْوَلِيِّ الْمُوَكِّلِ لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الثَّيِّبِ، أَوْ كَغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ والجد مع البكر فإن لَهُ أَنْ يُوكِّلَ بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا كَمَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا لَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ لِوَكِيلِهِ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى اخْتِيَارِهِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى اخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَهُ بِالتَّوْكِيلِ مَقَامَ نَفْسِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّعْيِينُ كَالتَّوْكِيلِ فِي الْأَمْوَالِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يختار لها كفء، والأولى به إذا أراد تزويجها بمن قد اخْتَارَهُ لَهَا أَنْ يَسْتَأْذِنَهَا فِيهِ وَإِذْنُهَا مَعَهُ الصَّمْتُ كَإِذْنِهَا مَعَ الْأَبِ فَإِنْ زَوَّجَهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ صَحَّ النِّكَاحُ كَالْأَبِ إِذَا زَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَيَّنَ لِوَكِيلِهِ عَلَى الزَّوْجِ سَقَطَ اخْتِيَارُ الْوَكِيلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ مَنْ عُيِّنَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ إذا عين عَلَى مَا يَشْتَرِيهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَيِّنَ لِوَكِيلِهِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ على الزوج الذي زوجها به ولا يرد ذلك إلى خياره؛ لأن معنى الولي في لحوق عارها معقود فِي وَكِيلِهِ فَلَمْ يَقُمِ اخْتِيَارُ الْوَكِيلِ مَقَامَ اخْتِيَارِهِ، وَفَارَقَ التَّوْكِيلَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا يُرَاعَى فِي اخْتِيَارِهَا لُحَوْقُ الْعَارِ.
فَعَلَى هَذَا متى زوجها الوكيل بكفء وغير كفء كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِفَسَادِ الْوَكَالَةِ، فَلَوْ عُيِّنَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَحَدِ رَجُلَيْنِ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ قَدِ اخْتَارَهُمَا وَرَدَّ الْعَقْدَ عَلَى أحدهما إلى خيار وكيله جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَلِيِّ اخْتِيَارٌ بَلْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِ وَكِيلِهِ وَخِيَارِهِ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَلِيِّ خِيَارٌ.

فصل
وإذا كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ فهل يلزم اسْتِئْذَانُهَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ إلا بإذنها؛ لأنه نائب عنها وأشبه الْوَكِيلَ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ أَنَّ يُوَكِّلَ فيما هو وكل فِيهِ إِلَّا عَنْ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا الْوَلِيُّ فِي تَوْكِيلِهِ فَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ بِإِذْنِهَا أَوْ غَيْرِ إِذْنِهَا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِفَسَادِ الْوَكَالَةِ، وَلَوِ اسْتَأْذَنَهَا الْوَلِيُّ فِيهِ بَعْدَ عَقْدِ الْوَكَالَةِ لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ حَتَّى يستأذنها الْوَلِيُّ بَعْدَ إِذْنِهَا فِي تَوْكِيلِهِ، فَإِذَا وَكَّلَهُ بعد إذنها وكان وَكِيلًا لَهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ رَجَعَتْ فِي تَوْكِيلِهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزُوج.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا الْوَلِيُّ فِي عَقْدِهَا؛ لِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الَّذِي ثبت به بِالشَّرْعِ لَا بِالِاسْتِنَابَةِ فَأَشْبَهَ الْأَبَ وَخَالَفَ الْوَكِيلَ الْمُسْتَنَابَ، فَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ الْمَرْأَةَ فِي عَقْدِهَا وَيَكُونُ هُوَ وَكِيلًا

(9/114)


لِلْوَلِيِّ وَحْدَهُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَنْعُهَا، لَكِنْ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا كَمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِوَلِيِّهَا الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا سَوَاءً زَوَّجَهَا بِكُفْءٍ أَوْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَلَوْ زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ بِإِذْنِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا سواء أجازه الولي أو لم يجيزه.

فصل
وأما توكيل الزوج وإن كَانَ فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا جَازَ أَنْ يوكل كل من صح منه قبول النكاح في نفسه وَهُوَ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ.
أَنْ يكون ذكراً بالغاً عاقلاً، وسواء كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا لأن العبد السفيه يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَا عَقْدَ النِّكَاحِ لِأَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ أَنْ يَقْبَلَاهُ لِغَيْرِهِمَا، فَأَمَّا تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ منهم قبوله لأنفسهم لم يصح منهم قبولهم لِغَيْرِهِمْ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَوْكِيلُ الزَّوْجِ فِي تزويج امرأة غير معينة ليختار الْوَكِيلُ فَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي الْوَكِيلِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا غَيْرَ مُوْلًى عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه:
أحدها: يلزم أن يكون رشيداً يقبل نكاح نفسه، فإن كان سفيهاً لم يجز لقصوره على التَّصَرُّفِ فِي نِكَاحِ نَفْسِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا، لِأَنَّهُ يَقْبَلُهُ عَنْ إذن ويصح منه أن يقبل نكاح نفسه عَنْ إِذْنِ وَلِيِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ عَيَّنَ لوكيله على القبيلة وإن لم يعين عَلَى الْمَنْكُوحَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكَيْلُهُ فِيهِ سفيهاً وإن لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى الْقَبِيلَةِ وَلَا عَلَى الْمَنْكُوحَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِيهِ إِلَّا رَشِيدًا، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الأوجه في إذن وليه أَنْ يَعْقِدَ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَاللَّهُ أعلم بالصواب.

مسألة
قال الشافعي: " وَوَلِيُّ الْكَافِرَةِ كافرٌ وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لكافرةٍ لقطع الله الولاية بينهما بالدين إلا على أمته وإنما صار ذلك له لأن النكاح له تزوج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أم حبيبة وولى عقدة نكاحها ابن سعيد بن العاص وهو مسلمٌ وأبو سفيان حي وكان وكيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمرو ابن أمية الضمري (قال المزني) ليس هذا حجةً في إنكاح الأمة ويشبه أن يكون أراد أن لا معنى لكافرٍ في مسليمةٍ فكان ابن سعيدٍ ووكيله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسلمين ولم يكن لأبيها معنىً في ولاية مسلمةٍ إذا كان كافراً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اتِّفَاقَ الدِّينِ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ وَلِيًّا لِمُسْلِمَةٍ وَلَا الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِكَافِرَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعِلِ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) {النساء: 141) وقوله أيضاً: {لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) {المائدة: 51) فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنْ له وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) {التوبة: 71) فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا وِلَايَةَ لِمُسْلِمٍ عَلَى كَافِرَةٍ وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أبي سفيان

(9/115)


وَكَانَ أَبُوهَا وَإِخْوَتُهَا كُفَّارًا وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مُهَاجِرَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ تَزَوَّجَهَا مِنْ أَقْرَبِ عَصَبَاتِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَدَلَّ عَلَى انْتِقَالِ الْوِلَايَةِ بِالْكُفْرِ عَمَّنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَنْ سَاوَاهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كان أبعد فلأن اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ فلم يثبت الولاية معه كما لم تثبت الميراث، وإنما الْوِلَايَةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا وَدَفْعِ الْعَارِ عَنْهَا وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَصُدُّ عَنْ هَذَا أو يمنع مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَلاَ ذِمَّةً) {التوبة: 10) .

فصل
فإذا تقرر هذا فلا يثبت للكافر ولاية على مسلمة لا نسب ولا حكم ولا ملك، وَلَا يُزَوِّجُهَا مِنْ عَصَبَاتِهَا إِلَّا مُسْلِمٌ قَدْ جمع شرطين: النسب، والدين، فأما الْكَافِرَةُ فَالْوِلَايَةُ عَلَيْهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ وِلَايَةٌ بنسب، وَوِلَايَةٌ بِحُكْمٍ، وَوِلَايَةٌ بِمِلْكٍ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْوِلَايَةُ بِالنَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا إِلَّا لِمَنْ إِذَا شَارَكَهَا فِي النِّسَبِ سَاوَاهَا فِي الدِّينِ، وَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا فِي دِينِهِ كَمَا يُرَاعَى رُشْدُ الْوَلِيِّ الْمُسْلِمِ فَلَوْ كَانَتِ الكافرة نصرانية وكان لها أخ نصراني، وأخ مسلم، وأخ يهودي وأخ مجوسي ولا ولاية عليها للمسلم ويكون النصراني واليهودي والمجوسي في الولاية عليها سواء كما يشاركون في ميراثها، ولا يختص بها النَّصْرَانِيُّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ كَانَ فِي إِخْوَتِهَا مُرْتَدٌّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُوْلًى عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا، فَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُرْتَدَّةً، وَكَانَ لَهَا أَخٌ مُسْلِمٌ، وَأَخٌ مُرْتَدٌّ وَأَخٌ نَصْرَانِيٌّ فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا لَا يَرِثُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أن يتزوج بِمُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا مُرْتَدٍّ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ مانعة من استباحة نكاحها.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْوِلَايَةُ بِالْحُكْمِ فَيَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالْمُوَالَاةِ بالنسب فيمتنع اخْتِلَافُ الدِّينِ مِنْهَا؛ وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ بِالْوِلَايَةِ الَّتِي تَثْبُتُ عَلَى الْكَافِرِ كَثُبُوتِهَا عَلَى الْمُسْلِمِ، فَإِذَا عدمت الكافرة منها شيئاً من عصبتها الكفار زوجها حاكم المسلمين بكف مِنَ الْكُفَّارِ، أَوِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ دَعَتْ إِلَى زوج مسلم وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تقاضى إِلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بينهما، وإن دعت إلى زوج كافر فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ كَانَ حَاكِمُ المسلمين بالخيار بين أن يزوجها بِهِ أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا كَمَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا إِذَا تَقَاضَيَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ تزويجها أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ فإن زوجها لم يعقد نكاحها إلا شاهدين مسلمين ولا يجوز أن يعقده به أهل دِينِهَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْوِلَايَةُ بِالْمِلْكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِهَا لِلسَّيِّدِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَمَتِهِ الْكَافِرَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يجوز للسيد

(9/116)


الْمُسْلِمِ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ الْكَافِرَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشافعي؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِكَافِرَةٍ إلا على أمته " ووجه شيئان:
أحدهما: أنه ولاية لَمْ تُسْتَحَقَّ بِمُوَالَاةِ النِّسَبِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ كَالْوِلَايَةِ بِالْحُكْمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ يتوصل إِلَى الْكَسْبِ فَلَمْ يُؤَثِّرِ اخْتِلَافُ الدِّينِ كَمَا لم يؤثر الفسق.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ وَطَائِفَةٍ، إنَّ إِسْلَامَ السَّيِّدِ يَمْنَعُهُ مِنْ تَزْوِيجِ أَمَتِهِ الْكَافِرَةِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَزْوِيجِ ابنته وَحَمَلَ غَيْرُ الْمُزَنِيِّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " إِلَّا عَلَى أَمَتِهِ " عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا حِكَايَةٌ عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَمَتِهِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِهَا دُونَ بُضْعِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فِي تَزْوِيجِهِ لَهَا تَغْلِيبًا لِوِلَايَةِ النِّكَاحِ دُونَ الْكَسْبِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُزَوِّجُ أَمَتَهَا وَإِنْ مَلَكَتْ عَقْدَ اكْتِسَابِهَا فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ: فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا نَقَلَهُ من استدلاله له بحديث أم حبيبة وتوهم أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهِ فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ لِأَمَتِهِ الْكَافِرَةِ وَهَذَا خَطَأٌ فِي التَّوَهُّمِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُزَوِّجُ بِنْتَهُ الْمُسَلِّمَةَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ التوفيق.

مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا غَيْرَ عالم بموضع الحظ أو سفيماً مُؤْلِمًا أَوْ بِهِ علةٌ تُخْرِجُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ فهو كمن مات فإذا صلح صار ولياً ".
قال الماوردي: وهذا صحيح وذكر الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَسْبَابَ الْمَانِعَةَ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَقَالَ: " فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ سَفِيهًا " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَجْنُونُ، لِأَنَّهُ سَفِيهُ الْعَقْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُفْسِدُ لِمَالِهِ وَدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ سَفِيهُ الرَّأْيِ.
فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَزَالَ الْجُنُونُ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُزِيلَ وِلَايَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ، فَأَمَّا زَمَانُ إِفَاقَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فيه بليداً مغموراً فلا يَصِحُّ فِكْرُهُ وَلَا يَسْلَمُ تَمْيِيزُهُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ كَمَا لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيهِ سَلِيمَ الْفِكْرِ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ جُنُونِهِ فَلَهُ الْوِلَايَةُ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَقَلَّ مِنْ زَمَانِ جُنُونِهِ فَفِي عَوْدِ الْوِلَايَةِ إِلَيْهِ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يعود إِلَيْهِ لِعَدَمِ مَا يَمْنَعُ مِنْهَا.

(9/117)


والوجه الثاني: لا يعود إليه اعتباراً بحكم الأغلب من زمانيه.
فأما السفيه فله حالتان:
أحدهما: أن يكون محجورً عليه بالسفه فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْحَظِّ لِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَظَّ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْرِفَ حَظَّ غَيْرِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ حُجِرَ عليه لتبذيره لماله مع معرفته لحظ نَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَتْ وِلَايَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ تَزُولَ وِلَايَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سريج هو عَلَى وِلَايَتِهِ وَلَهُ تَزْوِيجُ وَلِيَّتِهِ لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِه الْحَجْرِ لِحِفْظِ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِسْقَاطِهَا، فَإِنْ كَانَ السَّفِيهُ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَجْرِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَجْرِ بَاقِيَ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ بَاقِيَ الولاية على غيره.

فَصْلٌ
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَوْ ضَعِيفًا " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الصَّغِيرُ الضعيف البدن.
والثاني: الضعيف الرأي إِمَّا لعتهٍ وبلهٍ وَإِمَّا لِكِبَرٍ وَهَرَمٍ، فَأَمَّا الصَّغِيرُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ؛ لأَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَالِيًّا؛ وأَمَّا الْمَعْتُوهُ وَالْأَبْلَهُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تمييزه فلم يعرف حَظَّ نَفْسِهِ وَحَظَّ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْهَرِمُ الذي قد صار بهرمه خرقاً لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْحَظِّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ لفقده تمييزه.
فَصْلٌ
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أو سقيماً " وفيه روايتان:
أحدهما: مؤطاً يَعْنِي ذَا الْمَرَضِ الْمُؤْلِمِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: مُوَلِّيًا يعني ذا المرض المولي عليه لِفَقْدِ تَمْيِيزِهِ كَالْبِرْسَامِ وَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ مُؤْلِمًا نُظِرَ فِي أَلَمِهِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَلَمُهُ عَظِيمًا قَدْ قَطَعَهُ عَنِ الْفِكْرِ وَصَرَفَهُ عَنِ الْحَظِّ وَالصَّلَاحِ فَلَا وِلَايَةَ له لفقد المقصود بها منه، ون كان مرضه مولياً عليه كإفاء الْمُبَرْسَمِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْهُ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ، وَفِي بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ:

(9/118)


أحدهما: قد بطلت لزوال عقله بالجنون، فَعَلَى هَذَا تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ إعفاء المريض استراحة بالنوم، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرَضِ الْمُؤْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِاسْتِرَاحَةٍ فِي إِبْطَالِ الْوِلَايَةِ، فَعَلَى هَذَا يَنُوبُ عَنْهُ الْحَاكِمُ فِي التَّزْوِيجِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ " أَوْ بِهِ عِلَّةٌ تُخَرِجُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ " وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْأَمْرَاضَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْوِلَايَةِ فَمِنْهَا مَا آلَمَ كَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهَا مَا أَثَرُهُ فِي التَّمْيِيزِ كَالْأَعْمَى، وَفِي إِضَافَةِ الْعَمَى والخرس إليهما وجهان:
التأويل الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ الْأَسْبَابَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْوِلَايَةِ كَالْكُفْرِ، وَالرِّقِّ، وَالرِّدَّةِ.
فَأَمَّا الْفِسْقُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ بِكُلِ حالٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لا يمنع منه بِحَالٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنه لم إِنْ كُانْ مِمَّنْ يُجْبِرُ كَالْأَبِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِالْفِسْقِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ كَالْأَخِ لَمْ تَبْطُلْ وِلَايَتُهُ بِالْفِسْقِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ إنَّهُ إِنْ كَانَ الْفِسْقُ موجباً للحجر بَطَلَتْ بِهِ الْوِلَايَةُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ له لَمْ تَبْطُلْ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ، فَأَمَّا الْخُنْثَى فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى إشكاله فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَوَالُهُ بِقَوْلِهِ؛ كَإِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ طَبْعَهُ يَمِيلُ إلى الرجال حتى زوج امرأة ولا وِلَايَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ قِيلَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالضَّرْبُ الثاني: أن يكون قد زال تعيناً لإمارة لَا يُرْتَابُ بِهَا فَلَهُ الْوِلَايَةُ لِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ بالرجال في جميع الأحوال.
فأما الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَمَانَعٌ مِنَ الْوِلَايَةِ سواء كَانَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمُضِيِّ فِيهِمَا وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْوِلَايَةُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِإِحْرَامِهِ كَالْعَاضِلِ فَيُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ عَنْهُ وَلَا تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ عَنْهُ إِلَى مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ.
فصل
إذا ثبت ما وصفنا من الأسباب المشكلة لِوِلَايَةِ النِّكَاحِ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ بِهَا إِلَى مَنْ هو أبعد بخلاف الغيبة التي لا تُوجِبُ انْتِقَالَ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ يَصِحُّ مِنْهُ التَّزْوِيجُ وَلَا يَصِحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلَوْ زَالَتِ الْأَسْبَابُ الْمُبَطِلَةُ لِلْوِلَايَةِ بِأَنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ وَأَفَّاقَ الْمَجْنُونُ وَرَشَدَ السَّفِيهُ عَادُوا إِلَى الْوِلَايَةِ وَانْتَقَلَتْ عَمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ فَلَوْ كان الأبعد قد زوج في جنون القريب وَسَفَهِهِ صَحَّ نِكَاحُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَقْرَبِ بَعْدَ الإفاقة والرشد اعتراض عليه،

(9/119)


ولو كان الأبعد قد زوج فعد إِفَاقَةِ الْأَقْرَبِ وَرُشْدِهِ كَانَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا سَوَاءً عَلِمَ بِإِفَاقَتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ وَكِيلُ الْوَلِيِّ إِذَا زَوَّجَ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَلِيِّ فِي الْوَكَالَةِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِرُجُوعِهِ كَانَ فِي نِكَاحِهِ قَوْلَانِ: فَهَلَّا كَانَ نِكَاحُ الْأَبْعَدِ مِثْلُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَكِيلَ مُسْتَنَابٌ يُضَافُ عَقْدُهُ إِلَى مُوَكِّلِهِ فَكَانَ عَقْدُهُ أَمْضَى مِنْ عَقْدِ الْأَبْعَدِ الَّذِي لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنِ الْأَقْرَبِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ ثُمَّ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْأَقْرَبُ فَقَالَ الْأَبْعَدُ زوجها قَبْلَ إِفَاقَتِكَ فَالنِّكَاحُ مَاضٍ، وَقَالَ الْأَقْرَبُ بَلْ زَوَّجْتَهَا بَعْدَ إِفَاقَتِي، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَلَا اعْتِبَارَ باختلافهما ولا رجوع فيسأل قَوْلُ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقٌّ لَهُمَا فَلَمْ ينفذ فيه قول غيرهما.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَتْ قَدْ أَذِنْتُ فِي فلانٍ فَأَيُّ وُلَاتِي زَوَّجَنِي فَهُوَ جائزٌ فَأَيُّهُمْ زَوَّجَهَا جَازَ وإن تَشَاحُّوا أَقْرَعَ بَيْنَهُمُ السُّلْطَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ جَمَاعَةُ أَوْلِيَاءَ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ فَيَنْبَغِي لَهَا ولهم أن يردوا عقد نكاحها إلي أسنهم وأعلموا وَأَوْرَعِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَا السِّنِّ قَدْ جَرَّبَ الْأُمُورَ وَذَا الْعِلْمِ أَعْرَفُ بِأَحْكَامِ الْعُقُودِ وَذَا الْوَرَعِ أَسْلَمُ اخْتِيَارًا وَأَكْثَرُ احْتِيَاطًا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا اشْتَرَكُوا فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أحدهم كما لو اشتركوا في رق جارية اشتركوا في تزوجيها لِتُسَاوِيهِمْ كَالشُّرَكَاءِ فِي مِلْكٍ إِذَا أَرَادُوا بَيْعَهُ أو إجارته اشتركوا في العقد عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أَحَدُهُمْ لِتَسَاوِيهِمْ فِيهِ.
قيل الفرق بينهما أن المعقود في الأملاك يتبعض وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ جَازَ فَلِذَلِكَ جَازَ إِذَا اجْتَمَعُوا أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي الْعَقْدِ عَلَى الْجَمِيعِ وَلَيْسَ كذلك عقد النكاح؛ لأنه يَتَبَعَّضُ وَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى بَعْضِ امْرَأَةٍ فَلِذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَ الْأَوْلِيَاءُ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ ويفرد بالعقد أحدهم.

فصل
فإذا تقرر هذا فللمرأة المخطوبة حالتان:
أحدهما: أَنْ تَأْذَنَ لِأَحَدِهِمْ بِعَيْنِهِ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا.
والثاني: أن لا تعين فإن عينت، فَقَالَتْ: قَدْ أَذِنْتُ لِفُلَانٍ مِنْ إِخْوَتِي أَوْ من أعمامي أن يزوجني لفلان أَوْ بِمَنْ يَخْتَارُهُ لِي مِنَ الْأَكْفَاءِ فَيَكُونُ الْمَأْذُونُ لَهُ مِنْهُمْ أَحَقَّ بِعَقْدِ نِكَاحِهَا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُهُ مِنْهُمْ كَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا سَوَاءً كَانَتْ قَدْ عَيَّنَتْ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ لَمْ تُعَيِّنْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَصَارَ عَاقِدًا بِغَيْرِ إِذَنٍ فَبَطَلَ عَقْدُهُ.
فَصْلٌ
وَإِنْ لَمْ تُعَيِّنْ عَلَى أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ بَلْ قالت يزوجني أحدكم وأيكم يزوجني فَهُوَ بِإِذْنِي وَرِضَايَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ حينئذٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَتَنَازَعُوا فِي تزوجيها، أو لم يَتَنَازَعُوا، فَإِنْ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي تَزْوِيجِهَا وَسَلَّمُوهُ

(9/120)


لِأَحَدِهِمْ زَوَّجَهَا مَنْ سَلَّمُوا إِلَيْهِ الْعَقْدَ مِنْهُمْ وَسَوَاءً كَانَ أَفْضَلَهُمْ أَوْ أَنْقَصَهُمْ إِذَا لَمْ يكن به سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ لَوْ تَفَرَّدَ لَكَانَ وَلِيًّا فَكَذَلِكَ إِذَا شَارَكَ وَإِنْ تَنَازَعُوا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نِزَاعُهُمْ فِي تَوَلِّي الْعَقْدِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الزَّوْجِ كَأَنَّهُمُ اتفقوا على أن يزوجوها يزيد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لَكِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا أُزَوِّجُهَا بِهِ فَهَؤُلَاءِ لَا حَقَّ لِلسُّلْطَانِ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ عَاضِلٌ لَكِنْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَأَيُّهُمْ قُرِعَ كَانَ أَوْلَى بِنِكَاحِهَا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنْ زَوَّجَهَا مَنْ لَمْ تَخْرُجْ لَهُ الْقَرْعَةُ مِنْهُمْ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ كَانَ نِكَاحُهُ جَائِزًا لِكَوْنِهِ وَلِيًّا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقُرْعَةِ فَفِي صِحَّةِ نِكَاحِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا.
وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ قَدْ مَيَّزَتْ حَقَّ الْوِلَايَةِ لِغَيْرِهِ.

فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي
: أَنْ يَكُونَ نِزَاعُهُمْ فِي غير الزَّوْجِ وَفِي تَوَلِّي الْعَقْدِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا أُزَوِّجُهَا بِزَيْدٍ وَلَا أُزَوِّجُهَا بِعَمْرٍو، وَيَقُولُ الْآخَرُ: بِخِلَافِ ذَلِكَ فَيُرْجَعُ إِلَى الزَّوْجَةِ فَإِنْ رَضِيَتْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَانَ مَنْ رَضِيَتْهُ الزَّوْجَةُ أَحَقَّ وَمَنْ دُعِيَ إِلَى تَزْوِيجِهَا بِهِ أَوْلَى فَإِنْ قَالَتْ: هُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ فَزَوَّجُونِي بأحدهما فلا قرعة هاهنا؛ لأنه يصير قراعاً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْقُرْعَةُ لَا تُمَيِّزُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وإنما يتعين بالرضى وَالِاخْتِيَارِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْأَوْلِيَاءُ عَضْلَةً؛ لأن كل واحد منهم يمتنع من رَضِيَهُ الْآخَرُ فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي تَزْوِيجِهَا إِلَى السُّلْطَانِ كَمَا لَوْ صَرَّحُوا بِالْعَضْلِ حَتَّى زوجها بِمَنْ يَخْتَارُهُ لَهَا مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِمَا والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أَذِنَتْ لِكُلِّ واحدٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَا فِي رجلٍ بِعَيْنِهِ فَزَوَّجَهَا كُلُّ واحدٍ رَجُلًا فَقَدْ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أنكح الوليان فالأول أحق " فإن لم تثبت الشهود أيهما أول فالنكاح مفسوخٌ ولا شيء لها وإن دخل بها أحدهما على هذا كان لها مهر مثلها وهما يقران أنها لا تعلم مثل أن تكون غائبةً عن النكاح ولو ادعيا عليها أنها تعلم أحلفت ما تعلم وإن أقرت لأحدهما لزمها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي امْرَأَةٍ لَهَا وَلِيَّانِ أَذِنَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُزَوِّجَهَا برجلٍ لَا بِعَيْنِهِ يَخْتَارُهُ لَهَا مِنْ أَكْفَائِهَا، فَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَلِيَّيْنِ بِرَجُلٍ غَيْرَ الَّذِي زَوَّجَهَا بِهِ الْآخَرُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مَعًا غير كفئين فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاحِدٌ منهما فلا شيء عليهما فإن دَخْلَ بِهَا أَحَدُهُمَا كَانَ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا دُونَ الْمُسَمَّى وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ كفءٍ؛ لِأَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُوقِفُ نِكَاحَهُ عَلَى الْإِجَازَةِ فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أحد الزوجين كفئاً، وَالْآخَرُ غَيْرَ كفءٍ فَنِكَاحُ غَيْرِ الْكُفْءِ بَاطِلٌ وَنِكَاحُ الْكُفْءِ جَائِزٌ سَوَاءً تَقَدَّمَ نِكَاحُهُ أَوْ تأخر، فإن دخل بها غير كفء فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ نكاحه قد تقدم فلا أحد عَلَيْهِ سَوَاءً عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعَلَيْهَا أن تفتدي من

(9/121)


إِصَابَتِهِ وَإِنْ كَانَ نِكَاحُهُ قَدْ تَأَخَّرَ فَإِنْ عَلِمَ بِالْحَالِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْكُفْءِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أن يكون الزوجان معاً كفئين فلا يخلو حال نكاحهما من خمسة أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيُعْلَمَ أَيُّهُمَا هُوَ السَّابِقُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا وَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.
وَالثَّالِثُ: أن يَشُكَّ هَلْ وَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا أَوْ سَبَقَ أحدهما الآخر.
والرابع: أن يشك أيهما هو السابق.
والخامس: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّهُ هُوَ السَّابِقُ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ويعلم أيهما هو السابق بالنكاح لأسبق الزوجين عقداً والنكاح الثَّانِيَ الْمَسْبُوقُ بَاطِلٌ سَوَاءً دَخَلَ هَذَا الثَّانِي بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أبو حنيفة، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: النِّكَاحُ لِلْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الثَّانِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِنِكَاحِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَطَاءٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الزُّهْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ بن عبيد الله زوج أخته بيزيد بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ وَزَوَّجَهَا أَخُوهَا يَعْقُوبُ بْنُ طَلْحَةَ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلَ بِهَا الْحَسَنُ، وَهُوَ الثَّانِي مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَعْلَمْ بما تقدم من نكاح بيزيد فَقَضَى مُعَاوِيَةُ بِنِكَاحِهَا لِلْحَسْنِ بَعْدَ أَنْ أَجْمَعَ مَعَهُ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ فَصَارَ مَنْ سِوَاهُمْ مَحْجُوبًا بإجماعهم؛ ولأنه قد تساوا العقدان في أن يفرد كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِيَ مَأْذُونٌ لَهُ وِيَرْجِعُ الثاني أيما تَعَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ بِالدُّخُولِ مِنْ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ فَصَارَ أَوْلَى وَأَثْبَتَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْمِلْكِ إِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَصَرُّفٍ وَيَدٍ كَانَ أَوْلَى كذلك الزوجات
ودليلنا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ النَّسَاءِ} (النساء: 24) يَعْنِي ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ فَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا كَالْأُمِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَحِلَّ بِالدُّخُولِ كَمَا لَا يَحِلُّ غَيْرُهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ.

(9/122)


وروى الشافعي بإسناد رفعه لعقبة بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ ".
وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: أَنَّ امْرَأَةً ذَاتَ وَلِيَّيْنِ زوجها أحدهما بعبد الله بن الحسن الحنفي وَزَوَّجَهَا الْآخَرُ بِعَبِيدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَنَفِيِّ فدخل بها عبيد الله وَهُوَ الثَّانِي وَتَقَاضَيَا إِلَى عَلَيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَضَى بِالنِّكَاحِ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبْطَلَ نِكَاحَ عَبِيدِ اللَّهِ مَعَ دُخُولِهِ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ ".
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لَا يصح إذا عرى عن الوطء لم يصح إِذَا اتَّصَلَ بِالْوَطْءِ كَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَلِإِجْمَاعِنَا إِنَّ رَجُلًا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فِي أَنْ يُزَوِّجَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امرأةٍ فَزَوَّجَاهُ بِأُخْتَيْنِ أو وكل كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَزَوَّجَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعًا أَنْ نِكَاحَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَصَحُّ مِنْ نِكَاحِ الثَّانِي وَإِنِ اقترن به دخول، فكذلك ولياً المرأة يحب أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَصَحَّ وَإِنِ اقترن الثاني دُخُولٌ.
وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ بُطْلَانَ نِكَاحِ الثَّانِي إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ دُخُولٌ لَا يُوجِبُ تَصْحِيحَهُ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ دُخُولٌ لَا يُوجِبُ تَصْحِيحَهُ كَوَكِيلَيِ الزَّوْجِ فِي أُخْتَيْنِ أَوْ أَرْبَعٍ بَعْدَ أَرْبَعٍ، وَلِأَنَّ الدُّخُولَ فِي النِّكَاحِ جَارٍ مَجْرَى القبض في البيع ثم ثبت أن الوكيلين فِي بَيْعِ عَبْدٍ لَوْ بَاعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَقْبَضَهُ الثَّانِي أَنَّ الْبَيْعَ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ قَبْضَ الثَّانِي كَذَلِكَ الْوَلِيَّانِ فِي النِّكَاحِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنِكَاحِ الْحَسَنِ وَيَزِيدَ فَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِيَةُ اسْتَنْزَلَ يَزِيدَ عَنْ نِكَاحِهَا وَاسْتَأْنَفَ عَقْدَ الْحَسَنِ عَلَيْهَا. . وَأَمَّا استدلالهم بأن الثاني قد ترجع بِمَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالزَّوْجِ إِذَا زَوَّجَهُ وَكِيلَاهُ بِأُخْتَيْنِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لِلْأُولَى وَإِنْ دَخْلَ بِالثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ المتنازعين تُقَدَّمُ صَاحِبُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَلَيْسَ لِلْيَدِ فِي النِّكَاحِ تَأْثِيرٌ وَكَذَلِكَ فِي الأملاك إذا كانت معروفة، والأسباب، ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ بِنِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا القسم الثاني وهو أن يقع النكاح معاولاً يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجَيْنِ وَإِنْ جاز أن يكون الرجل ذا زوجتين؛ لأن اشتراك الزوجين في نكاح امرأة يقضي إِلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ وَلَيْسَ هَذَا المعنى موجود فِي الزَّوْجِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُ النِّكَاحَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ تَصْحِيحُ أحدهما أولى من فساده وجب أن يكون باطلين، فإذا بَطَلَ النِّكَاحُ بِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزوجين من ثلاثة أحوال:

(9/123)


إحداها: أن لا يكون قد دخل وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهِيَ خَلِيَّةٌ وَلَا مَهْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِفَسَادِ عَقْدِهِ وَعَدَمِ إِصَابَتِهِ وَلِأَيِّهِمَا شَاءَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أن يكون قد دخل بها أحدهما ودون الْآخَرِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ لِلدَّاخِلِ بها وما قد مَضَى مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَافٍ فِي هَذِهِ وَيَكُونُ نِكَاحُ الدَّاخِلِ بِهَا بَاطِلًا كَغَيْرِ الدَّاخِلِ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بِهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ وَعَلَيْهَا مِنْهُ الْعِدَّةُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِ الدَّاخِلِ بِهَا مَهْرٌ وَلَا لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجَانِ مَعًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِصَابَةِ وعليها لكل واحد منهما العدة بدأ بَعْدَ أَسْبَقِهِمَا إِصَابَةً، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِئْنَافُ نِكَاحِهَا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَقَّبُ عِدَّتَهَا مِنْهُ عِدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ فِي الْعِدَّتَيْنِ مَعًا، فَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا إِصَابَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَلَهُ أن يتزوجها في عدة الثَّانِي.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ
: وَهُوَ أَنْ يَشُكَّ هَلْ وَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ حَالِيْ صحةٍ وَفَسَادٍ حُمِلَ عَلَى الْفَسَادِ دُونَ الصِّحَّةِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ أَنْ لَا عقد حتى يعلم يقين صحته، فإذا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَمَا لَوْ وَقَعَا مَعًا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُودِ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ
: وَهُوَ أن يسبق أحدهما الآخر ويشك أيهما هو السابق فهو على ضربين:
أحدهما: أن يصير الشك بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَقِينِ فَيَكُونُ النِّكَاحَانِ مَوْقُوفَيْنِ عَلَى ما يرجى من زوال الشك يعود الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ طُرُوءَ الشَّكِّ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَقِينِ يَجُوزُ أَنَّ يَتَعَقَّبَهُ يَقِينٌ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ ذات زوج قد جهل عينه فتمتع مِنَ الْأَزْوَاجِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِصَابَتُهَا إِلَّا بَعْدَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ الْأَسْبَقُ نِكَاحًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ يَقِينٌ فَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُتَوَقَّعُ زَوَالُ الشَّكِّ بِعَوْدِ الْيَقِينِ، وَإِذَا امْتَنَعَ وَقَفُ النِّكَاحَيْنِ كَانَا بَاطِلَيْنِ وَهَلْ يَفْتَقِرُ بُطْلَانُهُمَا إِلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:؛
أَحَدُهُمَا: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ وَيَكُونُ الجهل على المتقدم فسخاً؛ لأن الجهل بعين الْأَسْبَقِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ تَعْيِينِ الْأَصَحِّ فَاقْتَضَى أن يقع به الفسخ.
والوجه الثاني: إِنَّهُ لَا يَقَعُ الْفَسْخُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا زَوْجٌ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا الزَّوْجُ فَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهُ إِلَّا بِحُكْمِ الحاكم الذي له مدخل في الفسخ الْمَنَاكِحِ فَإِنْ قِيلَ: بِوُقُوعِ الْفَسْخِ بِالْجَهْلِ دُونَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ فَسْخًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَمَا يُمْنَعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الْغَرْقَى فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَنْ إِشْكَالِ التَّقَدُّمِ، وَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الْفَسْخِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَهَلْ يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(9/124)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَسْخٌ فِي الظَّاهِرِ وَالزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا بَاقِيَةٌ فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْفَسْخَ يَقَعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا لَمْ يَحْصُلُ لَهَا الْعِوَضُ عَادَ إِلَيْهَا الْمُعَوَّضُ كَالْبَائِعِ إذا أفلس المشتري بثمن سلعة عَادَتْ إِلَيْهِ بِفَسْخِ الْحَاكِمِ مِلْكًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ
: وَهُوَ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّهُ هُوَ السَّابِقُ فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا وَحُكِمَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ الْعَاقِدُ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْعَقْدِ الْآخَرِ شَاهِدًا فِي هَذَا الْعَقْدِ قُبِلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بينة فلا حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَا علمهما بأسبقهما عقداً، أو لا يدعياه لغيبتهما عن العقد وجهلهما بِالْأَسْبَقِ تَحَالَفَ الزَّوْجَانِ دُونَ الْوَلِيَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا الْمُتَدَاعِيَانِ وَلَا يُرَاعَى تَصْدِيقُ الْوَلِيَّيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ الزَّوْجَانِ انفسخ النكاحان وهل ينفسخ بنفس التحالف أو بفسخ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ، وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجَانِ عَنِ الْيَمِينِ فَسَخَ الْحَاكِمُ نكاحهما وَلَمْ يَنْفَسِخْ إِلَّا بِحُكْمِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ نُكُولَ النَّاكِلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا في دعواه فلم يمنع بِنُكُولِهِ فَسْخٌ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قَضَى بِالنِّكَاحِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا النَّاكِلُ نُظِرَ حَالُ دُخُولِهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُكُولِهِ أو يمين صاحبه فهو زان بحد ولا يلحق به الولد ولا تجب عليها العدة.
أما الْمَرْأَةُ فَإِنْ عَلِمَتْ بِحَالِ النَّاكِلِ عِنْدَ تَمْكِينِهِ مِنْ نَفْسِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ تُحَدُّ وَلَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَإِنْ كَانَ النَّاكِلُ قَدْ دخل بها قبل نكوله ويمين صَاحِبِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا لِبَقَاءِ شُبْهَتِهِ فِي النِّكَاحِ وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ وَهِيَ محرمة على المحالف حتى تقضي عِدَّةَ النَّاكِلِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَا الْحَالِفُ فَلِأَنَّهَا محرمة عليه وإن كانت زَوْجَتُهُ لِاعْتِدَادِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا النَّاكِلُ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا أَمْ لا على قولين.

فصل
فإن ادعت عِلْمَهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَأَنَّهَا تَعْرِفُ أَسْبَقَهُمَا نِكَاحًا، فلها حالتان: حالة نعترف بالعلم، وحالة لا تعترف به، فإن لم تعترف وقالت لست أعلم أَيُّهُمَا أَسْبَقُ بِالْعَقْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَإِنَّمَا لَزِمَهَا الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بَعْدَ الْإِنْكَارِ كَانَ قَوْلُهَا فِي نِكَاحِ مَنْ قَدَّمَتْهُ مَقْبُولًا فَإِنْ حَلَفَتْ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَسْبَقُ بِالْعَقْدِ، فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ، وَهَلْ يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ يمينها أو فسخ الحاكم على وجهين إن قيل قد بطل يَمِينُهَا نِكَاحَ الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ مُعْتَرِفَةٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا زَوْجٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهَا، قِيلَ لِأَنَّ يمينها يسقط عَنْهَا تَمْكِينَ نَفْسِهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا مَنَعَهَا الشَّرْعُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَطَلَ نكاحها، وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الزوجين، فإن حلفا بطل نكاحهما، وَإِنْ نَكَلَا فُسِخَ نِكَاحُهُمَا، وَإِنْ حَلَفَ

(9/125)


أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِنِكَاحِهَا لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دون الناكل وإن اعترفت، وقالت: أعلم السابق بالعقد منهما وهو زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ للمصدق؛ لأنها مَالِكَةٌ بُضْعَهَا فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِي تَصْدِيقِ مَنْ ملكه عنهما كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهَا، وَهَلْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَوْ رَجَعَتْ عَنْهُ لَمْ تُقْبَلْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَيِّنَةٌ كَالشَّاهِدِينَ وَهَذَا قَوْلُهُ: فِي " الْأُمِّ ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَذِّبَ مُدَّعٍ فَلَمْ يَدْفَعْ مُجَرَّدُ الْإِنْكَارِ إِلَّا مَعَ يَمِينٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِرُجُوعِهَا أَنْ لَوْ صَدَّقَتْهُ غُرِّمَ فَلَزِمَتِ الْيَمِينُ، وَهَذَا قَوْلُهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الرَّاهِنِ إِذَا صَدَقَ أَحَدُ الْمُرْتَهِنَيْنِ هَلْ يَحْلِفُ للمكذب أم لا على قولين ويشبه أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الزَّوْجَةِ مبنيً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَصْدِيقِهَا لِلْمُكَذِّبِ هَلْ يُوجِبُ عَلَيْهَا مَهْرَ الْمِثَلِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ يُوجِبُ التَّصْدِيقُ عَلَيْهَا مَهْرَ الْمِثْلِ حَلَفَتْ على التكذيب، وإن قيل لم يَجِبْ لَمْ تَحْلِفْ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ وَبِنَاؤُهُمَا فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فَحَلَفَتْ ثَبَتَ النِّكَاحُ لِلْمُصَدِّقِ، وَكَانَ نِكَاحُ الْمُكَذِّبِ مَرْدُودًا، وَإِنْ قِيلَ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فَنَكَلَتْ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي النُّكُولِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الاعتراف بالثاني أو بغير اعْتِرَافٍ بِهِ فَإِنْ كَانَ نُكُولُهَا اعْتِرَافًا لِلثَّانِي يتقدم نِكَاحُهُ لَمْ يُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدٍ وَقَدْ صَارَتْ مُقِرَّةً لِلْأَوَّلِ ثُمَّ عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى إِقْرَارِهَا لِلثَّانِي، فَثَبَتَ نِكَاحُهَا لِلْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهَا، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهَا عَنْهُ إِلَى الثَّانِي، وَجَرَى مَجْرَى قولها في الابتداء بسبق هذا لأجل هذا فتكون زوجة للأول بإقرارها دُونَ الثَّانِي كَمَنْ بِيَدِهِ دَارٌ فَقَالَ هِيَ لزيد لا بل لعمرو وكانت لزيد المقر له أولاً دون عمرو وإذا كَانَتْ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْإِقْرَارِ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، فَهَلْ يَلْزَمُهَا أَنْ تَغْرَمَ لِلثَّانِي مَهْرَ مِثْلِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: كَمَنْ قال: هذه الدار لزيد بل لعمرو وكانت لِزَيْدٍ، وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَتَهَا لِعَمْرٍو أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُا غُرْمُ الْمَهْرِ لاعترافهما بما لزمهما.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُا غُرْمُ مَهْرِ مِثْلِهَا لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهَا قَدْ فَوَّتَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهَا لِلْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ صَارَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ زَوْجَةً لِلثَّانِي بِإِقْرَارِهَا الْمُتَقَدِّمِ كَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو كَانَتْ لِزَيْدٍ الْمُقَرِّ لَهُ أَوَّلًا فَلَوْ عَادَتِ الدَّارُ إلى المقر بابتياع أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ، صَارَتْ لِعَمْرٍو بِالْإِقْرَارِ السابق الْمُتَقَدِّمِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ فِي مَصِيرِهَا زَوْجَةً لِلثَّانِي، وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ لم يصيبها بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَهَا بأكثر الأجلين من أربعة

(9/126)


أشهر وعشر عدة الوفاة أو ثلاثة أقراء عدة الْوَطْءِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الثَّانِي فِي زَمَانِ عَدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَ نُكُولُهَا لِغَيْرِ اعْتِرَافٍ بَلْ كَانَتْ عَلَى تَكْذِيبِ الثَّانِي، وَتَصْدِيقِ الْأَوَّلِ رُدَّ الْيَمِينُ بَعْدَ نُكُولِهَا عَلَى الْمُكَذِّبِ فَإِنْ نَكَلَ الْمُكَذِّبُ عَنْهَا اسْتَقَرَّ نِكَاحُ الْأَوَّلِ وَإِنْ حَلَفَ فَقَدْ قَابَلَ تصديق الأول يمين الكذب فيكون يمين الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هل يقول مقام البينة أم مَقَامَ الْإِقْرَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَقُومُ مقام البينة فعلى هذا تكون زوجة الثاني وَيَزُولُ عَنْهَا نِكَاحُ الْأَوَّلِ؛ كَمَا لَوْ أَقَامَ الثَّانِي بَيِّنَةً بَعْدَ تَصْدِيقِهَا لِلْأَوَّلِ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ مَعَ بُعْدِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ كَانَ مَعَ الْأَوَّلِ إِقْرَارٌ مِنْهَا وَقَدْ صَارَ مَعَ الثَّانِي إِقْرَارٌ قَدْ لَزِمَ عَنْهَا فَصَارَ إِقْرَارَيْنِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ إِقْرَارَيْنِ وَقَعَا مَعًا، لِأَنَّ يَمِينَ الثَّانِي أَوْجَبَهَا نُكُولُهَا عَنِ الْيَمِينِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ حُكْمُ أَحَدِ الْإِقْرَارَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ النِّكَاحَانِ مَعًا؛ كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ لَهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ إِقْرَارَيْنِ مُتَرَتِّبَيْنِ وَقَعَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، لِأَنَّ يَمِينَ الثَّانِي جَعَلَتْهُ فِي حُكْمِ الْمُقَرِّ لَهُ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ، فَصَارَ الإقرار له متأخر عَنِ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا فَعَلَى هَذَا تَكُونُ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كما لو أقرت لثاني بعد أول، وَهَلْ يَرْجِعُ الثَّانِي عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ طَلَبَ الثَّانِي فِي هَذِهِ الْحَالِ إِحْلَافَ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَوْ مَاتَ لَمْ تَصِرْ زَوْجَةً لِلثَّانِي، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا مَنْزِلَةَ الْمُقِرَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ إحلافها ولو نزل عنها فحكم بها زوجة للثاني لأجرينا عَلَيْهَا أَحْكَامَ الْمُقِرَّةِ مِنْ غَيْرِ تَبْعِيضٍ فَهَذَا حكم المسألة وما انتهت إليها أَقْسَامُهَا وَأَحْكَامُهَا.

فَصْلٌ
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُوَكِّلَ الرَّجُلُ وَكِيلَيْنِ فِي أَنْ يُزَوِّجَاهُ فزوجاه بِامْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ لَزِمَهُ الْعِقْدَانِ وَصَحَّ نِكَاحُهُمَا لَهُ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إِذَا زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَا زَوْجَتَيْنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجَيْنِ، فَلَوْ قَالَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ زَوَّجْتُكَ مِنْ زَيْنَبَ وَزَوَّجَكَ صاحبي من هند، وقال الآخر أنا زَوَّجْتُكَ بِزَيْنَبَ وَزَوَّجَكَ صَاحِبِي مِنْ هِنْدٍ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ وَالنِّكَاحَانِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلَوْ زَوَّجَهُ الْوَكِيلَانِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي عَقْدَيْنِ صَحَّ نِكَاحُهُ عَلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا لَهُ الْحَكَمُ وَالْمَهْرُ دُونَ الثَّانِي، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَلِيَّيْنِ صَحَّ النِّكَاحُ أَيْضًا، فَإِنِ اختلف المهران لم يحكم بواحد مِنْهُمَا وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ تَقَدُّمَ أَكْثَرِ الْعَقْدَيْنِ مَهْرًا وَادَّعَى الزَّوْجُ تَقَدُّمَ أَقَلِّهِمَا مَهْرًا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحَالَفَا وَحُكِمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تُقْبَلُ شهادة الوكيلين.

(9/127)


فَلَوْ عَقَدَ الْوَكِيلُ عَلَى امْرَأَةٍ غَيْرِ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ يُعَيَّنْ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْوَكِيلُ: قَبِلَتِ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِنَفْسِي وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: بَلْ قَبِلْتُهُ لِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.

فَصْلٌ
وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ أَنْتِ زَوْجَتِي فَصَدَّقَتْهُ ثَبَتَ حُكْمُ نكاحهما بِالتَّصَادُقِ عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَثْبُتُ نِكَاحُهُمَا بِالتَّصَادُقِ حَتَّى يُرَى دَاخِلًا عَلَيْهَا وَخَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَا فِي سَفَرٍ.
وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ظُهُورُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الِاعْتِرَافِ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ بِهَذَا التَّصَادُقِ عَلَيْهِ فَأَيُّهُمَا مَاتَ وِرِثَهُ صَاحِبُهُ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ هَذِهِ زَوْجَتِي وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ فَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا نَصَّ عَلَيْه الشَّافِعِيُّ في " الأم " لا أنه اعترف لها بما لم يعترف له بمثله فورثه وَلَمْ يَرِثْهَا وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: هَذَا زَوْجِي وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ وَرِثَهَا إِنْ مَاتَتْ وَلَمْ تَرِثْهُ إِنْ مات للمعنى الذي ذكرنا نص عليه في الإملاء، قال فِيهِ وَلَوْ تَزَوَّجَّ رِجْلٌ امْرَأَةً مِنْ وَلِيِّهَا ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا، فَقَالَ وَارِثُهُ زَوْجُكِ وَلِيُّكِ بِغَيْرِ إِذْنِكِ فَنِكَاحُكِ بَاطِلٌ وَلَا مِيرَاثَ لَكِ، وَقَالَتْ: بَلْ زَوَّجَنِي بِإِذْنِي فَلِي الْمِيرَاثُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّ إِذْنَهَا لَا يُعْلَمُ إلا منها والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " ولو زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِأَمْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا كَابْنِ عَمٍّ أَوْ مَوْلَى مُعْتَقٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ وَوِلَايَتِهِ حَتَّى يُزَوِّجَهُ الْحَاكِمُ بِهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: يجوز أن يتزوجها مِنْ نَفْسِهِ بَعْدَ إِذْنِهَا لَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَأْذَنُ لِأَجْنَبِيٍّ حَتَّى يُزَوِّجَهُ بِهَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونهُنَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ) {النساء: 127) قَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ يَتِيمَةٍ فِي حجر وليها رغب في مالها وجمالها لمي سقط لها في صداقها مهراً أن تنكحوا أو تقسطوا لَهُنَّ فِي صَدَاقِهِنَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أن يتزوجها ولم يقسط في صداقها، ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " وَهَذَا نِكَاحٌ قَدْ عَقَدَهُ وَلِيٌّ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ سِوَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ بِوَلِيٍّ فَجَازَ ثُبُوتُهُ كَمَا لو زوجها من غيره، ولأن الولي إنما يراد لأن لا تَضَعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ وَوَلِيُّهَا كفء لها.

(9/128)


ودليلنا مَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سِفَاحٌ خَاطِبٌ، وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ " فَاعْتَبَرَ فِي صِحَّتِهِ حُضُورَ أَرْبَعَةٍ وَجَعَلَ الْخَاطِبَ مِنْهُمْ غَيْرَ الوالي فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَصِحَّ بِثَلَاثَةٍ يَكُونُ الْوَلِيُّ مِنْهُمْ خَاطِبًا كَمَا لَمْ يُجِزْ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْهُمْ خَاطِبًا.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ حَتَّى يكون الولي غيره ولا يشتري الوالي شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَا الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنَ الميراث "، وهذا نص مرسل سعيد عند الشافعي حجة؛ لأنه عقد لم يملك فيه البدل إلا بإذن فلمن يُمْلَكْ فِيهِ الْقَبُولُ كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ لَمَّا ملك فيه البدل بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ لَمْ يَمْلِكْ فِيهِ الْقَبُولَ فِي شِرَائِهِ لِنَفْسِهِ وَهِيَ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا يَدْخُلُ في هَذَا الْقِيَاسِ ابْتِيَاعُ الْأَبِ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ بنفسه حيث صار فيه مالكاً للبدل والقبول؛ لأن الأب يملك البدل بِنَفْسِهِ لَا بِإِذْنِ غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ فِيهِ الْقَبُولَ وَخَالَفَ الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ كَمَا خَالَفَ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ اعْتُبِرَ في النِّكَاحِ احْتِيَاطًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا كَالشَّاهِدِ؛ وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا فِي الْتِمَاسِ مَنْ هُوَ أَكْفَأُ وَأَغْنَى فَإِذَا صَارَ زَوْجًا انْصَرَفَ نَظَرُهُ إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ دُونَهَا فَعُدِمَ فِي عَقْدِهِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ فَصَارَ ممنوعاً منه. من غيره وليس الآية دليل على ما اختلفا فِيهِ مِنْ جَوَازِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " فَهُوَ أنَّ هَذَا فِي حَالِ تزويجه بِهَا قَدْ خَرَجَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهَا لما ذَكَرْنَا مِنَ انْصِرَافِهِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ الْوَلِيُّ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ لَهَا إِلَى طَلَبِ الْحَظِّ لنفسه.
فأما الجواب عن حديث سعيد فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصٌ بِجَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ حَالُ غَيْرِهِ.
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الولي في نكاحه فيقول لَمْ يَكُنْ لِصَفِيَّةَ وَلِيٌّ غَيْرُهُ فَصَارَ فِي عَقْدِهِ عَلَيْهَا كَالْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَجِدْ لِوَلِيَّتِهِ ولياً سواه يزوجها مِنْهُ فَيَكُونُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ أَنَّهُ نِكَاحٌ بِوَلِيٍّ فَلَا نُسَلِّمُ أنه يكون ولياً لها إذا تزوجها لما ذَكَرْنَا مِنْ زَوَالِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ عَنْهُ، ثُمَّ المعنى في الأصل أن الباذل غير العائل.
وأما الجواب عن استدلالهم بأنه كفء لها لِمُنَاسَبَتِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى وَلِيٍّ يَلْتَمِسُ الْكَفَاءَةَ وهي لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةٌ بِالنَّسَبِ وَحْدَهُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يُكَافِئَهَا فِيمَا سِوَى النَّسَبِ مِنْ مَالٍ وعفاف.

فصل
فإذا ثبت أن لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَحَدٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لها وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ لَمْ تَنْتَقِلِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْبَعِيدِ، وَزَوَّجَهُ الْحَاكِمُ بِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ هُوَ أبعد فيزوجها مِنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بهذا القصد فلم ينتقل عَنْهُ إِلَى الْأَبْعَدِ وَصَارَ بِخِطْبَتِهَا كَالْعَاضِلِ

(9/129)


فَيُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ فَلَوْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ هُوَ الحاكم لم يجز له أن يتزوجها بِوِلَايَةِ النَّسَبِ وَعَدَلَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ حَتَّى يُزَوِّجَهُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يتزوجها بنفسه لعموم ولايته وأن الْحُكَّامَ كُلَّهُمْ مِنْ قَبْلِهِ كَمَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَفِيَّةَ بِنَفْسِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يتزوجها من حكام الوقت لولايتهم، وإن كانت منه فهم بخلاف وكلائه، ولأنه نَائِبٌ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَقْلِيدِ الْحُكَّامِ وَنَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ فِي تَقْلِيدِ الْوُكَلَاءِ، أَلَا تراه لو مات بطلت ولاية وكلائه ولن تَبْطُلَ وِلَايَةُ حُكَّامِهِ، وَلِذَلِكَ تَحَاكَمَ عُمَرُ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحَاكَمَ عَلِيٌّ يَهُودِيًّا إِلَى شُرَيْحٍ.

فَصْلٌ
وَلَوْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ بِابْنِهِ كَوَلِيٍّ هُوَ عَمٌّ فَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ أَخِيهِ بِابْنِهِ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرُ أَبِيهَا أَوْ جَدِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَابْنُهُ صَغِيرٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يزوجها بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَاذِلًا لِلنِّكَاحِ عَنْهَا وَقَابِلًا لَهُ عَنِ ابْنِهِ فَاجْتَمَعَ الْبَذْلُ وَالْقَبُولُ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يتزوجها لنفسه لحصول البذل والقبول منه مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ ابْنُهُ كَبِيرًا فَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاذِلًا فَالْقَابِلُ غَيْرُهُ وَهُوَ الِابْنُ فَلَمْ يَجْتَمِعِ الْبَذْلُ وَالْقَبُولُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.
والوجه الثاني: لا يجوز أن يزوجه بها؛ لِأَنَّهُ يَمِيلُ بِالطَّبْعِ إِلَى طَلَبِ الْحَظِّ لِابْنِهِ دونها كما لم يجز أن يتزوجها بنفسه لِهَذَا الْمَعْنَى.
فَأَمَّا الْجَدُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ ابْنِهِ بِابْنِ ابْنٍ لَهُ آخَرَ فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ جَازَ لِاعْتِدَالِ السَّبَبَيْنِ فِي ميله إليهما وطلب الحظ لهما وإن كان صَغِيرَيْنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِهَذَا المعنى.
والثاني: لا يجوز لاجتماع البذل والقبول من جهته.

مسألة
قال الشافعي: " ويزوج الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ الِابْنَةَ الَّتِي يُؤْيَسُ مِنْ عَقْلِهَا لِأَنَّ لَهَا فِيهِ عَفَافًا وَغِنًى وَرُبَّمَا كَانَ شِفَاءً وسواءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ فَإِذَا كَانَتْ مَجْنُونَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا زَوَّجَهَا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً لِأَنَّ لِلْأَبِ إِجْبَارَ الْبِكْرِ فِي حَالِ الْعَقْلِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْبِرَهَا فِي حَالِ الْجُنُونِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَلَا جَدٌّ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَكُنْ لأحد أوليائها ولا الحاكم أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى تَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَتْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ دُونَ عَصَبَتِهَا الْمُنَاسِبِينَ لِاخْتِصَاصِهِ بِفَضْلِ النَّظَرِ في الولاية

(9/130)


على مالها فإن كَانَتْ ثَيِّبًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً زَوَّجَهَا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أب ولا جَدٌّ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ دُونَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ثَيِّبًا فَلَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ والْجَدِّ تَزْوِيجُهَا حَتَّى تَبْلُغَ، وَهَلْ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ أَمْ لَا؟
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ حَتَّى تَبْلُغَ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بها إلى الزوج قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
والوجه الثاني: أنه يجوز تَزْوِيجُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِخِلَافِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي يَرجْى صحة إذنها بالبلوغ ولا يجرى صِحَّةُ إِذْنِ الْمَجْنُونَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَافْتَرَقَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّ لَهَا فِيهِ عَفَافًا وَغِنًى وَرُبَّمَا كان شفاء، فهذا تعليل بجواز تَزْوِيجِ الْبَالِغِ الْمَجْنُونَةَ، فَأَمَّا الْعَفَافُ فَيُرِيدُ بِهِ من الزنا، وأما الغنى فتغنى بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَأَمَّا الشِّفَاءُ فَرُبَّمَا كَانَ من شدة المانخوليا وَقُوَّةِ الشَّبَقِ فَتَبْرَأُ إِنْ جُومِعَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي: " وَيُزَوِّجُ الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ أَبُوهُ إِذَا كَانَتْ به إلى ذلك حاجةٌ وابنه الصغير فإن كان مجنوناً ولا مَخْبُولًا كَانَ النِّكَاحُ مَرْدُودًا لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يَخْلُو حَالُ الِابْنِ إِذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُزَوِّجَهُ مِنْ أَحَدِ حَالَيْنِ، إِمَّا أَنْ كون عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا، فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا، فَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْأَبِ فِي نِكَاحِهِ، فَإِنْ زَوَّجَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلْعَقْدِ أَوِ الْإِذْنِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا جَازَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ فِي صِغَرِهِ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ زَوَّجَ ابْنًا لَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ؛ وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي الْأَغْلَبِ إِذَا بَلَغَ فَعَجَّلَ الْأَبُ لَهُ ذَلِكَ لِيَأْلَفَ صِيَانَةَ الْفَرْجِ، وَرُبَّمَا رَغِبَ النَّاسُ فِيهِ لِكَفَالَةِ الْأَبِ فَإِنْ زَوَّجَهُ وَاحِدَةً لَزِمَهُ نِكَاحُهَا وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ خِيَارٌ، فَإِنْ أَرَادَ الْفِرَاقَ فَبِالطَّلَاقِ، وَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ تَزْوِيجَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ لَهُ فِي الْوَاحِدَةِ غناء.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِ نَصًّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ تَمَامَ أَرْبَعٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْوَاحِدَةِ مَوْجُودٌ فِيهِنَّ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مَجْنُونًا فَلَهُ حَالَتَانِ: صَغِيرٌ، وَكَبِيرٌ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ بِاجْتِمَاعِ جُنُونِهِ مَعَ صِغَرِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُ بِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ الْمَجْنُونَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبِنْتَ قَدْ تَكْتَسِبُ بِالتَّزْوِيجِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، وَالِابْنُ ملتزمهما، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى التَّزْوِيجِ حَاجَةٌ لَمْ يُزَوِّجْهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا وَحَاجَتُهُ تَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرَى مُتَوَثِّبًا عَلَى النِّسَاءِ لِكَثْرَةِ شَهْوَتِهِ وَقُوَّةِ شَبَقِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خَادِمٍ وَخِدْمَةُ الزَّوْجَةِ أَرْفَقُ بِهِ لِفَضْلِ حُنُوِّهَا وَكَثْرَةِ شَفَقَتِهَا فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ تَزْوِيجُهُ بِوَاحِدَةٍ لا يزيده عليها؛ لأن له فيها غناء، فَإِنْ أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ كَانَ النِّكَاحُ عَلَى لزومه.

(9/131)


فأما المعنى عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ، لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يُرْجَى سُرْعَةُ زَوَالِهِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ فَلَيْسَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى العقد في زمان الإفاقة.

مسألة
قال الشافعي: " وليس لأب الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَهُ الْمَجْنُونَ أَوْ تَزَوَّجَ الِابْنُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ فَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ، لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنَ الْأَزْوَاجِ.
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي زَوَّجْتُ عَبْدِيَ امرأة وأريد أَنْ أُطَلِّقَهَا مِنْهُ فَقَالَ: " لَيْسَ لَكَ طَلَاقُهَا، إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أُخِذَ بِالسَّاقِ " وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَقِفُ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَصْلَحُ وَالْأَوْلَى، لِأَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُ العفيفة والجميلة وَيُمْسِكُ الْفَاجِرَةَ الْقَبِيحَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَاعَى فيه شهوة غير المالك، لأن تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ دُونَ الشَّهْوَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَجَازَ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ فِيهِ فَافْتَرَقَا، وإذا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَجُوزُ أن يخالع عنه، لأنه معاونه عَلَى طَلَاقٍ لَا يَصِحَّ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَا يَضْرِبُ لِامْرَأَتِهِ أَجَلَ الْعِنِّينِ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَوْ بِكْرًا لَمْ يُعْقَلْ أَنْ يَدْفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَوْلِ إنَّهَا تمتنع مِنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ادَّعَتِ امرأة المجنون عليه العنة لم تسمع دَعْوَاهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهِ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ يُوجِبُ حَقًّا عَلَى غيره؛ ولأن صَدَّقَهَا الْوَلِيُّ عَلَى عِنَّتِهِ جَازَ أَنْ يَضْرِبَ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاقِلًا جاز أَنْ يُنْكِرَهَا، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَاقِلًا فَيَضْرِبُ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ، ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَجُزْ إِذَا انْقَضَّتِ الْمُدَّةُ وَهُوَ عَلَى جُنُونِهِ أَنْ يُخَيَّرَ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاقِلًا لَجَازَ أَنْ يدعي وطئها إن كان ثَيِّبًا وَمَنْعَهَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قوله في الحالين.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَا يُخَالِعُ عَنِ الْمَعْتُوهَةِ وَلَا يُبَرِّئُ زَوْجَهَا مِنْ درهمٍ مِنْ مَالِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْ بِنْتِهِ الْمَجْنُونَةِ مِنْ مَالِهَا لِأَمْرَيْنِ:

(9/132)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ مَالِهَا وَهَذَا اسْتِهْلَاكٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي كَسْبِهَا لَا إِلَى إِسْقَاطِهِ، وَهَذَا يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا وَمَهْرَهَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَأَمَّا إِنْ خَالَعَ الْأَبُ عَنْهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ خُلْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَالَعَ عَنْ أَجْنَبِيَّةٍ عَاقِلَةٍ بِمَالِ نَفْسِهِ وَهِيَ غَيْرُ عَالِمَةٍ وَلَا مُرِيدَةٍ صَحَّ خُلْعُهُ فَعَنْ بِنْتِهِ الْمَجْنُونَةِ أَوْلَى.

فَصْلٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يُبَرِّئُ زَوْجَهَا مِنْ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهَا " وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الصَّدَاقِ فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أن يبرئ منه.
والثاني: صَدَاقًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ دخل لها فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يُطَلِّقْ فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أن يكون قَدْ طُلِّقَتْ فَفِي جَوَازِ إِبْرَاءِ الْأَبِ مِنْهُ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ مالك أن الْأَبُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ دُونَ غيرهما من الأولياء أن يبرأ مِنْ صَدَاقِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّهُ الزَّوْجُ، فَعَلَى هذا لا يجوز للأب والجد أن يبرئا مِنْهُ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أن يبرئا شيء من صداقها كما لم يجز لا أن يبرأ مِنْ غَيْرِ الصَّدَاقِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهَا، فَأَمَّا الْخُلْعُ فَعَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِصَدَاقِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَانَ جَوَازُهُ عَلَى بَدَلٍ أولى وهذا جَمْعٌ فَاسِدٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الإبراء مجوز بعد الطلاق وفي الخلع يكون مبرأ مِنْهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي: أنَّ فِي الْإِبْرَاءِ تَرْغِيبًا لِلْأَزْوَاجِ فِيهَا وَفِي الْخُلْعِ تَزْهِيدًا فِيهَا فَاخْتَلَفَ الْمَعْنَى فِيهِمَا فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ هَرَبَتْ وَامْتَنَعَتْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا هَرَبَتْ بِالْجُنُونِ مِنْ زَوْجِهَا وَمَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عِوَضٌ فِي مُقَابَلَةِ تَمْكِينٍ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّمْكِينُ الَّذِي هُوَ مُعَوَّضٌ بَطَلَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ الَّتِي عوض كالسلعة إذا بلغت فِي يَدِ الْبَائِعِ بَطَلَ مَا فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الثَّمَنِ فَإِنْ قِيلَ

(9/133)


فَالْجُنُونُ عُذْرٌ، وَلَيْسَتْ فِيهِ عَاصِيَةٌ فَهَلَّا كَانَتْ نَفَقَتُهَا مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِمْتَاعِ بَاقِيَةً كَمَا لَوْ مرضت أو صلت أو صامت؟ قيل: حقوق الأموال بين الآدميين تستوي في وجوبها سقوطها حُكْمُ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَالْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ أَلَّا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ تَلَفَتِ السِّلْعَةُ فِي يده لجائحة سمائية فهو معذور مطيع وقد سقط فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الثَّمَنِ كَمَا لَوِ اسْتَهْلَكَهَا بِنَفْسِهِ فَصَارَ عَاصِيًا غَيْرَ مَعْذُورٍ كَمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ سَافَرَتْ فِي الْحَجِّ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ مُطِيعَةً كَمَا لَوْ هَرَبَتْ نَاشِزًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمَجْنُونَةِ.
فَأَمَّا الْمَرِيضَةُ فهي غير ممتنعة منه وَإِنَّمَا الْمَرَضُ مَنْعَهُ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ الْحَيْضُ، ولو منعته فِي الْمَرَضِ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهِ من المريضة من نظر وقبلة ولمس وسقطت نَفَقَتُهَا فَأَمَّا مَا وَجَبَ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ فَالشَّرْعُ قَدِ اسْتَثْنَى زَمَانَهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا أَنَّ زَمَانَ النَّوْمِ مُسْتَثْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ فِيهَا وَقِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فِيهَا فِءْ أَوْ طَلِّقْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ: " لَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ " فَلَمْ يُرِدْ أنه لا يصح منه الإيلاء فيهما؛ لأن الإيلاء يمين يصح مِنَ الزَّوْجِ فِي الْعَاقِلَةِ فَصَحَّتْ مِنْهُ فِي المجنونة، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَطْالُبَ بِحُكْمِ إيلائه فيهما وإن صح إيلاؤه منهما وإذا مضى عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ عَلَى جُنُونِهَا أَوْ آلَى مِنْهَا وَهِيَ عَاقِلَةٌ فانقضت مدة الإيلاء وقد جنت، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بفيئه ولا طلاق؛ لأن المطالبة حق لها يرجع فيها إلى شهرتها فِي الْعَفْوِ عَنْهُ أَوِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا مَعَ الْجُنُونِ مطالبةٌ وَلَا لِلْوَلِيِّ فِيهِ مُدْخَلٌ فَيُطَالِبُ لَكِنْ يُقَالُ لِلزَّوْجِ يَنْبَغِي لَكَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْكَ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا فَتَفِيءُ أَوْ تطلق ليكون خَارِجًا مِنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ أَنْ لَوْ كَانَتْ مطالبته حتى لا تكون مرتهناً بحق بقدر عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن قذفها أو انتفى من ولدها قيل له إن أردت أن تنفي وَلَدِهَا فَالْتَعِنْ فَإِذَا الْتَعَنَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَنُفِيَ عنه الولد فإن أكذب نفسه لحق به الولد ولم يعزر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمَجْنُونَةَ بِالزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةٍ) {النور: 4) وَالْمُحْصَنَةُ الْكَامِلَةُ بِالْعَقْلِ وَالْعَفَافِ؛ ولأن حد القذف يجب للحوق المعرة بالمقذوفة، وَالْمَجْنُونَةُ لَا يَلْحَقُهَا بِالزِّنَا عَارٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تفرق بين القبيح والحسن ولا بين المبارح والمحذور؛ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ فِي مُقَابَلَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَالْمَجْنُونَةُ لَوْ ثَبَتَ زِنَاهَا لَمْ تُحَدَّ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى قَاذِفِهَا

(9/134)


حد فإن لم يرد الزوج، أم يُلَاعِنَ فَلَا يُقَالُ وَإِنْ أَرَادَ اللِّعَانَ لَمْ يَخْلُ حَالُ زَوْجَتِهِ الْمَجْنُونَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَلَدٍ أَوْ خَلِيَّةً مَنْ وَلَدٍ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ كَانَ له أن يلاعن منها ليبقى بِاللِّعَانِ وَلَدَهَا فَإِذَا لَاعَنَ انْتَفَى عَنْهُ الْوَلَدُ ووقعت الفرقة بينهما على التأييد، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَفِي جَوَازِ اللعان فيما وجهان:
أحدهما: يلاعن لتستفيد بِلِعَانِهِ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يلاعن؛ لأن معقود اللِّعَانِ دَرَأُ الْحَدِّ وَنَفِيُ الْوَلَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ وَقَدْ عَدَمَ الْوَلَدَ وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا حَدٌّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ فَلَوْ عَادَ هَذَا الزَّوْجُ بَعْدَ نَفْيِ الْوَلَدِ بِلِعَانِهِ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يَزَلِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ حَقٌّ عَلَيْهِ وَزَوَالَ التَّحْرِيمِ حَقٌّ لَهُ ومن أقر بما عليه لزمه ومه أقر بماله لم يقبل منه، فأما تعزيره بَعْدَ رُجُوعِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا: لَمْ يُعَزَّرْ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُعَزَّرُ وَلَيْسَ هذا على اختلاف قولين، وَإِنَّمَا التَّعْزِيرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَعْزِيرُ قَذْفٍ.
وَالثَّانِي: تَعْزِيرُ أَذَى.
فَأَمَّا تَعْزِيرُ الْقَذْفِ: فَهُوَ في قذف من لم تكمل حَالُهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ كَالْكُفَّارِ وَالْعَبِيدِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ فِي قَذْفِهِمْ حَدٌّ لَكِنْ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ بَدَلًا مِنَ الْحَدِّ وَيَكُونُ حقاً للمقذوف يرجع إلى خياره في استيفائه أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُ.
وَأَمَّا تَعْزِيرُ الْأَذَى: فَهُوَ فِي قَذْفِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ فَهَذَا التَّعْزِيرُ فِيهِ لِمَكَانِ الْأَذَى يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ إِنْ رَأَى، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَعْزِيرِ الْقَذْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ هَذَا وَإِبَاحَةُ ذَاكَ.
وَالثَّانِي: رَدُّ هَذَا إِلَى خِيَارِ الْمَقْذُوفِ، ورد ذاك إِلَى الْإِمَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا لَمْ يُعَزَّرْ مَحْمُولًا على تعزير الأذى والله أعلم.

مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّبِيَّةَ عَبْدًا ولا غير كفؤٍ وَلَا مَجْنُونًا وَلَا مَخْبُولًا وَلَا مَجْذُومًا وَلَا أبرص ولا مجبوناً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
عَلَى الْأَبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْحَظَّ لَهَا فِي اخْتِيَارِ الْأَزْوَاجِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ عَبْدًا، وَلَا مُدَبَّرًا، وَلَا مُكَاتَبًا، وَلَا مَنْ فيه جزء من الرق وإن قل لنقصهم بالرق عن حال الأحرار، ولا يزوجها عبر كفء لما يحلقها مِنَ الْعَارِ وَلَا يُزَوِّجَهَا مَجْنُونًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا، وَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا وَلَا يُزَوِّجَهَا مَخْبُولًا، وَالْمَخْبُولُ هُوَ الزَّائِلُ الْعَقْلِ كَالْمَجْنُونِ إِلَّا أن المجنون هو المجند الذي لا يؤمن عداؤه والمخبول هو

(9/135)


السَّاكِنُ الْمَأْمُونُ الْعَدْوَى، وَلَا يُزَوِّجَهَا مَجْذُومًا، وَلَا أَبْرَصَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَعَافُهُمَا وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُمَا عَدْوَى إِلَيْهَا وَإِلَى الْوَلَدِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فِرُّوا مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكُمْ مِنَ الْأَسَدِ ".
وَلَا يُزَوِّجَهَا خَصِيًّا وَلَا مَجْبُوبًا لِنَقْصِهِمَا بالخصا، وَالْجَبِّ عَنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا تَزْوِيجُ بِنْتِهِ الْكَبِيرَةِ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَيَجِبُ اسْتِئْذَانُهَا فَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِيهِمْ وَأَعْلَمَهَا بِهِمْ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِيهِمْ لَمْ يَجُزْ وَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِيهِمْ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عَنْ إِذْنٍ كَالثَّيِّبِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ استئذانها يجب وأشبهت الصَّغِيرَةَ.
فَصْلٌ
فَإِنْ زَوَّجَ بِنْتَهُ بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ، وَكَانَتْ هِيَ مِنْ ذَوَاتِ هذه العيوب فعلى ضربين:
أحدهما: أن يختلف عيبهما أن يكون الزوج مجذوماً وهي برصاء. أو مجنوناً وهي رتقاء فلم يجز.
والضرب الثاني: أن يتماثل عيبهما فَيَكُونَا مَجْنُونَيْنِ أَوْ أَبْرَصِيْنِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ لِتَكَافُئِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعَافُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا يَعَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ يُؤَمَنُ الْمَجْنُونُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُؤَمَنُ عَلَى غَيْرِهِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَزَوَّجَ بِنْتَهُ بِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنَّ يُزَوِّجَهَا بِهِ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِمْ عَالِمًا بِعُيُوبِهِمْ فَالنِّكَاحُ باطل، لأنه أقدم على عقد هو مَمْنُوعٌ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِعُيُوبِهِمْ وَنَقْصِهِمْ فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: باطل لما ذكرنا.
والثاني: جائز ويستحق فيه خِيَارُ الْفَسْخِ، لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ مَا يَرَاهُ مَعِيبًا بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ ولكن يوجب خيار الفسخ، فعلى هذا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهَا إِذَا بَلَغَتْ، فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْسَخَ لِيَسْتَدْرِكَ بِالْفَسْخِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ موقوفاً على خيارها إذا بلغت فيه؛ لِأَنَّ لَهَا فِي الْعَقْدِ حَقًا فَلَمْ يَكُنْ للأب تفويته عليها بفسخه.

(9/136)


مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكْرِهَ أَمَتَهُ عَلَى واحدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بنكاحٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ أَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ لِيَكْتَسِبَ بِذَلِكَ الْمَهْرَ، وَالنَّفَقَةَ، وَلَا يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى نِكَاحِهَا إِذَا طَلَبَتْ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ وَإِذَا كَانَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى نِكَاحِ مَجْنُونٍ، وَلَا مَجْذُومٍ وَلَا أَبْرَصَ، وَلَا مَجْبُوبٍ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ حق الِاسْتِمْتَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِحَقِّ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ دُونَ السَّيِّدِ، وَاسْتِمْتَاعُهَا بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَوِي النَّقْصِ وَالْعُيُوبِ لَا يَكْمُلُ لِنُفُورِ النَّفْسِ عَنْهُمْ فَمُنِعَ السَّيِّدُ مِنْ تَزْوِيجِهَا بِهِمْ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِهِ وَكَذَلِكَ بِمَنْ لَا يُكَافِئُ الْحُرَّةَ فِي حَالٍ أَوْ نَسَبٍ لِكَمَالِ استمتاعها بهم مع كونهم أكفأها فَإِنْ خَالَفَ السَّيِّدُ وَزَوَّجَهَا بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَوِي النَّقْصِ وَالْعُيُوبِ فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْفَسْخُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَرْدُودٌ إِلَى خِيَارِهَا فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ بَيْعَهَا عَلَى مَجْنُونٍ ومجذوم وأبرص ومجبوب فله ذاك وَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ: أَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ فَأَثَّرَ فِيهِ مَا مَنَعَ مِنْهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ مَنْ لَا يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي الْبَيْعِ إِلَّا الْمِلْكُ دُونَ الاستمتاع ولذلك جاز ملك من لا يحل مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ فَجَازَ لَهُ بَيْعُهَا عَلَى من لا يقدر على الاستمتاع بها كَمَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا عَلَى امْرَأَةٍ وَلِهَذَا المعنى قلنا في الأمة إن لهذا الْقَسْمَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ وَلَيْسَ لَهَا فِي الْمَالِ قَسَمٌ عَلَى السَّيِّدِ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَلَا يُزَوِّجَ أحدٌ أَحَدًا مِمَّنْ بِهِ إِحْدَى هَذِهِ الْعِلَلِ وَلَا مَنْ لَا يُطَاقُ جِمَاعُهَا وَلَا أَمَةٌ لِأَنَّهُ مِمَنْ لَا يَخَافُ الْعَنَتَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ الْأَبِ وَالسَّيِّدِ مِنْ تَزْوِيجِ بِنْتِهِ وأمته بمن ذكرنا عيبه يمنع السيد أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ وَعَبْدَهُ بِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَجْنُونَةٍ وَلَا من بِهِ الْعُيُوبُ الَّتِي ذَكَرْنَا لِتَعَذُّرِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهِنَّ وَعَدَمِ الْحَظِّ لَهُ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُهُ بِأَمَةٍ يَسْتَرِقُّ وَلَدُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ إِلَّا لِخَوْفِ الْعَنَتِ وَهُوَ مَأْمُونٌ فِي الصَّغِيرِ فَإِنْ زَوَّجَهُ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ.
وَفِي الْفَسْخِ وَجْهَانِ:

(9/137)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى الْأَبِ تَعْجِيلَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ موقوف على اختيار الِابْنِ إِذَا بَلَغَ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا الْعَبْدُ فَهَلْ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ إِجْبَاره؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَلَاذِهِ وَشَهَوَاتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ إِجْبَارُهُ كَمَا يُجْبِرُ أَمَتَهُ وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ بِأَنَّ لَهُ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ اكْتِسَابَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَعَلَيْهِ فِي تَزْوِيجِ العبد الترام الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَافْتَرَقَا، وَإِذَا جُوِّزَ لَهُ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنَّ يُكْرِهَهُ عَلَى نِكَاحِ مَنْ بِهَا أَحَدُ هَذِهِ العيوب لنفور النفس عنهم وتعذر اسْتِمْتَاعِهِ بِهِنَّ وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِالْأَمَةِ لِأَنَّهَا تُكَافِئُهُ، وَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي نِكَاحِهِ بِهَا عيب ليس منه، وَهَلْ لِلْأَبِ وَالسَّيِّدِ إِذَا كَانَ فِي ابْنِهِ وَعَبْدِهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِمَنْ يُسَاوِيهِ فِي الْعُيُوبِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُنْكِحُ أَمَةَ الْمَرْأَةِ وَلَيُّهَا بِإِذْنِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَمَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا بِنَفْسِهَا حَتَّى يأذن لوَلِيُّهَا فِي تَزْوِيجِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ لَهَا تَزْوِيجَ نَفْسِهَا فَجَازَ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أحد أمرين:
إما أن تكون بالغة، أَوْ صَغِيرَةً فَإِنْ كَانَتْ أَعْنِي هَذِهِ السَّيِّدَةَ بالغة رَشِيدَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا وَسَوَاءً كَانَتِ السَّيِّدَةُ بِكْرًا، أَوْ ثَيِّبًا، وَسَوَاءً كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ عَصَبَةً مِمَّنْ يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ لأن هذا تصرف فِي مَالِهَا وَهِيَ رَشِيدَةٌ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، فَإِذَا أَذِنَتْ لِوَلِيِّهَا الَّذِي هُوَ أَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِنِكَاحِهَا فِي تَزْوِيجِ أَمَتِهَا جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ مُنَاسِبٌ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهَا وَلَا يُرَاعَى إِذْنُ الْأَمَةِ مَعَ إِذْنِ السَّيِّدَةِ، لِأَنَّ الأمة تخبر عَلَى النِّكَاحِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهَا فِيهِ.
فَصْلٌ
فإن كَانَتِ السَّيِّدَةُ صَغِيرَةً غَيْرَ بَالِغَةٍ: لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا سِوَى الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُ أَمَتِهَا، وَفِي جَوَازِهِ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وأبي سعيد الْإِصْطَخْرِيِّ - يَجُوزُ لَهُمَا تَزْوِيجُهَا كَمَا يُزَوِّجَانِ سَيِّدَتَهَا مع ما فيه من اكتساب المهر لها وَالنَّفَقَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمَا تَزْوِيجُهَا حَتَّى تُبَلَّغَ السَّيِّدَةُ فَتَأْذَنُ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مُفْضٍ إِلَى نُقْصَانِ ثَمَنِهَا، وَرُبَّمَا أَدَّى الْحَبَلُ إِلَى تَلَفِهَا، وَذَلِكَ ضَرَرٌ يُمْنَعُ مِنْهُ، وَهَلْ لِلْأَبِ إِذَا كَانَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَمَةٌ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اعتباراً بما ذكرنا من تعليلهما.
فصل
فأما إِذَا كَانَ لَهُمَا عَبْدٌ فَأَذِنَتْ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ يُمْنَعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، وَفِي الْمُتَوَلِّي لِتَزْوِيجِهِ وَجْهَانِ:

(9/138)


أَحَدُهُمَا: وَلِيُّهَا فِي النِّكَاحِ كَالْأَمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَنْ تَأْذَنُ لَهُ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ وَلِيَّ النِّكَاحِ يُرَاعَى فِي الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، وَإِنْ كان العبد بَالِغًا فَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِإِذْنِهَا وَحْدَهَا كَالسَّيِّدِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ وَلَيُّهَا فَيَجُوزُ لَهُ بِاجْتِمَاعِ الْإِذْنَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ؛ لِأَنَّ إِذْنَ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنَ النِّكَاحِ بِحَقِّ الْمِلْكِ فَاسْتَوَى إِذْنُ المالك والمالكة كسائر الأموال.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَمَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ممنوعةٌ مِنَ السَّيِّدِ حَتَى يَقْضِيَ دَيْنًا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَيَحْدُثَ لَهُ حَجْرًا ثُمَّ هِيَ أَمَتُهُ ولو أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يُزَوِّجَهَا دُونَ الْعَبْدِ أَوِ الْعَبْدُ دُونَ السَّيِّدِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لواحدٍ مِنْهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَالْمَرْهُونِ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ دُيُونِ مُعَامَلَاتِهِ لِضَعْفِ ذِمَّتِهِ بِالرِّقِّ، فَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مستحقاً في ديونه، ولم اشْتَرَى أَمَةً مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ للعبد وطئها بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُهَا، فَأَمَّا السَّيِّدُ إذا أراد وطئها فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مِنْ مُعَامَلَاتِهِ فَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا لِتَعَلُّقِ دَيْنِهِ بِهَا كَمَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ الْمَرْهُونَةِ لِمَا يُفْضِي إليها وطئها مِنَ الْإِحْبَالِ الَّذِي رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ وكذلك يمنع من تزويجها لإفضائه إِلَى نُقْصَانِ ثَمَنِهَا، وَسَوَاءً كَانَ الدَّيْنُ الْبَاقِي مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ مِنْ ثَمَنِ غَيْرِهَا إِلَّا أن يكون من قيمة متلف فتعلق بِرَقَبَتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ فَإِنْ قَضَى الْعَبْدُ جَمِيعَ دُيُونِهِ أَوْ قَضَاهَا السَّيِّدُ عنه فهذا على ضربين:
أحدهما: أن العبد السيد أن يعبد الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ التِّجَارَةِ فَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ حينئذٍ أَنْ يَطَأَ الْأَمَةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْعَبْدُ، وَأَنْ يُزَوِّجَهَا إِنْ شَاءَ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ النِّيَابَةِ عَنْ غَيْرِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ ففي تزويج وَطْءِ السَّيِّدِ لَهَا وَتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْأَصَحُّ يَجُوزُ لَهُ لِزَوَالِ مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ حَقٍّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَؤمَنُ أَنْ يَغْتَرَّ النَّاسُ بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ فَيُعَامِلُونَهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ حَتَّى يتعلق الحجر ويظهر الرجوع.

(9/139)


مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ بحالًٍ وَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى تزويجها لم يجز ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ ولاية النكاح على أحد من مناسبيه لِنَقْصِهِ بِالرِّقِّ. فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وِلَايَةَ نَفْسِهِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوِلَايَةَ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُدْبِرُ، وَالْمُكَاتِبُ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عليهم جارية وتنتقل الولاية عنه إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ نَسَبًا مِنَ الْأَحْرَارِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ وَمَنْ ذكرنا وَكِيلًا نَائِبًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ وعلى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا نائباً على الولي في البذل ومن الزَّوْجِ فِي الْقَبُولِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطِّيبِ بن سلمة.
والوجه الثاني: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ عَنِ الْوَلِيِّ الْبَذْلِ وَلَا عَنِ الزَّوْجِ فِي الْقَبُولِ، وَقَدْ مَضَى تَعْلِيلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ عَنِ الْوَلِيِّ في البذل، ويجوز أن ينوب فيه عَنِ الزَّوْجِ فِي الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ وِلَايَةٌ وَمِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ وَكَالَةٌ، وَالْعَبْدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَلَوِ اجتمعا على تزوجها لَمْ يَجُزْ " فَيَعْنِي أَنَّ السَّيِّدَ وَالْعَبْدَ لَوِ اجْتَمَعَا عَلَى تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْعَبْدُ قَبْلَ قَضَاءِ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ وَلَيْسَ لِاجْتِمَاعِ الْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ قُوَّةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا السَّيِّدُ تزويج الأمة ما لا يستحقه بانفراده.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " في باب الخيار من قبل النسب لو انتسب العبد لها أنه حر فَنَكَحَتْهُ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ ثُمَّ عَلِمَتْ أنه عبدٌ أو انتسب إِلَى نسبٍ وُجِدَ دُونَهُ وَهِيَ فَوْقَهُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ لِأَنَّهُ منكوحٌ بِعَيْنِهِ وَغَرَّرَ بشيءٍ وُجِدَ دُونَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ مفسوخٌ كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي رجلٍ بعينه فزوجت غيره (قال المزني) رحمه الله قد قطع أنه لو وجد دون ما انتسب إليه وهو كفؤٌ لم يكن لها ولا لوليها الخيار وفي ذلك إبطال أن يكون في معنى من أذنت له في رجلٍ بعينه فزوجت غيره فقد بطل الفسخ في قياس قوله وثبت لها الخيار ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ رَجَلًا على أنه حر فكان عبداً فإن نكاح بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ نَكَحَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ نُظِرَ فِي الشَّرْطِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَقْدِ وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ فَفِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ قَوْلَانِ: وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ عَلَى أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ شَرِيفٍ كَهَاشِمِيٍّ، أَوْ قُرَشِيٍّ فَكَانَ غير ذي نسب أعجمياً أَوْ نَبَطِيًّا وَكَانَ الشَّرْطُ مُتَقَارِبًا لِلْعَقْدِ فَفِي النكاح قولان وهكذا لو تزوجه عَلَى أَنَّهُ شَابٌّ فَكَانَ شَيْخًا أَوْ

(9/140)


عَلَى أَنَّهُ طَوِيلٌ فَكَانَ قَصِيرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ جَمِيلٌ فَكَانَ قَبِيحًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَبْيَضُ فَكَانَ أَسْوَدَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فَكَانَ فَقِيرًا، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ، وَهَكَذَا لَوْ نَكَحَهَا عَلَى شَرْطٍ أَدْنَى فَكَانَ أَعْلَى، مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ عَبَدٌ فَكَانَ حُرًّا أو على قبطي فَكَانَ عَرَبِيًّا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ شَيْخٌ فَكَانَ شَابًّا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ قَصِيرٌ فَكَانَ طَوِيلًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ قَبِيحٌ فَكَانَ جَمِيلًا، أَوْ عَلَى ضِدِّ مَا ذَكَرْنَا؛ فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ إِذَا وُجِدَ زَائِدًا عَلَيْهِ كَحُكْمِهِ إِذَا وُجِدَ نَاقِصًا عَنْهُ، وَسَوَاءً كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُرِّيَّةِ أَوْ فِي النَّسَبِ أَوْ فِي الصفة أو في عَقْدِ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصِّفَةَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ تَجْرِي مَجْرَى الْعَيْنِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لِجَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ الْعَيْنَ، وَأنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِفَةِ الْعَيْنِ حتى تشاهد تِلْكَ الْعَيْنُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ خِلَافُ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ، جارٍ فِي إِبْطَالِ النِّكَاحِ مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ فِي الْبَيْعِ فِي إِبْطَالِ الْبَيْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِذْنَ الْمَرْأَةَ فِي نِكَاحِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَتَكُونُ بِخِلَافِهَا فَجَرَى مَجْرَى إِذْنِهَا لوليها أن يزوجها من هو على هذه الصفة فيزوجها من هو على خلافها، ولو كان هكذا لكان النكاح باطلاً فكذلك في مسألتنا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صِفَاتٌ لَا يَفْتَقِرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ إِلَى ذِكْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ النِّكَاحُ بِخِلَافِهَا كَالصَّدَاقِ إِذَا وُصِفَ فَكَانَ بِخِلَافِ صِفَتِهِ.
وَالثَّانِي: أنه منكوح بعينه وعزر بِشَيْءٍ وُجِدَ دُونَهُ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُ تَدْلِيسًا يُنْقِصُ، وَتَدْلِيسُ الْعُيُوبِ فِي الْعُقُودِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلَا يُوجِبُ الْفَسْخَ كَالْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ كَذَلِكَ النِّكَاحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بالأول فإن النِّكَاحَ بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كان قَدْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَالْوَلَدُ لا حق بِهِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنِ النِّكَاحَ جائز فكان قد شَرَطَتْهُ حُرًّا فَكَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ سَوَاءً كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً لِنَقْصِهِ فِي النِّكَاحِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُرِّ، لِأَنَّ اسْتِمْتَاعَهَا بِهِ غَيْرُ تَامٍّ لِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، وَنَفَقَتَهُ نفقة معتبر لأجل رقه، فإن أقامت عَلَى نِكَاحِهِ فَلَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ فَسَخَتْ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ فَهَذَا حُكْمُ غُرُورِهِ لَهَا بِالْحُرِّيَّةِ، فَأَمَّا إِذَا غَرَّهَا بِالنَّسَبِ فَشَرَطَ لَهَا أَنَّهُ شريف النسب هاشمي، وقرشي فَبَانَ أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ أَوْ نَبَطِيٌّ نُظِرَ فِي نسبهما فَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةً مِثْلَ النَّسَبِ الَّذِي شَرَطَتْهُ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ، ثُمَّ الْكَلَامُ

(9/141)


فِي الْمَهْرِ إِنْ أَقَامَتْ أَوْ فَسَخَتْ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ دُونَ النَّسَبِ الَّذِي شَرَطَتْهُ وَمِثْلَ النَّسَبِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ أَوْ دُونَهُ فَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا الْخِيَارُ لمكان الشرط وأن لها عوضاً في كون ولدها إذا نسب شريفاً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ خِيَارَهَا يَثْبُتُ بِدُخُولِ النَّقْصِ عَلَيْهَا، وَهَذَا كُفْءٌ فِي النَّسَبِ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا بِهِ نَقْصٌ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا فِيهِ خِيَارٌ.
فَأَمَّا إِذَا غَرَّهَا بما سوى ذلك من الشروط نظر، فإذا بان أنه على مِمَّا شَرَطَ فَلَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالنُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ أَنْقَصَ مِمَّا شَرَطَ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا الْخِيَارُ لِأَجْلِ الشَّرْطِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا خيار؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مَنْ شَرَطَ هَذَا " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَ: " مَنْ أسقط خيارها " معناه أنها ظلمت نفسها باشراط مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا فِيهِ خِيَارٌ، وَقَدْ كانت تستغني بالمشاهدة على اشْتِرَاطِهِ وَقَالَ: " مَنْ أَثْبَتَ خِيَارَهَا " إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ، وَإنَّهَا ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِمَا شَرَطَتْهُ مِنْ نُقْصَانِ أَحْوَالِهِ وَأَوْصَافِهِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا نَكَحَتْ نِكَاحًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لَكِنِ اعْتَقَدَتْ فِيهِ كَمَالَ الْأَحْوَالِ فَبَانَ بِخِلَافِهَا مِنْ نُقْصَانِ الْأَحْوَالِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن يكون نقصان أحواله غير كفء لها كأنها حُرَّةٌ وَهُوَ عَبْدٌ، أَوْ هَاشِمِيَّةٌ وَهُوَ نَبَطِيٌّ، أَوْ غَنِيَّةٌ وَهُوَ فَقِيرٌ فَلَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ نكاح غير الكفء لا يلزم إلا بالمعلم وَالرِّضَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَ نُقْصَانِ أحواله كفؤاً لَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي غَيْرِ الرِّقِّ، وَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ فِي رِقِّهِ إِذَا وَجَدَتْهُ عَبْدًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لها؛ لأن كونه كفؤاً لها يمنع مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ وَالْعَارِ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لها؛ لأن نقص الرق مؤتمر في حقوق النكاح بما لِسَيِّدِهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْهَا بِخِدْمَتِهِ وَإِخْرَاجِهِ فِي سفره وأنه لا يلزم لَهَا إِلَّا نَفَقَةُ مُعْسِرٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ بنسبٍ فَوَجَدَهَا دونه ففيها قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا إِنْ شَاءَ فَسَخَ بِلَا مَهْرٍ وَلَا متعةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا. وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً لِأَنَّ بِيَدِهِ طَلَاقَهَا وَلَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعَارِ مَا يَلْزَمُهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله قد جعل له الخيار إذا غرته فوجدها أمةً كما جعل لها الخيار إذا غرها فوجدته عبداً فجعل معناهما في الخيار بالغرور واحداً ولم

(9/142)


يلتفت إلى أن الطلاق إليه ولا إلى أن لا عار فيها عليه وكما جعل لها الخيار بالغرور في نقص النسب عنها وجعله لها في العبد فقياسه أن يجعل له الخيار بالغرور في نقص النسب عنه كما جعله له في الأمة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى غَرُورُ الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ فَأَمَّا غَرُورُ الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شَرْطٍ فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ فَيَنْقَسِمُ الشَّرْطُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْحُرِّيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي النَّسَبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي الصِّفَةِ.
فَأَمَّا الشَّرْطُ فِي الْحُرِّيَّةِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَكُونُ أَمَةً، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ ممن لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ بِأَنْ يَكُونَ وجداً لِلطَّوْلِ أَوْ غَيْرَ خَائِفٍ لَلَعَنَتِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لأنه نِكَاحُ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون الزوج ممن لا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ فِيهِ مِنْ عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ فَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ قَدْ نَكَحَتْهُ بِغَيْرِ إِذَنْ سيدها فالنكاح باطل.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ تَنْكِحَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا، فَلِلشَّرْطِ حَالَتَانِ:
إحداهما: أن يكون مقارناً للعقد.
والثاني: غَيْرَ مُقَارَنٍ.
فَإِنْ لَمْ يُقَارِنِ الْعَقْدَ بَلْ تقدمه أم تَأَخَّرَ عَنْهُ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَخْلُو الْغَارُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّيِّدَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كان الغار هو السيد فقال الزوج عند عقده: هي حرة قد عَتَقَتْ بِقَوْلِهِ هَذَا وَصَارَ الزَّوْجُ بِهَذَا الْغَرُورِ عَاقِدًا عَلَى حُرَّةٍ فَصَحَّ نِكَاحُهَا، وَهِيَ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا كَالْحُرَّةِ وَإِنْ كَانَ الْغَارُّ غَيْرَ السَّيِّدِ فَهِيَ حينئذٍ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فِي الْغَرُورِ بِاسْتِكْمَالِ مَا فَصَّلْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قَدْ نَكَحَتْ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْغَارُّ غَيْرَ السَّيِّدِ فَيَكُونُ فِي النِّكَاحِ حينئذٍ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جائز.

(9/143)


وَتَوْجِيهُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ غَرُورِ الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا يَكُونُ لِلْعَقْدِ تَأْثِيرٌ فِي لُزُومِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ دخل الزوج بها فرق بينهما لِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قد أحبلها.
والثاني: أَنْ تَكُونَ حَائِلًا لَمْ تَحْبَلْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْبَلَهَا تَعَلَّقَ بِدُخُولِهِ بِهَا حُكْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ لِلسَّيِّدِ مُهْرَ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ مَا سُمِّيَ فِيهِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا لِبُضْعِهَا لشبهة فَلَزِمَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا؛ لأنها إصابة توجب لُحُوقَ النَّسَبِ فَأَوْجَبَتِ الْعِدَّةَ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ الَّذِي تَسْتَحِقُّ به النفقة؛ فإذا غرم الزَّوْجُ بِالْإِصَابَةِ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ؛ لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَى غُرْمِهِ فَصَارَ كَالشَّاهِدِ إِذَا أوْجَبَ بِشَهَادَتِهِ غُرْمًا ثُمَّ رَجَعَ عنها لزمه غرم أَغْرَمَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعِهِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ مِنْ غُرْمٍ إِمَّا الْمُسَمَّى إِنْ صَحَّ الْعَقْدُ أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ فَسَدَ، فَإِذَا قُلْنَا لَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غره تفرد بإلزامه لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْلَ غُرْمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُبَرِّئَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ كَالضَّامِنِ إِذَا أُبْرِئُ مِنَ الضَّمَانِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَإِنْ أَغْرَمَهُ السَّيِّدُ الْمَهْرَ رَجَعَ بِهِ الزَّوْجُ حينئذٍ على من غيره وَمَنْ يُؤَثِّرُ غُرُورُهُ اثْنَانِ الْأَمَةُ وَوَكِيلُ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ غَرَّهُ لَعَتَقَتْ وَإِنْ غَرَّهُ أَجْنَبِيٌّ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فِي الْعَقْدِ تأثيرٌ فَإِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ هِيَ الْغَارَّةَ كَانَ الْغُرْمُ في ذمتها إذا أعتقت وأسرت إذنه وِإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الْغَارَّ أُغْرِمَ فِي الحال إن كان موسراً وأنظر به إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ أَحْبَلَهَا فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا مُدَّةَ حَمْلِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قيل: إن نفقة الحامل لحملها لَا لَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا قِيلَ: إِنْ نَفَقَةَ الْحَامِلِ لَهَا لَا لحملها، فإذا وضعت تعلق بمولدها ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: لُحُوقُهُ بِالزَّوْجِ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: كَوْنُهُ حُرًّا مِنْ حِينِ عُلُوقِهِ؛ لِأَنَّ اشتراط حريتها يتضمن حرية ولدها، لأن الْحُرَّةَ لَا تَلِدُ إِلَّا حُرًّا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تغرم للسيد قيمة ولدها يوم وضعته؛ لأن ولد الأمة مملوكاً لِسَيِّدِهَا وَقَدْ صَارَ الزَّوْجُ مُسْتَهْلَكًا لِرِقِّهِ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ عِتْقِهِ فَلَزِمَهُ غُرْمُ قِيمَتِهِ وَاعْتَبَرْنَاهَا يَوْمَ وَضْعِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَتَقَ وَقْتَ علوقه؛ لأنه لا يقوم إِلَّا بَعْدَ الْوَضْعِ، فَإِذَا غَرِمَ الزَّوْجُ قِيمَةَ الولد رجع بها على من غيره قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ فِي رُجُوعِهِ بِالْمَهْرِ قولان.

