الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (كتاب الأشربة والحد فيها)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَصْلُ الْمُسْكِرَاتِ كلها الْخَمْرُ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ تَابِعٌ لَهُ وَمُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ.
وَالْخَمْرُ هُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذا صار مسكراً بحدوث الشدة المطرية فِيهِ فَيَصِيرُ خَمْرًا بِشَرْطَيْنِ: الشِّدَّةُ والسُّكْرُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لا يصير خمراً بها حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِمَا شَرْطٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يقذف زبده.
وَلَيْسَ قَذْفُ الزَّبَدِ عِنْدَنَا شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي شُرْبِهَا.
وَفِي تَسْمِيَتِهَا خَمْرًا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ يُخَمَّرُ عَصِيرُهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَصِيرَ خَمْرًا أَيْ يغطّى وَلَوْ لَمْ يُغَطَّ لَمْ يَصِرْ خَمْرًا وَالتَّخْمِيرُ التَّغْطِيَةُ وَمِنْهُ سُمِّيَ خِمَارُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ يُغَطِّيهَا وَيَسْتُرُهَا.
وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يُخَامِرُ الْعَقْلَ بِالسُّكْرِ أَيْ: يُغَطِّيهِ وَيُخْفِيهِ.
وَقَدْ كَانَ الْخَمْرُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَشْرَبُهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَتَنَاكَرُونَهَا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِبَاحَتِهِمْ لِشُرْبِهَا هَلْ كَانَ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ بِشَرْعٍ وَرَدَ فِي إِبَاحَتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أحدهما: انهم استصحبوا إباحتها في الجاهلية؛ لأنه لا تقدم منع منها ولا تحريم لها، هذا أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ:
وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اسْتَبَاحُوا شُرْبَهَا بِشَرْعٍ وَرَدَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حسناً} [النحل: 67] .
وفيه ثلاث تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ السَّكَرَ مَا أَسْكَرَ مِنَ الخمر والنبيذ، والرزق الحسن وهو مَا أَثْمَرَ مِنَ

(13/376)


التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ثُمَّ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ مِنْ بَعْدُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَشَاهِدُهُ مِنَ اللُّغَةِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
(بِئْسَ الصحاة وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمُ ... إِذَا جَرَى فِيهِمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ)
وَالسَّكَرُ: الْخَمْرُ، وَالْمُزَّاءُ: نَوْعٌ مِنَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّكَرَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الحبشة.
وقيل بلغة أزدعمان.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّكَرَ الطَّعَامُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: الاثنان، وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(وَجَعَلْتَ عَيْبَ الْأَكْرَمِينَ سَكَرًا ... )

أَيْ طَعَامًا حَلَالًا ثُمَّ نزلت تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَمِلُوا مِنَ الشَّرَابِ، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ.
وَالثَّانِي: مَا حَكَاهُ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهُ سعد بن أبي وقاص لاحا رَجُلًا عَلَى شَرَابٍ. فَضَرَبَهُ الرَّجُلُ بِلِحَى جَمَلٍ ففرز أَنْفَهُ، قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ سَعْدٌ قَدْ صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشَوَى لَهُمْ رَأْسَ بَعِيرٍ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَغَضِبَ مِنْ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ سَعْدٌ، فَكَسَرَ أَنْفَهُ بَلِحَى الْبَعِيرِ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ.
والثالث: ما رواه عوف عن أبي القلوص، أَنَّ رَجُلًا سَكِرَ مِنَ الْخَمْرِ، فَجَعَلَ يَنُوحُ على قتلى بدر ويقول:
(تحيى بالسلامة أم بكر ... وهل لي بَعْدَ رهْطِكِ مِنْ سَلَامِ)

(ذَرِينِي أَصْطَبِحْ بكْرًا فإني ... رأيت الموت نبث عن هشام)

(ووديني الْمُغِيرَة لَوْ فَدَوْهُ ... بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ سوام)

(وكائن بالطوي طوي بدر ... من الشيزى تكلل بالسنام)

(وكائن بالطوي طوي بدر ... من القينات والحلل الكرام)

(13/377)


فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فغضب وأقبل الرَّجُلُ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيئاً كان معه بِيَدِهِ لِيَضْرِبَهُ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهَا أَبَدًا، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ. وَالرَّابِعُ: مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ صَنَعَ طَعَامًا وَشَرَابًا وَدَعَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا فَقَدَّمُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فصلى بِهِمُ الْمَغْرِبَ فَقَرَأَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ ديني) فنسي قول اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تقولون} [سورة النساء: 43] ثم حرمت.
والخامس: ما رواه محمد بن إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بياناً شافياً فنزل في سورة البقرة قوله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] الْآيَةَ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فنزل في سورة النساء قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تقولون} [النساء: 43] فدعى عمر فقرئت عليه. فقال: اللهم من لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والبغضاء} . الآية إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90] فَحِينَ سَمِعَهَا عُمَرُ قَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا.
فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ، وَنَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ رَابِعَةٌ فَيَ سورة الأعراف وهي قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33] .
والإثم ها هنا الخمر في قول الأكثر لِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
(شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ)

(13/378)


فَهَذِهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْخَمْرِ. نَحْنُ نَبْدَأُ بِتَفْسِيرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا، وَنَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا حُرِّمَتْ بِهِ الْخَمْرُ فيها.
أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] فَقَدْ قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الَّذِي سَأَلَ عَنْهَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ فِي الْخَمْرِ مَا قَالَ، وَاسْمُ الْخَمْرِ يَنْطَلِقُ حَقِيقَةً عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْطِلَاقِهِ حَقِيقَةً عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يطلق اسْمُ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الصِّفَةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الِاسْمِ
والوجه الثاني: أنه يطلق اسْمُ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَأَنَّ حَقِيقَةَ اسْمِ الْخَمْرِ مُخْتَصٌّ بِعَصِيرِ الْعِنَبِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي صِفَةٍ وَيَخْتَلِفَانِ فِي أُخْرَى وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْحُكْمِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ، فَافْتَرَقَا فِي الِاسْمِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ.
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَهُوَ الْقِمَارُ وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْمَيْسِرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْيَسَارِ وَالثَّرْوَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ.
وَالثَّانِي: لأنه موضوع على ما ينزله مِنْ غُنْمٍ أَوْ غُرْمٍ: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِثْمَ الْخَمْرِ أَنَّ شَارِبَهُ يُؤْذِي النَّاسَ إِذَا سَكِرَ واسم الميسر أن صاحبه يظلم الناس إذا عومل وهذا قول السدي.
والثاني: أن اسم الْخَمْرِ أَنْ يَزُولَ عَقْلُ شَارِبِهِ فَتَغْرُبُ عَنْهُ معرفة خالقه، واسم الميسر أن يوقع العداوة والبغضاء ويصدر عن ذكر الله والصلاة، وهذا قول ابن عباس {ومنافع الناس} وَفِي مَنَافِعِ الْخَمْرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وُفُورُ ثَمَنِهَا وربح تجارها.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَذَّةُ شُرْبِهَا وَمَا يَحْصُلُ فِي النفس من الطرب كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:

(13/379)


(وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهنِهُنَا اللِّقَاءُ)

وكقول آخر:
(وَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ)

(وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ)

وَفِي مَنَافِعِ الْمَيْسِرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: اكْتِسَابُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حل.
والثاني: ما يحصل الحاضر به مِنْ نَصِيبِ الْقَامِرِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَجْهًا ثالثاً: وهو أن منفعة الخمر والميسر بشأن اجتنابهما ثم قال تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} فيه وجهان:
أحدهما: أن الإثم الحادث عنه أكثر من النفع العائد منها قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِثْمَهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ قاله ابن عباس. {ويسألونك ماذا ينفقون} فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْجِهَادِ.
وَالثَّانِي: فِي الصدقات {قل العفو} فيه أربعة أوجه:
أحدها: ما طالبت به النفس عفواً ولم يسأل عليها قاله طاوس.
والثاني: أنهما لا طرف فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَالثَّالِثُ: أنَّهُ ما فضل عن الأهل والعيال، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَالرَّابِعُ: أنَّهُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ {كذلك يبين الله لكم الآيات} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: الصَّدَقَاتُ.
وَالثَّانِي: الْأَحْكَامُ.
والثالث: الدلائل والحجج {لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} فيه وجهان:
أحدهما: تتفكرون في الدنيا أنها دار فناء فتزهدون فيها، وفي الآخرة أنها دار بقاء فتعملون لها.

(13/380)


والثاني: تتفكرون في أوامر الله ونواهيه فتستذكرون طَاعَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَفِي قَوْلِهِ: {لا تقربوا الصلاة} وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهى عَنِ الصَّلَاةِ فِي حالة سكر.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهى عَنِ الشُّرْبِ فِي وَقْتِ الصلاة، وفي قوله تعالى: {وأنتم سكارى} وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ الشَّرَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَالثَّانِي: مِنَ النَّوْمِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
وَأَصْلُ السُّكْرِ مِنَ الشَّرَابِ مَأْخُوذٌ مِنْ سُكْرِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يسد مجرى الماء، فالسكر مِنَ الشَّرَابِ أَنْ يَسُدَّ طَرِيقَ الْعَقْلِ وَفِي قوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} ، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَتَّى تُمَيِّزُوا مَا تَقُولُونَ مِنَ الْكَلَامِ.
وَالثَّانِي: حَتَّى تَحْفَظُوا مَا تَتْلُونَ مِنَ القرآن لأجل ما كان فيمن أُمِرَ بِالصَّلَاةِ فِي سُكْرِهِ فَلَمْ يَقُمْ بِسُورَةِ {قل يا أيها الكافرون} فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَةِ الْخَمْرِ فِي غَيْرِ زَمَانِ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمِهَا فِي زَمَانِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِفِعْلِ الصلاة إذا حضر فعلها، فإذا صلى صلت له، وإن كان وقتها باقياً.
روى ابن إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: كَانَ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ يُنَادِي: " لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سكران) .
والثاني: أنه معتبر بوقت الصلاة، يحرم فِيهِ عَلَى مَنْ صَلَّى وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ وفيما توجيه التَّحْرِيمِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِلَى السُّكْرِ دُونَ الشُّرْبِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ.
وَالثَّانِي: إِلَى الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ جَمِيعًا.
رَوَى أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتِ الْخَمْرُ حلالاً لهم، يشربونها من صلاة الغداء حَتَّى يَنْتَصِفَ النَّهَارُ فَيَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وهم مصحون،

(13/381)


ثُمَّ لَا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يُصَلُّوا الْعَصْرَ، ثُمَّ يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يَنْتَصِفَ اللَّيْلُ وَيَنَامُونَ ثُمَّ يَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُمْ مُصِحُّونَ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {إنما الخمر والميسر} وقد مضى الكلام فيها، والأنصاب والأزلام فيها قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَنْصَابَ الْأَصْنَامُ الَّتِي تُعْبَدُ وَالْأَزْلَامَ قِدَاحٌ مِنْ خَشَبٍ يُسْتَقْسَمُ بِهَا.
وَالثَّانِي: الْأَنْصَاب حِجَارَةٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، كَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا، وَالْأَزْلَام تِسْعُ قِدَاحٍ ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ، حَكَاهَا الْكَلْبِيُّ، يستقسمون بها في أمورهم ويجعلون لكل واحد منهما حكما ثم قال؛ {رجس من عمل الشيطان} وفيها أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: سُخْطٌ.
وَالثَّانِي: شَرٌّ.
وَالثَّالِثُ: إِثْمٌ.
وَالرَّابِعُ: حرام {من عمل الشيطان} أَيْ: مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيَأْمُرُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَعَاصِي، وَلَا يَنْهَى إلا عن الطاعات، وأصل الرجس المستقذر الممنوع مِنْهُ، فَعَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا منه، ثم قال {فاجتنبوه} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ أَنْ تَفْعَلُوهُ.
وَالثَّانِي: فَاجْتَنِبُوا الشَّيْطَانَ أَنْ تُطِيعُوهُ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَهْتَدُونَ.
وَالثَّانِي: تَسْلَمُونَ ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والبغضاء في الخمر والميسر} بِحُصُولِ الشَرِّ وَالتَنَافُرِ لِحُدُوثِ السُّكْرِ وَغَلَبَةِ الْقِمَارِ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّكُمْ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ سُكْرَ الْخَمْرِ يَصُدُّكُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَطَلَبُ الْغَلَبَةِ فِي الْقِمَارِ يَشْغَلُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ {فَهَلْ انتم منتهون} فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُنْتَهُونَ عَمَّا نهى عَنْهُ من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وأخرجه مخرج الاستفهام وعيداً وتغليظاً [الأعراف: 33] .
وَالثَّانِي: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} عَنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فِيمَا زَيَّنَهُ لَكُمْ مِنَ ارْتِكَابِ هَذِهِ الْمَعَاصِي وأما الآية الرابعة في سورة الأعراف وفي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وما بطن} فيه وجهان:

(13/382)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَوَاحِشَ الزِّنَا خَاصَّةً، وَمَا ظَهَرَ منها الأنكحة الْفَاسِدَةُ، وَمَا بَطَنَ السِّفَاحُ الصَّرِيحُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَوَاحِشَ جَمِيعُ الْمَعَاصِي، وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، وَمَا بَطَنَ اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بغير الحق} فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِثْمَ الْجِنَايَةُ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْبَغْيَ التَّعَدِّي عَلَى النُّفُوسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِثْمَ الْخَمْرُ، وَالْبَغْيَ السُّكْرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَاهِدَهُمَا، فَسَمَّاهُمَا بِمَا يَحْدُثُ عَنْهُمَا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الخمر فقد اختلف أهل العلم بأيهما وقع التحريم على ثلاثة أقاويل:
أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ كان بالآية الأولى في سورة البقرة، في قوله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كبير} [البقرة: 219] وقرأ حمزة والكسائي كثير لأنه ما كثر إثمه لم يجز اسْتِبَاحَتُهُ، فَوَقَعَ بِهَا التَّحْرِيمُ، وَكَانَ مَا بَعْدَهَا مُؤَكِّدًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ اسْتَقَرَّ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الأعراف من قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ لِمَا فِيهَا مِنْ صَرِيحِ التَّحْرِيمِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ: وعليه اكثر العلماء، أن تحريم الخمر استقر بآية المائدة من قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} إلى قوله: {فهل انتم منتهون} .
روى عبد الوهاب عن عوف بن أبي القموص عن زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في الخمر ثلاث مرات، فأول ما أنزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فَشَرِبَهَا قَوْمٌ وَامْتَنَعَ عنها قَوْمٌ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فامتنعوا عنها، فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَشَرِبُوهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصلاة، ثم أنزل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا، فَاسْتَقَرَّ بِهَا التَّحْرِيمُ فَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا عِنْدَ تَحْرِيمِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ شربوها، وماتوا قبل تحريمها، فأنزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

(13/383)


وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَالثَّانِي: مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ {إِذَا مَا اتَّقَوْا} فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي تَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بالقبول.
والثاني: في أداء الفرائض، {وآمنوا} يعني بالله ورسوله {وعملوا الصالحات} يعني البر والمعروف، {ثم اتقوا وآمنوا} فِي هَذِهِ التَّقْوَى الثَّانِيَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا غَيْرُ مَنْ خُوطِبَ بِالتَّقْوَى فِي الْأُولَى وَأَنَّ الْأُولَى لِمَنْ شَرِبَهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَالثَّانِيَةَ لِمَنْ شَرِبَهَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ؛ فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ ذكرها لاختلاف المخاطب بها.
والوجه الثاني: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا لاختلاف المراد بها فعلى هذا في الْمُرَادِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى، فعل الطاعات.
والثانية: اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى عَمَلُ الْفَرَائِضِ، وَبِالثَّانِيَةِ عَمَلُ النَّوَافِلِ {ثُمَّ اتَّقَوْا وأحسنوا} فِي هَذِهِ التَّقْوَى الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْإِقَامَةُ عَلَى التَّقْوَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَقْوَى الشبهات.
والثالث: أنها إثابة المحسن، والعفو عن المسيئ.
وَحُكِيَ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ اسْتَبَاحَ الخمر بهذه الآية [المائدة: 93] وَقَالَ: قَدِ اتَّقَيْنَا وَآمَنَّا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْنَا فيما طعمنا، وأن عمرو بن معد كرب استباحها؛ لأن الله تعالى قال: {فهل انتم منتهون} ثُمَّ سَكَتَ وَسَكَتْنَا فَرَدَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمَا لِفَسَادِ تَأْوِيلِهِمَا فَرَجَعَا، وَلَمْ يَكُنْ لِخِلَافِهِمَا تَأْثِيرٌ فَصَارَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا عَلَى تَحْرِيمِهَا بِنَصِّ الْكِتَابِ ثُمَّ أكده نص السنة.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن البتع فقال: " كل شراب أسكر فهو حَرَامٌ) وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(13/384)


قَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ "
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " شرب الخمر أم الخبائث، وَإِنَّ خَطِيئَةَ شُرْبِهَا لَتَعْلُو الْخَطَايَا، كَمَا أَنَّ شجرها يعلوا الشجر) .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا) .

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا مَعًا صِرْفًا وَمَمْزُوجَةً.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَنَّهَا تَحْرُمُ إِذَا كَانَتْ صِرْفًا وَلَا تَحْرُمُ إِذَا مُزِجَتْ بِغَيْرِهَا.
لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كل شراب) .
قالوا: وليست الممزوجة بِعَيْنِهَا، فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا التَّحْرِيمُ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ حَلَّتْ بِالْمَزْجِ لَبَطَلَ مَقْصُودُ التَّحْرِيمِ، وَلَجَازَ إِذَا أُلْقِيَ فِيهَا حصاة أو عود أن تحل، ولتوصل إِلَى مُرَادِ شُرْبِهَا إِلَى الِاسْتِبَاحَةِ، وَلَمْ يَكُنْ للنصوص فيها تأثير، وسنذكر معنى الْحَدِيثِ مِنْ بَعْدُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ شَارِبِهَا مِنْ أَنْ يَسْتَحِلَّ شُرْبَهَا أولا.
فَإِنْ شَرِبَهَا مُسْتَحِلًّا كَانَ كَافِرًا بِاسْتِحْلَالِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ النَّصُّ. فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ المرتد في الْقِتَالِ إِنْ لَمْ يَتُبْ.
وَإِنْ شَرِبَهَا غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَمْ يَكْفُرْ.
وَتَعَلَّقَ بِشُرْبِهَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:

(13/385)


أَحَدُهَا: مَأْثَمُ التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: الْفِسْقُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْعَدَالَةِ.
وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَسَوَاءٌ سَكِرَ مِنْ شُرْبِهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، وزعم قوم أن الحد فيها تعزير ويجوز أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ هُوَ حَدٌّ، رَوَى شعبة عن قتادة عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ) .
فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الشُّرْبُ قَبْلَ الْحَدِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌ وَاحِدٌ فإن تَكَرَّرَ مِنْهُ الشُّرْبُ بَعْدَ الْحَدِّ كُرِّرَ عَلَيْهِ الحد ولم يقتل.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ قبيصة بن ذؤيب يرفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمِّ إن شرب فَاجْلِدُوهُ، ثُمِّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شرب فاقتلوه) قالوا: فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أتي به الثانية فجلده، ثم أتي به الثَّالِثَةَ فَجَلَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ فَجَلَدَهُ وَوضعَ الْقَتْل فَكَانَتْ رُخْصَةٌ.
ثُمَّ قَالَ الزُّهْرِيُّ لِمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَمِخْوَلِ بْنِ رَاشِدٍ: كُونَا وَافِدَيِ الْعِرَاقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالْقَتْلُ مَنْسُوخٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَاخْتُلِفَ فِيمَا أَرَادَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى وجهين:
أحدهما: حديث عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، وَقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ) .
وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ.
وَالثَّانِي: أَرَادَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شرب فَاجْلِدُوهُ، ثُمِّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إِنْ شرب فَاقْتُلُوهُ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ ثم أتي به الثانية فجلده، ثم أتي بِهِ الثَّالِثَةَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ فجلده، ووضع القتل.
وقد روى ذكريا الساجي هذا الحديث. وسمى الرجل بنعمان.