(9/144)


وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ مُسْتَحَقٌّ فِي نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُرْجَعُ بِهِ فِي الْغَرُورِ بِالْأَمَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قِيمَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا فِي وَلَدِ الْأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ فَصَارَ الْغَرُورُ هُوَ الْمُوجِبَ لِغُرْمِهِ فَلِذَلِكَ رَجَعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ قَوْلًا وَاحِدًا فصار وطئها وَإِحْبَالُهَا مُوجِبًا لِخَمْسَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: الْعِدَّةُ.
وَالثَّالِثُ: لُحُوقُ الْوَلَدِ.
وَالرَّابِعُ: حُرِّيَّتُهُ.
والخامس: غرم قيمته.
فهذا إذا قيل بطلان النِّكَاحِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَهَلْ لِلزَّوْجِ فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ، ولم يحك القولين في أصل النكاح بل اكتفى بما حكاه في غرور النكاح:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ بِالْغَرُورِ وَإِنْ ثَبَتَ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ بِالْغَرُورِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى طَلَاقِهَا ولا يلحق مِنَ الْعَارِ مَا يَلْحَقُهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ لِإِحْدَى عِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ مَا أَوْجَبَ لِلزَّوْجَةِ خِيَارَ الْفَسْخِ أَوْجَبَهُ لِلزَّوْجِ كَعُيُوبِ الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِيَدِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْغَرُورِ.
وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ من نقص استرقاق وَلَدِهِ وَنُقْصَانِ اسْتِمْتَاعِهِ، فَإِذَا قُلْنَا لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ فَاخْتَارَ الْفَسْخَ كَانَ حُكْمُهُ بَعْدَ الْفَسْخِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِذَا قِيلَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَلَمْ يُحَبِّلْهَا تَعَلَّقَ بِدُخُولِهِ حُكْمَانِ: مَهْرُ الْمِثْلِ، وَالْعِدَّةُ، وَإِنْ أَحَبَلَهَا تَعَلَّقَ بِإِحْبَالِهِ لَهَا مَعَ حُكْمَيِ الدُّخُولِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: لُحُوقُ الْوَلَدِ، وَحُرِّيَّتُهُ، وَغُرْمُ قِيمَتِهِ وَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَتِهِ، وَفِي رجوعه بما غرمه مِنَ الْمَهْرِ قَوْلَانِ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ وَلَمْ يَخْتَرِ الْفَسْخَ، وَقُلْنَا: لَيْسَ لَهُ خِيَارٌ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَيَكُونُ أَوْلَادُهُ الَّذِينَ عَلَقَتْ بِهِمْ قَبْلَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا أَحْرَارًا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ، وَمَنْ عَلَقَتْ بِهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا مَمَالِيكُ لِلسَّيِّدِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ عَرَبِيًّا وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا، فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - يكونون أَحْرَارًا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ، وَمَنْ عَلَقَتْ بِهِمْ بَعْدَ علمه برقها مماليك للسيد؛ لأن لا يَجْرِيَ عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ، وَالرِّقُّ أَعْظَمُ صَغَارٍ.
والقول الثاني: يكونون مماليكاً لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَمِيعِ واحد وتميز من علقت به قبل العلم برقها معتبر بمدة الوضع، فمن وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ علمه

(9/145)


فالعلوق بِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَيَكُونُ حُرًّا، وَمَنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَالْعُلُوقُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ بَعْدَ الْعِلْمِ اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْحَمْلِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ غَرُورُ الزَّوْجِ بِالْحُرِّيَّةِ.

فَصْلٌ: الْقَوْلُ في غرور الزوج بالنسب
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ غَرُورُ الزَّوْجِ بِالنَّسَبِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا هَاشِمِيَّةٌ فَتَكُونُ عَرَبِيَّةً، أَوْ عَلَى أَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَتَكُونُ نَبَطِيَّةً أَوْ أَعْجَمِيَّةً، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ.
فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ لِلْعَقْدِ تَأْثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَهَلْ يَرْجِعُ به على من غره م لا؟ على قولين.
أحدهما: يَرْجِعُ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَهُوَ أحد ثلاثة: إِمَّا الْوَلِيُّ، أَوْ وَكِيلُهُ، أَوِ الزَّوْجَةُ فَإِنْ كان الولي أو وكيله هو الغار رجع عليه بعد الغرم لجميع الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْغَارَّةَ فَفِيهِ وجهان:
أحدهما: يرجع عليهما بِجَمِيعِهِ أَيْضًا كَمَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْوَكِيلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتْرُكُ عَلَيْهَا مِنْهُ يَسِيرًا، وأقله أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِبَاقِيهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَبِيحًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ بَذْلٍ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَدْ رجع المهر إليهما رَجَعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَتَرَكَ عليهما مِنْهُ قَدْرَ أَقَلِّ الْمُهُورِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا فَلَا مَعْنَى، لِأَنْ يَدْفَعَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا ثُمَّ يَسْتَرْجِعُهُ فَلَا يَدْفَعُ إِلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا وَيَدْفَعُ إِلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قَدْرَ أَقَلِّ الْمُهُورِ، وَسَوَاءً فِي إِصَابَةِ هَذِهِ الْغَارَّةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْبَلَهَا أَوْ لَمْ يُحَبِلْهَا فِي أن ولدها إذا ألحق به لم يلزمه غرم، لأنه لم يجز عَلَيْهِ رِقٌّ.
فَصْلٌ
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ نُظِرَ فِي نَسَبِ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ مِثْلَ نَسَبِهَا الَّذِي ظَهَرَ لَهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ، لِأَنَّهُ لَا عَارَ عَلَيْهِ وَلَا مَعَرَّةَ تَلْحَقُهُ وَإِنْ كَانَ كَالنَّسَبِ الَّذِي شرطه وأعلا مِنَ النَّسَبِ الَّذِي ظَهَرَ لَهَا فَخِيَارُهُ فِي فسخه معتبر بخياره في غروره بالرق به وبالحرية وَتَعْلِيلِ اسْتِحْقَاقِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا خِيَارَ لَهُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالنَّسَبِ، وَإِنْ قِيلَ: لَهُ الْخِيَارُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالنَّسَبِ، مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْعِلَّةِ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي خِيَارِهِ إذا غر بالحرية أن

(9/146)


يثبت له خِيَارُ الْفَسْخِ مِثْلَ مَا ثَبَتَ لِلزَّوْجَةِ فَلَهُ فِي غَرُورِ النَّسَبِ خِيَارُ الْفَسْخِ كَمَا كَانَ للزوجة وإن قيل: إن العلة في الغروي بِالْحُرِّيَّةِ دُخُولُ النَّقْصِ عَلَيْهِ فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ وَنُقْصَانِ اسْتِمْتَاعِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْغُرُورِ بِالنَّسَبِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ نَقْصٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ وَلَدَهُ يَرْجِعُ إليه في نسبه لا إليهما، لِأَنَّ وَلَدَ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْعَجَمِيَّةِ عَرَبِيٌّ، وَوَلَدَ الْعَجَمِيِّ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ عَجَمِيٌّ، وَفِي كَشْفِ هَذَا التَّعْلِيلِ وَحَمْلِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ مُقْنِعٌ لِمَا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ، فَأَمَّا إِذَا غَرَّتْهُ بنسب فوجده، أَعْلَى مِنْهُ نُظِرَ فَإِنْ شَرَطَتْ أَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَكَانَتْ هَاشِمِيَّةً فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لِأَنَّ الْهَاشِمِيَّةَ عَرَبِيَّةٌ وَإِنِ ازْدَادَتْ شَرَفًا فَلَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ الْمَشْرُوطَةُ مُخَالِفَةً، وَإِنْ شَرَطَتْ أَنَّهَا نَبَطِيَّةٌ أو عجمية فكانت هاشمية أو عربية فالصفة مخالفة للشرط فَيَكُونُ النِّكَاحُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جائز فلا خِيَارَ لَهُ.

فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي غَرُورِ الزَّوْجِ بالصفة
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ غَرُورُ الزَّوْجِ بِالصِّفَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَتَكُونُ ثَيِّبًا أَوْ عَلَى أَنَّهَا شَابَّةٌ فَتَكُونُ عَجُوزًا، أَوْ عَلَى أَنَّهَا جَمِيلَةٌ فَتَكُونُ قَبِيحَةً إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الصِّفَاتِ، فَفِي النكاح قولان:
أحدهما: باطل، وإن لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَفِي رُجُوعِهِ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ قَوْلَانِ عَلَى مَا مضى في غرور النسب من اعتبار حال مَنْ غَرَّهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، فعلى هذا يكون خياره في غرورهما معتبر بِخِيَارِهَا فِي غَرُورِهِ، وَفِي خِيَارِهَا لَوْ غَرَّهَا الزَّوْجُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا خيار لها، فعلى هذا أولى أن يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا الْخِيَارُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِخِيَارِهِ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ إِذَا غُرَّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِعِلَّةِ الْخِيَارِ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ خِيَارِ الزَّوْجَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي نُقْصَانِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَمَا كَانَ للزوجة على هذا الوجه، وإن قيل: إنها تدخل النَّقْصَ عَلَيْهِ فِي رِقِّ الْوَلَدِ وَنُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ فلا خيار له هاهنا لعدم النقص فيهما، فأما إذا تزوجها على شرط فكان أَعْلَى مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا ثَيِّبٌ فَتَكُونُ بِكْرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهَا عَجُوزٌ فَتَكُونُ شَابَّةً، أَوْ عَلَى أَنَّهَا قَصِيرَةٌ فَتَكُونُ طَوِيلَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهَا قَبِيحَةٌ فَتَكُونُ جَمِيلَةً وما شاء كُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَفِي النِّكَاحِ أَيْضًا قَوْلَانِ:
أحدها: باطل

(9/147)


وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَظَنَّهَا عَلَى صِفَةٍ فكانت بِخِلَافِهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِيمَا سِوَى الرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَلَا خِيَارَ فِيهِ لِلزَّوْجِ فِيمَا سِوَى عُيُوبِ الْفَسْخِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالرَّتَقِ وَالْقَرَنِ، وأما الرق والكفر وهو أن يتزوجها ويظن أنها حرة فتكون أمة، ويظنها مسلمة فتكون كافرة، فإن كان مما لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلطَّوْلِ، أَوْ غَيْرُ خَائِفٍ لَلَعَنَتِ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لِمُسْلِمٍ كَالْوَثَنِيَّةِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يحل ممن لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِعَدَمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ ويحل له نكاح هذه الكافرة، ولأنها كِتَابِيَّةٌ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ وَصْفًا فَوَجَدَ خِلَافَهُ، فَأَمَّا الْخِيَارُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ: إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِهِ، وَقَالَ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ إنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي فَسْخِهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَقَلَ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وتخريجهما عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ فِي فسخ نكاح الأمة والكتابية على ما نص عليه، لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْأَمَةِ الَّتِي يسترق ولدها.
والقول الثاني: أنه لَهُ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ أَغْلَظُ حَالًا بِاسْتِرْقَاقِ وَلَدِهَا.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِأَصْحَابِنَا أَنْ حَمَلُوا جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ فِي نكاح الأمة خياراً أو جعلوا لَهُ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ خِيَارًا وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بأن لأهل الذمة غياراً يميزون به عن المسلمين فإذا خالوا صَارَ غَرُورًا فَثَبَتَ الْخِيَارُ فِي نِكَاحِهِمْ وَلَيْسَ للمملوكين خيار يتميزون به فلزمهم غُرُورٌ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ فِي مَنَاكِحِهِمْ - وَاللَّهُ أعلم -.

(9/148)


باب المرأة لا تلي عقدة النكاح
قال الشافعي رحمه الله: " قل بعض الناس زوجت عائشة ابنة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غَائِبٌ بالشام فقال عبد الرحمن ِأمثلي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ؟ (قَالَ) فَهَذَا يدل على أنها زوجتها بغير أمره قيل فكيف يكون أن عبد الرحمن وكل عائشة لفضل نظرها إن حدث حدثٌ أو رأت في مغيبه لابنته حظاً أن تزوجها احتياطاً ولم ير أنها تأمر بتزويجها إلا بعد مؤامرته ولكن تواطئ وتكتب إليه فلما فعلت قال هذا وإن كنت قد فوضت إليك فقد كان ينبغي أن لا تفتاتي علي وقد يجوز أن يقول زوجي أي وكلي من يزوج فوكلت قال فليس لها هذا لي الخبر قيل لا ولكن لا يشبه غيره لأنها روت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل النكاح بغير ولي باطلاً أو كان يجوز لها أن تزوج بكراً وأبوها غائبٌ دون أخوتها أو السلطان (قال المزني رحمه الله) معنى تأويله فيما روت عائشة عندي غلطٌ وذلك أنه لا يجوز عنده إنكاح المرأة ووكيلها مثلها فكيف يعقل بأن توكل وهي عنده لا يجوز إنكاحها ولو قال إنه أمر من ينفذ رأي عائشة فأمرته فنكح خرج كلامه صحيحاً لأن التوكيل للأب حينئذٍ والطاعة لعائشة فيصح وجه الخبر على تأويله الذي يجوز عندي لا أن الوكيل وكيلٌ لعائشة رضي الله عنها ولكنه وكيلٌ له فهذا تأويله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِوَلِيٍّ ذَكَرٍ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْقِدَ نِكَاحَ نَفْسِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِيَ نِكَاحَ غَيْرِهَا لَا بِوِلَايَةٍ وَلَا بِوَكَالَةٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا فِيهِ بذلٌ وَلَا قبولٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يجوز أن يتولاه لِنَفْسِهَا وَلِغَيْرِهَا نِيَابَةً وَوَكَالَةً تَكُونُ فِيهِ بَاذِلَةً أَوْ قَابِلَةً، فَأَمَّا نِكَاحُ نَفْسِهَا قَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ، وَأَمَّا نِكَاحُ غَيْرِهَا نِيَابَةً. وَوَكَالَةً فَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ تَتَوَكَّلَ فِيهِ وتباشر غيره بما روي أن عائشة زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ بِمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: أَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ؟ وَأَمْضَى النِّكَاحَ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فجاوز أَنْ تَتَوَلَّاهُ الْمَرْأَةُ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَصَحَّ أَنْ تُبَاشِرَهُ الْمَرْأَةُ قِيَاسًا عَلَى شِرَاءِ الْأَمَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَجَازَ اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهِ كَالْإِجَارَةِ.

(9/149)


وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا " وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن القاسم عن أبيه أن عائشة كَانَ إِذَا هَوَى فَتًى مِنْ بَنِي أَخِيهَا فتاة من بنات أخيها أرسلت سراً وَقَعَدَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَتَشَهَّدَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا النِّكَاحُ قَالَتْ: يَا فُلَانُ أنْكِحْ وَلِيَّتَكَ فُلَانَةً فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَنْكِحْنَ، وَهَذَا أمر مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ فِيهِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِهَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا وِلَايَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْقِدَهُ الْمَرْأَةُ لِنَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ أن تعقده لغيرها كعقد الإمامة.
فأما الجواب عن حديث عائشة فهو أنه لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْهَا بِوِلَايَةِ النَّسَبِ لكان بالمنكوحة مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنْهَا مِنْ إِخْوَةٍ، وَأَعْمَامٍ، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَدْ كَانَ لَهُ أخوة وأولاد هم أَحَقُّ بِنِكَاحِهَا مِنْ عَائِشَةَ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ وعمة الْمَنْكُوحَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَتْهَا بِوَكَالَةِ أَبِيهَا عبد الرحمن لما افتاتت عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ.
وَالثَّالِثُ: إنَّهَا هِيَ الرَّاوِيَةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " (أَيُّمَا امْرَأَةٍ) نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطل " وهي لا تخالف ما روته.
الرابع: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا خَطَبَتْ فِي الْمَنَاكِحِ قَالَتْ: " يَا فُلَانُ أنْكِحْ وَلِيَّتَكَ فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا ينكحن " وإذا لم يمكن حمله على ظاهره من هذه الوجوه الأربع وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ فَيُحْمَلُ عَلَى أحد ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَكَّلَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يقوم بتزويج بنته وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَأْيِ عَائِشَةَ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يُزَوِّجُهَا بِهِ فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ بتزويج منذر بن الزبير.
فإن قيل: فلما أَنْكَرَ وَقَدْ وَكَّلَ.
قِيلَ: لِأَنَّ مُنْذِرًا قَدْ كَانَ خَطَبَ إِلَيْهِ فَكَرِهَهُ لِعُجْبٍ ذَكَرَهُ فِيهِ، فَأَحَبَّتْ عَائِشَةُ مَعَ مَا عَرَفَتْهُ مِنْ فَضْلِ منذر أنه يصل الرحم، وتزوج بِنْتَ أَخِيهَا بِابْنِ أُخْتِهَا، لِأَنَّ مُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ حِينَ اخْتَارَتْ مُنْذِرًا سَأَلَتِ السُّلْطَانَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِغَيْبَتِهِ لَا تَزُولُ وِلَايَتُهُ وَيَنُوبُ السُّلْطَانُ عنه عندنا، وعند أبي حنيفة، وينوب عنه من بعده من الأولياء وعند مَالِكٍ فَكَرِهَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِنْ لَمْ يُسْتَأْذَنْ فِيهِ وَيُطَالِعْ بِهِ وَيَكُونُ إِضَافَةُ

(9/150)


العقد إلى عائشة، وإن لم تكن العاقدة لِمَكَانِ اخْتِيَارِهَا وَسِفَارَتِهَا كَمَا يُضَافُ الْعَقْدُ إِلَى السَّفِيرِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَيُقَالُ فُلَانَةُ الدَّلَّالَةُ قَدْ زَوَّجَتْ فُلَانًا بِفُلَانَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ بَاشَرَتِ الْعَقْدَ وَتَوَلَّتْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَّلَ عَائِشَةَ فِي أَنْ تُوَكِّلَ عَنْهُ مَنْ يُزَوِّجُ بِنْتَهُ فَوَكَّلَتْ عَائِشَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حِينَ اسْتَقَرَّ رَأْيُهَا عَلَى تَزْوِيجِ مُنْذِرٍ مِنْ زَوَجِهَا عَنْهُ فَكَانَ الْوَكِيلُ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ وَكِيلًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا لِعَائِشَةَ كَمَا تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ فَوَكِيلُهَا بِمَثَابَتِهَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ، وَهِيَ لَمْ تُوكِّلْ عَنْ نفسها وإنما وكلت عن أخيها، وإنما يجوز أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ وَكِيلًا فِي تَوْكِيلِ مَنْ يزوج عَنِ الْمُوَكِّلِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَقْيِسَةِ الثَّلَاثَةِ في الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَشِرَاءِ الْأَمَةِ فَهُوَ أَنَّهَا عُقُودٌ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى وِلَايَةٍ فَجَازَ أَنْ تَتَوَلَّاهَا الْمَرْأَةُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(9/151)


بَابُ الْكَلَامِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَالْخِطْبَةُ قبل العقد من الجامع من كتاب التعريض بالخطبة، ومن كتاب ما يحرم الجمع بينه
قال الشافعي رحمه الله: " أسمى الله تبارك وتعالى النِّكَاحَ فِي كِتَابِهِ بِاسْمَيْنِ النِّكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ وَدَلَّتِ السنة على أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ وَلَمْ نجد في كتابٍ ولا سنةٍ إِحْلَالَ نكاحٍ إِلَّا بنكاحٍ أَوْ تزويجٍ وَالْهِبَةُ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مجمعٌ أن ينعقد له بها النكاح بِأَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لَهُ بِلَا مهرٍ، وَفِي هذا دلالةٌ على أنه لا يجوز النكاح إلا باسم التزويج أو النكاح ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ النِّكَاحُ لَا ينعقد إلا بصريح اللفظ دون كتابته، وَصَرِيحُهُ لَفْظَانِ: زَوَّجْتُكَ، وَأَنْكَحْتُكَ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إلا بهما سواء ذُكِرَ فِيهِ مَهْرًا أَوْ لَمْ يُذْكَرْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: ينعقد النكاح بالكتابة كَانْعِقَادِهِ بِالصَّرِيحِ، فَجَوَّزَ انْعِقَادَهُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، والتمليك ولم يجزه بالإحلال والإباحة، واختلف الرواة عَنْهُ فِي جَوَازِهِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَسَوَاءً ذَكَرَ الْمَهْرَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ ذكر مع هذه الكتابات الْمَهْرَ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ لَمْ يَصِحَّ فاستدلوا على انعقاد النكاح بالكتابة بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ فَصَمَتَ ثُمَّ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عليه وَهُوَ صَامِتٌ فَقَامَ رَجُلٌ أَحْسَبُهُ قَالَ: مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لم يكن لك بها حاجة فزوجينها؟ فَقَالَ: لَكَ شَيْءٌ؟ قَالَ (لَا) وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ شَيْئًا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: والله ما وجدت شيئاً إلى ثَوْبِي هَذَا، أَشُقُّهُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عليك، مَا فِي ثَوْبِكَ فضلٌ عَنْكَ، فَهَلْ تَقْرَأُ من القرآتن شيئاً فقال: نعم، قال: ماذا؟ قال: ماذا سورة كذا وكذا، قال: فقد أملكناكها بما معك من القرآن، قال: فلقد رَأَيْتُهُ يَمْضِي وَهِيَ تَتْبَعُهُ فَدَلَّ صَرِيحُ هَذَا الحديث على أن انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَصَارَ حُكْمُ الْكِنَايَةِ فِي انْعِقَادِهِ 0 كَالصَّرِيحِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ كَالْبَيْعِ أَوْ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَجَازَ أن يستفاد بلفظ الهبة كتمليك الْإِمَاءِ وَلِأَنَّ مَا انْعَقَدَ بِهِ نِكَاحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انْعَقَدَ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طرفي النكاح فجاز أن يستفاد بالصريح والكتابة كالطلاق.

(9/152)


وَلِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعَرَبِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْعَقْدِ مَعْنَى اللفظ دُونَ اللَّفْظِ، وَالتَّمْلِيكُ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ فَصَحَّ به العقد كالنكاح.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحُهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ) {الأحزاب: 50) . فَجَعَلَ الله تعالى النكاح بلفظ الهبة خالصاً لرسوله دُونَ أُمَّتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أراد أن يجعلها الله له خالصة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ من الله تعالى، وَلَا إِذْنٌ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ الطلب دليل على الإباحة.
قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امرأة وهبت نفسها منه فذهب جمهورهم إِلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نفسها له واختلفوا فيه عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا أُمُّ شَرِيكٍ قَالَهُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، قَالَتْهُ عَائِشَةُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ على الإباحة إلى ما شاء له مِنَ التَّخْصِيصِ لَكَانَ فِعْلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ
وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عباس ومجاهد [وتأويل من قرأ بالكسر " إن وهَبَتْ "] محمول على المستقبل وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ فَهُوَ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بالفتح " أن وهبت " [على الماضي] ٍ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ سِيَاقُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى التَّخْصِيصِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِيِّ) {الأحزاب: 50) . حِكَايَةٌ لِلْحَالِ وقوله: {إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحُهَا} إِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} مواجهة من الله تعالى له بالحكمة من غير أن يكون من رسوله طَلَبٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا إِلَّا عَلَى ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ التَّخْصِيصِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا خُصَّ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ لِيَكُونَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ مُفِيدًا، وَلَمْ يُخَصَّ أَنْ يَعْقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ قِيلَ: بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْأَمْرَيْنِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الآية وليكون اخْتِصَاصُهُ بِحُكْمِ اللَّفْظِ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ هُوَ الْمُفِيدُ لِاخْتِصَاصِهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ لَوِ انْعَقَدَ نِكَاحُ غَيْرِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ لَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَيَبْطُلُ التَّخْصِيصُ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو شَيْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " إِنَّ النِّسَاءَ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَا يَمْلِكْنَ مِنْ أُمُورِهِنَّ شَيْئًا إِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن

(9/153)


بالمعروف، ولكن عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا، وَأَنْ لَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ أَنْ تَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ ".
فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: " وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ " وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا لَفْظُ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْفُرُوجَ إِلَّا بِهِمَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ عقدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ مَوْضُوعٌ لِعَقْدٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالرَّهْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي عَقْدٍ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي غَيْرِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي النِّكَاحِ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ، وَلِأَنَّ هِبَةَ الْمَنَافِعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا عِوَضٌ فَهِيَ كالعارية، وإن كان معها عوض جرت مَجْرَى الْإِجَارَةِ عِنْدَهُمْ وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْعَارِيَةِ، وَالْإِجَارَةِ، فَكَذَلِكَ بِمَا اقْتَضَاهُمَا مِنَ الْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي عَقْدٍ لَوْ صَارَتْ حَقِيقَةً فِي غيره لبطلت حقائق العقود، لأن لفظ الكتابة تقوم مقام التصريح بالنية وهي مما لا يعلمها الشهود والمشروطون في النكاح إلا بالاختيار فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِقْرَارِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ يُنَافِيَانِ النِّكَاحَ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ ابْتَاعَهَا أَوِ اسْتَوْهَبَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا وَمَا نَافَى النِّكَاحَ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالطَّلَاقِ وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يُوضَعُ لِإِسْقَاطِ مَا فِي الذِّمَمِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِبْرَاءِ، وَلِأَنَّهُ لو انعقد النكاح بلفظ البيع لانعقد البيع بلفظ النكاح، وفي امتناع هذا إجماعاً وامتناع ذَلِكَ حِجَاجا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " قَدْ ملكتها بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " فَهُوَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ قَالَ: وَهِمَ فِيهِ مَعْمَرٌ فَإِنَّهُ ما روى " قد ملكتها " إِلَّا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وعبد العزيز بن محمد الداراوردي، وَفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرَآنِ " وهذه الرواية أثبت لكثرة عدد الرواة، وإنهم خمسة علماء ثم تستعمل الروايتين فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى قَدْ " زَوَّجْتُكَهَا " عَلَى حال العقد ومن روى قد ملكتها على الإخبار بعقد عَمَّا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الْبَيْعِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التمليك من أحكام البيع فلم به ينعقد الْبَيْعُ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ في انعقاد البيع بلفظ التمليك وجود التَّمْلِيكِ فِيهِ عَلَى عُمُومِهِ وَقُصُورُهُ فِي النِّكَاحِ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كُلَّ الْمَبِيعِ وَلَا

(9/154)


يَمْلِكُ مِنَ الْمَنْكُوحَةِ إِلَّا الِاسْتِمْتَاعَ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُمْ بنكاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعْلِيلٌ يَدْفَعُ النَّصَّ فَكَانَ مُطَّرِحًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خص سقوط الْمَهْرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِاللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي لَفْظِ النِّكَاحِ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ، وَالْبَيْعُ وَالْهِبَةُ صَرِيحَانِ فِي غَيْرِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ فِي وقوعه بالصريح والكناية، هو أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ غَلُظَ بِشُرُوطٍ لَمْ تُعْتَبَرْ فِي الطَّلَاقِ فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ فِي تخفيف شروطه على أن النِّكَاحَ شَهَادَةٌ مَشْرُوطَةٌ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْكِنَايَةِ فلم ينعقد بِالْكِنَايَةِ وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ شَهَادَةٌ مَشْرُوطَةٌ فَوَقَعَ بالكناية.
وأما استدلالهم بعقده بالعجمية فشرح لمذهبنا فيه بيان للانفصال عنه وفيه لأصحابنا ثلاثة أوجه:
أحدهما: - حكاه أبو حامد الإسفراييني، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ - أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءً كَانَ عَاقِدُهُ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لا يحسنها كما أن القراءة لا يجوز بِالْعَجَمِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَشْهُورٌ، قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا - أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءً كَانَ عَاقِدُهُ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا، لِأَنَّ لَفْظَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ صَرِيحٌ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الكناية بالعربية، لأن في كناية العربية احتمال وَلَيْسَ فِي صَرِيحِ الْعَجَمِيَّةِ احْتِمَالٌ، وَخَالَفَ الْقُرْآنَ المعجز، لأن إعجازه ونظمه، وَهَذَا الْمَعْنَى يَزُولُ عَنْهُ إِذَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ إِلَى الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَاقِدُهُ يُحْسُنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يَنْعَقِدْ بِالْعَجَمِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ انْعَقَدَ بِالْعَجَمِيَّةِ كَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ تُجْزِئُ بِالْعَجَمِيَّةِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ العربية، ولا تجزئ لمن يحسنها، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ حال القدوة والعجز، والعادل عن صريح النكاح إلى كتابته قادر والعادل عنه إلى العجمية عاجز فاقد.
فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ كَانَ عَاقِدُهُ إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُوَكِّلَ عَرَبِيًّا فِي عَقْدِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فيعقده بِنَفْسِهِ.
وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ كَانَ عَاقِدُهُ إِذَا لم يحسن العربية فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَحْسُنُ الْعَرَبِيَّةَ بَيْنَ أَنْ يَعْقِدَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لِسَانُ الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْقِدَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَبِأَيِّ اللِّسَانَيْنِ عَقَدَهُ فَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ شَاهِدًا عَقْدُهُ بعرفانه، فَإِنْ عَقَدَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَاهِدَاهُ عَجَمِيَّانِ، أَوْ عَقَدَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَشَاهِدَاهُ عَرَبِيَّانِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفَا لِسَانَ الْعَقْدِ لَمْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ إِلَّا بِالِاسْتِخْبَارِ عَنْهُ فَجَرَى بَيْنَهُمَا مَجْرَى الْكِنَايَةِ.

(9/155)


وإذا قيل بالقول الثَّالِثِ: إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْعَجْزِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلِيِّ الْبَاذِلِ وَالزَّوْجِ الْقَابِلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
إحداها: أَنْ يَكُونَا عَرَبِيَّيْنِ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَا عَجَمِيَّيْنِ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا إِنْ بَاشَرَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا إِلَّا بِالْعَجَمِيَّةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَرَبِيًّا وَالْآخَرُ أَعْجَمِيًّا فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بالعربية، لأن العجمية لا يحسنها ولا بالعجمية، لأن العربية لَا يُحْسِنُهَا فَكَانَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَنْ يُوَكِّلَا مَنْ يَعْرِفُ أَحَدَ اللِّسَانَيْنِ، وَبَيْنَ أَنْ يتعلم العجمي منهما العربية فيجتمعا عَلَى عَقْدِهِ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّمَ العربي العربية لِيَجْتَمِعَا عَلَى عَقْدِهِ بِهَا، لِأَنَّ مَنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَيَجُوزُ لمن يحسن العجمية أن يعقده بالعربية.
فإن قيل فلها اخْتَصَّ الْعَرَبِيُّ فِيهِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَتَفَرَّدَ الْعَجَمِيُّ بِاللَّفْظِ الْعَجَمِيِّ.
قِيلَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَعْرِفُ لَفْظَ صَاحِبِهِ فَيُقَابِلُهُ عليه - والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وَالْفَرْجُ مُحَرَّمٌ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا يَحِلُّ أَبَدًا إلا بأن يقول الولي قد زَوَّجْتُكَهَا أَوْ أَنْكَحْتُكَهَا وَيَقُولُ الْخَاطِبُ قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا أَوْ يَقُولُ الْخَاطِبُ زَوِّجْنِيهَا ويقول الْوَلِيُّ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إلى أن يقول الزوج قد قبلت ولو قال قد ملكتك نكاحها أو نحو ذلك فقبل لم يكن نكاحاً وإذا كانت الهبة أو الصدقة تملك بها الأبدان والحرة لا تملك فكيف تجوز الهبة في النكاح؟ فإن قيل: معناها زوجتك قيل: فقوله قد أحللتها لك أقرب إلى زوجتكها وهو لا يجيزه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بَعْدَ حُضُورِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ لَا يتميز إِلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: تَعْيِينُ الْمَنْكُوحَةِ.
وَالثَّانِي: تعيين اللفظ.
والثالث: صفة العقد.
القول في تعيين المنكوحة

فَأَمَّا تَعْيِينُ الْمَنْكُوحَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا بِالْإِشَارَةِ، وَإِمَّا بِالِاسْمِ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ.
فَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا إلى حاضرة فنقول: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لم يذكر لها اسم ولها حالان: موافق، وتخالف فإن كان موافقاً فقد آكد بالإشارة بها قَرْنَهُ بِهَا مِنْ مُوَافَقَةِ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ، وَالصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا بِأَنْ سَمَّاهَا حَفْصَةَ بِنْتَ زيد وهي

(9/156)


عَمْرَةُ بِنْتُ بَكْرٍ، أَوْ وَصَفَهَا بِالطَّوِيلَةِ وَهِيَ قَصِيرَةٌ صَحَّ الْعَقْدُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مُخَالَفَةُ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ، وَالصِّفَةِ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أبلغ في التعيين من كل اسم وصفة.
وأما الاسم فقد يتعين بِهِ الْغَائِبَةُ إِذَا لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ غَيْرُهَا، وَهُوَ فِي الْأَغْلَبِ إِذَا انْفَرَدَ عَنْ نَسَبٍ لا يقع به التمني، فَإِنْ قُرِنَ بِهِ النَّسَبُ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ تَمَيَّزَتْ بِهِ وَصَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بِمَا تَمَيَّزَتْ بِهِ مِنَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَنْكُوحَةِ وإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزِ الِاسْمُ والنسب عن غيرهما مِنَ النِّسَاءِ لِمُشَارَكَتِهَا فِيهِ لِغَيْرِهَا نُظِرَ، فَإِنْ نوى الزوج والولي في نفوسهما فالإشارة للمنكوحة صَحَّ الْعَقْدُ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ عُقُودِ الْمَنَاكِحِ، وإن لم ينو لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِاشْتِبَاهِ الْمَنْكُوحَةِ بِغَيْرِهَا وَصَارَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: قَدْ زَوَّجْتُكَ امْرَأَةً، وَأَمَّا الصِّفَةُ فلا تكون بانفرادها مميزة للمنكوحة عن غَيْرِهَا لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي الصِّفَاتِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مَعَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّمْيِيزُ مِنِ اسم، أو نسب، أو نية مثل سودة بنت زيد بن خالد وله بنات فيهن المنكوحة.
لما الاسم إذا لم يشتركن فيه فنقول حَفْصَةُ، أَوْ عَمْرَةُ.
وَإمَّا بِالصِّفَةِ، إِذَا لَمْ يَشْتَرِكْنَ فِيهَا فَيَقُولُ الطَّوِيلَةُ، أَوِ الْقَصِيرَةُ، أَوْ يَقُولُ: السَّوْدَاءُ أَوِ الْبَيْضَاءُ أَوْ يَقُولُ: الصَّغِيرَةُ أَوِ الْكَبِيرَةُ فَتَصِيرُ الصِّفَةُ مُمَيِّزَةً لِلْمَنْكُوحَةِ وَلَوْلَاهَا لاشتبهت وإذا كان كذلك فأراد أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلا بنت جَازَ أَنْ يَقُولَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَلَا يَذْكُرَ لها اسماً ولا صفة، لأنها قد تعنت فِي الْعَقْدِ فَصَحَّ فَإِنْ ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ اسْمًا أَوْ صِفَةً: فَقَالَ: بِنْتِي حَفْصَةَ أَوْ قَالَ: بِنْتِي الطَّوِيلَةَ فَقَدْ أَكَّدَ إِنْ وَافَقَ الاسم والصفة ولم يؤثر فِيهِ إِنْ خَالَفَ الِاسْمَ وَالصِّفَةَ قَوْلُهُ: عَمْرَةُ وَقَدْ سَمَّاهَا حَفْصَةَ وَكَانَتْ قَصِيرَةً وَقَدْ وَصَفَهَا طَوِيلَةً، لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَنْتَقِلُ، وَالْقَصِيرَةُ قَدْ تَكُونُ طَوِيلَةً بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ هِيَ أَقصْرُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ الْمُزَوِّجِ عِدَّةُ بَنَاتٍ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِأَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي حَتَّى يُمَيِّزَهَا عَنْ سَائِرِهِنَّ إِمَّا بِنْيَةٍ يَتَّفِقُ الْأَبُ وَالزَّوْجُ بِهَا عَلَى إِرَادَةِ إِحْدَاهُنَّ بِعَيْنِهَا.
وإما باسم، أو صفة، فيقول: بنتي حفصة فيصفها بالاسم من غير أن يَقُولَ بِنْتِي الصَّغِيرَةَ فَتَصِيرُ بِالصِّفَةِ مُتَمَيِّزَةً فَيَصِحُّ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ عَلَيْهَا، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَّفِقًا فَيَقُولُ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي حَفْصَةَ الصَّغِيرَةَ، وَالصَّغِيرَةُ هي حفصة، والكبيرة هي عمرة، فيسم الْمَنْكُوحَةَ بِاسْمِهَا وَيَصِفُهَا بِصِفَتِهَا فَقَدْ أَكَّدَ الِاسْمَ بِالصِّفَةِ فَكَانَ أَبْلَغَ فِي التَّمْيِيزِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا فَسَمَّى الْمَوْصُوفَةَ بِغَيْرِ اسْمِهَا وَوَصَفَ الْمُسَمَّاةَ بِغَيْرِ صِفَتِهَا، لِأَنَّ حَفْصَةَ هِيَ الْكَبِيرَةُ وَقَدْ وَصَفَهَا بِالصَّغِيرَةِ، وَعَمْرَةُ هِيَ الصَّغِيرَةُ وَقَدْ وَصَفَهَا بِالْكَبِيرَةِ فَيَكُونُ الْمُعَوَّلُ عَلَى الصِّفَةِ دُونَ الِاسْمِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَازِمَةٌ وَالِاسْمَ مُنْتَقِلٌ فيقع العقد

(9/157)


عَلَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي اسْمُهَا عَمْرَةُ، وَإِنْ سَمَّى في العقد حفصة، فلو ميز المنكوحة في بناته بصفتهن فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي الصَّغِيرَةَ، الطَّوِيلَةَ، فَإِنْ وَافَقَتِ الصِّفَتَانِ فَقَدْ أَكَّدَ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فَكَانَ أبلغ في التمييز وإن خالفت الصفات فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ لَازِمَتَانِ، وَلَيْسَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا فِي تَمْيِيزِ الْمَنْكُوحَةُ بِأَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ الْأُخْرَى فَصَارَتِ الْمَنْكُوحَةُ مِنْهُمَا مَجْهُولَةً، فَلِذَلِكَ بَطُلَ النِّكَاحُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي
: وَهُوَ تَعْيِينُ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَلَفْظَتَانِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إِلَّا بِهِمَا وَهُمَا النِّكَاحُ، وَالتَّزْوِيجُ، لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تعالى قد جاء بهما.
أما النكاح فبقوله سُبْحَانَهُ: {فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمُ مِنَ النَِّسَاءِ) {النساء: 3) .
وأما التزويج بقوله سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَها) {الأحزاب: 37) . لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا فِي اللُّغَةِ مُتَشَابِهَانِ.
أَمَّا التَّزْوِيجُ فَهُوَ ضَمُّ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَحَدُ زَوْجَيِ الْخُفِّ وَأَحَدُ زَوْجَيِ الْحَمَامِ إِذَا أريد واحد من اثنين متشاكلين، فإن أريد مَعًا قِيلَ زَوْجُ الْخُفِّ وَزَوْجُ الْحَمَامِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالتَّزْوِيجِ ضَمُّ شكل إلى شكل، ومنه كقولهم: أنكحنا الفراء فسوق ترى أي جمعنا بين الحمار الوحش وايتانه فسترى ما يولد منهما.
قال عمر بن أبي ربيعة:
(أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرَكَ اللَّهَ، كَيْفَ يَلْتَقَيَانِ)

(هِيَ شاميةٌ إِذَا مَا اسْتَقَلَّتْ ... وسهيلُ إِذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِ)

أَيْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَنْ يَجْتَمِعَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَاكَحَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لُزُومُ شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ اسْتَنْكَحَهُ الْمَدَنِيُّ أَيْ لَزِمَهُ فَسُمِّيَ النِّكَاحُ نِكَاحًا لِلُزُومِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ غَيْرُهُمَا فَصَارَ تَعْلِيلُهُمَا غَيْرَ مُتَعَدٍّ لِلنَّصِّ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَلِيُّ وَالزَّوْجُ مُخَيَّرَانِ فِي أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: قَدْ زَوَّجْتُكَ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: قَدْ أَنْكَحْتُكَ وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ يَعْقِدُهُ أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالْآخَرُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: قَدْ زَوَّجْتُكَ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ بِأَيْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَقْدًا صَحِيحًا.

(9/158)


فَصْلٌ
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ صِفَةُ الْعَقْدِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَقَدْ يَنْعَقِدُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَإِمَّا بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، وَلَهُمَا فِيهِ ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن يعقد له بِلَفْظِ الْمَاضِي.
وَالثَّانِي: بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالثَّالِثُ: بِلَفْظِ الْأَمْرِ.
فَإِنْ عَقَدَاهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِدَاهُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ.
وَالثَّانِي: بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، فأما عقده بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصداق فيكون قد ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ بَذْلًا، وَمَا أَجَابَهُ الزَّوْجُ قَبُولًا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلِلزَّوْجِ فِي قَبُولِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ وَلَا يَذْكُرُ الصَّدَاقَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ وَلَا يَذْكُرُ النِّكَاحَ وَلَا الصَّدَاقَ.
فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ فَقَدِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ عَلَى الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ قَبُولُ الزَّوْجِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ بَذَلِ الْوَلِيِّ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ بَذَلَهَا الْوَلِيُّ له بصداق ألف انعقد الصداق ولم تلزم فِيهِ أَحَدُ الصَّدَاقَيْنِ وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْأَلْفَ لَمْ يَقْبَلْهَا الزَّوْجُ وَالْخَمْسِمِائَةَ لَمْ يرض بها المولى.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَنْعَقِدُ عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةٍ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ فَصَارَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَفَرَّدَ الْوَلِيُّ بِالزِّيَادَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الحالة الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا وَلَا يَذْكُرَ قَبُولَ الصَّدَاقِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِقَبُولِهِ وَلَا يلزم المسمى، لأنه لم يذكره في القبول وليكون لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَقَالَ أبو حنيفة: يَلْزَمُ فيه الصداق المسمى بقبول النكاح والذي يتضمنه كَالْبَيْعِ إِذَا قَالَ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ هَذَا الْبَيْعَ لَزِمَهُ ذَلِكَ الثَّمَنُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي قَبُولِهِ كَذَلِكَ النكاح وهذا خطأ، لأن البيع لا ينعقد إِلَّا بِثَمَنٍ فَكَانَ قَبُولُهُ الْبَيْعَ قَبُولًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي قَبُولِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ قَدْ يصح بغير الصداق فلم يكن قبوله لنكاح قبولاً لما يتضمنه مِنَ الصَّدَاقِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ فِي قَبُولِهِ.
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ وَيُمْسِكُ فَلَا يَذْكُرُ النِّكَاحَ وَلَا الصَّدَاقَ فِي قبوله ففيه قولان، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ صَرِيحًا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَرَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ وَقَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ.

(9/159)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ " التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ مِنْ كُتُبِ الْأَمَالِي ": إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: قَبِلْتُ إِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ لِلْبَذْلِ الصَّرِيحِ وَجَوَابُ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ) {الأعراف: 44) . أي نعم وجدناه، وَكَقَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى) {الأعراف: 172) . أَيْ: بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا، وَكَمَا لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَسَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهَا، وقال أله عليك ألف، فقال: نعم، كان إقرار منه بالألف وجرى مجرى قوله: نعم له عَلَيَّ أَلْفٌ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ قَدْ قَبِلْتُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْبَذْلِ الصَّرِيحِ قَبُولًا صَرِيحًا فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: قَبِلْتُ نكاحها.
والثاني: إن البذل والقبول معتبر في عقد النكاح كاعتباره فِي عَقْدِ الْبَيْعِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِيَ: قَبِلْتُ إِنَّ الْبَيْعَ قَدِ انْعَقَدَ وَجَرَى ذلك مجرى قوله قبلت هذا البيع، ويجب أن يكون النكاح بمثابته قد زوجكتها فقال الزوج قبلت أن ينعقد النكاح فجرى مَجْرَى قَوْلِهِ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذا جعلناه قبولاً صحيحاً يَكُونُ قَبُولًا لِلنِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْقَبُولَ مطلق فرجع إلى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ وَخَالَفَ قَوْلَهُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا حَيْثُ جَعَلْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى قَبُولِ النِّكَاحِ الَّذِي سَمَّاهُ دُونَ الصَّدَاقِ الَّذِي أغفله، لأن مع التسمية تصير تَخْصِيصًا وَمَعَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ عُمُومًا، وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، وَهُوَ أَصَحُّ القولين فدليله ما قدمناه أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: قَبِلْتُ فِيهِ مَعْنَى التصريح وليس بصريح فينعقد بِهِ النِّكَاحُ وَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِالصَّرِيحِ وَبِمَعْنَى الصَّرِيحِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ إِطْلَاقُ جَوَابِ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَلَا تَرَى لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا، فَقَالَ: نَعَمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي طَلَاقِهَا، وَإِنْ كَانَ جَوَابًا، ولو قال: نعم أنت طالق لم تكن ثَلَاثًا، وَإِنْ سَأَلَتْهُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ بالبيع لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَلَا كَانَ إِطْلَاقُ الْجَوَابِ كَالصَّرِيحِ، لِمَا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا إِذَا قرن النكاح بينهما بواسط مِنْ حَاكِمٍ أَوْ خَطِيبٍ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ: زَوَّجْتَهُ فلانة، فقال: نعم، فقال الزوج: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، فَقَالَ: نَعَمْ لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ قولاً واحداً، لأن صريح اللفظ لم يؤخذ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَنْعَقِدُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ وَاعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ فِي أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْبَائِعِ بِعْتَهُ عَبْدَكَ هَذَا بألف فقال: نعم، وقال المشتري: اشتريته بالألف، فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ، وهذا خطأ لما ذكرنا مِنْ أَنَّ مَعْنَى الصَّرِيحِ لَا يَقُومُ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ الصَّرِيحِ وَيَقُومُ فِي الْبَيْعِ مَقَامَ الصَّرِيحِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا خَالَفَ الْبَيْعَ فِي تَغْلِيظِهِ بِالْوَلِيِّ والشاهدين

(9/160)


خَالَفَهُ فِي تَغْلِيظِهِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ إِقْرَارٌ، وَبُضْعَ الْمَنْكُوحَةِ لَا يُمْلَكُ بِالْإِقْرَارِ فَهَذَا حُكْمُ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا عَقْدُهُ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ فَهُوَ أن يبدأ الزَّوْجُ فَيَقُولُ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ فَيَقُولُ الْأَبُ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى هَذَا الصداق فيصح العقد ولا يحتاج الزوج إلى أن يعود فيقول: قد قبلت نكاحها ووافقه أبو حنيفة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إِذَا ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ: بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِهَا صَحَّ الْبَيْعُ وَلَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ بعده قد قبلت، وخالفه أبو حنيفة فِي الْبَيْعِ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعُودَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ: قَدْ قَبِلْتُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ من شروط البيع، فكان ما يصح بِهِ النِّكَاحُ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ بِهِ الْبَيْعُ، فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ بالطلب والإيجاب كتمامه بالبذل والقبول كان الْبَذْلُ هُوَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ، وَالْقَبُولُ ما أجاب به الزوج فإن الطَّلَبَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الزَّوْجُ، وَالْإِيجَابَ مَا أَجَابَ بِهِ الْوَلِيُّ فَيَكُونُ النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ.
إِمَّا بِالْبَذْلِ إن كان مبتدئاً أَوْ بِالْإِيجَابِ إِنْ كَانَ مُجِيبًا، وَمِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِالطَّلَبِ إن كان مبتدأ، وبالقبول إِنْ كَانَ مُجِيبًا فَصَارَ طَلَبُ الزَّوْجِ فِي الِابْتِدَاءِ قَبُولًا فِي الِانْتِهَاءِ، وَقَبُولُهُ فِي الِانْتِهَاءِ طَلَبًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَصَارَ بَذْلُ الْوَلِيِّ فِي الِابْتِدَاءِ إِيجَابًا فِي الِانْتِهَاءِ وَإِيجَابُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بَذْلًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ إِيجَابُ الْوَلِيِّ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَبُولِ الزَّوْجِ بعد بذل الولي:
إحداها: أَنْ يَقُولَ: الْوَلِيُّ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ الَّذِي بَذَلْتَهُ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عَلَى الصَّدَاقِ والذي سَمَّاهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ أَلْفٌ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ يَقُولَ الْوَلِيُّ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا وَلَا يَقُولَ عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَا صَرَّحَ بِالْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة يَكُونُ مُنْعَقِدًا عَلَى الصَّدَاقِ الْمَبْذُولِ وَإِذَا بَطَلَ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا كَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَوْ كَانَ الأب، قال: زَوَّجْتُكَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدٌ مِنَ الصَّدَاقَيْنِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حنيفة، وَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ قَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدٌ مِنَ الصَّدَاقَيْنِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يلزم أقلهما ويصير الأب مبرئاً لَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ: قَدْ فَعَلْتُ، أَوْ يَقُولَ: قَدْ أَجَبْتُكَ وَلَا يَقُولُ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَنَا قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي قَبُولِ الزَّوَجِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الْمُمَلِّكُ لِبُضْعِ الْمَنْكُوحَةِ وَالزَّوْجَ هُوَ الْمُتَمَلِّكُ فَكَانَ اعْتِبَارُ

(9/161)


الصريح في لفظ المملك أَقْوَى مِنَ اعْتِبَارِهِ فِي لَفْظِ الْمُتَمَلِّكِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة يَكُونُ النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا عَلَى أَصْلِهِ.

فصل
فأما إذا ابتدأ الولي فقال: زوجت بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، فَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ تَزَوَّجْتُهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ حَتَّى يَعُودَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا، لِأَنَّ قوله في الابتداء زوجته بِنْتِي لَيْسَ بِبَذْلٍ مِنْهُ وَلَا إِجَابَةً، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِخْبَارٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ مِنْ جِهَةِ الولي إلا بالبذل إن كان مبتدئاً أو بالإيجاب إِنْ كَانَ مُجِيبًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ مِنَ الِاسْتِخْبَارِ غَيْرَ مؤثر في العقد، ويكون جواب الزوج طلباً فلذلك مَا افْتَقَرَ إِلَى إِيجَابِ الْوَلِيِّ، بِأَنْ يَعُودَ فيقول: قد زوجتك فيصير النكاح منعقد بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ، فَقَالَ للولي: زوجني بنتك فقال: قد زوجتكها لهم يَصِحُّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الزَّوْجُ اسْتِخْبَارٌ، وَالْعَقْدُ لَا يَتِمُّ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ إلا بالطلب إن كان مبتدئاً، أَوْ بِالْقَبُولِ إِنْ كَانَ مُجِيبًا وَلَيْسَ اسْتِخْبَارُهُ طلباً ولا قبولاً، فإن عاد عَادَ الزَّوْجُ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا صَحَّ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ بِاللَّفْظِ الْمَاضِي فِي الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ وَفِي الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا عَقْدُهُ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ فَمِثَالُهُ: أَنَّ بَذْلَ الْوَلِيِّ أَنْ يَقُولَ: أُزَوِّجُكَ بِنْتِي فَيَقُولُ الزَّوْجُ: أَتَزَوَّجُهَا فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِقَوْلِ الْوَلِيِّ وَلَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَدٌ بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ بِعَقْدٍ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُهَا صَارَ قَوْلُهُ طَلَبًا، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْوَلِيِّ وَعْدًا فَإِنْ عَادَ الْوَلِيُّ فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا صَحَّ الْعَقْدُ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، وَلَوْ بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ: أَتَزَوَّجُ بِنْتَكَ فَقَالَ الْوَلِيُّ: أُزَوِّجُكَهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَدٌ بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ بِعَقْدٍ وَلَوْ كان الولي قال: قد زوجتكها صار قوله بَذْلًا فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا صَحَّ الْعَقْدُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَهَكَذَا إِنْ دَخَلَ عَلَى اللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ الولي: أأزوجك بنتي؟ أو قال: أأتزوج بِنْتَكَ؟ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِوَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ، لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ لِلْوَعْدِ فَكَانَ أَضْعَفَ مِنْ مُجَرَّدِ الْوَعْدِ فَإِنْ تَعَقَّبَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا يَكُونُ بَذْلًا أَوْ طَلَبًا رُوعِيَ فِي مُقَابَلَةِ الطَّلَبِ الْإِيجَابُ، وَفِي مُقَابَلَةِ الْبَذْلِ الْقَبُولُ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا عَقْدُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَمِثَالُهُ: إِنْ بَدَأَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقُولَ لِلزَّوْجِ: تَزَوَّجْ بِنْتِي، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ تَزَوَّجْتُهَا فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يَعُودَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا، وَلَوْ بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا صح العقد ولم يحتج الزوج أن يعيده فيه قَبُولًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ مَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا يَصِحٌّ بِهِ الْعَقْدُ، وَبَيْنَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ، أَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ الْبَذْلُ إِنِ ابْتَدَأَ، وَالْإِيجَابُ إِنْ أَجَابَ، وَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بَذْلٌ وَلَا إِيجَابٌ فَلَمْ يَصِحَّ بِهِ الْعَقْدُ، وَالْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ الطَّلَبُ إِنِ ابْتَدَأَ، وَالْقَبُولُ إن أجاب، وأمره تضمن الطَّلَبَ وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنِ الْقَبُولَ فَصَحَّ بِهِ العقد وتم بالطلب والإيجاب.

(9/162)


فصل
فإذا صح ما ذكرناه مِنْ صِفَةِ الْعَقْدِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَلِتَمَامِهِ وَإِبْرَامِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الزَّوْجِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ بَذْلِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ تَرَاخَى مَا بينهما بسكوت وإن قل لم يصح العقد إلا أن يكون لبلع ريق أو انقطاع نفس فيصبح الْعَقْدُ وَإِنْ تَخَلَّلَتْهُ هَذِهِ السَّكْتَةُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ بَذْلِ الْوَلِيِّ وَقَبُولِ الزَّوْجِ كَلَامٌ ليس بذل وَلَا قَبُول فَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ لَيْسَ منهما لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ خُرُوجَهُمَا إِلَى غَيْرِهِ من الكلام قطع لحكم مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاقْبَلِ النِّكَاحَ مِنِّي لَمْ يَكُنْ هَذَا قَطْعًا لِحُكْمِ بَذْلِهِ، لِأَنَّهُ حَثٌّ مِنْهُ على القبول، وهكذا لو قال: قد زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَقُلْ لِي قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لَمْ يَكُنْ قَطْعًا لِحُكْمِ بَذْلِهِ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ " فَاقْبَلِ النِّكَاحَ مِنِّي " فَأَمَّا إِذَا قَالَ: قد زوجتك بنتي فأحسن إليها أو قال فاستوصي بِهَا خَيْرًا كَانَ هَذَا قَطْعًا لِبَذْلِهِ؛ لِأَنَّهَا وصية لَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَذْلِ وَلَا بِالْقَبُولِ، وَلَكِنْ لَوْ قال: قد زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ صَحَّ الْعَقْدُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تضمن صفة الْوَصِيَّةِ فَهُوَ بَيَانٌ لِحُكْمِ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ عِنْدَ قَبُولِ الزَّوْجِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ، فَإِنْ قَبِلَ الزَّوْجُ وَقَدْ مَاتَ الْوَلِيُّ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِبُطْلَانِ بَذْلِهِ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ.
فَإِذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الْعَقْدِ عَلَى ما وصفنا فقد انعقد بإجزاء لَا يَثْبُتُ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ المجلس بالعقد ولا خيار الثلاث الشرط بِخِلَافِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ مَوْضُوعٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْمُعَايِنَةِ فِي الْأَعْوَاضِ وَلَيْسَ النِّكَاحُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لِجَوَازِهِ مَعَ الْإِخْلَالِ بِذِكْرِ الْعِوَضِ مِنَ الصَّدَاقِ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ أَبْطَلَهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَبْطُلُ الْخِيَارُ وَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُنَافِيَةَ لِلْعُقُودِ تُبْطِلُهَا كالشروط في سائر العقود - والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وَأُحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ خُطْبَتِهِ وَكُلِّ أمرٍ طلبه سوى الخطبة حمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام والوصية بتقوى الله ثُمَّ يَخْطِبُ وَأُحِبُّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذلك وأن يقول ما قَالَ ابْنُ عُمَرَ أَنْكَحْتُكَ عَلَى مَا أَمَرَ الله بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بمعروفٍ أَوْ تسريحٍ بإحسانٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ خُطْبَةَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْخِطْبَةِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةُ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: خُطْبَةُ النِّكَاحِ وَاجِبَةٌ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ " وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا عَقَدَ لِنَفْسِهِ نِكَاحًا إِلَّا بَعْدَ خُطْبَةٍ، فكان الخاطب في تزويجه خديجة عمه أبا طالب، وكان الخاطب بتزويجه بِعَائِشَةَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَزَوَّجَ فَاطِمَةَ

(9/163)


بِعَلِيٍّ فَخَطَبَا جَمِيعًا، وَلِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْبُولٌ قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَعْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ فكان إجماعاً لا يسوغ خلافاً، وَلِأَنَّ مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يستبشر بِهِ مِنَ الزِّنَا وَيُعْلَنُ مِنَ النِّكَاحِ كَانَ وَاجِبًا فِي النِّكَاحِ كَالْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ اسْتِحْبَابِهَا دُونَ وُجُوبِهَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أَهْلِهِنَّ) {النساء: 25) . فَجُعِلَ الْإِذْنُ شَرْطًا دُونَ الْخُطْبَةِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ زَوَّجَ الْوَاهِبَةَ لِنَفْسِهَا مِنْ خَاطِبِهَا قَالَ: قد زوجتكها بما معك من القرآن فلم يَخْطُبْ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ خَطَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمامة بنت عبد المطلب فأنكحه وَلَمْ يَخْطُبْ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنها زَوَّجَ بَعْضَ بَنَاتِ أَخِيهِ الْحَسَنِ وَهُوَ يَتَعَرَّقُ عَظْمًا أَيْ لَمْ يَخْطُبْ تَشَاغُلًا بِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ زَوَّجَ بِنْتَهُ فَمَا زَادَ على أن قال: قد زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَوْ وَجَبَتْ فِي النِّكَاحِ لَبَطَلَ بِتَرْكِهَا، وفي إجماعهم على صحة النكاح تَرَكُهَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا دُونَ وُجُوبِهَا وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُقْدٌ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْخُطْبَةُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ فَلَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَبْتَرُ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى أن للخبر سبب هو محمول عليه قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا عَقَدَ نِكَاحًا إِلَّا بَعْدَ خُطْبَةٍ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَكَحَ بَعْضَ نِسَائِهِ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ وَقَدْ زَوَّجَ الْوَاهِبَةَ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ وَلَيْسَ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الْمَنْقُولِ إِجْمَاعًا لِمَا روينا من خِلَافِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ وَلَا فِي كَوْنِهَا فَرْقًا بَيْنَ الزِّنَا وَالنِّكَاحِ دَلِيلٌ عَلَى وجوبها كالولائم.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْبَابُ الْخُطْبَةِ فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: حَمْدُ اللَّهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: الصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَالثَّالِثُ: الْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ.
وَالرَّابِعُ: قِرَاءَةُ آيَةٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِذِكْرِ النِّكَاحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) {النور: 32) . وَكَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً) {الفرقان: 54) . الآية، فَإِنْ قَرَأَ آيَةً لَا تَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّكَاحِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّبَرُّكُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ رُوِيَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ ونستغفره ونستعينه

(9/164)


ونستهديه وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسوله {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمُ) {الأحزاب: 70، 71) . الآية إلى آخرها.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ تعالى عليه - أنه خطب، فقال: المحمود لله وَالْمُصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخَيْرُ مَا افْتُتِحَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ الله تعالى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُم} الْآيَةَ.
وَرُوِيَ مِنْ خُطَبِ بَعْضِ السَّلَفِ الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا لِأَنْعُمِهِ وَأَيَادِيهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً تَبْلُغُهُ وَتُرْضِيهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاةً تُزَلِّفُهُ وَتُحْظِيهِ، وَاجْتِمَاعُنَا هَذَا مِمَّا قَضَاهُ اللَّهُ وَأَذِنَ فِيهِ وَالنِّكَاحُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَضِيَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُم) {النور: 32 الْآيَةَ) فَتَكُونُ الْخُطْبَةُ عَلَى مَا وَصَفْنَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ مِثْلَ مَا قَالَ ابْنُ عمر: قد أنكحتها عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْخُطْبَةِ نُظِرَ فِي الْخَاطِبِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ ما عليه الناس في زماننا كان خُطْبَتُهُ نِيَابَةً عَنْهُمَا، وَإِنْ خَطَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيُخْتَارُ أَنْ يَخْطُبَا مَعًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْدُوبٌ إِلَى مِثْلِ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا زَوَّجَ عَلِيًّا خَطَبَا جَمِيعًا.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ بِالْخُطْبَةِ ثُمَّ يَعْقُبُهُ الْوَلِيُّ بِخُطْبَتِهِ لِيَكُونَ الزَّوْجُ طَالِبًا وَيَكُونَ الْوَلِيُّ مُجِيبًا، فَإِنْ بَدَأَ الْوَلِيُّ بِالْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ الزَّوْجُ بَعْدَهُ جاز، فإن تقدمت خطبتهما قَبْلَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ أَوْ قَبْلَ الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ ثم عقد النكاح بعد الخطبتين بالبذل أو بالقبول أو بالطلب والإيجاب.
فقد قال أبو حامد الإسفراييني: إِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَا تَخَلَّلَهُمَا مِنَ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَفْسَدْ بِهِ الْعَقْدُ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ وَهُوَ الظاهر مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَطَاوُلُ مَا بَيْنَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ.
والثاني: أن أذكار الْخُطْبَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْبَذْلِ وَلَا مِنَ الْقَبُولِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَفْسَدْ بِهَا الْعَقْدُ فَصَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ فِي مَحِلِّهَا قَبْلَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا فِي خِلَالِ الْعَقْدِ فَلَمْ يُنْدَبْ إِلَيْهَا فَجَازَ أَنْ يَفْسَدَ بِهَا الْعَقْدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(9/165)


بَابُ مَا يَحِلُّ مِنَ الْحَرَائِرِ وَيَحْرُمُ وَلَا يتسرى العبد وغير ذلك مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ وَكِتَابِ ابْنِ أبي ليلى، والرجل يقتل أمته ولها زوج
قال الشافعي: " انتهى الله تعالى بِالْحَرَائِرِ إِلَى أربعٍ تَحْرِيمًا لِئَلَّا يَجْمَعَ أحدٌ غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
أَكْثَرُ مَا يَحِلُّ لِلْحُرِّ نِكَاحُ أَرْبَعٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ إبراهيم ومن نسب إلى مقالته ما القاسمية وطائفة من الزائدية أنه يحل له نِكَاحُ تِسْعٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثَلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) بِوَاوِ الْجَمْعِ، وَالْمَثْنَى مُبْدَلٌ مِنِ اثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثُ مُبْدَلٌ مِنْ ثَلَاثٍ، وَالرُّبَاعُ مُبْدَلٌ مِنْ أَرْبَعٍ فَصَارَ مَجْمُوعُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ تِسْعًا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَ عَنْ تِسْعٍ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) {الأحزاب: 21) . ولأنه لما سَاوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سائر أمته فيما يستبحه مِنَ الْإِمَاءِ وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ فِي حَرَائِرِ النِّسَاءِ ".
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) . وفيه دليلان:
أحدهما: أنه مَا خَرَجَ هَذَا الْمَخْرَجَ مِنَ الْأَعْدَادِ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَفْرَادَهَا دُونَ مَجْمُوعِهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: {أُولِي أجْنحَةٍ مَثْنَى وَثَلاث وَرُباع) {فاطر: 1) . أفْرَادَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ، وَأن مِنْهُمْ مَنْ لَهُ جناح، وإن منهم من له جناحان، ومنهم مَنْ لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدِ النِّكَاحِ كَذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا فِيمَنْ قَالَ: قد جَاءَنِي النَّاسُ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ أَنَّ مَفْهُومَ كلامه أنهم جاءوا على أفْرَادِ هَذِهِ الْأَعْدَادِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً وأربعة أربعة ولم يرد بمجموعها تسعة، فكذلك مَفْهُومُ الْآيَةِ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: من الْآيَةِ أَنَّ " الْوَاوَ " الَّتِي فِيهَا لَيْسَتْ وَاوَ جَمْعٍ وَإِنَّمَا هِيَ وَاوُ تَخْيِيرٍ بِمَعْنَى أَوْ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ وَإِنَّمَا كَانَ كذلك لأمرين:
أحدهما: أن ذكر التسعة بلفظهما أَبْلَغُ فِي الِاخْتِصَارِ وَأَقْرَبُ إِلَى الإفهام مِنْ ذِكْرِهَا بِهَذَا الْعَدَدِ الْمُشَكَلِ الَّذِي لَا يُفِيدُ تفريقه.

(9/166)


وَالثَّانِي: قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُم} (النساء: 3) . ولو كان المرد تسعاً ولم يرد اثنين عَلَى الِانْفِرَادِ لَقَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فثمان ليعدل عن التسع إلى أقرب الأعداد إليهما لا لبعده منهما، لأنه قد لا يقدر على العدل في تسع ويقدر على العدل في ثمان، ولو كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ لَكَانَ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْعَدْلِ فِي تِسْعٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ ينكح إلا واحدة ولما جاز لَهُ اثْنَانِ وَلَا ثَلَاثٌ وَلَا أَرْبَعٌ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ الدَّلِيلِ مَعَ نَصِّ السُّنَّةِ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ، ومَعَهُ عشر نسوة فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ " وَأَسْلَمَ نَوْفَلُ بْنُ معاوية وأسلم معه خَمْسٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً " وَلِأَنَّهُ مَا جَمَعَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحد تقييداً بِفِعْلِهِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ مَعَ رَغْبَتِهِمْ فِي الِاسْتِكْثَارِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْأَوْلَادِ، وَأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَكْثَرُوا مِنَ الْإِمَاءِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى أَرْبَعٍ مِنَ النِّسَاءِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَظْرِ مَا عَدَاهُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ خُصَّ فِي النِّكَاحِ بِمَا حَرُمَ عَلَى سَائِرِ أُمَّتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ لَهُ النِّسَاءُ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَمَا أُبِيحَ لِلْأُمَّةِ إلا عدد محصور، وليس وإن مات من تسع يجب أن يكون هي العدد المحصور فقد جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ.
وَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَمْ يُحْصَرْنَ بِعَدَدٍ ممكن عَلَى الْإِطْلَاقِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْحُرِّ نِكَاحُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ فَنَكَحَ خَمْسًا نُظِرَ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُ جَمِيعِهِنَّ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنَ الخمس غير متعينة فبطل نكاح الجميع وإن عَقَدَ عَلَيْهِنَّ مُنْفَرِدَاتٍ بَطَلَ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ الْأَخِيرَةِ، وَصَحَّ نِكَاحُ مَنْ تَقَدَّمَهَا فَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا فِي عَقْدٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عَقْدٍ صَحَّ نِكَاحُ الثلاث لتقدمهن، وبطل نكاح الاثنتين لتأخرها، فلو أشكل المتقدم من العقد بَطَلَ نِكَاحُ الْخَمْسِ كُلِّهِنَّ فَلَوْ نَكَحَ ثَلَاثًا فِي عَقْدٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَوَاحِدَةً فِي عَقْدٍ وَأُشْكِلَ الْمُتَقَدِّمَاتُ مِنْهُنَّ صَحَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ فِي أَحْوَالِهَا كُلِّهَا عَلَى الصِّحَّةِ، وبطل نكاح الثلاث والاثنين لنزولهن بَيْنَ حَالَتَيْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ، وَبَيَانُ تَنْزِيلِهِنَّ فِي الْأَحْوَالِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الثلاث ثم الاثنين ثُمَّ الْوَاحِدَةِ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَالْوَاحِدَةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ الثَّلَاثِ ثُمَّ الْوَاحِدَةِ صَحَّ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ وَالْوَاحِدَةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَإِنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ الثَّلَاثِ ثُمَّ الِاثْنَتَيْنِ صَحَّ نكاح الواحدة والثلاث وبطل نكاح والاثنتين وَصَارَتِ الْوَاحِدَةُ ثَانِيَةً فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَصَحَّ نكاحها ولما رود كاح الثَّلَاثِ وَالِاثْنَتَيْنِ بَيْنَ حَالَتَيْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ بَطَلَ نكاحهن.

مسألة
قال الشافعي: " والآية تدل على أنها على الأحرار بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} وَمِلْكُ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَحْرَارِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ الْمَالَ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ ".

(9/167)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ عَلَى الشَّطْرِ مِنَ اسْتِبَاحَةِ الْحُرِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَطَاءٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أبو حنيفة، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَقَالَ مَالِكٌ: الْعَبْدُ كَالْحُرِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَرْبَعٍ.
وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثَلاثَ وَرُبَاع) {النساء: 3) . ولأنه لما كان لعان الحرائر أَرْبَعًا مُسَاوَاةً بِعَدَدِ مَنْ أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ كَانَ لِعَانُ الْعَبْدِ أَرْبَعًا كَالْحُرِّ وَجَبَ أَنْ يَسْتَبِيحَ أَرْبَعًا كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ العبد أوسع مِنْ نِكَاحِ الْحُرِّ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْكِحُ الْأَمَةَ على الحرة ويجمع بين أمتين بخلاف الحر فلم يجز هو أَوْسَعُ حُكْمًا أَنْ يَضِيقَ فِي الْعَدَدِ عَنْ حُكْمِ الْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مُسَاوِيًا لِلْحُرِّ فِي أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُ في أعداد المنكوحات.
ودليلنا قَوْله تَعَالِيَ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ شَرَكَاءَ فِي مَا رَزَقَنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) {الروم: 28) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مساوٍ لِلْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ قَالَ يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَيَنْكِحُ اثْنَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ فِيهِمْ مُخَالِفٌ.
وَالثَّانِي: ما رواه الليث من أبي سليم عن الحكم بن عيينة قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليه أَنْ لَا يَنْكِحَ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ولأن ما نقص في عدله ومعناه شاطر العبد فيه كالحر كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَ الْأَحْرَارُ فِيمَا اسْتَبَاحُوهُ مِنَ الْعَدَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبعضهم عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ الْعَبْدُ فِيهِ عَنِ الْحُرِّ لِنَقْصِهِ عَنْهُ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَسِيَاقُ الْكَلَامِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الأحرار دون العبيد، لأن قوله أوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسَطُوا فِي اليَتَامَى) {النساء: 3) . متوجه إِلَى الْأَحْرَارِ، لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ عَلَى الْأَيْتَامِ، وَقَوْلُهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النَّسَاءِ) {النساء: 3) . مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَنْكِحَ مَا طَابَ لِنَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) . مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لا يملك.
وما اسْتِدْلَالُهُمْ بِاللِّعَانِ فَهُوَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ عَلَى التَّفَاضُلِ وَلَا هُوَ الْعِلَّةُ فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ وَإِنِ اتفقا، وإنما يجري مَجْرَى الْيَمِينِ عِنْدَنَا وَالْبَيِّنَةِ عِنْدَ غَيْرِنَا.

(9/168)


وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ حُكْمَ الْعَبْدِ فِي النِّكَاحِ أَوْسَعُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ أَوْسَعُ حُكْمًا فِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْصُ، وَأَضْيَقُ حُكْمًا فِيمَا طَرِيقُهُ الْكَمَالُ وَاسْتِبَاحَتُهُ لِلْأَمَةِ نَقْصٌ فَاتَّسَعَ حُكْمُهُ فِيهِ وَالْعَدَدُ كَمَالٌ فَضَاقَ حُكْمُهُ فِيهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَاهُ فِي أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ سَاوَاهُ فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ فَبَاطِلٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يساوي الأمة في أعيان المحرمات ولا يساويه فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ متساو العدد متفاضلٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْكِحُ أكثر من اثنتين فحكمه إن نكح ثلاثاً كحم الْحُرِّ إِذَا نَكَحَ خَمْسًا عَلَى مَا بَيَّنَاهُ وكذلك المدبر والمكاتب، ومن رق بعضه - والله أعلم -.

مسألة
قال الشافعي: " فإذا فَارَقَ الْأَرْبَعَ ثَلَاثًا تَزَوَّجَ مَكَانَهُنَّ فِي عِدَّتِهِنَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ لِمَنْ لَا امْرَأَةَ له أربعاً وقال بعض الناس لا ينكح أربعاً حتى تنقضي عدة الأربع لأني لا أجيز أن يجتمع ماؤه في خمسٍ أو في أختين (قلت) فأنت تزعم لو خلا بهن ولم يصبهن أن عليهن العدة فلم يجتمع فيهن ماؤه فأبيح له النكاح وقد فرق الله تعالى بين حكم الرجل والمرأة فجعل إليه الطلاق وعليها العدة فجعلته يعتد معها ثم ناقضت في العدة (قال) وأين؟ قلت: إذ جعلت عليه العدة كما جعلتها عليها أفيجتنب ما تجتنب المعتدة من الطيب والخروج من المنزل؟ قال لا، قل فلا جعلته في العدة بمعناها ولا فرقت بما فرق الله تعالى به بينه وبينها وقد جعلهن الله منه أبعد من الأجنبيات لأنهن لا يحللن له إلا بعد نكاح زوج وطلاقه أو موته وعدةٍ تكون بعده والأجنبيات يحللن له مِنْ سَاعَتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَطَلَّقَهُنَّ وَأَرَادَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى أَرْبَعٍ سِوَاهُنَّ، أَوْ عَلَى أُخْتِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ جَازَ لَهُ عَقِيبَ طَلَاقِهِنَّ، سَوَاءً كَانَ طَلَاقُهُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا واحدة، أو اثنتين بغير عوض لمن يكن له العقد على أحد حتى ينقص عَدَدُهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ مَا كُنَّ فِي عَدَدِهِنَّ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ عَلَيْهِنَّ، وَحُصُولِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، فَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَازِ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتِهَا أَوْ عَلَى خامسةٍ غَيْرِهَا، وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ اثْنَتَيْنِ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ ثَلَاثٍ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى ثَلَاثٍ، وَلَوِ انْقَضَتْ عدة الأربع جاز له العقد على الأربع، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا بِعِوَضٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي عَدَدِهِنَّ بِأَرْبَعٍ سِوَاهُنَّ أَوْ بِأُخْتِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِهِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ.

(9/169)


وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يجوز إلا بعد انقضاء عدتهن.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ.
ومن التابعين: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وهذا نص لما به يعقد في أختين، ولأنها معتدة في حقه في مِنْ طَلَاقِهِ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى أختها كالرجعية، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: " مِنْ حَقِّهِ " مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُطَلِّقُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا وَيُنْكِرَ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُطَلِّقِ فِي اسْتِبَاحَةِ عَقْدِهِ عَلَى أُخْتِهَا، وَالْقَوْلُ قولها في بقاء عدتها، ويكون مُعْتَدَّةً فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّهِ، وَاحْتَرَزَ بقوله: " من طلاقه " من ردتها فإنه يجوز لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْمُرْتَدَّةُ فِي عِدَّتِهَا وَمِنْ أَنْ يَطَأَ أَمَةً ثُمَّ يَبِيعُهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا مِنْ وَطْئِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ كل جمع منح مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ مُنِعَتْ مِنْهُ الْعِدَّةُ كَالْجَمْعِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهَا نِكَاحَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ نِكَاحَ أُخْتِهَا مِنَ النِّسَاءِ ثُمَّ كَانَ تَحْرِيمُ غَيْرِهِ بَاقِيًا عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ، وَجَبَ أَنْ يكون تحريم أختها باقياً عليها في العدة.
ودليلنا في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) {النساء: 3) . وَقَدْ يَطِيبُ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا وَلِأَنَّهُ جَمْعٌ حُرِّمَ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالطَّلَاقِ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنْ قِيلَ فَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمَّا لَمْ يحرم عليها نكاح غيره لم يحرم عَلَيْهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهَا نِكَاحُ غَيْرِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ.
قِيلَ: إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْهَا بَعْدَ الدُّخُولِ نِكَاحُ غَيْرِهِ، لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ ولم يحرم عليه، لأنه غير معتد، ولأنها مبتوتة يحل لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ فَحَلَّ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ كَالْمُخْبَرَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ولأنها فرقة يمنع من وقوع طلاقه فوجب أن يبيح مَا حَرُمَ مِنَ الْجَمْعِ بِعُقْدَةٍ كَالْوَفَاةِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَلَمْ يحرم عليه نكاح أُخْتِهَا لِأَجْلِهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَبْتُوتَةَ مِنَ الْعِدَّةِ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ تَحِلُّ بِالْعَقْدِ فِي الْحَالِ، وَهَذِهِ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِعَقْدٍ بَعْدَ عِدَّتَيْنِ وَزَوْجٍ فَلَمْ يَجُزْ وَهِيَ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا مِنَ الْأَجَانِبِ أَنْ يَحْرُمَ بِهَا مَا لَا يَحْرُمُ بِالْأَجَانِبِ وَلِأَنَّ الْعَدَّةَ تَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ دُونَ الزَّوْجِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالمُطَلَّقَاتً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ) {البقرة: 228) . فَلَوْ مَنَعَتْ مِنَ النِّسَاءِ مَا مَنَعَتْ مِنَ الرِّجَالِ للزم من العدة كَمَا أُلْزِمَتْ وَلَوْ لَزِمَ مِنْ أَحْكَامِ العدة كما لزمها لزمه سائر أحكامها من تَحْرِيمِ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ كَمَا لزمها وفي المنع من إبراء أَحْكَامِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فِيمَا سِوَى النِّكَاحِ مَنْعٌ مِنْ إِجْرَاءِ حُكْمِهَا عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ) {النساء: 23) . فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُفَرِّقٌ فَكَيْفَ يَصِيرُ بِهِ جَامِعًا، وَالْجَمْعُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَالْفُرْقَةُ ضِدَّ الِاجْتِمَاعِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ، فتلك زوجته يقع عليها طلاقه، وظهاره وتستحق بينهما

(9/170)


التَّوَارُثَ وَهَذِهِ قَدْ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً، لِأَنَّهَا لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ وَلَا ظِهَارُهُ وَلَا يَتَوَارَثَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ كَمَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ.
وأما قياسهم عليها فالمعنى فيها أنها معتدة والمعتدة محرم عَلَيْهَا نِكَاحُ غَيْرِهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُ بِمَاءِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّجُلُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ وليس في عقده على غيرها اختلاط مائين فَافْتَرَقَا.

فَصْلٌ
فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى إِبْطَالِ مَذْهَبِهِمْ بِثَلَاثَةِ فُصُولٍ ذَكَرْنَا مِنْهَا فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ما فيه مِنْ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ وَقَدْ أَوْجَبَهَا الله عَلَيْهَا دُونَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِالطَّلَاقِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَكَيْفَ تَبْقَى عَلَى حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فتحرر كَلَامُهُ فِيهِ مِنْ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو تَحْرِيمُهُمْ لِنِكَاحِ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَقْدِ النِّكَاحِ، أَوْ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ.
فَإِنْ كَانَ لعقد النكاح فقد ارتفع بطلان الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَوْ خَلَا بِهَا من طَلَّقَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ فَبَطَلَ التعليل بكلى الأمرين، واعترضوا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِالْفَسَادِ، فَقَالُوا: نحن حرمنا المدخول بها باجتماع المائين وتعلل غير المدخول بها من هَذَا الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَنَقْضُ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ بِوُجُودِهَا مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ وَلَا يَكُونُ النَّقْضُ بِوُجُودِ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَبِلَ تَعْلِيلًا بِالرِّدَّةِ كَانَ نَقْضُ الْعِلَّةِ بِأَنْ لَا تُقْبَلَ مَعَ وُجُودِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَكُنْ نَقْضُهَا بِأَنْ تُقْبَلَ مَعَ عدة الردة بقتل أو زنا، كذلك هاهنا يحرم المدخول بها لاجتماع المائين ولا ينقض هذا التَّعْلِيلُ لِتَحْرِيمِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْعِلَلَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ عَامًّا لِجِنْسِ الْحُكْمِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَاصًّا لِأَعْيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ.
فَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِجِنْسِ الْحُكْمِ كَتَعْلِيلِ الربا بأنه مطعومٍ انتقضت هذه العلة بوجوب الحكم ولا علة، كما تنقض بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ حَتَّى إِنْ وُجِدَ الربا فيما ليس بمطعوم كان نقضاً كما لو وجد مطعوماً لَيْسَ فِيهِ رِبًا كَانَ نَقْضًا وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِأَعْيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ كَتَعْلِيلِ الْبُرِّ بِأَنَّ فِيهِ الرِّبَا، لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ انْتُقِضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بِوُجُودِهَا مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ حَتَّى إِنْ وُجِدَ مَطْعُومٌ لَا رِبًا فِيهِ كَانَ نقضاً ولم ينتقض بِوُجُودِ الْحُكْمِ، وَلَا عِلَّةَ حَتَّى إِذَا ثَبَتَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ وَلَيْسَ بِمَطْعُومٍ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِلْزَامِ النقض في تعليلهم باجتماع المائين إنما هو تعليل لجنس الْحُكْمِ الْعَامِّ فَانْتُقِضَ بِوُجُودِ الْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ كما ينتقض بوجود العلة ولا حكم.

(9/171)


مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا هَلَكَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا جميع المهر، لأنها قد استهلكته بِالدُّخُولِ سَوَاءً مَاتَتْ أَوْ قُتِلَتْ وَسَوَاءً كَانَتْ حرة، أو أمة، فأما إذا هَلَكَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هلاكها بالموت.
والثاني: أن يكون هلاكها بِالْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ هَلَاكُهَا بِالْمَوْتِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ سَوَاءً كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، لِأَنَّ غَايَةَ النِّكَاحِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ فَإِذَا حَدَثَ الْمَوْتُ فَقَدِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْعَقْدِ فَاسْتَحَقَّتْ بِهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحُرَّةَ فِي قَبْضِ الزَّوْجِ، لأنها مخيرة عَلَى الْمُقَامِ مَعَهُ فَإِذَا مَاتَتِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ المهر، كالسلعة إذا تلفت بعض قبض المشتري لها استحق عليها ثَمَنُهَا، وَالْأَمَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي قَبْضِ السَّيِّدِ دون الزوج، لأنها لا تخير عَلَى الْمُقَامِ مَعَهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ السَّيِّدِ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَهْرًا كَالسِّلْعَةِ إِذَا بلغت فِي يَدِ بَائِعِهَا سَقَطَ عَنِ الْمُشْتَرِي ثَمَنُهَا.

فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَ هَلَاكُهَا بِالْقَتْلِ دُونَ الْمَوْتِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ هِيَ الْقَاتِلَةَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَهَا غَيْرُهَا، فَإِنْ قتلها غيرها فضربان:
أحدهما: أَنْ يَقْتُلَهَا الزَّوْجُ فَعَلَيْهِ مَهْرُهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ الْحُرَّةَ كَالْمَقْبُوضَةِ، وَالْأَمَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ فَقَدِ اسْتَهْلَكَهَا مُسْتَحِقُّ قَبْضِهَا فَلَزِمَهُ مَهْرُهَا كَمَا يَلْزَمُ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ إِذَا اسْتَهْلَكَهَا فِي يَدِ بَائِعِهَا جَمِيعُ ثَمَنِهَا وَيَصِيرُ الِاسْتِهْلَاكُ قَبْضًا كَذَلِكَ الْقَتْلُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَهَا أَجْنَبِيٌّ غَيْرَ الزَّوْجِ فَحُكْمُ قَتْلِهِ لَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِيَّةِ حُكْمُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً وَلَا يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ أَمَةً، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْقَاتِلَةَ لِنَفْسِهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَمَةِ: أَنْه لَا مَهْرَ لَهَا إِذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا أَوْ قَتَلَهَا غَيْرُهَا.
وَقَالَ فِي الْحُرَّةِ: إِنَّ لَهَا المهر إن قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ النَّصِّ فِيهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ اخْتِلَافَ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يوجب حملهما على اختلاق قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا حُرَّةً كانت أو أمة لأن الفسخ جائز مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَأُسْقِطَ مَهْرُهَا كَالرِّدَّةِ والرضاع.

(9/172)


وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ وَقَعَتْ بالموت وَخَالَفَتِ الرَّضَاعَ وَالرِّدَّةَ لِمَا فِيهِمَا مِنَ التُّهْمَةِ لِاخْتِيَارِ الْفُرْقَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَتْلِ تُهْمَةٌ بِاخْتِيَارِ الْفُرْقَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ المروزي - أن الجواب على ظاهره فتكون لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً وَلَا يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ أَمَةً وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ فَرْقِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ الْحُرَّةَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مَتَى شَاءَ فَصَارَ التَّسْلِيمُ مِنْ جِهَتِهَا مَوْجُودًا فَاسْتَحَقَّتِ الْمَهْرَ بِحُدُوثِ التَّلَفِ وَالْأَمَةُ بِخِلَافِهَا، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إِذَا شَاءَ حَتَّى يَرْضَى السَّيِّدُ فَصَارَ التَّسْلِيمُ مِنْ جِهَتِهَا غَيْرَ مَوْجُودٍ فَسَقَطَ الْمَهْرُ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نِكَاحِ الحرة الألفة والمواصلة دون الوطء لجواز عقده على من لا يمكن وطئها مِنْ صَغِيرَةٍ وَرَتْقَاءَ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ قَبْلَ الدُّخُولِ فَثَبَتَ لَهَا الْمَهْرُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْوَطْءُ دُونَ الْمُوَاصَلَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا مِنْ خَوْفِ الْعَنَتِ وَذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ لَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ الْمَهْرُ.
والفرق الثالث: أن الحرة قد تستنفد مِيرَاثَهَا فَجَازَ أَنْ يَغْرَمَ مَهْرَهَا وَالْأَمَةُ لَمْ تستنفد ميراثها فلم تغرم مهرها والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ بَاعَهَا حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَلَا مهر له حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا صَحَّ الْبَيْعُ وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَائِشَةَ اشْتَرَتْ بَرِيْرَةَ، وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ فَأَثْبَتَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشِّرَاءَ وَلَمْ يُبْطِلِ النِّكَاحَ وَخَيَّرَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ بين المقام أو الفسخ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ تَنَاوَلَ الِاسْتِمْتَاعَ وَعَقْدَ الْبَيْعِ تَنَاوَلَ الرَّقَبَةَ فَتَنَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ غَيْرَ مَا تَنَاوَلَهُ الْآخَرُ فَصَحَّا مَعًا، كَمَا لَوْ آجَّرَهَا ثُمَّ بَاعَهَا فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيِسَ لَوْ آجَّرَهَا ثُمَّ بَاعَهَا كَانَ بَيْعُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، فَهَلَّا كَانَ بِيعُهَا بَعْدَ تَزْوِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ قُلْنَا: إِنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ حَائِلَةٌ، لِأَنَّ السَّيِّدَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا له فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بَيْعُهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَيَدُ الزَّوْجِ غَيْرُ حَائِلَةٍ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ فَصَحَّ بَيْعُهَا قَوْلًا وَاحِدًا.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْبَيْعِ وَصِحَّةُ النِّكَاحِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

(9/173)


أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ دُخُولِ الزَّوْجِ بها فقد استحق الزوج مَهْرَهَا سَوَاءً كَانَ مُسَمَّى فِي الْعَقْدِ أَوْ غَيْرَ مُسَمَّى لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ قَبْلَ دُخُولِ الزوج بها فَالْمُشْتَرِي يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَى الزَّوْجِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْبَائِعُ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا الْمُشْتَرِي إِلَى الزَّوْجِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ مُطَالَبَتُهُ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ كَانَ لِلزَّوْجِ اسْتِرْجَاعُهُ فَإِنْ سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي إِلَى الزَّوْجِ حَتَّى دخل بها استقر الْمَهْرُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ صَحِيحًا مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ فَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَقْدِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ، فَصَارَ كَالْكَسْبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَبِيعِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ فَاسِدًا مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ فَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا لِلْبَائِعِ أَيْضًا دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ مَعَ التَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَقْدِ.
وَالْقِسْمُ الثالث: أن يكون عوضه لم يسم لها في العقد مهراً لَا صَحِيحَ وَلَا فَاسِدَ فَيَفْرِضُ الْحَاكِمُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ كَالْمُسَمَّى، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يُعَرَّى عَنْ مَهْرٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالدُّخُولِ دُونَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لو استق جَمِيعُهُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَاسْتُحِقَّ نِصْفُهُ قَبْلَ الدخول وهو لا يستحق قَبْلَ الدُّخُولِ شَيْئًا مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا بِالدُّخُولِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَهْرُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، وَمِثْلُ هَذَا إذا أعتق السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرًا وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْعِتْقِ ثُمَّ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ فَيَكُونُ مُسْتَحِقُّهُ عَلَى هذين القولين:
أحدهما: السيد المعتق إذا قبل: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: الزَّوْجَةُ الْمُعْتَقَةُ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالدُّخُولِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -.
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن طَلَبَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَهُ بَيْتًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى السَّيِّدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ فَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِي النَّفَقَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مُمَكَّنٍ من الدخول بها فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَهْرٌ، وَإِنْ كَانَ مُمَكَّنًا مِنَ الدُّخُولِ بِهَا لم يجز أن يمنع بعد التمكين من زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَزَمَانُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا أَقَلُّ

(9/174)


من زمان الاستماع بِالْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ عَلَيْهَا تَمْكِينُ نَفْسِهَا مِنَ الزَّوْجِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَالْأَمَةَ يَلْزَمُ تَمْكِينُهَا مِنَ الزَّوْجِ لَيْلًا وَلَا يَلْزَمُ تَمْكِينُهَا مِنْهُ نَهَارًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَمَةَ قَدِ اسْتَحَقَّ السَّيِّدُ استخدامها والزوج الاستمتاع بها، ولذلك جاز للسيد بعد تزويجها أن يؤجرها، وليست الحرة مستحقة لخدمة نفسها، ولذلك لَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي مَنْفَعَةِ الْأَمَةِ حَقَّانِ حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ لِلسَّيِّدِ وَحَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى زَمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَسْتَوْفِيهِ مُسْتَحِقُّهُ فَوَجَدْنَا الليل بالاستمتاع أحق مِنَ النَّهَارِ فَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِاسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ وَوَجَدْنَا النَّهَارَ بِالِاسْتِخْدَامِ أَخَصَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَجَعَلَنَا النَّهَارَ لاستخدام السيد، ولو كان ما يستحقه مِنَ الِاسْتِخْدَامِ بِالنَّهَارِ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْهَا، وَهِيَ عِنْدُ الزَّوْجِ كَالْغَزْلِ وَالنِّسَاجَةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا مِنْ صَنَائِعِ الْمَنَازِلِ، فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ إِذَا وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ أَنْ يُسْكِنَهَا مَعَ الزَّوْجِ نَهَارًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أبى إسحاق - يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ لِوُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ - إِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ هَذَا الِاسْتِخْدَامِ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مَعَ الزَّوْجِ من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يمكنه السيد مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا كَامِلَةً لكمال الاستمتاع.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا لِفَوَاتِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا لَيْلًا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَيَمْنَعَهُ مِنْهَا نَهَارًا فِي زَمَانِ الِاسْتِخْدَامِ، فَفِي نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - إنه لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَيَلْتَزِمُهَا السَّيِّدُ، لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ النَّفَقَةُ، وَهُوَ النَّهَارُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة - إن عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا بِقِسْطِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي اللَّيْلِ وَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا بِقِسْطِ مَا يَسْتَحِقُّهُ من الاستخدام لها في النهار، لأن لكل واحد من الزمانين حظاً في الحاجة إلى النفقة فلم يلزم السيد قسط الليل كما لم يلزم الزوج قسط النهار.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ وَطِئَ رجلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَوْلَدَهَا كَانَ عليه مهرها وَقِيمَتُهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قِيَاسُ قَوْلِهِ أَنْ لَا تكون ملكاً لأبيه ولم أم ولدٍ بِذَلِكَ وَقَدْ أَجَازَ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ فَيُولِدَهَا فإذا لم يكن له بأن يولدها من خلال أم ولدٍ بقيمةٍ فكيف بوطءٍ حرامٍ وليس بشريكٍ فيها فيكون في معنى من أعتق شركاً له في أمةٍ وهو لا يجعلها أم ولدٍ للشريك إذا أحبلها وهو

(9/175)


معسر وهذا من ذلك أبعد (قال) وإن لم يحبلها فعليه عقرها وحرمت على الابن ولا قيمة له بأن حرمت عليه وقد ترضع امرأة الرجل بلبنه جاريته الصغيرة فتحرم عليه ولا قيمة له ".
قال الماوردي: وصورتها في رجلٍ وطء جارية ابنه فقد أثم بوطئه لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ) {المؤمنون: 5، 6) . وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطِئُهَا، فإن قيل: فلو كان هذا الأب من يستحق على ابنه أن يعفه فكان لَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْإِعْفَافِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ إِذَا مَنَعَهُ مِنَ الْإِعْفَافِ كَمَا إِذَا مُنِعَ مِنْ حق أن يتوصل إلى استعفافه.
قِيلَ: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الْإِعْفَافِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ حَقُّ إِعْفَافِهِ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ، وَإِنَّ لِلِابْنِ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى إِعْفَافِهِ بِغَيْرِهَا مِنَ الْإِمَاءِ أو النساء فلذلك صارت مع استحقاقه مُحَرَّمَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ وَطْءُ الْأَبِ لَهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يحبلها، أو لا يحبلها فَالْكَلَامُ فِي وَطْئِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: فِي وُجُوبِ الْحَدِّ.
وَالثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ.
وَالثَّالِثُ: فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ.
وَالرَّابِعُ: فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ.
الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ

فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ ذلك أو لم يطئها، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ فَيَ وَطْئِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ الابن بوطئه جارية الأب مع وجود الشبهة في ماله الذي يسقط بِهَا عَنْهُ قَطَعُ السَّرِقَةِ، وَجَبَ أَنْ يُحَدَّ الْأَبُ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الِابْنِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي مَالِهِ يَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ قَطْعُ السَّرِقَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوْلَادُكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ طَيِّبِ كَسْبِكُمْ " فَلَمَّا تَمَيَّزَ الْأَبُ فِي مَالِ الِابْنِ بِهَذَا الْحُكْمِ قَوِيَتْ شُبْهَتُهُ فِيهِ عَنْ شُبْهَةِ الِابْنِ فِي مَالِ الْأَبِ فَوَجَبَ لِقُوَّةِ شُبْهَتِهِ عَلَى شُبْهَةِ الِابْنِ أَنْ يُدْرَأَ بِهَا عَنْهُ الْحَدُّ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبَهَاتِ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ الِابْنُ من نفس أبيه قوداًَ منع من حَدًّا، لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَلَوْ قَذَفَهُ لَمْ يُحَدَّ بِهِ، ويقتل الابن بأبيه ويحد بقذفه فوجب أَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنِ الْأَبِ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الِابْنِ وَإنْ لَم يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنِ الِابْنِ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الْأَبِ لِأَنَّ الْحَدَّ إِنْ أُلْحِقَ بَحَدِّ الْقَذْفِ لَمْ يَجِبْ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِالْقَوْدِ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجِبْ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ، وَلِأَنَّ عَلَى الِابْنِ إِعْفَافَ أَبِيهِ لَوِ احْتَاجَ وَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ إِعْفَافُ ابْنِهِ إِذَا احْتَاجَ فَلَمَّا كَانَ الْوَطْءُ جِنْسًا يَجِبُ عَلَى الِابْنِ تَمْكِينُ أَبِيهِ مِنْهُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَبِ تَمْكِينُ ابْنِهِ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ

(9/176)


الحد عن الأب، لأنه لَهُ حَقّا مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الِابْنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ مِنْ جِنْسِهِ وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ.
فَأَمَّا السَّرِقَةُ فَإِنَّمَا سقط القطع عن كل واحد منهما في مال الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي شُبْهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الِابْنِ قَدْ تَجِبُ فِي مَالِ الْأَبِ كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْأَبِ فِي مَالِ الِابْنِ فَاسْتَوَيَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَدُّ الْوَطْءِ لِاخْتِصَاصِ الْأَبِ فِيهِ بِالشُّبْهَةِ دُونَ الابن كما يَسْتَحِقُّهُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ مِنَ الْإِعْفَافِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الِابْنُ عَلَى الْأَبِ فَافْتَرَقَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فَفِي تَعْزِيرِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعَزَّرُ لِيَرْتَدِعَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ مِثْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُعَزَّرُ، لِأَنَّ التَّعْزِيرَ بَدَلٌ مِنَ الْحَدِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ فَكَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ تَعْزِيرٌ، فَهَذَا حُكْمُ وَطْءِ الْأَبِ لَهَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا ثُمَّ وَطِئَهَا الْأَبُ بَعْدَهُ فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: عليه الحد، إذا علم بالتحريم إنها مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا بِخِلَافِ الَّتِي لَمْ يَطَأْهَا الِابْنُ فَصَارَتْ مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي وَطْءِ زَوْجَةِ ابْنِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا وإن وطئها فهي من جملة أمواله التي يتعلق بها شبهة أبيه ويشبه أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قوليه في وجوب الحد على من وطء أخته من نسبٍ أو رضاع أو بملك اليمين

فصل: القول في وجوب المهر على من وطئ جارية ابنه
وأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ فَهُوَ معتبر بوجود الْحَدِّ وَسُقُوطِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ لِكَوْنِهِ وَطْءُ شُبْهَةٍ فِي حَقِّهِ، يُوجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ فَاقْتَضَى لُزُومَ الْمَهْرِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَيَكُونُ الْمَهْرُ حَقًّا لِابْنِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنَ اكْتِسَابِ أَمَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنِ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَقَدْ سَقَطَتْ شُبْهَتُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُنْظَرُ فِي شُبْهَةِ الْأَمَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً قَهْرَهَا الأب على نفسها ثبت شُبْهَتُهَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا، فَوَجَبَ الْمَهْرُ فِي وَطْئِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شُبْهَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا، وَكَانَتْ مُطَاوِعَةً، فَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَمَا وَجَبَ الْمَهْرُ وَإِذْ هِيَ أَمَةٌ، فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا مَهْرَ لها، لأنها بالمطاوعة قد صَارَتْ بَغِيا وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ " وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي.
والقول الثاني: لها المهر ويملكه الحد، لأنه من أكسابه فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُطَاوَعَتِهَا وَخَالَفَتِ الْحُرَّةُ الَّتِي تَمْلِكُ مَا أَبَاحَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا وَلَا تَمْلِكُهُ الْأَمَةُ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ بَذَلَتْ

(9/177)


قُطِعَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِهَا لَمْ يَضْمَنْهُ الْقَاطِعُ، لِأَنَّ الْبَاذِلَ لَهُ مَالِكٌ، وَلَوْ بَذَلَتْهُ الْأَمَةُ ضمنه القاطع، لأن الباذل له غير مالك، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ.

فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي تحريم الجارية بعد وطء أبيه
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ فَالتَّحْرِيمُ من وجهين:
أحدهما: تحريمها على الابن.
والثاني: تحريمها على الأب.
فأما تحريمها عَلَى الِابْنِ فَمُعْتَبَرٌ بِوَطْءِ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَ موجباً للحد لم يحرم بِهِ عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ حَرُمَتْ بِهِ عَلَى الِابْنِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ صَرَفَتْهُ إلى حكم الوطء الحلال، وأما تحريمها عَلَى الْأَبِ إِنَّ حُكْمَهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الِابْنِ، وإن كَانَ قَدْ وَطِئَهَا حَرُمَتْ عَلَى الْأَبِ كَزَوْجَةِ الِابْنِ إِذَا وَطِئَهَا الْأَبُ بِشُبْهَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِمَا معاً، وإن كان بحال الابن فإن وَطِئَهَا حَلَّتْ لِلْأَبِ أَنْ يَطَأَهَا بِحَقِّ مِلْكِهِ، فَلَوْ كَانَ الِابْنُ قَدْ قَبَّلَهَا أَوْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَبِ قَوْلَانِ.

فصل: القول في وجوب قيمة الجارية
وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ وُجُوبُ قِيمَتِهَا عَلَى الْأَبِ فَلَا يَجِبُ سَوَاءً حَرَّمَهَا عَلَى الِابْنِ أو لم يحرمها.
وقال الْعِرَاقِيُّونَ: إِنْ حَرَّمَهَا عَلَى الِابْنِ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا عليه، هذا خَطَأٌ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَهْلَكَةٍ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى ثَمَنِهَا بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بالتحريم غُرْمٌ كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْ زَوْجَةُ الرَّجُلِ أَمَتَهُ بِلَبَنِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْزَمْهَا غُرْمُ قِيمَتِهَا لوصوله إلى ثمنها، لكن لَوْ كَانَتْ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الْأَبُ لَزِمَهُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ عُضْوًا مِنْ بَدَنِهَا فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ وَطْئِهِ إِذَا لَمْ تحبل.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا أَحْبَلَهَا الْأَبُ بِوَطْئِهِ فَالْأَحْكَامُ الأربعة لازمة له، ويختص بإحباله لها أربعة أحكام:
أحدها: لحوق الولد به.
وَالثَّانِي: كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ.
وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ قِيمَتِهَا.
وَالرَّابِعُ: وُجُوبُ قِيمَةِ الْوَلَدِ.
فَأَمَّا لُحُوقُ الْوَلَدِ به فإن وجب الحد عليه لم يحلق بِهِ الْوَلَدُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لِارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ وَلُحُوقُ الْوَلَدِ يَكُونُ مَعَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ فَتَنَافَيَا، وإذا كان كذلك ووجب الحد فصار زانياً، وولد الزنا لا يلحق الزَّانِي لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ويكون الولد مرفوقاً لِلِابْنِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْأَبِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي إِدْرَاءِ الحد

(9/178)


موجبة للحوق الولد، وإذا لحق به الولد صَارَ حُرًّا لِأَنَّهُ مِنْ شُبْهَةِ مِلْكٍ فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْوَلَدِ مِنْ مِلْكٍ كَمَا أَنَّ الولد من شبهة نكاح في نكاح الولدين نكاح.

فصل
وأما كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوَلَدِ، فَإِنْ لم يلحق به لم تصر له أُمَّ وَلَدٍ، وَإِنْ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أنها تعتبر لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، وَبِهِ قَالَ الرَّبِيعُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ - إنها لا تصير أُمَّ وَلَدٍ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ فَإِذَا قِيلَ: بِالْأَوَّلِ إِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّبِيعِ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، فَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لحق به ولدها بشبهة الملك كلحوقه به في الْمَالِكِ وَجَبَ أَنْ تَصِيرَ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ كَمَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْمِلْكِ.
وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي: إِنَّهَا لَا تَصِيرُ أم ولد، وهو اختيار المزني فوجهه أَنَّهُ أَوْلَدَهَا فِي غَيْرِ مِلْكٍ فَلَمْ تَصِرْ به أم ولد وإن عتق الْوَلَدُ كَالْغَارَّةِ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا بِشَرْطِ الْحُرِّيَّةِ فَتَكُونُ أمة، فإن ولده منه حر ولا تصير له أم ولدٍ، فأما المزني فإنه استدل بصحة هَذَا الْقَوْلِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: إنْ قَالَ قَدْ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ لِلِابْنِ أَنَّ يُزَوِّجَ أَبَاهُ بأمته، ولو أولدها هذا الوطء الحلال لم تصر به أُمَّ وَلَدٍ فَكَيْفَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِوَطْءٍ حَرَامٍ؟
وَالثَّانِي: إنْ قَالَ: لَيْسَ الْأَبُ شَرِيكًا فِيهَا فَيَكُونُ كَوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا فَتَصِيرُ بِهِ إِذَا أَوْلَدَهَا أُمَّ وَلَدٍ، لأن الشريك مَلِكا، وَلَيْسَ لِلْأَبِ مِلْكٌ.
وَالثَّالِثُ: إنْ قَالَ لَمَّا لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلشَّرِيكِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَلَهُ مِلْكُ فُلَأن لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ، وَلَيْسَ لَهُ مِلْكٌ أَوْلَى فَانْفَصَلَ أَصْحَابُنَا عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُزَنِيِّ ترجيحاً للقول الأول.
فإن قَالُوا: أَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ لِلِابْنِ أَنْ يُزَوِّجَ أَبَاهُ بِأَمَتِهِ وَلَا تَصِيرُ بِالْإِحْبَالِ أُمَّ وَلَدٍ فَمَدْفُوعٌ عَنْهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ دَفْعِهِ عنه فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ينسبان المزني إلى السهو والغفل في نقله، وإنه غلط في تزويجه لجارية أبيه إلى تزويجه لجارية ابْنِهِ وَمَنَعُوا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَبُ بِجَارِيَةِ الِابْنِ، وَإِنْ حَلَّ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ الْأَبِ، وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ ذَلِكَ نَصًّا فِي " الدعوى والنيات " لِأَنَّ عَلَى الِابْنِ أَنْ يَعِفَّ أَبَاهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَمَتِهِ وَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَعِفَّ ابْنَهُ فَجَازَ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَمَتِهِ وَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبُ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّزْوِيجِ بِأَمَةِ الِابْنِ، لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا لَمْ يَعْدَمِ الطَّوْلَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا صَارَ بِوُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ، فَعَلَى هَذَا اسْتِدْلَالُهُ مَدْفُوعٌ بِغَلَطِهِ وَقَالَ

(9/179)


آخَرُونَ: بَلْ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ بِجَارِيَةِ ابْنِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ هَذَا النَّقْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا، وَأَنَّهُ قَوْلٌ ثَانٍ للشافعي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الِابْنَ إِعْفَافُ أَبِيهِ كَمَا لَا يَلْزَمُ الْأَبَ إِعْفَافُ ابْنِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَوَّزَ تَزْوِيجَهُ بِهَا فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ لَا عَلَى الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ إِعْفَافُهُ عَلَى الِابْنِ وَاجِبًا، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَزْوِيجُهُ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَمْلُوكًا فَزَوَّجَهُ بِأَمَتِهِ، لِأَنَّ إِعْفَافَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يَجُزْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الِابْنَ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْأَمَةِ وهو إليها محتاج فزوجه بأمته، لأنه معسراً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْفَافُ أَبِيهِ، وَلَوْ كَانَ معسراًَ لَمْ يَجُزْ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ أَوْ عَلَى مَا تقدم من الوجه العام فتزويج أَبِيهِ بِأَمَتِهِ لَمْ تَصِرْ بِإِحْبَالِ الْأَبِ أُمَّ ولد فإن صَارَتْ بِإِحْبَالِهِ لَهَا فِي غَيْرِ نِكَاحٍ أُمَّ وَلَدٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا وَطِئَهَا بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا فانتشرت حرمته وتعدت إلى أمه فصارت به أُمَّ وَلَدٍ، وَإِذَا وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ كَانَ الولد مملوكً ليس له حرمة حرية تقعد إلى الأمم فَلَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الثاني: في أنه ليس بمالك فخالف الشرك الْمَالِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَتْ حصة غير الواطىء أم ولد للواطىء، وليست مِلْكًا لَهُ وَلَا لَهُ فِيهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ فَلَأَنْ تَصِيرُ جَارِيَةُ الِابْنِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ، لِأَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةَ مِلْكٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا مِلْكٌ أَوْلَى.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الثَّالِثُ: بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِرْ حِصَّةُ الشَّرِيكِ بِاعْتِبَارِ الْوَاطِئِ أُمَّ وَلَدٍ لِلشَّرِيكِ الْوَاطِئِ وَلَهُ مِلْكٌ فَلَأَنْ لَا تَصِيرَ لِلْأَبِ الَّذِي لَيْسَ له ملك أولى، فهو خطأ، لأن إعسار الْأَبِ مُخَالِفٌ لِإِعْسَارِ الشَّرِيكِ، لِأَنَّ الْأَبَ يَقْوَي شُبْهَتُهُ بِإِعْسَارِهِ لِوُجُوبِ إِعْفَافِهِ وَالشَّرِيكُ تَضْعُفُ شُبْهَتُهُ بِإِعْسَارِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى عِتْقُهُ إِلَى حِصَّةِ الشَّرِيكِ، ثُمَّ يَسَارُ الْأَبِ مُخَالِفٌ لِيَسَارِ الشريك، لأن الْأَبِ مُسَاوِيًا لِيَسَارِ الشَّرِيكِ لَا لِإِعْسَارِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ يَسَارَهُ مُوجَبٌ لِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ فكذلك الأب.

فَصْلٌ
فَأَمَّا وُجُوبُ قِيمَتِهَا عَلَى الْأَبِ فَعَلَى ضربين:

(9/180)


أحدهما: أن يلحق بها وَلَدُهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَلْحَقَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَمُوتَ بِالْوِلَادَةِ، أَوْ لَا تَمُوتَ، فَإِنْ لَمْ تَمُتْ بِالْوِلَادَةِ فليس عليها قِيمَتُهَا، لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى رِقِّ الِابْنِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَيْعِهَا وَأَخْذِ ثَمَنِهَا وَإِنْ مَاتَتْ بِالْوِلَادَةِ فَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهَا عَلَيْهِ لِأَجْلِ اسْتِهْلَاكِهِ لها لا أجل كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ " الْغَصْبِ ".
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهَا، لِتَلَفِهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا، لِأَنَّ نُشُوءَ الْوَلَدِ الَّذِي حَدَثَ بِهِ موتها ليس من فعله ولجواز أن يكون موتها بغيره، فعلى هذا إن قبل الأول إنَّهُ غَارِمٌ لِلْقِيمَةِ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مَا كانت من وقت الوطئ المحبل، وإلى وَقْتِ التَّلَفِ، وَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَلَمْ تَمُتْ ضِمْنَ نَقْصَ قِيمَتِهَا كَالْمَغْصُوبَةِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ قِيمَتِهَا وَلَا ضَمَانُ نَقْصِهَا، فَهَذَا حُكْمُ ضَمَانِهَا إِذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ولدها.
فأما إذا لحق بها وَلَدُهَا، فَإِنْ جَعَلْنَاهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ضَمِنَ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْعُلُوقِ، لِأَنَّهَا بِهِ صَارَتْ أُمَّ ولد، وسوء مَاتَتْ بِالْوِلَادَةِ أَوْ لَمْ تَمُتْ، وَسَوَاءً كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَلَا وَجْهَ لِمَا فَرَّقَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَيْنَ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ كَوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِأَنَّنَا جَعَلْنَاهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ لِحُرْمَةِ الْوَلَدِ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ فَاسْتَوَتِ الْحَالُ في يساره وإعساره ولو جعلناها في اعتبار الْوَاطِئِ أُمَّ وَلَدٍ لَأَدْخَلْنَا على الشريك الضرر ولم ترفعه عنه، وإن لم يجعلها لِلْأَبِ أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَمُوتَ بِالْوِلَادَةِ فَيَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا قَوْلًا وَاحِدًا بخلاف التي لم تلحق بِهِ وَلَدُهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ وَلَدَ هَذِهِ لَاحِقٌ بِهِ فَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهَا مُتَّصِلًا بِهِ وَوَلَدُ تِلْكَ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ فَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهَا مُنْفَصِلًا عَنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لا تموت فلا يلزمها قيمتها مدة لَا فِي حَالِ الْحَمْلِ وَلَا بَعْدَ الْوَضْعِ وقال أبو حامد الإسفراييني: يُؤْخَذُ بِقِيمَتِهَا مُدَّةَ الْحَمْلِ إِلَى أَنْ تَضَعَ، فإذا وضعت استرجع القيمة، لأن لابن مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهَا بِإِحْبَالِ الْأَبِ لَهَا لِكَوْنِ وَلَدِهَا حُرًّا فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا مَعَ الْوَلَدِ لِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ وَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ بَيْعَ الْحَامِلِ دُونَ وَلَدِهَا لَا يَصِحُّ، فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا أَبِقَتْ يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِقِيمَتِهَا حَتَّى إِذَا عَادَتْ رُدَّتِ الْقِيمَةُ كَذَلِكَ هَذِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْقَيِّمَةَ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ عِنْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ، وَتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ، وَالْعَيْنُ هَاهُنَا مَوْجُودَةٌ وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا بِغَيْرِ

(9/181)


الْبَيْعِ مُمْكِنٌ فَلَمْ يَجُزْ مَعَ بَقَائِهَا فِي يده وتصرفه فيها أن يجمع بينهما وبين قيمتها بخلاف المغصوبة إذا أبقت فلم يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا يَدٌ، وَلَا هُوَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِهَا قَادِرٌ وَلَيْسَ مَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ مِنْ تَأْخِيرِ بَيْعِهَا إِلَى وَقْتِ الْوَضْعِ مُوجِبًا لِأَخْذِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى التَّسْلِيمِ كَالْمَغْصُوبَةِ إِذَا هَرَبَتْ إِلَى مَكَانٍ مَعْرُوفٍ يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِرَدِّهَا وَلَا يُؤْخَذُ بِقِيمَتِهَا كذلك هذه في مدة حملها فهذه وجه لم يُفْسِدْ مَا قَالَهُ مِنْ وَجْهٍ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيمَةَ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ إِذَا مُلِكَتْ مِلْكًا مستقراً في الظاهر، لأن المقصود بِهِ إِذَا أَبِقَتْ يُحْكَمُ بِقِيمَتِهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْفَوَاتِ وَهَذِهِ الْقِيمَةُ لَا تُمْلَكُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَإِنَّمَا تَصِيرُ فِي يَدِهِ إِمَّا كَالْعَارِيَةِ، وِإِمَّا كَالرَّهْنِ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِوَاجِبٍ فَلِمَاذَا يُحْكَمُ بِهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ وَلَا مُعَارَةٍ، وَلَا مَرْهُونَةٍ، يَفْسَدُ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ جامعاً بين الرقبة والقيمة وأحدهما بدل من الآخر فلم يجز الجمع بينهما.

فَصْلٌ
وَأَمَّا وُجُوبُ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِالْأَبِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِبَقَاءِ رِقِّهِ وَلَا يُعْتَقُ عَلَى الِابْنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ وَلَوْ نَاسَبَهُ لَنَاسَبَهُ بِالْأُخُوَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الولد حراً قد لحق بِالْأَبِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا تُجْعَلَ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ وَيَسْتَبْقِيهَا عَلَى رِقِّ الِابْنِ فَيَجِبُ عَلَى الْأَبِ غُرْمُ قِيمَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ رِقَّهُ بِالْحُرِّيَّةِ وَاعْتَبَرَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْوِلَادَةِ.
وَقَالَ أبو يوسف: وَقْتَ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِتَقَدُّمِ اسْتِهْلَاكِهِ بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى وَقْتِ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ وَقْتَ الْعُلُوقِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْوُصُولَ إِلَى قِيمَتِهِ إلا عند الولادة فلذلك اعْتَبَرْنَاهَا فِيهِ وَلَوْ أَمْكَنَ الْوُصُولُ إِلَى قِيمَتِهِ وقت العلوق لاعتبرناه.
والضرب الثاني: أن يجعل أُمَّهُ أُمَّ وَلَدٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن يضعه بَعْدَ دَفْعِ قِيمَتِهَا فَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ قِيمَةُ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهَا بِدَفْعِ الْقِيمَةِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَصَارَتْ وَاضِعَةً لَهُ فِي مِلْكِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ دَفْعِ قِيمَتِهَا، وفي وجوب قيمته قولان مبنيان على اختلاف قوليه مَتَى تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ: أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ قِيمَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا تَضَعُهُ بَعْدَ كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْعُلُوقِ مَعَ دَفْعِ الْقِيمَةِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ قِيمَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَقْتَ الْوِلَادَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَهَذَا حُكْمُ وَطْءِ الأب جارية ابنه، وذلك لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ بِنْتِهِ، أَوْ بِنْتِ ابْنِهِ، أَوِ ابْنِ بِنْتِهِ، أَوْ مَنْ سَفَلَ مِنْ أولاده والله أعلم.
فصل
فأما إذا وطء الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ فَهُوَ زَانٍ وَالْحَدُّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ إِنْ لَمْ يَجْهَلِ التَّحْرِيمَ بِخِلَافِ الْأَبِ لما قدمناه من الفرق بينهما في التسمية فِي الْإِعْفَافِ، وَفِي الْحُرْمَةِ فِي الْقِصَاصِ فَيَجْرِي عليهم حُكْمُ الزِّنَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ إِنْ أَكْرَهَهَا وَفِيهِ إِنْ طَاوَعَتْهُ

(9/182)


قَوْلَانِ: لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا وَلَا تَصِيرُ به أم ولد وفي وجوب قيمتها قَوْلَانِ: وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهَا لِإِسْلَامِهِ حَدِيثًا أو قدومه من بادية صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي الْإِكْرَاهِ وَالْمُطَاوَعَةِ وَلَحِقَ به الولد مملوكاً في حال العلوق؛ لأنه لَمْ يَكُنْ لَهُ شُبْهَةُ مِلْكٍ كَالْأَبِ وَلَا أعتقد حرية الْمَوْطُوءَةِ كَالْغَارَّةِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ فِي حَالِ الْعَلُوقِ مَمْلُوكًا لَكِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَى الْأَبِ، لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ، وَمَنْ مَلَكَ ابْنَ ابْنِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ رِقَّهُ لَمْ يَمْلِكْ قِيمَتَهُ ولا تصير الأمة أم الولد للابن فِي الْحَالِ وَلَا إِنْ مَلَكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ لِأَنَّهَا مَا عَلَقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ وَإِنَّمَا صَارَ بَعْدَ الْوَضْعِ حُرًّا فَلَمْ يَتَعَدَّ إِلَيْهَا حَكَمُ حُرِّيَّتِهِ كَمَا لَوْ أَوْلَدَهَا مِنْ نِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهَا عَلَقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ، هكذا حكم الابن إذا وطء جَارِيَةَ أَبِيهِ، أَوْ جَدِّهِ، أَوْ جَدَّتِهِ، أَوْ وطء الأخ جارية أخيه.

فصل 4: وإذ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابنه ووطء الابن جارية أبيه قد ذكر مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ إِعْفَافِ صَاحِبِهِ.
أَمَّا الِابْنُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ إِعْفَافُهُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّ نفقة الابن بعد الكبر مستصحبة لحال الصِّغَرِ الَّتِي لَا يُرَاعَى فِيهَا الْإِعْفَافُ فَاسْتَقَرَّ فِيهِ حُكْمُ مَا بَعْدَ الْكِبَرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الصغر، فأما الْأَبُ فَوُجُوبُ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ مُعْتَبَرٌ بِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلَا إِعْفَافُهُ، وَإِنْ كَانَ معسراً نظر فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ بِزَمَانَةٍ أَوْ هَرَمٍ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ اعْتِبَارًا بِفَقْرِهِ.
وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ اعْتِبَارًا بِقُدْرَتِهِ.
فَإِنْ لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ الْأَبِ لَمْ يَجِبْ إِعْفَافُهُ وإن وجبت نفقه، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى الزَّوْجَةِ حَاجَةٌ لِضَعْفِ شَهْوَتِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الِابْنِ تَزْوِيجُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى النِّكَاحِ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ فَفِي وُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَقَلَهُ ابْنُ خَيْرَانَ وَتَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ مِنْ كَلَامِ الْمُزَنِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِعْفَافُهُ وَإِنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة اعْتِبَارًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِالِابْنِ فِي أَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهِ لَا تَقْتَضِي وُجُوبَ إِعْفَافِهِ لَوِ احْتَاجَ.
وَالثَّانِي: بالأم في أن وجوب نفقتها لا تقتضي وجوب إعفافها لو احتاجت، وإن كَانَ إِعْفَافُهُ مُعْتَبَرًا بِالطَّرَفِ الْأَدْنَى سَقَطَ بِالِابْنِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالطَّرَفِ الْأَعْلَى سَقَطَ بِالْأُمِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ " وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ إِعْفَافَهُ وَاجِبٌ كَنَفَقَتِهِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) {لقمان: 15) وإنكاحه مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وُقِيَتْ نَفْسُ الْأَبِ بِنَفْسِ الِابْنِ فَلَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الْأَبِ بِالِابْنِ فأولى إن توفى نفسه بِمَالِ الِابْنِ فِي وُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ فِي

(9/183)


الْإِعْفَافِ لِلِافْتِرَاقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَبِ، وَالْأُمِّ فِي الْإِعْفَافِ هُوَ أَنَّ إعفاف الأب إلزام فَوَجَبَ عَلَى الِابْنِ وَإِعْفَافَ الْأُمِّ اكْتِسَابٌ فَلَمْ يجب على الابن.

فصل
فإذا تقرر وجوب الْأَبِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِيمَنْ يَجِبُ إِعْفَافُهُ مِنَ الْآبَاءِ.
وَالثَّانِي: فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْفَافُ مِنَ الْأَبْنَاءِ.
وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِعْفَافُ
القول فيمن يجب إعفافه من الآباء

فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَنْ يَجِبُ إِعْفَافُهُ مِنَ الآباء فهو كل والد فيه بعضيه وإن علا وسواء كَانَ ذَا عَصَبَةٍ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ كَأَبِي الْأَبِ أَوْ كَانَ ذَا رَحِمٍ كَأَبِي الْأُمِّ وَهُمَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ سَوَاءٌ، وَهَكَذَا أبو الأب وأبو الْأُمِّ، وَهَكَذَا أَبُو أُمِّ الْأَبِ وَأَبُو أُمِّ الأم هما سواء في الزوج وَسَوَاءٌ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ وَهَكَذَا لَوِ اخْتَلَفَ دَرْجُهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَبَا أَبٍ، وَالْآخَرُ أَبَا أُمٍّ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا وَإِعْفَافُهَا إِذَا أَمْكَنَ تَحَمُّلُ الْوَلَدِ لَهُمَا.
فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ أَبَوَانِ وَضَاقَتْ حَالُ الِابْنِ عَنْ نَفَقَتِهِمَا وَإِعْفَافِهِمَا وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِأَحَدِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الدَّرَجِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلَا.
فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون أحدهما عصبة والآخر ذا رحم كأبي أب الأب وأبو أم الأم فالعصبة مِنْهُمَا أَحَقُّ بِتَحَمُّلِ نَفَقَتِهِ وَإِعْفَافِهِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا ذَا رَحِمٍ كَأَبِي أُمِّ الْأَبِ وَأَبِي أب الْأُمِّ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ وَالرَّحِمِ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوِيَ أَبَوَانِ فِي الدَّرَجَةِ وَالتَّعْصِيبِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الدَّرَجَةِ وَالرَّحِمِ، وإذا كان كذلك وجب أن يسوي بينهما لاستوائهما في كَيْفِيَّةِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا إِذَا أَعْجَزَهُ الْقِيَامُ بِهِمَا وجهان:
أحدهما: يتفق عَلَى أَحَدِهِمَا يَوْمًا وَعَلَى الْآخَرِ يَوْمًا لِتَكْمُلَ نَفَقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَوْمِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ واحد منهما في كل يوم نصف نفقته لِتَكُونَ النَّفَقَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا الْإِعْفَافُ فَلَا يَجِيءُ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ؛ لِأَنَّ المهاياة بينهما عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ، وَالْقِسْمَةَ بَيْنَهُمَا فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يُمْكِنُ وَإِذَا لم يمكنا وجب مع استواء سيدهما أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ فَأَيُّهُمَا قُرِعَ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِعْفَافِ مِنَ الْآخَرِ، وَأَمَّا إِنْ تَفَاضَلَا فِي الدَّرَجِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:

(9/184)


أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ عَصَبَةً وَالْأَبْعَدُ ذَا رَحِمِ كَأَبِي الْأَبِ وَأَبِي أُمِّ الْأُمِّ فَيَكُونُ أَبُو الْأَبِ أَحَقَّ بِالنَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ مِنْ أَبِي أم الأم لاختصاصه بسببي القربى والتعصيب.
والضرب الثاني: أن يكونا لأقرب ذَا رَحِمٍ وَالْأَبْعَدُ عَصَبَةً كَأَبِي الْأُمِّ وَأَبِي أبي الأب فقد قال أبو حامد الإسفراييني: هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ مِنْهُمَا نَاقِصُ الرَّحِمِ وَالْأَبْعَدَ مِنْهُمَا زَائِدٌ بِالتَّعْصِيبِ فَتَقَابَلَ السَّبَبَانِ فَاسْتَوَيَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ بَلِ الْأَقْرَبُ مِنْهُمَا أَحَقُّ، وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مِنَ الْأَبْعَدِ، وَإِنْ كَانَ ذَا تَعْصِيبٍ لِأَنَّ المعنى في استحقاق النفقة والإعفاف هو الولاية دون التعصيب فلما تَسَاوَتِ الدَّرَجُ وَقَوِيِ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْصِيبِ كَانَ أَحَقَّ كأخوين أحدهم لأب وأم والآخر لأب.
وإذا اختلف الدَّرَجُ كَانَ الْأَقْرَبُ أَحَقَّ وَإِنْ قَوِيَ الْآخَرُ لتعصيب كَأَخٍ لِأَبٍ وَابْنِ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ.

فَصْلٌ: القول فيمن يجب عليه الإعفاف
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْفَافُ مِنَ الْأَبْنَاءِ فَهُمُ الْبَنُونَ، ثُمَّ الْبَنَاتُ، ثُمَّ بَنَوْهُمَا وَإِنْ بَعُدُوا فَيَجِبُ عَلَى الِابْنِ إِذَا كَانَ حُرًّا مُوسِرًا دُونَ الْبِنْتِ وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً كَمَا يَتَحَمَّلُ الْأَبُ نَفَقَةَ ابْنِهِ دُونَ الْأُمِّ فَإِنْ أُعْسِرَ بِهِ الِابْنُ تَحَمَّلَتْهُ الْبِنْتُ كَمَا لَوْ أُعْسِرَ الْأَبُ تَحَمَّلَتْها الْأُمُّ، فَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ ابْنَانِ مُوسِرَانِ تَحَمَّلَا بَيْنَهُمَا نَفَقَتَهُ وَإِعْفَافَهُ فَيَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ نِصْفَ الْإِعْفَافِ وَفِي كَيْفِيَّةِ تَحَمُّلِهِ لِنِصْفِ النَّفَقَةِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا تَحَمَّلَ ذَلِكَ الْمُوسِرُ مِنْهُمَا دُونَ الْمُعْسِرِ فَلَوْ أُيْسِرَ الْمُعْسِرُ وَأُعْسِرَ الْمُوسِرِ تَحَوَّلْتِ النَّفَقَةُ مِنَ الْمُعْسِرِ إِلَى الْمُوسِرِ فَأَمَّا الْإِعْفَافُ فَإِنْ كَانَ قد عجز مَنْ أُعْسِرَ سَقَطَ عَمَّنْ أُيْسِرَ إِلَّا مَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِعْفَافِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يحمله من أعسر وجب أن يَلْتَزِمَهُ مَنْ أُيْسِرَ، فَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ وَهُمَا مُوسِرَانِ كَانَ ابْنُ الِابْنِ أحق بتحملها مِنَ الْبِنْتِ كَمَا يَكُونُ الْجَدُّ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِ النَّفَقَةِ مِنَ الْأُمِّ، فَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنُ بِنْتٍ وَبِنْتُ ابْنٍ، فَفِي أَحَقِّهِمَا بِتَحَمُّلِ الْإِعْفَافِ وَالنَّفَقَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: ابْنُ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرٌ.
وَالثَّانِي: بِنْتُ الِابْنِ لِإِدْلَائِهَا بِذَكَرٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ يُدَلَى بِأُنْثَى وَالْأُنْثَى مُدْلِيَةٌ بِذَكَرٍ فَصَارَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فَلَوْ أَعَفَّ الِابْنُ أَبَاهُ ثم أيسر الأب سقطت عن الابن نفته ونفقة مَنْ أَعَفَّهُ بِهَا مِنْ زَوْجَةٍ. أَوْ أَمَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَبِيهِ بِالْأَمَةِ إِنْ كَانَ قَدْ أَعَفَّهُ بِهَا وَلَا بِصَدَاقِ الْحُرَّةِ إِنْ كَانَ قَدْ زَوَّجَهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّهُ بِسَبَبٍ لَا يُعْتَبَرُ اسْتَدَامَتُهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ العنت بعد نكاح الأمة.

فصل: القول فيما يكون به الإعفاف
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِعْفَافُ فَهُوَ مَا خَصَّ الْفَرْجَ مِنَ اسْتِمْتَاعٍ بِحُرَّةٍ بزوجه بها أو تسري بأمة يملكها إياها والخيار سفيه بَيْنَ التَّزْوِيجِ وَالتَّسَرِّي إِلَى الِابْنِ دُونَ الْأَبِ، فإن

(9/185)


أَرَادَ الِابْنُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْأَبَ رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ وَلَكِنْ يَتَزَوَّجُ الْأَبُ وَيَلْتَزِمُ الِابْنُ صَدَاقَ الزَّوْجَةِ ثُمَّ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا، وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُغَالِيَ فِي صَدَاقِ زَوْجَتِهِ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَقَلُّ صَدَاقِ مَنْ تُكَافِئُهُ مِنَ النِّسَاءِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ اعْتِبَارًا بِحَاجَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الِابْنِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى تَزْوِيجِ مَنْ لَا مُتْعَةَ فِيهَا مِنَ الْأَطْفَالِ، وَعَجَائِزِ النِّسَاءِ، وَذَوَاتِ الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ وَمَنْ تَشَوَّهَ خلقها لنفور النفس عنها، وَتَعَذُّرِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، فَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَتَزَوَّجُهَا إِلَّا مَنْ عَدِمَ الطَّوْلَ وَهُوَ بِالِابْنِ وَاجِدٌّ لِلطَّوْلِ فهذا حكم إعفافه بالتزويج.
فأما إعفافه بملك اليمين فَالِابْنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَهَبَ لَهُ أَمَةً مِنْ إِمَائِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِبَذْلٍ وَقَبُولٍ وَإِقْبَاضٍ؛ لِيَنْتَقِلَ بِصِحَّةِ الْهِبَةِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ واستقرارها بالقبض في مِلْكِ الِابْنِ إِلَى مِلْكِ الْأَبِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي ابْتِيَاعِ أَمَةٍ يَدْفَعُ عَنْهُ ثَمَنَهَا، فَإِنِ ابْتَاعَهَا الِابْنُ لَهُ نُظِرَ، فَإِنْ كان بإذنه صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُ، وَجَازَ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لاستقرار حكمه فيها وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَالشِّرَاءُ لِلِابْنِ دُونَ الأب؛ لأن الشراء للرشيد بغير إذنه لا يَصِحُّ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ الِابْنُ هِبْتَهَا لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا صَارَتْ مِلْكًا لَهُ بِالْهِبَةِ دُونَ الشِّرَاءِ وَجَازَ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا ثُمَّ عَلَى الِابْنِ الْتِزَامُ نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا كَالْحُرَّةِ فَلَوْ أَذِنَ الِابْنُ لِأَبِيهِ فِي وَطْءِ أَمَةٍ لَهُ لَمْ يَهَبْهَا لَهُ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ وَطْئُهَا لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَجُوزُ وَطْئُهَا إِلَّا بِمِلْكِ يمين أو عقد نكاح، والأب لا يَمْلِكْهَا بِهَذَا الْإِذْنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِوُجُودِ الطَّوْلِ، فَلَوْ زَوَّجَهُ الِابْنُ أَوْ سَرَّاهُ فَأَعْتَقَ الْأَبُ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يَلْزَمِ الِابْنَ أن يزوجه ويسر به ثانية بعد طلاقه؛ لِأَنَّ الْأَبَ قَدِ اسْتَهْلَكَ بِنَفْسِهِ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ أُلْزِمَ الِابْنُ مَثَلَهُ لِفَعَلَ الْأَبُ مِثْلَهُ فَأَدَّى إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَكِنْ لَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ أَوِ الْأَمَةُ حَتْفَ أَنْفِهَا، فَفِي وُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ ثانية وجهان:
أحدهما: يجب عليه لِبَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْأُولَى لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُوضَعُ لِلتَّأْبِيدِ فِي الْأَغْلَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وقال الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (المؤمنون: 5) الآية وفي ذلك دليلٌ على أن الله تبارك وتعالى أراد الأحرار لأن العبيد لا يملكون وقال عليه السلام " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلا أن يشترطه المبتاع " فدل الكتاب والسنة أن العبد لا يملك مالاً بحالٍ وإنما يضاف إليه ماله كما يضاف إلى الفرس سرجه وإلى الراعي غنمه (فَإِنْ قِيلَ) فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ العبد يتسرى (قيل) وقد روي خلافه قال ابن عمر رضي الله عنهما لا يطأ الرجل إلا وَلِيدَةً إِنْ شَاءَ بَاعَهَا وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا وإن شاء صنع بها ما شاء ".

(9/186)


قال الماوردي: إنما أراد الشافعي بهذا هل للعبد أن يسري وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ السَّيِّدُ لَمْ يَمْلِكْ وَيَكُونُ جَمِيعُ مَا يَكْتَسِبُهُ مِنْ صَيْدٍ أَوْ إحشاش أو بصنعة أَوْ عَمَلٍ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ دُونَهُ، وَإِنْ مَلَكَهُ السيد فهل يملك أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مِلْكِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ مِلْكًا ضَعِيفًا لَا يَتَحَكَّمُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَلِلسَّيِّدِ اسْتِرْجَاعُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِلْكٌ قَوِيٌّ يَتَحَكَّمُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ لَكِنْ للسيد استرجاعه.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ " الْبُيُوعِ ".
فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ وَأَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَتَسَرَّى بِأَمَةٍ فَإِنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ إِيَّاهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أن يستبيح إلا وطء زوجة، وملك يَمِينٍ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لِلْعَبْدِ فِي وَطْئِهَا زَوْجَةً لَهُ، وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ فَلَمْ يحل له وطئها؟ ؟ لمجرد الْإِذْنِ كَمَا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَطَأَهَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ إياها فعلى قوله في القديم يصير مالكاً لها وليس له أن يطأها متسرباً لَهَا مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ فِي وطئها وإن صار مالكاً لها؛ لأنه ملك ضَعِيفٌ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا جَازَ له حينئذ التسري بها لَمْ يَرْجِعِ السَّيِّدُ فِي مِلْكِهِ أَوْ إِذْنِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَجَازَ لِعِكْرِمَةَ أن يتسرى بها بِجَارِيَةٍ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن العبد يتسرى وإن رجع السد في ملكه حرم على السيد أن يَتَسَرَّى بها لِزَوَالِ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَبَاحَ بِهِ التَّسَرِّيَ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَوْلَدَهَا صَارَتْ أم ولد له وحرم عليه بيعها فإن رجع السيد عليها بِهَا جَازَ لِلسَّيِّدِ بِيعُهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. فأما عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَلَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ وإن ملكه السيد ولا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَجَازَ لِعِكْرِمَةَ أَنْ يَتَسَرَّى بِجَارِيَةٍ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا فَالْمَرْوِيُّ خِلَافُهُ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ زَوَّجَهُ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا عِكْرِمَةُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَكَانَ ابن عباس رد طلاق لَا يَقَعُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ عَلَيْهَا فَكِرَهَ عِكْرِمَةُ ذَاكَ فَأَبَاحَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بها تطيباً لنفسه ومعتقداً أن الإباحة لعقد النِّكَاحِ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ مَا ذُكِرَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا يطأ الرجل إلا وَلِيدَةً إِنْ شَاءَ بَاعَهَا وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا وَإِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَحْرَارَ دُونَ الْعَبِيدِ لَكِنْ إِنْ وَطِئَهَا الْعَبْدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لمكان الشبهة.

(9/187)


فَصْلٌ
فَلَوْ زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ ثُمَّ باعها أو أحدهما أو وهبهما أَوْ أَحَدَهُمَا كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ وَلَوْ وَهَبَ الْعَبْدَ لِزَوْجَتِهِ وَأَقْبَضَهَا إِيَّاهُ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي القديم يملكه بِالْهِبَةِ وَيَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَصِحُّ أن تملك زوجها فتكون بعد الملك زوجاً لها وهكذا لو وهبت الْأَمَةُ لِزَوْجِهَا مِلْكَهَا وَبَطَلَ نِكَاحُهَا وَعَلَى قَوْلِهِ في الجديد لا يصح الهبة ويكون النكاح بحاله.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يَحِلُّ أَنْ يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا مَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ بحالٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّسَرِّي فَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى إِذَا كانت من ذوات المتع سُرِّيَّةً وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّرِّ وَهُوَ الْجِمَاعُ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ من الاستمتاع.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّرُورِ، لِأَنَّهَا تُسِرُّ الْمُسْتَمْتِعَ بِهَا.
فَأَمَّا تَسَرِّي الْعَبْدِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُخَارِجِ وَالْمُعَتَقِ عَلَى صِفَةٍ لَمْ تُوجَدْ وَالْمُكَاتَبِ، فَأَمَّا مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ فَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا ونصفه مملوكاً فهو يملك بعضه الْحُرَّ مِنْ إِكْسَابِهِ مِثْلَ مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ بِنِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ فَإِنْ هَايَأَهُ السَّيِّدُ عَلَى يَوْمٍ وَيَوْمٍ كَانَ مَا كَسَبَهُ فِي يَوْمِهِ مِلْكًا لَهُ وَمَا كَسَبَهُ فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يُهَايِئْهُ كَانَ نِصْفُ مَا كَسَبَهُ الْعَبْدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَلِكًا لِنَفْسِهِ ونصفه ملكاً للسيد فإذا اشترى بما ملكه مِنْ كَسْبِهِ أَمَةً مَلَكَهَا مِلْكًا مُسْتَقِرًّا؛ لِأَنَّهُ ملك بحريته بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ وَطْئُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ مَلَكَهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَيْهِ أَغْلَبُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ فكذلك في تسريه.
والثاني: أَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَتَمَيَّزُ فِي أَعْضَائِهِ مِنَ الرِّقِّ فَكُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ مُشْتَرَكُ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَطَأَ بِعُضْوٍ بَعْضُهُ مَرْقُوقٌ لِلسَّيِّدِ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ موقوفاً، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالشَّرْطُ فِي إِبَاحَةِ تَسَرِّيهِ إِذْنُ السَّيِّدِ دُونَ تَمْلِيكِهِ وَإِنِ افْتَقَرَ فِي العبد إلى تمليكه وإذنه، لأن هذا مالك فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَمْلِيكِهِ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَالِكٍ فافتقر إلى تمليكه فإذا أَذِنَ لَهُ جَازَ تَسَرِّيهِ، فَإِنْ أَوْلَدَهَا صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَحَرُمَ بَيْعُهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا مُلِّكَتْ بَحْرِيَّتِهِ فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ أُمَّهَاتِ الأولاد، وَكَانَ أَوْلَادُهُ مِنْهَا أَحْرَارًا لِاخْتِصَاصِهِمْ بِحُرِّيَّتِهِ دُونَ رقه.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُفْسَخُ نِكَاحُ حاملٍ مِنْ زِنًا وَأُحِبُّ أن تمسك حتى تضع وقال رجل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لامسٍ قَالَ " طلقها " قال إني أحبها قال " فأمسكها " وضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً وامرأةً في زناً وحرص أن يجمع بينهما فأبى الغلام ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّنَا نَكْرَهُ لِلْعَفِيفِ أَنْ يتزوج بالزانية وَنَكْرَهُ لِلْعَفِيفَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ

(9/188)


بِالزَّانِي لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا} الآية (النور: 3) وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي الرَّجُلِ إِذَا زَنَا بِامْرَأَةٍ هَلْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا أَمْ لَا؟
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي زَوْجَةِ الرَّجُلِ إِذَا زَنَتْ هَلْ يَبْطُلُ نِكَاحُهَا أَمْ لَا؟ .
فأما الفصل الأول في الرجل إذا زنا بِامْرَأَةٍ فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهُوَ قَوْلُ جمهور الصحابة والفقهاء، وذكر عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِحَالٍ.
وَقَالَ أبو عبيدة وَقَتَادَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ: إِنْ تَابَا مِنَ الزِّنَا حَلَّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَإِنْ لَمْ يَتُوبَا لَمْ يَحِلَّ.
قَالُوا: وَالتَّوْبَةُ أَنْ يَخْلُوَ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فَلَا يَهُمُّ بِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إلاَّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٍ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ} (النور: 3) فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَنْعِ وَتَعَقَّبَ مِنَ التَّحْرِيمِ نَصًّا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) {النساء: 24) .
فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْعَفِيفَةِ وَالزَّانِيَةِ.
وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَهَذَا نَصٌّ؛ ولأنه منتشر في الصحابة بالإجماع روي ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ؛ إِذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رجلاً تزوج امرأة وكان لها ابن عم مِنْ غَيْرِهَا وَلَهَا بِنْتٌ مِنْ غَيْرِهِ فَفَجَرَ الْغُلَامُ بِالْجَارِيَةِ وَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ مَكَّةَ رَفَعَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُمَا فَاعْتَرَفَا، فَجَلْدَهُمَا عمر الحد وعرض أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَأَبَى الْغُلَامُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أمة وعبد فَظَهَرَ بِالْأَمَةِ حَمْلٌ فَاتَّهَمَ بِهَا الْغُلَامَ فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ وَكَانَ لِلْغُلَامِ أصْبَعٌ زَائِدَةٌ، فَقَالَ: لَهُ إِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَهُ أصْبَعٌ زَائِدَةٌ جِلْدَتُكَ فقال: نعم، فَوَضَعَتْ وَلَدًا لَهُ أصْبَعٌ زَائِدَةٌ فَجَلَدَهُ ثُمَّ زَوَّجَهُ بِهَا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سئل أيتزوج الزاني بالزانية، فقال: نعم، ولو سرق رجل من كرم عنباً لكان يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا ولَمْ يَصِحَّ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَصَارَ إِجْمَاعًا.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:

(9/189)


أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ مَخْصُوصَةً فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في امرأة يقال لها أم مهزول مِنْ بَغَايَا الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الرَّايَاتِ، وَشَرَطَتْ له أن تنفق عليه فأنزل الله هذه الآية فيه وهذا قول عبد الله بن عمرو وَمُجَاهِدٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ وَالزَّانِيَةَ لَا يزني بها إلا زان، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوِلَايَةَ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ عَلَى الْعَفِيفِ، وَنِكَاحِ الْعَفِيفَةِ عَلَى الزَّانِي ثُمَّ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء} وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي زَوْجَةِ الرَّجُلِ إِذَا زنت هل ينفسخ نِكَاحُهَا أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أن النكاح صحيح لا ينفسخ بزناها وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ إِلَّا حِكَايَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّ نِكَاحَهَا قَدْ بَطَلَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لتحريم اجتماع المائين في فرج.
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا رَوَاهُ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ قَالَ: طَلِّقْهَا قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ اسْتَمْتِعَ بِهَا، فَكَنَّى بِقَوْلِهِ: " لَا تَرُدُّ يَدَ لَامَسٍ " عَنِ الزِّنَا فَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا وَلَوِ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِالزِّنَا لَمَا احْتَاجَ إِلَى طَلَاقٍ ثُمَّ لَمَّا أخبره أنه يُحِبُّهَا أَذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَوْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ لَنَهَاهُ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَلَأَعْلَمَهُ تَحْرِيمَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ " أَنَّهَا لَا تَرُدُّ مُتَصَدِّقًا طَلَبَ مِنْهَا مَالَهُ.
قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا لَقَالَ لَا تَرُدُّ يَدَ مُلْتَمِسٍ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَكُونُ مُلْتَمِسًا وَاللَّامِسَ يَكُونُ مُبَاشِرًا فَلَمَّا عَدَلَ إِلَى يَدِ لَامِسٍ خَرَجَ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ لَمَا خَرَجَ قَوْلُهُ فيها مخرج الذم ولما أمر بِطَلَاقِهَا وَلَأَمَرَهُ بِإِحْرَازِ مَالِهِ مِنْهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أسوداً فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَلَّ عِرْقًا نَزعَهُ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ كِنَايَةً عن زناها بأسود فلم يحرمها عليه، وَلِأَنَّ الْعَجْلَانِيَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا بِالزِّنَا حَرَامًا.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَزْنُوا فَتَزْنِي نِسَاؤُكُمْ فَإِنَّ بَنِي فُلَانٍ زَنَوْا فَزَنَتْ نِسَاؤُهُمْ "

(9/190)


فَدَلَّ هَذَا عَلَى بَقَائِهِمْ مَعَ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ الزنا، فأما تحريم اجتماع المائين في فرج فنحن على تحريمهما وإذا اجتمعا ثبت حكم الحلال منهما، وَسَقَطَ حُكْمُ الْحَرَامِ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ في الزنا هل يتعلق عليه شيء من أَحْكَامِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الزِّنَا: هَلْ ينتشر عنه حرمته في تحريم المصاهرة حتى تحرم عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا، وَيَحْرُمَ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ أم لا؟ والكلام فِي هَذَا بَابٌ مُفْرَدٌ يَأْتِي نَحْنُ نَذْكُرُهُ فيه.
الفصل الثاني: هل لما ذكرناه حُرْمَةٌ تَجِبُ بِهَا الْعِدَّةُ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْهُ سَوَاءً كَانَتْ حَامِلًا مِنَ الزِّنَا أو حائلاً، وسواء كانت ذات زوج فيحل لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا فِي الْحَالِ أَوْ كَانَتْ خَلِيَّةً فَيَجُوزُ لِلزَّانِي وَغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا غير أننا نكره له وطئها فِي حَالِ حَمْلِهَا حَتَّى تَضَعَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وربيعة والثوري والأوزاعي وإسحاق: عليها العدة من وطء الزنا بالإقرار إن كانت حائلاً ووضع الحمل إن كان حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حَرُمَ عَلَيْهِ وطئها حتى تنقضي العدة بالإقرار أَوِ الْحَمْلِ وَإِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً حَرُمَ عَلَى الناس كلهم نكاحها حتى تنقضي عدتها بالإقرار أو بالحمل.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وأبو يوسف: إِنْ كَانَتْ حَامِلًا حَرُمَ نِكَاحُهَا حَتَّى تَضَعَ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا لَمْ يَحْرُمْ نِكَاحُهَا وَلَمْ تَعْتَدَّ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَحْرُمُ نِكَاحُهَا حَامِلًا وَلَا حَائِلًا لَكِنْ إِنْ نَكَحَهَا حَامِلًا حَرُمَ عَلَيْهِ وطئها حتى تضع.
فأما مالك فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرَ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ ".
وَأَمَّا أبو يوسف فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُوْلاَتِ الأحْمَالِ أَجَلَهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ ".
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ "، وَأَنَّ عُمَرَ حِينَ جَلَدَ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ حَرَصَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عِدَّةٍ فَأَبَى الْغُلَامُ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ مِنَ الْمَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ لِحُرْمَتِهِ وَلُحُوْقِ النَّسَبِ بِهِ وَلَا حُرْمَةَ لِهَذَا الماء تقضي

(9/191)


لحوق النسب، فلم تجب مِنْهُ الْعِدَّةُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنِ الزِّنَا سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَطْءِ الْحَلَّالِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّسَبِ والإحسان وَالْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُهُ فِي العدة.
فأما استدلال مالك بقوله عليه السلام: ألا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، فَهَذَا وَارِدٌ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ وَكُنَّ منكوحاتٍ، وَلِلْإِمَاءِ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْحَرَائِرَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أبي يوسف بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتِ الأحْمَالِ أجَلَهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَالْمُرَادُ بِهِ مِنَ الزَّوْجَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ بِدَلِيلِ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ وُجُوبِ نَفَقَاتِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ مِنْ قَوْلِهِ: {أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجِدِكُمْ وَلاَ تُضَّارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإنْ كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فأَنْفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) {الطلاق: 6) .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أبي حنيفة بِقَوْلِهِ: " لَا تَسْقِ بمائك زرع غيرك " فإنما أراد فرعاً يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْحَلَالُ الَّذِي يَلْحَقُ بالواطء والحرام الذي يضاف إلى أحد فلم يتوجه النَّهْيُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي رجل يملك أمة وسأل هل يطأها فَقَالَ: لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ إِشَارَةً إِلَى مَاءِ الْبَائِعِ وَذَاكَ حَلَالٌ بِخِلَافِ الزِّنَا، والله أعلم.

(9/192)


نكاح العبد وطلاقه من الجامع من كتابٍ قديمٍ وكتابٍ جديدٍ، وكتاب التعريض

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنِ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ وَخَالَفَ مَالِكٌ فَيَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ كَالْحُرِّ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَكَذَلِكَ الْمُدْبِرُ وَالْمُكَاتِبُ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ ما لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ، وَسَوَاءً جَمَعَ بَيْنَ حُرَّتَيْنِ أَوْ أَمَتَيْنِ أَوْ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ تَقَدَّمَتِ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ أَوْ تَأَخَّرَتْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ كَالْحُرِّ.
وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ أَغْلَظُ حُكْمًا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ لكماله ونقصهما مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي قَدْ سَاوَى الْأَمَةَ فِي نَقْصِهَا، لِأَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ مَشْرُوطٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ وعدم الطول، فنكاح الْعَبْدِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِخَوْفِ الْعَنَتِ، فَلَمْ يَكُنْ مشروطاً بعدم الطول.

مسألة
قال الشافعي: " وقال عمر يطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين والتي لا تحيض شهرين أو شهراً ونصفاً وقال ابن عمر إذا طلق العبد امرأته اثنتين حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره وعدة الحرة ثلاث حيضٍ والأمة حيضتان وسأل نفيعٌ عثمان وزيداً فقال طلقت امرأةً لي حرة تطليقتين فقالا حرمت عليك (قال الشافعي) وبهذا كله أقول ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَيَمَلِكُ الْحُرُّ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، فَيَكُونُ الطَّلَاقُ مُعْتَبَرًا بِالزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الطَّلَاقُ مُعْتَبَرٌ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْأَزْوَاجِ فيملك زوج الحرة ثلاث طلقات حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا وَزَوْجُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَيْنِ حراً كان أو عبداً استدلالاً سنذكره من بعد مستوفاً لقول الله تعالى: {إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) {الطلاق: 1) فَجُعِلَ الطَّلَاقُ مُعْتَبَرًا بِالْعِدَّةِ ثُمَّ كَانَتِ الْعِدَّةُ مُعْتَبَرَةً بِالنِّسَاءِ دُونَ الْأَزْوَاجِ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ.
وَلِمَا رَوَى عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طلاق الأمة اثنتان وحيضتها اثْنَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " فَجَعَلَ الطَّلَاقَ وَالْعِدَّةَ مُعْتَبَرًا بالمطلقة والمعتدة؛ ولأن

(9/193)


الحر لما ملك اثنا عشر طَلْقَةً فِي الْحَرَائِرِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ سِتَّ طَلْقَاتٍ فِي الْحُرَّتَيْنِ لِيَكُونَ عَلَى النِّصْفِ فِي عَدَدِ الطَّلَقَاتِ كَمَا كَانَ عَلَى النِّصْفِ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) {الروم: 28) إنكار لتساويهما فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمِلْكِ.
وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ طَلَاقُ الْعَبْدِ، فَقَالَ: طَلْقَتَانِ، قَالَتْ: وَعِدَّةُ الْأَمَةِ، قَالَ: حَيْضَتَانِ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ خَاطِبًا عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي نُفَيْعٌ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا وَتَحْتَهُ حُرَّةٌ فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ، وَسَأَلَ عُثْمَانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَا: طَلَاقُكَ طَلَاقُ عَبْدٍ، وَعِدَّتُهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قال: قد حرمت عليك، وليس لمن ذكرنا فخالف مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْحُرُّ رَجْعَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ رَجْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَمْلِكُ بِالنِّكَاحِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَالْمَقْصُودُ بِهَا وقوع الطلاق في العدة، لأنه في العدة مُعْتَبَرٌ بِالْعِدَّةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كان زوجها عبداً؛ لأن الأغلب من الأزواج الْإِمَاءِ الْعَبِيدُ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الحر اثنتي عشر طَلْقَةً وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ سِتَّ طَلْقَاتٍ فخطأ؛ لأن العبد يملك زوجتين والحر يملك في الزوجتين سِتَّ طَلْقَاتٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُ الْعَبْدُ فِيهِنَّ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِنِصْفِهِنَّ، وَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ يَمْلِكَ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ فِي الزَّوْجَتَيْنِ لَكِنِ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضِ الطَّلَاقُ فَيَصِيرُ مَالِكًا لطلقة ونصف في كل واحدة كما الْكَسْر فَصَارَ مَالِكًا لِأَرْبَعِ طَلْقَاتٍ فِي الزَّوْجَتَيْنِ، فكان هذا استدلالاً بأن يكون لنا دليلٌ أشبه.

مسألة
قال الشافعي: " وإن تَزَوَّجَ عبدٌ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَالنِّكَاحُ فاسدٌ وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا إِذَا عَتَقَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فقد عَاهِرٌ " فَإِنْ تَزَوُّجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا بُطْلَانَ نِكَاحِهِ، وَأنَّ أبا حنيفة جَعَلَهُ مَوْقُوفًا على إجازة سيده وملك إمضائه وَجَعَلَ لِسَيِّدِهِ اسْتِئْنَافَ

(9/194)


فسخه، وذكرنا من حال المهر إن ينكح بِإِذْنِهِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ مَا أَقْنَعَ، فَأَمَّا إِذَا دَعَا الْعَبْدُ سَيِّدَهُ إِلَى تَزْوِيجِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا في إجبار السيد على إنكاحه قولين.
فلو أَرَادَ السَّيِّدُ إِجْبَارَ عَبْدِهِ عَلَى التَّزْوِيجِ فَقَدْ ذكرناه على قولين.
فأما الأمة إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ إِجْبَارَهَا عَلَى التَّزْوِيجِ فَلَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَوْ دَعَتِ الْأَمَةُ السَّيِّدَ إِلَى تَزْوِيجِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ لَوِ اسْتَمْتَعَ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ لِكَوْنِهَا أُخْتَهُ أَوْ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى تَزْوِيجِهَا إِذَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِجْبَارِهِ على تزويج العبد، وهكذا لَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِلْكًا لِامْرَأَةٍ كَانَ فِي إجبارها على تزويجها وجهان.

مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا فَفِيهَا قولان. أحدهما أنه كإذنه له بالتجارة فيعطي من مالٍ إن كان له وإلا فمتى عتق والآخر كالضمان عنه فيلزمه أن يبيعه فيه إلا أن يفديه ".
قال الماوردي: وهذا مما قد ذكرناه، وأن الفاسد من مناكح العبد هل تدخل فِي مُطْلَقِ إِذْنِ السَّيِّدِ أَمْ لَا؟ عَلَى قولين، وذكرنا من التفريع عليهما مَا أَجْزَأَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(9/195)


بَابُ مَا يَحْرُمُ وَمَا يَحِلُّ مِنْ نِكَاحِ الحرائر ومن الإماء والجمع بينهن وغير ذلك من الجامع من كتاب ما يحرم الجمع بينه ومن النكاح القديم ومن الإملاء ومن الرضاع
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَصْلُ مَا يَحْرُمُ بِهِ النِّسَاءُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا بأنسابٍ، وَالْآخَرُ بأسبابٍ مِنْ حَادِثِ نكاحٍ أَوْ رضاعٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: المحرمات من النساء ضربان:
أحدهما: ضرب حرمت أعيانهن على التأبيد، وضرب حرم تحريم جمع فأما الْمُحَرَّمَات الْأَعْيَانِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِأَنْسَابٍ.
والثاني: بأسباب.
فأما المحرمات بالأنساب فالتحريم طارئ عليهن، وقد نص الله عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِهِ فَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ أَرْبَعَ عشرة امرأةً: سبع منهن حرمن بأنساب، وسبع منهن حرمن بأسباب.
فأما السبع المحرمات بالأنساب فضربان: ضرب حرمن برضاع وضرب حرمن بنكاح وَهُنَّ الْمَذْكُورَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ مِنَ الرِّضَاعَةِ} (النساء: 23) فَذَكَرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعِ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: {وَأُمَهَّاتِ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبِكُمْ الَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أبْنَاءكُمْ الَّذِينَ مِنْ أصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَف} (النساء: 22) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) (النساء: 22) فذكر من المحرمات بالنكاح خمسا: أربع منهن تحريم تأبيد وخامسة تَحْرِيمَ جَمْعٍ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَقَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ السَّبْعِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَنْسَابِ لِتَغْلِيظِ حُرْمَتِهِنَّ وَأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ وُجُودِهِنَّ، فأول من بدأ بذكرها الأم؛ لأنها أغلظ حرمة فحرمها بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} واختلف أصحابنا في هذا التحريم المنصوص عليه إلى ماذا توجه عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ متوجه إلى العقد وَالْوَطْءِ مَعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْعَقْدِ.
فَأَمَّا الْوَطْءُ فَمُحَرَّمٌ بِالْعَقْلِ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَوْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ

(9/196)


وطئها لما منع أن يكون الشرع وارد به ومؤكداً لَهُ، وَإِذَا حَرُمَتِ الْأُمُّ فَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ علون من قبل الأم كأم الأم وجدتها، وَمِنْ قِبَلِ الْأَبِ كَأُمِّ الْأَبِ وَجَدَّاتِهِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَرُمْنَ بِالِاسْمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ كُلًّا تُسَمَّى أُمًّا.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْمُ الْأُمِّ مُنْطَلِقًا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَرُمْنَ لِمَعْنَى الاسم وهو وجود الولادة والعصبة فِيهِنَّ فَحَرُمْنَ كَالْأُمِّ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى دُونَ حَقِيقَةِ الِاسْمِ، وَيَكُونُ انْطِلَاقُ اسْمِ الْأُمِّ عَلَيْهِنَّ مَجَازًا فِي اللُّغَةِ وَحُكْمًا فِي الشَّرْعِ.
فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَطِئَ أُمَّهُ بِعَقْدٍ أَوْ غَيْرِ عَقْدٍ حُدَّ حَدَّ الزِّنَا وَقَالَ أبو حنيفة: لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَجَعْلَ الْعَقْدَ شُبْهَةً فِي إِدْرَائِهِ عَنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النَّصَّ الْمَقْطُوعَ به يمنع من دخول الشبهة عليه لا خروجه مِنْ أَنْ يُكُونَ نَصًّا قَاطِعًا.
وَالثَّانِي: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْبَنَاتُ فَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ عَلَى الْآبَاءِ وَهَلْ تناول النَّصُّ فِيهِنَّ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ مَعًا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ كَذَلِكَ بَنَاتُ الْبَنَاتِ وَالْأَبْنَاءِ وَإِنْ سَفَلْنَ ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَرُمْنَ بِالِاسْمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ كُلًّا يُسَمَّى بِنْتًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بِمَعْنَى الِاسْمِ مِنْ وُجُودِ الْوِلَادَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَطِئَ بِنْتَهُ بِعَقْدٍ أَوْ غَيْرِ عَقْدٍ حُدَّ، وَأَدْرَأَ أبو حنيفة عَنْهُ الْحَدَّ بِالْعَقْدِ.
وَالثَّالِثُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْأَخَوَاتُ فنكاحهن حرام وسواء كَانَتْ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ أُخْتًا لِأَبٍ أو أختاً لأم وهي بَاسِمِ الْأَخَوَاتِ مُحَرَّمَاتٌ فَلَوْ وَطِئَ رِجْلٌ أُخْتَهُ نظر فإن كان يعقد نِكَاحٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُحَدُّ كَالنِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: لا يحد لوطئه بالملك فإن حُدَّ لِوَطْئِهِ بِالنِّكَاحِ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَزَالَتِ الشُّبْهَةُ والملك ثابت فيها فثبتت شبهته، والأم تحدّ فِي وَطْئِهَا بِنِكَاحٍ وَمِلْكٍ لِأَنَّ مِلْكَهَا يَزُولُ بِشِرَائِهَا وَمِلْكُ الْأُخْتِ لَا يَزُولُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ وَيَلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا وَإِنْ ضر وَتَصِيرُ الْأُخْتُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَيْسَ يَلْحَقُ وَلَدٌ مَعَ وُجُوبِ الْحَدِّ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وهذا إِذَا وَطِئَ أُخْتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ فإن وطئ الذمي مُسْلِمَةً عَلَى مِلْكِهِ كَانَ فِي حَدِّهِ قَوْلَانِ، والولد لا حق به على القولين.
والرابع من المحرمات: وهو أَخَوَاتُ الْأَبِ وَسَوَاءً كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لأب أو لأم وكلهن محرمات بالاسم ثم عَمَّاتُ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَعَمَّاتُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ كُلُّهُنَّ محرمات كالعمات،

(9/197)


وهل حرمن بالاسم أو بمعناه، على وجهين فَإِنْ وَطِئَ إِحْدَاهُنَّ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ.
وَالْخَامِسُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْخَالَاتُ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْأُمِّ وَسَوَاءً كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَكُلُّهُنَّ محرمات بالاسم خَالَاتُ الْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ خَالَاتُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ كُلُّهُنَّ مُحرمَاتٌ كَالْخَالَاتِ وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بمعناه على الوجهين فإن وطئ إحداهن بعقد نِكَاحٍ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ:
وَالسَّادِسُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالِاسْمِ ثُمَّ بَنَاتُ بَنِي الْإِخْوَةِ وَبَنَاتُ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفَلْنَ كُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ كَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ، وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ:
وَالسَّابِعُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ سواء كانت الْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالِاسْمِ وَكَذَلِكَ بَنَاتُ بَنِي الْأَخَوَاتِ وَإِنْ سَفَلْنَ كُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ كَبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالْوَلَدُ يَلْحَقُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، إِذَا كَانَ الْوَاطئ بملك يمين.

مسألة
قال الشافعي: " وَمَا حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ حَرُمَ مِنَ الرِّضَاعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى اثْنَتَيْنِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ مِنَ الرِّضَاعَةِ} فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ دَاوُدُ وُقُوفًا عَلَى النَّصِّ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا عَنْهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا كَذَوَاتِ الأنساب، ولما رَوَتْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ "
وَرُوِيَ غَيْرُهَا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنه قَالَ: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " وَجَبَ إِجْرَاءُ الرَّضَاعِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى حكم النسب فيحرم بالرضاع سَبْعٌ كَمَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرْضَعَتْ وَلَدًا بِلَبَنٍ مِنْ زَوْجٍ فَالْوَلَدُ الْمُرْضَعُ ابْنٌ لَهَا وَلِلزَّوْجِ لأن اللبن حادث عنها بسبب ينتسب إِلَى الزَّوْجِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لها كالمولود منهما، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْمُرْضِعَةُ أُمًّا لَهُ وَكَانَ أُمَّهَاتُهَا جَدَّاتِهِ مِنْ أُمٍّ وَأَبَاؤُهَا أَجْدَادَهُ من أم وبناتها أخواتها من أم وأخوتها أَخْوَالَهُ مِنْ أُمٍّ وَأَخَوَاتُهَا خَالَاتِهِ مِنْ أُمٍّ وَكَانَ الزَّوْجُ أَبًا لَهُ وَآبَاؤُهُ

(9/198)


أَجْدَادَهُ مِنْ أَبٍ وَأُمَّهَاتُهِ جَدَّاتِهِ مِنْ أَبٍ وَبَنُوهُ إِخْوَتَهُ مِنْ أَبٍ وَإِخْوَتُهُ أَعْمَامَهُ وَأَخَوَاتُهُ عَمَّاتِهِ كَذَلِكَ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَنْسَابِ فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَتَصِيرُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ سَبْعًا كَمَا كَانَ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ سَبْعًا وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِنَّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُتَفَرِّعَاتِ عَلَى الْمُنَاسِبَاتِ، فيكون أخت الأب من الرضاع عمته محرمة سواء كانت أختا من نسب أو رضاع وكذلك أخت الجد من الرضاع وآبائه مُحَرَّمَة كَالْعَمَّةِ سَوَاءً كَانَتْ أُخْتًا مَنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ وَهَلْ يَحْرُمُ بِاسْمِ الْعَمَّةِ أَوْ بمعناها على ما ذكرنا من الوجهين ويكون أُخْتُ الْأُمِّ مِنَ الرَّضَاعِ خَالَةً مُحَرَّمَةً سَوَاءً كانت أختاً بنسب أو رضاع وكذلك أخت الجدة وأمها كَالْخَالَةِ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءً كَانَتْ أُخْتًا مِنْ نسب أو رضاع وهل يحرم بِاسْمِ الْخَالَةِ أَوْ بِمَعْنَاهَا عَلَى مَا مَضَى، من الوجهين وعلى هذا يكون حكم سائر الْقَرَابَاتِ مِنَ الرَّضَاعِ يُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْقَرَابَاتِ مِنَ النَّسَبِ، فَلَوْ وَطِئَ الرَّجُلُ أُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُد وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَفِي الْأُمِّ الْمُنَاسِبَةِ يُحَدُّ قولاً واحداً، وإن كان من مِلْكِهَا، لِأَنَّهَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَارْتَفَعَتْ شُبْهَتُهُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ فَحُدَّ، وَالْأُمُّ الْمُرْضِعَةُ لَا تَعْتِقُ بِالْمِلْكِ فَكَانَتْ شُبْهَتُهُ بَاقِيَةً مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ فَلَمْ يُحَدَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ وَطِئَ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوْ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ مِنَ الرِّضَاعِ بِعَقْدٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بملك يمين فعلى ضربين ما مضى من القولين، والولد يلحق إذا كان وطئه لواحدة من هؤلاء بملك يمين قَوْلًا وَاحِدًا.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ من تحريم الرضاع بعد ما قَدَّمْنَا مِنَ التَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ فَقَدْ مَضَى مِنَ المنصوص على تحريمهن في الآية تسع: سبع من النسب، واثنتان مِنَ الرَّضَاعِ، وَبَقِيَ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ فِي الْآيَةِ خمْسٌ حَرَّمَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ مصاهرة بعقد نكاح إحداهن أم الزوجة بقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} .
وَالثَّانِيَةُ: بِنْتُ الزَّوْجَةِ: وَهِيَ الرَّبِيبَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نَسَائَكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونوُا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . وَالثَّالِثَةُ: زَوْجَةُ الِابْنِ وَهِيَ حَلِيلَتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}
والرابعة: زوجة الأب بقوله تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِن النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ إِلَّا مَا قد سلف بالزنا والسفاح فإن كَانَ نِكَاحُهُنَّ حَلَالًا لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ حَلَائِلَ.
وَالْخَامِسَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسُ حَرُمْنَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِتَحْرِيمِ اثْنَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وعمتها.

(9/199)


وَالثَّانِيَةُ: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا.
وَسَنَذْكُرُ السنة الواردة فَصَارَ الْمُحَرَّمَاتُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ سَبْعًا كَمَا كَانَ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ سَبْعًا، وَكَمَا صَارَ الْمُحَرَّمَات بِالرَّضَاعِ سَبْعًا، وَهَؤُلَاءِ السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بعقد النكاح ينقسم حكمهن في التحريم ثَلَاثَة أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ حَرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ.
وَقِسْمٌ حَرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ.
وَقِسْمٌ حَرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ.
فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ فَهُنَّ ثَلَاثٌ:
إِحْدَاهُنَّ: أُمُّ الزَّوْجَةِ هِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ سَوَاءً دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَمْ لَا أَقَامَ مَعَهَا أَوْ فَارَقَهَا قَدْ صَارَتْ أُمُّهَا حَرَامًا عَلَيْهِ أَبَدًا وَكَذَلِكَ أَمُّ الْأُمِّ وَمَنْ عَلَا من جداتها حرمن عليه على التأبيد وهل يحرمن بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَالثَّانِيَةُ: زَوْجَةُ الْأَبِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الِابْنِ بِعَقْدِ الْأَبِ عَلَيْهَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ سَوَاءً دَخَلَ الْأَبُ بِهَا أَمْ لَا وَكَذَلِكَ زَوْجَةُ الْجَدِّ وَمَنْ عَلَا مِنَ الْأَجْدَادِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ، وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ.
رَوَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عن يزيد بن البراء عن عازب عن أبيه قل مر بي خالي ومعه لواء فقلت: يا خالي أَيْنَ تَذْهَبُ فَقَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ آتِيهِ بِرَأْسِهِ.
والثالثة: زوجة الابن محرمة على الأب لعقد الِابْنِ عَلَيْهَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ سَوَاءً دَخَلَ بِهَا الابن أم لا، وهي الحليلة واختلف في تسميها الحليلة عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا سُمِّيَتْ حَلِيلَةً لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا تَحُلُّ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَحُلُّ بِهِ الزَّوْجُ.
وَالثَّالِثُ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحِلُّ إِزَارَ صَاحِبِهِ.
وَإِذَا حَرُمَتْ حَلِيلَةُ الِابْنِ فَكَذَلِكَ حَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ تَحْرُمُ عَلَى الْأَبِ وَإِنْ عَلَا وَهَلْ تَحْرُمُ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
فَإِنْ كَانَ الِابْنُ قد وطئها بملك اليمين والأب قد وَطِئَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ حُدَّ قَوْلًا وَاحِدًا وَأَمَّا

(9/200)


الْقَوْلَانِ إِذَا كَانَ الْأَبُ قَدْ وَطِئَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَالِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيُصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ بِحَدِّهِ فَلَزِمَهُمَا فِي الْمَعْنَى.
وأما المحرمات بالعقد تحريم جمع منهن ثلاث: إحداهن الجمع بين الأختين فَإِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أُخْتُهَا وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ أَوْ لِلْأُمِّ فَإِذَا فَارَقَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا مِنْهُمَا حَلَّ لَهُ أُخْتُهَا.
وَالثَّانِيَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّةِ أَبِيهَا وَجَدِّهَا وَعَمَّةِ أُمِّهَا وَجَدَّتِهَا ثم على ما ذكرنا، ومن تحريمهما بالاسم أو بمعناهما.
والثالث: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بينهما وَبَيْنَ خَالَةِ أُمِّهَا وَجَدَّاتِهَا وَخَالَةِ أَبِيهَا وَأَجْدَادِهَا ثم على ما ذكرنا من تحريمهما بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ.
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ عقد وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ فَجِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهُنَّ الرَّبَائِبُ.
وَالرَّبِيبَةُ بِنْتُ الزَّوْجَةِ فَإِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا تَحْرِيمَ جَمْعٍ فَإِذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ وَكَذَلِكَ بِنْتُ بِنْتِهَا وَبِنْتُ ابْنِهَا وَإِنْ سَفُلَتْ تَحْرُمُ بالعقد تحريم جمع، وبالدخول تحريم تأبيد، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِهَا بِالِاسْمِ أو بمعناه.
فإن قيل: لماذا حرمتم بنت الربيبة كالربيبة؟ فَهَلَّا حَرَّمْتُمْ بِنْتَ حَلِيلَةِ الِابْنِ كَالْحَلِيلَةِ.
قُلْنَا: لَا تَحْرُمُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن بِنْتَ الرَّبِيبَةِ ينطْلقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرَّبِيبَةِ فَحُرِّمَتْ كالربيبة وبنت الحليلة لا ينطلق عَلَيْهَا اسْمُ الْحَلِيلَةِ فَلَمْ تُحَرَّمْ.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي تَحْرِيمِ المصاهرة إنما هو يَصِير الزَّوْجُ الْوَاحِدُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ ذِي نَسَبَيْنِ كحليلة الابن مع الأب وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي بِنْتِ الرَّبِيبَةِ فَحُرِّمَتْ كَالرَّبِيبَةِ وَهُوَ غير موجود في بنت الحليلة، لأنه لم يَجْمَعِ الْوَاحِدُ ذَاتَ نَسَبَيْنِ وَلَا اجْتَمَعَ فِي الواحدة ذو نسبين فلم يحرم والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وحرم الله تعالى الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجَمْعُ بين الأختين فَحَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَأَمَّا الْجَمْعُ بينهما بملك اليمين وإن جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ جَازَ، إِذَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بالملك التحول دُونَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وطئها مِنْ أَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالَفَ عَقْدَ النِّكَاحِ الَّذِي مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ أُخْتٍ وَعَمَّةٍ فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ وَلَمْ يَبْطُلِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ في الاستمتاع فَيَطَأَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ يَجُزْ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ.

(9/201)


وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَيَ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُبَّمَا أضيف إلى عثمان بن عفان واستدلالاً بعموم قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ ألاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) فأطلق ملك اليمين وكان عَلَى عُمُومِهِ ثُمَّ قَالَ؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ نَوْعَانِ: تَحْرِيمُ عَدَدٍ، وَتَحْرِيمُ جَمْعٍ.
فَأَمَّا الْعَدَدُ فَهُوَ تَحْرِيمُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ وَأَمَّا تَحْرِيمُ الجمع؛ فهو الجمع بين الأختين فلما لم يعتبر في ملك اليمين وتحريم العدد، جاز أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ مِنَ الْإِمَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْتَبِرَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ، وَيَجُوزُ أن يستمتع بأختين.
قال داود: ولأن الجمع بينهما في الاستمتاع غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إِلَّا أَنْ يَطَأَ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ مُمْكِنٌ فَلِذَلِكَ حَلَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمِلْكِ لِتَعَذُّرِهِ، وَحَرُمَ فِي النِّكَاحِ لِإِمْكَانِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ تَحْرِيمِهَا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُسْتَفِيضٌ في الصحابة كالإجماع.
روى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَقَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى فَخَرَجَ السَّائِلُ فَلَقِيَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ فسأله عن ذلك، فقال: لو كان من الأمر إلي شَيْءٌ ثُمَّ وَجَدْتُ رَجُلًا يَفْعَلُ هَذَا لَجَعَلْتُهُ نكالاً.
قال مَالِكٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ أُرَاهُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَعَمَّارٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ خِلَافٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ ضَرْبَانِ: تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ كَتَحْرِيمِ أُمَّهَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتِهَا وَتَحْرِيمُ جَمْعٍ كَتَحْرِيمِ أَخَوَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَعَمَّاتِهَا، فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ مُعْتَبَرًا فِي وَطْءِ الْإِمَاءِ كَالنِّكَاحِ وَجَبَ بِأَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ مُعْتَبَرًا في وطئهن كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْفِرَاشِ بِالْوَطْءِ أَقْوَى مِنْ ثبوته بالعقد؛ لأنه يثبت في فاسد الوطئ إِذَا كَانَ عَنْ شُبْهَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِهِ وَلَا يَثْبُتُ فِي فَاسِدِ الْعَقْدِ وَإِنْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِهِ فَلَمَّا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ فِي الْعَقْدِ كَانَ تَحْرِيمُهُ فِي الْوَطْءِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ إِنَّمَا كَانَ ليدفع به تواصل ذوي الأرحام فَلَا يَتَقَاطَعُونَ؛ لِأَنَّ الضَّرَائِرَ مِنَ النِّسَاءِ مُتَقَاطِعَاتٌ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَوُجُودِهِ فِيهِمَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا في التحريم.

(9/202)


فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِ الْآيَتَيْنِ فَقَدْ خَصَّهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (النساء: 23) وَأَمَّا قوله بأن تحريم العدد لما حرم بالنكاح كَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ تَحْرِيمَ الْعَدَدِ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي الزَّوْجَاتِ خَوْفًا مِنَ الجور فيما يجب لهم مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالْقَسْمِ وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الإماء، لأن نفقاتهن وكسوتهن في أكسابهن ولا قسم لهن فأمن الجور فَافْتَرَقَا فِي تَحْرِيمِ الْعَدَدِ وَهُمَا فِي الْمَعْنَى الذي أوجبت تحريم الجمع سواء؛ لأن خوف التقاطع والتباغض والتحاسر، وهذا مَوْجُودٌ فِي الْإِمَاءِ كَوُجُودِهِ فِي الزَّوْجَاتِ فَاسْتَوَيَا فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَاهُ وَإِنِ افْتَرَقَا فِي تَحْرِيمِ الْعَدَدِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي مَعْنَاهُ وَأَمَّا قَوْلُ دَاوُدَ: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الوطئ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِأَنْ يُضَاجِعَهُمَا مَعًا وَيَلْمِسَهُمَا وَهَذَا مُحَرَّمٌ فِي الْأُخْتَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْجَمْعِ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، كَذَلِكَ بين الوطئين فَيَكُونُ الْجَمْعُ جَمْعَيْنِ جَمْعَ مُتَابِعَةٍ وَجَمْعَ مُقَارَنَةٍ.
والثالث: أن الصحابة قد جعلته مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ مَا نَهَتْ عَنْهُ وَلَمْ تجعله مُسْتَحِيلًا.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَتَحْرِيمِهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَمَلَكَ أُخْتَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِأَيّهِمَا شَاءَ فَإِذَا اسْتَمْتَعَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى مَا كَانَ عَلَى اسْتِمْتَاعِهِ بِالْأُولَى حَتَّى يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ بِأَحَدِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا أَنْ يَبِيعَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَهَبَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُكَاتِبَهَا فَتَصِيرُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْأَشْيَاءِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَيَحِلُّ لَهُ حينئذ أن يستمتع بها بِالثَّانِيَةِ وَتَصِيرُ الْأُولَى إِنْ عَادَتْ إِلَى إِبَاحَتِهِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا حَتَّى تَحْرُمَ الثانية بأحد ما ذكرنا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ.
وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ إذا عزم على أن يَطَأَ الَّتِي وَطِئَ حَلَّتْ لَهُ الْأُخْرَى، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَقَعُ بِأَسْبَابِهِ لَا بِالْعَزْمِ عليه وقد يحرم عليه بسببين آخَرَيْنِ لَيْسَا مِنْ فِعْلِهِ وَهُمَا: الرَّضَاعُ وَالرِّدَّةُ، فأما التدبير: فلا يحرم ثم إذا أخرج الثَّانِيَةَ بِأَحَدِ مَا ذَكَرْنَا عَادَتِ الْأُولَى إِلَى إِبَاحَتِهَا وَحَلَّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَلَوْ أَنَّهُ حِينَ اسْتَمْتَعَ بِالْأُولَى اسْتَمْتَعَ بِالثَّانِيَةِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْأُولَى عَلَيْهِ كَانَ بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ عَاصِيًا وَلَمْ تحرم الأولى عليه بمعصية لوطء الثانية قال الشافعي: وأحب أن يمسك عن وطأ الأولى حتى يستبرأ الثانية؛ لأن لا يُجْمَعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ استبراء الثانية جاز وإن أساء.

مسألة
قال الشافعي: " وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا ونهى عمر رضي الله عنه عن الأم وابنتها من ملك اليمين، وقال ابن عمر وددت أن عمر كان في ذلك أشد مما هو ونهت عن ذلك عائشة وقال عثمان في جمع الأختين: أما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك فقال رجلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْ كَانَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شيءٌ ثُمَّ وجدت رجلاً يفعل ذلك لجعلته نكالاً قَالَ الزُّهْرِيُّ أُرَاهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالبٍ ".

(9/203)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا حَرَامٌ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَهُوَ قول الجمهور، وحكي عن الخوارج وعثمان الْبَتِّيِّ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي نِكَاحٍ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ، وَحَرَّمَ دَاوُدُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَأَمَّا دَاوُدُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ، وَأَمَّا الْبَتِّيُّ وَالْخَوَارِجُ فَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ تَحْرِيمَ المناكح مأخوذ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ وَلَمْ يَرِدِ الْكِتَابُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَحْرُمْ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا يُلْزَمُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحِيٌ يُوْحَى} (النجم: 3 و 4) وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا "
وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلَا الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا ولا تنكح الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى " وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌّ وَالثَّانِي أَكْمَلُ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا خَبَرَيْ وَاحِدٍ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَعَمِلَ بِهِ الْجُمْهُورُ فَصَارَ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ أَشْبَهَ فلزم الخوارج العمل به، وإن لم يلتزموا أَخْبَار الْآحَادِ، وَلِأَنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْرَمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ أُخْتِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا وَعَمَّتُهَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِحْدَاهُمَا رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ عَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ.
فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ بِنْتِ عَمَّتِهَا أَوْ بَيْنَهَا وبين بنت عمها فيجوز وكذلك الجمع بين المرأة وبنت خالتها أو بينهما وبين بنت خالها فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا لَجَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ وَبِنْتَ عَمَّتِهِ وَبِنْتَ خاله وبنت خالته، وهذا هو أصل في تحريم الجمع وإخلاله بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمْنَا عَلَيْهِ الجمع بين المرأة وعمة أبيهما وعمة أمها وبينهما وبين خالة أبيها وخالة أمها، لأن أحدهما لَوْ كَانَ رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى، والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " فَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا أَوْ عَمَّتَهَا أَوْ خَالَتَهَا وَإِنْ بَعُدَتْ فَنِكَاحُهَا مفسوخُ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَنِكَاحُ الْأُولَى ثابتٌ وتحل كل واحدةٍ منهما على الانفراد وإن نَكَحَهُمَا مَعًا فَالنِّكَاحُ مفسوخٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَنَاكِحِ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ

(9/204)


يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَقِسْمٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ فِي الْجَمْعِ لَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقِسْمُ إِبَاحَةٍ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ وَلَا تَحْرِيمَ الْجَمْعِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ، فَفِي أَنْسَابِ الْبَعْضِيَّةِ وَالْوِلَادَةِ كَالْمَرْأَةِ فِي تَحْرِيمِ أُمَّهَاتِهَا وَبَنَاتِهَا عَلَيْهِ يَحْرُمْنَ عَلَى الْأَبَدِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ فِي حال العقد ممن غَيْرِ تَحْرِيمٍ عَلَى التَّأْبِيدِ فَفِيمَا تَجَاوَزَ الْوِلَادَةَ، وَاتَّصَلَ بِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ لَمَّا نَزَلْنَ عَنْ دَرَجَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ فِي التَّعْصِيبِ لَمْ يَحْرُمْنَ عَلَى التأبيد ولما شاركتهن في المحرم حُرِّمْنَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَنْ لَا يَحْرُمْنَ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا عَلَى وجه الجمع فمن عدا الفرقين مِنْ بَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لَمَّا نَزَلْنَ عَنِ الدَّرَجَتَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ بَعْضِيَّةُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَلَا مُحَرَّمُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، لم يتعلق عليهن واحد من حكم التحريم لا التأبيد ولا الجمع وجاز للرجال أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ وَإِنْ تَنَاسَبْنَ لِبُعْدِ النَّسَبِ وَخُلُوِّهِ مِنْ مَعْنَى أَحَدِ التَّحْرِيمَيْنِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ وَأَنَّ تَحْرِيمَ الجمع يختص به ذوات الْمَحَارِمِ مَنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ كَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ فَنَكَحَ الرَّجُلُ أُخْتَيْنِ أَوِ امْرَأَةً وَخَالَتَهَا وعمتها فهذا على ضربين:
أحدهما: أنه يعقد عليهما معاً في عقد واحد فنكاحها بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يتعين الْمُخْتَصَّةُ بِالصِّحَّةِ مِنْهُمَا وَجَبَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا لتساويهما وسواء دخل بأحدها أَوْ لَمِ يَدْخُلْ وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يستأنف العقد على أيهما شَاءَ فَإِنْ عَقَدَ عَلَى الَّتِي دَخَلَ بِهَا سَقَطَ مَا عَلَيْهَا مِنْ عِدَّةِ أصَابَته وَإِنْ عَقَدَ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَحَّ عَقْدُهُ، ويستبح أَنْ يُمْسِكَ عَنْ إِصَابَتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا مِنْ إِصَابَتِهِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى فَنِكَاحُ الْأُولَى ثَابِتٌ وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ لِاسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُولَى قَبْلَ الْجَمْعِ فَلَوْ شَكَّ فِي أَيَّتِهِمَا نَكَحَ أَوَّلًا فَهَذَا على ضربين:
أحدهما: أن يطرأ الشَّكُّ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَقِينِ فَنِكَاحُهُمَا مَوْقُوفٌ وَإِحْدَاهُمَا زَوْجَةٌ مَجْهُولَةُ الْعَيْنِ وَالْأُخْرَى أَجْنَبِيَّةٌ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهَا فَإِنْ صَرَّحَ بِطَلَاقِ إِحْدَاهُمَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ، وَكَانَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ بِحَالَةٍ، وَالْأُخْرَى عَلَى التَّحْرِيمِ فَإِنِ اسْتَأْنَفَ عَلَيْهَا عَقْدًا حَلَّتْ لَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مَعَ ابتداء العقد لم يتقدمه يقين فنكاحها بَاطِلٌ لَا يُوقَفُ عَلَى الْبَيَانِ لِعَدَمِهِ وَهَلْ يَفْتَقِرُ بُطْلَانُهُ إِلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ أَمْ لَا؟ على وجهين:
أحدهما: يفتقر ويكون الإشكال وَالِاشْتِبَاه بَاطِلًا؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ إِبَاحَتُهُ مِنَ الْحَظْرِ غَلَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ.

(9/205)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّ الْعِلْمَ مُحِيطٌ بِأَنَّ فِيهِمَا زَوْجَةً فَلَمْ يَكُنِ الْجَهْلُ بِهَا مُوجِبًا لِفَسْخِ نِكَاحِهَا حَتَّى يَتَوَلَّاهُ مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْحَاكِمُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا عَقَدَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ جَائِزًا سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهَا أُخْتُ الْأُولَى وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يعلم بفساد النكاح في حتى يعقد على انتهاء فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَعْلَمَ وقت عقده على الثانية أنها أخت الأولى فَيَكُونُ نِكَاحُهَا جَائِزًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِعَقْدِهِ مَنْعٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ وَقْتَ عَقْدِهِ على الثانية أيهما أُخْتُ الْأُولَى، وَلَا يَعْلَمُ بِفَسَادِ نِكَاحِ الْأُولَى حَتَّى يَعْقِدَ عَلَى الثَّانِيَةِ فَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى نِكَاحٍ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ في الظاهر فجرى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ فِي الْفَسَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ لِأَنَّهَا مبهمةٌ وحلت له ابنتها لأنها من الربائب وإن دَخَلَ بِهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا أَبَدًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّبَائِبُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُنَّ بَنَاتُ الزَّوْجَاتِ إِحْدَاهُنَّ رَبِيبَةٌ وَفِي تسميتها بذلك وجهان:
إحداهما: لأنه تَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ فِي تَرْبِيَتِهِ وَكَفَالَتِهِ.
وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا تَرُبُّ الدَّارَ أَيْ تُدَبِّرُهَا وَتُعْنَى بِهَا فَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حَرُمَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ عليها ثلاثة أصناف من مناسبها صِنْفٌ أَعْلَى وَهُنَّ الْأُمَّهَاتُ، وَصِنْفٌ أَدْنَى وَهُنَّ الْبَنَاتُ وَصِنْفٌ مُشَارِكَاتٌ وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ مَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا باقياً فإذا ارتفع عَنْهَا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ انْقَسَمَتْ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ.
قِسْمٌ يَحْلِلْنَ لَهُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ عَنْ زَوْجَتِهِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَمْ لَا وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ تَحْرِيمُ جَمْعٍ لَا تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ.
وَقِسْمٌ ثَانٍ لَا يَحْلِلْنَ لَهُ وَإِنِ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ عَنْ زَوْجَتِهِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أم لا، وهن الأمهات لأنهن يحرمن بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ.
وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: يَحْلِلْنَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ عَنْ زَوْجَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَهُنَّ الْبَنَاتُ، لِأَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ بِخِلَافِ الْأُمَّهَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ، وَهُوَ قَوْلُ جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء وحكي ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْأُمَّهَاتِ

(9/206)


كَالْبَنَاتِ الرَّبَائِبِ لَا يَحْرُمْنَ إِلَّا بِالدُّخُولِ، وَحُكِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ لَمْ تَحْرُمِ الْأُمُّ إِلَّا بِالدُّخُولِ كَالرَّبِيبَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ حَرُمَتِ الْأُمُّ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا بِخِلَافِ الرَّبِيبَةِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي كَمَالِ المهر كالمدخول واستدلالاً في إلحاق ابنتها بالربائب في تحريمهن بالدخول بقوله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) {النساء: 23) فَذَكَرَ جِنْسَيْنِ هُمَا الْأُمَّهَاتُ وَالرَّبَائِبُ ثُمَّ عَطَفَ عليهما اشتراط الدُّخُولِ فِي التَّحْرِيمِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمَذْكُورَيْنِ مَعًا وَلَا يَخْتَصُّ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَهُوَ لِلشَّافِعِيِّ أَلْزَمُ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الشرط والكتابة والاستثناء إذا تعقب جملة رجع إلى جميعها ولم يختص بأقرب المذكورين منها كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ: امْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ، وَاللَّهِ لَا دَخَلَتِ الدَّارَ إِنْ شَاءَ الله كان الاستثناء بمشيئة الله رَاجِعًا إِلَى الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْيَمِينِ وَلَمْ يَخْتَصَّ عِنْدَهُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْيَمِينِ كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ رَاجِعًا إِلَى الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ حَتَّى يَكُونَ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا مَعًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَالْجَمَاعَةُ مِنِ اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ فِي الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ قوله تَعَالَى:: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) {النساء: 23) فَكَانَ الدَّلِيلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ عَائِدٌ إِلَى الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى:: {وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) {النساء: 23) وليست أم الزوجة منها وإنما الربيبة منها فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ مَشْرُوطٌ فِي الرَّبِيبَةِ لِأَنَّهَا مِنَ الزَّوْجَةِ دُونَ الْأُمِّ الَّتِي لَيْسَتْ من الزوجة.
والثاني: هو مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الشَّرْطَ وَالِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِذَا حَسُنَ أَنْ يَعُودَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَإِنْ لَمْ يَحْسُنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْأَقْرَبِ وَهُوَ لَوْ قَالَ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ لَمْ يُحْسِنْ فَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ فِي إِعْرَابِ الْجُمْلَتَيْنِ لَمْ يَعُدِ الشَّرْطُ إِلَيْهِمَا، وَعَادَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعَامِلُ فِي إِعْرَابِهِمَا عَادَ إِلَيْهِمَا وَالْعَامِلُ هَاهُنَا فِي إِعْرَابِ الْجُمْلَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ فَذِكْرُ النِّسَاءِ مَعَ الْأُمَّهَاتِ مجرور بالإضافة لقوله: {وَأُمَهّاتُ نِسَائِكُمْ} وذكر النساء من الربائب مجرور بِحَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ قَوْلُهُ:: {وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ} فِلَمَّا اخْتَلَفَ عَامِلُ الْجَرِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ الشَّرْطُ إِلَيْهِمَا وَعَادَ إِلَى أقربهما:
الرابع: أن الأمر قَدْ تَقَدَّمَهَا مُطْلَقٌ وَتَعَقَّبَهَا مَشْرُوطٌ فَكَانَ إِلْحَاقُهَا بِالْمُطْلَقِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهَا بِالْمَشْرُوطِ الْمُتَأَخِّرِ:
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُطْلَقَ أَعَمُّ وَالْمَشْرُوطَ أَخَصُّ فَكَانَ إِلْحَاقُ الْمُبْهَمِ بِالْمُطْلَقِ الْأَعَمِّ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْمَشْرُوطِ الْأَخَصِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ

(9/207)


عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل أن يدخل بِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بنتها "
وروى الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا تزوج الرجل المرأة ثم ماتت قبل أن يدخل بِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِنْتُهَا " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ فِي الْأُمَّهَاتِ مِنَ الرِّقَّةِ وَالْمَحَبَّةِ لِبَنَاتِهِنَّ مَا لَيْسَ فِي الْبَنَاتِ لأمهاتهن.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنه قال يا رسول الله ما لنا نَرِقُّ عَلَى أَوْلَادِنَا وَلَا يَرِقُّونَ عَلَيْنَا، قَالَ: لِأَنَّنَا وَلَدْنَاهُمْ وَلَمْ يَلِدُونَا فَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ أَكْثَرَ رِقَّةً وَحُبًّا لَمْ تَنْفِسْ عَلَى بِنْتِهَا بِعُدُولِ الزَّوْجِ إِلَيْهَا، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الدُّخُولُ بِالْأُمِّ مَشْرُوطًا فِي تَحْرِيمِ الْبِنْتِ لِأَنَّهَا رُبَّمَا رضيت بالزوج بعد دخوله بها ما لم تضمن بِهِ قَبْلَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبِنْتُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَقَلَّ رِقَّةً وَحُبًّا نَفِسَتْ عَلَى أُمِّهَا بِعُدُولِ الزَّوْجِ إِلَيْهَا فَأَفْضَى إِلَى الْقَطِيعَةِ وَالْعُقُوقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَإِفْضَائِهِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَجْعَلِ الدُّخُولَ شَرْطًا.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَائِلِنَا مِنْهَا، وَإِنَّمَا الِاسْتِشْهَادُ بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْيَمِينِ فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَجَازَ مَعَ الْإِطْلَاقِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا لِمَا بَيَّنَاهُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْأُمِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَحْرِيمَ الرَّبِيبَةِ مَشْرُوطٌ بِالدُّخُولِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ الرَّبِيبَةُ.
فَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ الْأُمِّ بِشَهْوَةٍ فَتَحْرُمُ بِهِ الرَّبِيبَةُ، وَقَالَ عَطَاءٌ وحماد: هو التعيش والعقود بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الدُّخُولَ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ الرَّبِيبَةُ يَكُونُ بِالْمُبَاشِرَةِ وَلَهُ فِيهِ قولان:
أحدهما: أن الوطء في الفرج.
والثاني: أنها الْقُبْلَةُ وَالْمُلَامَسَةُ بِشَهْوَةٍ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ.
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة: بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا " قَالَ وَلِأَنَّهُ تفرع اسْتِمْتَاع فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كالوطء.

(9/208)


وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَلَا ينطلقُ اسْمُ الدُّخُولِ إِلَّا عَلَى الْمُبَاشَرَةِ دُونَ النَّظَرِ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ فَلَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ كَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا، وَلِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْوَجْهِ وَالْبَدَنِ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ فَإِذَا كان لَا يَحْرُمُ فَمَا دُونَهُ أَوْلَى فَأَمَّا الْخَبَرُ فَرِوَايَةُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْقُوفًا، وَعَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ فَكَنَّى عَنْهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقِضٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَحْرِيمُ الرَّبَائِبِ بِالدُّخُولِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَلَا فرق بين أن يكون فِي تَرْبِيَتِهِ وَحِجْرِهِ أَمْ لَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ دَاوُدُ: إنما تحرم عليه إذا كان في تربيته وحجره، وحكاه مالك عن أَوْسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ} فعلق تحريم الربائب بشرطين:
أحدهما: أن يكون فِي حِجْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بأمها فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي تَحْرِيمِهَا.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ هُوَ وُقُوعُ التَّنَافُسِ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّبَاغُضِ وَلَيْسَ لِلْحِجْرِ فِي هَذَا المعنى تأثير فلم يكن له اعْتِبَارٌ، وَلِأَنَّ الْحِجْرَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ فِي إِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ أَلَا تَرَاهُ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي تَحْرِيمِ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَلَا فِي إِبَاحَةِ بَنَاتِ الْعَمِّ فَكَذَلِكَ فِي الرَّبَائِبِ وَلَيْسَ ذِكْرُ الْحَجْرِ فِي الرَّبَائِبِ شَرْطًا وَإِنَّمَا ذُكِرَ لأنه الأغلب في أَحْوَالِ الرَّبَائِبِ أنَّهُنَّ فِي حِجْرِ أَزْوَاجِ الْأُمَّهَاتِ فَصَارَ ذِكْرُهُ تَغْلِيبًا لِلصِّفَةِ لَا شَرْطًا فِي الحكم كما قال الله تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) وَالصَّائِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَسْجِدَ عَلَى طَرِيقِ الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِهِ.
فَصْلٌ
فأما قول الشافعي: " لم تحل لها أُمُّهَا لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ " فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَعْنِي مُرْسَلَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ الْقُرْآنُ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنِ الْمُبْهَمَةَ الْمُحَرَّمَةَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا إِلَّا حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ مُبْهَمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِيَةٌ تُخَالِفُ شِيَةً، وَكَانَ بَعْضُ أهل اللغة يذهب إلى تأويل ثالث: هو أَنَّ الْمُبْهَمَةَ الْمُشْكِلَةُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حكم الأم غير مشكل.

مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا أَبَدًا وَلَا يَطَأُ أُخْتَهَا وَلَا عمتها وَلَا خَالَتَهَا حَتَّى يُحَرِّمَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أن كل ما حرم عليه بِالْعَقْدِ عَلَى الزَّوْجَةِ حُرِّمَ بِوَطْءِ الْأَمَةِ لَا

(9/209)


بِمِلْكِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إِلَّا بِالْوَطْءِ دُونَ الْمِلْكِ فَإِذَا مَلَكَ أَمَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمِلْكِهَا تَحْرِيمُ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِهَا فلم يحرم عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِ سَيِّدِهَا فَإِذَا وَطِئَهَا تَعَلَّقَ بِوَطْئِهَا تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كَمَا تَعَلَّقَ بِالْعَقْدِ عَلَى الزَّوْجَةِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَأُمَّهَاتُ أمها من آبائها وإن علون ويحرم عليه بناتها وبنات أولادها وإن سفلن، ويحرم على ابنه وحده وَإِنْ عَلَا وَعَلَى ابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفُلَ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مؤبد ويحرم عليه أختها وخالتها وعمتها وَبِنْتُ أَخِيهَا وَبِنْتُ أُخْتِهَا وَهَذَا التَّحْرِيمُ فِي هَؤُلَاءِ الْخَمْسِ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ لَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ما كان على استمتاعه بأمته حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِأَحَدِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ كِتَابَةٍ حَلَّ له حينئذ من شاء من هؤلاء الْخَمْسِ اللَّاتِي حُرِّمْنَ عَلَيْهِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ وَإِنِ استباحها قبل تحريم الأولى فَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ كَانَ بَاطِلًا وَحُدَّ إِنْ وَطِئَهَا عَالِمًا، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ لَمْ يُحَدَّ وَإِنْ عَلِمَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزوجة يستباح وطئها بِالْعَقْدِ وَقَدْ بَطَلَ فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ وَالْأَمَةُ يستباح وطئها بِالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ لَمْ يَبْطُلْ فَلَمْ يَجِبْ بِالْوَطْءِ فيه حد، وخالف وطئ أُخْتِهِ بِالْمِلْكِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى أَحَدِ القولين مع ثبوت الملك؛ لأن تحريم وطئ أخته مؤبد وتحريم وطئ أمته لعارض يزول ولا تأبد فافترق حكم تحريمها فلذلك افترق وجوب الحد فيهما هذا كله إذا كان قد وطئ أمته في الفرج فأما إن كان وَطْئِهَا دُونَ الْفَرْجِ أَوْ قَبلهَا أَوْ لَمَسَهَا فَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ المصاهرة أم لا؟ على قولين كَمَا ذَكَرْنَا فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَعَلَى هَذَا يَحِلُّ لَهُ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا وَتَحِلُّ لِآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ.
وَالْقَوْلُ الثاني: قد تعلق به تحريم المصاهرة كما لو وطء فِي الْفَرْجِ فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وبناتها ويحرم عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ.
فَأَمَّا إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِ شَهْوَةٍ أَوْ ضَاجَعَهَا غَيْرَ مُبَاشِرٍ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا مُرِيدًا لِوَطْئِهَا أَوْ غَيْرَ مُرِيدٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذَلِكَ تَحْرِيمٌ مَا لَمْ يَكُنْ أَفْضَى بِمُبَاشَرَةِ الجسدين، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ مَنْ جَرَّدَ أَمَتَهُ وَلَمْ يَطَأْهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ عَزَمَ وَالْعَزْمُ لَيْسَ بِفِعْلٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْفِعْلِ.

فَصْلٌ
وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا وَحَرُمَتْ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهَا وَعَمَّاتُهَا وَخَالَاتُهَا لأن تحريم أولئك تحريم تأبيد، وتحريم أولئك تَحْرِيمُ جَمْعٍ، وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ مُحَرَّمَةٌ فَلَمْ يَحْصُلِ الْجَمْعُ، ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ هَذَا الْوَطْءُ مُحَرَّمًا لأمهات هذه الموطوءة لبناتها وهل يصير آباؤه وأبناؤها محرَمًا لَهَا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

(9/210)


أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمُحَرَّمُ كَمَا يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمُحَرَّمُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ تَغْلِيظًا فَاقْتَضَى أَنْ يَنْفِيَ عنه المحرم تغليظاً.

مسألة
قال الشافعي: " فإن وَطِئَ أُخْتَهَا قَبْلَ ذَلِكَ اجْتَنَبَ الَّتِي وَطِئَ آخرا وأحببت أن يجتنب الولي حتى يستبرئ الآخرة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَطِئَ أَمَتَهُ ثُمَّ وَطِئَ أُخْتَهَا بِالْمِلْكِ قَبْلَ تَحْرِيمِ تِلْكَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ وَتَكُونُ الْأُولَى عَلَى إِبَاحَتِهَا، وَالثَّانِيَةُ على تحريمها؛ لأنه وطئها حراماً فلم تحل به الثانية ولم تحرم به الْأُولَى وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الثَّانِيَةَ لِتَحْرِيمِهَا وَيُسْتَحَبُّ أن يجتنب الأولى حتى تستبرئ الثَّانِيَة نَفْسَهَا لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ وبالله التوفيق.
مسألة
قال الشافعي: " فإذا اجْتَمَعَ النِّكَاحُ وَمِلْكُ الْيَمِينِ فِي أُخْتَيْنِ أَوْ أمةٍ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا فَالنِّكَاحُ ثابتٌ لَا يَفْسَخُهُ مِلْكُ الْيَمِينِ كَانَ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ وحرم بملك الْيَمِينِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُثْبِتُ حُقُوقًا لَهُ وَعَلَيْهِ وَلَوْ نَكَحَهُمَا مَعًا انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا وَلَوِ اشْتَرَاهُمَا مَعًا ثَبَتَ مِلْكُهُمَا وَلَا يَنْكِحُ أُخْتَ امْرَأَتِهِ وَيَشْتَرِيهَا عَلَى امْرَأَتِهِ وَلَا يُمَلِّكُ امْرَأَتَهُ غَيْرَهُ وَيُمَلِّكُ أَمَتَهُ غَيْرَهُ فَهَذَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ".
قال الماوردي: قد مضى الكلام في الجمع بين أختين بعد نكاح في الجمع بينهما بملك اليمين فَأَمَّا إِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَنْ عَقَدَ على أحدهما نكاحاً واستمتع بالأخرى بملك اليمين فَهُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ سَبَبُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ فإن عقد النكاح ثُمَّ اسْتَمْتَعَ بِهَا بَعْدَهُ فَالْحُكْمُ في الحالين سواء إذا كان الاستمتاع بعد عقد النِّكَاحِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ تَجَدَّدَ بَعْدَهُ فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَوَطْؤُهُ لِلْأُخْتِ مُحَرَّمٌ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ لِاسْتِقْرَارِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الِاسْتِمْتَاعُ عَلَى النكاح كأن ملك أمة استمتع بِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ وَإِنْ تَأَخَّرَ كثبوته لو تقدم ويحرم به الموطؤة بملك اليمين، وقال مالك النكاح باطل، والموطؤة بملك اليمين حلالاً اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ صَارَتْ بِالْوَطْءِ فراشاًَ كما تصير بعد النِّكَاحِ فِرَاشًا وَحَرُمَ دُخُولُ أُخْتِهَا عَلَيْهَا فِي الْحَالَيْنِ فَلَمَّا كَانَ لَوْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْعَقْدِ بطل نكاح أختها عليها ووجب إذا جاءت فِرَاشًا بِالْمِلْكِ أَنْ يَبْطُلَ نِكَاحُ أُخْتِهَا عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا فِي الْحَالَيْنِ فِرَاشًا.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْفِرَاشَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لأربعة معانٍ:
أحدها: أن فراش المنكوحة ثبت بِثُبُوتِ الْعَقْدِ وَلَا يَثْبُتُ فِرَاشُ الْأَمَةِ بِثُبُوتِ الملك،

(9/211)


والملك قَدْ يَرْتَفِعُ فِرَاشُ الْأَمَةِ بِاسْتِبْرَائِهَا مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ وَلَا يَرْتَفِعُ فِرَاشُ الْمَنْكُوحَةِ مَعَ بَقَاءِ العدة.
والثالث: أن فراش المنكوحة ثبت حقاً لها، وعليها مِنْ طَلَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَلِعَانٍ، وَلَا يُثْبِتُهَا فِرَاشُ الْمِلْكِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُمَلِّكَ أَمَتَهُ غَيْرَهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَلِّكَ زَوْجَتَهُ غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى من فراش الملك بما ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَ الْأَقْوَى وَالْأَضْعَفُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَقْوَى أَثْبَتَ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ عَقْدُ نِكَاحٍ وَعَقْدُ مِلْكٍ بِأَنْ تَزَوَّجَ ثم اشتراها بطل عقد النكاح بعد الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقَوَى مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمِلْكِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ، وَعَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَلَمَّا غَلَبَ فِي الْعَقْدَيْنِ أَقْوَاهُمَا وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ فِي الْفِرَاشَيْنَ أَقْوَاهُمَا، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَسْبَقُ فِيمَا اسْتَوَتْ قُوَّتُهُ وَضَعْفُهُ كَعَقْدَيْ نِكَاحٍ أَوْ فِرَاشَيْ مِلْكٍ فَبَطَلَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ النِّكَاحِ حَرُمَتِ الْمَوْطُوءَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَجَازَ لَهُ وَطْءُ هَذِهِ الْمَنْكُوحَةِ وَقَالَ أبو حنيفة لا يحل له المنكوحة حتى تحرم الموطوءة بملك اليمين بِحُدُوثِ الْعَقْدِ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تجمع معها كما لو تزوجها وتزوج أُخْتَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ قِيَاسًا فِي الطَّرْدِ عَلَى مَنْ نَكَحَ حُرَّةً بَعْدَ نِكَاحِ أَمَةٍ وَفِي الْعَكْسِ عَلَى مَنْ نَكَحَ أَمَةً بَعْدَ نِكَاحِ حُرَّةٍ، وفي هذا الدليل انفصال.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وزوجة أبيها وبين امرأة الرجل وابنة امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَا نسب بينهن ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجَةِ أَبِيهَا وَزَوْجَةِ ابْنِهَا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمَا امرأتان لَوْ كَانَ إِحْدَاهُمَا رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا تَكُونُ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَوْ حَلِيلَةَ ابْنِهِ فَحَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا حُرِّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَّيَّةَ جَمَعَ كَلُّ وَاحِدٍ منهما بين امرأة رجل وبنته من غيره فلم ينكر ذاك أحد من علماء عصره، فَكَانَ إِجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ إِنَّمَا يَثْبُتُ بَيْنَ ذَوِي الْأَنْسَابِ حِفْظًا لِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَأَنْ لا يتقاطعن بالتباغض وَالْعُقُوقِ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَاتَيْنِ نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ النَّسَبِ فَلَمْ يَحْرُمِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، وَخَالَفَ ذَوِي الْأَنْسَابِ.
فَصْلٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَيْنَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَبَنَتِ امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا سَهْوٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ، لِأَنَّهُ كَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ وَأَعَادَهَا

(9/212)


بِعِبَارَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ وَبِنْتَ امْرَأَتِهِ من غيرها هي المرأة وزوجة ابنها وقال آخرون: بل نقل المزني صحيح، وهذا الْمَسْأَلَةُ غَيْرُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْمَعَ بين بنت زَيْدٍ وَامْرَأَةِ زَيْدٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ زَيْدٍ وَبِنْتِ امْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى من غيره، وهذا لدينا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا.

فَصْلٌ
لَا بَأْسَ أن يتزوج الرجل بالمرأة وَيَتَزَوَّجَ ابْنُهُ بِابْنَتِهَا، أَوْ يَتَزَوَّجَ الْأَبُ امْرَأَةً وَيَتَزَوَّجَ الِابْنُ بِأُمِّهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ، وَمَنَعَ طَاوُسٌ إِذَا تَزَوَّجَ الْأَبُ بِامْرَأَةٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ الِابْنُ بِابْنَتِهَا إِذَا وُلِدَتْ بَعْدَ وَطْءِ الْأَبِ لِأُمِّهَا، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ وُلِدَتْ قَبْلَ وَطْئِهِ لَمْ يَمْنَعْ وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهَذَا خطأ، لأن تحريم الربيبة على الأب يساوى حكمه في وِلَادَتِهَا قَبْلَ وَطْئِهِ وَبَعْدَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَتَسَاوَى حُكْمُ إِبَاحَتِهَا لِلِابْنِ فِي وِلَادَتِهَا قَبْلَ وَطْءِ الْأَبِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ حَرَصَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه في الغلام الذي زنا ببنت امرأة أبيه فجلده، وأن يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَأَبَى الْغُلَامُ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ حَالُ الْوِلَادَةِ والله أعلم.

(9/213)


بَابُ مَا جَاءَ فِي الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الحلال من الجامع ومن اليمين مع الشاهد
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الحلال وقاله ابْنُ عَبَّاسٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : لِأَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّ الْحَلَالِ فَلَا يُقَاسُ شيءٌ عَلَى ضِدِّهِ قَالَ لِي قائلٌ يَقُولُ لَوْ قَبَّلَتِ امْرَأَته ابْنَهُ بشهوةٍ حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَبَدًا لِمَ قُلْتَ لا يحرم الحرام الحلال؟ قلت مِنْ قِبَلِ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنما حَرَّمَ أمهات نسائكم ونحوها بِالنِّكَاحِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ فقال أجد جماعاً وجماعاً قلت جماعاً حُمِدت بِهِ وَجِمَاعًا رُجِمت بِهِ وَأَحَدُهُمَا نعمةٌ وجعله الله نسباً وصهراً وأوجب حقوقاً وجعلك محرماً به لأم امرأتك ولابنتها تُسَافِرُ بِهِمَا وَجَعَلَ الزِّنَا نِقْمَةً فِي الدُّنْيَا بالحد وفي الآخرة بالنار إلا أن يعفو أفتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمةٌ؟ وقلت له فلو قَالَ لَكَ قائلٌ وَجَدْتُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بجماع زوجٍ فأحلها بالزنا لأنه جماعٌ كجماع كَمَا حَرَّمْتُ بِهِ الْحَلَالَ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ وجماعٌ قَالَ إِذًا تُخْطِئُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّهَا بإصابة زوجٍ قيل وكذلك ما حرم الله تعالى في كتابه بنكاح زوجٍ وإصابة زوجٍ قال أفيكون شيءٌ يحرمه الحلال ولا يحرمه الحرام فأقول به؟ قلت نَعَمْ يَنْكِحُ أَرْبَعًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ من النساء خامسةً أفيحرم عَلَيْهِ إِذَا زَنَى بأربعٍ شيءٌ مِنَ النِّسَاءِ قال لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال (قال) وقد ترتد فتحرم على زوجها؟ قلت نعم وعلى جميع الخلق وأقتلها وأجعل مالها فيئاً (قال) فقد أوجدتك الحرام يحرم الحلال قلت أما في مثل ما اختلفنا فيه من أمر النساء فلا (قال المزني) رحمه الله تركت ذلك لكثرته وأنه ليس بشيءٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَحْرِيمِ المصاهرة بعقد النِّكَاحِ وَفِي تَحْرِيمِهَا بِوَطْءِ الْإِمَاءِ، كَذَلِكَ الْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ يُوجِبُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ مِثْلَ مَا يوجبه الوطء الحلال في عقد نكاح أو ملك يمين؛ لأنه لما ساماه فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ سَاوَاهُ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ.
فَأَمَّا وَطْءُ الزِّنَا فَلَا يَتَعَلَّقُ به تحريم المصاهرة بحال، فإذا زنا الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَلَا بنتها ولم يحرم عَلَى أَبِيهِ وَلَا عَلَى ابْنِهِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ.

(9/214)


وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ، وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الزِّنَا كَالْحَلَالِ فِي تحريم المصاهرة، فإذا زنا بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا، وَحَرُمَتْ عَلَى أبيه وابنه، ولو زنا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَهَا، أَوْ لَمَسَهَا، أَوْ تَعَمَّدَ النَّظَرَ إلى فرجها بشهوة بطل نكاحها على أبيه وابنه، وحرم عليها أُمُّهَا وَبِنْتُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ وحكي نحوه عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَزَادَ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: إِذَا تَلَوَّطَ الرَّجُلُ بِغُلَامٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَبِنْتُهُ، وَحَرُمَ عَلَى الْغُلَامِ أُمُّهُ وَبِنْتُهُ، وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: 22) وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، فَاقْتَضَى عُمُومُ الْوَطْءِ تَحْرِيمَ الَّتِي وَطِئَهَا الْأَبُ.
قَالُوا: وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قل: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا " فَاقْتَضَى إِذَا نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ فِي الزِّنَا أَنْ لَا يَنْظُرَ إلى فرج ابنتها فِي النِّكَاحِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كَشْفِ الْخِمَارِ لِنِكَاحٍ أَوْ زِنًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ الْمَحْظُورِ قِيَاسًا عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ؛ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ مَحْظُورِهِ وَمُبَاحِهِ كَالرَّضَاعِ.
ودليلنا قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} (الفرقان: 54) فجمع بين المائين الصِّهْر، وَالنَّسَب، فَلَمَّا انْتَفَى عَنِ الزِّنَا حُكْمُ النَّسَبِ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْمُصَاهَرَةِ وَرَوَى نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " الحرام لا يحرم الحلال ".
وروي عن الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الرَّجُلِ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ ابْنَتَهَا أَوْ يَنْكِحُ الْبِنْتَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ أُمَّهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، إِنَّمَا يُحَرِّمُ مَا كَانَ بِنِكَاحٍ حَلَالٍ " وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ خلافه.
ومن طريق القياس أنه وطء تمحض تحريمه فلم يتعلق به تحرم الْمُصَاهَرَةِ كَوَطْءِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ فَلَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ كَوَطْءِ الصَّغِيرَةِ وَالْمَيِّتَةِ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمُ نِكَاحٍ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الصَّحِيحِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الزِّنَا الصَّرِيحِ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهُ وطء لا يتعلق به التحريم المؤقت فوجب أن يتعلق به التحريم المؤبد كاللواط، ولأنه مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ افْتَرَقَ حُكْمُ حَلَالِهِ وحرامه كالعقد، ولأن المواصلة التي ثبت فِي الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ تَنْتَفِي عَنِ الْوَطْءِ بِالزِّنَا قياساً على

(9/215)


مُوَاصَلَةِ النَّسَبِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنْ وَطْءِ الزِّنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ النِّكَاحِ مِنَ الْإِحْصَانِ، وَالْإِحْلَالِ، وَالْعِدَّةِ، وَالنَّسَبِ انْتَفَى عَنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بِمَا حَرُمَ مِنَ الْوَطْءِ، وَالْقُبْلَةِ، والملامسة بشهوة لما شاءت المرأة أَنْ تُفَارِقَ زَوْجَهَا إِذَا كَرِهَتْهُ إِذَا قَدَرَتْ عَلَى فِرَاقِهِ بِتَقْبِيلِ ابْنِهِ فَيَصِيرُ الْفِرَاقُ بِيَدِهَا، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ بِيَدِ الزَّوْجِ دُونَهَا وَلَا يبطل هذا بالردة؛ لأنه مَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا تستفيده من الفرقة فلم تخلص لها الفرقة بالردة وخلصت لها بالقبلة.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ) {النساء: 2) فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ حقيقة في العقد فجاز فِي الْوَطْءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَقْتُمُوهَنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُوهُنَّ) {الأحزاب: 49) وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) {النور: 32) يُرِيدُ بِهِ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ ثُمَّ لَوْ تَنَاوَلَ الْوَطْءَ مَجَازًا عِنْدَنَا وَحَقِيقَةً عِنْدَهُمْ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى حَلَالِهِ مَخْصُوصًا فِي حَرَامِهِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا " فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أنه مكتوب في التوراة فلم يلزمنا لنسخها بِالْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعِيدِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ فِي الْحَرَامِ دُونَ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ حَرَامٌ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وبنتها " فلا دليل في ظاهره فعمل بِمُوجَبِهِ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْخِمَارِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أُمَّهَا وَلَا بِنْتَهَا فَإِنْ عَدَلُوا بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى الْوَطْءِ، عَدَلْنَا بِهِ إِلَى حَلَالِ الْوَطْءِ أَوْ شُبْهَتِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ كَالنِّكَاحِ، فَلَيْسَ لِقَوْلِهِمْ وَطْءٌ مَقْصُودٌ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ وَطْءَ الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَهُوَ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ كَوَطْءِ الشَّابَّةِ الْحَسْنَاءِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ انْتُقِضَ بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ أوجب لحوق النَّسَبِ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزِّنَا، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّضَاعِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فَمُنْتَقِضٌ بِالْعَقْدِ يَفْتَرِقُ حكم محظوره الفاسد ومباحه الصحيح.
وإن قِيلَ: فَالْعَقْدُ قَوْلٌ، وَلَيْسَ بِفِعْلٍ.
قِيلَ؛ الْقَوْلُ فِعْلٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ أَنَّهُ لَمَّا تعلق لمحظوره شابه أحكام المباح لم يتَعَلَّق بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ.

(9/216)


فصل
فأما الشافعي: فإنه حكى مناظرة بينه وبين العراقيين في هذه المسألة، اختلف أصحابنا فيه.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ محمد بن الحسن.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ بشر المريسي فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ لي قائل، يقول: لو قبلت امرأة ابنه لشهوة حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَبَدًا لِمَ قُلْتَ هَذَا، فهذا سؤال أورده عليه، فالمخالف، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: قَدْ أَخْطَأَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَ لَا، قُلْتُ هَذَا، فَحَذَفَ لَا وَقَالَ لِمَ قُلْتُ هَذَا سَهْوًا مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ مَذْهَبَهُ فِي أَنَّ الحرام لا يحرم الحلال وطأً كان أَوْ لَمْسًا، فَقَالَ لَهُ الْمُخَالِفُ أَنَا أَقُولُ: لو قبلت امرأة ابنه بشهوة حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا لِمَ قُلْتَ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْكَ فِي أَنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ.
فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مِنْ قبل: إن الله تعالى حَرَّمَ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ، وَهَذَا بِالنِّكَاحِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّصُّ وَارِدًا فِي النِّكَاحِ كَانَ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنِ الْحَرَامُ مُلْحَقًا بِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَرَامِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْحَلَالِ، ثُمَّ قال الشافعي وقوله تعالى حاكياً عن هذا القائل فقال لي أحدهما جِمَاعًا وَجِمَاعًا، يَعْنِي أَنَّ وَطْءَ الزِّنَا جِمَاعٌ ووطء النكاح جماع فاقتضى لتساويهما أن يستوي حُكْمُهُمَا فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنْ فَرَّقَ بين الجماعين في الحكم فقال: جماعاً حمدت به، وجماعاً رجعت به، وأحدهما نعمة وجعلته نَسَبًا وَصِهْرًا، وَأَوْجَبَ بِهِ حُقُوقًا وَجَعَلَكَ مَحْرَمًا لِأُمِّ امْرَأَتِكَ وَابْنَتِهَا تُسَافِرُ بِهِمَا وَجَعَلَ الزِّنَا نِقْمَةً فِي الدُّنْيَا بِالْحُدُودِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ إلا أن يعفو الله، أفتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة.
فَبَيَّنَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْجِمَاعَيْنِ لَمَّا افْتَرَقَا فِي هذه الْأَحْكَامِ الَّتِي أَجْمَعْنَا عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا ثُمَّ أن الشافعي استأنف سؤالاً على هذه المناظرة له فَقَالَ: إِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: وَجَدْتُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِجِمَاعِ الزَّوْجِ فَأُحِلُّهَا بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ جماع كجماع كما حرمت به الحلال، ولأنه جِمَاعٌ وَجِمَاعٌ، فَأَجَابَهُ هَذَا الْمُنَاظِرُ بِأَنْ قَالَ: إِذًا تُخْطِئُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّهَا بِإِصَابَةِ زَوْجٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ بِنِكَاحِ زَوْجٍ وَإِصَابَةِ زَوْجٍ فَأَوْرَدَ أَوَّلَ السؤال نقصاً ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ فَرْقًا لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْجِمَاعَ الْحَرَامَ بِالْجِمَاعِ الْحَلَّالِ من حيث جمعهما بالاسم فَعَارَضَهُ بِتَحْلِيلِهَا لِلزَّوْجِ بِالْجِمَاعِ الْحَرَامٍ قِيَاسًا عَلَى الْجِمَاعِ الْحَلَالِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الِاسْمِ، فَأَقَرَّ بِتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ فَصَارَ نَقْضًا وَاعْتِرَافًا بِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الِاسْمِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ حَكَى الشَّافِعِيُّ: سُؤَالًا اسْتَأْنَفَهُ مَنَاظِرُهُ.
فَقَالَ: قَالَ لِي أفيكون شَيْءٌ يُحَرِّمُهُ الْحَلَالُ لَا يُحَرِّمُهُ الْحَرَامُ أَقُولُ بِهِ.
فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ نَعَمْ يَنْكِحُ أَرْبَعًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ من النساء خامسة فيحرم عليه إذا زنا بأربع شيء من النساء.

(9/217)


قال المناظر: لَا يَمْنَعُهُ الْحَرَامُ مَا مَنَعَهُ الْحَلَالُ، فَكَانَ هذا منه زيادة اعتراف تفرق مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ حكي عَنْهُ اسْتِئْنَاف سُؤَالٍ يَدُلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَهُوَ أَنْ تَرْتَدَّ الْمَرْأَةُ فَتَحْرُمُ بِالرِّدَّةِ عَلَى زَوْجِهَا، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الْحَرَامُ مُحَرِّمًا لِلْحَلَالِ.
فَأَجَابَهُ الشافعي رضي الله عنه بِأَنْ قَالَ: نَعَمْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَاقْتُلهَا وَاجْعَل مَالَهَا فَيْئًا يُرِيدُ بِذَلِكَ أن تحرم الردة عام، ولا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ تَبَعًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
فإذ تقرر ما وصفنا من الزِّنَا لَا يَحْرُمُ النِّكَاحُ فَجَاءَتِ الزَّانِيَةُ بِوَلَدٍ مِنْ زِنًا كَانَ وَلَدُ الزَّانِيَةِ دُونَ الزَّانِي لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " وإنما لحق بها دونه؛ لأنه مخلوق منهما عِيَانًا، وَمِنَ الْأَبِ ظَنًّا فَلَحِقَ بِهَا وَلَدُ الزنا والنكاح لمعاينة وضعهما لَهُمَا، وَلَحِقَ بِالْأَبِ وَلَدُ النِّكَاحِ دُونَ الزِّنَا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِالْفِرَاشِ فِي النِّكَاحِ دُونَ الزِّنَا، وَإِذَا لَمْ يَلْحَقْ وَلَدُ الزِّنَا بِالزَّانِي وَكَانَتْ ثيباً جَازَ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كره له أن يتزوجها، واختلف أصحابنا في معنى الكراهية.
فقال بعضهم: لاختلاف الفقهاء في إباحتها، وكره اسْتِبَاحَتِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَرِهَ نكاحها لجواز أن يكون مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ حَرُمَ عَلَى الزَّانِي نِكَاحُهَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى تَحْرِيمِهَا فَقَالَ مُتَقَدِّمُوهُمْ: لِأَنَّهَا بَنَتُ امْرَأَةٍ قَدْ زَنَى بِهَا فَتَعَدَّى تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ إِلَيْهَا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فَرْعًا عَلَى الْخِلَافِ الْمَاضِي.
وقال متأخروهم: بل حرمت؛ لأنها بنته مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خِلَافًا مُسْتَأْنَفًا وَاسْتَدَلُّوا فِيهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ) {النساء: 23) وَهَذِهِ بِنْتُهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهَا بِنْتًا، وَلَا يُعْتَبَرُ عَقْدُ النِّكَاحِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مِائِهِ فِي الظَّاهِرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ كَالْمَوْلُودَةِ مِنْ زَوْجة أَوْ أمة؛ وَلِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرجل الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، فَلَمَّا حَرُمَ وَلَدُ الزِّنَا عَلَى الزَّانِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الزَّانِي قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الشُّبْهَةِ.
وَلِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مِائِهِ فلم يكن نفيها عنه يمانع مِنْ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْوَلَدِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النَّسَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ مَاءِ الزاني كَالْمِيرَاثِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لُحُوقُ النَّسَبِ بِالزَّانِيَةِ يُوجِبُ أَنْ يَتْبَعَهُ التَّحْرِيمُ كَمَا تَبِعَهُ الْمِيرَاثُ وَجَبَ إِذَا انْتَفَى النَّسَبُ عَنِ الزَّانِي أَنْ يَتْبَعَهُ التَّحْرِيمُ كَمَا تَبِعَهُ الْمِيرَاثُ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ:

(9/218)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَحْرِيمُ نَسَبٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلنَّسَبِ كَاتِّبَاعِهِ فِي حَقِّ الْأُمِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَابِعٌ لِلنَّسَبِ فِي الثُّبُوتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ فِي النَّفْيِ كَالْمِيرَاثِ، وَلَا مدخل على هذا ولد الملاعنة لما سَنَذْكُرُهُ؛ وَلِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَوْ حَرُمَتْ عَلَى الزَّانِي بِالْبُنُوَّةِ لَحَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ بِحُكْمِ الْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ، وَفِي إِبَاحَتِهَا لَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهَا لِلزَّانِي.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ بَنَاتِهِ فَتَدْخُلُ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ كَمَا لَمْ تَكُنْ مِنْ بَنَاتِهِ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ للذَّكَرِ) {النساء: 11) الْآيَةَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ، فَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَسْلَمْ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ نَسَبٌ وَلَا مِيرَاثٌ لَمْ يمنع أن يَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمٌ.
فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى وَلَدِ الشُّبْهَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَمِيرَاثُهُ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ وَوَلَدُ الزِّنَا بِخِلَافِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَالْحُكْمُ فِي وَلَدِ الملاعنة أنه إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا بَنَتُ امْرَأَةٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَا دَخَلَ بِهَا فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ كَوَلَدِ الزِّنَا فَعَلَى هَذَا بطل الْقِيَاسُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لو اعترف بها بعد الزنا لَحِقَتْ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَوِ اعْتَرَفَ بِهِ لَمْ يلحق فصار وَلَد الزِّنَا مُؤَبَّدًا وَنَفْيُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَافْتَرَقَا فِي النَّفْيِ، فَكَذَلِكَ مَا افْتَرَقَا في الحكم.

(9/219)


بَابُ نِكَاحِ حَرَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَائِهِمْ وَإِمَاءِ المسلمين من الجامع ومن كتاب ما يحرم الجمع بينه، وغير ذلك
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمُ الْيَهُودُ والنصارى دون المجوس والصابئون وَالسَّامِرَة مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أنهم يخلفونهم فِي أَصْلِ مَا يُحِلُّونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيُحَرِّمُونَ فيحرمون كالمجوس وإن كانوا يخالفونهم عَلَيْهِ وَيَتَأَوَّلُونَ فَيَخْتَلِفُونَ فَلَا يُحَرَّمُونَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَقِسْمٌ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَكِتَابُ الْيَهُودِ التَّوْرَاةُ وَنَبِيُّهُمْ مُوسَى وَكِتَابُ النَّصَارَى الْإِنْجِيلُ وَنَبِيُّهُمْ عِيسَى، وَكِلَا الْكِتَابَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَمُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدَىً للنَّاسِ) {آل عمران: 3 - 4) قد نُسِخَ الْكِتَابَانِ وَالشَّرِيعَتَانِ أَمَّا الْإِنْجِيلُ فَمَنْسُوخٌ بِالْقُرْآنِ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَنْسُوخَةٌ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَدِينُ اليهودية فقد اختلف أصحابنا بماذا نسخ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوْرَاةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِنْجِيلِ وَالْيَهُودِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّصْرَانِيَّةِ ثُمَّ نَسَخَ الْقُرْآنُ الْإِنْجِيلَ، وَنَسَخَ الْإِسْلَامُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ دَعَا الْيَهُودَ إِلَى دِينِهِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِإِنْجِيلِهِ فَلَوْ لَمْ يَنْسَخْ دينهم بدينه وكتابهم بكتابه لأقرهم ولدعى غَيْرَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّوْرَاةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ وَالْيَهُودِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنَّ مَا لَمْ يُغَيَّرْ من التوراة قبل القرآن حق، وما تغير مِنَ الْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَأَنَّ عِيسَى إنما دعى الْيَهُودَ؛ لِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا كِتَابَهُمْ وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ فَنَسَخَ بِالْإِنْجِيلِ مَا غَيَّرُوهُ مِنْ تَوْرَاتِهِمْ وَبِالنَّصْرَانِيَّةِ مَا بَدَّلُوهُ مِنْ يَهُودِيَّتِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَ الْقُرْآنُ حينئذٍ جَمِيعَ تَوْرَاتِهِمْ، وَنَسَخَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ يَهُودِيَّتِهِمْ لِأَنَّ الأنبياء قد كانوا يحفظون من الشرائع التبديل، وينسخون منها مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا نَسَخَ الْإِسْلَامُ فِي آخِرِ الْوَحْيِ خَاصًّا مِنْ أَوَّلِهِ فَأَمَّا نَسْخُ الشرائع المتقدمة على العموم فلم يكن إلا بالإسلام الذي هو خاتمة الشرائع، بالقرآن الَّذِي هُوَ خَاتِمَةُ الْكُتُبِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يكون الداخل في اليهودية بعد عيسى على بَاطِل، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي عَلَى حَقٍّ مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ غَيَّرَ وَبَدَّلَ، فَأَمَّا بَعْدَ الإسلام فالداخل في اليهودية والنصرانية على باطل.

(9/220)


فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ كَانُوا عَلَى دِينٍ حَقٍّ ثُمَّ نُسِخَ فَيَجُوزُ لِحُرْمَةِ كتابهم أن يقروا على دينهم بالجزية أي يزكوا وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ فَأَمَّا إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ وأكل ذبائحهم فمجمع عليه بالنص الْوَارِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، أَمَّا الْجِزْيَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) {التوبة: 29) فأما أكل الذبائح فقوله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) {المائدة: 5) أما نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ غير الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ، أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ نِكَاحِ حَرَائِرِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْمُسْلِمَاتِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ) {الممتحنة: 10) وقوله تَعَالَى: {لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} (المائدة: 51) الآية قالوا: ولأن بغضهم يمنع من نكاح نسائهم كعبدة الْأَوْثَانِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ منزلٍ فكتابهم مغير مَنْسُوخٌ وَمَا نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى ارْتَفَعَ حُكْمُهُ فَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُنْ، فَكَذَلِكَ صَارُوا بَعْدَ نَسْخِهِ فِي حُكْمِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) {المائدة: 5) فَجَمَعَ بَيْنَ نِكَاحِهِنَّ وَنِكَاحِ الْمُؤْمِنَاتِ فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221) متقدمة، لأنها من سورة البقرة، وَقَوْلَهُ: {وَالمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} متأخرة؛ لأنها من سورة المائدة وهي مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمُتَأَخِّرُ هو الناسخ للتقدم وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ نَاسِخًا لِلْمُتَأَخِّرِ، فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ يَكُونُ قَوْلُهُ: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: {وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) {المائدة: 5) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
والجواب الثاني: أن قوله: {لاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) {البقرة: 221) عَامٌ وَقَوْلَهُ: {وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَى الْعَامِ وَمُخَصَّصًا لَهُ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: {ولاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) {البقرة: 221) مخصوصا بِقَوْلِهِ: {وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) {المائدة: 5) وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشافعي، وَأَنَّ اسْمَ الشِّرْكِ ينطلقُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ مِنَ الفقهاء: إلى أن أهل الكتاب ينطلق على اسم الكفر ولا ينطلق عليه اسْمُ الشِّرْكِ، وَأَنَّ اسْمَ الشِّرْكِ ينطلقُ عَلَى مَنْ لَمْ يُوَحِّدِ اللَّهَ تَعَالَى وَأَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: {ولاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} مخصُوصًا وَلَا مَنْسُوخًا ثُمَّ حُكْمُهُ ثَابِتٌ عَلَى عمومه.
ثم يدل على جوازه نِكَاحهمْ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَلَكَ رَيْحَانَةَ وَكَانَتْ يَهُودِيَّةً وَاسْتَمْتَعَ بِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ " ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَبُشِّرْ بِإِسْلَامِهَا فَسُرَّ بِهِ، ولو منع الدين منها لما استمتع بها كَمَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِوَثَنِيَّةٍ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ جَوَازُهُ، وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ نكح

(9/221)


نَصْرَانِيَّةً وَعَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً، وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " نَكَحْنَاهُنَّ بِالْكُوفَةِ عَامَ الْفَتْحِ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ " وَنَحْنُ لَا نَكَادُ نَجِدُ الْمُسْلِمَاتِ كَثِيرًا فَلَمَّا انْصَرَفْنَا من العراق طلقناهن، تحل لنا نساؤهم ولا تحل لَهُمْ نِسَاؤُنَا، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جَابِرٍ إخباراً عن أحوال جماعة المسلمين الذين مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فَصَارَ إِجْمَاعًا مُنْتَشِرًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عُمَرَ.
قِيلَ: ابْنُ عُمَرَ كَرِهَ وَلَمْ يُحَرِّمْ، فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ كِتَابًا مِنْ كَلَامِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْبِيَائِهِ كَانُوا فِي التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى حَقٍّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوُوا فِي الشِّرْكِ مَنْ لَمْ يكن من عبدة الأوثان على حق معه، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِحُرْمَةِ كِتَابِهِمْ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ صِحَّةِ دِينِهِمْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، وَأَكْلِ ذبائحهم جاز أن تفرق بَيْنَهُمْ فِي نِكَاحِ نِسَائِهِمْ فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكَوَافِرِ) {الممتحنة: آية: 10) فمخصوص بعبدة الْأَوْثَانِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَمَمْنُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَأَكْلِ الذَّبَائِحِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ كِتَابَهُمْ منسوخ فهو كما لو لَمْ يَكُنْ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَا نُسِخَ حكمه لا يوجب أن لا يُنْسَخَ حُرْمَتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا نُسِخَ من القرآن ثَابِتُ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوخَ الْحُكْمِ كَذَلِكَ نَسْخُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ فَهُمْ ضَرْبَانِ.
بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَغَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَجَمِيعُ بَنِيهِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ مُوسَى حِينَ دَعَاهُمْ، دَخَلَ مِنْهُمْ فِي دِينِ عِيسَى مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فَقَدْ كَانُوا عَلَى دِينِ حَقٍّ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِ، فَيَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ.
وَأَمَّا غَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ دخل في اليهودية من النصرانية من العرب والعجم والترك فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
صِنْفٌ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ التبديل كالروم حين دخلوا النَّصْرَانِيَّة، فَهَؤُلَاءِ كَبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ حَرَائِرِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب إلى قيصر الروم كتاباً

(9/222)


قَالَ فِيهِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ) {آل عمران: 64) الْآيَةَ فَجَعَلَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ الحرمة للدين والكتاب لا للنسب؛ فلذلك مَا اسْتَوَى حُكْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فِيهِ.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى حَقٍّ ولا تمسكوا بكتاب صحيح، فصاروا إن لم يكن لهم حرمة كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي، أَنْ لَا تُقْبَلَ لَهُمْ جزية، ولا يؤكل لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ.
وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشَكَّ فِيهِمْ هَلْ دَخَلُوا فِيهِ قبل التبديل أو بعده كنصارى العرب كوج وفهر وَتَغْلِبَ فَهَؤُلَاءِ شَكَّ فِيهِمْ عُمَرُ فَشَاوَرَ فِيهِمُ الصَّحَابَةَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ؛ وَأَنْ لَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ مَحْقُونَةٌ فَلَا تُبَاحُ بِالشَّكِّ وَالْفُرُوجَ محظورة لا تُسْتَبَاحُ بِالشَّكِّ، فَهَذَا حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ اليهود والنصارى.

فصل
وأما القسم الثاني: هم غير أهل الكتاب كعبدة الأوثان وعبدة الشمس والنيران وعبدة ما استحسن من حمار أو حيوان، أو قل بِتَدْبِيرِ الطَّبَائِعِ وَبَقَاءِ الْعَالَمِ، أَوْ قَالَ بِتَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْأَكْوَانِ وَالْأَدْوَارِ، فَلَمْ يُصَدِّقْ نَبِيًّا وَلَا آمَنَ بِكِتَابٍ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُشْرِكُونَ لَا يُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ، وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ وَلَا يُحْكَمُ فِيهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِالسَّيْفِ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يُؤَمَّنُوا مُدَّةً أَكْثَرُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُرَاعَى انْقِضَاؤُهَا فِيهِمْ ثُمَّ هُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أَمَانِهِمْ حَرْبٌ، وَسَوَاءٌ أَقَرُّوا بأن لا إله إلا الله أو أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ، أَوْ جَحَدُوهُ وَلَمْ يُقِرُّوا به آله ولا خالق فِي أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ، لَا يُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وهم مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الصابئون، والسامرية، والمجوس.
فأما السامرة: فهم صنف الْيَهُودِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ حِينَ غَابَ عَنْهُمْ مُوسَى مُدَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ، وَاتَّبَعُوا السَّامِرِيَّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْعِجْلِ، وَأَمْرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَمِنْهُمْ من قتل.
وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَهُمْ صِنْفٌ مِنَ النَّصَارَى وَافَقُوهُمْ عَلَى بَعْضِ دِينِهِمْ وَخَالَفُوهُمْ فِي بَعْضِهِ، وَقَدْ يسمى باسمهم ويضاف إِلَيْهِمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا صَانِعَةً مُدَبِّرَةً فَنَظَرَ الشَّافِعِيُّ فِي دِينِ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ: فَوَجَدَهُ مُشْتَبِهًا فَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِمْ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِهِمْ فقال هاهنا: أنه مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُمْ يخالفوهم فِي أَصْلِ مَا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ فَيُحَرَّمُونَ وَقَطَعَ في موضع آخر أنه مِنْهُمْ، وَتَوَقَّفَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ وَلَكِنْ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ من ثلاثة أقسام: فقال إن وافقوا اليهود والنصارى في أصل معتقدهم ويخالفوهم في فروعه فيقر السَّامِرَةُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَيُقِرُّ الصَّابِئُونَ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ، فَهَؤُلَاءِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ، وَأَكْلِ ذبائحهم، ونكاح

(9/223)


نِسَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا جَمَعَهُمْ أَصْلُ الْمُعْتَقَدِ لَمْ يكن خلافهم في فروعه مؤثر كما يختلف المسلمون مع اتفاقهم على أصل الدِّينِ فِي فُرُوعٍ لَا تُوجِبُ تَبَايُنَهُمْ وَلَا خروجهم عن الملة.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أصول معتقدهم، وأن يوافقوهم فِي فُرُوعِهِ وَيُكَذِّبَ السَّامِرَةُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَيُكَذِّبَ الصَّابِئُونَ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ، فَهَؤُلَاءِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَا يقبل لهم جزية، ولا يؤكل لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى حَقٍّ فَيُرَاعَى فِيهِمْ، وَلَا تَمَسَّكُوا بِكِتَابٍ فَيُحْفَظَ عَلَيْهِمْ حُرْمَتُهُ فَيُؤْخَذُوا بِالْإِسْلَامِ أو بالسيف، وَحُكِيَ أَنَّ الْقَاهِرَ اسْتَفْتَى أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ فِيهِمْ فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْفَلَكَ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلهة مُدَبِّرَةٌ فَهَمَّ بِقَتْلِهِمْ، فَبَذَلُوا لَهُ مَالًا فَكَفَّ عَنْهُمْ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشَكَّ فِيهِمْ فَلَا يُعْلَمُ هَلْ وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ، أَوْ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ فَهَؤُلَاءِ كَمَنْ شُكَّ فِي دُخُولِهِ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ هَلْ كَانَ قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ فَيُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدِ اختلف الناس فيهم هل هم أهل الكتاب أَمْ لَا؟ وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمْ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَقَالَ فِي موضع لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ قَوْلِ الشافعي فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنه لا كتاب لهم لقوله تعالى: {إنَّمَا أَنْزَلَ الكِتَابِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ} (الأنعام: 156) يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لِغَيْرِهِمَا؛ وَلِأَنَّ عُمْرَ لَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ سَأَلَ الصَّحَابَةَ عَنْهُمْ فَرَوَى لَهُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " سنوا بهم سنة أهل الْكِتَابِ " فَلَمَّا أَمَرَ بِإِجْرَائِهِمْ مَجْرَى أَهْلِ الْكِتَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ قَبُولُ جِزْيَتِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّ عُمَرَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ " فَأَمَّا أَكْلُ ذَبَائِحِهمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْكِتَابِ فيهم.
والقول الثاني فيهم: أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) {التوبة: 29) وَقَدْ ثَبَتَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فدل على أنهم من أهل الكتاب وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: وكانوا أهل كتاب " وَإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ فَلَمَّا صحا جاؤا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم فدعا آل مملكته فقال: " تعلمون ديناً خيراً من دين آدم فقد كان آدم ينكح بنيه من بناته فأنا على دين آدم ما يرغب بكم عن دينه فبايعوه وخالفوا الدين وَقَاتَلُوا الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وذهب العلم الذي في

(9/224)


صدورهم وهم أَهْلُ كِتَابٍ وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما منهم الجزية ".
فَنَكَحَ الْمِلْكُ أُخْتَهُ، وَأَمْسَكُوا عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، إِمَّا مُتَابَعَةً لِرَأْيِهِ، وَإِمَّا خَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ؛ وَهَلْ يَجُوزُ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ طَرِيقُ كِتَابِهِمُ الِاجْتِهَادَ دُونَ النَّصِّ فَقَصَرَ حُكْمُهُ عَنْ حُكْمِ النَّصِّ.
وَقَالَ آخرون من أصحابنا: ليس ما اختلف نص الشافعي عليه اختلاف قوليه فيه إِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يَعْنِي فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ وَحْدَهَا حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ أَنْ لَا تُسْتَبَاحَ بِالشَّكِّ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ: إِنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْنِي فِي أَنْ لَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَخَالَفَ أَبُو ثَوْرٍ فَجَوَّزَ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا؛ وَقَالَ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ خِلَافًا فِيهِ حَتَّى جَاءَنَا خلافاً من الكرخ يَعْنِي خِلَافَ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْكُنُ كَرْخَ بَغْدَادَ وَاسْتَدَلَّ أَبُو ثَوْرٍ عَلَى أَكْلِ ذبائحهم، وجواز مناكحتهم بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " قَالَ: وَقَدْ تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَجُوسِيَّةً بِالْعِرَاقِ فاستنزله عنها عمر فطلقها، فلو لم يجز لأنكر عَلَيْهِ وَلفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ صنفٍ جَازَ قَبُولُ جِزْيَتِهِمْ جَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالُوا: وَلِأَنَّ كِتَابَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نُسِخَ وَكِتَابَ الْمَجُوسِ رُفِعَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَالْمَرْفُوعِ؛ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ نَسْخُ كِتَابَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ رَفْعُ كِتَابِ الْمَجُوسِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ. رَوَاهُ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا لا يعرف لهم مخالفاً فصار إجماعاً؛ لأن مَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِكِتَابٍ لَمْ تَحِلَّ ذَبَائِحُهُمْ ونسائهم كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَيْسَ لِلْمَجُوسِ كِتَابٌ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ كَمَا يَتَمَسَّكُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَوَجَبَ أن يكون حكمهم مُخَالِفًا لِحُكْمِهِمْ وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ مَحْظُورٌ بِعُمُومِ النص فلم يجز أن يستباح باحتمال؛ وَلِأَنَّ عُمْرَ مَعَ الصَّحَابَةِ تَوَافَقُوا فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ لِلشَّكِّ فِيهِمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا الشك أن يستبيح أكل ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ.
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز إلى الحسن البصري يسأله كَيْفَ أَخَذَ النَّاسُ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ وَأَقَرُّوهُمْ عَلَى عِبَادَةِ النِّيرَانِ، وَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ، إِنَّمَا أَخَذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، لِأَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْبَحْرَيْنِ أَخَذَهَا

(9/225)


مِنْهُمْ، وَأَقَرَّهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أُفْرِدُوا مِنْ أهل الكتاب بأخذ الجزية وحدها فلذلك خصهما عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالسُّؤَالِ وَالْإِنْكَارِ، فَأَمَّا استدلاله بِقَوْلِهِ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " فَيَعْنِي بِهِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَوَى ذَلِكَ عِنْدَ الشَّكِّ فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ.
والثاني: أن الصحابة أثبتوا هذا الحديث في قَبُول جِزْيَتِهِمْ وَلَمْ يُجَوِّزُوا بِهِ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ.
وَأَمَّا تَزْوِيجُ حُذَيْفَةَ بِمَجُوسِيَّةٍ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ يَهُودِيَّةً، وَلَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً فَقَدِ اسْتَنْزَلَهُ عَنْهَا عُمرُ فَنَزَلَ، وَلَوْ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ لَمَا اسْتَنْزَلَهُ عَنْهَا عُمرُ وَلَمَا نَزَلَ عَنْهَا حُذَيْفَةُ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَالْمَعْنَى فِيهِمْ تَمَسُّكُهُمْ بِكِتَابِهِمْ فَثَبَتَ حُرْمَتُهُ فِيهِمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَجُوسُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ حُكْمَ الْمَرْفُوعِ وَالْمَنْسُوخِ سَوَاءٌ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ باقي التلاوة فنفيت حرمته فيهم، وليس كذلك المجوسي، وَأَمَا الْمَرْفُوعُ مَرْفُوعُ التِّلَاوَةِ فَارْتَفَعَتْ حُرْمَتُهُ هَذَا الكلام فيمن له شبهة بكتاب مِنَ الصَّابِئِينَ، وَالسَّامِرَةِ، وَالْمَجُوسِ.
فَأَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِصُحُفِ شِيثٍ أَوْ زَبُورِ دَاوُدَ، أَوْ شَيْءٍ مِنَ الصُّحُفِ الْأُولَى، أَوْ مِنْ زُبُرِ الْأَوَّلِينَ فلا يجري عليه حكم أهل الكتاب، ويكونوا كَمَنْ لَا كِتَابَ لَهُ فَلَا تُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا تُنْكَحُ فِيهِمُ امْرَأَةٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ مَوَاعِظُ وَوَصَايَا، وَلَيْسَ فِيهَا أَحْكَامٌ وَفُرُوضٌ فَخَالَفَتِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.
وَالثَّانِي: لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَحْيٌ مِنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي، أَوْ مَنْ تَبِعَنِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ "، فَكَانَ ذَلِكَ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِهِ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ كَذَلِكَ هَذِهِ الْكُتُبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " فَإِذَا نَكَحَهَا فَهِيَ كَالْمُسْلِمَةِ فِيمَا لَهَا وَعَلَيْهَا إِلَّا أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ وَالْحَدُّ فِي قَذْفِهَا التَّعْزِيرُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أنكح المسلم كتابية، فمالها وَعَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ كَالْمُسْلِمَةِ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 238) ؛ وَلِأَنَّهُ عَقَدُ مُعَاوَضَةٍ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ كَالْإِجَارَاتِ، وَالْبُيُوعِ،

(9/226)


وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالَّذِي لَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَهْرُ، وَالنَّفَقَةُ، وَالْكِسْوَةُ، وَالسُّكْنَى، وَالْقَسْمُ، وَالَّذِي لَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ تَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَهَذِهِ هِيَ حُقُوقُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيَّةِ.
فَأَمَّا أَحْكَامُ الْعَقْدِ فَهِيَ الطَّلَاقُ، وَالظِّهَارُ، وَالْإِيلَاءُ، وَاللِّعَانُ، وَالتَّوَارُثُ، وَكُلُّ هَذِهِ الأحكام في العقد على الذمية كما فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ ".
والقول الثاني: أَنَّ الْحَدَّ فِي قَذْفِهَا التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شرط في حصانة القذف بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ لِيُسْقِطَ بِهِ هَذَا التَّعْزِيرَ جاز؛ لأن التعزير ضربان:
الأول: تعزير أذى لا يجب.
الثاني: وتعزير قذف يجب.
فتعزير الأذى يكون فِي قَذْفِ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهَا الزِّنَا كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، فَلَا يَجِبُ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ اللِّعَانُ، وَتَعْزِيرُ الْقَذْفِ يَكُونُ فِي قَذْفِ مَنْ يَصِحُّ مِنْهَا الزِّنَا، وَلَمْ تَكْمُلْ حَصَانَتُهَا كَالْأَمَةِ والكافرة فيجب ويجوز فِيهِ اللِّعَانُ، فَأَمَّا مَا سِوَى هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالرَّجْعَةِ فَهِيَ فِي جميعه كالمسلمة.

مسألة
قال الشافعي: " وَيُجْبِرُهَا عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ ".
قَالَ الماوردي: وأما إِجْبَارُ الذِّمِّيَّةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ وطء الحائض حتى تغتسل بقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهَرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثِ أَمَرَكُمُ اللهُ) {البقرة: 222) وكان لِلزَّوْجِ إِذَا مَنَعَهُ الْحَيْضُ مِنْ وَطْئِهَا أَنْ يجبرها عليه ليصل إلى حقه منه.
فإن قيل: الغسل عندكم لا يصح إلا منه، وَلَا فَرْقَ عِنْدَكُمْ بَيْنَ مَنْ لَمْ يَنْوِ ومن لم يغتسل، مع الكفر والإجبار لا تصح مِنْهَا نِيَّةٌ.
قِيلَ: فِي غُسْلِهَا مِنَ الْحَيْضِ حَقَّانِ:
أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ إِلَّا بنية.

(9/227)


وَالْآخَرُ: لِلزَّوْجِ يَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَكَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تعالى فلذلك أجزى بِغَيْرِ نِيَّةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْبِرُ زَوْجَتَهُ الْمَجْنُونَةَ عَلَى الْغُسْلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ لم يكن عليها في ق اللَّهِ تَعَالَى غسلٌ، وَغَيْرُ ذَاتِ الزَّوْجِ تَغْتَسِلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ للزوج عليها حق، وكذلك نجبر الذِّمِّيَّةَ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ النِّفَاسِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ من الوطء كالحائض، فَأَمَّا إِجْبَارُ الذِّمِّيَّةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَبِيحُ وَطْءَ الْجُنُبِ، وَلَا يستبيح وطء الحائض فافترقا في الإجبار.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ جَازَ وطئها مَعَ بَقَائِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ قَدْ تَعَافُ وَطْءَ مَنْ لَا تَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ، فَكَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا فَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنَ الْحَدَثِ فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا لِكَثْرَتِهِ وَأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَعَافُهُ، وَإِنَّهُ لَيْسَ يَصِلُ إِلَى وَطْئِهَا إِلَّا بَعْدَ الْحَدَثِ فَلَمْ يَكُنْ لإجبارها عليه تأثير.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والتنظف بِالِاسْتِحْدَادِ وَأَخْذِ الْأَظْفَارِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصَلُ مَا يُؤَثِّرُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا منع من أصل الاستمتاع.
والقول الثاني: مَا مَنَعَ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ فَأَمَّا الْمَانِعُ مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمْتَاعِ فَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ كَالْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ فَلِلزَّوْجِ إِجْبَارُ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَانِعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ فَهُوَ مَا تَعَافُهُ النُّفُوسُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ، وَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا الْأَصْلُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالتَّنْظِيفِ بِالِاسْتِحْدَادِ "؛ وَهُوَ أَخْذُ شعر العانة مؤخوذ من الحدية الَّتِي يُحْلَقُ بِهَا، فَإِنْ كَانَ شَعْرُ الْعَانَةِ قَدْ طَالَ وَفَحُشَ، وَخَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ أَجْبَرَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَخْذِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً، وَإِنْ لَمْ يَفْحُشْ وَأَمْكَنَ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ، وَلَكِنْ تَعَافُهُ النَّفْسُ، فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَى أَخْذِهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ لم تعافه النَّفْسُ لَمْ يُجْبِرْهَا عَلَى أَخْذِهِ قَوْلًا وَاحِدًا.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْتَحِدَّ الْأَعْزَبُ كُلَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْمُتَأَهِّلُ كُلَّ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنْ قَالَهُ نَقْلًا مَأْثُورًا عَمِلَ بِهِ، وَإِنْ قَالَهُ اجْتِهَادًا، فَلَيْسَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ فِي الاجتهاد أصل مع اختلاف الحلق فِي سُرْعَةِ نَبَاتِ الشَّعْرِ فِي قَوْمٍ وَإِبْطَائِهِ فِي آخَرِينَ وَاعْتِبَارِهِ بِالْعُرْفِ أَوْلَى، وَأَمَّا الْأَظْفَارُ إِذَا لَمْ تَطُلْ إِلَى حَدِّ تَعَافُهَا النُّفُوسُ لَمْ يُجْبِرْهَا عَلَى أَخْذِهَا، وَإِنْ عَافَتِ النُّفُوسُ طُولَهَا فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَى أَخْذِهَا قَوْلَانِ، وَهَكَذَا غَسْلُ رَأْسِهَا إِذَا سَهِكَ، أَوْ قَمِلَ، وَغَسْلُ جسدها إذا راح وأنتن، ففي إِجْبَارِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ تَعَافُهُ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَمْنَعُهَا مِنَ الْكَنِيسَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْأَعْيَادِ كَمَا يَمْنَعُ الْمُسْلِمَةَ مِنْ إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ ".

(9/228)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ الْيَهُودِيَّةَ مِنَ الْبَيْعَةِ وَالنَّصْرَانِيَّةَ مِنَ الْكَنِيسَةِ وَالْمُسْلِمَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وإن كانت بيوتاً تقصر للعبادة التي لا يجوز أن يمنع من واجباتها؛ لأنها قد توافي فِي مَنَازِلِ أَهْلِهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ بَيْتًا وَلَا تخرج من بيت زوجها كاره " ولأنها قَدْ تُفَوِّتُ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعَ فِي زَمَانِ الْخُرُوجِ فَكَانَ لَهُ مَنْعُهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا يمنعن إِمَاء اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ " فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهَا مَنْعَ تَحْرِيمٍ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ مَنْعَهُنَّ مِنْ إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ وَاجِبٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرِّوَايَةَ " لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسْجِدَ اللَّهِ " يُرِيدُ بِهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ هَكَذَا يَمْنَعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْأَعْيَادِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى هَذِهِ العبادات كان بأن يمنعها من الخروج بغير العبادات أولى.

مسألة
قال الشافعي: " وَيَمْنَعُهَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ إِذَا كَانَ يَتَقَذَّرُ بِهِ وَمِنْ أَكْلِ مَا يَحِلُّ إذا تأذى بريحه ".
قال الماوردي: أما الذِّمِّيَّةُ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا أَنْ تَشْرَبَ الْخَمْرَ والنبيذ وما يسكرها لأمرين:
أحدهما: ربما أنه خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُكْرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قد رُبَّمَا مَنَعَتْهُ فِي السُّكْرِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَصَارَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ غَيْرَ مُمَكَّنٍ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ قولاً واحداً، فأما إذا أَرَادَتْ أَنْ تَشْرَبَ مِنَ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ مَا لا يسكرها فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ يَسِيرِهِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ كَثِيرِهِ الَّذِي يُسْكِرُ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْمُسْكِرِ مِنْهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وربما أسكرها اليسير ولم يسكرها الكثير؛ لأن السكر يختلف باختلاف الأمزجة والأهوية فَالْمَحْرُورُ يُسْكِرُهُ الْقَلِيلُ، وَالْمَرْطُوبُ لَا يُسْكِرُهُ إِلَّا الْكَثِيرُ، وَإِذَا بَرَدَ الْهَوَاءُ وَاشْتَدَّ أَسْكَرَ الْقَلِيلُ وَإِذَا حَمِيَ الْهَوَاءُ لَمْ يُسْكِرْ إِلَّا الْكَثِيرُ، فلم يجز مع اختلافه أن يغترف حَال قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حامد الإسفراييني لما لم يذكر أَمَارَة تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَهَا مُسْكِرَةٌ وَهَذَا الْقَدَرُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا عَافَتْهُ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا مَنْ قَوِيَ دِينُهُ، وَكَثُرَ تَحَرُّجُهُ فَيَصِيرُ مَانِعًا لَهُ من كمال الاستمتاع، فيحرم جَوَازُ مَنْعِهَا مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ.

(9/229)


وَالثَّالِثُ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ شُرْبِ الْقَلِيلِ الذي يرون شربه في أعيادهم عبادة وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أسكر أو لم سكر مراعاة فيه العبادة، ولم يراعي فِيهِ السُّكْرُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَشْبَهُ.
فَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَلِلزَّوْجِ مَنَعُهَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَكَذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَأَمَّا النَّبِيذُ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ شَافِعِيَّيْنَ يَعْتَقِدَانِ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَالْخَمْرِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَإِنْ كَانَا حَنَفِيَّيْنِ يَعْتَقِدَانِ إِبَاحَةَ النَّبِيذِ كَانَ كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الذِّمِّيَّةِ فَلَهُ مَنْعُهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ قَدْرَ مَا يُسْكِرُهَا، وَهَلْ يَمْنَعُهَا مِنْ قَلِيلِهِ الَّذِي لَا يُسْكِرُهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْنَعُهَا مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلَهُ مَنْعُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ أَكْلِهِ بِلَا خِلَافٍ، فَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً تَرَى تَحْرِيمَ أَكْلِهِ ثُمَّ أَكَلَتْهُ مَنَعَهَا مِنْهُ كَمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمَةَ، وَإِنْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً تَرَى إِبَاحَةَ أَكْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ نُفُورَ نَفْسِ الْمُسْلِمِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ نُفُورِهَا مِنَ الْخَمْرِ فَصَارَ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ نَجَاسَتِهِ أَغْلَظُ فَهِيَ لا تكاد تطهر منه، ويتعدى النَّجَاسَةُ مِنْهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ يَقُولُ: هَذَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ إمكانه وتحريم مَنْعهَا مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَكَلَتْ مِنْهُ كَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى غَسْلِ فَمِهَا وَيَدِهَا منه لئلا يتعدى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ إِذَا قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ، وَفِي قَدْرِ مَا يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ مِنْ غَسْلِهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: سبع مرات إحداهن بالتراب مِثْلَ وُلُوغِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْبِرُهَا عَلَى غَسْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِغَيْرِ تُرَابٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْبُرُهَا عَلَى غَسْلِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَجْزَأَ فِيهِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ كَمَا يجزئ فِي غَسْلِ الْحَيْضِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا أَكْلُ مَا يُتَأَذَّى بِرِيحِهِ مِنَ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، وَمَا أَنْتَنَ مِنَ الْبُقُولِ وَالْمَأْكَلِ فَالْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ فيه سواء وينظر فإن كانت لِدَوَاءٍ اضْطُرَّتْ إِلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ وَغِذَاءٍ فَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ إِمْكَانِهِ، فَهَلْ يَمْنَعُهَا مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْبَخُورُ بِمَا تؤذي رائحته فَإِنْ كَانَ لدواءٍ لَمْ تُمْنَعْ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ دَوَاءٍ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَلَا فَرْقَ فِيمَا مَنَعَهُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ أَوْ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، لأن زمان الحيض وإن حرم فيه وطئها فإن يَحِلُّ فِيهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشِرَةِ فَصَارَ الْمَانِعُ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمَانِعِ من الوطء.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الثِّيَابُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ لِبْسِ مَا كَانَ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُنَجِّسُهَا وَيَتَنَجَّسُ بِهَا وَهُوَ أَدْوَمُ مِنْ نَجَاسَةِ الْخِنْزِيرِ والتحرز مِنْهُ أَشَقُّ فَلِذَلِكَ مُنِعَتْ مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وهل يمنع مَنْ لِبْسِ مَا كَانَ مُنْتَنَ الرَّائِحَةِ بِصَبْغٍ أَوْ بَخُورٍ أَوْ سَهُوكَةِ طَعَامٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَأَمَّا لبسُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجُ وَاسْتِعْمَالُ الطيب والبخور لا يَمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْعَى إِلَى

(9/230)


الشَّهْوَةِ، وَأَكْمَلُ لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَهَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْخِضَابِ وَالزِّينَةِ، وَلَا عَلَى أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى دَوَاءٍ فِي مَرَضٍ أَوْ سِمْنَةٍ في صحة.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن ارتدت إلى مجوسية أو إلى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ وَإِنِ انْقَضَتْ قبل أن ترجع فقد انقطعت العصمة لأنه يصلح أن يبتدئ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُسْلِمٍ تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً فَانْتَقَلَتْ مِنْ دِينِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ زَادَتْهُ خَيْرًا، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ وَمَا زاده الإسلام إلا صحة وسواء كان قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أن تنتقل عن دينها إلى دين يقرها أهله عليه كأنها كنت نَصْرَانِيَّةً فَتَزَنْدَقَتْ أَوْ تَوَثَّنَتْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تقر عليه؛ لأنه لما لم تقر عليه من كان متقدم الدُّخُولِ فِيهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقِرَّ عَلَيْهِ من تأخر دخوله فيه، وإذا كان كذلك نُظِرَ فِي رِدَّتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ بها بطل نكاحها كَمَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهَا عَنْ دِينِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَجَعَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا إِلَى الدِّينِ الذي تؤمن بِهِ، وَيَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بَطَلَ النكاح، وفي الدين الذي تؤمن بالدخول إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُقِرَّةً عَلَى دِينِهَا لِإِقْرَارِهَا بِصِحَّتِهِ، وَقَدْ صَارَتْ بِانْتِقَالِهَا عَنْهُ مُقِرَّةً بِبُطْلَانِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا إِلَّا دِينُ الْحَقِّ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُؤْخَذُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ، فإن أقر أهلها عليه؛ لأنه الذي تناوله عقد ذمتها، فكان أحصن أَدْيَانِ الْكُفْرِ بِهَا، وَلَيْسَ لِإِقْرَارِهَا بِصِحَّتِهِ تَأْثِيرٌ في صحته فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تُقَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهَا إِلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُؤْخَذُ بِرُجُوعِهَا إِلَى الإسلام، فإن أبت فإلى دينها الذي كانت عَلَيْهِ أَوْ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ دِينِهَا، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي تقر أَهْلُهَا عَلَيْهَا فِي رُجُوعِهَا إِلَى مَا شَاءَتْ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ عِنْدَنَا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدِّينِ الَّذِي أُمِرَتْ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ وَأَقَامَتْ عَلَى دِينِهَا فَنِكَاحُهَا قَدْ بَطَلَ وَلَا مَهْرَ لَهَا إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَمَا الَّذِي يوجب حُكْمَ هَذِهِ الرِّدَّةِ فِيهِ قَوْلَانِ:

(9/231)


أَحَدُهُمَا: الْقَتْلُ كَالْمُسْلِمَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ مَأْمَنَهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ تَصِيرُ حَرْبًا، وَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الدِّينِ الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ فَهِيَ عَلَى حَقْنِ دَمِهَا، وَفِي أَمَانِ ذِمَّتِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الدِّينِ الَّذِي رَجَعَتْ إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ دِينًا يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ كَالْإِسْلَامِ أَوِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ فَالنِّكَاحُ معتبراً بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدْ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الدِّينِ الْمَأْمُورَةِ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَقَدْ بَطَلَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ رَجَعَتْ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَرَّةً عَلَى هَذَا الدِّينِ مَا لَمْ تَنْتَقِلْ عَنْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَى دِينٍ يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ فَتَكُونُ مِمَّنْ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْهَا حُكْمُ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْهَا وُقُوفُ النِّكَاحِ.

فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ
: أَنْ تَرْتَدَّ عَنْ دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عليه، ولا يجوز نكاحهم كأنها ارْتَدَّتْ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إِلَى مَجُوسِيَّةٍ فَفِي إِقْرَارِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقَرُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كله ملة واحدة.
والثاني: لَا تُقَرُّ عَلَيْهِ وَفِيمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ.
وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَتْ فَإِلَى دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فَسَوَاءٌ أُقِرَّتْ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ تُقَرَّ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَ مَنْ لَمْ تَزَلْ مَجُوسِيَّةً لَمْ يَجُزِ اسْتِدَامَةُ نِكَاحِ مَنْ أُقِرَّتْ عَلَى الِانْتِقَالِ إِلَى المجوسية وإذا كانت كَذَلِكَ رُوعِي حَالُهَا، فَإِنِ انْتَقَلَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عدتها إلى دين يحل نكاح أَهْلِهِ صَحَّ وَإِلَّا بَطَلَ.

فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ
: أَنْ تَرْتَدَّ عَنْ دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ إلى دين يجوز نكاح أهله كأنها كَانَتْ يَهُودِيَّةً فَتَنَصَّرَتْ، أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَتَهَوَّدَتْ فَفِي إِقْرَارِهَا عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقَرُّ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النِّكَاحُ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُقَرُّ عَلَيْهِ وَفِيمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ.
وَالثَّانِي: الإسلام فإن أبت فإلى دينها الذي كانت عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَجَعَتْ عَنْهُ إِلَى مَا أُمِرَتْ بِهِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَإِلَّا بَطَلَ والله أعلم.

(9/232)


باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ المْؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) وَفَيِ ذَلِكَ دليلٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَحْرَارَ لِأَنَّ الملك لهم ولا يحل مِنَ الْإِمَاءِ إِلَّا مسلمةٌ وَلَا تَحِلُّ حَتَّى تجتمع شرطان أن لا يجد طول حرةٍ وَيَخَافَ الْعَنَتَ إِنْ لَمْ يَنْكحهَا وَالْعَنَتُ الزِّنَا واحتج بأن جابر بن عبد الله قال من وجد صداق امرأةٍ فلا يتزوج أمة قال طاوس لا يحل نكاح الحر الأمة وهو يجد صداق الحرة وقال عمرو بن دينارٍ لا يحل نكاح الإماء اليوم لأنه يجد طولاً إلى الحرة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الحرائر من المسلمات والكتابيات إذا نكحن الأحرار والعبيد فأما نكاح الأمة فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعَ الْعَبْدِ.
وَالثَّانِي: مَعَ الحر.
فأما العبد في نكاح الإماء فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهُنَّ كَمَا يَنْكِحُ الْحَرَائِرَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ زَائِدٍ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي مَعَ ذِكْرِ مَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ.
وَأَمَّا الْحُرُّ فَحُكْمُهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِهِ فِي نكاح الحرة فلا يجوز أَنْ يَنْكِحَهَا إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِيهِ، وَشَرْطٍ رَابِعٍ يُعْتَبَرُ فِي الْأَمَةِ، فَأَمَّا الشَّرْطُ المعتبر في الأمة الإسلام، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ.
وَأَمَّا الثَّلَاثُ شَرَائِطَ الْمُعْتَبَرَةُ في الحر:
أحدها: أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ لا يجد طولاً لحرة.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخَافَ الْعَنَتَ إِنْ لَمْ يَنْكِحْ أَمَةً، وَالْعَنَتُ الزِّنَا فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ الثلاثة حل له نكاح أمة، وإن أخل شرط مِنْهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُعْتَبَرُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ شَرْطٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ الطَّوْلِ وَخَوْفُ الْعَنَتِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَبَرُ فِيهِ عَدَمُ الطَّوْلِ وَخَوْفُ الْعَنَتِ وَلَا يعتبر فيه ألا تكون تَحْتَهُ حُرَّةٌ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُعْتَبَرُ فِيهِ خَوْفُ الْعَنَتِ وَحْدَهُ.

(9/233)


وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هذه الشرائط، وَيَكُونُ نِكَاحُهَا كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ.
فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الطَّوْلِ وَخَوْفَ الْعَنَتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَيْنَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي نِكَاحِ مَا طاب من الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) يَعْنِي فَنِكَاحُ وَاحِدَةً مِنَ الْحَرَائِرِ أَوْ نِكَاحُ وَاحِدَةً مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَانَ هَذَا نَصًّا فَصَارَ أَوَّلُ الْآيَةِ دَلِيلًا مِنْ طَرِيقِ الْعُمُومِ وَآخِرُهَا دَلِيلًا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٌ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) {البقرة: 221) وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ مِنْ غير شرطٍ فالأمة المؤمنة هي التي خَيْرٌ مِنْهَا أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ نِكَاحُهَا.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَيْسَ تحتَهُ حُرَّةٌ فَجَازَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَالْعَادِمِ لِلطَّوْلِ وَالْخَائِفِ لِلْعَنَتِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ حَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَإِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ كَالْعَبْدِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ لَهُ نكاحها إذا لم يجد طولاً حل نِكَاحُهَا، وَإِنْ وَجَدَ طَوْلًا كَالْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَلِيمٍ مِنْهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ النِّكَاحِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى سَلِيمٍ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى نِكَاحِ الْكَافِرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مُسْلِمَةٍ ولا وُجُودَ نِكَاحِ الْأُخْتِ يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَوُجُودَ مَهْرِهَا لَا يَمْنَعُ؛ كَذَلِكَ وُجُودُ الْحُرَّةِ يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَوُجُودُ مَهْرِهَا لَا يَمْنَعُ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طُوْلاً أَنْ يَنْكَحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنَ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ وَأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) {النساء: 25) فَأَبَاحَ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الطَّوْلِ.
وَالثَّانِي: خَوْفُ الْعَنَتِ.
فَأَمَّا الطَّوْلُ: فَهُوَ الْمَالُ وَالْقُدْرَةُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطُّولِ؛ لِأَنَّهُ يَنَالُ به معالي الأمور كما ينال الطول مَعَالِيَ الْأَشْيَاءِ.
وَأَمَّا الْعَنَتُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الزِّنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْحَدُّ الَّذِي يُصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا.
فَلَمَّا جَعَلَ الْإِبَاحَةَ مُقَيَّدَةً بِهَذَيْنِ الشرطين لم يصح نكاحهما إلا بهما.
فإن قالوا هذا الاحتجاج بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ حُجَّةٍ، فَعَنْهُ جوابان:
أحدهما: أنه دليل خطاب عندنا حجة فجاز أن هي دلائلنا على أصولها.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ شَرْطٌ عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ؛ لأن لفظة " من " موضعه للشرط ويكون

(9/234)


تَقْدِيرُهُ مَنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا وَخَافَ الْعَنَتَ نَكَحَ الْأَمَةَ، وَالْحُكْمُ إِذَا عُلِّقَ بِشَرْطَيْنِ انْتَفَى بِعَدَمِ ذَلِكَ الشَّرْطَيْنِ، وَتَعَذُّرِ أَحَدِهِمَا.
فَإِنْ قَالُوا فَقَوْلُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ ينكح المحصنات المؤمنات} مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ هُوَ الوطء، ويكون تقديره: ومن لم يستطيع منكم طولاً وطء حرة لعدمها تحته حل له نكاح أمة وكذا يقول، فَعَنْ هَذَا ثَلَاثَةٌ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ عندنا حقيقة في العقد دون الوطء. وهكذا كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي كتابه فالمراد به العقد دون الوطء، وكذلك هَاهُنَا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّوْلَ بِالْمَالِ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ فَكَانَ حَمْلُ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الطَّوْلُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ فيه الطول أولى.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْوَطْءِ يُسْقِطُ اشتراط العنت وحمله على العقد لا يسقطه فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ شَرْطَيْهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي يَسْقُطُ أَحَدُ شَرْطَيْهِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: {فَمِن مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 25) عَلَى وطئها بملك اليمين لا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) {النساء: 25) وَلَيْسَ عَدَمُ الطَّوْلِ شَرْطًا فِي وَطْءِ الْأَمَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
والثاني: قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ) {النساء: 25) وَلَيْسَ يُرَاعي فِي وطئه بملك يمينه إذن أحد.
والثالث: وَلَيْسَ خَوْفُ الْعَنَتِ شَرْطًا فِي وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ وَصَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى عَنْهُ الْبَرَاءُ وَطَاوُسٌ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَلَكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَحَرُمَ عَلَيْهِ الْإِمَاءُ.
وأما جابر فروى عنه ابن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ وَجَدَ صَدَاقَ حُرَّةٍ فَلَا يَنْكِحْ أَمَةً " وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِقَوْلِ هَذَيْنِ الصحابين مَعَ انْتِشَارِهِ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ مستغن عن نكاح أمة فلم يجز لها نكاحها قياساً على من تحته حرة؛ وإن ثبت أن تقول منعن عَنِ اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وتقول حرة من الْعَنَت قَادِرٌ عَلَى وَطْءِ حُرَّةٍ قِيَاسًا عَلَى هذا الأصل، أو تقول حراً من الْعَنَت قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَتُعَلِّلُهُ بِمَا شئت من أحد هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ وَالْوَصْفُ الْأَخِيرُ أَشَدُّهَا وَلِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى قِيمَةِ الْمُبدَلِ الْكَامِلِ كَانَ كَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمِ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُبدَلِ النَّاقِصِ كَالِانْتِقَالِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْمَاءِ إلى التراب، وفي الكفارة من الرقية إِلَى الصِّيَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ

(9/235)


جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، بطل نِكَاحُ الْأَمَةِ فَكَذَلِكَ إِذَا أَفْرَدَهَا بِالْعَقْدِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحُرَّةِ.
وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ بَطَلَ نكاح إحداهما ووجب إذا أفردت بالعقد أن تبطل نكاحها كَالْأُخْتِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَالْمُعْتَدَّةِ مَعَ الْخَلِيَّةِ، وَلِأَنَّ مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ هُوَ مَمْنُوعٌ عنْ نِكَاحِ أمة، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ مَنْعِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إما أن يكون؛ لأن تحته امرأة حُرَّة وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَمِنَ الْعَنَتَ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ تَحْتَهُ حُرَّةً، لِأَنَّهُ لَوْ عَقَدَ عَلَى حُرَّةٍ وَأَمَةٍ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَبَطَلَ أَنْ يكون المنع، لأنه جامع بن حرة وأمة؛ لأنه لَوْ نَكَحَ أَمَةً جَازَ أَنْ يَنْكِحَ بَعْدَهَا حُرَّةً فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ، وَإِذَا بطل هذان القسمان صار عليه المنع هو القسمان الْآخَرَانِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، وَأَنَّهُ أَمِنَ مِنَ الْعَنَتِ فَصَارَ وُجُودُ هَذَيْنِ عِلَّةً فِي التَّحْرِيمِ وَعَدَمُهَا عِلَّةً فِي التَّحْلِيلِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: 3) فهو أن اسْتِدْلَالَهُمْ فِيهَا بِالْعُمُومِ مَتْرُوكٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النص في التخصيص واستدلالهم منها بالنص باطل؛ لأنه تعالى قَالَ: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) فكان هذا تَخْيِيرًا بَيْنَ الْعَقْدِ عَلَى حُرَّةٍ وَبَيْنَ وَطْءِ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُنْ تَخْيِيرًا بَيْنَ العقد على حرة والعقد على أمة؛ لأن الله تعالى لم يشرط في ملك اليمين عدداً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مَا شَرَطَ فِيهِ الْعَدَدَ مِنَ التَّسَرِّي بِهِنَّ دُونَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَة) {البقرة: 221) فَالْمُرَادُ بِالْمُشْرِكَةِ هَاهُنَا الْوَثَنِيَّةُ دُونَ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَصَلَ بينهما؛ وإن جاز أن يعمهما اسم الشرك فَقَالَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ البَيِّنَةِ) {البينة: 1) وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّم) {البينة: 6) وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْوَثَنِيَّةُ فَنِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَحِلُّ إِذَا وُجِدَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ وَالْوَثَنِيَّةُ لَا تَحِلُّ بِحَالٍ.
وأما قياسهم على العادم للطول والخائف للعنت بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَمُنْتَقَضٌ بِمَنْ تحته أربع: إما لَا يَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْعَادِمَ لِلطَّوْلِ عَاجِزٌ عَنِ الحرة، والواجد قادر فلا يجوز أن يقاس الْقَادِرُ عَلَى الْبَذْلِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ كَالْوَاجِدِ لِثَمَنِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْعَادِمِ لِثَمَنِهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى العبد فالمعنى فيه: أنه لَا عَارَ عَلَى الْعَبْدِ فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ فَجَازَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ خَوْفُ الْعَنَتِ، وَعَلَى الْحُرِّ عَارٌ فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ فَاعْتُبِرَتْ ضَرُورَتُهُ لِخَوْفِ الْعَنَتِ.

(9/236)


وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ فَالْمَعْنَى فِي الْحُرَّةِ. أَنَّهُ لَمَّا جَازَ نِكَاحُهَا عَلَى حُرَّةٍ جاز نكاحها على وُجُودِ الطَّوْلِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَمَةِ على الحرة لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ وَالْكَافِرَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى مَهْرِ الْأُخْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا، فَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى مَهْرِ الْحُرَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الْأُخْتَيْنِ هو الجمع بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَهْرِ كَمَا لَا يَمْنَعِ الْقُدْرَةُ عَلَى مُهُورٍ أَرْبَعٍ مِنَ الْعَقْدِ عَلَى خامسةٍ وَيُمْنَعُ وُجُودُ الْأَرْبَعِ تَحْتَهُ أَنْ يَعْقِدَ على خامسة، وليس كذلك الأمة؛ لأنهاحرمت للقدرة على حرة، ولأنه يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حُرَّةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَكَحَ حُرَّةً بَعْدَ أَمَةٍ جَازَ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، وَإِذَا كَانَ تحرمها لِلْقُدْرَةِ عَلَى حُرَّةٍ كَانَ بِوُجُودِ مَهْرِ الْحُرَّةِ قَادِرًا عَلَى حُرَّةٍ فَافْتَرَقَا.

فَصْلٌ
وَأَمَّا مَالِكٌ فاستدل على أنه يجوز أن ينكح الأمة، وإن كانت تَحْتَهُ حُرَّةٌ بِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ تُقْنِعْهُ الْحُرَّةُ لِشِدَّةِ شَهْوَتِهِ وَقُوَّةِ شَبَقِهِ، فَخَافَ الْعَنَتَ مَعَ وجودها، لا سيما وَقَدْ يَمْضِي لِلْحُرَّةِ زَمَانُ حَيْضٍ يَمْنَعُ فِيهِ من إصابتها فدعته الضرورة مع وجوده بحرة تَحْتَهُ إِذَا عَدَمَ طَوْلَ حُرَّةٍ أُخْرَى أَنْ ينكح أمة، وليأمن بها العنت كما يأمن إذا لم يكن تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فِمِنَ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 25) فَلَمَّا كَانَ طَوْلُ الْحُرَّةِ يَمْنَعُهُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ كَانَ وُجُودُ الْحُرَّةِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الشَّيْءِ أَقْوَى حُكْمًا مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى بَدَلِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ " حَكَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمَكِّيُّ عَنِ الرَّازِّيِّ؛ وَلِأَنَّ مَنْ مَنَعَهُ عوض الْمُبَدَلِ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ كَانَ وُجُودُ الْمُبَدَلِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ كَالْمُكَفِّرِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ فَفَاسِدٌ بِمَنْ لَمْ تقنعه أربع زوجات بقوة شَبَقِهِ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا اجْتَمَعَ حَيْضُهُنَّ مَعًا؛ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ تُقْنِعُ ذَا الشَّبَقِ الشديد بأن يستمتع في أيام حيضتها بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ، فَكَذَلِكَ نِكَاحُهُ لِلْمُدَبَّرَةِ، وَالْمُكَاتِبَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَمِنْ رَقَّ بَعْضُهَا، وَإِنْ قَلَّ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِوُجُودِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَى جَمِيعِهِنَّ جَارِيَةٌ فَجَرَتْ أَحْكَامُ الرِّقِّ عَلَى أَوْلَادِهِنَّ، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي نِكَاحِ كُلِّ مَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ حَكَمُ الرِّقِّ مِنْ أَمَةٍ، وَمُدَبَّرَةٍ، وَمُكَاتِبَةٍ، وَأُمِّ وَلَدٍ وَجَبَ أن يوضع حُكْمُ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا.

(9/237)


أما الشرط الأول: هو أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَوُجُودُ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا، لِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ فَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهَا أن ينكح أمة.
والقسم الثاني: أن يمكنه استمتاع بِهَا لِكِبَرِهَا لَكِنْ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهَا مَا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ إِصَابَتِهَا كَالْإِحْرَامِ وَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، والظهار، والعدة مع إصابة غيره لها لشبهة فَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ كَوْنِهَا تَحْتَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْرُونٌ بِسَبَبٍ يَزُولُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ فَصَارَ كَتَحْرِيمِهَا فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يمكنه الِاسْتِمْتَاع بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَلَالًا لَهُ، وَذَلِكَ لأحد أمرين:
إما لصغر، وإما لرتق وإما لضر من مرض ففي جواز نكاحه للأمة قولان مع وجود هذه الحرة فيه ووجهان:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ تَحْتَهُ حُرَّةً.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْعَنَتَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ كَانَ يَمْلِكُ أَمَةً، وَلَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَفِي جَوَازِ نِكَاحِهِ لِلْأَمَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْكِحُهَا تَعْلِيلًا بِأَنْ لَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا ينكحها تعليلاً؛ لأنه لَا يَخَافُ الْعَنَتَ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِصَدَاقِ حُرَّةٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتَبَرَ أَقَلُّ صَدَاقٍ يَكُونُ لأقل حرة يؤخذ في مسلمة أو كتابية، فعلى هذا يتعذر أن يستبيح الحر نكاح الأمة، لِأَنَّ أَقَلَّ الصَّدَاقِ عِنْدَنَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَانِقًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ رَغِيفًا مِنْ خبز وقل مَا يَعُوزُ هَذَا أَحَدٌ فَإِذَا وَجَدَهُ وَوَجَدَ منكوحة به حرم عليه نكاح الأمة، وإن لم يجد أَوْ وَجَدَهُ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْكُوحَةً بِهِ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّنَا نَعْتَبِرُ أَقَلَّ صَدَاقِ الْمِثْلِ لِأَيِّ حُرَّةٍ كَانَتْ مِنْ مُسْلِمَةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ وَلَا يُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ صَدَاقًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ حُرَّةً بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا وَهُوَ وَاجِدٌ لِذَلِكَ الْقَدْرِ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ وَجَدَ صَدَاقَ الْمِثْلِ لِحُرَّةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّنَا نَعْتَبِرُ أَقَلَّ صَدَاقِ الْمِثْلِ لِحُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ، فَعَلَى هَذَا إن وَجَدَ صَدَاق الْمِثْلِ لِكِتَابِيَّةٍ وَلَمْ يَجِدْ صَدَاقُ الْمِثْلِ لِمُسْلِمَةٍ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِقَوْلِ الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) فَشَرَطَ إِيمَانَ الْحَرَائِرِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ كِتَابِيَّةٌ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ وَجَدَ حُرَّةً

(9/238)


يَتَزَوَّجُهَا بِأَقَلِّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ وَهُوَ وَاجِدُهُ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ وَجَدَ ثَمَنَ أَمَةٍ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ صَدَاقِ حُرَّةٍ فَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ لِلْأَمَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمَِنْ مَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 25) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أن يخاف العنت، وهو الزنا فسواء خَافَهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ عَفَافِهِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ لِتَحَرُّجِهِ وَعَفَافِهِ فِي أَنَّ خَوْفَ الْعَنَتِ فِيهِمَا شَرْطٌ في إباحة نكاح الأمة لهما، فَأَمَّا إِذَا خَافَ الْعَنَتَ مِنْ أَمَةٍ بِعَيْنِهَا أَنْ يَزْنِيَ بِهَا إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا لِقُوَّةِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا وَحُبِّهِ لَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ لِأَنَّنَا نُرَاعِي عُمُومَ الْعَنَتِ لَا خُصُوصَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْضَحْنَاهُ مِنَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ لَهُ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: يَجُوزُ أن ينكح منهن أربعاً كالحرائر اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) فَأَطْلَقَ مِلْكَ الْيَمِينِ إِطْلَاقَ جَمْعٍ فَحُمِلَ عَلَى عُمُومِهِ فِي اسْتِكْمَالِ أَرْبَعٍ كَالْحَرَائِرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ حَلَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ حَلَّ نِكَاحُ الأربع منه كَالْحَرَائِرِ طَرْدًا وَالْوَثَنِيَّاتِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جاز أن لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرِ مِنْ حُرَّةٍ وَاحِدَةٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرِ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْعَبْدِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلَكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ) {النساء: 25) وَهَذَا إِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَمِنَ الْعَنَتَ فَلَمْ يجز أن يتزوج بأمة قياساً على ما تحته من الحرائر أخرى، ولك تحري هَذَا قِيَاسًا فَتَقُولُ: إِنَّهُ حُرٌّ أَمِنَ الْعَنَتَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ قِيَاسًا عَلَى من تحته حرة، وإن شئت قلت حر قَادِرٌ عَلَى وَطْءٍ بِنِكَاحٍ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الأصل، ولأنه مَحْظُورٌ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَمْ يَسْتَبِحْ مِنْهُ إِلَّا مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَلَا يَقْتَضِي إِلَّا أَمَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَرَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ وَاحِدَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِنَّ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً، وَعَلَى أَنَّ الْأَمَةَ بَدَلٌ مِنَ الْحُرَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ أَوْسَعَ حُكْمًا من المبدل.

(9/239)


وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرَائِرِ فَالْمَعْنَى فِيهِنَّ: جَوَازُ العقد عليهن بغير ضَرُورَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَرِقُّ وَلَدُهُ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ بِاسْتِرْقَاقِهِ ضَرَرٌ فَخَالَفَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعَبْدِ فَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ لِغَيْرِ ضرورة وليس عليه اسْتِرْقَاق وَلَدِهِ ضَرَرٌ، فَخَالَفَ الْحُرَّ مِنْ هَذَيْنِ الوجهين، فعلى هذا لو تزوج أَمَتَيْنِ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بطَلَ نِكَاحُهُمَا، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا إِنْ حَلَّتْ فَهِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فصار كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، إِنْ تزوجها في عقدين، وبطل نكاحهما إن تزوجها في عقد واحد.

فصل
وإذا قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الْأَحْرَارِ لِلْإِمَاءِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نِكَاحِ الْعَبِيدِ لَهُنَّ فَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الْإِمَاءَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَنْكِحُهَا، وَإِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ أَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ كَالْحُرِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ كَالْحُرِّ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطَعْ مِنُكُمْ طَوْلاً} فخص الأحرار بتوجيه الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: {ذَلَكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ} فَخَصَّهُمْ بِهِ أَيْضًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا مَخْصُوصِينَ بِهَذَا الْمَنْعِ وَيَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى إِطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ عَلَيْهَا امْرَأَةً مِنْ جِنْسِهِ كَالْحُرِّ، إِذَا نَكَحَ أَمَةً يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ عليها حرة.
فأما قياسه على الحر فمنع مِنْهُ النَّصُّ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحُرِّ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَارٌ لَا يَلْحَقُ الْعَبْدَ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ، وَأَنْ يَجْمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ، وَأَنْ يَجْمَعْ بَيْنَ أَمَتَيْنِ كَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ حُرَّتَيْنِ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ عَقَدَ نِكَاحَ حرةٍ وأمةٍ مَعًا قِيلَ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَقِيلَ يَنْفَسِخَانِ مَعًا، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ نِكَاحُ الْحُرَّةِ جائزٌ وكذلك لو تزوج معها أخته من الرضاع كأنها لم تكن (قال المزني) رحمه الله هَذَا أَقْيَسُ وَأَصَحُّ فِي أَصْلِ قَوْلِهِ لِأَنَّ النكاح يقوم بنفسه ولا يفْسدُ بِغَيْرِهِ فَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ تَزَوَّجَهَا وقسطاً مَعَهَا مَنْ خمرٍ بدينارٍ فَالنِّكَاحُ وَحْدَهُ ثابتٌ والقسط الْخَمْر وَالْمَهْر فَاسِدَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ المسألة فيمن يحل له نكاح الأمة يزوج بِحُرَّةٍ وَأَمَةٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ ثُمَّ يَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا حُرَّةً فنكاحهما صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ نَكَحَ الْأَمَةَ عَلَى الشَّرْطِ الْمُبِيحِ، ونكح الْحُرَّةِ بَعْدَ الْأَمَةِ صَحِيحٌ.

(9/240)


وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَيَبْطُلُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ وتنكح الحرة على الأمة " وهذا نص؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نِكَاحٍ فَلَمْ يَبْطُلْ مَا تَقَدَّمَهُ من النكاح كما لو نكح حرة عَلَى حُرَّةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْحُرَّةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ بَعْدَهَا بِالْأَمَةِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ صَحِيحٌ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ بَعْدَهَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَتَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ بَعْدَ الْحُرَّةِ ثَانِيًا إِذَا كَانَ عَادِمًا لِلطَّوْلِ، خَائِفًا لَلَعَنَتِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَزَوَّجَهُمَا مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَنِكَاحُ الْأَمَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قد صار بعقده عليهما مع الحرة قَادِرًا عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، وَهَلْ يُبْطِلُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ أَمْ لَا؟ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْبَيْعِ إِذَا جَمَعَ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ حَلَالًا وَحَرَامًا كَبَيْعِ خَلٍّ وَخَمْرٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، أو بيع حر وعبد في عقد واحد فيبطل البيع فِي الْحَرَامِ وَفِي بُطْلَانِهِ فِي الْحَلَالِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ فِي الْحَلَالِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْجَمْعِ بينهما حكم في انفرادها، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ بَاطِلًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ فِي الْحَلَالِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْحَرَامِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا، فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا انْتَقَضَتْ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ كَمَا بَطَلَ نِكَاحُ الأمة؛ لأن لفظ العقد عليهما واحد.
والوجه الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا الْجَهَالَةُ بِثَمَنِ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ مَا قَابَلَ الْحَرَامَ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولٌ فَصَارَ ثَمَنُ الْحَلَالِ بِهِ مَجْهُولًا، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ بِهِ مِنَ الْعَقْدِ مَا كَانَ مَوْقُوفَ الصِّحَّةِ عَلَى الْأَعْوَاضِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الَّذِي لَا يَصحُّ إِلَّا بِذِكْرِ مَا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ ثَمَنٍ أَوْ أُجْرَةٍ، فَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى الْعِوَضِ كَالنِّكَاحِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ فَيَصِحُّ الْحَلَالُ مِنْهَا وَإِنْ بَطَلَ الْحَرَامُ الْمُقْتَرِنُ بِهَا فَيَكُونُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ صَحِيحًا، وَإِنْ بَطَلَ نكاح الأمة، وفيما تستحقه مِنَ الْمَهْرِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِبْطَالُ الْمُسَمَّى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قِسْطُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَكَحَ أَرْبَعًا فِي عَقْدٍ عَلَى صَدَاقٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ تصيح نِكَاحِ الْحُرَّةِ مَعَ فَسَادِ نِكَاحِ الْأَمَةِ إِلَّا أنه استدل لِصِحَّتِهِ بِمِثَالٍ صَحِيحٍ، وَحِجَاجٍ فَاسِدٍ.
أَمَّا الْمِثَالُ الصَّحِيحُ فَهُوَ قَوْلُهُ: " وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مَعَهَا أُخْتَهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ "؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَ فِي العقد الواحد بين أختها وأجنبية كان لجمعه بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَيَبْطُلُ نكاح أخته وفي نِكَاحِ الْأَجْنَبِيَّةِ قَوْلَانِ.

(9/241)


وَأَمَّا الْحِجَاجُ الْفَاسِدُ فَهُوَ قَوْلُهُ: " فَهِيَ فِي معنى من تزوجها وقسطاً مَعَهَا مَنْ خَمْرٍ بِدِينَارٍ فَالنِّكَاحُ وَحْدَهُ ثَابِتٌ والقسط من الخمر فَاسِدٌ " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِ فَسَادِ هَذَا الِاعْتِلَالِ وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّ وجه فَسَادِهِ أَنَّهُ إِذَا زَوَّجَهُ وَزِقًّا مِنْ خَمْرٍ بدينار فهما عقدان بيع ونكاح، كأن يَقُولُ: بِعْتُكَ هَذَا الْخَمْرَ وَزَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِدِينَارٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْعَقْدَيْنِ فِي صِحَّةِ أَحَدِهِمَا وَفَسَادِ الْآخَرِ عَلَى الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فِي أَنَّ فَسَادَ بَعْضِهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ باقيه؛ لأن العقد الواحد حكم واحد، وللعقدين حكمان.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ وَجْهَ فَسَادِهِ أَنَّهُ فِي النِّكَاحِ وَالْخَمْرِ بِدِينَارٍ قَدْ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا، وَالشَّافِعِيُّ قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي العقد الواحد إذا جمع شيئين مختلفي الحكم كبيع وإجارة، أو رهن وهبة فله قولان:
أحدهما: أنهما باطلان بجمع الْعَقْد الْوَاحِد بَيْنَ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا جَائِزَانِ لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِمَا عَلَى صِحَّةِ مَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ في أحدهما والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ أَيْسَرَ لَمْ يُفْسِدْهُ مَا بَعْدَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً عَلَى الشَّرَائِطِ الْمُبِيحَةِ ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الشَّرَائِطُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَن أَمِنَ الْعَنَتَ بَعْدَ خَوْفِهِ أَوْ وَجَدَ الطَّوْلَ بَعْدَ عَدَمِهِ أَوْ نَكَحَ حُرَّةً بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ فَنِكَاحُ الأمة على صحة ثبوته.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ وَجَدَ الطَّوْلَ أَوْ نَكَحَ حُرَّةً بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 25) فَجَعَلَ عَدَمَ الطَّوْلِ شَرْطًا فِي إِبَاحَةِ الْأَمَةِ ابْتِدَاءً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي إِبَاحَتِهَا انْتِهَاءً، قَالَ: وَلِأَنَّ زَوَالَ عِلَّةِ الْحُكْمِ مُوجِبٌ لِزَوَالِهِ، وَالْعِلَّةُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَدَمُ الطَّوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) {النور: 32) الْآيَةَ فَنَدَبَ إِلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى الغنى بعد الفقر، فلم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْغِنَى الْمَوْعُودُ بِهِ فِي النِّكَاحِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، وَلَا عَدَمُ الطَّوْلِ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ كَمَا أَنَّ خَوْف العنت شرطاً فِي نِكَاحِهَا فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا إِذَا زَالَ الْعَنَتُ لَمْ يَبْطُلْ إِذَا وَجَدَ الطَّوْلَ، وَلِأَنَّ الطَّوْلَ بِالْمَالِ غَيْرُ مُرَادٍ لِلْبَقَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلْإِنْفَاقِ لَا لِلْبَقَاءِ وَمَا لَمْ يراد لِلْبَقَاءِ إِذَا كَانَ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي اسْتَدَامَتِهِ كَالْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ بالعقد لم يبطل ولما كانت الردة والرضاع يردان للاستدامة لأن الردة دين يعتقد المرتد لِلدَّوَامِ وَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ كَذَلِكَ الْمَالُ لَمَّا لَمْ يُرَدْ لِلِاسْتِدَامَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ كالإحرام والعدة.

(9/242)


فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ بِالْآيَةِ فَيَقْتَضِي كَوْنَ مَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الشَّرْطِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دُونَ اسْتَدَامَتِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ زَوَالَ الْعِلَّةِ مُوجِبٌ لِزَوَالِ حُكْمِهَا فَاسِدٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ.

مسألة
قال الشافعي: " وحاجتي من لا يفسخ نكاح إماءٍ غير المسلمات فقال لما أحل الله بينهما ولا نفقة لها لأنها مانعةٌ له نفسها بالردة وإن ارتدت من نصرانية إلى يهودية أو من يهودية إلى نصرانية لم تحرم [ ... ] تعالى نكاح الحرة المسلمة دل على نكاح الأمة قلت قد حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَيْتَةَ وَاسْتَثْنَى إِحْلَالَهَا لِلْمُضْطَرِّ فهل تحل لغير مضطر واستثنى من تحريم المشركات إحلال حرائر أهل الكتاب فهل يجوز حرائر غير أهل الكتاب فلا تحل إماؤهم وإماؤهم غير حرائرهم واشترط في إماء المسلمين فلا يجوز له إلا بالشرط وقلت له لم لا أحللت الأم كالربيبة وحرمتها بالدخول كالربيبة؟ (قال) لأن الأم مبهمةٌ والشرط في الربيبة (قلت) فهكذا قلنا في التحريم في المشركات والشرط في التحليل في الحرائر وإماء المؤمنات ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ جِهَتِهَا، وَهُوَ إِسْلَامُهَا فلا يجوز للمسلم نكاح أمة كافرة بمال.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْكَافِرَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) فَكَانَتْ على عمومها؛ ولأن كل من جاز له وطئها بملك اليمين جاز له وطئها بملك نكاح كالمسلمة، ولأن في الأمة الكافرة نقصان: نقص الرق، ونقص الكفر، وَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْصَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا انْفَرَدَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا تَأْثِيرٌ فِيهِ إِذَا اجْتَمَعَا.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) فَجُعِلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَشْرُوطًا بِالْإِيمَانِ فَلَمْ يُسْتَبَحْ مَعَ عدمه قال تعالى: {اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتِ} إلى قوله: {وَالمُحْصِنَاتِ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصِنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكَتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) {المائدة: 5) والمحصنات هَاهُنَا الْحَرَائِرُ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَحِلَّ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ اجْتَمَعَ فِيهَا نَقْصَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ النِّكَاحِ، فوجب أن يكون اجتماعهما موجب لتحريمهما على المسلم كالحرة المجوسية أحد نقصيها الْكُفْرُ وَالْآخَرُ عَدَمُ الْكِتَابِ، وَالْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ أَحَدُ نقصيها الرق والآخر الكفر؛ ولأن نكاح المسلم للأمة الْكَافِرَة يُفْضِي إِلَى أَمْرَيْنِ يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

(9/243)


أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: أَنْ يَصِيرَ وَلَدُهَا الْمُسْلِمُ مَرْقُوقًا لكافر والشرع يمنع من استرقاق كافر لمسلم.
وَالثَّانِي: أَنْ يسْبي الْمُسْلِم؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا الْمُسْلِمَ ملك لكافر، وأموال الكفار يَجِبُ أَنْ تُسْبَى وَالشَّرْعُ يَمْنَعُ مِنْ سَبْيِ الْمُسْلِمِ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْعُ مَانِعًا مِمَّا يُفْضِي إِلَيْهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بقوله تعالى: {فَمَا مَلَكَتْ أيْمَانكُمُ} فَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ اسْتِبَاحَةُ المسلمة وَالْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِلْكُ مُسْلِمٍ فلم يفضي إِلَى سَبْيِ وَلَدِهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَ نِكَاحِهَا وَنِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْصَيْنِ لَا يَمْنَعُ فَكَذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمَا، قلنا: لكل واحدة منهما تأثير في المنع، فصار اجتماعهما مؤثر فِي التَّحْرِيمِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي نِكَاحِ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ فنَكَحَهَا وَأَوْلَدَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ عجمياً كان ولده منها مرقوقاً لِسَيِّدِهَا وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يكون مرقوقاً لسيدها.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ حُرًّا وَعَلَى الْأَبِ قِيمَتُهُ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ " وَالِاسْتِرْقَاقُ مِنْ أَعْظَمِ الصَّغَارِ، فَوَجَبَ أَنْ ينتفي عَنِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مفضٍ إِلَى اسْتِرْقَاقِ مَنْ نَاسَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَقْرَبِ آبَائِهِ مَعَ وَصِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَوِي الْقُرْبَى، فَلَوْ نَكَحَ الْحُرُّ مُكَاتِبَةً كَانَ في وجه إِنْ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا.
وَالثَّانِي: تَبَعٌ لَهَا، وإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا، ففيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: حر يُعْتَقُ عَلَى أَبِيهِ بِقِيمَتِهِ.
وَالثَّانِي: تَبَعٌ لِأُمِّهِ، يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا، وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِلْكٌ لسيدها والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وَالَعَبْدُ كَالْحُرِّ فِي أَنْ لَا يَحَلَّ لَهُ نِكَاحُ أمةٍ كتابيةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا الْحُرُّ الْمُسْلِمُ وَجَوَّزَهُ أبو حنيفة، كَمَا جَوَّزَهُ لِلْحُرِّ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ بَيْنَ الْحُرِّ والعبد، فجوز للعبد أن ينكح الأمة الكتابيةن وَلَمْ يُجَوِّزْهُ لِلْحُرِّ، لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ سَاوَاهَا فِي نَقْصِ الرِّقِّ وَاخْتُصَّتْ مَعَهُ بِنَقْصِ الْكُفْرِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدُ النَّقْصَيْنِ كَمَا لَمْ يَمْنَعِ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ أَنْ يَنْكِحَ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ لِاخْتِصَاصِهَا مَعَهُ بِأَحَدِ النَّقْصَيْنِ، وَخَالَفَ نِكَاحَ الْحُرِّ

(9/244)


الْمُسْلِمِ لِلْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لِاخْتِصَاصِهَا مَعَهُ بِنَقْصَيْنِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّقْصَيْنِ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ نِكَاحِهَا كَالْوَثَنِيَّةِ الْحُرَّةِ لَا يَنْكِحُهَا حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ لِاجْتِمَاعِ النَّقْصَيْنِ، فَاسْتَوَى فِي تَحْرِيمِهَا بهما من ساواهما في أحدهما أو خالفها فِيهِمَا، فَإِذَا أَرَادَ كِتَابِيٌّ أَنْ يَنْكِحَ هَذِهِ الأمة الكتابية، ودعى حاكمها إلى إنكاحها ففي جوازه وجهان:
أحدهما: يجوز أن يزوجه بها؛ لأنه قَدْ صَارَتْ بِاجْتِمَاعِ النَّقْصَيْنِ مُحَرَّمَةً عِنْدَنَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّقْصِ كَمَا يَجُوزُ أن يزوج وثنياً بوثنية.