(13/386)


وَهَذَا الْحَدِيثُ مُسْنَدٌ، وَلَمْ يَرْوِهِ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَتْلَ مَنْسُوخٌ، فَهَذَا حُكْمُ الْخَمْرِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْأَنْبِذَةُ الْمُسْكِرَةُ سِوَى الْخَمْرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْرَاءِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَيْهَا. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ جَمِيعِ الأنبذة قليله حَرَامٌ. وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ والنجاسة والحد، سواء كان نيئاً أَوْ مَطْبُوخًا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَأَبَاحَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَ الْأَنْبِذَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا لَمْ يمسه طبخ فَهُوَ الْخَمْرُ الَّذِي يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَيُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِي شُرْبِهِ، فَإِنْ طُبِخَ فذهب ثلثاه حل، ولا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ، وَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّ من ثلثه فَهُوَ حَرَامٌ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ. وَمَا عُمِلَ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، فَجَمِيعُهُ حَلَالٌ، طُبِخَ أَوْ لَمْ يُطْبَخْ، أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ، وَيَحْرُمُ مِنْهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِذَةِ عِنْدَهُ طَاهِرَةٌ، وَإِنْ حَرُمَتْ سِوَى الْخَمْرِ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا اسْمُ الْخَمْرِ، وَلَا يُعَلَّلُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَصَارَ الْخِلَافُ معه مشتملاً على خمسة فصول:
أحدهما: هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ اسْمُ الْخَمْرِ؟ .
عِنْدَنَا يَنْطَلِقُ وَعِنْدَهُ لَا يَنْطَلِقُ.
وَالثَّانِي: هَلْ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا؟ عِنْدَنَا يَحْرُمُ وَعِنْدَهُ لَا يحرم.
والثالث: هل تنجس كالخمر؟ عندنا تنجس وعنده لا تنجس.
وَالرَّابِعُ: هَلْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ أَوْ بِالسُّكْرِ؟ عِنْدَنَا بالشُّرْبِ وَعِنْدَهُ بِالسُّكْرِ.
وَالْخَامِسُ: هَلْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مُعَلَّلٌ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ؟ عِنْدَنَا مُعَلَّلٌ وَعِنْدَهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى إِبَاحَةِ النَّبِيذِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] .
والسَّكَرُ هُوَ الْمُسْكِرُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ: فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَتِهِ.
وَبِمَا رَوَى أَبُو عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أحكام:

(13/387)


إِبَاحَةُ النَّبِيذِ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَ السُّكْرَ دُونَ الْمُسْكِرِ. ولأنه لا ينطلق عليه اسم الخمر وأن تحريم الخمر غير معلل؛ ولأنه حَرَّمَهَا بِعَيْنِهَا لَا لِعِلَّةٍ وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مَنْصُورٍ عن مخلد عن سَعْدٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو يطوف بالبيت فاستسقى، فأوتي بنبيذ من السقاية فشمه وقطب وجهه، ودعا بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه وشرب منه وقال: " إذا غلت عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةُ فَاكْسِرُوهَا بِالْمَاءِ) .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ يُنْبَذُ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النبيذ فيشربه اليوم والغد وَبَعْدَ الْغَدِ إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ به فيستقى الْخَدَمُ، أَوْ يُهْرَاقَ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ الْخَدَمَ.
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فِي سِقَاءٍ، فَإِنْ لَمْ يكن فثور مِنْ حِجَارَةٍ.
وَرَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عن النبيذ أحلال أَمْ حَرَامٌ؟
فَقَالَ: " حَلَالٌ) .
وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌ وَفِعْلٌ فِي إِبَاحَةِ النَّبِيذِ.
وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لَنَا أَعْنَابًا فما نَصْنَعُ بِهَا؟ فَقَالَ: " زَبِّبُوهَا فَقُلْنَا: مَا نَصْنَعُ بِالزَّبِيبِ قَالَ: أَنْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ، وَأَنْبِذُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ، وانبذوه في الشنان، يريد الجلد ولا تنبذوا في القلل، فإنه إن تَأَخَّرَ عَنْ عَصْرِهِ صَارَ خَلًّا) .
وَاسْتَدَلَّ بِمَا روي عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الظُّرُوفُ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا فَاشْرَبُوا ولا تسكروا) .