مسألة
قال الشافعي: " وَأَيُّ صنفٍ حَلَّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ حَلَّ وَطْءُ إمائهم بالملك وما حرمَ نِكَاح حَرَائِرِهِمْ حرمَ وَطْء إِمَائِهِمْ بِالْمِلْكِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ كَمَا تَصِيرُ الْحُرَّةُ فِرَاشًا بالعقد، فأي صنف حل نكاح حرائرهم فهم الْمُسْلِمُونَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَلَّ وَطْءُ إِمَائِهِمْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَهُنَّ الْإِمَاءُ الْمُسْلِمَاتُ، واليهوديات، والنصرانيات، وقد اسْتَمْتَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَمَتَيْنِ بِمِلْكِ يَمِينِهِ: إِحْدَاهُمَا مُسْلِمَةٌ، وَهِيَ مَارِيَةُ، وَأَوْلَدَهَا ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ وَالْأُخْرَى يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ رَيْحَانَةُ ثُمَّ بُشِّرَ بِإِسْلَامِهَا فَسُّرَ بِهِ، وَأَعْتَقَ أَمَتَيْنِ وَتَزَوَّجَهُمَا وَجَعَلَ عِتْقَهُمَا صَدَاقَهُمَا:
إِحْدَاهُمَا: جُوَيْرِيَّةُ.
وَالْأُخْرَى: صَفِيَّةُ.
فَأَمَّا مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ مِنَ الْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَلَا يَحِلُّ وَطْءُ إمائهم بملك اليمين.
وقال أبو ثور: كل وطء جمع الْإِمَاءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى أَيِّ كُفْرٍ كَانَتْ مِنْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ وَثَنِيَّةٍ أَوْ دَهْرِيَّةٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ وَهُنَّ وَثَنِيَّاتٌ " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرَ ذات حمل حتى تحيض " فأباح وطئهن بِالْمِلْكِ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهِنَّ؛ وِلِأَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أوسع حكماً منه بعقد النكاح؛ لأنه لا يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْإِمَاءِ بِمَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ عددٍ محصورٍ وَلَا يَحِلُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ أَكْثَرُ من أربع فجاز لا تساع حكم الإماء أن يستمتع منهن بمن لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَهَا مِنَ الْوَثَنِيَّاتِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) {البقرة: 221) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مُحَرَّمَاتٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَذَوَاتِ الْأَنْسَابِ؛ وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ بِهِ وَطْءُ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ حُرِّمَ بِهِ وَطْءُ الْوَثَنِيَّاتِ كَالنِّكَاحِ.
فَأَمَّا سَبْيُ هوازن، فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُنَّ قَدْ أَسْلَمْنَ؛ لِأَنَّ فِي النِّسَاءِ رِقَّةً لَا يَثْبُتْنَ مَعَهَا بَعْدَ السَّبْيِ عَلَى

(9/245)


دِينٍ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِاتِّسَاعِ حُكْمِهِنَّ فِي الْعَدَدِ فليس لعدد تَأْثِيرٌ فِي أَوْصَافِ التَّحْرِيمِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا أكره نكاح نِسَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ إِلَّا لِئَلَّا يُفْتَنَ عَنُ دِيْنِهِ أَوْ يُسْتَرَقَّ وَلَدُهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كما قال: لا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ الْحَرْبِيَّةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ وَأَبْطَلَ الْعِرَاقِيُّونَ نِكَاحَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِنَاءً عَلَى أُصُولِهِمْ فِي أَنَّ عُقُودَ دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ وَهِيَ عِنْدَنَا صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَفَسَادَهُ مُعْتَبَرٌ بِالْعَاقِدِ والمعقود عليه دون الولد؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالمُحْصَنَاتِ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (المائدة:) وَلَمْ يُفَرِّقْ؛ ولأن الحرية في إباحتهن الكتاب دون الدار، ولأنه لما جاز وطئهن بالسبي، فأولى أن يجوز وطئهن بِالنِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ حَلَّ نِكَاحُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَلَّ نِكَاحُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْلِمَةِ، فَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ الْحَرْبِيَّةِ فَهُوَ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: لِئَلَّا يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ بِهَا، أَوْ بِقَوْمِهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَصْبُو إِلَى زَوْجَتِهِ بِشِدَّةِ مَيْلِهِ.
وَالثَّانِي: لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ بِنُزُولِهِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ".
وَالثَّالِثُ: لِئَلَّا يُسْتَرَقَّ وَلَدُهُ وَتُسْبَى زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّ دَارَ الحرب ثغر وَتُغْنَمُ، فَإِنْ سُبِيَ وَلَدُهُ لَمْ يُسْتَرَقَّ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ وَإِنْ سُبِيَتْ زَوْجَتُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا، لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ عقد النكاح هو حق له عليها بالدين وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ لَمْ يُمْنَعْ مِنِ اسْتِرْقَاقِهَا كَذَلِكَ النِّكَاحُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ملك بعضها بالنكاح فلم يجز أن يستهلك عَلَيْهِ بِالِاسْتِرْقَاقِ كَمَا لَوْ مَلَكَ مَنَافِعَهَا بِالْإِجَارَةِ ورقبتها بالشراء.

(9/246)


باب التعريض بالخطبة من الجامع من كتاب التعريض بالخطبة، وغير ذلك
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي الْعِدَّةِ جائزٌ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ التعويض وقد ذكر القسم بَعْضَهُ وَالتَّعْرِيضُ كثيرُ وَهُوَ خِلَافُ التَّصْرِيحِ وَهُوَ تعريض الرجل للمرأة بما يدلها به على إرادة خطبتها بغير تصريح وتجيبه بمثل ذلك والقرآن كالدليل إذا أباح التعريض والتعريض عند أهل العلم جائزٌ سراً وعلانيةً على أن السر الذي نهي عنه هو الجماع قال امرؤ القيس.
(ألا زعمت بسباسة القوم أَنَّنِي ... كَبُرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي)

(كذبت لقد أصبي عن الْمَرْءِ عِرْسَهُ ... وَأَمْنَعُ عِرْسِي أَنْ يُزَنِّ بِهَا الخالي)

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النِّسَاءَ ثَلَاثٌ: خَلِيَّةٌ، وَذَاتُ زَوْجٍ، وَمُعْتَدَّةٌ.
فَأَمَّا الْخَلِيَّةُ الَّتِي لَا زوج لها وهي فِي عِدَّةٍ فَيَجُوزُ خِطْبَتُهَا بِالتَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ وَأَمَّا ذَاتُ الزَّوْجِ فَلَا يحِلُّ خِطْبَتَهَا بِتَعْرِيضٍ وَلَا تَصْرِيحٍ، وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ رَجْعِيَّةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَائِنًا لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بَائِنًا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ.
فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الزوج أن يخطبها تصريحاً ولا تعريضاً؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهَا جَارِيَةٌ مِنْ وُجُوبِ النفقة ووقوع الطلاق، والظهار منها، وإنما يتوارثان إن مات أحدهما، ويعتد عِدَّةَ الْوَفَاةِ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ، وَمَتَى أَرَادَ الزوج رجعتها في العدة كانت زوجته.

فَصْلٌ
وَأَمَّا الْبَائِنُ لا تحل للزوج فالمطلقة ثلاثاً، أو المتوفى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَى الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ، فَإِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ وَفَاةِ زَوْجٍ فَحَرَامٌ أَنْ يُصَرِّحَ أَحَدٌ بِخِطْبَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابَ أَجَلَهُ} (البقرة: 235) يُرِيدُ بِالْعَزْمِ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ التَّصْرِيحَ بِالْخِطْبَةِ وبقوله: {حتى يبلغ الكتاب أجله} يُرِيدُ بِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ فِي الْمَرْأَةِ مِنْ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْأَزْوَاجِ مَا ربما يبعثها

(9/247)


عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ أَوَانِهَا، وِقَوْلُهَا فِي انْقِضَائِهَا مَقْبُولٌ فَتَصِيرُ مَنْكُوحَةً فِي الْعِدَّةِ فَحَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّصْرِيحَ بِخِطْبَتِهَا حَسْمًا لِهَذَا التَّوَهُّمِ فَأَمَّا التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا فِي الْعِدَّةِ بِمَا يُخَالِفُ التَّصْرِيحَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُحْتَمَلِ فَجَائِزٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أكْنَنْتُمْ فِي أنْفُسِكُمْ) {البقرة: 235) يَعْنِي بِمَا عَرَّضْتُمْ مِنْ جَمِيلِ الْقَوْلِ، أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاءها بعد موت أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ تَبْكِي، وَقَدْ وَضَعَتْ خَدَّهَا عَلَى التُّرَابِ حُزْنًا عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُولِي إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ اغفر له واعقبني منه وَعَوِّضْنِي خَيْرًا مِنْهُ " قَالَتْ أَمُّ سَلَمَةَ: فَقُلْتُ في نفسي من خير مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلِ الْمُهَاجِرِينَ هِجْرَةً، وَابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَابْنِ عَمِّي، فَلَمَّا تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِمْتُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ عَلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الوفاة، وأما المعتدة من الطلاق فثلاث فَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ أَنْ يَخْطُبَهَا بِصَرِيحٍ، وَلَا تَعْرِيضٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ الْخِطْبَةُ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُطَلِّقِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفَصٍ ثَلَاثًا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي في العدة إذا أحللت فَآذِنِينِي وَرَوَتْ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: إِذَا حَلَلْتِ فلا تسبقيني بِنَفْسِكِ فَكَانَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا لَهَا.
وَفِي مَعْنَى المطلقة ثلاثاً: الْمُلَاعِنَةُ، وَالْمُحَرَّمَةُ، بِمُصَاهَرَةٍ، أَوْ رَضَاعٍ، فَإِذَا حَلَّ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا فَفِي كَرَاهِيَتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - قَالَهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ " وَالْإِمْلَاءِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: أَمْرُهَا فِي ذَلِكَ أَخَفُّ مِنَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا جَازَ ذلك، لأن هناك مطلق بِهِ يُمْنَعُ مِنْ تَزْوِيجِهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا الْبَائِنُ الَّتِي تَحِلُّ لِلزَّوْجِ فَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَأَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَرِّحَ بخِطْبَتِهَا وَفِي جَوَازِ تَعْرِيضِهِ لَهَا بِالْخِطْبَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِإِبَاحَتِهَا لِلْمُطَلِّقِ كَالرَّجْعِيَّةِ، قاله في كتاب البويطي.

(9/248)


والقول الثاني: لا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ رَجَعَتْهَا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا قَالَهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ وَفِي مَعْنَى المختلعة الموطوءة بشبهة يجوز للواطء أَنْ يُصَرِّحَ بَخِطْبَتِهَا فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْهُ وَيَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا وَفِي جَوَازِ تَعْرِيضِهِ قَوْلَانِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ فَرْقٌ مَا بَيْنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّعْرِيضِ فَالتَّصْرِيحُ مَا زَالَ عَنْهُ الِاحْتِمَالُ وتحقق مِنْهُ الْمَقْصُودُ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَنَا رَاغِبٌ فِي نكاحك، وأريد أن أتزوجك أو يقول إذا قضيت عِدَّتكِ فَزَوِّجِينِي بِنَفْسِكِ.
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ: فَهُوَ الْإِشَارَةُ بِالْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مِثْلَ قَوْلِهِ: رُبَّ رَجُلٍ يَرْغَبُ فِيكِ، أَوْ أنني راغب، أو ما عليك إثم أو لعل اللَّهَ أَنْ يَسُوقَ إِلَيْكِ خَيْرًا، أَوْ لَعَلَّ الله أن يحدث لك أمراً، فإذا أحللت فَآذِنِينِي إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ أَطْلَقَ إِذَا لم يصرح باسم النكاح، وكان محتمل أن يريده بكلامه أو يريد غيره، وإذ حَلَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَهَا بِالتَّصْرِيحِ حَلَّ لَهَا أَنْ تُجِيبَهُ عَلَى الْخِطْبَةِ بِالتَّصْرِيحِ، وَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْطُبَهَا إِلَّا بِالتَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ حَرُمَ عَلَيْهَا أَنْ تُجِيبَهُ إِلَّا بِالتَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ لِيَكُونَ جَوَابُهَا مِثْلَ خِطْبَتِهِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا حل التعريض لها بالخطبة جاز سراً أو جهراً.
وَقَالَ دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهَا بِالْخِطْبَةِ سِرًّا حَتَّى يَجْهَرَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سَراً) {البقرة: 235) وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَمَّا حَلَّ اقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ السِّرُّ وَالْجَهْرُ، فأما قوله: " لا تواعدوهن سراً " فَفِيهِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الزِّنَا، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَالثَّانِي: ألا تَنْكِحُوهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ سِرًّا، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن يزيد.
والثالث: ألا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن فِي عِدَدِهِنَّ أَنْ لَا يَنْكِحْنَ غَيْرَكُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ.
وَالرَّابِعُ: أنه الجماع قال الشَّافِعِيُّ وَسُمِّيَ سِرًّا؛ لِأَنَّهُ يُسِرُّ وَلَا يُظْهِرُ، وَاسْتَشْهَدَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ.
(أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبُرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي)

(كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى الْمَرْءِ عِرْسَهُ ... وَأَمْنَعُ عِرْسِي أَنْ يُزَنِّ بِهَا الْخَالِي}
وَقَالَ آخَرُ:
(وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ جارهم أنف القصاع)

(9/249)


مواعدته لها بالسر الذي هو الجماع أن يَقُولَ لَهَا أَنَا كَثِيرُ الْجِمَاعِ قَوِيُّ الْإِنْعَاظِ فحرم الله تعالى ذَلِكَ لِفُحْشِهِ، وَإنَّهُ رُبَّمَا أَثَارَ الشَّهْوَةَ فَلَمْ يُؤْمَنْ مَعَهُ مُوَاقَعَةُ الْحَرَامِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن الشياع يعني المفاخرة بالجماع.

فَصْلٌ
فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَرَّحَ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وإن لم يصرح بالخطبة.
وقال مَالِكٌ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ، ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ الْعَقْدُ عليها وهذا خطأ؛ لأن ما قدمناه قَبْلَ الْعَقْدِ مِنْ قَوْلٍ مَحْظُورٍ كَالْقَذْفِ أَوْ فِعْلٍ مَحْظُورٍ كَإِظْهَارِ سَوْأَتِهِ أَوْ تَجَرُّدِهِ عَنْ ثِيَابِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَثِمَ بِهِ كَذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

(9/250)


بَابُ النَّهْيِ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أخيه
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مالك بن أنسٍ عَنْ نافعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ " وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت قيس " إذا حللت فآذنيني " قالت فلما حللت أخبرته أن معاوية وأبا جهمٍ خطباني فقال " أَمَّا مُعَاوِيَةُ فصعلوكُ لَا مَالَ لَهُ وَأَمَّا أَبُو جهمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ انكحي أسامة " فدلت خطبته على خطبتهما أنها خلاف الذي نهى عنه أن يخطب على خطبة أخيه إذا كانت قد أذنت فيه فكان هذا فساداً عليه وفي الفساد ما يشبه الإضرار والله أعلم، وفاطمة لم تكن أخبرته أنها أذنت في أحدهما ".
قال الماوردي: وهذا صحيح.
وقد رَوَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ " وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ " وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ وَلَيْسَ النَّهْيُ فِيهِمَا مَحْمُولًا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ تغيير حال المخطوبة، فإذا خطب الرجل نكاح امْرَأَة لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ.
القسم الأول: إما أن يأذن له في نكاحها فتحرم بَعْدَ إِذْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يخطبها لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنه حفظاً للألفة، ومنعاً من الفساد وحسماً للتقاطع، وسواء كان الأول كفءً أو غير كفٍ.
وقال ابن الْمَاجِشُونَ: إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ غَيْرَ كفءٍ لَمْ تحرم عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَكْفَاءِ خِطْبَتُهَا بِنَاءً عَلَى أصله في أن نكاح غير الكفؤ بَاطِلٌ، وَإِنْ تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِهِ، فَإِنْ رَجَعَ الْأَوَّلُ عن خطبته أو رجع الْمَرْأَةُ عَنْ إِجَابَتِه ارْتَفَعَ حَكَمُ الْإِذْنِ، وَعَادَتْ إِلَى الْحَالِ الْأُولَى فِي إِبَاحَةِ خِطْبَتِهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ ".
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَرُدَّ خَاطِبَهَا، وَتَمْنَعَ مِنْ نِكَاحِهِ فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يَخْطُبَهَا

(9/251)


لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْخِطْبَةِ رَفْعُ الضَّرَرِ، وَالْمَنْعُ مِنَ التَّقَاطُعِ، فَلَوْ حُمِلَ النَّهْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَنْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُ حَلَّ الضَّرَرُ عليها.
والقسم الثالث: أن تمسك عَنْ خِطْبَتِهَا فَلَا يَكُونُ مِنْهَا إِذْنٌ وَلَا رضا ولا يكون منها رد ولا كراهية فَيَجُوزُ خِطْبَتُهَا وَإِنْ تَقَدَّمَ الْأَوَّلُ بِهَا لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْمَخْزُومِيَّةِ أَنَّ زَوْجَهَا أَبَا عمرو بن حفص بَتَّ طَلَاقَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي "، فَلَمَّا حَلَّتْ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَطَبَنِي مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ ".
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَأَخَافُ عَلَيْكِ فسفاسته، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ أَخْلَقُ مِنَ الْمَالِ " أَمَّا الفسفاسة: فَهِيَ الْعَصَا، وَأَمَّا الْأَخْلَقُ مِنَ الْمَالِ، فَهُوَ الْخُلُوُّ مِنْهُ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ ثُمَّ أَطَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَكَحْتُهُ فَرُزِقْتُ مِنْهُ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ، فَكَانَ الدليل من هذا الحديث من وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ قَدْ خَطَبَهَا بَعْدَ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تحريمه.
والوجه الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ خَطَبَهَا لِأُسَامَةَ بَعْدَ خِطْبَتِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْإِجَابَةِ لَا يَقْتَضِي الْخِطْبَةَ:
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهَا الرِّضَا بِالْخَاطِبِ، ولا تأذن في العقد، وذلك بأن تقرر صداقها أو بشرط ما تريد مِنَ الشُّرُوطِ لِنَفْسِهَا فَفِي تَحْرِيمِ خِطْبَتِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا بِالرِّضَا اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ النَّهْيِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لا تحرم خطبتها بالرضا حتى يصرح بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِبَاحَةُ الْخِطْبَةِ مَا لَمْ تتحقق شروط الحظر، فعلى هذا وإن اقْتَرَنَ بِرِضَاهَا إِذْنُ الْوَلِيِّ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَا تزَوَّجُ إِلَّا بِصَرِيحِ الْإِذْنِ لم تحرم خطبتها وإن كانت بكراً فيكون الرِّضَا وَالسُّكُوتُ مِنْهَا إِذْنًا حَرُمَتْ خِطْبَتُهَا بِرِضَاهَا، وَإِذْنِ وَلَيِّهَا وَهَاهُنَا قِسْمٌ خَامِسٌ؛ وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ وَلَيُّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا إذن أو رضي فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُزَوِّجُ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ حَرُمَتْ خِطْبَتُهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُزَوِّجُ إِلَّا بِإِذْنٍ لَمْ تَحْرُمْ خِطْبَتُهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ حَتَّى تَكُونَ هِيَ الْآذِنَةَ فِيهِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ خِطْبَتِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَأَقْدَمَ رَجُلٌ

(9/252)


على خطبتها مع تحريمه عليها وتزويجه فكان آثِمًا بِالْخِطْبَةِ، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَقَالَ دَاوُدُ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ يَصِحُّ بِطَلْقَةٍ اسْتِدْلَالًا، بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ عَمِلَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رد "
والدليل على صحة النكاح هو أن مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ فلم يؤثر في فساده؛ ولأن النهي إذا كان لمعنى في غير المعقود عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الصِّحَّةِ كَالنَّهْيِ عَنْ أن يسوم الرجل على سوم أخيه أو أن يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادِ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبْرَيْنِ فَيَقْتَضِي رد ما توجه النهي إليه، وَهُوَ الْخِطْبَةُ دُونَ الْعَقْدِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَفِيهِ دَلَائِلُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ السُّكُوتَ لَا يقتضي تحريم الحظر.
وَمِنْهَا جَوَازُ ذِكْرُ مَا فِي الْإِنْسَانِ عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي مُعَاوِيَةَ: " إِنَّهُ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ له " والتصعلك التمحل والاضطرار فِي الْفَقْرِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(عَنِينَا زَمَانًا بَالتَّصَعْلُكِ والغنى ... وكلا سفاناه بَكَأْسَيْهِمَا الدَّهْرُ)

(فَمَا زَادَنَا بَغْيًا عَلَى ذِي قرابةٍ ... عنانا وَلَا أَزْرَى بِأَحْسَابِنَا الْفَقْرُ)

وَقَالَ فِي أَبِي جَهْمٍ: " لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ " وَفِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ ضَرْبِهِ لِأَهْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ أَسْفَارِهِ يُقَالُ لِمَنْ سَافَرَ: قَدْ أَخَذَ عَصَاهُ، ولمن أقام قد ألقى عصاه قال الشَّاعِرُ.
(فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قر عيناً بالإياب المسافر)

والثالث: أنه أراد به كثرة تزويجه لِتَنَقُّلِه مِنْ زَوْجَةٍ إِلَى أُخْرَى، كَتَنَقُّلِ الْمُسَافِرِ بالعصى مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَمِنْ دَلَائِلِ الْخَبَرِ أَيْضًا جَوَازُ الِابْتِدَاءِ بِالْمَشُورَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِشَارَةٍ، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشَارَ بِأُسَامَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْهُ.
ومنها أن طلاق الثلاث مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا أَنْكَرَهُ فِي فَاطِمَةَ حِينَ أَخْبَرَتْهُ وَمِنْهَا جَوَازُ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا لِحَاجَةٍ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَتْهُ بِطَلَاقِهَا فَقَالَ لَهَا: " إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي ".

(9/253)


وَمِنْهَا جَوَازُ كَلَامِ الْمَرْأَةِ وَإِنِ اعْتَدَّتْ، وَأنَّ كَلَامَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ.
وَمِنْهَا جَوَازُ نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ؛ لِأَنَّهَا فِي صَمِيمِ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ أُسَامَةَ وَهُوَ مَوْلًى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُقُوطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ، ووجوب نفقة الرجعية على ما سنذكره والله ولي التوفيق.

(9/254)


بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ وَمَنْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ من أربع من هذا ومن كتاب التعريض بالخطبة
قال الشافعي: " أخبرنا الثقة أحسبه إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ معمرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أبيه قال أسلم غيلان بن سلمة وَعِنْدَهُ عَشْرُ نسوةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمسك أربعاً وفارق سائرهن " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لرجل يقال له الديلمي أو ابن الديلمي أسلم وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ " اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى " وقال لنوفل بن معاوية وعنده خمس " فارق واحدةً وأمسك أربعاً " قال فعمدت إلى أقدامهن ففارقتها (قال الشافعي) رحمه الله تعالى وبهذا أقول ولا أبالي أكن في عقدةٍ واحدةً أو في عقدٍ متفرقةٍ إذا كان من يمسك منهن يجوز أن يبتدئ نكاحها في الإسلام ما لم تنقض العدة قبل اجتماع إسلامهما لأن أبا سفيان وحكيم بن حزامٍ أسلما قبل ثم أسلمت امرأتاهما فاستقرت كل واحدةٍ منهما عند زوجها بالنكاح الأول وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة ثم أسلما فاستقرتا بالنكاح الأول وذلك قبل انقضاء العدة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْأَصْلُ تَحْرِيمُ التناكح بين المسلمين والمشركين قول اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمةٌ مٌؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوَ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْركينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٍ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (البقرة: 221) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ) {الممتحنة: 10) وَقَالَ تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: 10) وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُسْلِمَةُ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْكَافِرُ كِتَابِيًّا أَوْ وَثَنِيًّا فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيَحِلُّ لَهُ مِنَ الْكُفَّارِ الْكِتَابِيَّاتُ من اليهود والنصارى عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا عَدَاهُنَّ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ.
فَأَمَّا إِذَا تَنَاكَحَ الْمُشْرِكُونَ فِي الشرك فلا اعتراض عليهم فِيهَا، فَإِنْ أَسْلَمُوا عَلَيْهَا فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ جَوَازُ مَنَاكِحِهِمْ وَإِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقَرَّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى نِكَاحِ زَوْجَتِهِ، وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنْتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا.

(9/255)


وقال الشافعي في بعض كتبه: إن مَنَاكِحهُمْ بَاطِلَةٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهَا مَعْفُوٌّ عَنْهَا فَغَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَجَ اخْتِلَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ، الذي عليه جمهورهم أنه ليس ذلك لاختلاف أقاويله فيها، وَلَكِنَّهُ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَنَاكِحِهِمْ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: صَحِيحَةٌ، وَبَاطِلَةٌ، وَمَعْفُوٌّ عَنْهَا.
فَأَمَّا الصَّحِيحُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَافِرُ الْكَافِرَةَ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، فَهَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ، فَإِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ أقروا وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِالصِّحَّةِ.
فَأَمَّا الْبَاطِلُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ، أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ، فَإِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ لَمْ يُقَرُّوا، وَكَذَلِكَ لَوْ نَكَحَهَا بِخِيَارٍ مُؤَبَّدٍ وَهَذَا الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا الْمَعْفُوُّ عَنْهُ: فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ لَا تَحْرُمُ عليه بنسب، وَلَا رَضَاعٍ، وَلَا مُصَاهَرَةٍ بِمَا يَرَوْنَهُ نِكَاحًا مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَلَا بِلَفْظِ نِكَاحٍ وَلَا تَزْوِيجٍ فَهَذَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَإِذَا أسلموا قروا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَكْشِفْ عَنْ مَنَاكِحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ مَنَاكِحِهِمْ فَلَهُمْ إِذَا حَدَثَ بَيْنَهُمْ إِسْلَامٌ حَالَتَانِ:
أحدهما: أن يسلم الزوجان معاً.
والحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَكْثَرُ مِنْ أربع زوجات بأن كَانَ لَهُ أَرْبَعٌ فَمَا دُونَ، وَأَسْلَمْنَ كُلُّهُنَّ مَعَهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ كُلِّهِنَّ سَوَاءٌ كَانَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ خَمْسُ زَوْجَاتٍ فَمَا زاد وقد أسلم جميعهم بِإِسْلَامِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ أربعاً سواء نكحهن جميعهن فِي الشِّرْكِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عُقُودٍ وَسَوَاءٌ أَمْسَكَ الْأَوَائِلَ أَوِ الْأَوَاخِرَ وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْبَوَاقِي بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ، ومحمد بن الحسن، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْبَوَاقِي بَعْدَ الْأَرْبَعِ إِلَّا بِطَلَاقٍ وَهَكَذَا لَوْ نَكَحَ فِي الشِّرْكِ أُخْتَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَتَا مَعًا أَمْسَكَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُخْرَى بِغَيْرِ طَلَاقٍ عِنْدَنَا وَبِطَلَاقٍ عِنْدَ مَالِكٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة، وأبو يوسف: لَا اعْتِبَارَ بِخِيَارِهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِعَقْدِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ عَشْرًا فِي عَقْدٍ واحدٍ ثُمَّ أَسْلَمْنَ مَعَهُ بَطَلَ نِكَاحُ جَمِيعِهِنَّ، فَإِنْ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقُودٍ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأَوَائِلِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ مَنْ بَعْدَهُنَّ مِنَ الأواخر اعتباراً بنكاح المسلم، وهكذا لو أنكح أختين أسلمتا مَعَهُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَكَحَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى مِنْهُمَا، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ نَكَحَهُنَّ فِي عُقُودٍ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأَوَائِلِ وَإِنْ نَكَحَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهُنَّ وَاخْتَارَ مِنْهُنَّ أربعاً واستدل أبي حنيفة بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث

(9/256)


معاذاً إلى اليمن فقال له: " ادعهم إلى الشهادة أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنْ أَجَابُوكَ أعلمهم أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ " ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ نَكَحَ خَمْسًا فِي عَقْدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ وَلَوْ نَكَحَهُنَّ فِي عُقُودٍ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأَوَائِلِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ مَنْ بَعْدَهُنَّ مِنَ الْأَوَاخِرِ كَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَ.
قَالَ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمُ جَمْعٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارٌ قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ الْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجَيْنِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ تحريم يستوي فيه الابتداء والاستدامة منه فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ اشتمل على أكثر من أربع فوجب أن يكون باطلاً قياساً على عقد المسلم.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ أَنَّ غَيْلَانَ بن سلمة أسلم وأسلم معه عشر نسوة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ " فَأَطْلَقَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمْسَاكَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ عُقُودِهِنَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِهِ فِيهِنَّ، بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ: فَكُنْتُ مَنْ أُرِيدُهَا أَقُولُ لَهَا أَقْبِلِي، وَمَنْ لَا أُرِيدُهَا أَقُولُ لَهَا: أَدْبِرِي، وَهِيَ تَقُولُ: بِالرَّحِمِ بِالرَّحِمِ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَمَسُّكِهِ بِمَنِ اخْتَارَ لَا بِمَنْ تَقَدَّمَ.
وَرُوِيَ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قال: أسلمت وعندي خمسة نِسْوَةٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً، قَالَ: فَعَمَدْتُ إلى أقدمهن صحبة ففارقتها فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ إِمْسَاكِ الْأَوَاخِرِ دُونَ الْأَوَائِلِ.
وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمَيُّ عَنْ أبيه أنه قَالَ: أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمسك أيتها شئت، وفارق الأخرى " وهذا نص في التخيير.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَسْلَمَ وتحته ثماني نسوة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا " قَالَ: فَاخْتَرْتُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نُصُوصٌ فِي التَّخْيِيرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ حَلَّ لَهُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ حَلَّ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ بِالْعَقْدِ النَّاجِزِ فِي الشرك قياساً على النكاح بعد شهود.
وقولنا بعقد ناجز: احتراز من نكاحها فِي الشِّرْكِ بِخِيَارٍ مُؤَبَّدٍ؛ وَلِأَنَّهُ عَدَدٌ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ فَجَازَ لَهُ إِمْسَاكُهُنَّ كالأوائل.

(9/257)


وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ أُخْتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى ثُمَّ مَاتَتِ الْأُولَى وأسلمت معه الثانية جاز له استبدالها فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأُولَى بَاقِيَةً؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْمُقَامَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى عَقْدِ نِكَاحٍ فِي الشِّرْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِثْلَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ أن يَكُون قَدْ نَكَحَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ جَازَ مِثْلُهُ فِي جَمْعِ الْعَدَدِ وَفِي الْأَوَاخِرِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ استدلالهم بالخبر فمن يقول بموجبه أننا نُحَرِّمُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ عَلَى أَرْبَعٍ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا.
فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا أَسْلَمَتْ مَعَ زَوْجَيْنِ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ تَحْرِيمُ جَمْعٍ فالتعليل غير مسلم، لأنه لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى الْمَرْأَةِ الزَّوْجَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ملك بعضها فَصَارَتْ عَاقِدَةً مَعَ الثَّانِي عَلَى مَا قَدْ مَلَكَهُ الْأَوَّلُ عَلَيْهَا، فَجَرَى مَجْرَى مَنْ بَاعَ مِلْكًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ بَطَلَ الْبَيْعُ الثاني لأجل الجمع ولكن يعقده عَلَى مَا قَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ كَذَلِكَ نِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي. وَخَالَفَ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةِ الْبُضْعِ كَالرَّابِعَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَالْمَعْنَى فِيهِنَّ: أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ حَرُمَ اسْتِدَامَةُ نِكَاحِهِنَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَوَاخِرُ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِ أَضْيَقُ حُكْمًا وَأَغْلَظُ شَرْطًا مِنْ عُقُودِ الْمُشْرِكِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ فِي عِدَّةٍ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودِ بَطَلَ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ عَلَيْهِ أُقِرَّ كَذَلِكَ الْأَوَاخِرُ.

فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ
: وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَيَنْظُرَ، فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَزَوْجَتُهُ كِتَابِيَّةٌ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا فِي الْإِسْلَامِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا فِي الشِّرْكِ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ وَثَنِيَّةً أَوْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ، وَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا، أَوْ وَثَنِيًّا، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ إسلام أحدهما محرم، وإذا كان كذلك نُظِرَ فِي إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ كَانَ موقوفاً على انقضاء العدة، فإن أسلمتا الْمُتَأَخِّرُ فِي الشِّرْكِ مِنْهُمَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ تَقَدَّمَتِ الزوجة بالإسلام كان الحكم على ما ذكرناه إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الزَّوْجُ بِالْإِسْلَامِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ الزَّوْجَةُ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ يَسِيرٍ كَيَوْمٍ أو يومين.
وقال أبو حنيفة: إن أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
حَالٌ يَكُونَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَحَالٌ يَكُونَانِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحَالٌ يَكُونُ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

(9/258)


فَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فالنكاح موقوف على انقضاء العدة سواء كانت قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَبَدِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ إِلَّا أَنْ يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ فِي الشِّرْكِ فَيَمْتَنِعَ، فَيُوقِعُ الْحَاكِمُ الفرقة بِطَلْقَةٍ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا في دار الحرب والآخر في دار الإسلام فإسلام من حصل في ذلك الْإِسْلَامَ يُوجِب لِفَسْخِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ قَبْلَ الدخول وبعده من غير وقف، وسواء كان الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ.
وَقَالَ دَاوُدُ: وَأَبُو ثَوْرٍ: إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مُوجِبٌ لِفَسْخِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ وَقْفٍ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ إِسْلَامُهُ وَفِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ.
فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِمَذْهَبِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعَصِمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10) فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّمَسُّكُ بِعِصْمَةِ كافر، وَلِأَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْفُرْقَةِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إِلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَزَوْجَتَاهُمَا فِي الشِّرْكِ بِمَكَّةَ فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى هِنْدٍ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ فَقَرَأَ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ وَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ ثم أسلمت، وزوجة حكيم عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ مَعَ تَقَدُّمِ إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ حَظْرَ الْمُسْلَمَةِ عَلَى الْكَافِرِ أَغْلَظُ مِنْ حَظْرِ الْكَافِرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِكِتَابِيٍّ، وَالْمُسْلِمَ تَحِلُّ لَهُ الْكِتَابِيَّةُ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَجَّلْ فَسْخُ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ الْكَافِرِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ فَسْخُ نِكَاحِ الْكَافِرِ مَعَ الْمُسْلِمَةِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِعِصْمَتِهَا فِي الكفر، وإنما تَمَسَّكَ بِعِصْمَتِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ إِلَى الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ فَذَاكَ فِي فرقة الاختيار التي يوقعها المالك والطلاق، فأما فرقة الفسوخ فيستوي فهيا الزَّوْجَانِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ بقول الله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءكُمْ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِأيْمَانِهِنَّ فَإنَّ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: 10) فَاقْتَضَى أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ بَعْدَهَا أَوْ لَمْ يُسْلِمْ؛ وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عن زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَاجَرَتْ إِلَيْهِ، وَتَخَلَّفَ زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ ربيع كافراً بمكة ثم أسلم فردها عليه بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدارين.

(9/259)


قَالَ: وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ بِهِمَا حُكْمًا وَفِعْلًا يوجب الْفُرْقَة بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى سَبْيِ أَحَدِهِمَا وَاسْتِرْقَاقِهِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ غَلَبَةٍ، وَقَهْرٍ، لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ فِيهَا عَلَى شَيْءِ مَلَكَهُ أَلَا تَرَى لَوْ غَلَبَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا وَصَارَ السَّيِّدُ لَهُ عَبْدًا وَلَوْ غَلَبَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى نَفْسِهِ بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَصَارَ الزَّوْجُ لَهَا عَبْدًا فَاقْتَضَى أَنْ تَصِيرَ الزَّوْجَةُ بِإِسْلَامِهَا إِذَا هَاجَرَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُتَغَلِّبَةً عَلَى نَفْسِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ نِكَاحُهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ما روي أن أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَهِيَ بِحُلُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيها واستيلائه عليها دار الإسلام وَزَوْجَتَاهُمَا عَلَى الشِّرْكِ بِمَكَّةَ وَهِيَ إِذ ذَاكَ دار الحرب ثُمَّ أَسْلَمَتَا بَعْدَ الْفَتْحِ فَأَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على النكاح.
فَإِنْ قِيلَ: مَرُّ الظَّهْرَانِ مِنْ سَوَادِ مَكَّةَ، وتابعة لها في الحكم فلم يكن إسلامها إلا في دار واحدة، ففيه جوابان:
أحدهما: أن مر الظهران دار الخزاعة مُحَازَةٌ عَنْ حُكْمِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ خُزَاعَةَ كَانَتْ فِي حِلْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي حِلْفِ قُرَيْشٍ، وَلِنُصْرَةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِخُزَاعَةَ صَارَ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَرَّ الظَّهْرَانِ لَوْ كَانَ مِنْ سَوَادِ مكة لجاز أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْ حُكْمِهَا بِاسْتِيلَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ سَوَادَ بَلَدٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ صَارَ ذَلِكَ السَّوَادُ دَارَ إِسْلَامٍ، وإن كان البلد دار الحرب وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، هَرَبَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى الطَّائِفِ، وَهَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مُشْرِكَيْنِ فَأَسْلَمَتْ زوجاتهما بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ صَفْوَانَ بَرْزَةَ بِنْتَ مَسْعُودِ بن عمرو الثقفي، وزوجة عكرمة أم عكيم بنت الحارث به هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَخَذَتَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَانًا لَهُمَا فَدَخَلَ صَفْوَانُ مِنَ الطَّائِفِ بِالْأَمَانِ وَأَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ حَتَّى شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُنَيْنًا وَأَعَارَهُ سِلَاحًا ثُمَّ أَسْلَمَ، وَعَادَ عِكْرِمَةُ من ساحل البحر وَقَدْ عَزَمَ عَلَى رُكُوبِهِ هَرَبًا فَأَسْلَمَ فَأَقَرَّهُمَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ زَوْجَتَيْهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بِهِمَا لِأَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ بِالْفَتْحِ دَارَ إِسْلَامٍ، وكانت الطائف والساحل دار حرب.
فَإِنْ قِيلَ: هُمَا مِنْ سَوَادِ مَكَّةَ وَفِي حكمهما.
فالجواب عنه بما مضى.
ومن القياس: أنه إسلام بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فِي العدة أن لا تقع بِهِ الْفُرْقَةُ قِيَاسًا عَلَى اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِهِ مُنْتَظَرَةً لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَمَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ مُعَجَّلَةً، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اتِّفَاقُ الدَّارَيْنِ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَوَجَبَ أَنْ يكون الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ مُلْحَقَةً بِأَحَدِهِمَا.

(9/260)


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَنَحْنُ نَقُولُ بموجبها لأنها لا ترد المسلمة إلى كافر ولا تحلها له ولا تمسك بعصمة كافرة، وإنما يردها إلى مسلم، ويسمك بِعِصْمَةِ مُسْلِمَةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ فمن وجهين:
أحدهما: ما رواه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْنَفَ لَهَا نِكَاحًا، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حِينَ أَسَرَهُ أَبُو بَصِيرٍ الثقفي بسيف البحر من نحو الْجَارِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّبْيِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فَلَيْسَ المعنى فيه افتراق الدارين إنما حُدُوثُ الِاسْتِرْقَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتُرِقَّ أحدهما وهما فِي دَارِ الْحَرْبِ، بَطَلَ النِّكَاحُ وَلَوِ اسْتُرِقَّا معاً بطل النكاح فصار السبي مخالفاً للإسلام، وعلى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالِاسْتِرْقَاقِ غَيْرُ مُنْتَظِرَةٍ بِحَالٍ، وَالْفُرْقَةَ بِالْإِسْلَامِ مُنْتَظِرَةٌ فِي حَالٍ فَافْتَرَقَا.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهَا مُتَغَلِّبَةٌ عَلَى بُضْعِهَا فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ تُمْلَكُ بِالتَّغَلُّبِ دُونَ الْأَبْضَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مسلما لَوْ غَلَبَ عَلَى بُضْعِ مُشْرِكَةٍ لم تصر زوجة، ولم يضر زَوْجًا وَلَوْ تَغَلَّبَ عَلَى رَقَبَتِهَا صَارَتْ مِلْكًا.

فَصْلٌ
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْفُرْقَةِ بأنه إسلام طرأ عَلَى نِكَاحٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهُ قِيَاسًا على إسلامهما معاً وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ سَبَبٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ النِّكَاحُ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَبِيحُ الْمُسْلِمَةَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ وَمَا كَانَ سَبَبًا فِي إِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي حَظْرِ الْمُبَاحِ.
وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ هو اخْتِلَاف الدَّارَيْنِ إِذَا مَنَعَ مِنْ تَأْبِيدِ الْمُقَامِ عَلَى النِّكَاحِ تَعَجَّلَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ إِذَا وُجِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَقَعْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَجَبَ إِذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ أنْ تعَجَّلَ بِهِ الْفُرْقَة كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى إِسْلَامِهِمَا مَعًا، فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بِإِسْلَامِهِمَا تَأْبِيدُ الْمُقَامِ عَلَى النِّكَاحِ فَكَانَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِسْلَامُ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ تَأْبِيدَ الْمُقَامِ فَتَعَجَّلَ بِهِ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ مُنْتَقِضٌ بِالرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَوِ ارْتَدَّا مَعًا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ النِّكَاحُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا فِي الْإِبَاحَةِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي الْحَظْرِ فَفَاسِدٌ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ وَإِبَاحَةِ أُخْتِهَا وَسَبَبٌ لِإِبَاحَتِهَا لغير مطلقها، وإن كان سبب لِتَحْرِيمِهَا عَلَى مُطَلِّقِهَا ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ سبب الْإِبَاحَةِ سبباً للتحريم بعد انقضاء العدة، وكذلك قَبْلَهَا.
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ أحدهما في دار الإسلام فوجب بَقَاء النِّكَاحِ عَلَى الْأَبَدِ مَا لَمْ يُعْرَضِ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا فِي الشِّرْكِ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ أَوْقَعَ

(9/261)


الْحَاكِمُ الْفُرْقَةَ بِطَلْقَةٍ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْحَادِثِ، وَلَيْسَ يَخْلُو الْحَادِثُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ، أَوْ لِكُفْرِ مَنْ تَأَخَّرَ، أَوْ لِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْكُفْرِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَتَعَلَّقَ الْفُرْقَةُ بِهِ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ أَوْ تَأَخَّرَ، قَالَ: وَلِأَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ إِذَا مَنَعَ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ أَوْجَبَ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ أَغْلَظُ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ، ثُمَّ كَانَتْ دَارُ الشِّرْكِ لَا تُرَاعِي فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ، بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا حُكْمَ الْحَاكِمِ فَدَارُ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ أَوْلَى.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ الْمَانِعِ مِنِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ كِتَابِيَّةً لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ الْكِتَابِيِّ، وليس كذلك في ملتنا لأنه لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ وَثَنِيَّةً، وَلَا الْوَثَنِيُّ مُسْلِمَةً فَجَازَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الْوَثَنِيَّيْنِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَاطِلٌ وَأَنَّهُ بَعْدَ الدُّخُولِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَأَنَّهُ لا فرق بين اختلاف الدارين أو اتفاقهما بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أبو حنيفة، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ الْمَدْخُولَ بِهَا قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا جَارِيَةٌ فِي عِدَّةِ الْفُرْقَةِ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا فِي الشِّرْكِ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، بِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ، وَحَلَّتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ العدة للأزواج.
وقال أبو حنيفة: ليست تلك الْعِدَّةُ عِدَّةَ فُرْقَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ عِدَّةٌ يُعْتَبَرُ بها صحة النكاح باجتماع الإسلامين فيهما فَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ إِسْلَامُهُمَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِانْقِضَائِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يوجب عليها بعد الفرقة عدة أخرى ولا توفيها فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةً أُخْرَى فَقَدْ أَلْزَمَهَا عِدَّتَيْنِ، وَلَيْسَتْ تَجِبُ عَلَى الْمُفَارَقَةِ إِلَّا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا عِدَّةً أُخْرَى بَطَلَ قَوْلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِدَّةَ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَأَسْقَطَهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ إِمَّا لِاسْتِبْرَاءٍ أَوْ فُرْقَةٍ وَقَدْ أَوْجَبَهَا لِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَلَا فُرْقَةٍ، وَإِذَا صح ما ذكرنا من وقوع الفرقة تقدم الْإِسْلَام فَطَلَّقَهَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ أَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَكُونُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الْإِيلَاءُ

(9/262)


وَالظِّهَارُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَوُقُوعِهِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يجتمعا على إسلام فِي الْعِدَّةِ حَتَّى انْقَضَتْ لَمْ يَصِحَّ الطَّلَاقُ وَلَا الْإِيلَاءُ وَلَا الظِّهَارُ؛ لِتَقَدُّمِ الْفُرْقَةِ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " فإن أَسْلَمَ وَقَدْ نَكَحَ أُمًّا وَابْنَتَهَا مَعًا فَدَخَلَ بهما لم تحل له واحدةٌ منهما أبداً ولم لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِمَا قُلْنَا أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى وَقَالَ فِي موضعٍ آخَرَ يمسك الابنة ويفارق الأم (قال المزني) هذا أولى بقوله عندي وَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَقَالَ أَوَّلًا كَانَتِ الْأُمُّ أَوْ آخِرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُشْرِكٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ أُمًّا وَبِنْتَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا مَعَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مَعَهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أحدها: أن يكون قد دخل بهما.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ دُونَ الْبِنْتِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا فَقَدْ حَرُمَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، لِأَنَّ دُخُولَهُ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ لَوْ كان بشبهة فيكف نكاح؟ وَدُخُولُهُ بِالْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ لَوْ كَانَ بِشُبْهَةٍ فَكَيْفَ بِنِكَاحٍ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ نِكَاحُ الشرك معفو عنه فهلا كان الوطء في الشرك معفو عَنْهُ.
قِيلَ: لِأَنَّ الْوَطْءَ يَحْدُثُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى تَحْرِيمِ النَّسَبِ لِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِيهِمَا عَلَى الْأَبَدِ، وَلَيْسَ يُعْفَى عَنْ تَحْرِيمِ النَّسَبِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْفَى عَنْ تَحْرِيمِ المصاهرة، وخالف العقد الذي تتخلف أحواله وينقطع زمانه.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي
: وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِمَا وَلَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِإِحْدَاهمَا سَوَاءٌ كَانَ قَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي عَقْدَيْنِ وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَتِ الْأُمُّ بِالْعَقْدِ أَوْ تَأَخَّرَتْ كَمَنْ نَكَحَ خَمْسًا في الشرك بخلاف ما قال أبو حنيفة فِي تَقْدِيمِ الْأَوَائِلِ عَلَى الْأَوَاخِرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي الَّتِي يَتَمَسَّكُ بِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِنِكَاحِ الْبِنْتِ وَيُقِيمُ عليها ويحرم الْأُمُّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " وفيما نقله المزني عنه؛ لأنه العفو عن مناكح الشرك تمنع من التزام أحكامها وتصير بالإسلام بِمَثَابَةِ الْمُبْتَدِئِ لِمَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَعَلَى هَذَا إِنِ اخْتَارَ الْبِنْتَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُمُّ حِينَئِذٍ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ، وَإِنِ اخْتَارَ الْأُمَّ حَرُمَتِ الْبِنْتُ بِاخْتِيَارِ الْأُمِّ تَحْرِيمَ جَمْعٍ فَإِذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ حَرُمَتِ الْبِنْتُ تحريم تأبيد.

(9/263)


فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ
: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ دُونَ الْبِنْتِ فَالْبِنْتُ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَفِي تَحْرِيمِ الْأُمِّ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ مِنْ قَوْلَيْهِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُمِّ فَيَبْطُلُ هَاهُنَا نِكَاحُ الْبِنْتِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُمِّ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ.
والقول الثاني: أن الأم لا تَحْرُمُ وَيَكُونُ نِكَاحُهَا ثَابِتًا، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَكَانَ مخيراً في التمسك بمن شاء فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ هَاهُنَا لِتَحْرِيمِ الْبِنْتِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِنِكَاحِ الْأُمِّ.

فَصْلٌ: فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ
: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ فَنِكَاحُ الْبِنْتِ ثَابِتٌ وَنِكَاحُ الْأُمِّ باطل وبماذا بَطَلَ يَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْعَقْدِ عَلَى البنت على القول الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ.
وَالثَّانِي: بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ عَلَى القول الآخر.

فصل
فإذا شَكَّ بِالدُّخُولِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشُكَّ هَلْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فَالْوَرَعُ أَنْ يُحَرِّمَهُمَا احْتِيَاطًا فَأَمَّا فِي الحكم فالشك مطرح؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْيَقِينِ فِي عَدَمِ الدُّخُولِ أَغْلَبُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِ الْبِنْتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُون مُخَيَّرًا فِي إِمْسَاكِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَيَقَّنَ الدُّخُولَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَيَشُكَّ فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا مِنْهُمَا فَلَا يَعْلَمُ أهي الْأُمُّ أَمِ الْبِنْتُ فَيَكُونُ نِكَاحُهُمَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ تحريم أحدهما مُتَيَقَّنٌ وَإِذَا تَيَقَّنَ تَحْرِيمَ وَاحِدَةٍ مِنِ اثْنَتَيْنِ حرمت عليه اثنتان كما لو تيقن أن إحدى امرأتين أخت حرمتا عليه.
فصل
فأما إذا كانت المسلمة بِحَالِهَا فِي أَنْ نَكَحَ فِي الشِّرْكِ أُمًّا وبنتاً، واختلف إسلامهم فَحُكْمُ النِّكَاحِ مُعْتَبَرٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فِي الدُّخُولِ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا فَلَا يُوقَفُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْإِسْلَامِ لِتَحْرِيمِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِدُخُولِهِ بِالْأُخْرَى، وَيَكُونُ نِكَاحُهُمَا بَاطِلًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَلَا يخلو حال من تقدم بالإسلام من أربعة أَحْوَالٍ:
إحداهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ الزَّوْجُ وَحْدَهُ بِالْإِسْلَامِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا فِي الشِّرْكِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ عَلَى الزَّوْجِ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا فِي الْإِسْلَامِ.

(9/264)


وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ وَالْبِنْتِ، ويتأخر إسلام الأم فيثبت نكاح البنت ويبطل نِكَاحُ الْأُمِّ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزوج وَيَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ الْبِنْتِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْبِنْتِ لِتَأَخُّرِهَا وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْأُمِّ قَوْلَانِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ دُونَ الْبِنْتِ فَنِكَاحُ الْبِنْتِ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَهَلْ يُوقَفُ نِكَاحُ الْأُمِّ عَلَى اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ فَنِكَاحُ الْأُمِّ بَاطِلٌ لِدُخُولِهِ بِالْبِنْتِ، وَنِكَاحُ الْبِنْتِ مَوْقُوفٌ على اجتماع إسلامهما.

فصل
وإذا نَكَحَ فِي الشِّرْكِ أُمًّا وَبِنْتَهَا وَبِنْتَ بِنْتِهَا ثم أسلم وأسلمن مَعَهُ فَلَهُ مَعَهُنَّ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِجَمِيعِهِنَّ فَيَكُونُ نِكَاحُهُنَّ بَاطِلًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقِيمُ عَلَى السُّفْلَى وَهِيَ بِنْتُ الْبِنْتِ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْعُلْيَا الَّتِي هِيَ الْجَدَّةُ وَنِكَاحُ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ الأم.
والقول الثاني: أنه بالخيار بالتمسك بِأَيَّتِهِنَّ شَاءَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلَ بِالْعُلْيَا دُونَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى، فَيَكُونُ نِكَاحُ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى بَاطِلًا وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْعُلْيَا قَوْلَانِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَدْخُلَ بِالْوُسْطَى دُونَ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْوُسْطَى لِأَجَلِ السُّفْلَى قَوْلَانِ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنْ يَدْخُلَ بِالسُّفْلَى دُونَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى، فَيَثْبُتُ نِكَاحُ السُّفْلَى وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى فَإِذَا اعْتَبَرَتْ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ وَجَدْتَ الْجَوَابَ فِيهِ صَحِيحًا والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَرْبَعُ زوجاتٍ إماءٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْسِرًا يَخَافُ الْعَنَتَ أَوْ فِيهِنَّ حُرَّةٌ انْفَسَخَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ مَا يَتَزَوَجُ بِهِ حُرَّةً وَيَخَافُ الْعَنَتَ وَلَا حُرَّةَ فِيهِنَّ اخْتَارَ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُشْرِكٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِإِمَاءٍ مُشْرِكَاتٍ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ حُرَّةٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ معهن حُرَّةٌ وَكُنَّ إِمَاءً لَا حُرَّةَ فِيهِنَّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ مِنْ أَمْرَيْنِ:

(9/265)


أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الإماء لعقد الْحُرَّةِ وَعَدَمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَنْ سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَالٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ فيها نكاح الأمة، فجاز أن يستديم فيهما نكاح الأمة.
والحال الثانية: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِوُجُودِ الطَّوْلِ أَوْ أَمْنِ الْعَنَتِ فَنِكَاحُ الْإِمَاءِ قَدْ بَطَلَ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِسْلَامِهِ مَعَهُنَّ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ أَمَةٍ فَلَمْ يكن له أن يستديم بالاختيار نِكَاحَ أَمَةٍ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَ أَمَةٍ مِنْهُنَّ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ أَمَةٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مُعْتَبَرٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي اسْتِدَامَةِ نِكَاحِهَا أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا لِخَوْفِ الْعَنَتِ ثُمَّ أَمِنَ الْعَنَتَ جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يبتدئه كَذَلِكَ الْمُشْرِكُ إِذَا أَسْلَمَ مُسْتَدِيم لِنِكَاحِهَا، وَلَيْسَ بِمُبْتَدِئٍ فَجَازَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا مَعَ عدم الشرك، وإن لم يجز أن يبتدئه.
قال؛ ولأنه لو وجب أن يعتبر شروط الابتداء في وقت استدامته عِنْدَ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا لَمْ يَعْتَبِرْ مَا سِوَاهُ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ لَا يَحِلُّ إلا باعتبار شروطه فلما لم تعتبر وقت عقده في الشرك، وجب أن تعتبر وَقْتَ اخْتِيَارِهِ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا خَالِيًا مِنْ شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ فِي الْحَالَيْنِ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّنَا قد اعتبرنا شروط الْإِبَاحَةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ نَعْتَبِرْهَا فِي الِاسْتِدَامَةِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اسْتِدْلَالِهِ الثَّانِي، بأن الولي والشاهدين، وإن كان شَرْطًا فِي الْعَقْدِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ وَالشَّاهِدَيْنِ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ وعقد الشرك معفو عنه فعفى عَنْ شُرُوطِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شُرُوطُ نِكَاحِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ وَشُرُوطُ الْإِبَاحَةِ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ فِي الشِّرْكِ مُعْتَدَّةً ثُمَّ أَسْلَمَا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهَا وَقْتَ الِاخْتِيَارِ غَيْرُ مباحة كذلك الأمة.
ويتفرع على هذا التفريغ ثَلَاثَةُ فُرُوعٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تُسْلِمَ الْمُشْرِكَةُ مَعَ زوجها وهي في عدة من وطء شبهة فقد اختلف أصحابنا في إباحتها عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أن نكاحها باطل اعتباراً بما قررناه، بأنه لَا يَسْتَبِيحُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَقْتَ الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْعِدَّةِ فِي النِّكَاحِ بعد صحة عقدها لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ.
وَالْفَرْعُ الثَّانِي: أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ، وَيُحْرِمَ بِالْحَجِّ ثم يسلم الثاني في العدة فالأول على إحرامه وفي النكاح وجهان:

(9/266)


أحدهما: وهو قول أبي بشار الْأَنْمَاطِيِّ أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ اعْتِبَارًا بِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الْعَقْدَ عَلَيْهَا عِنْدَ اجتماع الإسلامين فصار كما لو ابتدأ نكاحهما فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ؛ لأن حدوث الإحرام في النكاح بعد صحة عقده لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسْخِهِ.
وَالْفَرْعُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى الشَّرْطِ الْمُبِيحِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَدِ ارْتَفَعَ الشَّرْطُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ؛ وَلِذَلِكَ ورثت ووارثت وإنما يزال بالرجعية تحريم الطلاق فلم يعتبر في هذه الحال شروط الإباحة في ابتداء ألا تراه لو رجع وَهُوَ مُحْرِمٌ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا مُحْرِمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي
: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَاءِ حُرَّةٌ؛ فَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْمُشْرِكُ مَعَ الْإِمَاءِ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَسْلَمَ الْحُرَّةُ دُونَ الْإِمَاءِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ ثَابِتٌ، وَنِكَاحُ الْإِمَاءِ بَاطِلٌ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ مع الحرة وبآخرهن.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُسْلِمَ الْإِمَاءُ دُونَ الْحُرَّةِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ قَدْ بَطَلَ بِتَأَخُّرِهَا وَنِكَاحُ الْإِمَاءِ معتبر باجتماع إسلامهن مع الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ أَمَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ نكاح أمة، وإن كان معسراً يخاف الْعَنَت كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ منهن؛ لأنه يجوز أن يبتديه، فجاز أن يختاره لأنه مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الشِّرْكِ اخْتَارَ حِينَئِذٍ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ سِوَاهَا مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ فَاسْتَأْنَفْنَ عَدَدَ الْفَسْخِ، فَلَوْ صَارَ وَقْتَ اخْتِيَارِهِ مُوسِرًا وَقَدْ كَانَ وَقْتَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ مُعْسِرًا صَحَّ اخْتِيَارُهُ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي اسْتَحَقَّ فِيهِ الِاخْتِيَارَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تُسْلِمَ الْحُرَّةُ وَالْإِمَاءُ جَمِيعًا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْتَمِعَ إِسْلَامُ الْحُرَّةِ وَالْإِمَاءِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ مَعَ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ أَمَةٍ مَعَ وُجُودِ حُرَّةٍ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تُسْلِمَ الْحُرَّةُ قَبْلَ الْإِمَاءِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ ثَابِتٌ، وَنِكَاحُ الْإِمَاءِ بَاطِلٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي إِسْلَامِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ بعد انقضاء عددهم وَقَعَ الْفَسْخُ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ وَتَأَخُّرِهِنَّ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَدِهِنَّ وَقَعَ الْفَسْخُ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ الْحُرَّةُ حِينَ أَسْلَمَتْ مَاتَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ الْإِمَاءُ في عددهن.
قال أبو حامد الإسفراييني: نِكَاحُهُنَّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ قَدِ انْفَسَخَ بِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الصِّحَّةِ بِمَوْتِهَا، وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ موقوفاً يختار واحدة

(9/267)


مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ الْحُرَّةِ مَعَهُ قَبْلَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ يَجْرِي مَجْرَى يَسَارِهِ فِي تَحْرِيمِ الْإِمَاءِ فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ يَسَارَهُ إِلَّا عِنْدَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْتَبِرَ وُجُودَ الْحُرَّةِ إِلَّا عِنْدَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسْلِمَ الْإِمَاءُ قَبْلَ الْحُرَّةِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ عِنْدَ إِسْلَامِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بَطَلَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مَعَ إِسْلَامِهِنَّ وَاسْتَأْنَفْنَ عَدَدَ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَخَافُ الْعَنَتَ كَانَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مُعْتَبَرًا بِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ وَهُوَ فِيهِنَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُنَّ عَلَى حَالِهِنَّ تَرَقُّبًا لِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا اخْتَارَ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ فِي عِدَّتِهَا انْفَسَخَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهَا فَهَذَا أَحَدُ خِيَارَيْهِ.
وَالْخِيَارُ الثَّانِي: أَنْ يُمْسِكَ الزَّوْجُ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً يَتَرَقَّبُ بِهَا إِسْلَامَ الْحُرَّةِ وَيَفْسَخُ نِكَاحَ مَنْ سِوَاهَا مِنَ الْإِمَاءِ؛ ليتعجلن الْفَسْخَ إِذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ انْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ عَدَا الْوَاحِدَةِ مِنْ وَقْتِ فسخهِ، وكان نكاح الواحدة معتبر بِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي عِدَّتِهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ بِاخْتِيَارٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَ الْحُرَّةَ فِي الشِّرْكِ قَبْلَ إِسْلَامِهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهَا وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ، وَانْفَسَخَ بِإِسْلَامِهَا نِكَاحُ الْأَمَةِ فَيَصِيرُ إِسْلَامُهَا وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً مُوجِبًا لِفَسْخِ نِكَاحِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى زَوْجَةٍ، وَالْأَمَةُ لَا يَثْبُتُ اخْتِيَارُ نِكَاحِهَا مَعَ حُرَّةٍ هَذَا جَوَابُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ معتبر بِزَمَانِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ جَازَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْحُرَّةَ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي عِدَّتِهَا فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ فَصِرْنَ عِنْدَ إِسْلَامِهِنَّ لَا حُرَّةَ مَعَهُنَّ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْحُرَّةِ بَعْدَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ فَعَلَى مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا مِنِ اعْتِبَارِ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ بعدة فسواءٌ وَيَنْتَظِرُ إِسْلَامَ البواقي فمن اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ الزَّوْجِ قَبْلَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيهِنَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حُرٍّ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءً لَا حُرَّةَ فِيهِنَّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ، وَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهِنَّ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُسْلِمْنَ مَعَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُسْلِمْنَ قَبْلَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسْلِمْنَ بعده.
والرابع: أن يسلم بعضهن قبله وبعضهم بعده وقد يجيء فيه قسمان آخران:

(9/268)


أحدهما: أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ مَعَهُ وَبَعْضُهُنَّ بعده وَلَكِنْ يَدْخُلُ جَوَابُهُمَا فِي جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فَلَمْ نذكرها اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ، وَيُسْلِمَ مَعَهُ الْإِمَاءُ الْأَرْبَعُ فَيَعْتَبِرَ حاله وقت الإسلام فإن كان موسراً بوجود الطَّوْل انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ بِالْإِسْلَامِ وَاسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ الطَّوْلَ، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحُرَّ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَاتِ مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ لِلْوَاحِدَةِ لَا مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي
: وَهُوَ أَنْ يُسْلِمْنَ قَبْلَهُ ثُمَّ يُسْلِمَ بَعْدَهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ فَيُرَاعِيَ حَالَهُ وَقْت إِسْلَامِهِ لَا وَقْت إِسْلَامِهِنَّ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ باجتماع الإسلامين وذلك إسلامه بَعْدَهُنَّ، فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ بِإِسْلَامِهِ وَاسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلطَّوْلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً وَيَنْفَسِخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي بِاخْتِيَارِهِ فَيَسْتَأْنِفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ
: وَهُوَ أَنْ يُسْلِمْنَ بَعْدَهُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ مُوسِرًا وَاجِدًا لِلطَّوْلِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ مُعْسِرًا عَادِمًا لِلطَّوْلِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُوسِرًا وَعِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ بطل نكاحهن كلهن، وانفسخ نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهَا؛ لأنه وقت اجتماع الإسلامين فتستأنف منه عدة الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً سَوَاءٌ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهَا عَلَيْهِنَّ أَوْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهَا عَنْهُنَّ، فَإِذَا اخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً انْفَسَخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ لِلْوَاحِدَةِ فَاسْتَأْنَفْنَ مِنْهُ عِدَدَ الْفَسْخِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُوسِرًا وَعِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُعْسِرًا بَطَلَ نِكَاحُ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي يَسَارِهِ وَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي إِعْسَارِهِ؛ لِأَنَّ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي يساره لا يجوز أن يستأنف نِكَاحَهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا فَبَطَلَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِهَا، وَالَّتِي أَسْلَمَتْ فِي إِعْسَارِهِ يَجُوزُ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فَجَازَ أَنْ يَخْتَارَهَا فَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ، وَأَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ بَطَلَ نِكَاحُ الأول وَالثَّانِيَةِ وَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إِحْدَاهُمَا فَإِذَا اخْتَارَهَا انْفَسَخَ نكاح الأخرى باختياره، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَأَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ والرابعة بإسلامها، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ، فإذا اختار إحداهما انفسخ حينئذ نِكَاحُ الْأُخْرَى فَلَوْ أَسْلَمَتِ الْأُولَى وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الثَّانِيَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الرَّابِعَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ بَطَلَ نِكَاحُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ بِإِسْلَامِهِمَا، وَكَانَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ إِحْدَاهُمَا، فَإِذَا اخْتَارَهَا انْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُخْرَى مِنْ وَقْتِهِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ
: وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَهُ وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ.

(9/269)


مثاله: أن يسلم قبله اثنتان وبعده اثنتان فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ فَنِكَاحُ الْجَمِيعِ بَاطِلٌ لَكِنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَوَائِلِ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ لَا بِإِسْلَامِهِنَّ قَبْلَهُ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَوَاخِرِ بِإِسْلَامِهِنَّ لَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ قَبْلَهُنَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الناكحين يَنْفَسِخُ بِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ، وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْأَوَائِلِ، فَيَكُونُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْأَوَاخِرِ يَكُونُ بِإِسْلَامِ الْأَوَاخِرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ إِنْ شَاءَ مِنَ الْأَوَائِلِ وَإِنْ شَاءَ مِنَ الْأَوَاخِرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَجُوزُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فَجَازَ أَنْ يَخْتَارَهَا فَإِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ انْفَسَخَ بِاخْتِيَارِهِ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ وَاسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ مُعْسِرًا، وَعِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَاخِرِ مُوسِرًا فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَوَاخِرِ بِإِسْلَامِهِنَّ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْأَوَائِلِ وَاحِدَةً وَيَنْفَسِخُ بِاخْتِيَارِهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ مُعْسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَاخِرِ فَنِكَاحُ الْأَوَائِلِ بَاطِلٌ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْأَوَاخِرِ وَاحِدَةً فَإِنْ أَسْلَمَتَا مَعًا اخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ، وَانْفَسَخَ بِاخْتِيَارِهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى، وَإِنْ أَسْلَمَتْ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَعْجِيلِ اخْتِيَارِ الْأُولَى وَبَيْنَ تَأْخِيرِهِ إِلَى إِسْلَامِ الثَّانِيَةِ، فإذا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الِاخْتِيَارِ إِلَى أَنْ تُسْلِمَ الثَّانِيَةُ فَلَهُ إِذَا أَسْلَمَتْ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ فإذا اختار إحداهما ثبت نكاحهما، وانفسخ به نكاح الأخرى.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعَجِّلَ اخْتِيَارَ الْأُولَى، فَإِذَا اخْتَارَهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَبَطَلَ بِهِ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ نِكَاحُهَا بِاخْتِيَارِ تِلْكَ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ قَدْ أَسْلَمَتْ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِهِ نِكَاحُهَا، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فَإِذَا أَسْلَمَتْ ثَبَتَ عَلَى مَا مضى من عدتها من وقت الِاخْتِيَارِ فِي الشِّرْكِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطَلِّقَ الْأُولَى قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِيَةِ فَيَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لِنِكَاحِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى زَوْجَةٍ فَيَصِيرُ الطَّلَاقُ مُوجِبًا لِلِاخْتِيَارِ وَمُوقِعًا لِلْفُرْقَةِ، وَيَبْطُلُ بِهِ نِكَاحُ الْمُتَأَخِّرَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِغَيْرِهَا.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ الْأُولَى قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِيَةِ فَلَا تَأْثِيرَ لِفَسْخِهِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ يَفْسَخُ نِكَاحَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا، وَقَدْ يجوز أن لا تسلم الثانية فيلزمه إِمْسَاكُ الْأُولَى فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ فَسْخُهُ فِي إنكاحها فَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الثَّانِيَةُ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى وبان فَسْخَ نِكَاحِهَا كَانَ مَرْدُودًا، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الثَّانِيَةُ فَإِنِ اخْتَارَهَا وَفَسَخَ نِكَاحَ الْأُولَى جَازَ وَثَبَتَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُولَى وَإِنِ اخْتَارَ الْأُولَى وَفَسَخَ نِكَاحَ الثَّانِيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فَسْخَ نِكَاحِهَا فِي الْأَوَّلِ لَمَّا لم يؤثر في الحالة فَبَطَلَ أَنْ يَقَعَ حُكْمُهُ.

(9/270)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ لَزِمَهُ فَسْخُهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ اخْتِيَارُهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ غَيْرِهَا فَلَمَّا وَجَدَ غَيْرَهَا صَارَ مُؤَثِّرًا والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَسْلَمَ الْإِمَاءُ مَعَهُ وَعُتِقْنَ وَتَخَلَفَتْ حرةٌ وَقَفَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ فَإِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ انْفَسَخَ نكاح الإماء ولو اختار منهن واحدةٌ ولم تسلم الحرة ثبتت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي حُرٍّ تَزَوَّجَ فِي الشرك أربع زوجات إماء وحرة خَامِسَة ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ الْإِمَاءُ، وَحَالُهُ حال من ينكح الإماء ويقف نِكَاحُ الْإِمَاءِ عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ، فَإِنْ عَتَقَ الْإِمَاءُ قَبْلَ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ فَحُكْمُ نِكَاحِهِنَّ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ، وَإِنْ عَتَقْنَ بَعْدَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِنَّ مَعَ الزَّوْجِ فَإِنَّ حُكْمَهُنَّ حُكْمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَإِنْ صِرْنَ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِحَالِهِنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ولا اعتبار بما حدث بعدها ممن عتقهنَّ، كَمَا يُعْتَبَرُ حَالُ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ دُونَ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، قِيلَ: لَيْسَ لَكَ أَنْ تَخْتَارَ مِنَ الْإِمَاءِ وَإِنْ عَتَقْنَ أَحَدًا مَا كَانَتِ الْحُرَّةُ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا، فَإِنِ اخْتَارَ مِنْهُنَّ واحدة لَمْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهَا فِي الْحَالِ وَرُوعِيَ إِسْلَامُ الْحُرَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مُضِيِّ عِدَّتِهَا، وَمَلَكَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْمُعْتَقَاتِ كُلِّهِنَّ الْمُخْتَارَةُ مِنْهُنَّ وَغَيْرُهَا، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الْحُرَّةُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يختار واحدة من المعتقان وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهَا، وَهَلْ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْمُخْتَارَةِ مِنْهُنَّ بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنِ اخْتَارَ منهن واحدة ولم تسلم الحرة ثبت " فاختلف أصحابنا فيه على وجهين:
أحدهما: ثبت إن استأنف اختيارها، فأما بالاختيار الْأَوَّل فَلَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتِ الِاخْتِيَارُ فِي الْحَالِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى ثَانِي حَالٍ فَبَطَلَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ اخْتِيَارِ تِلْكَ الْأُولَى وَاخْتِيَارِ غَيْرِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَيَكُونُ حُكْمُ الِاخْتِيَارِ مَوْقُوفًا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْخِيَارِ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْخِيَارِ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخِيَارِ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ.
فَإِنْ أَسْلَمَتْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ عُلِمَ أنه يثبت، فلو قال في الاختيار الأول إن تُسْلِمِ الْحُرَّةُ فَقَدِ اخْتَرْتُكُنَّ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الِاخْتِيَارُ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ هَذَا خِيَارٌ مَوْقُوفُ الأصل لا موقوف الحكم، ونحن إما نُجَوِّزُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَقْفَ حُكْمِهِ لَا وقف أصله فتصور فرق بينهما.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ عَتَقْنَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمْنَ كُنَّ كَمَنِ ابتدئ نِكَاحُهُ وَهُنَّ حَرَائِرُ ".

(9/271)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْحُرُّ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ إِمَاءٍ وَحُرَّةٍ خَامِسَةٍ ثُمَّ يُسْلِمِ الزَّوْجُ، وَيَعْتَقُ الْإِمَاءُ فِي الشِّرْكِ، ثُمَّ يُسْلِمْنَ في عددهن فتكون نكاحهن نكاح حرائر، وله أن يقيم على الأربع كلهن؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِهِنَّ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ وَمَا اجْتَمَعَا إِلَّا وَهُنَّ حَرَائِرُ فَلِذَلِكَ صَارَ نِكَاحُهُنَّ نِكَاحَ حَرَائِرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بِالْخِيَارِ عند إسلام المعتقات بين ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَارَ الْأَرْبَعَ فَيَصِحَّ اخْتِيَارُهُنَّ، وَيَنْفَسِخَ بِهِ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْخَامِسَةِ إِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوقَفَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ انْتِظَارًا لِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ الْخَامِسَةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ اخْتَارَ مِنَ الْخَمْسِ أَرْبَعًا، وَفَسَخَ نِكَاحَ الْخَامِسَةِ مِنْ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الْحُرَّةُ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُعْتَقَاتِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْأَرْبَعِ ثَلَاثًا وَيُوقِفَ الرَّابِعَةَ عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ ثَبَتَ نِكَاحُ الرَّابِعَةِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي اختيار أيتهما شاء وفارق الْأُخْرَى.

فَصْلٌ
وَهَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْإِمَاءُ قَبْلَ الزَّوْجِ وَأُعْتِقْنَ ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ عِتْقِهِنَّ، كان نكاحهن نكاح حرائر، ولأن لَمَا جُمِعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ إِلَّا وَهُنَّ حَرَائِرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَالْحُرَّةُ مُتَأَخِّرَةٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنْ لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَمَتَانِ وَأُعْتِقَتَا ثُمَّ أَسْلَمَ الزوج، وأعتق الأمتين المشركتين فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَتَا فَنِكَاحُ هَاتَيْنِ الْمُعْتَقَتَيْنِ فِي الشِّرْكِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الإسفراييني يحل لرقهما عند معتق المسلمين فبطل نكاحهما بالرق لعتق المسلمين، فعلى هذا المذهب يكون نكاح المسلمين بائناً، فَإِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ بَعْدَهَا فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ نكاحها، وصرن ثلاثاً وإن لم يسلم بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَثَبَتَ نِكَاحُ الْمُعْتَقَتَيْنِ فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَاهُ صَحِيحًا، فَنِكَاحُ الْمُعْتَقَتَيْنِ فِي الشِّرْكِ لَا يَبْطُلُ بِعِتْقِ الْمُسْلِمَتَيْنِ، مِنْ قَبْلُ فَإِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَتَانِ بَعْدَ عِتْقِهِمَا فِي عِدَّتِهِمَا صِرْنَ أَرْبَعًا وَفِي الشِّرْكِ حُرَّةٌ خَامِسَةٌ فَيَكُونُ حينئذ مخيراً بين الأمور الثلاثة

مسألة
قال الشافعي: " ولو كَانَ عبدٌ عِنْدَهُ إماءٌ وَحَرَائِرُ مسلماتٌ أَوْ كتابياتٌ وَلَمْ يَخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَمْسَكَ اثْنَتَيْنِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ سِتَّ زَوْجَاتٍ مِنْهُنَّ: أَمَتَانِ وَثَنِيَّتَانِ وَحُرَّتَانِ وَثَنِيَّتَانِ وَحُرَّتَانِ كِتَابِيَّتَانِ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ الْأَمَتَانِ الْوَثَنِيَّتَانِ وَالْحُرَّتَانِ الْوَثَنِيَّتَانِ، وَبَقِيَ الْكِتَابِيَّتَانِ عَلَى دِينِهِمَا، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ السِّتِّ اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَبِيحُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا، وَهُوَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا كَالْحُرِّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ إِلَّا أن الشافعي قال: ولم يختزن فراقه أمسك اثنتين، أما الأمتان فإن أعتقهما فلهما الخيار؛ لأن الأمة إذا أعتقت تحت عبد

(9/272)


فَلَهَا الْخِيَارُ مُسْلِمًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ كَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقَا فَلَا خِيَارَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قد ساوياه فِي نَقْصِهِ بِالرِّقِّ، وَأَمَّا الْحَرَائِرُ فَفِي ثُبُوتِ الخيار لهن بِإِسْلَامِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُنَّ لِعِلْمِهِنَّ بِرِقِّهِ وَرِضَاهُنَّ مَعَ كَمَالِهِنَّ بِنَقْصِهِ، فَلَمْ يَحْدُثْ لَهُنَّ بِالْإِسْلَامِ خِيَارٌ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُؤَكِّدُ النكاح ولا يضعفه، وهذا اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُنَّ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِي الْإِسْلَامِ نَقْصٌ، وَفِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِنَقْصٍ لِإِطْلَاقِ تَصَرُّفِهِ فِي الْكُفْرِ وَثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَنَقْصِ أَحْكَامِهِ فِي طَلَاقِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَحُدُودِهِ، وَعَدَمِ مِلْكِهِ، وَقَهْرِ السَّيِّدِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ الرِّقُّ فِي الْإِسْلَامِ نَقْصًا يَثْبُتُ لِلْحَرَائِرِ مِنْ زَوْجَاتِهِ الْخِيَارُ فِي إِسْلَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُنَّ فِي شِرْكِهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: لِلْحَرَائِرِ الأربعة الْخِيَارُ فَاخْتَرْنَ فَسْخَ نِكَاحِهِ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ، وإن قيل: لا خيار لهن وقيل لَهُنَّ الْخِيَارُ، فَاخْتَرْنَ الْمُقَامَ عَلَى نِكَاحِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ، وَهُنَّ سِتٌّ، اثْنَتَيْنِ مِنْ أَيِّهِنَّ شَاءَ إِمَّا أَنْ يَخْتَارَ الْحُرَّتَيْنِ الْمُسْلِمَتَيْنِ أَوِ الْحُرَّتَيْنِ الْكِتَابِيَّتَيْنِ أَوِ الْأَمَتَيْنِ الْمُسْلِمَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً مِنَ الْأَمَتَيْنِ، وَوَاحِدَةً مِنَ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَمَتَيْنِ وبين أمة وحرة.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ عَتَقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ كَانَ ذلك لهن لأنه لهن بعد إسلامه وعددهن عدد الحرائر فيحصين من حين اخترن فراقه فإن اجتمع إسلامه وإسلامهن في العدة فعددهن عدد حرائر من يوم اخترن فراقه وإلا فعددهن عدد حرائر من يوم أسلم متقدم الإسلام منهما لأن الفسخ من يومئذٍ وإن لم يخترن فراقه ولا المقام معه خيرن إذا اجتمع إسلامه وإسلامهن مَعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَدَخَلَ بِهِنَّ ثُمَّ أَسْلَمْنَ وَعَتَقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَلَهُنَّ أَنْ يخترن فسخ نكاحه بالعتق، وإن كان جَارِيَاتٍ فِي الْفَسْخِ بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ جَارِيَاتٌ فِي فَسْخٍ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَسْتَحِقَ مَعَهُ حُدُوثَ فَسْخٍ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يُنَافِي الْفَسْخَ لِاجْتِمَاعِهِمَا، وَإِنَّمَا يُنَافِي الْمُقَامَ لِتَضَادِّهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ يَسْتَفِدْنَ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ قُصُورَ أَحَدِ العدتين، لأنهن لو انتظرن إسلام الزوج لاستأنف الْعِدَّة بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَإِذَا قَدَّمْنَ الْفَسْخَ تَقَدَّمَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَغْنَى جَرَيَانُهُنَّ فِي الْفَسْخِ بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ عَنْ أَنْ يحدثن فَسْخًا بِحُدُوثِ الْعِتْقِ.
قِيلَ: لَا يُغْنِي؛ لِأَنَّ الفسخ بالإسلام متردد بين إفضائه إِلَى الْفُرْقَةِ إِنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ وَبَيْنَ إفضائه إِلَى ثُبُوتِ النِّكَاحِ إِنْ تَعَجَّلَ وَالْفَسْخُ بِالْعِتْقِ مُفْضٍ إِلَى الْفُرْقَةِ فِي الْحَالَيْنِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَهُنَّ ثَلَاثة أَحْوَالٍ:

(9/273)


أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ فَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَبَانَ أَنَّهُنَّ غير زوجاته مِنْ يَوْمِ أَسْلَمْنَ فَلَمْ يَقَعْ فَسْخُهُنَّ بِالْعِتْقِ، لأنهن قدمن قبله فأول عددهن من وقت إسلامهن، وقد بدأت بالعدة، وَهُنَّ إِمَاءٌ وَأَنْهَيْنَهَا وَهُنَّ حَرَائِرُ، فَهَلْ يَعْتَدِدْنَ عِدَدَ إِمَاءٍ أَوْ عِدَدَ حَرَائِرَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَعْتَدِدْنَ عِدَدَ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَعْتَدِدْنَ عِدَدَ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ وَإِنْ أسلم الزوج في عددهن وبان أن اختلاف الدين لم يؤثر في فسخ نِكَاحِهِنَّ وَإِنَّهُنَّ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ بِالْعِتْقِ وَهُنَّ زَوْجَاتٌ فينفسخ نكاحهن باختيار الفسخ ويتعددن مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ قَوْلًا وَاحِدًا، لأنهن بدأن وَهُنَّ حَرَائِرَ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ
: وَهُوَ أن يختزن الْمُقَامَ عَلَى نِكَاحِهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ أَيْضًا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِيَارِهِنَّ الْمُقَامَ تَأْثِيرٌ، وَفِي عِدَدِهِنَّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عِدَدُ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: عدد حرائر اعتبارا بالانتهاء.
وإن أسلم الزوج فِي عِدَدِهِنَّ بَانَ أَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ وَأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَقَدِ اخْتَرْنَ الْمُقَامَ فِي وَقْتٍ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ فَهَلْ يُؤَثِّرُ حُكْمُهُ بَعْدَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ وَيَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الزَّوْجِ إِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنَ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ مَعَهُ وفي الشِّرْكِ حُرَّةٌ مُنْتَظَرَةٌ فَلَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ اخْتِيَارِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا هل يثبت حكم اختيارهن المقام أم لا على وجهين:
أحدهما: قد يثبت ويبطل بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي وَقْتِهِ فَبَطَلَ، وَلَهُنَّ خِيَارُ الْفَسْخِ بَعْدَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ، فإن اخترن الفسخ استأنف عِدَدَ حَرَائِرَ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يختزنه كُنَّ زَوْجَاتٍ، وَهُنَّ أَرْبَعٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إِلَّا اثنتين فيصير له بالخيار في إمساك اثنتين وفسخ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ يَسْتَأْنِفَانِ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ
: وَهُوَ أَنْ يمسكه عَنِ اخْتِيَارِ فَسْخٍ أَوْ مُقَامٍ فَهُنَّ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ عَلَى حَقِّهِنَّ مِنْ خِيَارِ الْفَسْخِ، لَا يَبْطُلُ بِإِمْسَاكِهِنَّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ كُنَّ يَتَوَقَّعْنَ الْفَسْخَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَلَمْ يُنَافِ وُقُوعَ الْفَسْخِ بِاخْتِيَارٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ خِيَارَهُنَّ قَبْلَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ مَظْنُونٌ، وَبَعْدَ إِسْلَامِهِ مُتَحَقِّقٌ فَجَازَ أَنْ يؤخر به مِنْ وَقْتِ الظَّنِّ إِلَى وَقْتِ الْيَقِينِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ، فإن لم يسلم

(9/274)


حتى انقضت عددهن بان اختلاف الدِّينِ، وَبَطَلَ خِيَارُ الْفَسْخِ بِالْعِتْقِ، وَفِي عِدَدِهِنَّ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عِدَدُ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: عِدَدُ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ فِي عِدَدِهِنَّ فَهُنَّ زَوْجَاتٌ وَلَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدِّينِ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَلَهُنَّ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعِتْقِ، فَإِنِ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ اسْتَأْنَفْنَ فِي وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ، وَإِنِ اخْتَرْنَ الْمُقَامَ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ اثْنَتَيْنِ، وَيَفْسَخَ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ يَسْتَأْنِفَانِ مِنْ وقت الفسخ عدد حرائر.

مسألة
قال الشافعي: " وإن لَمْ يَتَقَدَّمْ إِسْلَامُهُنَّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ لِأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ وَلَا خَيَارَ لَهُنَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَدَخَلَ بِهِنَّ ثُمَّ أَسْلَمَ قبلهن وأعتقهن فِي شِرْكِهِنَّ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَرْنَ فَسْخَ النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَرْنَ الْمُقَامَ عَلَى النِّكَاحِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُمْسَكْنَ فَلَا يَخْتَرْنَ فَسْخًا وَلَا مُقَامًا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُعَجِّلْنَ فِي الشِّرْكِ فَسْخَ النِّكَاحِ فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ، أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ " فَجَمَعَ بَيْنَ اخْتِيَارِ الْفُرْقَةِ، وَاخْتِيَارِ الْمُقَامِ فِي إِبْطَالِ حُكْمِهِمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَدَلَّ الظَّاهِرُ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُنَّ أَنْ يَخْتَرْنَ فَسْخَ النِّكَاحِ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على وجهين، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّ الجواب على ظاهره، وأنهن إذا أعتقن فِي الشِّرْكِ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ حتى يَجْتَمِعَ إِسْلَامُهُنَّ مَعَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُنَّ لَمْ يَقْدِرْنَ عَلَى تَعْجِيلِ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ فَكَانَ لَهُمْ تَعْجِيلُ الْفَسْخِ لِيَسْتَفِدْنَ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ قَدَرْنَ بِتَعْجِيلِ إِسْلَامِهِنَّ عَلَى اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَفِدْنَ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرْنَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَعَلَى هَذَا يكون اختيارهن الفسخ قبل إسلامهن بالطلاق ولهن إذا أسلمن في عددهن يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ أَوِ الْمُقَامَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُنَّ يملكن في الشرك اختيار الفسخ كما ملكته فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُنَّ قَدْ مَلَكْنَ بِالْعِتْقِ اخْتِيَارَ الْفَسْخِ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ وَهُنَّ جَارِيَاتٌ فِي الْفَسْخِ أَوْلَى، وَتَأْخِيرُهُ إِلَى خُرُوجِهِنَّ مِنَ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يُنَافِي الْفَسْخَ وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي رِوَايَتِهِ أَوْ مِنَ الْكَاتِبِ فِي نَقْلِهِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ ذَكَرَ

(9/275)


هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فَقَالَ: وَلَوِ أعْتِقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ فَاخْتَرْنَ الْمُقَامَ مَعَهُ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ، وَلَمْ يَذْكُرْ إِذَا اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ فِيهَا، وَإِنَّمَا غَلِطَ الْمُزَنِيُّ أَوِ الْكَاتِبُ فِي النَّقْلِ فَقَالَ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ، أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ صَحِيحٌ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ اخْتِيَارَ الْفُرْقَةِ وَاخْتِيَارَ الْمُقَامِ ثُمَّ عَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُقَامِ دُونَ الْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَدَّمَ حُكْمَ اخْتِيَارِهِنَّ لِلْفُرْقَةِ وَأَفْرَدَ هَاهُنَا حُكْمَ اخْتِيَارِهِنَّ لِلْمُقَامِ وَمِنْ عَادَةِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَيَعْطِفَ بِالْجَوَابِ المرسل على أحدهما وَيَجْعَلَ جَوَابَ الْأُخْرَى مَحْمُولًا عَلَى مَا عُرِفَ من مذهبه أو تقدم من جوابه، وهذا تَأْوِيلٌ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْإِفْصَاحِ " فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ اخْتِيَارُهُنَّ الْفَسْخَ مُعْتَبَرًا بِإِسْلَامِهِنَّ، فَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِفَسْخِهِنَّ وَيَسْتَأْنِفْنَ عِدَدَ حَرَائِرَ مِنْ وَقْتِ فَسْخِهِنَّ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَبَطَلَ حُكْمُ الْفَسْخِ بِالْعِتْقِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ، وَفِي عِدَدِهِنَّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عِدَدُ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: عِدَدُ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي
: وَهُوَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْمُقَامَ مَعَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ، فَفِي هَذَا الِاخْتِيَارِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَغْوٌ لَا حُكْمَ لَهُ، لِأَنَّهُنَّ جَارِيَاتٌ فِي فَسْخٍ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْمُقَامِ فَبَطَلَ حُكْمُهُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْفَسْخِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هاهنا، فعلى هذا إن أسلمن بَعْدَ عِدَدِهِنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ كَانَ لَهُنَّ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُقَامِ قَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُنَّ فِي الْفَسْخِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَيَكُونُ مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى إِمْضَائِهِ فِي زَمَانِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انقضت عددهن بان بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ سَقَطَ حَقُّهُنَّ مِنِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِيَارِ الْمُقَامِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ
: وَهُوَ أَنْ يُمْسَكْنَ فِي الشِّرْكِ، فَلَا يَخْتَرْنَ بَعْدَ الْعِتْقِ مُقَامًا وَلَا فَسْخًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَهُنَّ إِذَا أَسْلَمْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ، وَلَا يَكُونُ إِمْسَاكُهُنَّ عَنْهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِنَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَوْقُوفٌ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ نَافِذٌ، فَجَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ زَمَانِ الْوَقْفِ إِلَى زَمَانِ النفوذ ووهم بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَجَعَلَ إِمْسَاكَهُنَّ عَنْهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِنَّ منه قال؛ لأن ما تقدم من الشرك هدر والإسلام يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أوجب أن يكون الخيار هدر لأوجب أن يكون النكاح والطلاق هدر، وَلَمَا لَزِمَ فِي الْإِسْلَامِ حُكْمُ عَقْدٍ تَقَدَّمَ فِي الشِّرْكِ وَفِي فَسَادِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لهن الخيار بعد الإسلام فالجواب فيه إِنِ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ أَوِ الْمُقَامَ عَلَى مَا مضى.

(9/276)


مسألة
قال الشافعي: " ولو اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُهُ وَهُنَّ إماءٌ ثُمَّ أُعْتِقْنَ مِنْ سَاعَتِهِنَّ ثُمَّ اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُنَّ إِذَا أَتَى عَلَيْهِنَّ أَقَلُّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَإِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُهُ مجتمعٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ ثُمَّ أُعْتِقَ الْإِمَاءَ فلهن الخيار بالعتق بين المقام أو الفسخ، وَفِي مُدَّةِ خِيَارِهِنَّ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ أصح أنه على الفور معتبر بالإمكان فمتى أمكنهن تعجيل الفسخ، فأخرته بعد المكنة زماناً، وإن قبل بطل خيارهن، لأنه خيار استحقته لِنَقْصِ الزَّوْجِ بِالرِّقِّ عَمَّا حَدَثَ مِنْ كَمَالِهِنَّ بالحرية، فجرى مجرى خيار الرد بالعيوب واستحقاقه على الفور.
والقول الثاني: أنه ممتد الزمان إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَالْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَاقٍ لَهُنَّ، وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِنَّ الزمان ما لم تمكن من أنفسهن أو يصرحن بالرضى اعتباراً بأن ما لا يخالف حالهن في الفسخ فهم بَاقِيَاتٌ عَلَى حُكْمِهِ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ بِثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ حُكِيَ عنه بخلاف فقال: قَطَعَ فِي كِتَابَيْنِ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ مُخْتَلِفٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَصَحَّ أَقَاوِيلِهِ عِنْدَهُ.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: احْتَجَّ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ، بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَإِنْ أَصَابَهَا فَادَّعَتْ أنها كانت على حقها وهذا على ضربين:
أحدهما: أن يدعى الجهالة بالعتق.
والثاني: أن يدعي الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ.
فَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ بِالْعِتْقِ أو قَالَتْ: مَكَّنْتُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَمْ أَعْلَمْ، بِعِتْقِي فَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهَا قُبِلَ قَوْلُهَا، وَإِنْ عُلِمَ كَذِبُهَا رُدَّ قَوْلُهَا، وَإِنْ جُوِّزَ الْأَمْرَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إِنْ كَذَبَتْ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْخِيَارِ، وَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ بِأَنْ قَالَتْ مَكَّنْتُهُ مِنْ نَفْسِي مَعَ الْعِلْمِ بِعِتْقِي، وَلَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِيَ الخيار إذا أعتقت وَأَمْكَنَ مَا قَالَتْ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَعْلِمَ كَمَا لَا خيار في رد العيب إِذَا أَمْسَكَتْ عَنْهُ جَهْلًا بِاسْتِحْقَاقِ رَدِّهِ.
وَالْقَوْلُ الثاني: لها الخيار: ولأنه قد يخفى إلا على خواص النَّاسِ وَلَيْسَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ جَوَابٌ عَلَى احْتِجَاجِ المزني به.
وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ عَارَضَ الشَّافِعِيَّ فِي عِبَارَتِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ: " لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا أثنى عَلَيْهِنَّ أَقَلَّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا " فَأَفْسَدَ هَذِهِ الْعَبَّارَةَ وأحالها من وجهين:

(9/277)


أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ إِنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ لَا يؤجلها أكثر من مقامها، فكم يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا مِنْ حِينِ أُعْتِقَتْ إِلَى أَنْ جَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ، وَقَدْ يَبْعُدُ ذَلِكَ وَيَقْرُبُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اخْتِيَارِ الْفَسْخِ إِلَّا بِكَلَامٍ يَجْمَعُ حُرُوفًا كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ الآخر، وفي هذا إبطال الخيار، وهذا اعتراض مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ للكلام عرفاً إذا تقدر اسْتِعْمَالُ حَقِيقَتِهِ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ وَصَارَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أبي جهم: " لا يضع عصاه على عَاتِقِهِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا أَحَدٌ يُمْكِنُهُ إِلَّا أَنْ يَضَعَ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ فِي أَوْقَاتِ نومه واستراحته لكنه قال ذلك على طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَقَلَّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا بِقَدْرِ زمان المكنة، وَشُرُوطِ الطَّلَبِ، وَيَكُونُ مُرَادُهُ بِأَقَلِّهَا هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُمْكِنُهَا فِيهِ الِاخْتِيَارُ فَيُمْسِكُ فِيهِ عَنِ الِاخْتِيَارِ.
فَأَمَّا مُرَادُ الْمُزَنِيِّ بِكَلَامِهِ هَذَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ عَلَى التَّرَاخِي، فَعَلَى هذا يكون منه اختيار الآخر من قول الشافعي.
والوجه الثاني: أنه أراد به اخْتِيَارَ الْفَسْخِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى حُكْمٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ مَذْهَبًا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ يكون فيما ثبت باجتهاد، وهذا ثابت النص.
والثاني: أنه خيار نقص فجرى خيار الرد بالعيب.

مسألة
قال الشَّافِعِيِّ: " وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِتْقُهُ وَهُنَّ مَعًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بشيء قد قطع في كتابين بأن لها الخيار لو أصابها فادعت الجهالة وقال في موضع آخر: إن على السلطان أن يؤجلها أكثر مقامها فكم يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا مِنْ حِينِ أُعْتِقَتْ إِلَى أَنْ جَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ وَقَدْ يبعد ذلك ويقرب إلى أن يفهم عنها ما تقول ثم إلى انقضاء أجل مقامها ذلك على قدر ما يرى فكيف يبطل خيار إماءٍ يعتقن إِذَا أَتَى عَلَيْهِنَّ أَقَلُّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَإِسْلَامُهُنَّ وإسلام الزوج مجتمعٌ (قال المزني) ولو كان كذلك لما قدرن إذا أعتقن تحت عبدٍ أن يخترن بحالًٍ لأنهن لا يقدرن يخترن إلا بحروفٍ وكل حرفٍ مِنْهَا فِي وقتٍ غَيْرِ وَقْتِ الْآخَرِ وفي ذلك إبطال الخيار ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ ثُمَّ أُعْتِقْنَ وَالزَّوْجُ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.

(9/278)


إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ فَيُعْتِقُهُمْ جَمِيعًا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لِجَمَاعَةٍ فَيُوَكِّلُوا جَمِيعًا وَاحِدًا فَيُعْتِقُهُمُ الْوَكِيلُ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ , وَإِمَّا أَنْ يُعَلِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ سَادَاتِهِمْ عِتْقَ مَنْ يَمْلِكُهُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، قَالَ: إِذَا أَهَلَّ الْمُحَرَّمُ فَأَنْتَ حُرٌّ فَيَكُونُ إِهْلَالُ الْمُحَرَّمِ مُوجِبًا لِعِتْقِ جَمِيعِهِمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَا وَأُعْتِقَ الزَّوْجُ وَهُنَّ مَعًا، فَلَا خِيَارَ لَهُنَّ لِاسْتِوَائِهِنَّ مَعَ الزَّوْجِ فِي حَالِ الرِّقِّ بِالنَّقْصِ وَفِي حَالِ الْكَمَالِ بِالْعِتْقِ، فَلَمْ يُفَضَّلْنَ عَلَيْهِ فِي حَالٍ يَثْبُتُ لَهُنَّ فِيهَا خِيَارٌ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِتْقُهُ وَهُنَّ مَعًا " يَعْنِي في سقوط الخيار على ما علمك في المسألة الأولى فيمن أَمْسَكَتْ عَنِ الْخِيَارِ حَتَّى مَضَى أَقَلُّ أَوْقَاتِ الدنيا إلا أن في ذلك سَقَطَ بَعْدَ أَنْ وَجَبَ وَفِي هَذَا لَمْ يجب.

فصل
فأما إذا أعتق الْإِمَاءُ قَبْلَ الزَّوْجِ، وَلَمْ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ حَتَّى أُعْتِقَ الزَّوْجُ، إِمَّا لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَعْلَمْنَ بِعِتْقِهِنَّ حَتَّى أُعْتِقَ الزَّوْجُ ثُمَّ عَلِمْنَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُنَّ عَلِمْنَ.
وَقِيلَ: إِنَّ خِيَارَهُنَّ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الفور فلم يعجلن الخيار حتى أعتق الزوج وفي خيارهن قولان:
أحدهما: قد سقط السقوط مُوجِبه مِنَ النَّقْصِ وَحُصُولِ التَّكَافُؤِ بِالْعِتْقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ بَاقٍ بِحَالِهِ وَلَهُنَّ الْخِيَارُ بَعْدَ عِتْقِهِ، لِأَنَّ مَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ اسْتُحِقَّ اسْتِيفَاؤُهُ.
مسألة
قال الشافعي: " ولو اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ حُرَّتَيْنِ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ أَسْلَمَتِ اثْنَتَانِ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ إِلَّا اثْنَتَيْنِ مِنْ أَيِّ الْأَرْبَعِ شَاءَ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِعَقْدِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا اثْنَتَانِ وَيَنْكِحُ تَمَامَ أَرْبَعٍ إِنْ شَاءَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ حَرَائِرَ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَأُعْتِقْنَ فَلَهُنَّ إِذَا أَسْلَمْنَ بَعْدَهُ فِي عِدَدِهِنَّ ثلاثة أحوال:
إحداهما: أَنْ يُسْلِمْنَ قَبْلَ عِتْقِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُسْلِمْنَ بَعْدَ عِتْقِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَ عِتْقِهِ، وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَ عِتْقِهِ.
فَإِنْ أَسْلَمْنَ قَبْلَ عتقه وهو عبد ثم أعتق له أن يسمك مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُنَّ أَسْلَمْنَ وَهُوَ عَبْدٌ لَا يَسْتَبِيحُ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ فَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ باجتماع الإسلامين فلم يغيره ما حدث بعده كمن اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ أَمَةٍ، وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْسَرَ أَوْ كَانَ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ، فَإِنَّ حكمه معتبراً باجتماع الإسلامين في يساره وإعساره، ولا تغيره ما حدث بعده من يسار بعد إعسار أَوْ إِعْسَارٍ بَعْدَ يَسَارٍ، كَذَلِكَ هَذَا وَإِنْ أُعْتِقَ الزَّوْجُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ بَعْدَ عِتْقِهِ فَلَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ كُلِّهِنَّ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ حُرٌّ تَحِلُّ لَهُ أَرْبَعٌ فَجَازَ لَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَ عِتْقِهِ وَأَسْلَمَ بِعَضُّهُنَّ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

(9/279)


أحدهما: أن لا يُسْتَكْمَلَ إِسْلَامُ مَنْ يَحِلُّ لَهُ فِي الرِّقِّ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُسْتَكْمَلَ فَإِنِ اسْتُكْمِلَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُسْلِمَ قَبْلَ عِتْقِهِ اثْنَتَانِ وَبَعْدَ عِتْقِهِ اثْنَتَانِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ جَمِيعُهُنَّ قَبْلَ عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ اثْنَتَيْنِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ عِدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ في العبودية، وصار حراً مِنَ الزِّيَادَةِ مَمْنُوعًا فَاسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمَنْعِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْعَدَدَ قَبْلَ عِتْقِهِ بَلْ أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَثَلَاثٌ بَعْدَهُ فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ حُكْمُ التَّعْلِيلِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، حَتَّى بِحُدُوثِ الْحُرِّيَّةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَسْلَمْنَ بَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ مِنْهُنَّ إِلَى بَعْضِ حَقِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُنَّ إِلَّا بَاقِيه وَهوَ وَاحِدَةٌ فَلَا يُمْسِكُ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ ثُمَّ هَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُنَّ عَلَيْهِ ثُمَّ أُعْتِقَ اعْتُبِرَ حَالُ عتقه، فإن أعتق قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَمْسَكَ الْأَرْبَعَ وَإِنْ أُعْتِقَ بَعْدَ إسلامه أمسك اثنتين.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ جَوَّزْنَا له إمساك الربع فَلَا خِيَارَ لَهُ كَمَا لَا خِيَارَ لِلْحُرِّ إذا أسلم مع أربع. وإن منعناه إلا مِنِ اثْنَتَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهُمَا مِنَ الْأَرْبَعِ وَسَوَاءٌ اخْتَارَ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ عِتْقِهِ أو بعده وينفسخ باختيارها نِكَاحُ الْبَاقِينَ وَهَكَذَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ ثبت نكاحهما اختيار الباقين، فإن اخْتَارَ اثْنَتَيْنِ، وَفَسَخَ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ حُرٌّ يَسْتَبِيحُ نِكَاحَ أَرْبَعٍ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا فِي العدة، لأنهما منه.

مسألة
قال الشافعي: " ولو أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَعٌ فَقَالَ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ سُئِلَ فَإِنْ أَرَادَ طَلَاقًا فَهُوَ مَا أَرَادَ وَإِنْ أَرَادَ حِلَّهُ بِلَا طلاقٍ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَأُحْلِفَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا قَالَ لِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ أَسْلَمْنَ مَعَهُ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ سُئِلَ: فَإِنْ أَرَادَ بِالْفَسْخِ لا حسماً له، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ قُبِلَ مِنْهُ؛ لأن الفسخ كتابة فِيهِ، وَهُنَّ زَوْجَاتٌ يَقَعُ عَلَيْهِنَّ الطَّلَاقُ، وَيَكُونُ إِيقَاعُهُ لِلطَّلَاقِ عَلَيْهِنَّ تَحْقِيقًا لِثُبُوتِ نِكَاحِهِنَّ، فَإِنْ أَكْذَبْنَهُ فِي إِرَادَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْفَسْخِ حَلَّ النِّكَاحِ وَرَفْعَ الْعِقْدِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، كَمَا يُفْسَخُ نِكَاحُ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَهُنَّ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ يَقَعُ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا، وَيَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهُنَّ، فإن أكذبنه وقلن: أراد بالفسخ الطلاق أحلف بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ، فَإِنْ نَكَلَ حُلِّفْنَ وَطُلِّقْنَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْفَسْخِ طَلَاقَ اثْنَتَيْنِ وَحَلَّ نِكَاحِ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ الطَّلَاقُ على من أرادهما بالفسخ ولهما إحلافه وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاحِدًا، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِيهِنَّ بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ كُنَّ خَمْسًا فَأَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فِي الْعِدَّةِ فَقَالَ قَدِ اخْتَرْتُ حَبْسَهَا حَتَّى قَالَ ذَلِكَ لِأَرْبَعٍ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ بِاخْتِيَارِهِ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ المشرك بأكثر من أربع كأنه تَزَوَّجَ ثَمَانِيَ زَوْجَاتٍ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ذكرناها:

(9/280)


أَحَدُهَا: أَنَّ الْخِيَارَ لِلْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ فَيَنْفَسِخُ بِاخْتِيَارِهِ لَهُنَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُشْرِكَاتِ سَوَاءٌ أَسْلَمْنَ فِي عددهن أم لا؟ وهذا لَوْ فَسَخَ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ الْمُتَأَخِّرَاتِ كَانَ اخْتِيَارَ النكاح الأربع المسلمات؛ لأن الاختيار والفسخ يتقابلا فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ عَلَى الْآخَرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُمْسِكَ عَنِ اخْتِيَارِ الْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ انْتِظَارًا لِإِسْلَامِ الْأَرْبَعِ الْمُشْرِكَاتِ فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى مَضَتْ عِدَدُهُنَّ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَاتِ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ كَانَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ إِمَّا الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَاتِ وَإِمَّا الْأَرْبَعِ الْمُتَأَخِّرَاتِ، وَإِمَّا عَلَى بَعْضِ الْمُتَقَدِّمَاتِ، وَيَسْتَكْمِلُ أَرْبَعًا مِنَ الْمُتَأَخِّرَاتِ، فَلَوْ مَاتَ الْأَرْبَعُ الْمُتَقَدِّمَاتُ ثم أسلم الأربع المتأخرات كان خياره باق فِي الْمَوْتَى كَبَقَائِهِ فِي الْأَحْيَاءِ، لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ لَهُنَّ إِبَانَةٌ عَنْ تَقَدُّمِ نِكَاحِهِنَّ فَإِنِ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ الْمَوْتَى انْفَسَخَ نِكَاحُ الْأَحْيَاءِ، وَكَانَ لَهُ الميراث من الموتى ومتن في زوجيته، وَإِنِ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ الْأَحْيَاءَ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ وَبَانَ به فسخ نكاح الأربع الموتى، وإنهن مُتْنَ أَجْنَبِيَّاتٍ فَلَمْ يَرِثْهُنَّ، وَإِنِ اخْتَارَ بَعْضَ الأحياء وبعض الموتى فعلى مَضَى.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَارَ الزَّوْجُ عِنْدَ إِسْلَامِ الأربع معه بعضهن وينتظر إسلام الباقيات كأنه اخْتَارَ مِنَ الْأَرْبَعِ اثْنَتَيْنِ وَتَوَقَّفَ عَنِ الِاثْنَتَيْنِ الباقيتين انتظارا لإسلام الأربع المختارات فثبت نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ الْمُخْتَارَتَيْنِ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْأَرْبَعُ الْمُتَأَخِّرَاتُ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْجَمِيعِ وَهُنَّ ست اثْنَتَيْنِ تَمَامَ أَرْبَعٍ مِنْ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَاتِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ أَسْلَمَ مَعَهُ من الثماني وَاحِدَةٌ قَدِ اخْتَرْتُهَا، ثُمَّ تُسْلِمُ ثَانِيَةٌ فَيَقُولُ: قَدِ اخْتَرْتُهَا، ثُمَّ تُسْلِمُ ثَالِثَةٌ فَيَخْتَارُهَا ثُمَّ تُسْلِمُ رَابِعَةٌ فَيَخْتَارُهَا فَقَدْ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ لِاخْتِيَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ إِسْلَامِهَا وَانْفَسَخَ به نكاح الأربع المتأخرات ثم تراعي أحوالهن، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالِاخْتِيَارِ واستأنفن العدة من وقت اختياره الرابعة لأن باختيارها ممن سِوَاهَا، فَلَا يَكُونُ الْفَسْخُ طَلَاقًا سَوَاءٌ وَقَعَ باختلاف الدينين أو بالاختيار.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ وَقَعَ الْفَسْخُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجَةِ، وَتَأَخَّرَ الزَّوْجُ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ وَقَعَ الْفَسْخُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا كَسَائِرِ الْفُسُوخِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقًا فَإِنِ اخْتَارَ إِمْسَاكَ أَرْبَعٍ فَقَدِ انْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ زَادَ عَلَيْهِنَّ (قال المزني) رحمه الله القياس عندي على قوله أنه إذا أسلم وعنده أكثر من أربع وأسلمن معه فقذف واحدةً منهن أو ظاهر أو آلى كان ذلك موقوفاً فإن اختارها كان عليه فيها ما عليه في الزوجات وإن فسخ نكاحها سقط عنه الظهار والأيلاء وجلد بقذفها ".

(9/281)


قال الماوردي: وصورتها في مشرك تزوج بثماني زَوْجَاتٍ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَهُنَّ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ لِنِسَائِهِ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ مِنْكُنَّ فَقَدِ اخْتَرْتُ إِمْسَاكَهَا فَهَذَا لَا يَصِحُّ لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اخْتِيَارٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، وَالِاخْتِيَارُ لِلنِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِصِفَةٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ اخْتِيَارٌ لِمُبْهَمَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَالِاخْتِيَارُ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِمُعَيَّنَةٍ كَالنِّكَاحِ.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ لَهُنَّ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ، فَقَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا، فَهَذَا لَا يَصِحُّ لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فسخ معلق بصفة لا يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْفَسْخِ بِالصِّفَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَسْخٌ قَبْلَ وَقْتِ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ فَسْخُ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يُسْلِمَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ، فَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ فَسْخُ نِكَاحِهِنَّ.
وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ لَهُنَّ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدْ طَلَّقْتُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بصفة، فَإِذَا أَسْلَمَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ طُلِّقْنَ وَكَانَ ذَلِكَ اختياراً لهن؛ لأن الطلاق لا يقع عَلَى زَوْجَةٍ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَاتِ؛ لِأَنَّ الطلاق في المتقدمات قد يتضمن اخْتِيَارَهُنَّ فَصَارَ فَسْخًا لِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَالَ: " وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أن يريد به طلاقها فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدْ طَلَّقْتُهَا صَحَّ طَلَاقُهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَسْخِ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيقُهُ بِصِفَةٍ، وبين الطلاق في أن جَوَازَ تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ أَنَّ الْفَسْخَ مَوْضُوعٌ لِتَمْيِيزِ الزَّوْجَةِ عَنِ الزَّوْجَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ الْمَقْصُودِ فِيهِ وَالطَّلَاقُ حَلَّ لِنِكَاحِ الزوجة فجاز تعلقه بِالصِّفَةِ لِوُجُودِ حِلِّ النِّكَاحِ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وطائفة معه: أن قوله للثماني الْمُشْرِكَاتِ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَهِيَ طَالِقٌ، لَا يصح؛ لأن الطلاق وإن جاز تعلقه بالصفة فهذا الطلاق هاهنا لا يجوز تعليق بِالصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارًا أَوْ فِرَاقًا، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الِاخْتِيَارِ بِالصِّفَةِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ الَّذِي قَدْ تَضَمَّنَ اخْتِيَارَ الصِّفَةِ ويتأول قائل هذا الوجه كلام الشافعي هاهنا بِتَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقَهَا " فَيَصِحُّ ويقع الطلاق إذا كان زَوْجَاتُهُ فِي الشِّرْكِ أَرْبَعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهَا فَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِذَا أَسْلَمَتْ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مَحْضٌ لَا يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارًا فَجَازَ تعليقه بالصفة.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةٌ عَنْ حَالِ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ مِنْ لَفْظِ الزَّوْجِ،

(9/282)


وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: " كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ " أَنَّ الزَّوْجَ قَالَ عِنْدَ إِسْلَامِ كُلِّ وَاحِدَةٍ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا يُرِيدُ الطَّلَاقَ طُلِّقَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اخْتَارَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ صَحَّ فَصَحَّ أَنْ يطلقها فعلى هذا لو أسلم معه الثماني كُلُّهُنَّ فَقَالَ لَهُنَّ: أَيَّتُكُنَّ دَخَلَتِ الدَّارَ فَقَدْ فسخت نكاحها؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ بِصِفَةٍ، وَلَوْ قَالَ: أَيَّتُكُنَّ دَخَلَتِ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ، كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارًا بِصِفَةٍ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا دَخَلَهَا أَرْبَعٌ طُلِّقْنَ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ، فَيَصِيرُ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: اخْتِيَارُ الْمُطَلَّقَاتِ.
وَالثَّانِي: فِرَاقُهُنَّ.
وَالثَّالِثُ: فَسْخُ نِكَاحِ من عداهن، فعلى هذا لو دخل الثماني الدَّارَ كُلُّهُنَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ بعضهن بعضاً، ووقع الطَّلَاقُ عَلَى الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَتَضَمَّنُ الِاخْتِيَارَ.
وَقِيلَ لَهُ: اخْتَرْ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ فَإِذَا اخْتَارَهُنَّ تَعَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِنَّ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ والله أعلم.

مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَالَ لَا أَخْتَارُ حُبِسَ حَتَّى يَخْتَارَ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ مانعٌ لَهُنَّ بعقدٍ متقدمٍ وَلَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ كَمَا يُطَلِّقُ عَلَى الْمُولِي فَإِنِ امْتَنَعَ مَعَ الْحَبْسِ عُزِّرَ وحبس حتى يحتار وإن مات أمرناهن أن يعتددن الآخر مِنْ أَرْبَعَةِ أشهرٍ وعشرٍ أَوْ مِنْ ثَلَاثِ حيضٍ وَيُوقَفُ لَهُنَّ الْمِيرَاثُ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُشْرِكٍ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ ثَمَانِي زَوْجَاتٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا لِئَلَّا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ ثَمَانٍ، فَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الِاخْتِيَارِ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْ تَوَقُّفِهِ وأمره بتعجيل اختياره؛ لأن لا يستديم ما حظره الشرع في الْجَمْعِ، فَإِنْ سَأَلَ إِنْظَارَهُ لِيُفَكِّرَ فِي اخْتِيَارِهِ وَيَرْتَئِيَ فِي أَحَظِّهِنَّ لَهُ أَنْظَرَهُ مَا قَلَّ مَنِ الزَّمَانِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ فِكْرُهُ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِإِنْظَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْإِنْظَارِ لِلْمُولِي وَالْمُرْتَدِّ فَإِذَا اخْتَارَ بَعْدَ الْإِنْظَارِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يختار أربعاً فيكون اختياره لهن فسخاً لمن عَدَاهُنَّ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ أَرْبَعٍ فَيَكُونُ فَسْخُهُ اخْتِيَارًا لِنِكَاحِ مَنْ عَدَاهُنَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِيَاتُ بَعْدَ فَسْخِ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ كَأَنَّهُنَّ عَشْرٌ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ فَسْخِ الْأَرْبَعِ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ السِّتِّ أَرْبَعًا، أَوْ يفسخ منهن نكاح اثنين فَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ، وَاخْتِيَارُهُ وَفَسْخُهُ بِالْقَوْلِ، فَاخْتِيَارُهُ قَوْلًا أَنْ يَقُولَ: قَدِ اخْتَرْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ قد اخترت إمساكها، أو قد اخترت جنسها فإن قال: قد أخرتها صَحَّ، فَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ أَمْسَكْتُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِغَيْلَانَ: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا " وَإِنْ قَالَ: قَدْ حَبَسْتُهَا لم يصح اختياره لِاحْتِمَالِهِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ بِهِ، وَإِنْ قال: قد ردتها لَمْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ

(9/283)


رَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا أَوْ رَدَّهَا إِلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ أَرَادَ بِهِ الِاخْتِيَارَ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ النِّكَاحِ الَّذِي لَا يصح إلا بالتصريح دون الكناية.
وفسخه قولان: أَنْ يَقُولَ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا أَوْ قَدْ رَفَعْتُ نِكَاحَهَا أَوْ قَدْ أَنْزَلْتُ نِكَاحَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ فَسْخٌ صَرِيحٌ، لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُشْتَرَكَةُ الْمَعَانِي، وَلَوْ قَالَ قَدْ صَرَفْتُهَا أَوْ أَبْعَدْتُهَا كَانَ كِنَايَةً يَرْجِعُ إِلَى إِرَادَتِهِ فِيهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْفَسْخَ صَحَّ، لِأَنَّ الْفَسْخَ يَجْرِي مَجْرَى الطلاق الذي صح بالتصريح وَبِالْكِنَايَةِ، فَلَوْ قَالَ قَدْ حَرَّمْتُهَا كَانَ كِنَايَةً يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَيَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ اخْتِيَارًا وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْفَسْخَ كَانَ فَسْخًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَهَلْ يَكُونُ فَسْخًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فَسْخًا، لِأَنَّ الْمَفْسُوخَ نِكَاحُهَا مُحَرَّمَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ فَسْخًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ نِيَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ بَعْدَ الْفَسْخِ فَاقْتَضَى أَنْ يَتَقَدَّمَهُ مَا يَقَعُ بِهِ الْفَسْخُ، فَلَوْ قَالَ: قَدْ فَارَقْتُهَا كَانَ فَسْخًا وَلَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا كَانَ اخْتِيَارًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَا صَرِيحَيْنِ فِي طَلَاقِ الزَّوْجَاتِ، أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يقع إلا على زوجةٍ فلذلك جعلنه اختياراً، والفراق قد يقع على زوجته فيكون طلاقاً، وعلى غير زوجته: فَيَكُونُ إِبْعَادًا فَلِذَلِكَ جُعِلَ فَسْخًا، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْفِرَاقِ الطَّلَاقَ قُبِلَ مِنْهُ وَصَارَ اخْتِيَارًا وَطَلَاقًا وَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ بِالطَّلَاقِ الْفَسْخَ لَمْ يقبل منه، لأن الطلاق لا يصح إلا على زوجته، والفسخ لا يكون هاهنا إلا بغير زوجته، فَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ سَرَّحْتُهَا كَانَ كَالْفِرَاقِ فَسْخًا؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَعْنَاهُ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطلاق صار اختيار كَالْفِرَاقِ، فَأَمَّا إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ آلَى لم تكن اخْتِيَارًا وَلَا فَسْخًا؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ قَدْ تُخَاطَبُ بِهِ الزَّوْجَةُ وَغَيْرُ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يستقر حكمها إلا في زوجته، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظِّهَارُ فِي الْحَالِ اخْتِيَارًا وَلَا فَسْخًا نَظَرَ فِي الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا وَآلَى فَإِنِ اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهَا سَقَطَ حُكْمُ ظهاره وإيلائه، وَإِنِ اخْتَارَ جِنْسَ نِكَاحِهَا ثَبَتَ ظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ منها؛ لأنها كانت زوجته وَقْتَ ظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ من الثماني الْمَوْقُوفَاتِ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَفَسْخِهِ أَرْبَعًا، فَهَلْ يَكُونُ وطؤه اخْتِيَارًا لَهُنَّ كَمَا يَكُونُ وَطْءُ الْبَائِعِ لِلْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ اخْتِيَارًا لِفَسْخِ الْبَيْعِ؟ فَعَلَى هَذَا قَدْ ثَبَتَ بِوَطْئِهِنَّ اخْتِيَارُ نِكَاحِهِنَّ وَانْفَسَخَ بِهِ نِكَاحُ مَنْ عَدَاهُنَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ اخْتِيَارًا، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ لَا يُعْقَدُ إِلَّا بالقول دون الفعل، كذلك الِاخْتِيَارُ وَخَالَفَ الْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ اسْتِفَادَةُ ملك والأملاك قد تستفاد بالملك كَالسَّبْيِ، وَبِالْقَوْلِ كَالْبَيْعِ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَفَادَ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى خِيَارِهِ فِي اخْتِيَارِهِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمَوْطُوءَاتِ وَغَيْرِهِنَّ فَإِنِ اخْتَارَ إِمْسَاكَ الْمَوْطُوءَاتِ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ، وَكَانَتْ إِصَابَتُهُ لَهُنَّ إِصَابَةً فِي زَوْجِيَّةٍ فَلَا يَجِبُ بِهَا لَهُنَّ مَهْرٌ، وَلَا

(9/284)


يَجِبُ بِهَا عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ، وَإِنِ اخْتَارَ إِمْسَاكَ غَيْرِ الْمَوْطُوءَاتِ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ بِالِاخْتِيَارِ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْمَوْطُوءَاتِ، وَكَانَتْ إِصَابَتُهُ لَهُنَّ إِصَابَةَ شُبْهَةٍ لِأَجْنَبِيَّاتٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ، وَعَلَيْهِ لَهُنَّ مُهُورُ أَمْثَالِهِنَّ، وَعَلَيْهِنَّ الْعِدَّةُ، وَتَكُونُ عِدَّةُ الْفَسْخِ وَالْإِصَابَةِ مَعًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ الْفَسْخُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْوَطْءِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ ما وصنفاه مِنْ حُكْمِ اخْتِيَارِهِ وَفَسْخِهِ فَأَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ منهما، فلم يختر ولو يَفْسَخْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ تَأْدِيبًا لِمُقَامِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ وَلِإِضْرَارِهِ بِمَوْقُوفَاتٍ عَلَى اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ بَعْدَ حَبْسِهِ عَزَّرَهُ ضَرْبًا بَعْدَ أَنْ عَزَّرَهُ حَبْسًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ أَوْ يَفْسَخَ، وَإِنْ جَازَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى الْمُولِي إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاخْتِيَارَ كَالْعَقْدِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ جَبْرًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهِ جَبْرًا، وَالطَّلَاقُ كَالْفَسْخِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُفْسَخَ عَلَيْهِ جَبْرًا فَجَازَ أَنْ يُطَلَّقَ عَلَيْهِ جَبْرًا.
وَالثَّانِي: أن الطلاق في الإيلاء معين لا يقف على الشهود فَجَازَ إِيقَاعُهُ عَلَيْهِ جَبْرًا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا أُطِيلُ حَبْسُهُ وَتَعْزِيرُهُ حَتَّى يُجِيبَ إِلَى الِاخْتِيَارِ وَالْفَسْخِ بِنَفْسِهِ.
فَصْلٌ
ثُمَّ لَهُنَّ فِي زَمَانِ حَبْسِهِ وَوَقْفِهِنَّ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَفَسْخِهِ النَّفَقَةُ، وَالسُّكْنَى، لِأَنَّهُنَّ مَوْقُوفَاتٌ عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ سَابِقٍ فَكَانَ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِنَّ أَنْ يُجْرِينَ مَجْرَى الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَهَا، فَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ سَقَطَتْ نَفَقَاتُهُنَّ لِزَوَالِ مَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ مِنْ وَقْتِ نِكَاحِهِنَّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لا يصح فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوقِعَهُ الْحَاكِمُ جبراً، وتعلق بِمَوْتِهِ فَصْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْعِدَّةِ.
وَالثَّانِي: فِي الميراث.
فأما العدة ففيها أربع زوجات يلزمهن الْوَفَاةِ وَفِيهِنَّ أَرْبَعٌ مُفَارَقَاتٌ يَلْزَمُهُنَّ عِدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ من وطء ليس يتميز الزوجات عن غَيْرِهِنَّ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُنَّ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
إِمَّا أَنْ يَكُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَإِنْ كُنَّ حَوَامِلَ اعْتَدَدْنَ بِوَضْعِهِ، وَقَدِ اسْتَوَتْ فِيهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَعِدَّةُ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَعِدَّةُ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فَتَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِأَطْوَلِ الْعِدَّتَيْنِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَإِنْ كُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَعِدَّةُ الْوَفَاةِ فِيهِنَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَعِدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، فَتَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَوْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ لِتَكُونَ مُسْتَبْرِئَةً لِنَفْسِهَا بِيَقِينٍ، فَإِنْ مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا اسْتَكْمَلَتْ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً، أَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أشهر وعشراً، قبل أقراء استكملت ثلاثة أقراء لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُسْتَبْرَأَةً مِنْ غَيْرِ زَوْجِيَّةٍ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَيُوقَفُ لَهُنَّ إِنْ لَمْ يحجبن الربع، وإن حجبن الثمن؛ لأن فيهن

(9/285)


أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ وَارِثَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنَّ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى صُلْحِهِنَّ، فَإِنِ اصْطَلَحْنَ عَلَيْهِ مُتَسَاوِيَاتٍ، أَوْ مُتَفَاضِلَاتٍ، أَوْ عَلَى تَعْيِينِ، أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ يقتسمنه، وتحرم الباقيات جاز أن لا يَكُونَ فِيهِنَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ "؛ فَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا بِأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ مِيرَاثِ زوجته وهو ثمن الْمَوْقُوفِ لَهُنَّ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُمُنٍ؛ لِأَنَّهُنَّ لَمَّا كُنَّ ثَمَانِيًا مُتَسَاوِيَاتِ الْأَحْوَالِ كَانَ الظَّاهِرُ من وقف ذلك عليهن يساويهن فِيهِ وَأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثمن الوقف، فلم يجوز أَنْ يُصَالِحَ الْوَلِيُّ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مُقْتَضَى الْوَقْفِ فَلَوْ كَانَ وَقْفُ مِيرَاثِهِنَّ عَلَى حَالِهِ فَجَاءَتْ وَاحِدَةٌ تَطْلُبُ مِنَ الْمَوْقُوفِ شَيْئًا لَمْ تُعْطَ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ، أَوْ أَرْبَعٌ؛ لجواز أن يكن الأربع كلهن أجانب والباقيات زَوْجَاتٍ، فَإِنْ جَاءَ مِنْهُنَّ خَمْسٌ تَحَقَّقْنَا حِينَئِذٍ أن منهن زوجته فدفعنا إليهن إذا طلبن بعين مالهن، وَهُوَ رُبُعُ الْمَوْقُوفِ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُمُنٍ، يُدْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ بِشَرْطِ الرِّضَى بِهِ عَنْ حَقِّهِنَّ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ إلا على شرط الرضى بِهِ عَنْ حَقِّهِنَّ، وَإِلَّا مُنِعْنَ مِنْهُ حَتَّى يَتَرَاضَى جَمِيعُهُنَّ، فَعَلَى هَذَا إِذَا دُفِعَ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَجَبَ دَفْعُ الْبَاقِي من الميراث الموقوف، وهو ثلاثة أَرْبَاعِهِ إِلَّا الثَّلَاثَ الْبَاقِيَاتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ فِي الدَّفْعِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَاقِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مِيرَاثِهِنَّ مَوْقُوفًا عَلَى جَمِيعِهِنَّ، وَلَا يَدْفَعُ إِلَى الثَّلَاثِ الْبَاقِيَاتِ وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بَعْضُهُنَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَى جَمِيعِهِنَّ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ وَاصْطِلَاحٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُطَالَبَاتُ مِنْهُنَّ سِتًّا دَفَعَ إِلَيْهِنَّ نصف الموقوف من ميراثهن، ولأن فِيهِنَّ زَوْجَتَيْنِ، وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِنَّ سَبْعٌ دَفَعَ إِلَيْهِنَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّ فِيهِنَّ ثَلَاثَ زَوْجَاتٍ، وَكَانَ الرُّبُعُ الْبَاقِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الثَّمَانُ كُلُّهُنَّ يَطْلُبْنَ دَفَعَ إِلَيْهِنَّ جَمِيعَ مِيرَاثِهِنَّ لِأَنَّهُ موقوف عليهن، وليس فيه حق لهن.

فصل
وإذا أسلم المشرك عن ثمان زَوْجَاتٍ مُشْرِكَاتٍ: أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ وَثَنِيَّاتٌ أَسْلَمْنَ مَعَهُ وَأَرْبَعٌ كِتَابِيَّاتٍ بَقِينَ عَلَى دِينِهِنَّ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ إِمْسَاكَ الْأَرْبَعِ الْكِتَابِيَّاتِ فَإِنْ مات عنهن لم ترثنه وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ بَعْضَ الْمُسْلِمَاتِ، وَبَعْضَ الْكِتَابِيَّاتِ فَإِنْ مَاتَ وَرِثَهُ الْمُسْلِمَاتُ دُونَ الْكِتَابِيَّاتِ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ اخْتِيَارِ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُوقَفُ مِيرَاثُهُنَّ مِنْ تَرِكَتِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي القاسم الداركي لا توقف لَهُنَّ شَيْئًا، لِأَنَّنَا نُوقِفُ مَا تَحَقَّقْنَا اسْتِحْقَاقَهُ، وَجَهِلْنَا مُسْتَحَقَّهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَاتُ منهن الذميات، فلا يرثن فلذلك لم نوقف مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُوقَفُ مِيرَاثُ الزَّوْجَاتِ، لأن لباقي الورثة لا يجوز أن ندفع إليهم إلا

(9/286)


مَا تَحَقَّقْنَا اسْتِحْقَاقَهُمْ لَهُ، فَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مشكوكاً فيه، وقد يجوز أن يكون زَوْجَاتُهُ مِنْهُنَّ الْمُسْلِمَاتُ فَلَا يَكُونُ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ من مِيرَاثِهِنَّ حُقٌّ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقُوفًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي: " ولو أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ وثنيةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا فَالنِّكَاحُ مفسوخٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنَّ النِّكَاحَ موقوفٌ كَمَا جعل نكاح من لم تسلم مَوْقُوفًا فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ عُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَزَلِ امْرَأَتَهُ وَإِنِ انْقَضَتْ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا امْرَأَةَ لَهُ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُ عَقَدَهُنَّ وَلَا امْرَأَةَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَسْلَمَ المشرك عن زوجة وثنية هي جَارِيَةٌ فِي عِدَّتِهَا فِي الشِّرْكِ فَنَكَحَ أُخْتَهَا، أَوْ خَالَتَهَا، أَوْ عَمَّتَهَا، أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا كَانَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِ الْوَثَنِيَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَطَلَ عَقْدُهُ عَلَى أُخْتِهَا وَعَلَى أَرْبَعٍ سِوَاهَا لِعِلْمِنَا أَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَّتْ عدتها صح عقد عَلَى أُخْتِهَا وَعَلَى أَرْبَعٍ سِوَاهَا لِعِلْمِنَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً.
قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّةِ مَوْقُوفًا جَازَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ أُخْتِهَا مَوْقُوفًا وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إِذَا لَمْ يَقَعْ نَاجِزًا لَمْ يَقَعْ مَوْقُوفًا، وكان باطلاً والعقد على أخت زوجته الوثنية لَيْسَ بِنِكَاحٍ فَبَطَلَ، وَلَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا أَلَّا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ مُرْتَدَّةً لِيَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِهَا لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ نَاجِزًا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَكَحَ أُخْتَ زَوْجَتِهِ الْمُرْتَدَّةِ كَانَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِهَا كَذَلِكَ إِذَا نَكَحَ أُخْتَ زَوْجَتِهِ الْوَثَنِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ نَكَحَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَكَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا كَنِكَاحِ الْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِوَقْفِ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ حِلَّ النِّكَاحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا وَعَقْدَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا لوقوع الفرق بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَاسْتَدَامَتِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ مُحَرَّمَةً أَوْ مُعْتَدَّةً بَطَلَ نِكَاحُهَا لِوُجُودِ المنع في ابْتِدَائِهِ، وَلَوْ طَرَأَتِ الْعِدَّةُ أَوِ الْإِحْرَامُ عَلَيْهَا بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ يَمْنَعْ مَنِ اسْتَدَامَتِهِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ الزَّوْجِ فَنَكَحَ الزَّوْجُ فِي الشِّرْكِ أُخْتَهَا أَوْ خَالَتَهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْتُ الْمُسْلِمَةُ فِي الْعِدَّةِ، لأن مناكح الشريك مَعْفُوٌّ عَنْهَا، فَإِنْ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتْ مَعَهُ الْمَنْكُوحَةُ فِي الشِّرْكِ، وَأُخْتُهَا بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ صَارَ كَالْمُشْرِكِ، إِذَا أَسْلَمَ مَعَ أُخْتَيْنِ فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي إِمْسَاكِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ يُمْسِكُ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْمُتَأَخِّرَةِ، لِأَنَّ نِكَاحَهَا ثَبَتَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ نِكَاحِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٌ، لِأَنَّ نِكَاحَ الزَّوْجِ لَهُمَا مَعًا فِي الشِّرْكِ فَصَارَ حُكْمُ نِكَاحِهِ لِلثَّانِيَةِ بَعْدَ إِسْلَامِ الْأُولَى كَحُكْمِ نِكَاحِهِ لَهَا مَعَ شِرْكِ الْأُولَى اعْتِبَارًا بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ غيرها - والله أعلم -.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ أو لم يسلم حتى انقضت فلها نفقة العدة في الوجهين جميعاً لِأَنَّهَا محبوسةٌ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ أَنْ يُسْلِمَ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ".

(9/287)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي زَوْجَيْنِ مُشْرِكَيْنِ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ أَوْ تَأَخَّرَ لِمَعْنَيَيْنِ:
أحدهما: أن الإسلام فرض مضيق الوقت فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنَّ مُنِعَ مِنَ الاستمتاع كالصلاة والصيام المفروضين.
والثاني: أن إسلامها الْمَانِعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ بِإِسْلَامِهِ فِي عِدَّتِهَا، فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ نَفَقَتُهَا كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ قَوْلًا آخَرَ إِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا مَنَعَتْهُ نَفْسَهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَسْقُطَ بِهِ نَفَقَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ طَائِعَةً كَالْحَجِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ إِنْ حَكَاهُ نَقْلًا فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ تَخْرِيجًا فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْحَجَّ مُوَسَّعُ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَالْإِسْلَامُ مُضَيَّقُ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَصَارَتْ بِالْإِسْلَامِ فَاعِلَةً مَا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ وَبِالْحَجِّ فَاعِلَةً مَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَهَا بِالْحَجِّ لَا يُمْكِنُهُ تَلَافِيهِ وتحريمها بالإسلام يمكنه تلافيه.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ لَمْ يَكُنْ لَهَا نفقةٌ في أيام كفرها لأنها المانعة لنفسها مِنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُسْلِمَ الزَّوْجُ قبلها، فإن تأخر إسلامهما حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا بالتأخر عَنِ الْإِسْلَامِ كَالْمُرْتَدَّةِ وَالنَّاشِزِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْمَنْعُ من جهته لا من جهتها، فهلا كانت لها النفقة كما لو رجع.
قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ أن يَلْتَزِمُ لِهَذَا التَّعْلِيلِ قَوْلًا آخَرَ إِنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِمَّا نَقْلًا وَإِمَّا تَخْرِيجًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فَرْضٌ مُضَيَّقُ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْحَجِّ ثُمَّ هُوَ مَنْعٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَلَافِيهِ فلم يمنع كونه من جهته أن يسقط بِهِ النَّفَقَةَ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا بَعْدَ إِسْلَامِهَا لِاسْتِقْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَوْدِ الْإِبَاحَةِ وَهَلْ لَهَا نَفَقَةُ المدة الباقية فِي شِرْكِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - لَهَا النَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا كانت زوجة فيما لم يزل، وبناء على قوله، وَبِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتُسْتَحَقُّ بِالتَّمْكِينِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - لَا نَفَقَةَ لَهَا، لِأَنَّ مُدَّةَ التَّأَخُّرِ كَالنُّشُوزِ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةٌ وَبِنَاءً عَلَى قوله الجديد، أن النفقة تجب العقد والتمكين منه.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوِ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح، وهو اختلاف في وجوب النفقة، ولا إطلاقه تَفْصِيلٌ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَا بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ فِي أَيِّهِمَا تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: أَسْلَمْتُ

(9/288)


قَبْلَكِ وَأَسْلَمْتِ بَعْدِي، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فَلَا نَفَقَةَ لَكِ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: بَلْ أَسْلَمْتُ أَنَا قَبِلَكَ وَأَسْلَمْتَ بَعْدِي، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي فَلِيَ النَّفَقَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا نفقة لها لأمران:
أحدهما: أنه مُدَّعِيَةٌ، وَهُوَ مُنْكِرٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ بِارْتِفَاعِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ فِيهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ففي المراد باختلافهما في هذا الموضع ثلاث تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ: أَسْلَمْتُ قَبْلَكَ، وَأَسْلَمَتَ بَعْدِي فِي الْعِدَّةِ فَلِيَ النَّفَقَةُ وَيَقُولُ الزَّوْجُ: بَلْ أَسْلَمْتُ أَنَا قَبْلَكِ وَأَنْتِ بَعْدِي فَلَا نَفَقَةَ لَكِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الأمرين.
والتأويل الثاني: أن يختلفا فتقول أَسْلَمْتُ قَبْلَكَ بِشَهْرٍ فَلِيَ عَلَيْكَ نَفَقَةُ شَهْرٍ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: بَلْ أَسْلَمْتِ قَبْلِي بِيَوْمٍ فَلَكِ نَفَقَةُ يَوْمٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَتَقُولُ الزوجة لي مذ أَسْلَمْتُ بَعْدَكَ شَهْرٌ فَلِي نَفَقَةُ شَهْرٍ، وَيَقُولُ الزوج: لك مذ أَسْلَمْتِ بَعْدِي يَوْمٌ فَلَكِ نَفَقَةُ يَوْمٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا نَفَقَةُ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ حَلَالًا وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا إِنْ كان حراماً ومتعةٌ إن لم يكن فرض لها لأن فسخ النكاح من قبله وإن كانت هي أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ صداقٍ ولا غيره لأن الفسخ من قبلها (قال) ولو أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ قبل الدخول ثم ذكر هاهنا حُكْمَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسْلِمَا مَعًا فَإِنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ فَقَدْ بَطَلَ النكاح، لأن ما أفضى إلى الفرقة، أو كان قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتْ بِهِ الْبَيْنُونَةُ كَالرِّدَّةِ، وَالطَّلَاقِ الرجعي، ولا عدة عليه لِعَدَمِ الدُّخُولِ بِهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِسُقُوطِ الْعِدَّةِ عَنْهَا، فَأَمَّا الصَّدَاقُ فَلَهَا نِصْفُهُ، لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهِ بِسَبَبٍ لَا تَقْدِرُ الزَّوْجَةُ عَلَى تَلَافِيهِ فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهَا تَلَافِيهِ بِأَنْ تُسْلِمَ مَعَهُ، قِيلَ: هَذَا يَشُقُّ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، وَإِذَا كَانَ لَهَا الصَّدَاقُ لم تخل حَالُهُ فِي الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمَّى فِيهِ مَهْرَ حَلَالٍ بها نصفه.

(9/289)


وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمَّى فِيهِ مَهْرَ حرام فلها نصف مهر المثل.
والثالث: أن لَا يُسَمَّى فِيهِ مَهْرٌ فَلَهَا مَنْعُهُ كَالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ فَقَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، وَلَمْ يَقْدِرِ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ فَسَقَطَ مَهْرُهَا.
فَإِنْ قِيلَ يَقْدِرُ عَلَى تَلَافِيهِ بِإِسْلَامِهِ مَعَهَا كَانَ الجواب ما مضى وخالف وجوب النفقة لها إذا تقدم إسلامها بعد دخول لِأَنَّهُ مَنْعٌ يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ، وَإِنْ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ دِينَاهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ مَعًا، لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي الشرك على دين واحد فصار فِي الْإِسْلَامِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ النكاح بينهما ثابتاً.

مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ قَالَ أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَالنِّكَاحُ مفسوخٌ وَلَا نِصْفَ مهرٍ حَتَّى يُعْلَمَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيُسْلِمَ الْآخَرُ بَعْدَهُ وَيُشْكَلُ عَلَيْهِمَا أَيُّهُمَا تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ لِاسْتِوَاءِ بُطْلَانِهِ إِنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ أَوْ تَقَدَّمَ إسلام الزوجة ولم يكن للإشكال تأثير، فأما المهر فله حالتان:
إحداهما: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ قَدْ قَبَضَتْهُ فِي الشِّرْكِ.
وَالثَّانِي: لَمْ تَقْبِضْهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّهَا تَشُكُّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا اسْتَحَقَّتْ نِصْفَهُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْهُ، وَمَنْ شَكَّ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ فَشَكَّ فِي قَبْضِهِ وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ قَبَضَتْ مِنْهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ، لِأَنَّهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ يستحقه بيقين فما الْآخَرُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ، لِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ قبلها فلا يستحقه أو أسلمت قبله فيستحقه - والله أعلم -.
مسألة
قال الشافعي: " فإن تَدَاعَيَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ ثابت فلا يَبْطُلُ نِصْفُ الْمَهْرِ إِلَّا بأَنْ تُسْلِمَ قَبْلَه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَلَا دُخُولَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ أيهما تقدم إسلامه فيقول الزوج أنت قد تَقَدَّمْتِ بِالْإِسْلَامِ فَلَا مَهْرَ لَكِ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ بَلْ أَنْتَ تَقَدَّمْتَ بِالْإِسْلَامِ فَلِيَ نِصْفُ الْمَهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا أَنَّ الزَّوْجَ تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ عَلَيْهَا وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَهْرِ اسْتِحْقَاقُهُ بالعقد فلم يقبل دَعْوَى الزَّوْجِ فِي إِسْقَاطِهِ كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَادَّعَى دَفْعَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي ثُبُوتِهِ وَعُدُولًا عَنْ دَعْوَى إِسْقَاطِهِ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وإن قالت أسلم أحدنا قبل الآخر وَقَالَ هُوَ مَعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ

(9/290)


يَمِينِهِ وَلَا تُصَدَّقُ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ إِنَّ النِّكَاحَ مفسوخٌ حَتَى يَتَصَادَقَا (قال المزني) أشبه بقوله أن لا ينفسخ النكاح بقولها كما لم ينفسخ نصف المهر بقوله (قال المزني) وقد قال لو كان دخل بها فقالت انقضت عدتي قبل إسلامك وقال بل بعد فلا تصدق على فسخٍ ما ثبت له من النكاح ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي زَوْجَيْنِ أَسْلَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: أَسْلَمْنَا مَعًا فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: لَا بَلْ أحدنا قبل صاحبه فلا نكاح بيننا ففيه قَوْلَانِ:
أَحَدُهَما: - وَهُوَ اخْتِيَارُ (الْمُزَنِيِّ) - أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُهُ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى إِسْقَاطِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَالَ الزَّوْجُ: اجْتَمَعَ إِسْلَامُنَا فِي الْعِدَّةِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: اجْتَمَعَ إِسْلَامُنَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ اعْتِبَارًا بِثُبُوتِ أَصْلِهِ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الدَّعْوَى إِذَا تَعَارَضَتْ، وَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَ أَحَدِهِمَا غُلِّبَ دَعْوَى مَنْ سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ كالمتداعيين داراً وهي فِي يَدِ أَحَدِهِمَا لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ مُسَاعِدًا لصاحب اليد منهما غلبت دعواه كذلك هاهنا تساوي دعواهما، والظاهر مساعد للزوجة منهما، ولأن اجتماع إسلامها حَتَّى لَا يَسْبِقَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ بِحَرْفٍ مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ وَاخْتِلَافَهُمَا فِيهِ هُوَ الْأَظْهَرُ الْأَغْلَبُ فَوَجَبَ أَنَّ يُغَلَّبَ فِيهِ قَوْلُ مَنْ سَاعَدَهُ هَذَا الظَّاهِرُ وَهِيَ الزَّوْجَةُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ عُدُولًا عَنِ الْأَصْلِ بِظَاهِرٍ هُوَ أَخَصُّ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَنَازُعِهِمَا فِي الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ ظَاهِرٌ يُعْدَلُ بِهِ عَنِ الْأَصْلِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: أَسْلَمْتُ أَيُّهَا الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِي فَلَا نِكَاحَ بَيْنِنَا، وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ أَسْلَمْتِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي ثُبُوتِ النِّكَاحِ، وَنَصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ على إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ بِخِلَافِ هَذَا:
إِحْدَاهُمَا: الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إِذَا قَالَ الزَّوْجُ: رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلِ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَلَا رَجْعَةَ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: أَسْلَمْتِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ بَلِ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ إِسْلَامِكَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا.

(9/291)


قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا فَجَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ وَجَعَلَ فِي إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ نَقَلُوا جَوَابَهُ فِي الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ، وَجَوَابَهُ فِي إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ، وَخَرَّجُوا الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ القول قَوْلُ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ، وَلَعَلَّ هذه طَرِيقَةُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ، وَأَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الذي يحصل فِيهِ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ إِذَا بَدَأَتْ فَأَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ رَجْعَةِ الزَّوْجِ وَإِسْلَامِهِ فَادَّعَى الزَّوْجُ تَقَدُّمَ رَجْعَتِهِ وَإِسْلَامِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ إِذَا بَدَأَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ راجع وَأَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ فَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالرَّجْعَةِ، لِأَنَّ قَوْلَ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا مَقْبُولٌ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ دَعْوَى، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: بَلْ هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ اتَّفَقَا عَلَى صِدْقِهِ فِي زَمَانِ مَا ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ.
مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ انْقَضَتْ عِدَّتِي فِي رَمَضَانَ، وَأَسْلَمْتَ أَنْتَ أَوْ رَاجَعْتَ فِي شَوَّالٍ، فَقَالَ: بَلْ أَسْلَمْتُ وَرَاجَعْتُ فِي شَعْبَانَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى زَمَانِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَاخْتِلَافِهِمَا فِي رَجْعَةِ الزَّوْجِ وَإِسْلَامِهِ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: لَعَمْرِي إِنَّنِي أَسْلَمْتُ وَرَاجَعْتُ فِي شَوَّالٍ لَكِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى زَمَانِ إِسْلَامِهِ وَرَجْعَتِهِ فِي زَمَانِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَإِنْ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِنَّ قَوْلَ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لها احْتَجَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ فِي نُصْرَةِ قَوْلِهِ وَصِحَّةِ اخْتِيَارِهِ وَجْهٌ وَإِنْ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ تَوَجَّهَ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِنَّ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُنَّ فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَبَيْنَ مَسْأَلَتِنَا فِي أَنَّ الْقَوْلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ وَإِنَّ الدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ مُتَقَابِلَةٌ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدِهِمَا ظَاهِرٌ فَاعْتُبِرَ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا مَعَ أَحَدِهِمَا ظَاهِرٌ فَاعْتُبِرَ حُكْمُ الظَّاهِرِ دُونَ الْأَصْلِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا قَالَتِ الزَّوْجَةُ أَسْلَمْنَا مَعًا فَنَحْنُ على النكاح، وقال الزوج: بَلْ أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ بِلَا يَمِينٍ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْفُرْقَةِ وَإِقْرَارُهُ بِهَا يَلْزَمُهُ وَلَوْ رَجَعَ عَنْهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ، لأنه الأصل ثبوته.

(9/292)


فَصْلٌ
وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ فِي عِدَّتِهَا، وَقَدِ ارْتَدَّ الزَّوْجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِالرِّدَّةِ من أحكام المسلمين فيكون نِكَاحُ الشِّرْكِ بَيْنَهُمَا ثَابِتًا بِإِسْلَامِهِمَا فِي الْعِدَّةِ وَيَسْتَأْنِفُ حُكْمَ الْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ، فإن عاد منها إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الرِّدَّةِ زَمَانُ الْعِدَّةِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بَطَلَ النِّكَاحُ بِرِدَّتِهِ، فَلَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ الْمُشْرِكُ وَأَسْلَمَ بَعْدَهُ خَمْسٌ، وَقَدِ ارْتَدَّ الزَّوْجُ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ أَحَدًا، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ - وَاللَّهُ أعلم -.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ امرأةٌ نَكَحَهَا فِي الشِّرْكِ بمتعةٍ أَوْ عَلَى خيارٍ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَنْكِحْهَا عَلَى الْأَبَدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا نَكَحَ فِي الشِّرْكِ نِكَاحَ مُتْعَةٍ، وَهُوَ أن يقول: أمتعيني نفسك سَنَةً، فَهُوَ نِكَاحٌ إِلَى سَنَةٍ، فَإِذَا أَسْلَمَا عَلَيْهِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنِهِمَا، لِأَنَّهُمَا إِنْ أَسْلَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا نِكَاحَ، وَإِنْ أَسْلَمَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَلَمْ يَعْتَقِدَا تَأْبِيدَهُ وَالنِّكَاحُ مَا تَأَبَّدَ.
وَأَمَّا إِذَا نَكَحَهَا بِخِيَارٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ مُؤَبَّدًا فَالنِّكَاحُ إِذَا أَسْلَمَا عَلَيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْتَقِدَا لُزُومَهُ وَالنِّكَاحُ مَا لَزِمَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون الخيار مؤقتاً فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْلِمَا وَمُدَّةُ بالخيار بَاقِيَةٌ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسْلِمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، لِأَنَّ مَا انْقَضَى مُدَّةَ خِيَارِهِ صَارَ معتقد اللُّزُومِ، وَأَمَّا إِنْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَا، فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ وَقْتَ إِسْلَامِهِمَا بَاقِيَةً فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ وَقْتَ إِسْلَامِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إِذَا كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ فَصَارَتْ مُسْلِمَةً مَعَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَنَاكِحَ الشِّرْكِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا، وَإِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَقَدِ اسْتَهْلَكَتْهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فِي الشِّرْكِ فَسَقَطَ حُكْمُهَا، وَإِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً لَمْ تَسْتَهْلِكْ مَا بَقِيَ مِنْهَا فَافْتَرَقَا.
فَأَمَّا إِذَا قَهَرَ الْمُشْرِكُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُشْرِكَةً عَلَى نَفْسِهَا فَزَنَى بِهَا ثُمَّ أسْلَمَا فَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي دِينِهِمْ أَنَّ الْقَهْرَ عَلَى النَّفْسِ نِكَاحٌ مُسْتَدَامٌ صَارَ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ مَنَاكِحِهِمُ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا فَيُحْكَمُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي دِينِهِمْ نكاحاً فلا نكاح بينهما إذا أسلما.

(9/293)


باب الخلاف في إمساك الأواخر
قال الشافعي رحمه الله: " واحتججت على من يبطل الْأَوَاخِرَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِابْنِ الدَّيْلَمِيِّ وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ " اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى " وَبِمَا قَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وتخييره غيلان فلو كان الأواخر حراماً ما خيره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقلت له أحسن حالةٍ أن يعقدوه بشهادة أهل الأوثان قلت ويروى أنهم كانوا ينكحون في العدة وبغير شهودٍ قال أجل قلت وهذا كله فاسدٌ في الإسلام قال أجل قلت فلما لم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن العقد كان عفواً لفوته كما حكم الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ بعفو الربا إذا فات بقبضه ورد ما بقي لأن الإسلام أدركه كما رد ما جاوز أربعاً لأن الإسلام أدركهن معه والعقد كلها لو ابتدأت في الإسلام فاسدةً فكيف نظرت إلى فسادها مرةً ولم تنظر أخرى فرجع بعض أصحابهم وقال محمد بن الحسن: ما علمت أحداً احتج بأحسن مما احتججت به ولقد خالفت أصحابي فيه منذ زمانٍ وما ينبغي أن يدخل على حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - القياس ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: قَدْ مَضَى وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا أَسْلَمَ مَعَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْسَاكِ الأوائل والأواخر بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أبو حنيفة مِنْ إِمْسَاكِ الْأَوَائِلِ دُونَ الْأَوَاخِرِ احْتِجَاجًا بِمَا مَضَى، فَحَكَى الشَّافِعِيُّ مُنَاظَرَتَهُ لمحمد بن الحسن عَلَى ذَلِكَ فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِ صَاحِبَيْهِ أبي حنيفة، وأبي يوسف، وَاحْتِجَاجُهُ فِي ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ - وبالله التوفيق -.

(9/294)


باب ارتداد أحد الزوجين أو هما ومن شركٍ إلى شركٍ من كتاب جامع الخطبة ومن كتاب المرتد ومن كتاب ما يحرم الجمع بينه
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا ارْتَدَّا أَوْ أَحَدُهُمَا مُنِعَا الْوَطْءَ فَإِنِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسَلَامِهِمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ أَصَابَهَا فِي الرِّدَّةِ فَإِنِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ.
إِحْدَاهُمَا: أن يرتد أحد الزوجين المسلمين.
والثانية: أن يرتدا معاً.
فإذا ارتدا أَحَدُهُمَا، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكَوْنَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ إِجْمَاعٌ، لِأَنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدخول أيتها كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَلِذَلِكَ أَبْطَلْنَا نِكَاحَ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ نَظَرَ فِي الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ مَنْ قِبَلِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هِيَ الزَّوْجَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا لِأَنَّ الْفَسْخَ مَنْ قِبَلِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون رِدَّةُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّكَاحِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا قبل انقضائهما كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ بَطَلَ النِّكَاحُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِ وَقْفٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبٌ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ فِي الْحَالِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ يَسْتَوِي فيه ما قبل الدخول وبعده كالرضاع، واستبراء الزَّوْجَةِ، وَوَطْءِ أُمِّهَا بِشُبْهَةٍ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْفُرْقَةِ قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ، وَلِأَنَّهَا رِدَّةٌ طَارِئَةٌ عَلَى نِكَاحِ مَدْخُولٍ بِهَا فوجب أن لا تبيين قِيَاسًا عَلَى ارْتِدَادِهِمَا مَعًا.

(9/295)


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ تَعَجَّلَ فِرَاقُهَا وَالْمَدْخُولُ بِهَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِانْقِضَائِهَا وُقُوعُ فِرَاقِهَا كالطلاق الرجعي يتعجل به في غير المدخول بها ويتأجل بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الرَّضَاعِ مَعَ فَسَادِهِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ فَهُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ والمصاهرة يتأبد، وتحريم الردة قد يرتفع فلذلك ما افترقا.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
: وَهُوَ أَنْ يَرْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا فَهُوَ كَارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا إِنْ كَانَ قبل الدخول بطل، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وقال أبو حنيفة: إذا ارتدا معاً كان عَلَى النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ حِينَ أَسْلَمُوا أَقَرَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - على مناكحهم، ولم يَعْتَبِرْ فِيهِمُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَلَا حَالَ الدُّخُولِ لِاجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوقِعَ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ: وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي ارْتِدَادِهِمَا أن لا يقرأ على دينها وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا كَالْوَثَنِيَّيْنِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا رِدَّةٌ طَارِئَةٌ عَلَى نِكَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ قِيَاسًا عَلَى رِدَّةِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بردة أحدهما لم يزل بردتها قِيَاسًا عَلَى اسْتِبَاحَةِ الْمَالِ وَالدَّمِ وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ، ولأن كُلَّ مَعْنَى وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وُجِدَ مِنْهُمَا كَالْمَوْتِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِقْرَارِ أَبِي بكر - رضي الله تعالى عَنْهُ - لِأَهْلِ الرِّدَّةِ عَلَى مَنَاكِحِهِمْ فَلِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قبل انقضاء العدة.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وغير الْمَدْخُولِ بِهَا.
قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ أَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْنَ فَأَجْرَى عَلَيْهِنَّ حُكْمَ الْأَغْلَبِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنِ اجْتَمَعَا فِي الرِّدَّةِ أَوْ لَمْ يَجْتَمِعَا وَإِنْ كَانَ أبو حنيفة يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ جَوَابُهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا بِعِلَّةِ انْتِقَالِهِمَا إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ فَهُوَ انْتِقَاضُهُ بِالْمُسْلِمِ إِذَا تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً ثُمَّ تنصر قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَالْفُرْقَةُ وَاقِعَةٌ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّ أبا حنيفة قَدْ وَافَقَنَا أنه إذا اجتمعا على الردة مِنَ الْإِصَابَةِ كَمَا لَوِ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاجْتِمَاعِ الْوَثَنِيَّيْنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَثَنِيَّيْنِ لَا يمنعان من

(9/296)


الإصابة فجاز إقرارهما على النكاح، والمرتدتان يمنعان من الإصابة فلم يجز إِقْرَارُهُمَا عَلَى النِّكَاحِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الرِّدَّةِ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا كَارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا إِذَا ارْتَدَّا مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ، وَفِي الْمَهْرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ فِيهِ رِدَّةُ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ أَقْوَى الْمُتَنَاكِحَيْنِ حَالًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ كما لو تفرد بِالرِّدَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُغَلَّبُ فِيهِ رِدَّةُ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ الْمَهْرَ حَقٌّ لَهَا فَكَانَ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ أَنْ يُغَلَّبَ فِيهِ رَدَّتُهَا، فَعَلَى هَذَا لا مهر لها كما لو تفردت بِالرِّدَّةِ، وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا: إِنَّ لَهَا رُبُعَ الْمَهْرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفَسْخِ فَسَقَطَ مِنَ النِّصْفِ نِصْفُهُ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ رِدَّةِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ ارْتِدَادُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فالمهر قد استقر بالإصابة ولها أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعُودَا جَمِيعًا إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَكُونَا عَلَى النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَعُودَا مَعًا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعُودَ الزَّوْجُ إِلَى الْإِسْلَامِ دُونَهَا فَلَا نِكَاحَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ تَعُودَ الزَّوْجَةُ دُونَهُ فَلَا نِكَاحَ.
فَصْلٌ
وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الْإِصَابَةُ فِي الرِّدَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ الْمُرْتَدَّ أَوِ الزَّوْجَةُ، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي الرِّدَّةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَقَاءَ أَحْكَامِ النِّكَاحِ شُبْهَةٌ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ، وَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ حتى انقضت عدتها فاستقر المهر عليها أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ إِصَابَتِهِ لِلِاسْتِبْرَاءِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الرِّدَّةِ مَحْسُوبًا مِنَ الْعِدَّتَيْنِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا بَعْدَ قُرْءٍ مِنْ رِدَّتِهَا، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مَنْ وَقْتِ الْإِصَابَةِ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ مِنْهَا قُرْءَانِ مِنْ عِدَّتِيِ الرِّدَّةِ والإصابة، وقرء مختص بعد الْإِصَابَةِ وَإِسْلَامُهَا الَّذِي يَجْتَمِعَانِ بِهِ عَلَى النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَّةِ الرِّدَّةِ دُونَ عِدَّةِ الْإِصَابَةِ، فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ فِي الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الرِّدَّةِ كَانَا عَلَى النكاح، فأما المهر فالذي وجب بالإصابة فقد قال الشافعي ما يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَقَالَ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ إِذَا أَصَابَهَا الزَّوْجُ فِي الْعِدَّةِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ ثُمَّ رَاجَعَهَا بَعْدَ الإصابة. أن المهر لا يسقط بالرجعة وَرَجْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ كَإِسْلَامِ الْمُرْتَدَّةِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ جوابه على طريقين:
أحدهما: نقل جواب كل واحد مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَتَخْرِيجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: سقوط مهرها بعود الْمُرْتَدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَرَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُرْتَدَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ مهرها ثَابِتٌ لَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِ الْمُرْتَدَّةِ وَلَا بِرَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ.

(9/297)


وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَيَسْقُطُ مَهْرُ الْمُرْتَدَّةِ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُ الْمُطَلَّقَةِ بِالرَّجْعَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ثَلْمَ الرِّدَّةِ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ للردة تأثير بعودها إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحٍ، وَإِبَاحَةٍ وثلم المطلقة لم يرتفع جميعه بِالرَّجْعَةِ، وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ بِهَا التَّحْرِيمُ دُونَ الطَّلَاقِ فَكَانَ تَأْثِيرُهُ بَاقِيًا فَبَقِيَ مَا وَجَبَ فِيهِ من المهر - والله أعلم -.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ هَرَبَ مُرْتَدًّا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ العدة مسلماً وادعى أنه اسلم قبلها فأنكرت فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهِا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ فِي الِانْفِصَالِ عَمَّا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ فِي إِسْلَامِهِمَا، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ وقالت: بعدها وفي الرجعة إِذَا قَالَ الزَّوْجُ: رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ وقالت: بعدها على ثلاث طرق:
أحدها: أنهما على قولين.
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهَا فِي عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، لِأَنَّ قوله فيما نقله من إسلام ورجعة مقبول.
والطريقة الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ اتُّفِقَ عَلَى صِدْقِهِ فِيهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي بيناه.
والطريقة الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا بالدعوى.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَارْتَدَّتْ فَلَا مَهْرَ لها لأن الفسخ من قبلها وإن ارتد فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ مُوجِبٌ لِفَسْخِ النِّكَاحِ، وَإِنَّ الْمُرْتَدَّ إِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجُ لها نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا فَرْقًا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهِ أَوْ قِبَلِهَا، وَإِنَّهُمَا إِنِ ارْتَدَّا مَعًا كَانَ فِي الْمَهْرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَهَا نَصِفُهُ تَغْلِيبًا لِرِدَّةِ الزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ لَهَا تَغْلِيبًا لِرِدَّتِهَا.
وَالثَّالِثُ: لَهَا رُبُعُهُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فيها.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ نصرانية فتمجست أو تزندقت فكالمسلمة تريد (وقال) في كتاب المرتد حتى ترجع إلى الذي حلت به من يهودية أو نصرانية " ز
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ، وَإِنَّ الزَّوْجَةَ النَّصْرَانِيَّةَ إِذَا تَزَنْدَقَتْ لَمْ تُقَرَّ وَفِيمَا تُؤْخَذُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:

(9/298)


أَحَدُهَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ.
وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَتْ فَدِينُهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَالثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَتْ فَدِينٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ مِنْ أَدْيَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَتْ نصرانية فتهودت كان على قولين:
أحدهما: تقر.
والثاني: لا تقر.
وفيما تؤخذ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ.
وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ.
فَإِنْ أَبَتْ فَدِينُهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَذَكَرْنَا مَا تَعَلَّقَ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النكاح قبل الدخول وبعده.

مسألة
قال الشافعي: " ومن دان دين اليهود والنصارى مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْعَجَمِ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَمَا يَحْرُمُ مِنْهُ أَوْ يحل كأهل الأوثان (وقال) في كتاب ما يحرم الجمع بينه من ارتد من يهودية إلى نصرانية أو نصرانية إلى يهودية حل نكاحها لأنها لو كانت من أهل الدين الذي خرجت إليه حل نكاحها (وقال) في كتاب الجزية لا ينكح من ارتد عن أصل دين آبائه لأنهم بدلوا بغيره الإسلام فخالفوا حالهم عما أذن بأخذ الجزية منهم عليه وأبيح من طعامهم ونسائهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ، وَيَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ على ضربين: قبل التبديل، وبعده ممن دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِ أَهْلِهِ كَالرُّومِ كَانَ على حكمين فِيهِ، تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَتُؤَكَلُ ذَبَائِحُهُمْ.
وَمَنْ دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ تَبْدِيلِ أَهْلِهِ كَانَ فِي حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ فَإِنْ بَدَّلَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ مِمَّنْ دَخَلَ فِي دين من بدل لم تقر، وَمَنْ دَخَلَ فِي دِينٍ لَمْ يُبَدَّلْ أُقِرَّ، وَحَلَّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَإِنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَوْمٌ أَشْكَلَتْ عَلَيْنَا أَحْوَالُهُمْ هَلْ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ هَلْ دَخَلُوا فِيهِ مَعَ مَنْ بَدَّلَ أَوْ مَعَ مَنْ لَمْ يُبَدِّلْ كَانُوا فِي حُكْمِ الْمَجُوسِ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ، وَلَا تُؤَكِّلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ.

فَصْلٌ
وَلَيْسَ لِلْمُرْتَدِّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عَقْدَ نِكَاحٍ فِي الرِّدَّةِ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَلَا مُرْتَدَّةٍ، فَإِنْ عَقَدَ فِيهِ نِكَاحًا كَانَ فَاسِدًا سَوَاءً تَعَجَّلَ إِسْلَامَهُ فِيهِ أَوْ تأخرن لِأَنَّ رِدَّتَهُ تُبْطِلُ نِكَاحًا ثَابِتًا فَلَمْ يَجُزْ أن

(9/299)


يثبت نكاحاً مستأنفاً إلا أن الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ تُطَلَّقُ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا تُطَلَّقُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِيهِ وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُطَلَّقُ يَعْنِي واجباً، وقوله تطلق اسْتِحْبَابًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُطَلَّقُ إِنْ أنكح مُسْلِمَةً، وَتُطَلَّقُ إِذَا نَكَحَ مُرْتَدَّةً - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(9/300)


باب طلاق الشرك
قال الشافعي رحمه الله: " وإذ أَثْبَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَ الشِّرْكِ وَأَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ طَلَاقُ الشِّرْكِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَثْبُتُ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ وَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ فَإِنْ أَسْلَمَا وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي الشرك ثلاثاً لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ولو تزوجها غيره في الشرك حلت له ولمسلمٍ لو طلقها ثلاثاً ".
قال الماورد: وَهَذَا كَمَا قَالَ: نِكَاحُ الشِّرْكِ صَحِيحٌ، وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ جَائِزٌ، وَطَلَاقُ الشِّرْكِ وَاقِعٌ، وَحُكْمُ الْفُرْقَةِ ثَابِتٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ، مَنَاكِحُهُمْ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ أُقِرُّوا عَلَيْهَا، وَطَلَاقُهُمْ غَيْرُ وَاقِعٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَنَاكِحِهِمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتَّقَوْا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّمَا مَلَكْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكلمة الله تعالى يَعْنِي بِكِتَابِ اللَّهِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَجُزْ أن يملكها بغير ذلك، ولأنهم قد كَانُوا يَعْتَقِدُونَ إِلْقَاءَ الثَّوْبِ عَلَى الْمَرْأَةِ نِكَاحًا وَقَهْرَهَا عَلَى نَفْسِهَا نِكَاحًا، وَالْمُبَادَلَةَ بِالنِّسَاءِ نِكَاحًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ بِالشَّرْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِحَّ فِي الْإِسْلَامِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَلَاقَهُمْ لا يقع ولا يلزم يقول اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) {الأنفال: 38) . فَاقْتَضَى أن يكون الطلاق مغفوراً، قَالَ: وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الظِّهَارَ طَلَاقًا مُؤَبَّدًا، وَقَدْ أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَغَيَّرَ حُكْمَهُ.
وَدَلِيلُنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمْ مَنَاكِحَ نِسَائِهِمْ فَقَالَ فِي امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ) {المسد: 4) . وفي امرأة فرعون: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعُوْنَ قُرَّةَ عِيْنٍ لِي وَلَكَ) {القصص: 9) . وَالْإِضَافَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّمْلِيكِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ " وَكَانَتْ مناكح آبائه في الشرك تدل على صحتها، ووقوع الفرق بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّفَّاحِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحَصَّنًا بِنِكَاحٍ، وَلِأَنَّهَا مَنَاكِحُ يُقَرُّ عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّتِهَا قِيَاسًا عَلَى مَنَاكِحِ الْمُسْلِمِينَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: " اسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ " أَيْ بِإِبَاحَةِ اللَّهِ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مَنَاكِحَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا.

(9/301)


وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُمْ يَرَوْنَ مِنَ الْمَنَاكِحِ بَيْنَهُمْ مَا لَا نَرَاهُ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ يَعْرِفُ اخْتِلَافَ آبَائِهِمْ فِيهِ فَلَمْ يَكْشِفْ عَنْهُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) {الأنفال: 38) . فَيَعْنِي مِنَ الْآثَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ وَأَمَّا الظِّهَارُ فَبِالْفَسْخِ أَبْطَلَ حُكْمَهُ، وَحُكْمُهُ بِالطَّلَاقِ مُقَرٌّ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ عُقُودِهِمْ، وَمَنَاكِحِهِمْ، وَالْعَفْوُ عَمَّا اخْتَلَّ من شروطها، وأنهم مأخوذون بِمَا أَوْقَعُوهُ فِيهَا مِنْ طَلَاقٍ، وَظِهَارٍ، وَإِيلَاءٍ اعْتُبِرَ حَالُ طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ صَرِيحًا عِنْدَهُمْ أَجْرَيْتُ عَلَيْهِ حُكْمَ الصَّرِيحِ سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَنَا صريحاً، أو كناية لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ عُقُودَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ بِمُعْتَقَدِهِمْ كَذَلِكَ حُكْمُ طَلَاقِهِمْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَرَاجِعٌ فِي الْعِدَّةِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ كَمَا صَحَّ نِكَاحُهُ، وَكَانَتْ مَعَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدَةً بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتِ اثْنَتَيْنِ بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي الْعِدَّةِ حَتَّى أَسْلَمَا، فَإِنْ كَانَتْ عدة الطلاق قد انعقدت فِي الشِّرْكِ أَوْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ الرَّجْعَةِ بانت منه، وجاز أن يستأنف العقد عليها فَيَكُونُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ بَاقِيَةً فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَتَكُونُ مَعَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ لَهَا فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَكَحَتْ فِي الشِّرْكِ زَوْجًا غَيْرَهُ حَلَّتْ لَهُ إِذَا أَسْلَمَ، فَلَوْ عَادَ فَنَكَحَهَا فِي الشِّرْكِ قَبْلَ زَوْجٍ وَقَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، كَانَ نِكَاحُهَا إِذَا أَسْلَمَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَا بعدها أقر؟ فَهَلَّا إِذَا نَكَحَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ أقر؟ قِيلَ: لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُعْتَدَّةِ قَدْ زَالَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فَجَازَ أَنْ تُقَرَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا وَتَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمْ يَزُلْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَرَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا وَتَحْرِيمِ المطلقة ثلاثاً، وكذلك الكلام فيما يؤخذ بِهِ مِنْ حُكْمِ ظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(9/302)


باب عقد نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُهُورِهِمْ مِنَ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ
قال الشافعي رحمه الله: " وعقدة نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُهُورُهُمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا اعْتِرَاضَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي مَنَاكِحِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي دار الإسلام وهي عقود إِذَا أَسْلَمُوا لِمَا فِي تَتَبُّعِ مَنَاكِحِهِمْ بَعْدَ الإسلام من التنفير عنه، فلو نكح أحدهم فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَمْسًا أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أختين، أو نكح مجوسي أمه وبنته ولم يُعَارَضُوا وَهُمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا أَسْلَمُوا فَمَا جاز إن لم يَسْتَأْنِفُوهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أُقِرُّوا عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقَرُّوا عَلَيْهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وإن كانوا لهم ذمة وأحكامنا عَلَيْهِ جَارِيَةٌ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا قَهَرَ حَرْبِيَّةً عَلَى نفسها ورآه نكاحاً أقر عَلَيْهِ إِذَا أَسْلَمَا، وَلَا يُقَرُّ ذِمِّيٌّ عَلَى قهر ذمية إذا أسلما، لأن دار الإسلام تمنع مِنَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَدَارَ الْحَرْبِ تُبِيحُهُ فَافْتَرَقَا لِافْتِرَاقِ حُكْمِ الدَّارَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَا نِكَاحًا لَا يَجُوزُ فِي دِينِهِمْ كَيَهُودِيٍّ نَكَحَ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَهُ، فَلَا يُقَرُّوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِهِمْ وَلَوْ فَعَلَهُ الْمَجُوسِيُّ أُقِرَّ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَمْنُوعِينَ مِنْهُ فِي دينهم، فأما مهورهم فلا اعتراض عليهم فِيهَا حَلَالًا كَانَتْ أَمْ حَرَامًا فَإِنْ تَقَابَضُوهَا وَهِيَ حَرَامٌ بَرِئَ مِنْهَا الْأَزْوَاجُ، وَإِنْ بَقِيَتْ في ذمتهم حتى أسلموا ألزمهم بدلاً منها مهر المثل، وإن تقابضوا بعضها قبل الإسلام وبقي بعضها بعده لزم من مَهْرُ الْمِثْلِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْهَا.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " فَإِنْ نَكَحَ نَصْرَانِيٌّ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ نكح وثني نصرانية أو مجوسية لم أفسح مِنْهُ شَيْئًا إِذَا أَسْلَمُوا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا نَكَحَ كِتَابِيٌّ كِتَابِيَّةً وَتَحَاكَمَا إِلَيْنَا أُقِرَّا عَلَى النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، لَأَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ فَجَازَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِ كِتَابِيَّةٍ، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ دُونَهُ لَمْ يُقَرَّ عَلَى نِكَاحِهَا، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى تقضي الْعِدَّةِ.
وَأَمَّا الْوَثَنِيُّ إِذَا نَكَحَ وَثَنِيَّةً فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ لَمْ يُقَرَّ عَلَى النِّكَاحِ، وَكَانَ مَوْقُوفًا على تقضي الْعِدَّةُ. وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِي الْأَحْكَامِ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهَا، فَأَمَّا إِذَا نَكَحَ وَثَنِيٌّ كِتَابِيَّةً فَإِنْ أسلما

(9/303)


أقر عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ أُقِرَّا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا على انقضاء العدة.
ولو نَكَحَ كِتَابِيٌّ وَثَنِيَّةً فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّنَا نُمْضِي نِكَاحَهُمَا وَلَا يُفْسَخُ عَلَيْهِمَا.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُفْسَخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ أَنْ يُحْكَمَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) {المائدة: 49) . وَالْوَثَنِيَّةُ لَا تَحِلُّ لِمُسْلِمٍ فَكَذَلِكَ لَا تَحِلُّ لِكِتَابِيٍّ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَ وَاخْتَلَفَ، أَلَّا ترى أننا نحكم بالتوارث بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِقْرَارُهُمَا عَلَى هَذَا النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَأَوْلَى أَنْ يُقَرَّا عَلَيْهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ.

مسألة
قال الشافعي: " ولا تَحِلُّ ذبيحةٌ مَنْ وُلِدَ مِنْ وَثَنِيٍّ وَنَصْرَانِيَّةٍ ولا من نصراني ووثنيةٍ ولا يحل نكاح ابنتهما لأنها ليست كتابيةً خَالِصَةٍ (وَقَالَ) فِي كتابٍ آخَرَ إِنْ كَانَ أَبُوهَا نَصْرَانِيًا حَلَّتْ وَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا لَمْ تَحِلَّ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى النَّسَبِ وَلَيْسَتْ كَالصَّغِيرَةِ يُسْلِمُ أَحَدُ أَبَوَيْهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَشْرَكُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكُ يَشْرَكُهُ الشِّرْكُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَأَنَّ الْمَجُوسَ وَعَبَدَةَ الْأَوْثَانِ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، فَأَمَّا الْمَوْلُودُ مِنْ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا، وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَبُ وَثَنِيًّا، وَالْأُمُّ كِتَابِيَّةً يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبِيحَةِ هَذَا الْوَلَدِ وَلَا يُنْكَحُ إِنْ كَانَ امْرَأَةً تَغْلِيبًا لِحُكْمِ أَبِيهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يحل نكاحه، وأكل ذبيحته تغليباً لحق أَبَوَيْهِ حُكْمًا، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تجس فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ " فَلَمْ يَنْقُلْهُ عَنِ الْفِطْرَةِ وَتَخْفِيفِ الْحُكْمِ إِلَى أَغْلَظِهِمَا إِلَّا بِاجْتِمَاعِ أَبَوَيْهِ عَلَى تَغْلِيظِ الْحُكْمِ وَلِأَنَّ أَحَدَ أَبَوَيْهِ مُسْتَبَاحُ الذَّبِيحَةِ وَالنِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَلَى حُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ.
وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) {البقرة: 221) . وَهَذَا الْوَلَدُ يَنْطِلَقُ عَلَيْهِ اسم المشرك، ولأنها كافرة فتنسب إلى كافرة لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَلَا نِكَاحُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحِلَّ ذَبِيحَتُهَا وَلَا نِكَاحُهَا.

(9/304)


أَصْلُهَا: إِذَا كَانَ أَبَوَاهَا وَثَنِيَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْوَلَدِ مُوجِبُ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، وَلَا يَنْتَقِضُ بِالْوَلَدِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْوَلَدِ حُكْمُ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ". فَثَبَتَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَسَقَطَ حُكْمُ الشِّرْكِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: " لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَشْرِكُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكَ يَشْرِكُهُ الشِّرْكُ " يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ شِرْكَانِ، وَلَا يَجْتَمِعُ شِرْكٌ وَإِسْلَامٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا التَّعْلِيلِ، هَلْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ أبا حنيفة من هذه المسألة، وأراد بِهِ مَالِكًا فِي أَنَّ إِسْلَامَ الْأُمِّ لَا يَكُونُ إِسْلَامًا لِلْوَلَدِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اجْتِمَاعُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْكُفْرِ يَقْتَضِي تَكْفِيرَ الْوَلَدِ، وَانْفِرَادُ أَحَدِهِمَا لَا يَقْتَضِيهِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلًا فِي هَذَا الْوَضْعِ، لِأَنَّ أَبَوَيْهِ قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى الْكُفْرِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ اجتماع الشرك والإسلام يوجب فيه حكم تغليب الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُمَا يَتَنَافَيَانِ فَغُلِّبَ أَقْوَاهُمَا، وَالشِّرْكَانِ لَا يَتَنَافَيَانِ فَغُلِّبَ أَغْلَظُهُمَا.

فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي
: أَنْ يَكُونَ أَبُ هَذَا الْوَلَدِ كِتَابِيًّا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَأُمُّهُ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً فَفِي إِبَاحَةِ نِكَاحِهِ، وَأَكْلِ ذَبِيحَتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ نِكَاحُهُ وَذَبِيحَتُهُ لِاجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَصَحُّ. أَنَّهُ يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَذَبِيحَتُهُ لِاجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهِ، لِأَنَّ الدِّينَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا جَازَ اجْتِمَاعُهُمَا فَأَغْلَبُهُمَا مَا كَانَ تَابِعًا لِلنَّسَبِ الْمُضَافَ إِلَى الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ كَالْحُرِّيَّةِ كَذَلِكَ النِّكَاحُ وَالذَّبِيحَةُ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَحُكْمُ الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ بَيْنِ أَبَوَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِحُكْمِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: النَّسَبُ يَكُونُ مُلْحَقًا بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ.
وَالثَّانِي: فِي الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ وَلَدَ الْحُرِّ مَنْ أمه كَأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ.
وَالثَّالِثُ: فِي الْوَلَاءِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ وَلَاءٌ مِنْ جِهَتَيْنِ، كَانَ الْوَلَدُ دَاخِلًا فِي وَلَاءِ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ.
وَالرَّابِعُ: فِي الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَبُ مَنْ قَوْمٍ لَهُمْ حُرِّيَّةٌ وَالْأُمُّ مِنْ آخَرِينَ لَهُمْ حُرِّيَّةٌ أُخْرَى فَإِنَّ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ حُرِّيَّةُ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ.

(9/305)


وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِحُكْمِ أُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ وَذَلِكَ فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَلَدُ الْمَنْكُوحَةِ تَابِعٌ لِأُمِّهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً كَانَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مَمْلُوكَةً كَانَ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ حُرًّا.
وَالثَّانِي: فِي الْمِلْكِ فَإِنَّ وَلَدَ الْمَمْلُوكَيْنِ تَبَعٌ لأمه ومملوك لسيدهما.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِأَفْضَلِ أَبَوَيْهِ حَالًا وَأَغْلَظِهِمَا حُكْمًا، وَذَلِكَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ فِي الْإِسْلَامِ يَلْحَقُ بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ قوله فيه، وهو في إباحته الذَّبِيحَةِ وَالنِّكَاحِ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْأَبِ.
والثاني: ملحق بأغلظهما حكماً.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا وَجَبَ أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ كَانَ الزَّوْجُ الْجَائِي أَوِ الزَّوْجَةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ فضربان: أهل الذمة وَأَهْلُ عَهْدٍ.
فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ: فَهُمْ بَاذِلُو الحرية لهم ذِمَّةٌ مُؤَبَّدَةٌ يَلْزَمُنَا فِي حَقِّ الذِّمَّةِ أَنْ نَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ أَرَادَهُمْ مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ: فَهُمُ الْمُسْتَأْمَنُونَ الَّذِينَ لَهُمْ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ يلزمنا أن نمنع مَنْ أَرَادَهُمْ مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنَ المسلمين، فلا يلزمنا أن نمنع من أرادهم من لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُعَاهَدِينَ، لِأَنَّ ذِمَّتَهُمْ عَهْدٌ، وَإِنْ كَانُوا باسم الذمة أخص، فأما إذا لم يترافع الفريقان في أحكامهم إلينا لم ندعهم إلينا، وَلَمْ نَعْتَرِضْ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَإِنْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا نُظِرَ فِيهِمْ فَإِنْ كَانُوا مُعَاهَدِينَ لَهُمْ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمُ الْتِزَامُ حُكْمِنَا، وَكَانَ حَاكِمُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَحْكُمَ، وَهُمْ إِذَا حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَلْتَزِمُوهُ، وإن جاء أحدهم مستعدياً لم يلزم المتعدي عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يُعْدِيَهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَإنْ جَاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطًِ) {المائدة: 42) . الْآيَةَ فَخَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَلِأَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ عَنْهُمْ أَنْفُسَنَا، وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ عَنْهُمْ غَيْرَنَا، سَوَاءٌ كَانَ التَّحَاكُمُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّ حَقَّ الله تعالى في شركهم أعظم، وقد أقروا عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوْ غَيْرَ أَهْلِ كِتَابٍ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَلَيْسَتِ الذِّمَّةُ الْمُؤَبَّدَةُ إِلَّا لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا فِي أَحْكَامِهِمْ تُرِكُوا وَإِنْ تَرَافَعُوا فِيهَا إِلَيْنَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:

(9/306)


أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - إنَّهُ لَا يَجِبُ وَالْحَاكِمُ مخير في الحكم بينهم، وهو إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِ الْعَهْدِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَإنْ جَاؤًكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ وَاجِبٌ فَيَلْزَمُ الْحَاكِمُ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ إذا حكم أن يلتزموا حكمه وَإِذَا اسْتَعْدَى أَحَدُهُمْ عَلَى الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يعديه الحاكم، وأن يخص الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ أَجْبَرَهُ وعزره، وإنما كان كذلك بقول اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} (المائدة: 49) . وَهَذَا أَمْرٌ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يْدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) {التوبة: 29) .
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالصَّغَارُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رحم يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُهُ لَامْتَنَعُوا من إقامة الحد عليهم، ولأننا نجريهم بالدفع عَنْهُمْ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فَوَجَبَ أَنْ نَدْفَعَ عَنْهُمْ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الحقوق لهم كما نحكم بين المسلمين، وبهذا تفرق بينهم وبين المعادين، لَا يَلْزَمُنَا أَنْ نَدْفَعَ عَنْهُمْ غَيْرَنَا فَلَمْ يَلْزَمْنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَلَا أَنْ نَدْفَعَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
فَأَمَّا أبو حنيفة فَلَمْ يَعْمَلْ بِوَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَقَالَ: لَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الرضى بِحُكْمِ الْإِمَامِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْمُتَرَافِعِينَ إِلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بَيْنَ ذِمِّيَيْنِ مِنْ دِينَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا فَقَدِ اختلف أصحابنا فيهم، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجُ وُجُوبَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، لَأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.
وقال غيره من أصحابنا: أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أن يكون مِنْ دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ دِينَيْنِ أَنَّهُمَا إِذَا كانا من دين واحد فلم يحكم كَانَ لَهُمْ حَاكِمٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَأَمْكَنَ وُصُولُهُمْ إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَا عَلَى دِينَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الْحَكَمِ إِنْ لَمْ يحكم بينهما حاكمنا فدعى النصراني على حاكم النصارى، ودعى الْيَهُودِيُّ إِلَى حَاكِمِ الْيَهُودِ فَتَعَذَّرَ وُصُولُ الْحَقِّ إِلَّا بِحَاكِمِنَا فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَهِيَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فقد اختلف أصحابنا فيها على ثلاثة مذاهب.
أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

(9/307)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لا مطالب بها غَيْرُ الْحَاكِمِ، وَلَيْسَتْ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي لَهَا خصم يطلب.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا لَا تَجُبْ قَوْلًا وَاحِدًا، لأن حق الله تعالى في شركهم أعظم، وَقَدْ أَقَرُّوا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ مَا سِوَاهُ مِنْ حُقُوقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ فِيهَا متشاجرون متظالمون ودار الإسلام تمنع مِنَ التَّظَالُمِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا، لِأَنَّهُمَا يَتَجَاذَبَانِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَغَلَبَ لِرِوَايَةِ عَائِذِ بْنِ عُمَرَ الْمُزَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " وَلَوْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ تَغْلِيبًا لِأَوْكَدِهِمَا حُرْمَةً كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ حَكَمَ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ أَوْكَدُ.
فَصْلٌ
ثُمَّ إِذَا حَكَمَ حَاكِمُنَا بَيْنَ ذِمِّيَيْنِ أَوْ مُعَاهَدَيْنِ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ وَلَا بِالْإِنْجِيلِ إِنْ كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ، وَلَمْ يَحْكُمْ إِلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهَ وَلاَ تَتَبِعْ أهْوَائهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنِ بَعْضِ مَا أنْزَلَ اللهَ إِلَيْكَ) {المائدة: 49) . أي يفتنونك بتوارتهم وَإِنْجِيلِهِمْ عَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) .
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ لَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاَة فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا) {المائدة: 44) . وَقَدْ أَحْضَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التوراة حين رجم اليهوديين حتى رجمهما لما فِيهَا مِنَ الرَّجْمِ.
قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ فَتَضَمَّنَتْ صِفَةَ التَّوْرَاةِ عَلَى مَا كَانَتْ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ، وَإِنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ وَكَذَا كان حالها ثم غيرت حِينَ بَدَّلَ أَهْلُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً) {الأنعام: 91) . ومع تغيرهم لَهَا وَتَبْدِيلِهِمْ فِيهَا لَا يَتَمَيَّزُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهَا، وَأَمَّا إِحْضَارُهُ التَّوْرَاةَ عند رجم اليهوديين، فلأنه حين حكم عليها بالرجم أخبر اليهود أن في التوراة فَأَنْكَرُوهُ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهَا لِتَكْذِيبِهِمْ، فَلَمَّا حَضَرَتْ تَرَكَ ابْنُ صُورِيَا وَهُوَ أَحَدُ أَحْبَارِهِمْ يَدَهُ عَلَى ذكر الرجم، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَفْعِ يَدِهِ فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ فَكَانَ إِحْضَارُهَا رَدًّا لِإِنْكَارِهِمْ وَإِظْهَارًا لِتَكْذِيبِهِمْ، لَا لِأَنْ يَحْكُمَ بِهَا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ قبل حضورها - والله أعلم -.

مسألة
قال الشافعي: " فإن لم يكن حكمٌ مضى لم يزوجهم إلا بولي وشهودٍ مسلمين

(9/308)


فلو لَمْ يَكُنْ لَهَا قريبٌ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لِأَنَّ تزويجه حكمٌ عليها فإذا تحاكموا إلينا بعد النكاح فإن كان مما يجوز ابتداؤه في الإسلام أجزناه لأن عقده قد مضى في الشرك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ جَوَازِهِ، فَإِذَا تَرَافَعَ زَوْجَانِ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ فَهُوَ كَتَرَافُعِهِمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَاتِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّافِعِيُّ تَرَافُعَهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ فُرُوعَهُ أَكْثَرُ فَإِذَا تَرَافَعَا فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَرَافَعَا فِي اسْتِدَامَةِ عَقْدٍ قَدْ مَضَى فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ حَالِ الْعَقْدِ وَلَا يَعْتَبِرَ فِيهِ شُرُوطَ الْإِسْلَامِ، وَيَنْظُرَ فَإِنْ كَانَتِ الزوجة ممن تجوز لَهُ عِنْدَ التَّحَاكُمِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ يُقِرَّهُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَقْدِهَا، سَوَاءٌ كَانَ بَوْلِيٍّ، أَوْ شُهُودٍ أَمْ لَا، إِذَا رَأَوْا مَا عَقَدُوهُ نِكَاحًا فِي دِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تستأنف العقد عليها عند الترافع إلينا لكونها في ذوات المحارم والمحرمات أو بَقِيَّةِ عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ حُكِمَ بِإِبْطَالِ النكاح، ويكون حالها عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ كَحَالِهِمَا لَوْ أَسْلَمَا فَمَا جَازَ إِقْرَارُهُمَا عَلَيْهِ مِنَ النِّكَاحِ بَعْدَ إسلامها جَازَ إِقْرَارُهُمَا عَلَيْهِ عِنْدَ تَرَافُعِهِمَا إِلَى حَاكِمِنَا، وَمَا لَمْ يَجُزِ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزِ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ.

فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي
: أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَى حَاكِمِنَا فِي ابْتِدَاءِ عَقْدٍ يَسْتَأْنِفُهُ بَيْنَهُمَا، فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَعْقِدَهُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِسْلَامِ بَوْلِيٍّ وَشُهُودٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) {المائدة: 49) . وإنما جاز أن يمضي في مَنَاكِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ، وَإِنْ لَمْ تُكْنَ عَلَى شُرُوطِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى شُرُوطِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِين كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) {الأنفال: 38) . وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ مَنَاكِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ عَلَى شُرُوطِ الْإِسْلَامِ وَرَدِّهَا إِذَا خَالَفَتْهُ تَنْفِيرًا لَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وليس فيما استأنفوه لرضاهم به تنفيراً لهم منه.
فإذا تقرر ما وصفناه فَوَلِيُّهَا فِي النِّكَاحِ أَقْرَبُ عَصَبَتِهَا مِنَ الْكُفَّارِ، ولأن وَلِيَّ الْكَافِرَةِ كَافِرٌ، وَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِيهِ كَانَ كفسق الولي المسلم بعدل إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الْعُدُولِ، فَإِنْ عُدِمَ أوليائها من العصبة والمعتقين زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ وَلَا يَمْنَعُهُ الْإِسْلَامُ مِنْ تَزْوِيجِهَا، وإن منع منها إِسْلَامُ عَصَبَتِهَا، لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا حُكْمٌ فِيهِ عَلَيْهَا.
فَأَمَّا الشُّهُودُ فِي نِكَاحِهَا فَلَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ؛ وَجَوَّزَ أبو حنيفة عَقْدَ نِكَاحِهَا بِشُهُودٍ كُفَّارٍ كَمَا جَازَ بِوَلِيٍّ كَافِرٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ".
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ أَنَّ الْوَلِيَّ يُرَادُ لِطَلَبِ الحظ لها للموالاة التي بينها، وَالْكَافِرُ الْمُشَارِكُ لَهَا فِي الْكُفْرِ أَقْوَى مُوَالَاةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ الْكَافِرُ أَحَقَّ بِوِلَايَةِ نِكَاحِهَا من المسلم، وليس كذلك الشهود، لأنهم يُرَادُونَ لِإِثْبَاتِ الْفِرَاشِ، وَإِلْحَاقِ النَّسَبِ وَلَا يَثْبُتُ

(9/309)


ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُسْلِمِينَ فَكَانُوا أَخَصَّ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ من غيرهم، وهذا حكم إذنها إذا كَانَتْ ثَيِّبًا بِالنُّطْقِ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا بِالصَّمْتِ، ولا يعقده إِلَّا بِصَدَاقٍ حَلَالٍ، وَإِنْ كَانُوا يَرَوْنَ فِي دِينِهِمْ عَقْدَهُ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْخُمُورِ، وَالْخَنَازِيرِ، وَهَلْ يجوز أن يعقده كِتَابِيٌّ عَلَى وَثَنِيَّةٍ، أَوْ وَثَنِيٌّ عَلَى كِتَابِيَّةٍ أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سعيد الإصطخري - لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ وَلَا لِوَثَنِيٍّ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى مُسْلِمَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كله ملة واحدة.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وكذلك ما قبضت مِنْ مهرٍ حرامٌ وَلَوْ قَبَضَتْ نِصْفَهُ فِي الشِّرْكِ حَرَامًا ثُمَّ أَسْلَمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَرَافَعَ الزَّوْجَانِ فِي صَدَاقِ نِكَاحٍ عُقِدَ لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون حلالاً معلوماً فيحكم على الزوج له، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَا عَلَيْهِ وَلَا يُلْزَمُ الزَّوْجُ غَيْرَهُ فَإِنْ أَقْبَضَهَا فِي الشِّرْكِ بَرِئَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْهَا أَخَذَتْهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ عند الترافع إلى الحاكم بعد بقائها عَلَى الشِّرْكِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فِي الْإِسْلَامِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَاضَاهُ فِي الشِّرْكِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ فَقَدْ بَرِئَ الزَّوْجُ مِنْهُ، لِأَنَّ مَا فَعَلَاهُ فِي الشِّرْكِ عَفْوٌ لَا يَتَعَقَّبُ بِنَقْضٍ كَمَا قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بِقِيَ مِنَ الرِّبَا) {البقرة: 278) . فَجَعَلَ مَا مَضَى عَفْوًا وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ".
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ بَاقِيًا لَمْ يَتَقَابَضَاهُ، فَلَا يجوز أن يحكم بإقباضه سواء ترفعا وَهُمَا عَلَى الشِّرْكِ أَوْ قَدْ أَسْلَمَا، وَيَحْكُمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ.
وقال أبو حنيفة: كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا حُكِمَ لَهَا بِهِ سَوَاءٌ أَسْلَمَا، أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَا عَلَى الشِّرْكِ حُكِمَ لَهَا بِمِثْلِ الخمر وإن كان قد أسلما حكم لها بقيمة الخمر بناء على أصله في غاصب الدار وفيها خمر إذا استهلكها وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَابَضَا بَعْضَهُ فِي الشِّرْكِ وَيَبْقَى بَعْضُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ فَيَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ قَدْرِ مَا أَقْبَضَ فِي الشِّرْكِ وَيَحْكُمُ لَهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِقِسْطِ مَا بقي

(9/310)


مِنْهُ، وَعِنْدَ أبي حنيفة يَحْكُمُ لَهَا بِقِيمَةِ ما بقي منه بناء عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّدَاقِ الْحَرَامِ الْمَقْبُوضِ بَعْضُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِنْسًا، أَوْ أجناساً فإن كان جنساً واحداً كأنه أَصْدَقَهَا عَشَرَةَ أَزْقَاقٍ مِنْ خَمْرٍ ثُمَّ تَرَافَعَا أَوْ أَسْلَمَا، وَقَدْ أَقْبَضَهَا خَمْسَةَ أَزْقَاقٍ وَبَقِيَتْ خمسة ففيها وجهان لأصحابنا:
أحدهما: أنه يُرَاعَى عَدَدُ الْأَزْقَاقِ دُونَ كَيْلِهَا فَتَكُونُ الْخَمْسَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ نِصْفَهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَيْلُهَا فَيَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْمَهْرِ نِصْفُهُ وَيَبْقَى عَلَيْهِ نِصْفُهُ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُرَاعَى كَيْلُهَا دُونَ عَدَدِهَا فَيَنْظُرُ كَيْلَ الْخَمْسَةِ الْمَقْبُوضَةِ مِنْ جُمْلَةِ كَيْلِ الْعَشَرَةِ، فَإِنْ كَانَ ثُلُثُهَا فِي الْكَيْلِ وَنِصْفُهَا فِي الْعَدَدِ بَرِئَ مِنْ ثُلُثِ الْمَهْرِ وَلَزِمَ ثُلُثَا مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَصْدَقَهَا عَشَرَةَ خَنَازِيرَ وَأَقْبَضَهَا مِنَ الْعَشَرَةِ سِتَّةَ خَنَازِيرَ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - إِنَّكَ تُرَاعِي الْعَدَدَ فَتَكُونُ السِّتَّةُ مِنَ الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهَا سواء اختلف في الصغر أو الكبر أَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ فَيَبْرَأُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الصَّدَاقِ وَيُطَالَبُ بِخُمْسَيْ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ إِنَّكَ تُرَاعِيهَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَكَانَ الْكَبِيرُ مِنْهَا يعدل صغيرين وقد قبض في السنة كبيرين وأربعة صغاراً فكانت الْأَرْبَعَةُ تُعَادِلُ كَبِيرَيْنِ فَصَارَتِ السِّتَّةُ أَرْبَعَةً كِبَارًا، وَالْأَرْبَعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ خُمْسَاهَا فَيَبْرَأُ مِنْ خُمْسَيِ الصداق وترجع عليه بثلاثة أخماس مهر المثل، وإن كان الصداق أجناسً مختلفة كأنه أَصْدَقَهَا خَمْسَةَ أَزْقَاقٍ خَمْرًا وَعَشَرَةَ خَنَازِيرَ وَخَمْسَةَ عشر كلباً تَرَافَعَا أَوْ أَسْلَمَا، وَقَدْ أَقْبَضَهَا خَمْسَةَ أَزْقَاقٍ خمراً وبقيت الخنازير كلها والكلاب بأسرها، فعنه ثلاثة أوجه:
أحدهما: إِنَّكَ تَعْتَبِرُ عَدَدَ الْجَمِيعِ فَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ خَمْسَةً من ثلاثين وهو سدسها فيسقط عند سُدُسُ الصَّدَاقِ وَيُؤْخَذُ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
والوجه الثاني: أنك تعتبر عدد أجناس، وهي ثلاثة، والمقبوض أحدها فتسقط عَنْهُ ثُلُثَ الصَّدَاقِ، وَيُؤْخَذُ بِثُلْثَيْ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - إِنَّكَ تَعْتَبِرُ قِيمَةَ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ وَتَنْظُرُ قِيمَةَ الْمَقْبُوضِ فَتُسْقِطُهُ مِنْهُ فَيَبْرَأُ بِقِسْطِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَيُؤْخَذُ بِقِسْطِ الْبَاقِي مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أن يعتبر قِيمَةُ مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ وَلَا قِيمَةَ لَهُ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي حُكُومَةِ مَا لَا يقدر مِنْ جِرَاحِ الْحُرِّ قِيمَتُهُ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحُرِّ ثَمَنًا وَلَا قِيمَةً

(9/311)


كَذَلِكَ الْخُمُورُ وَالْخَنَازِيرُ وَالْكِلَابُ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنَ الثَّلَاثَةِ جِنْسًا آخَرَ غَيْرَ الْخَمْرِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فَاعْتَبِرْ به - وبالله التوفيق.

مسألة
قال الشافعي: " والنصراني في إنكاح ابْنَتِهِ وَابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ كَالْمُسْلِمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وَلِيَّ الْكَافِرَةِ كَافِرٌ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا وَلَا يُزَوِّجُهَا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا كالمسلم ويزوج أن يزوج بنته الكبرى بِكْرًا بِغَيْرِ إِذْنٍ وَثَيِّبًا بِإِذْنٍ، وَلَهُ أَنْ يزوج ابنته الصغيرة، وليس له تزويج الكبيرة كَمَا نَقُولُهُ فِي الْأَبِ الْمُسْلِمِ فِي بِنْتِهِ وَابْنَهِ الْمُسْلِمَيْنِ، فَأَمَّا وِلَايَةُ الْكَافِرِ عَلَى أَمْوَالِ الصِّغَارِ مِنْ أَوْلَادِهِ فَمَا لَمْ يُرْفَعْ إِلَيْنَا أقروا عليها، فَإِذَا رُفِعَ إِلَيْنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَتُرَدُّ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِمْ فِيهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِوِلَايَةِ الْأَمْوَالِ الْأَمَانَةُ وَهِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ أَقْوَى والمقصود بولاية النكاح الموالاة، وهي في الكافر لِلْكَافِرِ أَقْوَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(9/312)


باب إتيان الحائض ووطء اثنتين قبل الغسل من هذا ومن كتاب عشرة النساء
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى بِاعْتِزَالِ الْحُيَّضِ فَاسْتَدْلَلْنَا بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا أَرَادَ فقلنا تَشُدُّ إِزَارَهَا عَلَى أَسْفَلِهَا وَيُبَاشِرُهَا فَوْقَ إِزَارِهَا حتى يطهرن حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ وَتَرَى الطُّهْرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أما وطء الحائط فِي الْفَرْجِ فَحَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُل هُوَ أذَى فَاعْتَزِلَوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ) {البقرة: 222) . وَفِي هَذَا الْمَحِيضِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ دَمَ الْحَيْضِ.
وَالثَّانِي: زَمَانَ الْحَيْضِ.
وَالثَّالِثُ: مَكَانَ الْحَيْضِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) {البقرة: 222) . أي ينقطع دمهن، فإذا تطهرن فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهُنَّ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أبي حنيفة.
وَالثَّانِي: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللهُ) {البقرة: 222) . فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْقُبُلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ فِي حال الحيض، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: مِنْ قِبَلِ طُهْرِهِنَّ لَا مِنْ قِبَلِ حَيْضِهِنَّ، وَهَذَا تَأْوِيلُ عِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ فَصَارَ تَحْرِيمُ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْقُبُلِ نَصًّا وَإِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافُ أَحَدٍ، فَلَوِ اسْتَحَلَّ رَجُلٌ وَطْءَ حَائِضٍ مَعَ عِلْمِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ كَانَ كَافِرًا، وَلَوْ فَعَلَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ كَانَ فَاسِقًا.

(9/313)


فَصْلٌ
فَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ ".
وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْفَرْجَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ حَرَامٌ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ الِاسْتِمْتَاعَ مِنْهَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ، وَمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ هُوَ مِمَّا تَحْتَ الْإِزَارِ وَلَيْسَ مِمَّا فَوْقَهُ فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُبَاحٌ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا: أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَأَبُو إِسْحَاقَ المروزي، لأن تَحْرِيمَ وَطْءِ الْحَائِضِ لِأَجْلِ الْأَذَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَكَانِ الْأَذَى وَهُوَ الْفَرْجُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَرُوِيَ أَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِذَا تَوَقَّى الْجُحْرَيْنِ فَلَا بَأْسَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ " مَحْمُولًا عَلَى مَا دُونُ الْفَرْجِ، وَيَكُونُ الْإِزَارُ كِنَايَةً عَنِ الْفَرْجِ لِأَنَّهُ مَحَلَّ الْإِزَارِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(قومٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ)

أَيْ شَدُّوا فُرُوجَهُمْ وَخَرَّجَ أَبُو الْفَيَّاضِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ يَأْمَنُ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ فَيَطَأُ فِي الْفَرْجِ جَازَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا دُونَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ نَفْسَهُ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ فَيَطَأُ فِي الْفَرْجِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا دُونَهُ إِلَّا مِنْ وراء الإزار.

مسألة
قال الشافعي: " فإذا تطهرن يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ الطَّهَارَةَ الَّتِي تَحِلُّ بِهَا الصلاة الغسل أو التيمم (قال) وفي تحريمها لأذى المحيض كالدلالة على تحريم الدبر لأن أذاه لا ينقطع ".
قال الماوردي: أما ما دام الحي باقياً فوطئها فِي الْفَرْجِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ حَيْضِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ وَطْأَهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَلَى تَحْرِيمِهِ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ تَتَيَمَّمَ إِنْ كَانَتْ عَادِمَةً لِلْمَاءِ.
وَقَالَ طَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ: وَطْؤُهَا حَرَامٌ حَتَّى تَتَوَضَّأَ فَتَحِلُّ.
وَقَالَ أبو حنيفة: قد حل وطئها إن لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ بِمَا أَغْنَى.

(9/314)


مسألة
قال الشافعي: " وإن وطئ في الدم استغفر الله تعالى ولا يعود ".
قال الماوري: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَطِئَ الْحَائِضُ فِي قُبُلِهَا فَقَدْ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عَلَيْهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْهِ أَنْ يتصدق بدينار إن وطئ في الدم، ونصف دِينَارٍ إِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إن وطئ في الدم فَعَلَيْهِ دِينَارٌ، وَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْغُسْلِ فَنِصْفُ دينار ". وروى هذا الحديث للشافعي وكان إسناده ضعيفاً.
قال: إن صح قلت به، فإن لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ مَعَ الصِّحَّةِ هَلْ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ - أن يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ على وجهين:
أحدهما: اعْتِبَارًا بِظَاهِرِهِ، وَقَدْ حَكَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: مَا وَرَدَ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ بِخِلَافِ مَذْهَبِي فَاتْرُكُوا لَهُ مَذْهَبِي، فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبِي وَقَدْ فَعَلَ أَصْحَابُنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي التصويب فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ - أَنَّهُ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الزِّنَا وَالْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ فلأن لا يكون فيه وَطْءِ الْحَائِضِ كَفَّارَةٌ أَوْلَى، وَلِأَنَّ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ إنما تجب بما تعلق به من إفساده عبادة كالحج والصيام، وليس في كَفَّارَةٌ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ إِفْسَادُ عِبَادَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ - رضي الله تعالى عَنْهُ - رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّنِي أَبُولُ الدَّمَ فَقَالَ لَعَلَّكَ تَطَأُ امْرَأَتَكَ حَائِضًا قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ كفارة فأما المستحاضة فلا يحرم وطئها، لِأَنَّهَا كَالطَّاهِرَةِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ، وَلِأَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ رَقِيقٌ وَهُوَ دَمُ عِرْقٍ قَلِيلِ الْأَذَى، وليس كدم الحيض في ثخنه ونتنه وأذاه، والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وإن كَانَ لَهُ إِمَاءٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْتِيَهُنَّ مَعًا قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَلَوْ تَوَضَّأَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَأُحِبُّ لَوْ غَسَلَ فَرْجَهُ قَبْلَ إِتْيَانِ الَّتِي بَعْدَهَا وَلَوْ كُنَّ حَرَائِرَ فَحَلَلْنَهُ فكذلك ".

(9/315)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَا قَسْمَ لَهُنَّ على السيد، فإذا أراد وطئهن فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ جَازَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لِمَا فِيهِ من تعجيل فرض ونكرار وطاعة، وَنَشَاطِ نَفْسٍ، فَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ تَوَضَّأَ عِنْدَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَأَنْكَرَ أَبُو دَاوُدَ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الْجَنَابَةِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الطِّهَارَةِ، وَمَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ كَانَ فِعْلُهُ عَبَثًا، وَهَذَا إِنْكَارٌ مُسْتَقْبَحٌ وَقَوْلٌ مُسْتَرْذَلٌ، وَاعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ.
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " وإذا جَامَعْتَ ثُمَّ أَرَدْتَ الْمُعَاوَدَةَ فَتَوَضَّأْ ".
وَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ، قَالَ: نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأَ فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا فَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ عِنْدَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ ذَكَرَهُ بَعْدَ وَطْئِهَا، لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ وَمَسْنُونٌ، وَلِأَنَّ فِيهِ نَشَاطَ النَّفْسِ وَنُهُوضًا لِلشَّهْوَةِ، فَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ ولا توضأ ولا غسل ذكره ووطء جميعهن واحدة بعد أخرى حتى أتى جميعهن جاز، اغتسل لَهُنَّ غُسْلًا وَاحِدًا.
وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَافَ عَلَى نِسَائِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وروى: وكن يومئذ تسعاً، ولأن الغسل تداخل كَالْحَدَثِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ إِلَى وَطْءِ أُخْرَى وَيَصْبِرُ حَتَّى تَسْكُنَ نَفْسُهُ، وَتَقْوَى شَهْوَتُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْفَهَرِ، وَالْفَهَرُ هُوَ إِذَا وطء الْمَرْأَةَ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى أُخْرَى، وَيُكْرَهُ أَنْ يطأ بحيث يرى أو يجس بِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن الوجس، وهو: أن يطأ بِحَيْثُ يُسْمَعُ حِسُّهُ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا الْحَرَائِرُ فَالْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ وَاجِبٌ إِذَا طَلَبْنَهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَطَأَهُنَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ لِإِحْدَاهُنَّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَطَأَ غَيْرَهَا فِي يومها إلا أن يحللنه فإذا أحللنه سَقَطَ قَسْمُهُنَّ، وَجَازَ أَنْ يَطَأَهُنَّ فِي يَوْمٍ واحد بغسل وَاحِدٍ كَالْإِمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(9/316)


باب إتيان النساء في أدبارهن من أحكام القرآن ومن كتاب عشرة النساء
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ إِلَى إِحْلَالِهِ وآخرون إلى تحريمه وروي عن جابر بن عبد الله من حديث ثابتٍ أن اليهود كانت تقول من أتى امرأته فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثُ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن رجلاً سأله عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أَوْ فِي أَيِّ الْخُصْفَتَيْنِ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قبلها فنعم أم من دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا إِنَّ اللَّهَ لَا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " (قال الشافعي) فلست أرخص فيه بل أنهى عنه ".
قال الماوردي: اعلم أن مذهب الشَّافِعِيُّ وَمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ.
وَحُكِيَ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ فَرَوَى عَنْهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ أَنَّهُ أَبَاحَهُ فِي كِتَابِ السيرة.
وَقَالَ: أَبُو مُصْعَبٍ: سَأَلَتْهُ عَنْهُ فَأَبَاحَهُ.
وَقَالَ ابن القاسم قال مالك: أدركت أحداً افتدى بِهِ فِي دِينِي يَشُكُّ فِي أَنَّهُ حَلَالٌ وَأَنْكَرَ أَهْلُ الْعِرَاقِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَرَوَوْا عَنْهُ تحريمه لما انْتَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَدِيثٌ ثَابِتٌ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازُهُ، يُرِيدُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ بِذَلِكَ نُصْرَةَ مَالِكٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّبِيعُ فَقَالَ كَذَبَ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِبَاحَتِهِ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَوَجَدَ فِي ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا فَأَنْزَلَ الله تعالى: تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثُ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) {البقرة: 223) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أزْوَاجِكُمْ) {الشعراء: 165 - 166) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ مِنَ الْأَزْوَاجِ مثل ما حظر مِنَ الذُّكْرَانِ وَقَالَ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) {البقرة: 187) . فَدَلَّ

(9/317)


عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُنَّ لِبَاسٌ يُسْتَمْتَعُ بِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَثْنَاهُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ فَسَدَ، وَلَوْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ سَرَى إِلَى الْبَاقِي فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَلِأَنَّهُ أحد الفرجين فجاز إتيانه كالقبل، ولأنه ما سَاوَى الْقُبُلَ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ سَاوَاهُ فِي الْإِبَاحَةِ.
وَدَلِيلُنَا: قَوْله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ) {البقرة: 222) . فحرم الوطء في الْحَيْضِ لِأَجْلِ الْأَذَى فَكَانَ الدُّبُرُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَذًى، ثُمَّ قَالَ: {فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمْ اللهَ} (البقرة: 222) . يَعْنِي فِي الْقُبُلِ فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِهَا فِي الدُّبُرِ.
وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ سَلَّامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ أَنْ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنَّا نَكُونُ بِالْفَلَاةِ فَنَجِدُ الرُّوَيْحَةً، وَالْمَاءُ قليل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: لا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحي من الحق.
وروى سهل بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " استحيوا من الله فإن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في حشوشهن ".
وروى حجاج بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عبد الله بن هرمي عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ لا تأتوا النساء في أدبارهن ".
قَالَ: مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل: عن إتياه النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ فَقَالَ: إِنَّهَا اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى.
وروى يوسف بن ماهك عن أم حبيبة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَتْ: أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: إِنْ زَوَّجَهَا يَأْتِيهَا وَهِيَ مُدْبِرَةٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا بَأْسَ إِذَا كَانَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ.

(9/318)


وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ، فأنزل الله تعالى: تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثُ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة: 223) . وَأَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في أي الخربتين أو في الخرزتين أَوْ فِي أَيِّ الْخُصْفَتَيْنِ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قبلها فنعم أم من دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا؟ فَلَا إِنَّ اللَّهَ لَا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بن أبي طالب، عبد اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، أما علي سئل عَنْهُ فَقَالَ: {أتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَالَمِينَ} (الأعراف: 80) . وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا يَسْأَلُنِي عَنِ الْكُفْرِ، وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ فغلطا فِيهِ وَحَرَّمَاهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وخالف فَصَارَ إِجْمَاعًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَالَفَهُمُ ابْنُ عُمَرَ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَالِمٌ خِلَافَهُ، وَأَنْكَرَ عَلَى نَافِعٍ مَا رَوَاهُ عَنْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ لِنَافِعٍ أَنْتَ رَجُلٌ أعجمي، إنما قال ابن عمر بن دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، فَصَحَّفْتَ وَقُلْتَ فِي دُبُرِهَا فَأَهْلَكْتَ النِّسَاءَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ إِنَّهُ إِتْيَانٌ فوجب أن يكن مُحَرَّمًا كَاللِّوَاطِ، وَلِأَنَّهُ أَذًى مُعْتَادٌ فَوَجَبَ أَنْ يحرم الْإِصَابَةُ فِيهِ كَالْحَيْضِ، وَلَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ، لِأَنَّهُ نَادِرٌ.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فَقَدْ رَوَى جَابِرٌ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا ذَكَرَتْهُ الْيَهُودُ: أَنَّ مَنْ أَتَى امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهِمَ ابْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ وَطَءَ فِي الْفَرْجِ مِنْ خلفها، وحكي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِيٍّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَسُوا يَوْمًا مَعَ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنِّي لَآتِي امْرَأَتِي وَهِيَ مُضْطَجِعَةٌ، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ عَلَى جَنْبِهَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ مَا أَنْتُمْ إِلَّا أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {حَرْثٌ لَكُمْ} والحرث هو من مزرع الأولاد في القبل، دليل على أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ دُونَ الدُّبُرِ الَّذِي ليس بموضع حرث، ولا من مُزْدَرِعٍ لِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ منَ العَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) {الشعراء: 165 - 166) فَمَعْنَاهُ أَتَأْتُونَ الْمَحْظُورَ مِنَ الذُّكْرَانِ، وَتَذَرُوَنَ الْمُبَاحَ مِنْ فُرُوجِ النِّسَاءِ وقَوْله تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) {البقرة: 187) . فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّبَاسَ السَّكَنُ كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاساً} (الفرقان: 47) . أَيْ سَكَنًا.

(9/319)


وَالثَّانِي: أَنْ بَعْضَهُمْ يَسْتُرُ بَعْضًا كَاللِّبَاسِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ دَلِيلٌ لَهُمْ.
وَأَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ بِاسْتِثْنَائِهِ وَسَرَائِهِ الطَّلَاقُ بِهِ فَقَدْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ عُضْوٍ لَا يَصِحُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ مِنْ فُؤَادِهَا، وَكَبِدِهَا، وَيَسْرِي مِنْهُ الطَّلَاقُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، فَكَذَلِكَ الدُّبُرُ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقُبُلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَا أَذَى فِيهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمُبَاحِ الْوَطْءِ دُونَ مَحْظُورِهِ أَلَا تَرَاهُ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ، وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ، وإن كان محظوراً فكذلك في هذا.

مسألة
قال الشافعي: " فَأَمَّا التَّلَذُّذُ بِغَيْرِ إيلاجٍ بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ فَلَا بَأْسَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) {المؤمنون: 5 - 6) الْآيَةَ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ " فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ التَّلَذُّذِ بِمَا بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا عَزْلُ المني عن الْفَرْجِ عِنْدَ الْوَطْءِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الإماء جاز من غير استئذانهن فيه لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ السَّبَايَا، وَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ أَفَنَعْزِلُ عَنْهُنَّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَضَى خَلْقَ نَسْمَةٍ خَلَقَهَا فَإِنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا " وَلِأَنَّ فِي الْعَزْلِ عنها استبقاء لرقها، وامتناع مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى عِتْقِهَا فَجَازَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَدْبِيرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا وَفِي وَلَدِ الْأَمَةِ يَخْتَصُّ السيد دونها.

فصل: القول في حكم الإستمناء باليد
فأما الإستمناء باليد وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْمَنِيِّ بِالْيَدِ فَهُوَ مَحْظُورٌ، وَقَدْ حكى الشافعي عن بعض الفقهاء إباحته، وأباح قوم في السفر دون الحظر، وَهُوَ خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) {المؤمنون: 5 - 6) الْآيَةَ فَحَظَرَ مَا سوء الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، وَجَعَلَ مُبْتَغِي مَا عَدَاهُ عَادِيًا مُتَعَدِّيًا، لِقَوْلِهِ: {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولِئَكَ هُمُ العَادُونَ) {المؤمنون: 7) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ النَّاكِحَ يَدَهُ "، وَلِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَرْكِ النِّكَاحِ، وَانْقِطَاعِ النَّسْلِ فَاقْتَضَى أن يكون محرماً كاللواط.
مسألة
قال الشافعي: " وإن أَصَابَهَا فِي الدُّبُرِ لَمْ يُحْصِنْهَا ".

(9/320)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
لِأَنَّ الْإِحْصَانَ كَمَالٌ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِوَطْءٍ كَامِلٍ وَهُوَ الْقُبُلُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَصَّنْ بِوَطْءِ الْإِمَاءِ، وَإِنْ كان مباحاً اعتباراً بأكمله فِي الْحَرَائِرِ كَانَ بِأَنْ لَا يَتَحَصَّنَ بِالْوَطْءِ المحرم في الدبر أولى، وجملة أحكام الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا يختص بالوطء في القبل (لا يثبت بالوطء في الدبر) .
والثاني: (إحلالها) دون الدُّبُرِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَحْكََامٍ:
أَحَدُهَا: الْإِحْصَانُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، وَلَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ.
وَالثَّانِي: إِحْلَالُهَا لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا " وَالْعُسَيْلَةُ فِي الْقُبُلِ.
وَالثَّالِثُ: سُقُوطُ حُكْمِ الْعُنَّةِ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمَوْطُوءَةِ فَاخْتَصَّ بِالْفَرْجِ الْمُبَاحِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يَسْتَوِي فِيهِ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ، وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ، وَهِيَ سَبْعَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: وُجُوبُ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ عَلَيْهِمَا.
وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْحَدِّ بِالزِّنَا فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ جَمِيعًا.
وَالثَّالِثُ: كَمَالُ الْمَهْرِ وَوُجُوبُهُ بِالشُّبْهَةِ كَوُجُوبِهِ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ.
وَالرَّابِعُ: وُجُوبُ الْعِدَّةِ مِنْهُ كَوُجُوبِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ.
وَالْخَامِسُ: تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ وَيَثْبُتُ بِهِ كَثُبُوتِهِ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ.
وَالسَّادِسُ: فَسَادُ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْحَجِّ، وَالصِّيَامِ، وَالِاعْتِكَافِ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَتَعَلُّقِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ.
وَالسَّابِعُ: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَتَعَلُّقِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: الْفَيْئَةُ فِي الْإِيلَاءِ فيها وجهان:
أحدهما: أن لَا تَكُونَ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ فَتَعَلَّقَتْ بِالْوَطْءِ الْمُسْتَبَاحِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْقُبُلُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا تَكُونُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ به حانثاً ولزمته الكفارة فصار به فائياً.
والثاني: العدة في الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ وَجَبَتْ بِهِ الْعِدَّةُ كَوُجُوبِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِي النِّكَاحِ قَدْ تَجِبُ بِغَيْرِ وَطْءٍ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ بِالْوَطْءِ في الدبر، وإن كان بسببه فَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ:

(9/321)


أحدهما: تجب كوجوبها في النكاح.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - لَا تَجِبُ، لِأَنَّهَا فِي الشُّبْهَةِ تَكُونُ اسْتِبْرَاءً مَحْضًا حِفْظًا لِلنَّسَبِ، وَاسْتِبْرَاءً لِلرَّحِمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصٌّ بِالْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ.
وَالثَّالِثُ: لُحُوقُ النَّسَبِ مِنَ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ لَحِقَ وِإِنْ كَانَ فِي شُبْهَةٍ ففي لحوق النسب به وجهان وإن قيل بوجوب العدة منه كان النسب لَاحِقًا، وَإِنْ قِيلَ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ النَّسَبُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وينهاه الإمام فإن عاد عزره فإن كان في زناً حده وإن كان غاصباً أغرمه المهر وأفسد حجه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا فَاعِلُ ذَلِكَ فِي زَوْجَتِهِ أو أمته فإن ينهى ويكف لإقدامه على حرام وارتكابه لمحظور ولا يعاجل فِي أَوَّلِ فَعْلَةٍ بِأَكْثَرَ مِنَ النَّهْيِ فَيُنْهَى الزَّوْجُ مِنَ الْفِعْلِ وَتُنْهَى الزَّوْجَةُ مِنَ التَّمْكِينِ، فإن عاودا ذلك بعد النهي عذراً تَأْدِيبًا وَزَجْرًا، وَلَا حَدَّ فِيهِ لِأَجْلِ الزَّوْجِيَّةِ، فأما فاعله زنى فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ حَدُّ اللِّوَاطِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: كحد الزنا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ إِنْ كَانَ بِكْرًا أَوِ الرَّجْمُ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْقَتْلُ بِكْرًا كَانَ أَوْ ثَيِّبًا، وَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَعَلَيْهَا حَدُّ اللِّوَاطِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ فِي اللِّوَاطِ مَهْرٌ فَكَيْفَ وَجَبَ لِهَذِهِ مَهْرٌ، والفعل معها كاللواط.
قيل: لأن النماء جِنْسٌ يَجِبُ فِي التَّلَذُّذِ بِهِنَّ مَهْرٌ، فَوَجَبَ لَهُنَّ الْمَهْرُ وَالذُّكْرَانُ جِنْسٌ يُخَالِفُونَ النِّسَاءَ فِيهِ فلم يجب لهم مهر - وبالله التوفيق -.

(9/322)


باب الشغار وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ
قَالَ الشافعي رحمه الله: " وإذا أنكح الرجل ابنته أو المرأة تلي أمرها الرجل على أن ينكحه ابنته أو المرأة تلي أَمْرَهَا عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى وَلَمْ يُسَمِّ لِكِلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا فَهَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو مفسوخٌ ".
قال الماوردي: وأما الشِّغَارُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْخُلُوُّ، يُقَالُ: بَلَدٌ شَاغِرٌ إِذَا خَلَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَأَمْرٌ شَاغِرٌ إذا خلا من مدبر.
أصله: مَأْخُوذٌ مِنْ شُغُورِ الْكَلْبِ، يُقَالُ قَدْ شَغَرَ الْكَلْبُ إِذَا رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لِلْبَوْلِ لِخُلُوِّ الأرض منها. وحكى الحاجظ أَنَّ شُغُورَ الْكَلْبِ عَلَامَةُ بُلُوغِهِ، وَأَنَّهُ يَبْلُغُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عُمُرِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشاعر:
(حتى توفا الستة الشهورا ... مِنْ عُمُرِهِ وَبَلَغَ الشُّغُورَا)

هَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سُمِّيَ الشِّغَارُ شِغَارًا لِقُبْحِهِ وَمِنْهُ شُغُورُ الْكَلْبِ لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ إِذَا بَالَ مَعَ رَفْعِ رِجْلِهِ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الشِّغَارُ الرَّفْعُ، وَمِنْهُ شُغُورُ الْكَلْبِ.
وَالْأَصْلُ فِي الشِّغَارِ مَا رَوَاهُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الشِّغَارِ.
وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا شغار في الإسلام " والشغار ما وصفه الشافعي بقول الرَّجُلُ قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي أَوْ وَلِيَّتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ أَوْ وَلِيَّتَكَ عَلَى أَنْ تضع كل واحد منهما صداق

(9/323)


الْأُخْرَى، أَوْ يَقُولُ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى، فَهَذَا هُوَ الشَّغَارُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الرَّجُلَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الرَّجُلُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يَبْذُلَ الرَّجُلُ أُخْتَهُ بِأُخْتِهِ " وَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنَ الرَّاوِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ نَصٌّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ نَفْسِهِ فهو لعلمه بمخرج الخطاب ومشاهدة الْحَالِ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ مَا وَصَفْنَا فَعَقْدُ النِّكَاحِ فِيهِ بَاطِلٌ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا جَعَلَ النَّهْيَ فِيهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الصَّدَاقِ وَعِنْدَهُ أَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِفَسَادِ النِّكَاحِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى النِّكَاحِ دُونَ الصَّدَاقِ، وَإِنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَصَارَ مَالِكٌ مُوَافِقًا فِي الْحُكْمِ مُخَالِفًا فِي مَعْنَى النَّهْيِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: نكاح الشغار جائز والنهي فيه مُتَوَجِّهٌ إِلَى الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، وَفَسَادُ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَصَارَ مُخَالِفًا لِمَالِكٍ فِي الْحُكْمِ مُوَافِقًا لَهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ.
وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وَإِنَّمَا أُبْطِلُهُ إِذَا قَالَ: عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى الصَّدَاقِ وَفَسَادُهُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ مِنْ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنَّ صَدَاقَهَا طَلَاقُ امْرَأَتِكَ صَحَّ النِّكَاحُ، وَإِنْ جَعَلَ الصَّدَاقَ بُضْعَ زَوْجَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا قَالُوا: وَلِأَنَّكُمْ جَوَّزْتُمُ النِّكَاحَ إذا سمى لهما أو لأحدهما صداقاً فكذلك وإن لم يسميه، لأنه تَرْكَ الصَّدَاقِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُوجِبُ فَسَادَهُ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَهُ فَيَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ صِحَّتَهُ.
وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ دَلِيلٌ.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ فَسَدَ بِالنَّهْيِ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَهُوَ الصَّدَاقُ دُونَ النِّكَاحِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى النِّكَاحِ لِمَا رَوَاهُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نهى عن نكاح الشغار ".

(9/324)


والثاني: أنه يجمل عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا سُمِّيَ شِغَارًا لِخُلُوِّهِ مِنْ صَدَاقٍ، وَنَحْنُ لَا نُخَلِّيهِ لِأَنَّنَا نُوجِبُ فِيهِ صَدَاقَ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ أَنْ يكون شغار.
قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ مَا أَوْجَبْتُمُوهُ مِنَ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنْ أَنْ يكون نكاح الشغار وقت العقد قد تَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ فَاقْتَضَى فَسَادَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ عقد فيه مثنوية، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَلَّكَ الزَّوْجَ بُضْعَ بِنْتِهِ بِالنِّكَاحِ أو ارْتَجَعَهُ مِنْهُ بِأَنْ جَعْلَهُ مَلِكًا لِبِنْتِ الزَّوْجِ بِالصَّدَاقِ، وَهَذَا مُوجِبٌ لِفَسَادِ النِّكَاحِ، كَمَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُهَا مِلْكًا لِفُلَانٍ، كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا بِالْإِجْمَاعِ، كَذَلِكَ هذا بالحجاج وتحريره: أنه جعل المقصود لِغَيْرِ الْمَعْقُودِ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي على أن يكون بضعها لفلان، ولأن جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ زَوَّجَ بِنْتَهُ بِعَبْدٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ رَقَبَتُهُ صَدَاقَهَا، وَلِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا جُعِلَتْ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا، فَإِذَا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ مُعَوَّضًا كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بألفٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِبَيْعِ دَارِكَ عَلَيَّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، فَهُوَ أَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا كَانَ فِي الشِّغَارِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْبُضْعِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ فِي الْبُضْعِ اشْتِرَاكٌ فَصَحَّ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنَّ بُضْعَ بِنْتِي صَدَاقٌ لِبِنْتِكَ، بَطَلَ نِكَاحُ بِنْتِهِ، لأنه حصل في بضعها اشتراكاً، وَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الْأُخْرَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ في بعضها اشتراكاً.
وأما استلاله بِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ صَدَاقَ بِنْتِهِ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ صح فكذلك هاهنا فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَادٌ اخْتَصَّ بِالْمَهْرِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْبُضْعِ تَشْرِيكٌ، فَلِذَلِكَ صَحَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الْآخَرُ فَسَنَذْكُرُ من اختلاف أصحابنا في حكمه مَا يَكُونُ جَوَابًا - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ -.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ سَمَّى لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا صَدَاقًا فَلَيْسَ بِالشِّغَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالنِّكَاحُ ثابتٌ وَالْمَهْرُ فاسدٌ وَلِكُلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَنِصْفُ مهرٍ إن طلقت قبل الدخول فإن قيل فقد ثبت النكاح بلا مهرٍ قيل لأن الله تعالى أجازه في كتابه فأجزناه والنساء محرمات الفروج إلا بما أحلهن الله به فلما نهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح الشغار لم أحل محرماً بمحرمٍ وبهذا قلنا في نكاح المتعة والمحرم (قال) وقلت لبعض الناس أجزت نكاح الشغار ولم يختلف فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورددت نكاح المتعة وقد اختلف فيها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(9/325)


وهذا تحكم أرأيت إن عورضت فقيل لك نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تنكح المرأة على خالتها أو على عمتها وهذا اختيارٌ فأجزه فقال لا يجوز لأن عقده منهي عنه قيل وكذلك عقد الشغار منهي عنه (قال المزني) رحمه الله معنى قول الشافعي نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الشغار إنما نهى عن النكاح نفسه لا عن الصداق ولو كان عن الصداق لكان النكاح ثابتاً وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وجهين:
أحدهما: صورتها أن تقول: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى وَمِائَةُ دِرْهَمٍ فَيَصِحُّ النِّكَاحَانِ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ، وأنه لا يسمى مع المهر مذكوراً شِغَارًا خَالِيًا، وَيَكُونُ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا لِفَسَادِ الصَّدَاقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ شِغَارٌ يَفْسُدُ فِيهِ النِّكَاحَانِ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى وهو التشريك في البضع وهو أن صورة مسألة الشافعي - رضي الله تعالى عَنْهُ - الَّتِي لَمْ يَجْعَلْهَا شِغَارًا أَنْ يَقُولَ: قد زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ مِائَةٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتُكَ عَلَى صَدَاقِ مِائَةٍ، فَالنِّكَاحَانِ جَائِزَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْبُضْعِ، وَلَا جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ، وَيَبْطُلُ الصَّدَاقَانِ، لِأَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ فَأَسْقَطَ فِيهِ مَا قَابَلَهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَصَارَ بَاقِيهِ مَجْهُولًا، وَالصَّدَاقُ الْمَجْهُولُ يُبْطَلُ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ النِّكَاحُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الثَّمَنِ، فَلَوْ قَالَ: قد زَوَّجَتُكَ بِنْتِي بِصَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ بِصَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنَّ بُضْعَ كُلِّ واحدة منها بضع الْأُخْرَى صَحَّ النِّكَاحَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ شِغَارًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ، وَبَطَلَ النِّكَاحَانِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَكَانَ شِغَارًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ، وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ صَحَّ النِّكَاحَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ يَعُودُ فَسَادُهُ إِلَى الْمَهْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنَّ بُضْعَ بِنْتِي صَدَاقُ بِنْتِكَ بَطَلَ نِكَاحُ بِنْتِهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ بُضْعَهَا مُشْتَرَكًا، وَصَحَّ نِكَاحُهُ عَلَى بِنْتِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بُضْعَهَا مُشْتَرَكًا، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ صَدَاقَ بِنْتِي بُضْعُ بِنْتِكَ صَحَّ نِكَاحُ بِنْتِهِ، وَبَطَلَ نِكَاحُهُ لِبِنْتِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي بُضْعِهَا، لَا فِي بُضْعِ بِنْتِهِ فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ مُسْتَمِرَّ التَّعْلِيلِ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ -.

فَصْلٌ
وَإِذَا قَالَ الرجل لرجل إن جئتني بكذا أو كذا إِلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، فَجَاءَهُ بِهِ فِي أَجَلِهِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَأَجَازَهُ مالك مع الكراهة إذا أشهد عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالًا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا العُقُودِ) {المائدة: 1) . وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:

(9/326)


" مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ مُسَلَّمٌ عُلِّقَ بِمَجِيءِ صفة فوجب أن لا يصح كقوله: قد زوجتكما إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ، وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تتعلق بمجيء الصفات كالبيوع.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) {المائدة: 1) فَلَيْسَ هَذَا عَقْدٌ فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(9/327)


باب نكاح المتعة والمحلل من الجامع من كتاب النكاح والطلاق ومن الإملاء على مسائل مالكٍ ومن اختلاف الحديث
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مالكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى يوم خيبرٍ عن نكاح المتعة وأكل لحوم الحمر الأهلية (قال) وإن كان حديث عبد العزيز بن عمر عن الربيع بن سبرة ثابتاً فهو مبينٌ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحل نكاح المتعة ثم قال " هي حرامٌ إلى يوم القيامة " (قال) وفي القرآن والسنة دليلٌ على تحريم المتعة قال الله تعالى: ^ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (إِذَا نَكَحْتُمْ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَقْتُمُوهُنَ} فلم يحرمهن الله على الأزواج إلا بالطلاق وقال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} فجعل إلى الأزواج فرقة من عقدوا عليه النكاح مع أحكام ما بين الأزواج فكان بيناً - والله أعلم - أن نكاح المتعة منسوخٌ بالقرآن والسنة لأنه إلى مدةٍ ثم نجده ينفسخ بلا إحداث طلاقٍ فيه ولا فيه أحكام الأزواج ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ حرام وهو أن يقول للمرأة: أمتعيني نفسك شَهْرًا، أَوْ مَوْسِمَ الْحَاجِّ، أَوْ مَا أَقَمْتُ فِي الْبَلَدِ، أَوْ يَذْكُرَ ذَلِكَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ لَهَا، أَوْ لِوَلِيِّهَا بَعْدَ أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمُدَّةٍ، إِمَّا مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً، فَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الْحَرَامُ وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وِالْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وابن أبي مليكة، وابن جريج - والإمامية - رأيهم فيه جوازاً استدلالاً بقول الله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: 3) . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُتْعَةِ الْمُقَدَّرَةِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) {النساء: 24) . وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النَّصِّ.
وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ يَقُولُ: إِنِ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ فَاسْتَمْتِعُوا. وَهَذَا نَصٌّ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج. فأخبر بِإِبَاحَتِهِمَا عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا ثَبَتَ إِبَاحَتُهُ بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تحريمه بالاجتهاد قالوا: ولأنه عقد مَنْفَعَةٍ فَصَحَّ تَقْدِيرُهُ بِمُدَّةٍ كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِبَاحَتُهَا بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ إِلَى التحريم إلا بالإجماع.

(9/328)


وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين) {المؤمنون: 5 - 6) وليست هذه زوجته وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَلُومًا ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولِئَكَ هُمُ العَادُونَ} (المؤمنون: 7) . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَادِيًا.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَعَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ، مَا رَوَاهُ أَبُو ضَمْرَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: " اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ " وَالِاسْتِمْتَاعُ يَوْمَئِذٍ عِنْدَنَا النِّكَاحُ فَكَلَّمَ النِّسَاءَ من كلمهن فقلن لا ينكح الأنبياء، ونبيكم أَجَلٌ. فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: اضْرِبُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ أَجَلًا فَخَرَجْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي عَلَيْهِ بُرْدٌ، وَعَلَيَّ بُرْدٌ، وَبُرْدُهُ أَجْوَدُ مِنْ بُرْدِي، وَأَنَا أَشَبُّ مِنْهُ فأتينا امرأة فأعجبها برده وأعجبها شبابي، فقالت: برد كبرد فكان الْأَجَلُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا عَشْرًا، فَبِتُّ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ غَدَوْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ: " يَا أيها الناس قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ وَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا وَلَا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ".
وروى ابن أبي لَهِيعَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُتْعَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ لِمَنْ لَمْ يجد فلما أنزل النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ، وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ نُسِخَتْ.
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا.
وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَنَزَلْنَا عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَصَابِيحَ وَنِسَاءً يَبْكِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حَرَّمَ الْمُتْعَةَ، النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ ".

(9/329)


وَحُكِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَحْلَلْتَ الْمُتْعَةَ وَقَدْ حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فقال المأمون: يا يحيى إن تحريم المتعة حديث رَوَاهُ الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ أَعْرَابِيٌّ يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَلَا أَقُولُ بِهِ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ أكثم: يا أمير المؤمنين هاهنا حَدِيثٌ آخَرُ فَقَالَ: هَاتِهِ يَا يَحْيَى فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ مَنْ؟ قَالَ يَحْيَى: عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ المأمون: كان أبي يبجله هيا فَقَالَ يَحْيَى: عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ: كَانَ ثِقَةً فِي حَدِيثِهِ، وَلَكِنْ كَانَ يَعْمَلُ لِبَنِي أمية هيا، فَقَالَ يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنِيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: فَفَكَّرَ المأمون ساعة ثم قال: كان أحدهما يقول بالوعيد والآخر بالإرجاء (هيا) قَالَ يَحْيَى: عَنْ أَبِيهِمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قال: هيا. قَالَ يَحْيَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قال: هيا قَالَ يَحْيَى: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَامَ خَيْبَرَ عَنِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ الْمَأْمُونُ: يَا غُلَامُ ارْكَبْ فَنَادِ إِنَّ الْمُتْعَةَ حَرَامٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُضْطَرِبَةٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَامَ خَيْبَرَ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَامَ الْفَتْحِ بمكة، وروي في بعضها عنه حَرَّمَهَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَبَيْنَ كُلِّ وقت ووقت زمان ممتد ففيه جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَحْرِيمٌ كَرَّرَهُ فِي مَوَاضِعَ ليكون أظهر وأنشر حَتَّى يَعْلَمَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَهُ، ولأنه قَدْ يَحْضُرُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَنْ لَمْ يحضر معه في غَيْرَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي التَّحْرِيمِ وَأَوْكَدَ.
والجواب الثاني: أنا كَانَتْ حَلَالًا فَحُرِّمَتْ عَامَ خَيْبَرَ ثُمَّ أَبَاحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا، ثُمَّ حَرَّمَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهَا: " وَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا كان من التحريم المتقدم موقت تعقبته إباحة وهذا تحريم مؤبد لا تتعقبه إِبَاحَةٌ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عمر، وابن الزبير، وأبي هريرة.
قال ابْنُ عُمَرَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا السِّفَاحَ نَفْسَهُ.
وقال ابن الزبير: المتعة هي الزنا الصريح.
فإن قيل: فقد خالفهم ابن عباس ومع خلافه لا يكون الْإِجْمَاعُ، قِيلَ: قَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ إِبَاحَتِهَا وَأَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا وَنَاظَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَيْهَا مُنَاظَرَةً مَشْهُورَةً، وَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ، قَالَ: وَمَا هُوَ يا عروة قال: تُفْتِي بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ ينهيان عنها، فقال: عجبت منك، أخبرك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتُخْبِرُنِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: إِنَّهُمَا أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنْكَ فَسَكَتَ.

(9/330)


وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: هل لك فيما صنعت نفسك في المتعة حتى صارت به الركاب، وقال الشَّاعِرُ:
(أَقُولُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسْ)

(يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي بَيْضَاءَ بَهْكَنَةٍ ... تكون مثواك حتى يصدر النَّاسْ)

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا إِلَى هَذَا ذهبت، وقام يوم عرفة فقال: يأيها النَّاسُ إِنَّهَا وَاللَّهِ لَا تَحِلُّ لَكُمْ إِلَّا ما تَحِلُّ لَكُمُ الْمَيَّتَةُ وَالدَّمُ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، يَعْنِي إِذَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا فَصَارَ الْإِجْمَاعُ بِرُجُوعِهِ مُنْعَقِدًا وَالْخِلَافُ بِهِ مُرْتَفِعًا وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ ظُهُورِ الْخِلَافِ أَوْكَدُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ وَدَلِيلٍ قَاهِرٍ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أنه حل عقد جاز مطلقاً مُؤَقَّتًا كَالْبَيْعِ طَرْدًا وَالْإِجَارَةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِصِحَّتِهَا وَيَنْتَفِي عَنْ فَاسِدِهَا، وَهِيَ الطَّلَاقُ، وَالظِّهَارُ، وَالْعِدَّةُ، وَالْمِيرَاثُ، فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنِ الْمُتْعَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ كَسَائِرِ الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: 3) فَهُوَ إِنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا اخْتَصَّ بالدوام لذلك قيل: قد استنكحه المدى لمن دام به، فلم يدخل فِيهِ الْمُتْعَةُ الْمُؤَقَّتَةُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لَخُصَّ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24) فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ رَوَيَا أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْمِيرَاثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فِي النِّكَاحِ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي بِهِ الْمَهْرَ دُونَ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَالْإِبَاحَةُ فِيهِ مَنْسُوخَةٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنَ التَّحْرِيمِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا تَفَرُّدُ عُمَرَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَمَا تَفَرَّدَ بِهِ، وقد وافقه عليه الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ إِمَامًا فَاخْتَصَّ بِالْإِعْلَانِ وَالتَّأْدِيبِ وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُقْدِمُ عَلَى تَحْرِيمٍ بِغَيْرِ دليل، ولكانوا قد أقدموا عليه بمسكون عَنْهُ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا تغالوا في صدقات النساء فلو كانت تكرمة لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْلَاكُمْ بِهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَعْطَانَا اللَّهُ وَيَمْنَعُنَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمْرُ: وَأَيْنَ أَعْطَاكُنَّ فَقَالَتْ: بقوله: {وَءاتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) {النساء: 20) فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حتى امرأة. .

(9/331)


ووري أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ: أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَمِعُوا فَقَالَ سَلْمَانُ: لَا نَسْمَعُ، فَقَالَ عُمْرُ: وَلِمَ ذَاكَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: لِأَنَّ الثِّيَابَ لَمَّا قَدِمَتْ مِنَ الْعِرَاقِ، وَفَرَّقْتَهَا عَلَيْنَا ثَوْبًا وأخذت ثوبين لنفسك فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا هَذَا فَثَوْبِي وَأَمَّا الْآخَرُ فاستعرته من ابني ثم دعى ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَالَ: أَيْنَ ثَوْبُكَ، فَقَالَ: هُوَ عَلَيْكَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: قُلِ الْآنَ مَا شِئْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ اعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْهُ فِي تَحْرِيمِ مَا قَدْ أَحَلَّهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يُنْكِرُونَهُ لَوْلَا اعْتِرَافُهُمْ بِصِحَّتِهِ وَوِفَاقُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُمَا قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُحِلُّ الْمُتْعَةَ وَسَمِعْنَا عُمَرَ يَنْهَى عَنْهَا فَتَبِعْنَا عُمَرَ قِيلِ مَعْنَاهُ: تَبِعْنَا عُمَرَ فِيمَا رَوَاهُ في التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ رَوَى لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَوْلَا مَا ذَكَرْنَا أَنْ يُضَافَ إِلَى جَابِرٍ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا خَالَفَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَبِعَا عُمَرَ، وَلَوْ تَبِعَاهُ لَمَا تَبِعَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْمَعْنَى فيهما: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُؤَبَّدَةً فَصَحَّتْ مُؤَقَّتَةً، وَالنِّكَاحُ لما صح مؤبداً لم يصح مؤقتاً.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمَا بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِبَاحَتُهَا بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يُعْدَلْ إِلَى تَحْرِيمِهَا إِلَّا بالإجماع فمن وجهين:
أحدهما: أنه مَا ثَبَتَ بِهِ إِبَاحَتُهَا هُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُهَا، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا فِي الْإِبَاحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِي التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِبَاحَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِجْمَاعِ هِيَ إِبَاحَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تعقبها نسخ، وهم يدعون إباحة مؤبدة لم يتعقبها نَسْخٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا قَالُوهُ إِجْمَاعٌ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فَلَا حَدَّ فِيهَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ. وَيُعَزَّرَانِ أَدَبًا إِنْ عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لحق بالوطء، ولأنها صَارَتْ بِإِصَابَةِ الشُّبْهَةِ فِرَاشًا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ يُلْزِمُ، وَيَثْبُتُ بهذا الإصابة تحريم المصاهرة - وبالله التوفيق -.

مسألة
ونكاح المحلل باطل.
قال الماوردي: وصورتها فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا حَرُمَتْ بِهِنَّ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ زَوْجًا ليحلها للأول فيرجع إلى نكاحها فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا بِإِصَابَةٍ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: النِّكَاحُ صَحِيحٌ والشرط باطل.

(9/332)


وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا رَوَاهُ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ورواه أبو هريرة كلهم بروايته عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ ".
وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بلى يا رسول الله، قال: هو الحلل وَالْمُحَلَّلُ لَهُ "، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ عَلَى شَرْطٍ إِلَى مدة فكان أغلظ فساد مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: جَهَالَةُ مُدَّتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِصَابَةَ فِيهِ مَشْرُوطَةٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ بِالْفَسَادِ أَخَصَّ، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ شُرِطَ فِيهِ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ غَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا.
أَصْلُهُ: إِذَا تَزَوَّجَهَا شَهْرًا، أَوْ حَتَّى يَطَأَ أو يباشر.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَشْتَرِطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَلَّقَهَا فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، " وَالْإِمْلَاءِ " - أن النكاح صحيح، ولأنه لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ مِنَ " الْأُمِّ " وَهُوَ الْأَصَحُّ - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ مؤقت والنكاح ما تأبد، ولم يتوقف، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَيَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ، وَإِذَا شرط أَنْ يُطَلِّقَهَا لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ.
وَالْقِسْمُ الثالث: أنه يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَيَتَزَوَّجَهَا مُطْلَقًا من غير شرط لكنه ينوي، وَيَعْتَقِدُهُ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لِخُلُوِّ عَقْدِهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ نَوَى فِيهِ مَا لَوْ أَظْهَرُهُ أَفْسَدَهُ وَلَا يَفْسُدُ بِالنِّيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْوِي مَا لَا يَفْعَلُ وَيَفْعَلُ مَا لَا يَنْوِي، وَأَبْطَلَهُ مَالِكٌ وَقَالَ: هُوَ نِكَاحُ مُحَلِّلٍ، وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ أبي حنيفة أنه استحبه، لأنه قد تصير الأول بإحلالها له، وكلام المذهبي خَطَأٌ بَلْ هُوَ صَحِيحٌ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ وَمَكْرُوهٌ بِخِلَافِ اسْتِحْبَابِ أبي حنيفة، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا، وَكَانَ يَقْعُدُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أعربي مِسْكِينٌ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: هَلْ لَكَ في امرأة تنكحها فتبيت معها الليلة، فإذا أصبحت فارقتها قال نعم ومضى فتزوجها، وبات معها لَيْلَةً، فَقَالَتْ لَهُ: سَيَقُولُونَ لَكَ

(9/333)


إذا أصبحت فارقها لا تَفْعَلْ فَإِنِّي مُقِيمَةٌ لَكَ مَا تَرَى وَاذْهَبْ إلى عمر فلما أصبح أتوه وأتوها، فَقَالَتْ لَهُمْ: كَلِّمُوهُ فَأَنْتُمْ أَتَيْتُمْ بِهِ، فَقَالُوا له: فارقها، فقال: لا أفعل امض إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ زَوْجَتَكَ، فإن رابوك بريبة فائتني وبعث عمر إلى المرأة التي شئت لذلك فَنَكَّلَ بِهَا، وَكَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى عُمَرَ فِي حُلَّةٍ، فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: الْحَمْدُ لله الَّذِي كَسَاكَ يَا ذَا الرُّقْعَتَيْنِ حُلَّةً تَغْدُو فِيهَا وَتَرُوحُ، فَقَدْ أَمْضَى عُمْرُ النِّكَاحَ: فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي فَسَادِهِ، وَنَكَّلَ عُمَرُ بالمرأة التي مشت فِيهِ فَدَلَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَفَسَادِ مَا حُكِيَ عَنْ أبي حنيفة مِنِ اسْتِحْبَابِهِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تقرر ما ذكرنا من أقسام نِكَاحِ الْمَحَلِّلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ تَعَلَّقَ بِهِ أحكام النكاح الصحيح من ثبوت الحصانة، ووجوب النفقة، وأن يكون مخيراً فيه بَيْنَ الْمُقَامِ، أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ التَّامَّةِ فَقَدْ أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا المهر فإن لم يتضمن العقد شرط يُؤَثِّرُ فِيهِ فَالْمُسَمَّى هُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَإِنْ تَضَمَّنَ شَرْطًا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ قُلْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا يثبت بالإصابة فيه حصانة، وَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ نَفَقَةٌ، وَيَجِبُ فِيهِ بِالْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهَلْ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ إِذَا ذَاقَتْ عُسَيْلَتَهُ وَذَاقَ عُسَيْلَتَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِهِ، فَقَالَ بعضهم: ذوق العسيلة في شبهة النكاح تجري عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ مِنَ النِّكَاحِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: اختصاصه باسم المحلل موجب لاختصاصه بحكم التعليل، فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ تَحِلُّ بِالْإِصَابَةِ فِي كُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ مِنْ شِغَارٍ، وَمُتْعَةٍ، وَبِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ.
وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي: لَا تَحِلُّ بِغَيْرِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ.
والقول الثاني: - وهو الجديد الصَّحِيحُ - إِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَا فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الأنكحة الفاسدة حتى يكون نكاحاً صحيحاً، لقول اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) {البقرة: 230) وَهَذَا لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ إِصَابَةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بها إحصان لم يتعلق فيها إحلال الزوج كالإصابة بملك اليمين.

(9/334)


باب نكاح المحرم
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مالكٌ عن نافعٍ عن نبيه بين وهب عن أبان بن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يَنكح المحرم ولا يُنكح " وقال بعض الناس رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكح ميمونة رضي الله عنها وهو محرمٌ قلت رواية عثمان ثابتةٌ ويزيد بْنَ الْأَصَمِّ ابْنُ أُخْتِهَا وَسُلَيْمَانَ بْنَ يسارٍ عتيقها أو ابن عتيقها يقولان نكحها وهو حلالٌ وثالثٌ وهو سعيد بن المسيب وينفرد عليك حديث عثمان الثابت وقلت أليس أعطيتني أنه إذا اختلفت الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نظرت فيما فعل أصحابه من بعده فأخذت به وتركت الذي يخالفه؟ قال بلى قلت فعمر بن الخطاب ويزيد بن ثابت يردان نكاح المحرم وقال ابن عمر لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا أعلم لهما مخالفاً فلم لا قلت به؟ (قال الشافعي) فإن كان المحرم حاجّاً فحتى يرمي ويحلق ويطوف بالبيت يوم النحر أو بعده وإن كان معتمراً فحتى يطوف بالبيت ويسعى ويحلق فإن نكح قبل ذلك فمفسوخٌ والرجعة والشهادة على النكاح ليسا بنكاحٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لَا يَجُوزُ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ وذكرنا ما خَالَفَنَا فِيهِ، وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إِلَيْهِ، مَتَى عُقِدَ النِّكَاحُ وَالزَّوْجُ، أَوِ الزَّوْجَةُ، أَوِ الْوَلِيُّ مُحْرِمٌ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: صَحِيحٌ وَيُفْسَخُ بِطَلْقِةٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: نِكَاحُهُ جَائِزٌ وَلَا يَلْزَمُ فَسْخَهُ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَبِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَلَمْ يَمْنَعِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ كَالرَّجْعَةِ وَشِرَاءِ الْإِمَاءِ.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنكح " وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يخطب الْمُحْرِمُ وَلَا يَتَزَوَّجُ ".
وَرَوَى مَطَرٌ عَنِ الْحَسَنِ أن علياً - رضي الله تعالى عَنْهُ - قَالَ: مَنْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَزَعْنَا منه امرأته، ولم يجز نكاحه.

(9/335)


وَرَوَى أَبُو غَطْفَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنْ عُمَرَ - رضي الله تعالى عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ مُحْرِمَيْنِ تَزَوَّجَا.
وَرَوَى قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ شَوْذَبٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَفَرَّقَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رُوِيَ عَنْهُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَا يَسُوغُ ذَلِكَ فِي عَقْدٍ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّصَّ فِيهِ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى ثابت بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالْوَطْءِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، فَقَدْ رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بن الأصم عَنْ مَيْمُونَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَهَا وَهُمَا حَلَالَانِ.
وَرَوَى رَبِيعَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا، وَكُنْتُ أنا الرسول بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ صَحَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ عَلَى أَنَّ أَبَا الطِّيِّبِ ابْنَ سَلَمَةَ جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصًا بِالنِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعَ، لِجَوَازِ شِرَاءِ الْمُعْتَدَّةِ وَذَاتِ الْمَحْرَمِ، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ، وَالْمَقْصُودُ، مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مُعْتَدَّةً وَلَا ذَاتَ مَحْرَمٍ وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ. فَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَتَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ، لِأَنَّهَا سَدُّ ثَلْمٍ فِي الْعَقْدِ وَرَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ عَقْدًا مُبْتَدَأً فَجَازَتْ فِي الْإِحْرَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يُرَاجِعُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ اعتباراً بهذا المعنى.

فصل
فإذا تقرر ما وصفنا أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ بَاطِلٌ، فَمَتَى كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا فَوَكَّلَ حَلَالًا فِي الْعَقْدِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ لِمُحْرِمٍ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حلالاً فوكل محرماً كان النكاح باطلاً، لأنه نكاح عقده محرم، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ مُحْرِمًا فَوَكَّلَ حَلَالًا أَوْ كَانَ حَلَالًا فَوَكَّلَ مُحْرِمًا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا.
فَأَمَّا الْحَاكِمُ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا لَمْ يجز له أن يزوج مسلمة وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ كَافِرَةً أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْمُسْلِمَةِ.
والثاني: لا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهَا بِوِلَايَةٍ وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهَا لحكم فَجَرَى مَجْرَى سَائِرِ أَحْكَامِهِ فِي إِحْرَامِهِ.

(9/336)


فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُحْرِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَا يُزَوِّجَ، وَهَلْ يَجُوزُ لخلفائه من القضاة المحليين أَنْ يُزَوِّجُوا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجُوا كَوُكَلَاءِ الْمُحْرِمِ.
وَالْوَجْهِ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجُوا لِعُمُومِ وَلَايَاتِهِمْ، وَنُفُوذِ أحكامه فَخَالَفُوا الْوُكَلَاءَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَطِيبِ فِي عقد فَالنِّكَاحِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ بِغَيْرِ خِطْبَةٍ، وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ مُحْرِمِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشُّهُودَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ كَالْوَلِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، لِأَنَّ الشُّهُودَ غَيْرُ مَعْنِيِّينَ فِي النِّكَاحِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِمْ شُرُوطُ مَنْ يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ نِكَاحَ الْكَافِرَةِ إِذَا عَقَدْنَاهُ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِوَلِيٍّ كافر وشهود مسلمين - والله أعلم -.

(9/337)


العيب في المنكوحة من كتاب نكاح الجديد ومن النكاح القديم ومن النكاح والطلاق إملاءً على مسائل مالكٍ، وغير ذلك

قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب أنه قال قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيُّمَا رجلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جذامٌ أَوْ برصٌ فَمَسَّهَا فَلَهَا صَدَاقُهَا وَذَلِكَ لزوجها غرمٌ على وليها وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: أَرْبَعٌ لَا يَجُزْنَ فِي النكاح إلا أن تسمى: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ بِالْعُيُوبِ، وَالْعُيُوبُ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ تُسْتَحَقُّ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فَيَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجُ إذا وجدت بِالزَّوْجَةِ، وَهِيَ خَمْسَةُ عُيُوبٍ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ، وَالرَّتْقُ، وَتَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجَةُ إِذَا وَجَدَتْهَا بِالزَّوْجِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْجَبُّ، وَالْعُنَّةُ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَتَخْتَصُّ الزَّوْجَةُ بِالْقَرَنِ، وَالرَّتْقِ، وَيَخْتَصُّ الزَّوْجُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَلَا يُفْسَخُ نِكَاحُهُمَا بِغَيْرِ هَذِهِ الْعُيُوبِ، مِنْ عَمَى أو زمانة، أو قبح أو غيره.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَفْسَخَ إِلَّا بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ دُونَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَبِأَنْ لَا يُفْسَخَ النِّكَاحُ بِعَيْبٍ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وقال أبو الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لِلزَّوْجَةِ أَنَّ تَفْسَخَ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ فِي الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ بِهَا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ وَلَيْسَ فِي الِاسْتِبَاحَةِ عَيْبٌ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ فِي الْمُسْتَبِيحَةِ فلم يشتبه خيار إسلامه الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْمَنْكُوحَةِ فلم يفسخ نكاحها قِيَاسًا عَلَى مَا سِوَى الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَمْ يُفْسَخْ بِنُقْصَانِ الْأَجْزَاءِ لَمْ يُفْسَخْ بِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ كَالْهِبَةِ طَرْدًا وَالْبُيُوعِ عَكْسًا.
قَالَ: وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إِنْ جَرَى مَجْرَى عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبُيُوعِ وَجَبَ أَنْ يُفْسَخَ بِكُلِّ عَيْبٍ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى غَيْرِهَا مِنْ عُقُودِ الْهِبَاتِ وَالصِّلَاتِ وَجَبَ أَنْ لَا يُفْسَخَ بعيب، وفي إجماعهم على أن لَا يُفْسَخُ بِكُلِّ الْعُيُوبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ.

(9/338)


وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَرَدَّهَا، وَقَالَ: دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ.
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ منه هو أنه لما نقل الْعَيْبَ وَالرَّدَّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ، لِأَجْلِ الْعَيْبِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا لأجل العيب كالتي قالت له حِينَ تَزَوَّجَهَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: " لَقَدِ استعذتي بمعاذ فالحقي بِأَهْلِكِ " فَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا مِنْهُ لِأَجْلِ اسْتِعَاذَتِهَا مِنْهُ قِيلَ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ خَالَفَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ نَقْلَ الْحُكْمِ مَعَ السَّبَبِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِهِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْبِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ حَالُ طَلَاقِهِ لِلْمُسْتَعِيذَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَيْسَتْ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ فَعَدَلَ بِهِ إِلَى الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّدَّ صَرِيحٌ فِي الْفَسْخِ وَكِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ على ما هو صريح فيه.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عن اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْتَنِبُوا مِنَ النِّكَاحِ أَرْبَعَةً: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ، فَدَلَّ تَخْصِيصُهُ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْفَسْخِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: هُوَ أَنَّهُ عَيْبٌ يَمْنَعُ غَالِبَ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ كَالْجَبِّ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الصِّغَرُ، وَالْمَرَضُ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَيْبٍ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ إذا احتمل الفسخ وجب أن يجري الفسخ في جنس العقد ولأنه عيب مقصود بعقد النكاح فوجب أن يستحق الْفَسْخَ كَالْعَيْبِ فِي الصَّدَاقِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ رَدَّ عِوَضٍ مَلَكَ عَلَيْهِ رَدَّ الْمُعَوَّضَ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا عَيْبٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ المعقود عليه هو الاستمتاع المستباح، وَهَذِهِ عُيُوبٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ زَمَانَةَ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ عَيْبٌ فِي مَنَافِعِهِ فَاسْتَحَقَّ بِهَا الْفَسْخَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا سِوَى الْخَمْسَةِ مِنَ الْعُيُوبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْعُيُوبَ لَا تَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَلَا تُنَفِّرُ النُّفُوسَ مِنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ الْخَمْسَةُ، لِأَنَّهَا إِمَّا مَانِعَةً من المقصود أو منفرة لِلنُّفُوسِ فَافْتَرَقَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْهِبَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ بِنُقْصَانِ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا الْوَصْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْجَبِّ، وَهُوَ نُقْصَانُ جُزْءٍ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْهِبَةِ، أَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا فَيَلْحَقَهُ ضَرَرٌ

(9/339)


بالعيب، والنكاح بخلافه وعلى أن فسخه بالعنت وَهُوَ يُعْتَبَرُ صِفَةً تَمْنَعُ مِنِ اطِّرَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُفْسَخَ بِكُلِّ الْعُيُوبِ كَالْبُيُوعِ أَوْ لَا يُفْسَخُ بِشَيْءٍ مِنْهَا كَالْهِبَاتِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: إِنَّهُ بِالْبُيُوعِ أَخَصُّ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَا مُعَاوَضَةٍ غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُيُوبِ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الثَّمَنِ فَاسْتُحِقَّ بِجَمِيعِهَا الْفَسْخُ وَلَيْسَ كُلُّ الْعُيُوبِ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ فلم يستحق بجميعها الفسخ.

مسألة
قال الشافعي: " القرن المانع للجماع لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَعْنَى النِّسَاءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ وَأَجْنَاسُهَا سَبْعَةٌ: اثْنَانِ يَخْتَصُّ بهما الرجل وهما الجب والعنة.
واثنان تختص بِهِمَا النِّسَاءُ، وَهُمَا: الرَّتْقُ، وَالْقَرَنُ، وَثَلَاثَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهِيَ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ.
فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الرِّجَالُ مِنَ الْعُنَّةِ فَلَهُ بَابٌ يَأْتِي.
وَأَمَّا الْجَبُّ: فَهُوَ قَطْعُ الذَّكَرِ فَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ مَقْطُوعًا فَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ أَدْوَمُ ضَرَرًا مِنَ الْعُنَّةِ الَّتِي يُرْجَى زوالها، وإن كان بعض الذكر مَقْطُوعًا نُظِرَ فِي بَاقِيهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ إِمَّا لِضَعْفِهِ أَوْ لِصِغَرِهِ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى صِغَرِ الذَّكَرِ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَا تَكْمُلُ بِهِ الإصابة.
وأما الخصاء وهي قَطْعُ الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الذَّكَرِ فَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا يُوجِبُ خِيَارَهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِعَيْبٍ ولا خيار لها فِيهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيلَاجِ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَمْتَعَ إِصَابَةً.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ عَيْبٌ وَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُعْدَمُ مَعَهُ النَّسْلُ، وَلَوْ كَانَ خُنْثَى لَهُ فَرْجٌ زَائِدٌ أَوْ كَانَتْ خُنْثَى لَهَا ذَكَرٌ زَائِدٌ فَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا يوجب الخيار قولان:
أحدهما: ليس بعيب، لأنها زيادة عضو فأشبه الأصبع الزائد.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ عَيْبٌ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُعَافُّ.
فَأَمَّا ما تختص به المرأة من القرن، والرنق.
فَالْقَرَنُ: هُوَ عَظَمٌ يَعْتَرِضُ الرَّحِمِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَالرَّتْقُ لَحْمٌ يَسُدُّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ فَلَا تمكن مَعَهُ الْإِصَابَةُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا، وَلَا يُمْكِنُهَا شَقُّ الْقَرَنِ، وَيُمْكِنُهَا شَقُّ الرَّتْقِ إِلَّا أَنَّهَا لا

(9/340)


تخبر بِشِقِّهِ، لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا فَإِنْ شَقَّتْهُ بَعْدَ فَسْخِ الزَّوْجِ لَمْ يُؤَثِّرْ بَعْدَ وُقُوعِ الْفَسْخِ، وَإِنْ شَقَّتْهُ قَبْلَ فَسْخِهِ فَفِي خِيَارِ الزَّوْجِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ، فَأَمَّا الْإِفْضَاءُ وَهُوَ أَنْ يَنْخَرِقَ الْحَاجِزُ الَّذِي بَيْنَ مَدْخَلِ الذكر ومخرج البول فتصير مغطاة فلا خيار فيه لإمكان الإصابة التامة معه فَلَوْ كَانَتْ عَاقِرًا لَا تَلِدُ، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ فَلَا خِيَارَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ وَرُبَّمَا زَالَ بتنقل الأمنان.
فأما العفلاء ففي العفلة ثلاثة تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَحْمٌ مُسْتَدِيرٌ يَنْبُتُ فِي الرَّحِمِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعُذْرَةِ، وَلَا يَنْبُتُ مَعَ الْبَكَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ.
وَالتَّأْوِيلُ الثاني: أنه ورم يكون في اللحمة التي في قبل الْمَرْأَةِ يَضِيقُ بِهِ. فَرْجُهَا حَتَّى لَا يَنْفُذَ فِيهِ الذَّكَرُ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ مَبَادِئُ الرَّتْقِ، وَهُوَ لَحْمٌ يَزِيدُ فِي الْفَرْجِ حَتَّى يَصِيرَ رتقاً فيسد بِهِ الْفَرْجُ فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ الذَّكَرُ، فَإِنْ كان العقل يُكْمِلُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعَ التَّامَّ فَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعَ لِضِيقِ الْفَرْجِ أَوِ انْسِدَادِهِ حَتَّى لَا يُمْكِنَ إِيلَاجُ الذَّكَرِ فَفِيهِ الْخِيَارُ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا الْعُيُوبُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فيها الرجل والمرأة وهي ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: الْجُنُونُ، وَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ الَّذِي يكون معه تأدية حق سواء خِيفَ مِنْهُ أَمْ لَا وَهُوَ ضَرْبَانِ: مُطْبِقٌ لَا يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ، وَغَيْرُ مُطْبِقٍ يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ فَيُجَنُّ تَارَةً، وَيَفِيقُ أُخْرَى وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ، وَفِيهِمَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ قَلَّ زَمَانُ الْجُنُونِ أَوْ كَثُرَ، لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَمْنَعُ مِنْ تَأْدِيَةِ الْحَقِّ فِي زمانه، ولأن قليله كَثِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالزَّوْجِ أَوْ بِالزَّوْجَةِ.
فَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ بِمَرَضٍ فَلَا خِيَارَ فِيهِ كَالْمَرَضِ، وَإِنَّهُ عَارِضٌ يُرْجَى زَوَالُهُ، وأنه قد يجوز حدوث مثله بالأنبياء الذي لَا يَحْدُثُ بِهِمْ جُنُونٌ، فَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ فَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ الْإِغْمَاءُ صَارَ حِينَئِذٍ جُنُونًا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ.
وَأَمَّا الْبَلَهُ فَهُوَ غَلَبَةُ السلامة فَيَكُونُ الْأَبْلَهُ سَلِيمَ الصَّدْرِ ضَعِيفَ الْعَزْمِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا بُلْهًا " يَعْنِي الَّذِينَ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ عَلَى صُدُورِهِمْ وَمِنْهُ قول الشاعر:
(ولقد لهوت بطفلةٍ ميالةٍ ... بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا)

(9/341)


فَلَا خِيَارَ فِي الْبَلَهِ، لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ كَامِلٌ، وَكَذَلِكَ لَا خِيَارَ فِي الْحُمْقِ وَقِلَّةِ الضَّبْطِ لِكَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَهُمَا، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تسترضعوا الحمقى فَإِنَّ صُحْبَتَهَا بَلَاءٌ وَوَلَدَهَا ضَيَاعٌ ".

فَصْلٌ
وَالثَّانِي مِنْ عُيُوبِهِمَا: الْجُذَامُ وَهُوَ: عَفَنٌ يَكُونُ فِي الأطراف والأنف يسري فيهما حتى يسقط فتبطل، وَرُبَّمَا سَرَى إِلَى النَّسْلِ وَتَعَدَّى إِلَى الْخَلِيطِ، وَالنَّفْسُ تَعَافُّهُ وَتَنْفُرُ مِنْهُ فَلَا يَسْمَحُ بِالْمُخَالَطَةِ ولا تحبب إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِرُّوا مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكُمْ مِنَ الْأَسَدِ " وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيُبَايِعَهُ فَمَدَّ يَدًا جَذْمَاءَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَضَ يَدَهُ وَلَمْ يُصَافِحْهُ وَقَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ بايعناك، فَفِي الْجُذَامِ الْخِيَارُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، لِأَنَّ قَلِيلُهُ يَصِيرُ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ.
فَأَمَّا الزَّعَرُ فَهُوَ مِنْ مَبَادِئَ الْجُذَامِ، وَرُبَّمَا بَرِئَ وَلَمْ يَصِرْ جُذَامًا ويقع في الحاجبين فيناثر به الشعر، وفي الأنف فيتغير يه الْجِلْدُ وَلَا خِيَارَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُذَامٍ عَادِيٍّ وَلَا النُّفُوسُ مِنْهُ نَافِرَةً، فَلَوِ اخْتَلَفَا فِيهِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ بِهَا جُذَامًا، وَقَالَتْ: بَلْ هُوَ زَعَرٌ وَقَفَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ فَإِنْ قَالَا: هُوَ جُذَامٌ ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ، وَإِنْ قَالَا: زَعَرٌ فَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَإِنْ أُشْكِلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ زَعَرٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخِيَارِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ مَا يُوجِبُهُ.
فَصْلٌ
وَالثَّالِثُ مِنْ عُيُوبِهِمَا: الْبَرَصُ: وَهُوَ حُدُوثُ بَيَاضٍ فِي الْجِلْدِ يَذْهَبُ مَعَهُ دَمُ الْجِلْدِ وَمَا تَحْتَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَفِيهِ عَدْوَى إِلَى النَّسْلِ وَالْمُخَالِطِينَ، وَتَعَافَّهُ النُّفُوسُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ فَلَا يكمل معه الاستمتاع فلذلك رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، وَفِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخِيَارُ، لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَصِيرُ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ كان بالزوج أو الزوجة.
فأما البهق فتغير لَوْنَ الْجِلْدِ وَلَا يَذْهَبُ بِدَمِهِ وَيَزُولُ وَلَا تَنْفِرُ مِنْهُ النُّفُوسُ فَلَا خِيَارَ فِيهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: هَذَا الْبَيَاضُ بَرَصٌ وَلِي الخيار، وقالت الزوجة: بَلْ هُوَ بَهَقٌ فَلَا خِيَارَ وَقَفَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ، وَعَمِلَ عَلَى قَوْلِهِمَا فيه فَإِنْ أُشَكِلَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ بَهَقٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ عَدْوَى، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الشَّرْعُ وَمَنَعَ مِنْهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا عدوى ولا طيرة " فقيل له: أما ترى النكتة من الجرب في شفر البعير فتعدوا إِلَى سَائِرِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " أَيْ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ بغير عدوى كان ما بعده، وفي غَيْرِهِ بِغَيْرِ عَدْوَى.

(9/342)


قِيلَ: إِنَّمَا مَنْعُ الشَّرْعِ مِنْ أَنَّ الطَّبِيعَةَ هِيَ الَّتِي تُحْدِثُ الْعَدْوَى كَمَا يَزْعُمُ الطِّبُّ، ولا يمنع أن الله تَعَالَى قَدْ جَعَلَ فِيهَا الْعَدْوَى كَمَا جَعَلَ فِي النَّارِ الْإِحْرَاقَ، وَفِي الطَّعَامِ الشِّبَعَ، وَفِي الْمَاءِ الرِّيَّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يوردن ممرض ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ " وَامْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَةِ الأجذام.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بن الخطاب توجه إلى الشام فلما انتهى إلى سرغ تَلَقَّاهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ وَأَخْبَرُوهُ بِحُدُوثِ الطَّاعُونِ بِالشَّامِ، فتوقف عن المسير وَشَاوَرَ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْمَسِيرِ أَوِ الرُّجُوعِ فَاخْتَلَفُوا، وَشَاوَرَ الْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عوف غائباً عنهم فحضر فشاوره عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا قَالَ عُمْرُ: مَا هُوَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي وَادٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ فِيهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ " فَحَمِدَ عُمَرُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَجَعَ وَرَجَعَ النَّاسُ مَعَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لبن الحمقى يُعْدِي ".
فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ رَدُّ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِنْ عَدْوَى الْأَوَّلِ، وَلَوْلَاهُ مَا جَرِبَتْ، وَقَالَ: " مِنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " أَيْ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يعني عَدْوَى كَانَ مَا بَعْدَهُ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَضَافَ الشَّافِعِيُّ الْعَدْوَى إِلَى الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ: عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْعِبَارَةِ كَمَا يُقَالُ: طَالَتِ النَّخْلَةُ، وَقَصُرَ اللَّيْلُ وَأَثْمَرَتِ الشَّجَرَةُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْعُيُوبِ فَوَجَدَ الزَّوْجُ بِالزَّوْجَةِ قَلِيلًا مِنْ بَرَصٍ أَوْ جذام عرض بِهِ فَانْتَشَرَ وَزَادَ حَتَّى صَارَ كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، لِأَنَّ الرَّاضِي بِقَلِيلِهِ رَاضٍ بِكَثِيرِهِ، وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ فِي الْغَالِبِ يَصِيرُ كَثِيرًا، وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا بَرَصٌ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أقبح منظراً من الأول كأنه كَانَ الْأَوَّلُ فِي فَخْذِهَا وَحَدَثَ الثَّانِي فِي وَجْهِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " لِأَنَّ النَّفْسَ مِنَ الثَّانِي أَشَدُّ نُفُورًا مِنَ الأول.
والضرب الثاني: أن يكن مثل الأول في القبح، كأنه كَانَ الْأَوَّلُ فِي يَدِهَا الْيُمْنَى وَالثَّانِي فِي يَدِهَا الْيُسْرَى فَفِيهِ وَجْهَانِ:

(9/343)


أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْأَوَّلِ كَانَ عَيْبًا غَيْرَ الْأَوَّلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الأول كالمتصل فَلَوْ رَضِيَ بِبَرَصِهَا فَظَهَرَ بِهَا جُذَامٌ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِالْجُذَامِ دُونَ الْبَرَصِ، لِأَنَّهُ قَدْ تأنف نَفْسُهُ الْجُذَامَ، وَلَا تَعَافُ الْبَرَصَ وَلَوْ كَانَ بِهَا جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَلَمْ يَخْتَرْ فَسْخَ نِكَاحِهَا حَتَّى زَالَ وَبَرِئَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَزُولَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ فَلَا خيار بعدم مَا يُوجِبُهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَزُولَ بَعْدَ علمه وقبل فسخه بعذر آخر عَنْهُ فَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بالانتهاء.
فَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِهَا عَيْبًا وَوَجَدَتْ بِالزَّوْجِ عَيْبًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَ الْعَيْبَانِ فَيَكُونُ عَيْبُ أَحَدِهِمَا جُذَامًا وَعَيْبُ الْآخَرِ بَرَصًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ الْخِيَارُ بِعَيْبِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ الْمَجْذُومَ قَدْ يَعَافُ الْأَبْرَصَ وَالْأَبْرَصُ قَدْ يَعَافُ الْمَجْذُومَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَسَاوَى الْعَيْبَانِ فَيَكُونُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَرَصٌ أَوْ جُذَامٌ فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا خِيَارَ لتكافئهما وأنه ليس بنقص أَحَدُهُمَا عَنْ حَالَةِ صَاحِبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعَافُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا يَعَافُهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ بُصَاقٍ وَمُخَاطٍ وَأَذًى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " فإن اخْتَارَ فِرَاقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا نِصْفَ مهرٍ وَلَا مُتْعَةَ وَإِنِ اخْتَارَ فِرَاقَهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ فَصَدَّقَتْهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْمَسِيسِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ فِي عِدَّتِهَا وَلَا سُكْنَى وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَيْهَا ولا على وليها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في التي نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطلٌ فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ولم يرده به عليها وهي التي غرته فهو في النكاح الصحيح الذي للزوج فيه الخيار أولى أن يكون للمرأة وإذا كان لها لم يجز أن يغرمه وليها وقضى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي التي نكحت في عدتها أن لها الْمَهْرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا مُتْعَةَ سَوَاءٌ

(9/344)


كَانَ الْفَسْخُ مَنْ قِبَلِهَا أَوْ مِنْ قِبَلِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْهَا سَقَطَ بِهِ مَهْرُهَا كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الزَّوْجِ فَهُوَ لِعَيْبٍ فِيهَا فَصَارَ مُضَافًا إِلَيْهَا، وَيَكُونُ هذا فائدة الفسخ التي تخالف حُكْمَ الطَّلَاقِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ الَّذِي كَانَ يُلْزِمُهُ بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ لَا يُعْلِمُ بِعَيْبِهَا ثُمَّ عَلِمَ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ولم تسقط عَنْهُ بِظُهُورِهِ عَلَى الْعَيْبِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ انْقَطَعَ بالطلاق، ولم يرفع بِالْفَسْخِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " ثُمَّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَا سُكْنَى، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَهُ.

فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَذَلِكَ، بِأَنْ لَا يَعْلَمَ بِعَيْبِهَا حَتَّى يُصِيبَهَا فَيَكُونُ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ كَمَا كَانَ لَهُ قَبْلَهَا، فَإِنِ ادَّعَتْ عَلِمَهُ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَأَنْكَرَهَا وَأَمْكَنَ الْأَمْرَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ عَدَمُ عِلْمِهِ وَثُبُوتُ خِيَارِهِ، فَإِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَلَهَا مهر مثلها بالإصابة وسواء كَانَ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَتِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فلها المهر بما استحل من فرجها " فإن قيل: أفليس لو وطء أَمَةً قَدِ اشْتَرَاهَا ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ لَمْ يلزمه بالوطء مهر فَهَلَّا كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ إِذَا رُدَّتْ بِعَيْبٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بِوَطْئِهَا مَهْرٌ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمَهْرِ وَفِي النِّكَاحِ مَضْمُونٌ بِالْمَهْرِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ الرَّقَبَةُ، وَفِي النِّكَاحِ الْمَنْفَعَةُ ثُمَّ أَوْجَبْنَا بِالْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ بِعَيْبٍ تَقَدَّمَ عَلَى النِّكَاحِ فَصَارَتْ أَفْعَالُهُ مِنْ أَصِلِهِ فَسَقَطَ مَا تضمنه من صداق مسمى.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، فَهَلْ يَرْجِعُ بَعْدَ غُرْمِهِ عَلَى من غره أو لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ - يَرْجِعُ بِهِ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تعال عَنْهُ - وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا، وَلِأَنَّ الْغَارَّ قَدْ أَلْجَأَهُ إِلَى الْتِزَامِ الْمَهْرِ بِهَذِهِ الإصابة ولولاه لما لزمه المهر إلا بإصابة مُسْتَدَامَةً فِي نِكَاحٍ ثَابِتٍ فَجَرَى مَجْرَى الشَّاهِدَيْنِ إِذَا أَلْزَمَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا غُرْمًا ثُمَّ رَجَعَا لَزِمَهُمَا غُرْمُ مَا اسْتُهْلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيٍّ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَلَمْ يَجْعَلْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فِي إِذْنِ الْوَلِيِّ أَوْ عَلَى مَنِ ادَّعَى فِي نِكَاحِهَا أَنَّهُ وَلِيٌّ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا رُجُوعَ بِالْغَرُورِ، وَلِأَنَّ غُرْمَ الْمَهْرِ بَدَلٌ مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ لِلْبُضْعِ وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِغُرْمِ مَا أَوْجَبَهُ اسْتِهْلَاكُهُ، وَإِنْ كَانَ مَغْرُورًا كَالْمَغْرُورِ فِي مبيع قد استهلكه، ولأن لا يُجْمَعَ بَيْنَ تَمَلُّكِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَقَدْ يَمْلِكُ الاستمتاع

(9/345)


الَّذِي هُوَ مُعَوَّضٌ مُبْدَلٌ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَهْرَ الَّذِي هُوَ عِوَضٌ بَدَلٌ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فَلَا مَسْأَلَةَ وَإِذَا قُلْنَا بِالرُّجُوعِ فَلَا يخول من غره من أن يكون الزوجة أو وليها أو أجنبي فَإِنْ غَرَّهُ الْوَلِيُّ أَوْ أَجْنَبِيٌّ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بَعْدَ غُرْمِهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ لم يرجع به على الزَّوْجُ عَلَى الْغَارِّ، وَلَوْ رَدَّتْهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَبْضِهِ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ كالابن.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ، لِأَنَّ رَدَّهَا لَهُ ابْتِدَاءُ هِبَةٍ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ لَمْ يَغْرَمْ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ مَا يَرْجِعُ بِهِ عليها، لأنه غير مقيد وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ جَمِيعُ مَهْرِهَا بِالْغَرُورِ كَمَا يَرْجِعُ بِجَمِيعِهِ عَلَى غَيْرِهَا لَوْ غَرَّهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَسْقُطُ مَهْرُ الْمِثْلِ إِلَّا أَقَلَّ ما يجوز أن يكون مهراً فيلتزمه لَهَا لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَبِيحًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ بَذْلٍ.

فصل
فأما العدة فواجبة عليها بالإصابة، لأنه فِرَاشٌ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لَهَا وَلَا سُكْنَى لَهَا وَإِنْ وَجَبَتْ لِلْمَبْتُوتَةِ، وَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا، قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ هَلْ وَجَبَتْ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتْ لَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَا نَفَقَةَ لِهَذِهِ لِارْتِفَاعِ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ لِحَمْلِهَا فَعَلَى هَذَا لَهَا النَّفَقَةُ، لِأَنَّ حَمْلَهَا فِي اللُّحُوقِ كَحَمْلِ الزَّوْجَةِ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَمَا جَعَلْتُ لَهُ فِيهِ الْخِيَارَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ حَدَثَ بِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ ذلك المعنى قائمٌ فيها لحقه في ذلك وحق الولد (قال المزني) رحمه الله وكذلك ما فسخ عقد نكاح الأمة من الطول إذا حدث بعد النكاح فسخه لأنه المعنى الذي يفسخ به النكاح (قال الشافعي) وكذلك هي فيه فإن اختارت فراقه قبل المسيس فلا مهر ولا متعة فإن لم تعلم حتى أصابها فاختارت فراقه فلها المهر مع الفراق والذي يكون به مثل الرتق بها أن يكون مجبوباً فأخيرها مكانها وأيهما تركه أو وطئ بعد العلم فلا خيار له (وقال) في القديم إن حدث به فلها الفسخ وليس له (قال المزني) أولى بقوله إنهما سواءٌ في الحديث كما كانا فيه سواءٌ قبل الحديث (قال) والجذام والبرص فيما زعم أهل العلم بالطب يعدي ولا تكاد نفس أحدٍ تطيب أن يجامع من هو به ولا نفس امرأةٍ بذلك منه وأما الولد فقلما يسلم فإن سلم أدرك ذلك نسله نسأل الله تعالى

(9/346)


العافية والجنون والخبل لا يكون معهما تأدية لحق زوجٍ ولا زوجةٍ بعقلٍ ولا امتناعٌ من محرمٍ وقد يكون من مثله القتل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعَيْبِ إِذَا كَانَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِالزَّوْجِ فَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ فِيمَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْعُيُوبِ كَمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنَّفَقَةِ وَكَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ بِرِقِّ الزَّوْجِ إِذَا حَدَثَ عِتْقُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ كَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ إِذَا تَقَدَّمَتْ حُرِّيَّتُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا بِالزَّوْجَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَفِي خِيَارِ الزَّوْجِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ - لَا خِيَارَ لَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا بِهِ لحدوثه فإنه يقدر على دفع الغرور عَنْ نَفْسِهِ بِطَلَاقِهِ فَخَالَفَ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ مَغْرُورًا، وَخَالَفَ الزَّوْجَةَ فِيمَا حَدَثَ، لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ بِعِتْقِهِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الْحَادِثِ وَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ بِعِتْقِهَا الْمُتَقَدِّمِ وَالْحَادِثِ كَذَلِكَ الْعُيُوبُ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا دُونَ الْحَادِثِ، وَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا وَالْحَادِثِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ - لَهُ الْخِيَارُ بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ وَالْمُتَقَدِّمَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن ما تستحقه من الخيار في مقابلة ما تستحق عَلَيْهِ مِنَ الْخِيَارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) . فَلَمَّا اسْتَحَقَّتِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ الْخِيَارَ بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ اسْتَحَقَّ الْخِيَارَ عَلَيْهَا بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى مَنَافِعِهِ اسْتَوَى فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمَا حَدَثَ كَالْإِجَارَةِ فَلَمَّا كَانَ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ بِمَا تَقَدَّمَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِمَا حَدَثَ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْعُيُوبِ فَفُسِخَ بِهِ النِّكَاحُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ فِيهِ لارتفاع العقد، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ وَحُدُوثِ مَا أَوْجَبَ الْفَسْخَ بَعْدَ استقراره.

(9/347)


وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الدخول فلها مهر المثل دون المسمى، لأنه لَمَّا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِعَيْبٍ تَقَدَّمَ عَلَى الدُّخُولِ صَارَ الدُّخُولُ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ فَسَقَطَ بِهِ الْمُسَمَّى، وَاسْتُحِقَّ بِمَا بَعْدَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَالْخِيَارُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ وَحَدَثَ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، لِأَنَّهَا عُيُوبٌ قد عرف الحظر فِي الْفَسْخِ بِهَا مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا ارْتِيَاءٍ فَجَرَى مَجْرَى الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ الَّتِي يثبت فيها الخيار عَلَى الْفَوْرِ، وَخَالَفَ خِيَارَ الْأَمَةِ إِذَا أُعْتِقَتْ تحت عبد في أن خيارها فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَظِّ لَهَا إِلَى زَمَانِ فِكْرٍ وَارْتِيَاءٍ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ حَتَّى يَأْتِيَ الْحَاكِمُ فَيَحْكُمَ لَهُ بِالْفَسْخِ، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِحُكْمٍ، وَخَالَفَ عِتْقَ الْأَمَةِ تَحْتَ عَبْدٍ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهَا بِالْفَسْخِ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِنْ تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْعَيْبِ فَسَخَ الْحَاكِمُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَنَاكَرَا فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ كلف المدعي ببينة، فإن أقامها وإلا أحلف الْمُنْكِرُ وَلَا فَسْخَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ فَلَوْ تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْعَيْبِ وَاتَّفَقَا على الفسخ عن تراضي فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ التَّنَازُعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ما اشتبه حكمه لم يتعين إلا بالحكم - والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وَلِوَلِيِّهَا مَنْعُهَا مِنْ نِكَاحِ الْمَجْنُونِ كَمَا يَمْنَعُهَا من غير كفءٍ فإن قيل فهل في حكم بينهما فيه الخيار أو الفرقة؟ قيل نعم المولى يمتنع من الجماع بيمين لو كانت على غير مأثمٍ كانت طاعة الله أن لا يحنث فأرخص له في الحنث بكفارة اليمين فإن لم يفعل وجب عليه الطلاق والعلم محيطٌ بأن الضرر بمباشرة الأجذم والأبرص والمجنون والمخبول أكثر منها بترك مباشرة المولى ما لم يحنث ".
قال الماوردي: أما إذا أوصى الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَامْتَنَعَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَبًا، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا بِهِ لَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا الِامْتِنَاعُ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا إِذَا رَضِيَتْ بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ، وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ فَالْعُيُوبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهُمَا: مَا لِلْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ نِكَاحِ مَنْ هِيَ فِيهِ، وَذَلِكَ الْجُنُونُ وَالْخَبَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ عار على الأولياء فكان لهم دفعه عنه بِالِامْتِنَاعِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهَا من نكاح من هي فيه، وذلك العنت،

(9/348)


والجب، والخصاء لأنه عَارَ فِيهِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِعَدَمِ الاستمتاع الذي هو حق لا دُونَ الْأَوْلِيَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَهُوَ الْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهَا مِنْ مَجْذُومٍ وَلَا أبرص لاختصاصها بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُمَا لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهُمَا، وَلِتَعَدِّي ذَلِكَ إِلَى نَسْلِهَا فَأَمَّا إِنْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ فِي الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْخِيَارُ لَهَا دُونَ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنْ رَضِيَتْ وَكَرِهَ الْأَوْلِيَاءُ كَانَ رِضَاهَا أَوْلَى وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ مُخْتَصٌّ بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دون استدامته.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مسلمةٌ فَإِذَا هِيَ كتابيةٌ كَانَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ بِلَا نِصْفِ مهرٍ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا كتابيةٌ فَإِذَا هِيِ مسلمةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا خيرٌ من كتابية (قال المزني) رحمه الله هذا يدل عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا نصرانية فأصابها مسلمةً فليس للمشتري أن يردها وإذا اشتراها على أنها مسلمةً فوجدها نصرانية فله أن يردها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ خِلَافَ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَوَجَدَهَا نَصْرَانِيَّةً فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جائز نص عليه هاهنا، وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ أَمْ لا؟ على قولين،
أحدها: لَا خِيَارَ لَهُ.
وَالثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ نَصَّ عليه هاهنا، وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَكَانَتْ مسلمة كان عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ أَعْلَى حَالًا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ، فَكَانَتْ مُسْلِمَةً فَلَيْسَ لَهُ خِيَارٌ كَالنِّكَاحِ فَرَدَّ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ عليه، وقالوا له: في البيع الْخِيَارِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ وُفُوْرُ الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ يَتَوَفَّرُ بِكَثْرَةِ الطَّالِبِ وَطَالِبُ النَّصْرَانِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ

(9/349)


طَالِبِ الْمُسْلِمَةِ، لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ يَشْتَرِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمَةُ لَا يَشْتَرِيهَا إِلَّا الْمُسْلِمُونَ دُونَ النَّصَارَى فَإِذَا اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَكَانَتْ مُسْلِمَةً كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ طَلَبًا فَصَارَتْ أَقَلَّ ثَمَنًا، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَلَهُ الْخِيَارُ لِنَقْصِهَا بِالدِّينِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ أَحْسَنُ مِنْهَا عِشْرَةً، وَأَكْثَرُ نَظَافَةً وَطَهَارَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعِشْرَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ وَكَمَالُ الْمُتْعَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُسْلِمَةِ أَوْجَدُ مِنْهُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ البيع والنكاح بما ذكرناه.

فَصْلٌ
وَإِذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمَةٌ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ تزوجت بِغَيْرِ شَرْطٍ، لَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ نَصْرَانِيَّةٌ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَهَا الْخِيَارُ قَوْلًا وَاحِدًا لِنُقْصَانِ دِينِهِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ فِرَاقَهُ إِلَّا بِالْفَسْخِ وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَلَى أَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ فَكَانَ مُسْلِمًا، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ، وَلَهَا الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَفْضَلَ دِينًا، لِأَنَّهَا إِلَى مَنْ وَافَقَهَا فِي الدِّينِ أَرْغَبُ وَهِيَ مِمَّنْ خَالَفَهَا فِيهِ أنفر.
فصل
وإذا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ يَظُنُّهَا مُسْلِمَةً فكانت نصرانية، فالنكاح جائز لا خِيَارَ لَهُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا يَظُنُّهَا حُرَّةً فَكَانَتْ أَمَةً فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، وَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - لَا خِيَارَ لَهُ كَالنَّصْرَانِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - لَهُ الْخِيَارُ.
وَالْفَرْقُ بينهما: أن ولي النصرانية متميز الهبة عَنْ وَلِيِّ الْمُسْلِمَةِ وَوَلِيَّ الْأَمَةِ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ وَلِيِّ الْحُرَّةِ وَلِأَنَّ وَلَدَهُ مِنَ الْأَمَةِ مَرْقُوقٌ وَمِنَ النَّصْرَانِيَّةِ مُسْلِمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(9/350)


باب الأمة تغر من نفسها من الجامع من كتاب النكاح الجديد ومن التعريض بالخطبة ومن نكاح القديم ومن النكاح والطلاق، إملاءً على مسائل مالكٍ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا وكل بتزويج أَمَتِهِ فَذَكَرَتْ وَالْوَكِيلُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا حرةٌ فتزوجها ثم علم فله الخيار فإن اختار فراقها قبل الدخول فلا نصف مهر ولا منعه وإن أصابها فلها مهر مثلها كان أكثر مما سمى أو أقل لأن فراقها فسخ ولا يرجع به فإن كانت ولدت فهم أحرارٌ وعليه قيمتهم يوم سقطوا وذلك أول ما كان حكمهم حكم أنفسهم لسيد الأمة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَكُونُ أَمَةً، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَنْكِحُ الْأَمَةَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَنْكِحُ الْأَمَةَ إِلَّا أَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا فَقَدْ عَتَقَتْ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا إِمَّا هِيَ أَوْ وَكِيلُهُ أَوْ هُمَا فَهِيَ حِينَئِذٍ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ حُرًّا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ عَبْدًا:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ أَوْلَدَهَا كَانَ وَلَدُهُ حراً، لأنه على شرط الحرية، أو ولده سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا غَرِمَ مَهْرَ الْمِثْلِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَرَجَعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَى غُرْمِهِ، وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قولين، وإن كان الزوج عبداً ففي ما قَدْ لَزِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ على ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: فِي كَسْبِهِ.
وَالثَّانِي: فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ عِتْقِهِ.
وَالثَّالِثُ: فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ سَيِّدُهُ، وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَصْلَيْنِ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدُهُ، هَلْ يَكُونُ الْمَهْرُ إِنْ وَطِئَهَا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي رَقَبَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا، هَلْ يَدْخُلُ فِي

(9/351)


جُمْلَةِ إِذْنِهِ، وَيَكُونُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي كَسْبِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ لَا رُجُوعَ لِلْعَبْدِ قَبْلَ غُرْمِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْغَارِّ لَهُ، فَإِذَا غَرِمَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَفِي رُجُوعِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلَانِ، فَهَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ إِنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ خِيَارُهُ عَلَى قولين كالحر لمكان شروطه وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ لَا خِيَارَ لَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ لِمُسَاوَاتِهِ لَهَا فِي الرِّقِّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا الْخِيَارُ فَاخْتَارَا الْفَسْخَ فَالْحُكْمُ فِي الْمَهْرِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا مَضَى.
وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اخْتَارَ الْمُقَامَ أَوْ قِيلَ إِنَّ لَيْسَ لَهُ خِيَارٌ فالحكم في الحالين واحد، وهو أن يختلف عَلَيْهِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ وَأَوْلَادُهُ مِنْهَا قَبْلَ علمه أحراراً، وَبَعْدَ عِلْمِهِ مَمَالِيكَ فَمَنْ وَضَعَتْهُ مِنْهُمْ لِأَقَلَّ من ستة أشهر بعد علمه فهم أحراراً، لِأَنَّهُمْ عَلَقُوا قَبْلَ عِلْمِهِ وَمَنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ علمه بستة أشهر فصاعداً فهم مَمَالِيكُ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ الْمُسَمَّى بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالْغَرُورِ دُونَ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا كَانَ الْمَهْرُ فِي كَسْبِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ قَدْ صَحَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَا يَكُونُ قِيمَةُ الْوَلَدِ فِي كَسْبِهِ؟ لِأَنَّ إِذْنَ سَيِّدِهِ بِالنِّكَاحِ لَا يقتضيها وأين تكون؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي رَقَبَتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي ذمته إذا أعتق، وَيَكُونُ مَا اسْتُحِقَّ مِنَ الْمَهْرِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَفَسَادِهِ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ أمته، ويكون من رق من الأولاد مِلْكًا لِلسَّيِّدِ وَقِيمَةُ مَنْ عَتَقَ مِنْهُمْ لِلسَّيِّدِ.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الَّذِي غَرَّهُ إِلَّا بعد أن يغرمها فإن كان الزوج عبداً فولده أحرارٌ لأنه تزوج على أنهم أحرارٌ ولا مهر له عليه حتى بعتق (قال المزني) وقيمة الولد في معناه وهذا يدل على أن لا غرم على من شهد على رجلٍ بقتل خطأ أو بعتقٍ حتى يغرم للمشهود له (قال الشافعي) رحمه الله وإن كانت هي الغارة رجع عليها به إذا أعتقت ".
قال الماوردي: فذكرنا أن الزوج يرجع بما غرمه من قيمته الْوَلَدِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي رُجُوعِهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى قَوْلَانِ، وَرُجُوعُهُ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بَعْدَ غُرْمِهِ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَغْرَمْ مَا يَرْجِعُ بِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ.

(9/352)


قَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ خَطَأٍ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ غُرْمُ الدِّيَةِ إِلَّا بَعْدَ أن يغرمها الْعَاقِلَةُ فَيَرْجِعُ بِهَا حينئذٍ عَلَى الشُّهُودِ وَهَذَا صحيح، لأنه قبل الغرم قد يجوز أن يبرأ الْعَاقِلَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعُ، فَإِذَا غَرِمَ الزَّوْجُ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُنْسَبَ الْغَرُورُ إِلَى السَّيِّدِ، لِأَنَّهَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ هِيَ حُرَّةٌ فَلَا يَكُونُ غَارًّا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْغَرُورُ إِمَّا مِنْهَا، أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ فِي نِكَاحِهَا، أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْوَكِيلُ بِغَرُورِ الزَّوْجِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَأُنْظِرَ إِلَى مَيْسَرَتِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَإِنْ تَفَرَّدَتِ الأمة بالغرور يرجع الزوج عليها بقيمة الولد، وبجميع مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا يَتْرُكُ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ غَرِمَ جَمِيعَهُ لِلسَّيِّدِ فَلَمْ يَصِرْ بُضْعُهَا مُسْتَهْلَكًا بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهَا لِأَنَّهَا أَمَةٌ تُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ ذَلِكَ فِي رَقَبَتِهَا تُبَاعُ فِيهِ كَالْعَبْدِ إِذَا نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَزِمَهُ الْمَهْرُ بِإِصَابَتِهِ كَانَ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّقَبَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَّا جِنَايَةٌ، وَوَطْءُ الْعَبْدِ جِنَايَةٌ تُوجِبُ الْغُرْمَ فَجَازَ أَنْ يتعلق بِرَقَبَتِهِ، وَلَيْسَ غَرُورُ الْأَمَةِ جِنَايَةً وَلَا الْغُرْمُ بِهَا يَتَعَلَّقُ وَإِنَّمَا تَعَلَقَّ بِوَطْءِ الزَّوْجِ فَلَمْ يجز أن يتعلق برقبتها، وإن اشتراك الْوَكِيلُ، وَالْأَمَةُ فِي الْغَرُورِ كَانَ غُرْمُ الْمَهْرِ وقيمة الأولاد بينهما نصفين لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْغَرُورِ، لَكِنْ مَا وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ مَنْ نِصْفِ الْغُرْمِ يُؤْخَذُ بِهِ مُعَجَّلًا، لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَمَا وَجَبَ عَلَى الْأَمَةِ مَنْ نِصْفِ الْغُرْمِ تُؤْخَذُ بِهِ إِذَا أَيْسَرَتْ بَعْدَ العتق.

مسألة
قال الشافعي: " إلا أن تكون مكاتبةً فيرجع عَلَيْهَا فِي كِتَابَتِهَا، لِأَنَّهَا كَالْجِنَايَةِ فَإِنْ عَجَزَتْ فحتى تعتق فإن ضربها أحدٌ فألقت جنيناً ففيه ما في جنين الحرة (قال المزني) رحمه الله قد جعل الشافعي جنين المكاتبة كجنين الحرة إذا تزوجها على أنها حرة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَكَانَتْ مُكَاتِبَةً كَانَ فِي نِكَاحِهَا قَوْلَانِ كَالْأَمَةِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ:
وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَمَةِ.
فَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَأَنْ لَا خِيَارَ فِيهِ أَوْ فِيهِ الْخِيَارُ فَاخْتَارَ الْمُقَامَ عَلَيْهِ فَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ وَاجِبٌ وَهُوَ لِلْمُكَاتِبَةِ دُونَ سَيِّدِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا وَاكْتِسَابُ الْمُكَاتِبَةِ لَهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ، فَأَمَّا أَوْلَادُهَا الَّذِينَ عُلِّقَتْ بِهِمْ بَعْدَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِكِتَابَتِهَا فَفِيهِمْ قَوْلَانِ:

(9/353)


أَحَدُهُمَا: مَمَالِيكُ لِسَيِّدِهَا.
وَالثَّانِي: تَبَعٌ لَهَا يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا إِنْ أَدَّتْ، وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهَا إِنْ عَجَزَتْ.
وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ أَوْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ، وَفِيهِ الْخِيَارُ فَاخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ وَيَنْظُرُ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُكَاتِبَةِ دُونَ سَيِّدِهَا، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ أَوْلَادِهَا وَفِيمَنْ تَكُونُ لَهُ قِيمَتُهُمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِلسَّيِّدِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ عَبِيدُهُ لَوْ رَقُّوا.
وَالثَّانِي: لِلْمُكَاتِبَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ تَبَعٌ لَهَا ثُمَّ فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْ قِيمَتِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - تستعين بِهِ فِي كِتَابَتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - إنَّهُ يَكُونَ مَوْقُوفًا كَمَا يُوقَفُ الْأَوْلَادُ لَوْ رَقُّوا، فَإِنْ عَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ مَلَكَتْ قِيمَتَهُمْ، وَإِنْ رَقَّتْ بِالْعَجْزِ كَانَتْ قِيمَتُهُمْ لِلسَّيِّدِ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي غَرَّهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهَا بَعْدَ غُرْمِهَا سَوَاءٌ غَرِمَهَا لِلْمُكَاتِبَةِ أَوْ لِسَيِّدِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُكَاتِبَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ لِلسَّيِّدِ غُرْمَهَا لِلسَّيِّدِ ثُمَّ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُكَاتِبَةِ فِي مَالِ كِتَابَتِهَا فَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ فَبَعْدَ عتقها.
وإن قيل: تجب قِيمَةُ الْأَوْلَادِ لَهَا دُونَ السَّيِّدِ سَقَطَتْ عَنْهُ ولم يغرمها، لأنه لو غرمها لرجح بِهَا، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يرجع به دفع جمعيه إِلَيْهَا.
وَإِنْ قِيلَ: يَرْجِعُ بِهِ نَظَرَ فِي الْغَارِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلَ غَرِمَ لَهَا مَهْرَهَا وَرَجَعَ بِجَمِيعِهِ عَلَى الْوَكِيلِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْغَارَّةُ سَقَطَ عَنْهُ الْمُهْرُ، لِأَنَّهُ لَهَا وهل يسقط جميعه أم لا؟ فيه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ جَمِيعُهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ على غيرها بجميعه.
والوجه الثاني: لَا يَسْقُطُ إِلَّا أَقَلُّ مَا يَجُوزُ، أَنْ يَكُونَ مَهْرًا فَيَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إِلَيْهَا وَلَا يَرْجِعُ به عليها، لأن لا يصير مُسْتَمْتَعًا بِبُضْعِهَا مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ.

فَصْلٌ
فَلَوْ كانت والمسألة بحالها حَامِلًا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ الْمَغْرُورِ فَضُرِبَ بَطْنُهَا، فَأَلْقَتْ حَمْلَهَا جَنِينًا مَيِّتًا فَعَلَى الضَّارِبِ فِي جَنِينِهَا غِرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، لِأَنَّهُ حُرٌّ فِي حَقِّهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، لِأَنَّهُ أَبُوهُ وَوَارِثُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الضَّارِبَ فَلَا يَرِثْهُ، لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا وَلَا تَرِثْهُ الْأُمُّ، لِأَنَّهَا مُكَاتِبَةٌ وَيَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ كَالَّذِي يَكُونُ فِي جَنِينٍ مَمْلُوكٍ، لِأَنَّهُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْأَبِ مِنَ الْغُرْمِ فِي حُكْمِ الْجَنِينِ الْمَمْلُوكِ وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ

(9/354)


الْأَبُ عَلَى الضَّارِبِ مِنَ الدِّيَةِ فِي حُكْمِ الجنين الحر وفيمن يَسْتَحِقُّ مَا غَرِمَهُ الْأَبُ مِنْ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لِلسَّيِّدِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْوَلَدَ مِلْكٌ لَهُ لَوْ رَقَّ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ لِلْأُمِّ الْمُكَاتِبَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا لَوْ رَقَّ، وَهَلْ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي مَالِ كِتَابَتِهَا أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا بِيَدِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ يَكُونُ رُجُوعُ الزَّوْجِ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى مَا مَضَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(9/355)


باب الأمة تعتق وزوجها عبدٌ من كتابٍ قديمٍ ومن إملاءٍ وكتاب نكاحٍ وطلاقٍ إملاءٍ على مسائل مالكٍ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا مالكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنِ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) وفي ذلك دليلٌ على أن ليس بيعها طلاقها إِذْ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ بَيْعِهَا فِي زَوْجِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ ذَاتَ زَوْجٍ فبيعت أو أعتقت كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا لَهَا.
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَنَسُ بْنُ مالك إلى أن بيعها طلاق لها، وَكَذَلِكَ عِتْقُهَا، وَلَا نَعْرِفُ قَائِلًا بِهِ مِنَ التابعين إلا مجاهد استدلالاً بقول اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) {النساء: 23) . إِلَى قَوْلِهِ: {وَالمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 24) . فَحَرَّمَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ إِلَّا أَنْ يُمْلَكْنَ فَيَحْلِلْنَ لِلْمَالِكِ، وَهَذِهِ قَدْ مُلِكَتْ بِالِابْتِيَاعِ فوجب أن تحل لمالكها، لأنه لَمَّا حَلَّتْ ذَاتُ الزَّوْجِ بِالسَّبْيِ لِحُدُوثِ مِلْكِ السَّابِي وَجَبَ أَنْ تَحِلَّ بِالشِّرَاءِ لِحُدُوثِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ النِّكَاحِ أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجٍ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نِكَاحِهِ، فَلَوْ كَانَ نِكَاحُهَا قَدْ بَطَلَ بِعِتْقِهَا لِأَخْبَرَهَا بِهِ وَلَمْ يُخَيِّرْهَا فِيهِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَثْبَتُ مِنْ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِدَوَامِهِ فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِالْعِتْقِ وَالْبَيْعِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَبْطُلَ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْعُ الزَّوْجِ وَعِتْقُهُ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهِ كَذَلِكَ بَيْعُ الزَّوْجَةِ، وَعِتْقُهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهَا، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ عَنِ الْبَائِعِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ الْبَائِعُ مَالِكَهَا فَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ مُقَرًّا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ كَانَ مُقَرًّا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي السَّبَايَا.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالسَّبَايَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبْيَ لَمَّا أَبْطَلَ الْحُرِّيَّةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَى، كَانَ بِأَنْ يُبْطِلَ النِّكَاحَ أَوْلَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ والعتق.

(9/356)


وَالثَّانِي: أَنَّ السَّبْيَ قَدْ أَحْدَثَ حَجْرًا فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ بِحَالِهِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي إِقْرَارُ الزَّوْجِ عَلَى نِكَاحِهِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِنِكَاحِهِ لِتَفْوِيتِ بُضْعِهَا عليه.

مسألة
قال الشافعي: " وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كان عبداً وعن ابن عباس أنه كان عبداً يقال له مغيثٌ كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للعباس رضي الله عنه يا عباس ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لو راجعته فإنما هو أبو ولدك " فقالت يا رسول الله بأمرك؟ قال " إنما أنا شفيعٌ " قالت فلا حاجة لي فيه وعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ كان عبداً (قال الشافعي) رحمه الله ولا يشبه العبد الحر لأن العبد لا يملك نفسه ولأن للسيد إخراجه عنها ومنعه منها ولا نفقة عليه لولدها ولا ولاية ولا ميراث بينهما ".
قال الماوردي: أما إذا أعتقت الْأَمَةُ تَحْتَ زَوْجٍ، وَكَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ لِكَمَالِهَا وَنَقْصِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي ".
فَأَمَّا إِذَا أعتقت الأمة وَزَوْجُهَا حُرٌّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِهَا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: وَصَاحِبَاهُ: لَهَا الْخِيَارُ.
وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَطَاوُسٌ اسْتِدْلَالًا برواية إبراهيم بن الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَرِيرَةَ، وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، وَهَذَا نَصٌّ قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " قَدْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي " فَجَعَلَ عِلَّةَ اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ موجودة إذا أعتقت تحت حر لوجودها إذا أعتقت تَحْتَ عَبْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالَيْنِ قَالَ: وَلِأَنَّهَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ.

(9/357)


أَصْلُهُ: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ ملك عليها بعضها بعد العتق بمهر ملكه غَيْرُهَا فِي الرِّقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا فسخه فيصح أَنْ تَمْلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا عَلَيْهَا فِي الْعُبُودِيَّةِ.
وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيَّرَ بَرِيرَةَ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا.
فَوَجْهُ الدَّلِيلِ فيه أن الحكم إذا انتقل مَعَ السَّبَبِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا إذا نقل الحكم مع علة تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَقَدْ نُقِلُ التَّخْيِيرُ بِعِتْقِهَا تَحْتَ عَبْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عائشة أنه كان حراً فتعارضت الروايتان في النقل، وَكَانَتْ رِوَايَةُ الْحُرِّيَّةِ أَثْبَتَ فِي الْحُكْمِ، إِلَّا ترى لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِحُرِّيَّةِ رَجُلٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِعُبُودِيَّتِهِ كَانَ شَهَادَةُ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ العبودية كذلك في النقلين المتعارضين.
قيل: روايتنا إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا أَوْلَى مِنْ رِوَايَتِهِمْ إِنَّهُ كَانَ حُرًّا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ رَاوِي الْعُبُودِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ ثَلَاثَةٌ عُرْوَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَعَمْرَةُ، وَرَاوِي الْحُرِّيَّةِ عَنْهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ وَرِوَايَةُ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُمْ مِنَ السَّهْوِ أَبْعَدُ وَإِلَى التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ أَقْرَبُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) {البقرة: 282) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ ".
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ ذَكَرْنَا أَخَصُّ بِعَائِشَةَ مِنَ الْأَسْوَدِ، لِأَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ هُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ أَخِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هِيَ بِنْتُ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا يَسْتَمِعُونَ كَلَامَهَا مُشَاهَدَةً من غير حجاب، والأسود أجنبي لا يسمع كَلَامَهَا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَكَانَتْ رِوَايَتُهُمْ أَوْلَى مِنْ رِوَايَتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَقْلَ الْعُبُودِيَّةِ يُفِيدُ عِلَّةَ الْحُكْمِ، وَنَقْلَ الْحُرِّيَّةِ لَا يُفِيدُهَا، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجْعَلُ حُرِّيَّةَ الزَّوْجِ عِلَّةً في ثبوت الخيار، والعبودية يجعله عِلَّةً فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَكَانَتْ رِوَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ أَوْلَى.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ وَافَقَ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَحَابِيَّانِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وما وافقهما فِي رِوَايَةِ الْحُرِّيَّةِ أَحَدٌ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَوَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى عَنْهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ، يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّي أَرَاهُ يَطُوفُ خَلْفَهَا بِالْمَدِينَةِ، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ

(9/358)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ شِدَّةِ حُبِّ مغيث بريرة ومن شدة بغض بريرة مغيث، قَالَ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لو راجعته فإنما هُوَ أَبُو وَلَدِكِ " فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ، قَالَتْ فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.
فَأَمَّا تَرْجِيحُهُ بِأَنَّ شُهُودَ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ شُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ كَذَلِكَ رَاوِي الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ رَاوِي الْعُبُودِيَّةِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَلِمَ شُهُودُ الْحُرِّيَّةِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَشَهَادَتُهُمْ أَوْلَى، لِأَنَّهُمْ أَزْيَدُ عِلْمًا مِمَّنْ عَلِمَ الْعُبُودِيَّةَ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يُجَدَّدُ بَعْدَهَا مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شُهُودُ الْحُرِّيَّةِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَكَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ قَدْ تَعَارَضَتَا فَسَقَطَتَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ شَهَادَةَ الْعُبُودِيَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ مَنْ حُكْمِ الدَّارِ فَكَانَتْ أَزْيَدَ مِمَّنْ شَهِدَ بِالْحُرِّيَّةِ الَّتِي هِيَ الْغَالِبُ مَنْ حُكْمِ الدَّارِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّقِيطَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ حُكْمِ الدار، ولأن أَهْلَهَا أَحْرَارٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ ترجيح.
فإن قالوا: تستعمل الرِّوَايَتَيْنِ فَتَحْمِلُ رِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَرِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْحُرِّيَّةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَقْتَ الْعِتْقِ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَطْرَأُ عَلَى الرِّقِّ، وَلَا يَطْرَأُ الرِّقُّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَأْوِيلٌ يَبْطُلُ بِخَبَرَيْنِ:
أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ: أَنَّ أُسَامَةَ رَوَى عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " إِنْ شِئْتِ أَنْ تَسْتَقِرِّي تَحْتَ هَذَا الْعَبْدِ، وَإِنْ شِئْتِ فَارَقْتِيهِ " فَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ التَّخْيِيرِ عَبْدًا.
وَالْخَبَرُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّنَا نُقَابِلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ بِمِثْلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ حُرًّا قَبْلَ السبي وعبداً بعد السبي عند العقد والتخيير.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْعِتْقِ وَحُرًّا وقت التخيير فتكون لَهَا الْخِيَارُ فِي أَحَدِ

(9/359)


الْمَذْهَبَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَوْهَبٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، فأرادت عتقها فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابدأي بِالْغُلَامِ فَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَقْدِيمِ عِتْقِ الزَّوْجِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ وَلَا فَائِدَةَ إلا سقوط خيار الزوجة عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: ابدأي بالغلام، لأن لا يَكُونَ لِلزَّوْجَةِ خِيَارٌ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا صَرِيحًا.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهَا كَافَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْفَضِيلَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا بِذَلِكَ خِيَارٌ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ تَحْتَ مسلم أو أفاقت من جنون تَحْتَ عَاقِلٍ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخِيَارُ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الخيار في أثناء النكاح كالعمى طَرْدًا، وَكَالْجَبِّ عَكْسًا، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ خِيَارٌ كَالْبَيْعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: " قَدْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي " فَهُوَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُهُمْ وَلَا وُجِدَ إِلَّا فِي كُتُبِهِمْ ثُمَّ يَكُونُ مَعْنَاهُ قَدْ مَلَكْتِ نَفْسَكِ تَحْتَ الْعَبْدِ فَاخْتَارِي فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا تَحْتَ الْحُرِّ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَالْمَعْنَى فيه نقصه بالرق عن كمالها بالحرية فذلك كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِتْقُهَا مَعَ الْحُرِّ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا بُضْعَهَا بِمَهْرٍ مَلَكَهُ غَيْرُهَا فَلَا تَأْثِيرَ لهذا المعنى، واستحقاق الْخِيَارِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُكَاتِبَةً وَقْتَ الْعَقْدِ فَمَلَكَتْ مَهْرَهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فبطل أن يكون استحقاقه لهذه العلة، وبطل أن يكون الْعِلَّةَ، لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ بِالْعِتْقِ مَا مُلِكَ عليها في الرق، لأنها لو أوجرت ثم عتقت لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ خِيَارٌ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَبَطَلَ الاستدلال - والله أعلم -.
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " فَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كَانَ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا أعتقت ما لم يصبها زوجها بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَا أَعْلَمُ فِي تَأَقْيِتِ الْخِيَارِ شَيْئًا يُتَّبَعُ إِلَّا قَوْلَ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَمْ يَمَسَّهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا إِذَا أُعْتِقَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَغَيْرِ حُكْمِهِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ بالعيوب، لأن خيارها بالعتق غير مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حَاكِمٍ، وَخِيَارَهَا بِالْعَيْبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَافْتَقَرَ إِلَى حَاكِمٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ خِيَارُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ على الفور معتبراً بالمكنة، لأنه خيار عيب ثبت لرفع ضرر فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ كَالْخِيَارِ بِالْعِتْقِ فِي الْبُيُوعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُمْتَدٌّ بَعْدَ الْعِتْقِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هِيَ آخِرُ حَدِّ القليل، وأول حد الكثير، واعتباراً بالخيار في المصراة ثلاثاً، بأنه جَعَلَ الْخِيَارَ خِيَارَ ثَلَاثٍ.

(9/360)


وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ تصرح بالرضى أو التمكين مِنْ نَفْسِهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: لَمَّا رَأَى مُغِيثًا بَاكِيًا: " لَوْ راجعتيه فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ " وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ عِتْقِهَا، فَلَوْلَا امْتِدَادُ خِيَارِهَا عَلَى التَّرَاخِي لَأَبْطَلَهُ وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادٍ رَفَعَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " لَكِ الْخِيَارُ مَا لَمْ يُصِبْكِ " وهذا نص إِنْ صَحَّ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وليس يعرف لهما فيه خلاف، ولأن طلب الأحظ في هذا الخيار مثبته يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَارْتِيَاءٍ فَتَرَاخَى زَمَانُهُ لِيُعْرَفَ بِامْتِدَادِهِ أَحَظُّ الْأَمْرَيْنِ لَهَا، وَخَالَفَ خِيَارَ الْعُيُوبِ التي لا يشتبه الأحظ منها.

مسألة
قال الشافعي: " فإن أصابها فادعت الجهالة ففيها قولان أحدهما أن لَا خِيَارَ لَهَا وَالْآخَرُ لَهَا الْخِيَارُ وَهَذَا أحب إلينا (قلت أنا) وقد قَطَعَ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي كِتَابَيْنِ وَلَا مَعْنَى فِيهَا لِقَوْلَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي أَمَةٍ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ، وَأَرَادَتْ فَسْخَ نِكَاحِهِ فَدَعْوَى الْجَهَالَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدَّعِي الْجَهَالَةَ بِالْعِتْقِ وَإِنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ بِهِ حَتَّى مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ صِدْقَهَا لِبُعْدِهَا عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ سَيِّدُهَا، وَقُرْبِ الزَّمَانِ عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا خَبَرُ عِتْقَهَا فَقَوْلُهَا مَقْبُولٌ، وَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّ خِيَارَ الْعُيُوبِ لَا يُبْطَلُ بِالتَّأْخِيرِ إِذَا جهلت.
والقسم الثاني: أن تعلم كذلك بها، لِأَنَّهَا وُجِّهَتْ بِالْعِتْقِ أَوْ بُشِّرَتْ بِهِ فَعَلِمَتْ أَحْكَامَهَا فَقَوْلُهَا مَرْدُودٌ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ التَّمْكِينِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَمِلَ الْأَمْرَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ عِلْمِهَا وثبوت الخيار لها فَلَمْ يُصَدَّقِ الزَّوْجُ فِي إِبْطَالِهِ عَلَيْهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ثُبُوتُ النِّكَاحِ فَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهَا فِي فَسْخِهِ مع احتمال تخريجها مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَهَالَةِ بِالْحُكْمِ.

فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي
: أَنْ تَدَّعِي الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ مَعَ عِلْمِهَا بِالْعِتْقِ فَتَقُولُ: لَمْ أَعْلَمْ بِأَنَّ لِي الْخِيَارَ إِذَا أُعْتِقْتُ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِي، وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْعِتْقِ فَهُوَ أَيْضًا عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يعلم، لأنها جلبية أَعْجَمِيَّةٌ فَقَوْلُهَا مَقْبُولٌ، وَلَهَا الْخِيَارُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يعلم أن مثلها يعلم، لأنها مخالطة للفقهاء مسائلة العلماء فَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ التمكين.

(9/361)


والثالث: أن يحتمل الأمران أن يعلم، وأن لا يعلم، فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى أَنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنَّ أَكْذَبَهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا اعْتِبَارًا بِثُبُوتِ الخيار لها وأنه حكم قَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَامَّةِ وَلَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ إِلَّا الْخَاصَّةُ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي إِبْطَالِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا خِيَارَ لَهَا اعْتِبَارًا بِلُزُومِ النِّكَاحِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي فَسْخِهِ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاخْتَارَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَصَحُّ لَكِنَّهُ جَعَلَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعَيْنِ إِبْطَالًا لِلثَّانِي، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلُ الثَّانِي بِذِكْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَبْطُلْ بِإِعَادَةِ الْأَوَّلِ - وَاللَّهُ أعلم -.

مسألة
قال الشافعي: " فَإِنِ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ وَلَمْ يَمَسَّهَا فَلَا صَدَاقَ لها فإن أَقَامَتْ مَعَهُ فَالصَّدَاقُ لِلسَّيِّدِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا خُيِّرَتِ الْمُعْتَقَةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تختار الْفَسْخُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَسْقُطُ مَهْرُهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ إِذَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَسْقَطَ مَهْرَهَا كَالرِّدَّةِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا، وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ طلقتين لا مَهْرَ لَهَا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُفْسَخَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْمَهْرُ مُسْتَقِرٌّ بِالدُّخُولِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَجَبَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ كَانَ بحادث بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ أَنْ لَا تَعْلَمَ بِالْعِتْقِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهُ فُسِخَ بِسَبَبٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا بَعْدَهُ فَصَارَ الْعَقْدُ مَرْفُوعًا بِسَبَبِهِ الْمُتَقَدِّمِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ بِالْعِدَّةِ فِي الْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا قُلْنَا فِي الْعَيْبِ ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْإِصَابَةُ قَبْلَ الْعِتْقِ أو بعده.

فصل: والحالة الثانية
: أن يختار المقام والنكاح ثابت والصداق عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى فِي العقد فهو للسيد دونهما.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ الصَّدَاقُ لَهَا وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ صَارَ مُسْتَقِرًّا بِالدُّخُولِ، وَالْعَقْدُ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ لَهُ كَمَا لَوْ عَقَدَتْهُ فِي حُرِّيَّتِهَا كَانَ الصَّدَاقُ لَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَعْقِدُ عَلَى مَنَافِعِهَا بِالْإِجَارَةِ تَارَةً وَبِالنِّكَاحِ أُخْرَى فَلَمَّا كَانَ لَوْ

(9/362)


أَجَرَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ لَهُ دُونَهَا كَذَلِكَ إِذَا زَوَّجَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا كَانَ الصَّدَاقُ لَهُ دُونَهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُفَوَّضَةً لم يسم لها في العقد صداقاً حتى أعتقت فَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا فَرَضَ مِنْ صَدَاقِ الْمُفَوَّضَةِ هَلْ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْفَرْضِ.
فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ فَرَضَ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْمُسَمَّى فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلسَّيِّدِ استحقاقه فِي مِلْكِهِ كَالْمُسَمَّى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْفَرْضِ لِخُلُوِّ الْعَقْدِ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ للمعتقة لاستحقاقه بعد عتقها.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ طلقةٍ فَلَهَا الْفَسْخُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الأمة واحدة بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ وَقَدْ بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ، وَصَارَتْ كَزَوْجَةِ الْحُرِّ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ ثَلَاثًا وَالْعَبْدَ طَلْقَتَيْنِ فَإِنْ أُعْتِقَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ الْمُطَلَّقَةُ فِي عِدَّتِهَا فَلَهَا الْفَسْخُ، لِأَنَّهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ في حكم الزوجات لوقوع طلاقه عليها، وصحة ظهاره وَإِيلَائِهِ مِنْهَا فَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَتْ جارية في فسخ، لأن الفسخ لا ينافي الفسخ وليستعيد بِالْفَسْخِ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يختار الفسخ.
والثاني: أن يختار الْمُقَامُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تُمْسِكَ فَلَا تَخْتَارُ الْفَسْخَ وَلَا الْمُقَامَ فَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ، كَانَ ذَلِكَ لَهَا وَهَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّجْعَةَ بِطَلَاقِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا رَجْعَةَ لَهُ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُرَادُ لِلِاسْتِبَاحَةِ، وَالْفَسْخُ قَدْ مَنَعَ مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلرَّجْعَةِ تَأْثِيرٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا رَجْعَةَ لَهُ كَانَ تَأْثِيرُ الْفَسْخِ إِسْقَاطَ الرَّجْعَةِ لَا وُقُوعَ الْفُرْقَةِ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ دون الفسخ، وأول عِدَّتِهَا مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فِي الرِّقِّ، وَقَدْ صارت في تضاعيفها حُرَّةٍ، فَتَكُونُ عِدَّتُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عِدَّةُ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: عِدَّةُ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ.
وَإِنْ قِيلَ: لَهُ الرَّجْعَةُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.

(9/363)


إما أن يراجع أو لَا يُرَاجِعَ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ، وَفِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ رَاجَعَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالْفَسْخِ دون الطلاق، وأول عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ، وَهِيَ عِدَّةُ حُرَّةٍ، لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ وَإِنِ اخْتَارَتِ الْمُقَامَ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ جَرَيَانَهَا فِي الْفَسْخِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الرِّضَى.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَ خِيَارُهَا بِالرِّضَى، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ أَنْ تَفْسَخَ، لِأَنَّ أحكام الزوجية جَارِيَةً عَلَيْهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا إِنْ رَضِيَتْ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْجَارِيَةَ فِي عِدَّةِ الْفُرْقَةِ لا يلزمها حكم الرضى إذا أعتقت كَمَا لَوِ ارْتَدَّ، وَقَالَ أَنْتِ بَائِنٌ فَإِنَّ أبا حنيفة يُوَافِقُ فِيهِمَا أَنَّ الرِّضَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَ لَا يَخْتَلِفُ فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ، وَكَانَ فِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ: وَإِنْ رَاجَعَ عَادَتْ بِالرَّجْعَةِ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الفسخ، والمقام، لِأَنَّ ذَلِكَ الرِّضَى لَمَّا كَانَ فِي غَيْرِ محله سقط حكمه، فإن اختارت المقام كان عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ حرة من وفت الْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتَ الْعِتْقِ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ وَلَا الْفَسْخُ فَهُوَ عَلَى مَا ذكرنا من أن الزوج أَنْ يُرَاجِعَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقِهِ وَفِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ، وَإِنْ رَاجَعَ كَانَتْ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ فَإِنْ فَسَخَتِ اسْتَأْنَفَتْ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَّةَ حُرَّةٍ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَدْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا مَلَكَهُ مِنْ طَلَاقِهَا فَإِنْ أُعْتِقَتْ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهَا مَبْتُوتَةٌ بِالطَّلَاقِ فَصَارَتْ بَائِنًا، وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ إِذَا أُعْتِقَتْ؛ لِأَنَّهَا بِالْخُلْعِ مَبْتُوتَةٌ وَإِنْ بَقِيَ لَهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَاحِدَةٌ.
فَصْلٌ
وَإِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَبَادَرَ الزَّوْجُ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْفَسْخِ فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - رَوَاهُ الرَّبِيعُ - أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لِلْفَسْخِ يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِ الزَّوْجِ فِيهَا بِغَيْرِ الطَّلَاقِ فَمَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالطَّلَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ - إِنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ، لِأَنَّهَا قَبْلَ الْفَسْخِ زَوْجَةٌ، وَإِنِ اسْتَحَقَّتِ الْفَسْخَ وَالطَّلَاقَ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْفَسْخِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفٍ يُضَادُّهُ كَالِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ.
وَقَالَ أَبُو حامد الإسفراييني: الطَّلَاقُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ فَسَخَتْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يكن واقعاً، وإن لم يفسخ بان أنه كان واقعاً كطلاق المرتدة، والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وإن تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهِيَ عَلَى واحدةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَمَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَإِنْ فَسَخَتْ نِكَاحَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ

(9/364)


يُطَلِّقَهَا جَازَ بَعْدَ الْفَسْخِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا كَانَتْ مِنْهُ مُنِعَتْ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهِ، ولم يمنع مِنْ نِكَاحِهِ فَإِذَا نَكَحَهَا كَانَتْ مَعَهُ عَلَى مَا يَمْلِكُ مِنَ الطَّلَاقِ الْكَامِلِ وَهُوَ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ الْفَسْخُ طَلَاقًا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ فَسْخِهَا طَلْقَتَيْنِ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ كَمَا تَحْرُمُ عَلَى الْحُرِّ بِمَا بَعَدَ ثَلَاثٍ لِاسْتِيفَائِهِ مَا مَلَكَ مِنَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا، سَوَاءٌ فَسَخَتْ بَعْدَ طَلَاقِهِ أَوْ لَمْ تَفْسَخْ وَتَكُونُ مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْبَاقِيَةُ لَهُ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فَفِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ طَلَاقِهَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ إِذَا عتقت فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا:
أَحَدُهُمَا: تَكُونُ مَعَهُ عَلَى طلقة واحدة اعتباراً بما هي من نكاحه الأولى الذي كان فيه عبداً.
والقول الثَّانِي: تَكُونُ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِمَا يَمْلِكُهُ فِي نِكَاحِهِ الثَّانِي الَّذِي قَدْ صَارَ به حراً.

مسألة
قال الشافعي: " وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْمُعْتَقَةِ تحت عبد أن تختار الفسخ في نِكَاحِهِ مِنْ غَيْرِ حَكَمٍ فَإِنْ تَرَافَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فعلى بالسلطان أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَوَابٌ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ خِيَارَهَا فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي فَلَا يُؤَجِّلُهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا لِلتَّحَاكُمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ مِنْ مَكِنَةِ الْفَوْرِ.
فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ خِيَارَهَا إِلَى ثَلَاثٍ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ خِيَارِهَا وَلَا إِبْطَالُ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ مُدَّتِهِ أَوْ مِنْ تَرَاخِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَوَابٌ مِنْهُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَإِذَا قَاضَاهَا الزوج إليه، وقال الزوج: إما أن تمكنيني أَوْ تَفْسَخِي لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْهِلَهَا وَيَذْرَهَا مَعَهُ مُعَلِّقَةً لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مُفَارِقَةٍ فَيَقُولُ لَهَا: أَنْتِ وَإِنْ كَانَ خِيَارُكِ مُمْتَدًّا على التراخي بالتحاكم ثلاث والقضاء يفصل فاختاري تعجيل الفسخ أو الرضى فَإِنْ فَسَخَتْ فِي مَجْلِسِهِ وَإِلَّا سَقَطَ حَقُّهَا منه والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " فإن كانت صبية فحتى تَبْلُغَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي أَمَةٍ صَغِيرَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَقَدْ وَجَبَ لَهَا

(9/365)


الْخِيَارُ مَعَ الصِّغَرِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعُقُودِ مِنَ الْحُقُوقِ اسْتَوَى اسْتِحْقَاقُهُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ كَالشُّفْعَةِ لَكِنْ لَيْسَ لَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَخْيِيرٌ يُسْتَحَقُّ فِي الصِّغَرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفُوتَ بانتظار البلوغ فخالف خيار الْعِتْقِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ تَخْيِيرٌ لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَيْسَ لِقَوْلِهِ حكم، وإذا كان هكذا فليس لِوَلِيِّهَا مِنْ أَبٍ وَلَا مُعْتِقٍ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ الَّتِي يَكُونُ لِلْوَلِيِّ أَخْذُهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ فِي هَذَا الْخِيَارِ اسْتِهْلَاكًا لَيْسَ فِي الشُّفْعَةِ فَجَرَى مَجْرَى اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ الَّذِي لَيْسَ لِلْوَلِيِّ فِيهِ خِيَارٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا وَلَا لِوَلِيِّهَا حَتَّى تَبْلُغَ، فَإِذَا بلغت كان البلوغ أَوَّلِ زَمَانِ الْخِيَارِ فَيَكُونُ فِيهِ حِينَئِذٍ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ تَرْضَ أَوْ تُمَكِّنْ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا مَا بين عتقها وبلوغها فالصحيح أنه تمكن منه، ولا يُمْنَعُ مِنْ إِصَابَتِهَا، لأن اسْتِحْقَاقَهَا لِلْفَسْخِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ الرَّبِيعُ إِنَّ طَلَاقَ الزَّوْجِ قَبْلَ الْفَسْخِ وَبَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَا يقع.

مسألة
قال الشافعي: " ولا خيار لأمةٍ حَتَّى تَكْمُلَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا قَبْلَ استكمال الحرية، فإذا أعتق بَعْضُهَا وَرَقَّ بَاقِيهَا، فَإِنْ قَلَّ فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دُبِّرَتْ أَوْ كُوتِبَتْ وَفِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ أَنْ يُعْتَقَ جَمِيعُهَا، وَقَدْ أُعْتِقَ مِنَ الزَّوْجِ بَعْضُهُ وَإِنْ كَثُرَ وَرَقَّ بَاقِيهِ، وَإِنْ قَلَّ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ.
فَصْلٌ
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إِذَا زَوَّجَهَا سَيِّدَهَا بِعَبْدٍ عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ مَعَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَدْخُلِ الزَّوْجُ بِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا بِالْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا الْفَسْخُ مُفْضٍ إِلَى إِبْطَالِ الْعِتْقِ وَالْفَسْخِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ صَدَاقُهَا فَصَارَتِ التَّرِكَةُ مِائَتَا درهم قيمتها نِصْفُهَا فَيُعْتَقُ ثُلْثَاهَا وَيَرِقُّ ثُلُثُهَا، وَإِذَا رَقَّ ثُلْثُهَا بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إلى

(9/366)


إبطاله وإبطال غيره أبطل ثبوت غيره فكذلك بَطَلَ الْخِيَارُ وَمَضَى الْعِتْقُ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ قَدْ ذكرناها.

مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْخِيَارِ فَلَا خِيَارَ لَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي أَمَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عبد فلم تختر فسخ نكاح حَتَّى أُعْتِقَ إِمَّا بِأَنْ لَمْ تَعْلَمْ بِعِتْقِهَا فَيَكُونُ خِيَارُهَا بَاقِيًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، وَإِمَّا بِأَنْ عَلِمَتْ، وَقِيلَ خِيَارُهَا عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ فَفِي بَقَاءِ خِيَارِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ خِيَارَهَا ثَابِتٌ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يسقط مع زوال سببه إلا بالاستبقاء.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ خِيَارِهَا إزالة النقص الداخل عليها بِرِقِّهِ وَقَدْ زَالَ النَّقْصُ بِعِتْقِهِ فَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ مَعْنًى يَقْتَضِيهِ، فَلَوْ أُعْتِقَ الزَّوْجَانِ في حالة واحدة فلا خيار لهما لاستوائهما في التكافئ بِالرِّقِّ وَالْعِتْقِ، وَلَوْ أُعْتِقَ الزَّوْجُ دُونَهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِفَسْخِ نِكَاحِهَا بِعِتْقِهِ وَرِقِّهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ لِيَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا مِنَ الْخِيَارِ مِثْلَ مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ الضَّرَرِ بِالطَّلَاقِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَسْخِ فَافْتَرَقَا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(9/367)


باب أجل العنين والخصي غير المجبوب والخنثى من الجامع من كتابٍ قديمٍ ومن كتاب التعريض بالخطبة
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بن عيينة عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عن عمر رضي الله عنه أنه أجل العنين سنةً (قال) ولا أحفظ عمن لقيته خلافاً في ذلك فَإِنْ جَامَعَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا كما قال: أما العنة في الْعَجْزُ عَنِ الْوَطْءِ لِلِينِ الذَّكَرِ وَعَدَمِ انْتِشَارِهِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَسُمِّيَ مَنْ بِهِ الْعُنَّةَ عِنِّينًا، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنه سمي عنيناً للين ذكره يعني عند إرادة الوطء وَانْعِطَافِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ لِلِينِهِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: إِنَّهُ سُمِّيَ عِنِّينًا، لِأَنَّ ذَكَرَهُ يَعِنُّ عِنْدَ إِرَادَةِ الْوَطْءِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَنْ يَمِينِ الفرج ويساره فلا يلج مأخوذ من العنن، وهو الاعتراض، يقال عزلك الرجل إذا اعترضتك عن يمينك أو يسارك.
وَالْعُنَّةُ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ لِلزَّوْجَةِ خِيَارُ الْفَسْخِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا شاذاً عن الحكم عن عيينة وَدَاوُدَ، إِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ لَمَّا تَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: أن زوجي أبت طلاقي، وقد تزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وإنما له مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَكِ " فَلَمْ يَجْعَلِ الْعُنَّةَ فِيهِ عَيْبًا، وَلَا جَعَلَ لَهَا خِيَارًا.
وَرَوَى هَانِئُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَنْتَشِرُ فَقَالَ: وَلَا عِنْدَ الحر قَالَتْ لَا، قَالَ مَا عِنْدَ اسْتِ هَذَا خَيْرٌ ثُمَّ قَالَ اذْهَبِي فَجِيئِي بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ رَآهُ شَيْخًا ضَعِيفًا فَقَالَ: لَهَا اصْبِرِي فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ يَبْتَلِيَكِ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فعل، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا خِيَارًا.

(9/368)


وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهنِ بِالمَعْرُوفِ) {البقرة: 229) فَلَمَّا كَانَ الْوَطْءُ حَقًّا لَهُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٌ) {البقرة: 229) وَهِيَ الْفُرْقَةُ؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُغِيرَةِ، وَابْنِ عمر وجابر، أنه يؤجل فإن أصاب وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ بِخِلَافِ هَذَا.
قِيلَ: تِلْكَ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ ثَابِتَةً؛ لِأَنَّ هَانِئَ بْنَ هَانِئٍ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ تِلْكَ لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا عِنِّينًا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ لِضَعْفِ الْكِبَرِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَنَّسَتْ عِنْدَهُ وَالْعِنِّينُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُصِبْهَا قَطُّ وَقَدْ قال الشافعي في إثبات الإجماع: لا أحفظ عمن لَقِيتُهُ خِلَافًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لَهَا بِالْجَبِّ خيار الفسخ لفقد الإصابة المقصورة فكذلك العنة؛ ولأن الْعِنِّينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُولِي لِأَنَّ الْمُولِيَ تَارِكٌ لِلْإِصَابَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالْعِنِّينَ تَارِكٌ لَهَا مَعَ الْعَجْزِ، فَلَمَّا كَانَ لَهَا الْفَسْخُ فِي الْإِيلَاءِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْعُنَّةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِالرَّتْقِ لِتَعَذُّرِ الْجِمَاعِ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى فِرَاقِهَا بِالطَّلَاقِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ لَهَا بِعُنَّةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى فِرَاقِهِ بِالطَّلَاقِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا شَكَتْ ضَعْفَ جِمَاعِهِ، وَلَمْ تَشْكُ عَجْزَهُ عَنْهُ أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَهَا: " لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " وَلَوْ كَانَ عَاجِزًا لَمَا ذَاقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عُسَيْلَةَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عسيلتك " فقالت يا رسول الله قد جاءني هبة وفيه معنيان:
أحدهما: أن الهبة مرة واحدة قاله ابن وهب.
والثاني: أنها حِقْبَةٌ مِنَ الدَّهْرِ قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَهَذَا نص في الجواب.
والثالث: إِنَّهَا ادَّعَتْ ذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الزَّوْجِ اعْتِرَافٌ بِدَعْوَاهَا بَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا قَوْلَهَا فَقَالَ: كَذَبَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي: " أَعْرُكُهَا عَرْكَ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ ".

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ فَهُوَ مُعْتَبِرٌ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا قَطُّ فَإِنْ أَصَابَهَا مَرَّةً زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْعُنَّةِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى إِيلَاجِ حَشَفَةِ الذَّكَرِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِيلَاجِ الْحَشَفَةِ وَإِنِ اسْتَعَانَ بِيَدِهِ زال عنه حكم العنة، فإن تَكَامَلَ الشَّرْطَانِ وَتَصَادَقَ عَلَيْهِمَا الزَّوْجَانِ لَمْ يَتَعَجَّلِ الْفَسْخَ بِهَا، وَأُجِّلَ الزَّوْجُ لَهَا سَنَةً كَامِلَةً بالأهلة.

(9/369)


وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُؤَجَّلُ نِصْفَ سَنَةٍ.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ إِنَّهُ يُؤَجَّلُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَدِيثَةَ الْعَهْدِ مَعَهُ أُجِّلَ لَهَا سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةَ الْعَهْدِ مَعَهُ أُجِّلَ لَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَاسِدَةٌ لَا يَرْجِعُ التَّقْدِيرُ فِيهَا إِلَى أصل من جهة وتقدير أصله بِالسَّنَةِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ عمر؛ لأنه أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً، وَعُمْرُ لَا يَفْعَلُ هَذَا غإا عَنْ تَوْقِيفٍ يَكُونُ نَصًّا أَوْ عَنِ اجْتِهَادٍ شَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرُ الْمَشُورَةِ في الأحكام فيكون مع عدم الخلاف فيه إجماعاً، وإذا تردد بين حالين نص أو إجماع لم يجز بخلافه.
والثاني: إن التأجيل إِنَّمَا وَضِعَ لِيُعْلَمَ حَالُهُ، هَلْ هُوَ مِنْ مَرَضٍ طَارِئٍ فَيُرْجَى زَوَالُهُ أَوْ مِنْ نقصٍ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَكَانَتِ السَّنَةُ الْجَامِعَةُ لِلْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَجَلًا مُعْتَبَرًا؛ لِأَنَّ فَصْلَ الشِّتَاءِ بَارِدٌ رَطْبٌ وَفَصْلَ الصَّيْفِ حَارٌّ يَابِسٌ، وَفَصْلَ الرَّبِيعِ حَارٌّ رَطْبٌ، وَفَصْلَ الْخَرِيفِ بَارِدٌ يَابِسٌ فَإِذَا مَرَّ بِالْمَرَضِ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ ظَهَرَ وَكَانَ سَبَبًا لِبُرْئِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَرْدٍ ففصل الحد يقابله فإن كَانَ مِنْ حَرٍّ فَفَصْلُ الْبَرْدِ يُقَابِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رُطُوبَةٍ فَفَصَلُ الْيُبُوسَةِ يُقَابِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ يُبُوسَةٍ فَفَصْلُ الرُّطُوبَةِ يُقَابِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ نَوْعَيْنِ فَمَا خَالَفَهُ فِي النَّوْعَيْنِ، هُوَ الْمُقَابِلُ لَهُ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ مَرَضًا لِمَا قِيلَ عَنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ أَنَّهُ لَا يسحر الدَّاءُ فِي الْجِسْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَعُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ نَقْصٌ لَازِمٌ لِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَصَارَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْعُنَّةِ وَأَجَلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا بماذا يثبت الْعُنَّةُ إِنِ ادَّعَتْهَا الزَّوْجَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا لَا تَثْبُتْ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَى إِقْرَارِهِ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ وَحْدَهُ مُعْتَبِرًا فِي ثُبُوتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أنها تثبت بإقراره أو بنكوله لعدم إِنْكَارِهِ وَلَا يُرَاعَى فِيهِ يَمِينُ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ بَاطِنَ حَالِهِ فَتَحْلِفَ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأكثر أصحابنا، وحكاه أبو حامد الإسفراييني ولم يحك ما سواه أنها ثبتت بإقراره على الزوجة بعد نكوله، وإنكاره لا يثبت إن لم يحلف بعد النكول ولا يمتنع أن يحلف على مغيب بالإمارات الدالة على حاله كما يحلف على كنايات القذف والطلاق، وأنه أراد به الْقَذْفِ وَالطَّلَاقِ إِذَا أَنْكَرَ وَنَكَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(9/370)


مسألة
قال الشافعي: " وإن قطع من ذكره فبقي مِنْهُ مَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْجِمَاعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ بِأَسْرِهِ فَهُوَ المجبوب، ولها الخيار في فرقتها من غير تأجيل؛ لأن جماعه ما يؤس مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْجِيلِ مَعْنًى يَنْتَظِرُهُ فَإِنْ رضيت لجبه ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يُؤَجَّلَ لِلْعُنَّةِ لَمْ يَجُزْ لِاسْتِحَالَةِ الْوَطْءِ مَعَ الْجَبِّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الرضى وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَكَرِهِ مَقْطُوعًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَهَذَا كَالْمَجْبُوبِ، وَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تأجيل.
والضرب الثاني: أن يبقى منه قر الحشفة ويقدر على إيلاجه فعنه قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَجَرَى مَجْرَى الذَّكَرِ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عنةٌ فَيُؤَجَّلُ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَيْبٌ فِي الحال وإن يَكُنْ مَعَهُ عُنَّةٌ لِنَقْصِ الِاسْتِمْتَاعِ عَنْ حَالِ الذَّكَرِ السَّلِيمِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِقَطْعِهِ وَأَرَادَتْ تَأْجِيلَ العنة أجل.
والضرب الثالث: ألا يُعْلَمَ قَدْرُ بَاقِيهِ هَلْ يَكُونُ قَدْرَ الْحَشَفَةِ إِنِ انْتَشَرَ فَيَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ أَوْ يَكُونُ أَقَلَّ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أكثر الأمرين، فالباقي منه قدر الحشفة، استصحاباً، بالحالة الْأُولَى، وَلَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عَاجِلًا إِلَّا أَنْ يُؤَجَّلَ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ، كَالضَّرْبِ الثَّانِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ، أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الْحَشَفَةِ، فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْقَطْعِ دُونَ الْعُنَّةِ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الَّذِي قطعت أنثياه مع الوعاء، وأما المسلول: فهو الذي أسلت أنثتاه من الوعاء.
وأما الموجور: فهو الذي رضت أُنْثَيَاهُ فِي الْوِعَاءِ وَحُكْمُ جَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ وَهَلْ يَكُونُ عَيْبًا يَتَعَجَّلُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِيهِ قولان مضيا، فإن جعل عيباً يعجل بِهِ الْفَسْخُ مِنْ وَقْتِهِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ، وَأَرَادَتْ تَأْجِيلَهُ لِلَّعُنَّةِ أُجِّلَ لَهَا بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ لِإِمْكَانِ الْوَطْءِ مِنْهُ وَاسْتِحَالَتِهِ مِنَ الْمَجْبُوبِ.
مسألة
قال الشافعي: " أَوْ كَانَ خُنْثَى يَبُولُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرجال ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِلْخُنْثَى حَالَتَانِ: مُشْكِلٌ وَغَيْرُ مُشْكِلٍ فَأَمَّا الْمُشْكِلُ فَيَأْتِي وَأَمَّا غَيْرُ الْمُشَكِلِ، فَهُوَ أَنْ يَبُولَ مِنْ ذَكَرِهِ دُونَ فَرْجِهِ، فَيَكُونُ رَجُلًا، يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَهَلْ

(9/371)


يَكُونُ زِيَادَةُ فَرْجِهِ عَيْبًا فِيهِ، يُوجِبُ الْفَسْخَ وفي الخيار فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا، فَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ عَيْبًا أُجِّلَ لِلْعُنَّةِ إِنْ ظَهَرَتْ بِهِ.
وَإِنْ جُعِلَ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَعَجَّلَ بِهِ الْفَسْخَ فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ، وَظَهَرَتْ عُنَّتُهُ، أُجِّلَ لَهَا؛ لِأَنَّ نَقْصَهُ بِالْعُنَّةِ غَيْرُ نَقْصِهِ بِالْخُنُوثَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي: " أَوْ كَانَ يُصِيبُ غَيْرَهَا وَلَا يُصِيبُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أن تعدمن جَمِيعِهِنَّ، وَكَانَ يَطَأَهُنَّ كُلَّهُنَّ، انْتَفَتْ عَنْهُ الْعُنَّةُ عموماً.
وما لم تعدمن جميعهن وكان يطأهن كلهن، ولا خيار، وإن عدمن جميعهن فلا يطأ واحدة منهن فإذا سألوا تأجيله أجل لهم حَوْلًا؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يُعْتَبَرُ بِهَا حَالُهُ فَاسْتَوَى حُكْمُهَا فِي حُقُوقِهِنَّ كُلِّهِنَّ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ كَانَ لَهُنَّ الْخِيَارُ، فَإِنِ اجْتَمَعْنَ عَلَى الْفَسْخِ، كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ، وَإِنِ افْتَرَقْنَ أَجْرَى عَلَى كل واحدة حكم اختيارها، وإن عزم بعضهن دون بعض فوطأ اثنتين، ولم يطأ اثنتين ثبتت عنته، فن امتنع من وطئها، وإن سقطت عنته فِي جَمِيعِهِنَّ، وَلَا خِيَارَ لِمَنْ لَا يَطَأْهَا مِنْهُنَّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنِّينًا وَغَيْرَ عِنِّينٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ أن يلحقه العنة من بعضهن لما في طبعه في الميل إليهن، وقوة الشهوة لهن مختص كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِحُكْمِهَا مَعَهُ.

فَصْلٌ
وَإِذَا أخبرها الزوج قبل النكاح أَنَّهُ عِنِّينٌ فَنَكَحَتْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ تَأْجِيلَهُ لِلْعُنَّةِ، وَفَسْخِ النِّكَاحِ بِهَا، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: ليس لها ذلك، ولا خيار لها، كَمَا لَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِعَيْنِ ذَلِكَ مِنْ عُيُوبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ لَهَا الْخِيَارُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ، لِأَنَّ الْعُنَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَمِنِ امْرَأَةٍ دون امرأة، وغيرها من العيوب تكون فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا وَمِنَ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " فسألت فرقته أجلته سنةً من يوم ترافعا إلينا (قال) فإن أصابها مرةً واحدةً فهي امرأته ".
اعْلَمْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخِيَارِ بِالْعُنَّةِ، وَتَأْجِيلَ الزَّوْجِ فيه لا يسار إلا بحكم حاكم لِأَنَّ الْخِيَارَ مُسْتَحَقٌّ بِاجْتِهَادٍ، وَتَأْجِيلُ السَّنَةِ عَنِ اجتهاد وما أخر ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ دُونَ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَسْتَقِرَّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنْ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ بِعُنَّةِ الزَّوْجِ، كَانَ حَقُّهَا فِي مُرَافَعَتِهِ إِلَى الْحَاكِمِ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّأْجِيلِ عَيْبٌ مَظْنُونٌ، وَلَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ، فَإِنْ أجزت محاكمته سنة، رافعته إلى الحاكم، استأنف بها الحول،

(9/372)


مِنْ وَقْتِ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا مَضَى مِنْهُ، وَخَالَفَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ لِأَنَّ تِلْكَ نَصٌّ، وَهَذِهِ عَنِ اجْتِهَادٍ، فَلَوْ أَقَرَّ لَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِالْعُنَّةِ أَجَّلَهُ لَهَا، وَلَمْ يُعَجِّلِ الْفَسْخَ بِإِقْرَارِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَسْخَ يُؤَجَّلُ لِسَنَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَجَّلَ قَبْلَهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ رُبَّمَا زَالَتِ الْعُنَّةُ، فَلَمْ يَجُزْ فَسْخُ النكاح بها والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَلَمْ يُصِبْهَا فِي نِكَاحِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ عُنَّةٍ.
وَالثَّانِي: بِغَيْرِ عُنَّةٍ، فإن كان لعنة كان على مضى من تأجيله لها سنة إذا حاكمته، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ قَبْلَ الْفَسْخِ مَرَّةً وَاحِدَةً سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْفَسْخِ لِارْتِفَاعِ عُنَّتِهِ بِالْإِصَابَةِ، فَلَوْ تَرَكَهَا بَعْدَ تلك الإصابة سنين كثيرة لا يَمَسُّهَا، فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثور أنه يؤجل لها ثانية إذا عادت العنة ثَانِيَةً وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ بِإِصَابَةِ المرأة الْوَاحِدَةِ إِلَى مَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وثبوت الحصانة، ولا يَبْقَ إِلَّا تَلَذُّذُ الزَّوْجِ بِهَا، وَتِلْكَ شَهْوَةٌ لا يجبر عليها، والله أعلم.
وإذا ترك الزوج إصابتها لغير عنةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِصَابَتُهَا مَرَّةً أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الوطء، والقرناء التي لا يمكن وطئها، وَلَوْ وَجَبَ الْوَطْءُ لَمَا جَازَ إِلَّا نِكَاحَ من تمكنه الوطء لم يكن وطأها.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي نِكَاحِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخِيَارُ لَهَا فِي الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْوَطْءِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَطْءِ.
وَالثَّانِي: أنه مقصود النكاح في تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَالْحَصَانَةِ، وَطَلَبِ الْوَلَدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْوَطْءُ.
فإذا قيل بالوجه الأول أنه يَجِبُ، فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَأْجِيلَ.
وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّهُ يَجِبُ، فَإِنْ كَانَ معذوراً بمرض أو سفرٍ أنذر بِالْوَطْءِ إِلَى وَقْتِ مَكِنَتِهِ كَمَا يَنْظُرُ بِالدَّيْنِ مِنْ إِعْسَارِهِ إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ معذورٍ أَخَذَهُ

(9/373)


الْحَاكِمُ إِذَا رَافَعَتْهُ الزَّوْجَةُ إِلَيْهِ بِالْوَطْءِ أَوِ الطلاق كما يأخذه الْمُولِي بِهِمَا، وَلَمْ يُؤَجِّلْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِنِّينٍ وَلَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، بِخِلَافِ الْمُولِي فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَفْعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْوَطْءِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا وَطِئَهَا مَرَّةً سَقَطَ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفُرْقَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) ودليلنا قول الله تعالى: {لِلْرِجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) {البقرة: 228) فَمِنْ دَرَجَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ يَلْزَمَهَا إِجَابَتُهُ إِذَا دَعَاهَا إِلَى الْفِرَاشِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِجَابَتَهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَفْعُ الْعَقْدِ بِالطَّلَاقِ إِلَيْهِ دُونَهَا كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ حَقًّا لَهُ دُونَهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الوطء في ملك اليمين حقاً للمالك دون المملوكة، كَانَ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ حَقًّا لِلنَّاكِحِ دُونَ المنكوحة والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " ولا تكون إصابتها إلا بأن يُغَيِّبَ الْحَشَفَةَ أَوْ مَا بَقِيَ مِنَ الذَّكَرِ في الفرج ".
قال الماوردي: الإصابة التي تسقط بها حكم العنة هي تغييب الْحَشَفَةِ فِي الْقُبُلِ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْخِتَانَانِ فَيَجِبُ الغسل سواء أنزل أم لَمْ يُنْزِلْ لِأَنَّهَا الْإِصَابَةُ الَّتِي يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ، وَيَجِبُ لَهَا مَهْرُ المثل في الشبهة والحد في الزنا، هذا إذا كان سليم الذكر باقي الحشفة، ولا اعتبار بمغيب مَا بَعْدَ الْحَشَفَةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَقْطُوعَ الحشفة ففيما يعتبر بغيبه مِنْ بَقِيَّةِ الذَّكَرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ أَنْ تغييب باقيه قدر الحشفة ليكون بدلاً منها فسقط بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ كَمَا سَقَطَ بِهَا.
وَالْوَجْهُ الثاني: أنه يعتبر تغييب باقيه كله، وهو ظاهر قوله هاهنا؛ لِأَنَّ الْحَشَفَةَ حَدٌّ لَيْسَ فِي الْبَاقِي، فَصَارَ جَمِيعُ الْبَاقِي حَدًّا.

فَصْلٌ
فَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّهُ محل محظور لا يستباح العقد، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ حُكْمُ الْوَطْءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَيْضِ، وَالْإِحْرَامِ سَقَطَ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّهُ فِي المحل المستباح بالعقد.
مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " فإن لَمْ يُصِبْهَا خَيَّرَهَا السُّلْطَانُ فَإِنْ شَاءَتْ فِرَاقَهُ فَسَخَ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ طلاقٍ لِأَنَّهُ إِلَيْهَا دُونَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَضَتْ لِلْعِنِّينِ سَنَةً مِنْ حِينِ أُجِّلَ فَهِيَ عَلَى حقها، ما لم ترافعه إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ تَعْجِيلُ مُحَاكَمَتِهِ بَعْدَ السَّنَةِ عَلَى الْفَوْرِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ فِي الْعُيُوبِ لأن تمكنها لِلزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا فِي الْعُيُوبِ يَمْنَعُ مِنَ الفسخ، فكان الإمساك كذلك فإن حاكمها الزوج في عنته إلى الحاكم، لم يكن له ذلك، لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ هُوَ مَأْخُوذٌ بِهِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، فَيُطَالِبُ بِهِ فَإِذَا رَافَعَتْهُ إِلَى الحاكم بعد السنة،

(9/374)


تغير حينئذٍ زَمَانُ خِيَارِهَا فَيَعْرِضُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا الْفَسْخَ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ فسخ بحكم ويحكم إِلَيْهِ دُونَهَا، لَكِنْ يَكُونُ الْحَاكِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أن يتولاه بنفسه وبين أن يترك ذَلِكَ إِلَيْهَا لِتَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا فَيَكُونُ هُوَ الْحَاكِمُ بِهِ، وَهِيَ الْمُسْتَوْفِيَةُ لَهُ فَإِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، كَانَتْ فُرْقَةً تَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ ولم تكن طلاقاً، فإن عاد فزوجها كَانَتْ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: تَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا، وَلَا تَكُونُ فَسْخًا. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جِهَتِهَا وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَأَشْبَهَتِ الفرقة بالإسلام، والفسخ بالجنون.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ فَسْخٌ، وَلَيْسَ بطلاقٍ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: لَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لَا يَكْمُلُ الْمَهْرُ، ويوجب الْعِدَّةَ بِالْإِصَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعِنِّينِ الْإِصَابَةُ، لا تستحق نصف المسمى، ولأنه المتعة لم تكن مُسَمًّى؛ لِأَنَّهُ فسخٌ مِنْ جِهَتِهَا فَأَسْقَطَ مَهْرَهَا ومتعتها والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " فَإِذَا أَقَامَتْ مَعَهُ فَهُوَ تركٌ لِحَقِّهَا ".
قَالَ الماوردي: قد مضى الكلام في الفسخ؛ لأنه لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: انْقِضَاءُ السَّنَةِ.
والثاني: حكم الحاكم.
فأما الرضى فَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ؛ لأنه يقيم بعقد سابق، ولا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ فَلَمْ يَكُنِ الْمُقَامُ عَلَيْهِ مفتقراً إلى حكم، وهل يفتقر الرضى فِي لُزُومِهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ أَمْ لَا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر الرضى إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَإِنْ رَضِيَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهِ لم يلزم؛ لأن الرضى إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ وَهِيَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ فَلَمْ يَلْزَمْهَا الرضى كَالْأَمَةِ إِذَا رَضِيَتْ بِرِقِّ زَوْجِهَا قَبْلَ عِتْقِهَا لَمْ يلزمها الرضى بِوُجُودِهِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَيَصِحُّ الرِّضَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَضْرُوبٌ لِظُهُورِ الْعُنَّةِ، فكان الرضى بها مُبْطِلًا لِلْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهَا، وَإِذَا بَطَلَ الْأَجَلُ لزم العقد.
والرضى إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ، وَكَانَ أَيْضًا، بأن يعرض الحاكم عليها الفسخ ولا تختار فيكون تركها للاختيار للفسخ رِضًا مِنْهَا بِالْمُقَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(9/375)


مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " فَإِنْ فَارَقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يُؤَجَّلَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيْهَا عدةٌ ولم تكن إصابةٌ وَأَصْلُ قَوْلِهِ لَوِ اسْتَمْتَعَ رجلُ بامرأةٍ وقالت لم يصبني وطلق فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عِنِّينٍ أُجِلَّ لِزَوْجَتِهِ ثُمَّ رَضِيَتْ بَعْدَ الْأَجَلِ بِعُنَّتِهِ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَسَأَلَتْ بَعْدَ رَجَعَتِهِ أَنْ يُؤَجَّلَ لها ثانية لم يجز؛ لأن المرتجعة زوجة بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ أُجِّلَ فِيهِ مُدَّةً فَرَضِيَتْ فلم يجز أن يؤجل ثانية؛ لأنه عنت إِذَا رَضِيَتْ بِهِ فِي نِكَاحٍ لَزِمَ كَمَا يَلْزَمُهَا إِذَا رَضِيَتْ بِجَبَّهِ وَجُنُونِهِ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ فِي نِكَاحٍ ثُمَّ عَادَتْ فِيهِ تَطْلُبُ الْفَسْخَ كَانَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَقَدْ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلى يسار كَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ يَسَارٍ إِلَى إِعْسَارٍ، وَخَالَفَ الْعُنَّةَ الَّتِي ظَاهِرُ حَالِهَا الدَّوَامُ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هذه المسألة اعتراضاً موجهاً، فَقَالَ: قَدْ تَجْتَمِعُ الرَّجْعَةُ وَالْعُنَّةُ فِي نِكَاحٍ واحد وهو إن وطئها يثبت الرجعة فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ وَسَقَطَتِ الْعُنَّةُ، وَإِنْ لَمْ يطأ ثَبَتَتْ الْعُنَّةُ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ وَالْعُنَّةُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الجواب فيه عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خَطَأٌ مِنَ النَّاقِلِ لها عن الشافعي رحمه الله فنقل مَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ سَهَا عَنْ شرط زيادة جل مِنْ نَقْلِهِ فَأَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ كَمَا وَجَدَهَا فِي النقل لها عن الشافعي؛ واعترض عليها هو بِمَا هُوَ صَحِيحٌ مُتَوَجِّهٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ فرع هذه الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ أن الخلوة يكمل بها المهر، ويجب بِهَا الْعِدَّةُ. فَصَحَّتْ مَعَهَا الرَّجْعَةُ وَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا حُكْمُ الْعُنَّةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ سَدِيدٍ من وجهين:
أحدهما: أن تفرعه فِي كُلِّ زَمَانٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مُوجَبِ مَذْهَبِهِ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَرِّعَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَذْهَبٍ قَدْ تَرَكَهُ، وَإِنْ كَانَ قَائِلًا بِهِ فِي الْجَدِيدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَبَا حامد المروزي قال: وحدث الشافعي فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْخَلْوَةَ يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ وَلَا يَجِبُ بِهَا الْعِدَّةُ، فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ جَوَابُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ عَلَى مَذْهَبِ الشافعي رضي الله عنه في الجديد، أن تجب العدة، ونصح الرَّجْعَةُ، وَلَا يَسْقُطُ حَكَمُ الْعُنَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَطَأَ فِي الدُّبُرِ، فَيَكْمُلُ به المهر، ويجب بِهِ الْعِدَّةُ، وَتَصِحُّ فِيهِ وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ العنة.

(9/376)


وَالثَّانِي: أَنْ يَطَأَ فِي الْقُبُلِ فَيُغَيِّبَ بَعْضَ الحشفة ويترك ماءه فِيهِ، فَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ، وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَقَطَ بتغييب جميع الحشفة.
والثالث: إن استدخل ماءه من غير وطء فيجب به العدة، ويستحق معه الرجعة، ولا يسقط بِهِ الْعُنَّةَ، وَفِي هَذَا عِنْدِي نَظَرٌ لَكِنْ قَدْ قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: لَوْ أَنْزَلَ قَبْلَ نِكَاحِهَا، وَاسْتَدْخَلَتْهُ بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ تعتد منه، لِأَنَّهَا فِي حَالِ الْإِنْزَالِ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً وإن صارت وَقْتَ الْإِدْخَالِ زَوْجَةً، وَإِنْ كَانَتْ وَقْتَ الْإِنْزَالِ زَوْجَةً، فَإِنَّمَا أَوْجَبُوا فِيهِ الْعِدَّةَ، وَأَلْحَقُوا مِنْهُ الْوَلَدَ إِذَا كَانَتْ فِي حَالَتَيْ إِنْزَالِهِ وَاسْتِدْخَالِهِ زَوْجَةً.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الْأَجَلِ والرضا طلاقاً أبانت مِنْهُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَتْ: أن تؤجل فِيهِ الْعُنَّةُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجَّلَ لَهَا ثَانِيَةً. وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدٍ ثانٍ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي نِكَاحٍ واحدٍ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّهَا فَسَخَتْ نِكَاحَهُ الْأَوَّلَ بِالْعُنَّةِ مِنْ غَيْرِ طلاقٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ لَمْ يُؤَجَّلْ لَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، لِأَنَّ عِلْمَهَا بِعُنَّتِهِ كَعِلْمِهَا بِجُذَامِهِ وَبَرَصِهِ، وهي لا تجوز إِذَا نَكَحَتْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ أَنْ تَفْسَخَ فكذلك في العنة.
والقول الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - إِنَّهُ يُؤَجَّلُ لَهَا في النكاح الثاني؛ لأن لكل عقد حكم بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَتِ الْعُنَّةُ مِنَ الْعُيُوبِ اللَّازِمَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ زَوَالُهَا فَجَرَى مَجْرَى الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي يُرْجَى زَوَالُهَا، وَيَعُودُ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ بِهَا، وَلَكِنْ لَوْ أَصَابَهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَسَقَطَ بِإِصَابَتِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ حَدَثَتْ بِهِ الْعُنَّةُ فِي النِّكَاحِ أُجِّلَ لَهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ حُكْمَ عُنَّتِهِ الْأُولَى قَدِ ارْتَفَعَ بإصابته فصارت مستأنفة لنكاح مَنْ لَيْسَ بِعِنِّينٍ فَإِذَا ظَهَرَتْ بِهِ الْعُنَّةُ أجل والله أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " ولو قالت لم يصبني وقال قد أَصَبْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهَا تُرِيدُ فَسْخَ نِكَاحِهَا وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَتْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وإن كانت بكراً أريها أَرْبَعًا مِنَ النِّسَاءِ عُدُولًا وَذَلِكَ دليلٌ عَلَى صدقها فإن شاء أخلفها ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ نَكَلَتْ وَحَلَفَ أَقَامَ مَعَهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْعُذْرَةَ قَدْ تَعُودُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَا إِذَا لَمْ يُبَالَغْ فِي الْإِصَابَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ أَجَلِ الْعُنَّةِ، فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: لَمْ يُصِبْنِي فَلِيَ الْفَسْخُ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ أَصَبْتُهَا فَلَا فَسْخَ لَهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْإِصَابَةِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا خيار لها؛ لأنه ثُبُوتَ النِّكَاحِ يَمْنَعُ مِنْ تَصْدِيقِ قَوْلِهَا فِي فَسْخِهِ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ

(9/377)


خِيَارُهَا، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينِ عَلَيْهَا فَإِنْ حَلَفَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ نَكَلَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بمعاودة خلوتها ويقربهما وَقْتَ الْجِمَاعِ امْرَأَةٌ ثِقَةٌ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: امْرَأَتَانِ فإذا خرج من خلوتهما نظر فرجها، وإن كان ماء الرجل كان القول قوله، وإن لم يكن مَاؤُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ اخْتِلَافَهَمَا فِي إصابةٍ تَقَدَّمَتْ فَلَمْ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا حَدَثَ بَعْدَهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ وُجُودَ الْمَاءِ وَعَدَمَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِصَابَةِ وَعَدَمِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُنْزِلُ وَلَا يُولِجُ، وَقَدْ يُولِجُ وَلَا يُنْزِلُ، وَحَقُّهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْإِيلَاجِ دُونَ الْإِنْزَالِ، وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ عُنَّةَ رَجُلٍ عِنْدَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ وَاخْتَلَفَ في الإصابة، فكتب بها على معاوية يسأله عَنْهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ، زَوِّجْهُ امْرَأَةً ذَاتَ جمال وحسنٍ توصف بدين وستر وسبق إليها مهرها من بيت المال لتختبر حَالَهُ، فَفَعَلَ سَمُرَةُ ذَلِكَ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَا خير عنده، فقال سمرة: ما دنى فقالت: بلى، ولكن إذا دنى شره أي أنزل قبل الإيلاج، وهذا مذهبه لِمُعَاوِيَةَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَلَا لَهُ فِي الْأُصُولِ نَظِيرٌ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عِنِّينًا فِي وَقْتٍ وَغَيْرَ عِنِّينٍ فِي وَقْتٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْمَذْهَبَانِ كَانَ مذهبهم أَبْطَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ قَبِلْتُمْ بِهِ قول المدعي دون المنكر، والشرع وارد بقبول قَوْلِ الْمُنْكِرِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوِ ادَّعَى إِصَابَةَ الْمُطَلَّقَةِ لِيُرَاجِعَهَا وَأَنْكَرَتْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا دُونَهُ فَهَلَّا كَانَ فِي الْعُنَّةِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الإصابة.
قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعِلَّةِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ يَدْفَعُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ النِّكَاحِ، وَهِيَ تَدَّعِي بِإِنْكَارِ الْإِصَابَةِ اسْتِحْقَاقَ فَسْخِهِ، فَصَارَتْ هِيَ مدعية، وهو منكر فَكَانَ مَصِيرُ هَذَا الْأَصْلِ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ دونها على أن ما تعذر إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فِيهِ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ قَوْلُ مُدَّعِيهِ إِذَا كَانَ مَعَهُ ظَاهِرٌ يَقْتَضِيهِ كَاللَّوْثِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ، فَأَمَّا دَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ فِي الرَّجْعَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ دَعْوَى الْإِصَابَةِ فِي الْعُنَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَعْوَى الإصابة في الرجعة تنفي مَا أَوْجَبَهُ الطَّلَاقُ مِنَ التَّحْرِيمِ وَدَعْوَى الْإِصَابَةِ في العنة تثبت مَا أَوْجَبَهُ النِّكَاحُ فِي اللُّزُومِ فَافْتَرَقَا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ ادَّعَى الْإِصَابَةَ فِي الْعُنَّةِ مَعَ بَقَاءِ نِكَاحِهِ، فَصَارَ كَالْمُدَّعِي لِمَا فِي يَدِهِ وَدَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ فِي الرَّجْعَةِ بَعْدَ زَوَالِ نِكَاحِهِ فَصَارَ كَالْمُدَّعِي لِمَا فِي يَدِ غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا.

(9/378)


فصل
وإن كانت بكراً إما أن يعترف لها بالبكارة وإما أن ينكرها، ويشهد بِهَا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا في إنكار الإصابة لأن البكارة ظاهرة تدل على صداقها فزالت عن حكم الثيب الَّتِي لَا ظَاهِرَ مَعَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَهُ إِحْلَافُهَا، قِيلَ: إِنْ لَمْ يَدَّعِ عَوْدَ بِكَارَتِهَا، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا، وَإِنِ ادَّعَى عَوْدَ الْبَكَارَةِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرَةِ فَإِذَا لَمْ يُبَالِغْ بِالْإِصَابَةِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الدَّعْوَى مُحْتَمَلَةً، وَإِنْ خَالَفَتِ الظَّاهِرَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا فَإِنْ حَلَفَتْ حُكِمَ لَهَا بِالْفُرْقَةِ وَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْفُرْقَةِ بالفرقة، وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَقْبَلُ قولها إن نكل وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَيَحْكُمْ لَهَا بِالْفُرْقَةِ كَمَا لو ادعى وطئها وَهِيَ ثَيِّبٌ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا فَنَكَلَتْ حُكِمَ بِقَوْلِهِ فِي سُقُوطِ الْعُنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَظْهَرُ - أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ قَوْلَهَا فِي الْفُرْقَةِ بِغَيْرِ يَمِينٍ مَعَ نُكُولِ الزَّوْجَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الزوج يستصحب لزوم متقدم جاز أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهِ وَالزَّوْجَةُ تَسْتَحِلُّ حُدُوثَ فَسْخٍ طَارِئٍ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِيهِ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة
قال الشافعي: " وَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي الْمَجْبُوبِ وَغَيْرِ الْمَجْبُوبِ مِنْ سَاعَتِهَا لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ لَا يُجَامِعُ أَبَدًا وَالْخَصِيُّ ناقصٌ عَنِ الرِّجَالِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذكرٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلِمَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا ".
قَالَ الماوردي: قد ذكرنا أنه إذا كان الزوج مجبوب فلها الخيار وإن كان خصياً فعلى قولين، فإذا كان كذلك فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْبُوبِ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَا يُؤَجِّلُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ جِمَاعِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْجِيلِ تأثيرٌ، وَخَالَفَ الْمَرْجُوَّ جِمَاعُهُ وَالْمُؤَثِّرَ تَأْجِيلُهُ، فَلَوْ رَضِيَتْ بِجَبِّهِ ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يؤجل للعنة لم يجز لتقدم الرضى بعنته. وأما الخصي، فإن قيل بأن الْخِصَاءَ يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَلَهَا أن تتعجله مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ كَالْمَجْبُوبِ.
وَإِنْ قِيلَ: لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، أَوْ قِيلَ: لَهَا الْخِيَارُ فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ ثُمَّ سَأَلَتْ تَأْجِيلَهُ للعنة أحل بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ مِنَ الْخَصِيِّ مُمْكِنَةٌ وَمِنَ الْمَجْبُوبِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَافْتَرَقَا فِي تَأْجِيلِ العنة.
مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا الصَّبِيُّ أُجِّلَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) مَعْنَاهُ عِنْدِي صَبِيٌّ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُجَامِعَ مثله ".

(9/379)


قال الماوردي: وهذه مسألة وهم المزني في نقله فقال ولو لم يجامعها أُجِّلَ وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا الْخَصِيُّ أُجِّلَ، وَقَدْ نَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَعَدَلَ بِالْمَسْأَلَةِ عَنِ الْخَصِيِّ إِلَى الصَّبِيِّ إِمَّا لتصحيف أو لسهو الكاتب، وأما زلة فِي التَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ عِنْدِي: " صَبِيٌّ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُجَامِعَ مِثْلُهُ " وَالصَّبِيُّ لَا يصح عُنَّتُهُ سَوَاءٌ رَاهَقَ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجَامِعَ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُرَاهِقٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَامِعَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ عَاجِزٌ بِالصِّغَرِ دُونَ الْعُنَّةِ فَلَا يَدُلُّ عَجْزُهُ عَلَى عُنَّتِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عُنَّتُهُ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ فَانْتَفَى عَنْهُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حكم العنة، وإذا كان كذلك بان المراد هو الخصي وقد ذكرناه.
مسألة
قال الشافعي: " فإن كان خنثى يبول من حيث يبول الرجل فهو رجلٌ يتزوج امْرَأَةً وَإِنْ كَانَتْ هِيَ تَبُولُ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهِيَ امرأةٌ تَتَزَوَّجُ رَجُلًا وَإِنْ كان مُشْكِلًا لَمْ يُزَوَّجْ وَقِيلَ لَهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بنفسك فأيهما شِئْتَ أَنْكَحْنَاكَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَكُونُ لَكَ غَيْرُهُ أَبَدًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) فَبِأَيِّهِمَا تَزَوَّجَ وَهُوَ مشكلٌ كان لصاحبه الخيار لنقصه قياساً على قوله في الخصي له الذكر إن لها فيه الخيار لنقصه ".
قال الماوردي: أما الخنثى فهو الذي له ذكر رجل وفرج امرأ " فالذكر مختص بالرجل، والفرج مختص بالمرأة وليس يخلو مُشْتَبَهُ الْحَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً) {النبأ: 8) يَعْنِي ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَإِذَا جَمَعَ الْخُنْثَى بَيْنَ آلة الذكر والأنثى وجب أن يعتبر مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُضْوَيْنِ وَهُوَ الْبَوْلُ، لِأَنَّ الذكر مخرج بول الرجل وَالْفَرْجَ مَخْرَجُ بَوْلِ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ ذَكَرِهِ وَحْدَهُ فَهُوَ رَجُلٌ، وَالْفَرْجُ عُضْوٌ زَائِدٌ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مَنْ فَرْجِهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ وَالذَّكَرُ عُضْوٌ زَائِدٌ.
رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في الذي له ماء الرجال وماء النساء إِنَّهُ يُورَّثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ.
وَقَضَى عَلِيُّ بن أبي طالب فِي الْعِرَاقِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي خُنْثَى رُفِعَ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيَنْقَطِعَا مَعًا فَالْحُكْمُ لِلسَّابِقِ لِقُوَّتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَا مَعًا وَيَنْقَطِعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَالْحُكْمُ للمتأخر لقوته.

(9/380)


وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْبِقَ خُرُوجُ أَحَدِهِمَا، وَيَتَأَخَّرَ انْقِطَاعُ الْآخَرِ فَالْحُكْمُ لِأَسْبَقِهِمَا خُرُوجًا وَانْقِطَاعًا، لِأَنَّ الْبَوْلَ يَسْبِقُ إِلَى أَقْوَى مَخْرَجَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْرُجَا مَعًا وَيَنْقَطِعَا مَعًا، وَلَا يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ وَيَسْتَوِيَا فِي الصِّفَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الصِّفَةِ وَيَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدَرِ وَالصِّفَةِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَلَا بَيَانَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ دُونَ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِأَكْثَرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة تَغْلِيبًا لِقُوَّتِهِ بِالْكَثْرَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ أبي يوسف لِأَنَّ اعْتِبَارَ كَثْرَتِهِ شَاقٌّ وَقَدْ قَالَ أبو يوسف رَدًّا عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ اعْتَبَرَ كَثْرَتَهُ: أَفَيُكَالُ إِذَنْ؟
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الصِّفَةِ فِي التَّزْرِيقِ وَالشَّرْشَرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا في اعتباره على وجهين:
أحدهما: أنه يُعْتَبَرُ، فَإِنَّ تَزْرِيقَ الْبَوْلِ لِلرِّجَالِ وَالشَّرْشَرَةَ لِلنِّسَاءِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ خنثى فقال: أدنوه من الحائط فإن رزق فَذَكَرٌ وَإِن شَرْشَرَ فَأُنْثَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ قُوَّةِ الْمَثَانَةِ وَضَعْفِهَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَيَنْظُرُ فِيهِمَا فَإِنِ اجْتَمَعَا فِي أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ فَكَانَ التَّزْرِيقُ مَعَ الْكَثْرَةِ فِي الذَّكَرِ أَوْ كَانَتِ الشَّرْشَرَةُ مَعَ الْكَثْرَةِ فِي الْفَرْجِ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فَكَانَتِ الشَّرْشَرَةُ فِي الْفَرْجِ، وَالْكَثْرَةُ فِي الذَّكَرِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَلَا بَيَانَ فِيهِ لِتَكَافُؤِ الْأَمَارَتَيْنِ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَبَالِ بَيَانٌ إِمَّا عِنْدَ تَسَاوِي أَحْوَالِهِمَا، وَإِمَّا عِنْدَ إِسْقَاطٍ فاختلف فِيهِ مِنَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَعْدِلُ إِلَى اعْتِبَارِ عَدَدِ الْأَضْلَاعِ أَمْ لا؟ على وجهين:

(9/381)


أحدهما: يعتبر عدة الأضلاع فإن أضلاع المرأة يتساوى مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَالْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَأَضْلَاعُ الرَّجُلِ ينقص مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ضِلَعٌ لِمَا حُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ فَلِذَلِكَ نَقُصَ مِنْ أَضْلَاعِ الرَّجُلِ الْيُسْرَى ضِلَعٌ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ ضِلَعٌ أَعْوَجُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
(هِيَ الضِّلَعُ الْعَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُهَا ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها)

(أيجمعهن ضعفاً واقتداراً على الهوى ... أليس عجيبٌ ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا)

وَتَوْجِيهُ هَذَا الْوَجْهِ فِي اعْتِبَارِ الْأَضْلَاعِ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن أمر قنبرا برقاء وَهُمَا مَوْلَيَاهُ أَنْ يَعُدَّا أَضْلَاعَ خُنْثَى مُشْكِلٍ فَإِنِ اسْتَوَتْ أَضْلَاعُهُ مِنْ جَانِبَيْهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ، وَإِنْ نَقَصَتِ الْيُسْرَى ضلعٌ فَهُوَ رَجُلٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْأَضْلَاعِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عدل عنها إلى الاعتبار بالمبال وهو أَلْزَمُ حَالًا مِنَ الْمَبَالِ وَأَقْوَى لَوْ كَانَ بها اعتبار لما جَازَ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الْمَبَالِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ ثَابِتًا.
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ التَّشْرِيحِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ: إِنَّ أَضْلَاعَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مُتَسَاوِيَةٌ من الجانبين، أنها أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِلْعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ ضِلْعًا، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى هَذَا الأثر مع مَا يَدْفَعُهُ وَيَرُدُّهُ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ خُرَافَةٌ مَصْنُوعَةٌ تَمْنَعُ مِنْهَا الْعُقُولُ، وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ خنثى على صداق أمة، وأنه وطأ الخنثى فأولدها ووطأ الْخُنْثَى الْأَمَةَ فَأَوْلَدَهَا فَصَارَ الْخُنْثَى أُمًّا وَأَبًا فَرُفِعَ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَأَمَرَ بِعَدِّ أَضْلَاعِهِ فَوُجِدَتْ مُخْتَلِفَةً فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مدفوع ببداهة الْعُقُولُ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا مُمَاثَلَةُ الرِّجَالِ فِي طِبَاعِهِمْ وكلامهم ومماثلة النساء في طباعهن وكلامهم فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي الرِّجَالِ مُؤَنَّثٌ وَفِي النِّسَاءِ مُذَكَّرٌ، وَكَذَلِكَ اللِّحْيَةُ لَا اعْتِبَارَ بِهَا لِأَنَّ فِي الرِّجَالِ مَنْ لَيْسَ لَهُ لِحْيَةٌ وَفِي النِّسَاءِ مَنْ رُبَّمَا خَرَجَ لَهَا لحية على أنه قد قَلَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ إِشْكَالٌ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْمَنِيُّ وَالْحَيْضُ فَإِنِ اجْتَمَعَ لَهُ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ وَدَمُ الْحَيْضِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أحدها: أن يخرجها من فرجه فتكون امْرَأَةً، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى زَوَالِ إِشْكَالِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَا عن ذَكَرِهِ فَيَزُولُ إِشْكَالُهُ بِالْإِنْزَالِ وَحْدَهُ، وَيَكُونُ رَجُلًا وَلَا يَكُونُ الدَّمُ حَيْضًا.

(9/382)


وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الدَّمُ مِنْ ذَكَرِهِ وخروج المني من فرجه فتكون امْرَأَةً؛ لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَنِيِّ مِنَ الْفَرْجِ دَلِيلٌ، وَخُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الذَّكَرِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ:
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ وَخُرُوجُ الْحَيْضِ مِنْ فَرجِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يُغَلِّبُ حُكْمُ الْحَيْضِ وَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ، لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ النِّسَاءِ، وَالْمَنِيِّ يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُغَلِّبُ حُكْمَ الْمَنِيِّ وَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ رُبَّمَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ، وَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى إِشْكَالِهِ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ لِتُقَابُلِهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخُنْثَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَزُولَ إِشْكَالُهُ أَوْ لَا يَزُولَ فَإِنْ زَالَ إِشْكَالُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَا بَانَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مِنَ النِّكَاحِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالدِّيَةِ، وَالْمِيرَاثِ، وَزُوِّجَ امْرَأَةً، وَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ فَرْجِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَذْهَبًا ثَالِثًا إِنَّهُ إن زال إشكال؛ لِأَنَّهُ يَبُولُ مِنْ ذَكَرِهِ دُونَ فَرْجِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، وَإِنْ زَالَ إشكاله لسبق بوله من ذكره ولكثرته مِنْهُ فَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا نَقَضَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ وَأَعَادَهُ إِلَى حَالِ الْإِشْكَالِ.
وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالدِّيَةِ، وَالْمِيرَاثِ، وَزُوِّجَتْ رَجُلًا، وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ ذَكَرِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ.
وَالثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ مَذْهَبًا ثَالِثًا، أَنَّهُ إِنْ زَالَ إِشْكَالُهَا لِبَوْلِهَا مِنْ فَرْجِهَا وَحْدَهُ فلا خيار له، وإن زال لسبوقه منه أو كثرته فله الْخِيَارُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الرَّجُلِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَ عَلَى إِشْكَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوَّجَ قبل سؤاله واختياره فَإِنْ تَزَوَّجَ رَجُلًا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً لَمْ يصح لتقدم فساده، وإن زوج امرأة بان النِّكَاحُ بَاطِلًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، فَإِنْ كان رَجُلًا لَمْ يَصِحَّ لِتَقَدُّمِ فَسَادِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَحْوَالِهِ غَيْرُ سُؤَالِهِ عَنْ طِبَاعِهِ الْجَاذِبَةِ لَهُ إِلَى

(9/383)


أحد الجنسين سئل عنها للضرورة الداعية إليه كَمَا تُسْأَلُ الْمَرْأَةُ عَنْ حَيْضِهَا فَيَرْجِعُ فِيهِ إلى قولها فإن قال: أرى طبعي يحدثني إِلَى طَبْعِ النِّسَاءِ وَيَنْفِرُ مَنْ طَبْعِ الرِّجَالِ عُمِلَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مَنْ طَبْعِهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَا عَلَى مَا يَظْهَرُ من تأنيث كلامه أو تذكيره؛ لأن في الرجال قَدْ يَكُونُ مُؤَنَّثًا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ النِّسَاءِ وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَكُونُ مُذَكَّرَةً تَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الرِّجَالِ.
قَالَ: وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مَا يَشْتَهِيهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَشْتَهِي الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ قَدْ تَشْتَهِي الْمَرْأَةَ، وَإِنَّمَا الطِّبَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالْقَائِمَةُ فِي نَفْسِ الْجِبِلَّةِ النَّافِرَةِ مِمَّا اعْتَادَتْهَا بِغَيْرِ تَصَنُّعٍ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا هُوَ الْمَقْبُولُ إِذْ قَدْ عُدِمَ الِاسْتِدْلَالُ بِغَيْرِ قَوْلِهِ كالمرأة التي تقبل قَوْلُهَا فِي حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لَهُ أَخْبِرْنَا عَنْ طَبْعِكَ، فَإِذَا قَالَ: يَجْذِبُنِي إِلَى طِبَاعِ النِّسَاءِ قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَيَحْلِفُ عليه؛ ولأنه لو رجع لم تقبل مِنْهُ وَحُكِمَ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ وَزُوِّجَ رَجُلًا، فَإِنْ عاد بعد ذلك فقال: قد استمال طَبْعِي إِلَى طِبَاعِ الرِّجَالِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَكَانَ عَلَى الْحُكْمِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَعَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِذَا عَلِمَ الزوج بأنه خنثى فله الخيار هاهنا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْإِشْكَالَ لَمْ يَزُلْ إِلَّا بقوله الذي يجوز أن تكون فيه كما ذكرنا، وَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ زَالَ إِشْكَالُهُ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ كَاذِبَةٍ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْخُنْثَى حِينَ سُئِلَ عَمَّا يَجْذِبُهُ طَبْعُهُ إِلَيْهِ أَرَى طَبْعِي يَجْذِبُنِي إِلَى طِبَاعِ الرِّجَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي نِكَاحِهِ، وَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا اتُّهِمَ فِيهِ مِنْ وِلَايَتِهِ وَمِيرَاثِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لِتُهْمَتِهِ فِيهِ وَحَكَاهُ الرَّبِيعُ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَتَبَعَّضُ فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي بَعْضِهَا أَحْكَامُ الرِّجَالِ وَفِي بَعْضِهَا أَحْكَامُ النِّسَاءِ، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ النِّسَاءِ فِي شَيْءٍ أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي شَيْءٍ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِذَا حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلُ زُوِّجَ امرأة ولم يقبل منه الرجوع إذا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ بِحَالِهِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ قَوْلًا وَاحِدًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -.

(9/384)


باب الإحصان الذي به يرجم من زنى من كتاب التعريض بالخطبة وغير ذلك
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإذا أَصَابَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ أُصِيبَتِ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ فهو إحصانٌ في الشرك وغيره لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجم يهوديين زنيا فلو كَانَ الْمُشْرِكُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا كَمَا قَالَ بعض الناس لما رجم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ محصنٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِحْصَانُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْمَنْعُ، يُقَالُ قَدْ أَحْصَنَتِ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ الْفُجُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) {الأنبياء: 91) أَيْ مَنَعَتْهُ وَيُقَالُ: مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ أَيْ مَنِيعَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي قُرَىً مُحَصَّنَةٍ} (الحشر: 14) أَيْ مَمْنُوعَةٍ، وَيُقَالُ امْرَأَةٌ حَصَانٌ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ الْفُجُورِ وَفَرَسٌ حَصَانٌ إِذَا امْتَنَعَ بِهِ رَاكِبُهُ، وَدِرْعٌ حصن إِذَا امْتَنَعَ بِهَا لَابِسُهَا فَسُمِّيَتْ ذَاتُ الزَّوْجِ مُحْصَنَةً؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا قَدْ حَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْحَصَانَةُ فِي النِّكَاحِ اسْمٌ جَامِعٌ لِشُرُوطٍ مَانِعَةٍ إِذَا تَكَامَلَتْ كَانَ حَدَّ الزِّنَا فِيهَا الرَّجْمُ دُونَ الْجَلْدِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ".
وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحَصَانَةِ أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مَمْنُوعًا مُكَلَّفًا.
وَالثَّانِي: الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ مُوجِبٌ لِتَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ.
وَالثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ البغاء والاسترقاق وأن كمال الحد فعل يَمْنَعُ مِنْهُ نَقْصُ الرِّقِّ.
وَالرَّابِعُ: الْوَطْءُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ السِّفَاحِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِين) {النساء: 24) أي متناكحين غير مسافحين.
فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَصَانَةِ.
فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي مُسْلِمٍ أَوْ كافر رجم إذا زنا.

(9/385)


وقال مالك وأبو حنيفة: الْإِسْلَامُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْحَصَانَةِ وَلَا يُرْجَمُ الكافر إذا زنا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا حصان فِي الشِّرْكِ ".
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصِنٍ ".
وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا لَا تُحَصِنُكَ " وَلِأَنَّ الْإِحْصَانَ مَنْزِلَةُ كَمَالٍ وَتَشْرِيفٍ يُعْتَبَرُ فِيهَا نَقْصُ الرِّقِّ، فَكَانَ بِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا نَقْصُ الْكُفْرِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ مُعْتَبَرًا فِي حَصَانَةِ الْقَذْفِ حَتَّى لَمْ يُحَدَّ مِنْ قَذَفَ كَافِرًا، وَجَبَ أَنْ يعتبر في حصانة الحد حتى لا يرجم الكافر إذا زنا ودليلنا ما رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَالرَّجْمُ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مُحْصَنٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا مُحْصَنَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِالتَّوْرَاةِ وَلَمْ يَرْجُمْهُمَا بِشَرِيعَتِهِ؛ لأنه أحضر التوراة عند رجمهما فلما ظهرت فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ رَجَمَهُمَا حِينَئِذٍ.
قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الله تعالى عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) {المائدة: 49) وَإِنَّمَا أَحْضَرَ التَّوْرَاةَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ فَأَنْكَرُوا فَأَحْضَرَهَا لِإِكْذَابِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ أَنْ صَارَ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الرَّجْمِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ وُجُوبُ الرَّجْمِ قَبْلَ اعْتِبَارِ الْحَصَانَةِ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ.
والثاني: أنه قد رَوَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ أَحْصَنَا فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ هَذَا التَّأْوِيلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا حَدٌّ كَامِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ مُحَصَنًا كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَتْلٍ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ وَجَبَ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ كَالْقَوَدِ.
وَقَوْلُنَا: إِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذلك السبب احترازاً مِنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ، وَلَا يُقْتَلُ إِذَا كَانَ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ، وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ حدي الزنا

(9/386)


فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالْجِلْدِ؛ ولأنه لما استوى في حد الزنا حكم العبد المسلم والكافر وجب أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حَدُّ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
فأما الجواب عن الخبرين الأوليين فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَمْلُهُ عَلَى حَصَانَةِ الْقَذْفِ دُونَ الرَّجْمِ.
وَالثَّانِي: لَا حَصَانَةَ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِبَاحَةِ قَتْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا - لَا إله إلا الله - فإذا قالوها عصموا من دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ".
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حديث حذيفة فهو أن لا يجوز حمله على حصانة الزنا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَقُولَ لِمَنْ وَثِقَ بِدِينِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحُذَيْفَةُ قَدْ كَانَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِ، إِنَّكَ مَتَى زَنَيْتَ تَحْتَ هَذِهِ الْيَهُودِيَّةِ لَمْ تُرْجَمْ وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " لَا تُحْصِنُكَ " أَيْ لَا تَتَعَفَّفُ بك عما تَتَعَفَّفُ الْمُسْلِمَةُ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ ذَلِكَ بِحَصَانَةِ الْقَذْفِ.
فالفرق بينهما: أن حد الزنا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فجاز أن يفرق فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالدِّيةِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَبَرَ فِي سُقُوطِ الرَّجْمِ نَقْصَ الرِّقَّ اعتبر فيه نقص الكفر، فالجواب عَنْهُ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ نَقْصُ الرِّقِّ مُعْتَبَرًا فِي الْحَدِّ الْأَصْغَرِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْحَدِّ الْأَكْبَرِ وَلَمَّا كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ في الحد الأصغر كان معتبر في الحد الأكبر وافترقا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي شُرُوطِ الْحَصَانَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا مشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُها: فِي نِكَاحِ الْحَصَانَةِ.
وَالثَّانِي: فِي وَطْءِ الْحَصَانَةِ.
وَالثَّالِثُ: فِي زمان الحصانة.
فأما نكاح الحصانة النِّكَاحُ الصَّحِيحِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ فَأَمَّا الْمُتْعَةُ، وَالْمَنَاكِحُ الْفَاسِدَةُ، فَلَا تُوجِبُ الْحَصَانَةَ؛ لِأَنَّ الْحَصَانَةَ لِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ فيها أغلظ شروطاً من إحلال المطلق للأول؛ لأن الحرية لا يعتبر فِيهَا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمَنَاكِحَ الْفَاسِدَةَ لَا تَحِلُّ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُحْصِنَ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ: مِنْ أَنَّهَا تُحْصِنُ، وَكَذَلِكَ التَّسَرِّي بِمِلْكِ الْيَمِينِ، لَا يُحْصِنُ كما لا تحل المطلقة للمطلق، وَأَمَّا وَطْءُ الْحَصَانَةِ فَهُوَ تَغَيُّبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ تَلَذَّذَ بِمَا

(9/387)


دون الفرج أو وطء في السبل الْمَكْرُوهِ لَمْ يَتَحَصَّنَا كَمَا لَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ إِلَّا بِالْفَرْجِ كَالْإِحْلَالِ لِلْمُطَلِّقِ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا زَمَانُ الْحَصَانَةِ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْوَطْءُ مُثْبِتًا لِلْحَصَانَةِ وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا وَقْتَ الْوَطْءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ نَاقِصًا وَالزَّوْجَةُ كَامِلَةً.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ، فَكَمَالُهُمَا يَكُونُ بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَإِذَا كَانَا وَقْتَ الْوَطْءِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ حُرَّيْنِ صَارَا جَمِيعًا بِهِ مُحْصِنَيْنِ سَوَاءٌ عُقِدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ الْكَمَالِ أَوْ قَبْلَهُ وَسَوَاءٌ بَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا أو ارتفع قد ثبت الحصانة بوطء المرأة الواحدة فأيهما زنا رُجِمَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ وَنُقْصَانُهُمَا أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ أو مملوكين فلا يكونا بِالْوَطْءِ مُحْصِنَيْنِ مَا كَانَا عَلَى الصِّغَرِ، وَالْجُنُونِ، وَالرِّقِّ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّغِيرَانِ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونَانِ، وَعَتَقَ المملوكان فهل يصير بالوطء المتقدم أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا قَدْ صَارَا مُحْصَنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَالْإِحْلَالِ لِلْمُطَلِّقِ فَكَذَلِكَ الْحَصَانَةُ، فإذا زنيا رجما لتقدم الشرائط على الزنا.
والوجه الثاني: - وهو مذهب الشافعي - أنهما لا يصيرا به مُحْصَنَيْنِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَا الْوَطْءَ بَعْدَ كَمَالِ الْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ يُوجِبُ الْكَمَالَ فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ؛ ولأنه لما لم يثبت الْحَصَانَةُ فِي وَقْتٍ لَمْ يُثْبِتْهَا بَعْدَ وَقْتِهِ، وبهذا خالف ما سواها مِنَ الْإِحْلَالِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَمَالِ الْمَهْرِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ لِثُبُوتِهَا بِهِ فِي وَقْتِهِ وَبَعْدَ وَقْتِهِ، ثم هكذا لو كان نقص الزوجين أَوْ مَجْنُونًا فَوَطِئَا لَمْ يَصِيرَا بِهِ فِي الْحَالِ مُحْصَنَيْنِ، وَهَلْ يَصِيرَانِ بِهِ بَعْدَ الْكَمَالِ مُحْصَنَيْنِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً فَكَمَالُ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، عَاقِلًا، حُرًّا، وَنُقْصَانُ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً، أَوْ مجنونة، أو مملوكة، أو تجمع نقص الصغر، والجنون، وَالرِّقِّ فَقَدْ صَارَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ مُحْصَنًا إِذَا كانت

(9/388)


الصغيرة التي وطئها ممن يجوز أن توطأ مِثْلُهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ توطأ مثلها لَمْ يَتَحَصَّنْ بِوَطْئِهَا، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا تَكُونُ مُحَصَّنَةً بِهَذَا الْوَطْءِ فِي النُّقْصَانِ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ، فَإِذَا كَمُلَتْ بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَهَلْ تَصِيرُ بِهِ مُحَصَّنَةً أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا: نَاقِصًا لَمْ يُحَصَّنَا مَعًا فِي الْحَالِ وَلَا فِي أَيِّ حَالٍ حَتَّى يَكُونَ الْكَمَالُ مَوْجُودًا فِيهِمَا حَالَ الْوَطْءِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَصَانَةِ أَنْ يَخْتَلِفَ بِهَا حَدُّ الزنا فَيَجِبُ الرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ وَالْجَلَدُ عَلَى غَيْرِ المحصن، ولو اختلف حالهما وقت الزنا فَكَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ غَيْرُ مُحْصَنٍ رُجِمَ الْمُحْصَنُ وَجُلِدَ غَيْرُ الْمُحْصَنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمَا تَأْثِيرٌ فِي حَصَانَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمَا فِي وَقْتِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ بِهِ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا دُونَ الْآخَرِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يكون نَاقِصًا وَالزَّوْجَةُ كَامِلَةً، وَنُقْصَانُ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ يَجْمَعُ نَقْصَ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ فَيَطَأُ زَوْجَةً كَامِلَةً بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَقَدْ صَارَتْ بِوَطْئِهِ مُحْصَنَةً إذا كان الصغر ممن يوطء مثله، فإن كان مثله لا يوطأ لَمْ تَتَحَصَّنْ بِوَطْئِهِ، فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُحْصَنًا فِي حَالِ نَقْصِهِ، وَهَلْ يَصِيرُ بِهِ مُحْصَنًا بَعْدَ كَمَالِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة: لَا يَتَحَصَّنُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا - وَاللَّهُ أعلم بالصواب -.
فأما الخنثى إذا جعلناه رجلاً يتحصن بوطء امرأة ولا يتحصن لو وطئه رجل، ولو جعلنا امْرَأَةً تُحْصَنَ بِوَطْءِ رَجُلٍ، وَلَا يَتَحَصَّنُ لَوْ وطأ امْرَأَةً، وَلَوْ كَانَ عَلَى حَالِ إِشْكَالِهِ لَمْ يتحصن بوطء رجل ولا يوطء امْرَأَةٍ وَلَا بِوَطْءِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ في حال إشكال بَاطِلٌ وَالْحَصَانَةُ لَا تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ باطل والله أعلم بالصواب.

(9/389)