(13/388)


وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " انظروا هذه الأسقية إذا اعتلمت عَلَيْكُمْ فَاقْطَعُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ) .
وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنشوان فقال له: " أشربت خمراً) فقال له لا وَاللَّهِ مَا شَرِبْتُهَا مُنْذُ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ: " فَمَاذَا شَرِبْتَ) ؟ قَالَ: الْخَلِيطَيْنِ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى النَّبِيذِ اسْمُ الْخَمْرِ، وَلَا يَحْرُمُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: " اشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا فَإِنِ اشْتَدَّ عَلَيْكُمْ فَاكْسِرُوهُ بِالْمَاءِ) وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " شَهِدْتُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَمَا شَهِدْتُمْ ثُمَّ شهدت تحليله، فحفظت ونسيتم) .
فمن ذلك ما روى قيس بن أبي حَازِمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ: أَنَّهُ قَدِمَ على عمر بن الخطاب، فدعا بعشر مِنْ نَبِيذٍ شَدِيدٍ فَقَالَ: اشْرَبْ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُ فما كدت أسبقه، ثُمَّ أَخَذَ فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ: يَا عُتْبَةُ إننا ننحر كل يوم جزوراً ودكها وأطايبها فلمن حضر من آفاق المسلمين عُنُقُهَا فَلِآلِ عُمَرَ نَأْكُلُ هَذَا اللَّحْمَ الْغَلِيظَ، وَنَشْرَبُ هَذَا النَّبِيذَ الشَّدِيدَ، يَقْطَعُهُ فِي بُطُونِنَا أن يؤذيننا وَهَذَا فِعْلٌ مُنْتَشِرٌ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ فَجَلَدَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا شَرِبْتُ من ادواتك فَقَالَ: إِنَّمَا أَضْرِبُكَ عَلَى السُّكْرِ مِنْهَا، وَلَا أَضْرِبُكَ عَلَى الشُّرْبِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ السُّكْرِ دُونَ الشُّرْبِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَضَافَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، وَسَقَاهُ نَبِيذًا، فَلَمَّا دَخَلَ اللَّيْلُ وَأَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ دَفَعَهُ إِلَى خَادِمِهِ قَنْبَرٍ، وَمَعَهُ مِزْهَرٌ ليهديه إلى بيته، والمزهر السراج وقال لَهُ أهْدِهِ يَعْنِي إِلَى مَنْزِلِهِ لِسُكْرِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ جَمَاعَةٍ يَجْلِسُونَ عَلَى شَرَابٍ إِلَّا وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ وَقَدْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا لَا يُسْكِرُ حَتَّى يَتَجَاوَزُوهُ إِلَى مَا يُسْكِرُ.

(13/389)


وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَرِبَ أَحَدُكُمْ تِسْعَةَ أَقْدَاحٍ فَلَمْ يَسْكَرْ فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ شَرِبَ الْعَاشِرَ فَسَكِرَ فهو حرام، فهذا ما عاضد السُّنَّةَ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ كَثِيرًا.
فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَمِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ لِأَمْرَيْنِ لُغَةً وَشَرْعًا:
أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ يَنْتَفِي عَنِ الْآخَرِ، فَيُقَالُ لِعَصِيرِ الْعِنَبِ خَمْرٌ وَلَيْسَ بِنَبِيذٍ، وَيُقَالُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ نَبِيذٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ فِي شِعْرِهِ:
(دَعِ الْخَمْرَ يَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ أَخَاهَا مُجْزِيًا لِمَكَانِهَا)

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا)

فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيذَ غَيْرُ الْخَمْرِ، وَهُوَ مِنْ فصحاء العرب المحتج بقوله فِي اللُّغَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى حُكْمُ الْخَمْرِ فِي النَّبِيذِ مِنْ تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ، وَتَفْسِيقِ شَارِبِهِ، انْتَفَى عَنْهُ اسْمُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ مَا علق بالاسم من حكم لم يزل مع موجود الِاسْمِ، كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عَلِقَ بِعِلَّةٍ لَمْ يَزَلْ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ تحريم الأنبذة ما يعم بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى وَجَبَ أن يكون ثباته عاماً وما لم يكن ثباته كَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا. وَلَيْسَ فِيهِ تَوَاتُرٌ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ، قَدْ كَانَتْ حَلَالًا وَتَحْرِيمُهَا نُسِخَ وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ والنَّصُّ مُخْتَصٌّ بِالْخَمْرِ دُونَ النَّبِيذِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةِ النَّبِيذِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيذَ بِالْمَدِينَةِ عَامٌّ وَالْخَمْرُ فِيهَا نَادِرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيذَ يُعْمَلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَالْخَمْرُ يُجْلَبُ إِلَيْهَا مِنَ الشَّامِ وَالطَّائِفِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ.
فَلَوِ اسْتَوَيَا فِي التَّحْرِيمِ لَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ نَصًّا أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَمَّا عَدَلَ بِالنَّصِّ عَنِ النَّبِيذِ إِلَى الْخَمْرِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالتَّحْرِيمِ دُونَ النَّبِيذِ.
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: مَا حَرَّمَ شَيْئًا إِلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنَّهُ حَرَّمَ الزِّنَا وَأَبَاحَ النِّكَاحَ، وَحَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَأَبَاحَ لَحْمَ الْجَمَلِ، وَحَرَّمَ الْحَرِيرَ وَأَبَاحَ الْقُطْنَ وَالْكِتَّانَ، وَحَرَّمَ الْغَارَةَ وَأَبَاحَ الْغَنِيمَةَ، وَحَرَّمَ التَّعَدِّيَ وَالْغَلَبَةَ وَأَبَاحَ الْجِهَادَ، وَقَدْ حَرَّمَ

(13/390)


اللَّهُ الْخَمْرَ فَوَجَبَ أَنْ يُغْنِيَ عَنْهَا بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهَا. وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يُغْنِي عَنْهَا سِوَى النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا اعتباراً بِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: قَدْ وَعَدَنَا بِالْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ وَرَغَّبَ فِيهَا أَهْلَ الطَّاعَةِ، وَمَا لَا تُعْرَفُ لَذَّتُهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التَّرْغِيبُ فِيهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَبِيحُوا مَا تستدل بِهِ عَلَى لَذَّتِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ النبيذ، فاقتضى أن يحل له النَّبِيذُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ التَّرْغِيبَاتِ، فَهَذِهِ دَلَائِلُ مَنْ أَبَاحَ النَّبِيذَ مِنْ نُصُوصٍ وَمَعَانٍ.

(فَصْلٌ)
وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ؛ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ كَوُجُودِهِ فِي الْخَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي التَّحْرِيمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَيُّوبُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " كل مسكر خمر وكل خمر حَرَامٌ) . فَدَلَّ عَلَى تَسْمِيَةِ النَّبِيذِ خَمْرًا، وَعَلَى تَحْرِيمِهِ كَالْخَمْرِ.
وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل خمر حرام وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) .
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ لَا تَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ) " وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ) " ومن مس ذكره فليتوضأ) ففيه ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَثْبَتُ وَأَعْلَمُ بِطَرِيقِ الْحَدِيثِ وَصِحَّتِهِ مِنْ يَحْيَى، وَقَدْ أَثْبَتَ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِنْكَارُ هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا رَوَاهُ الثِّقَةُ، حَتَّى يُبَيِّنَ وجه فساده، وقد رواه من ذكرنا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَخْذَ بِهِ وَالْعَمَلَ عَلَيْهِ قَدْ سبق يحيى، فلم يكن حدوث قدحه مؤشراً. فَإِنْ قِيلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يعلمنا الأسماء، وإنما يعلمنا الأحكام، لأنه أَهْلَ اللُّغَةِ قَدْ شَارَكُوهُ فِي مَعْرِفَتِهَا لِتَقَدُّمِ اللسان العربي على مجيء الشرع. ففيه جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ عَنْهُ الأسماء شرعاً، إذا تعلقت عليها أحكام كما تؤخذ الأَحْكَام؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءَ فَنَقَلَهَا الشَّرْعُ إِلَى أَفْعَالِهَا، وَكَذَلِكَ

(13/391)


الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَنْقُلَ اسْمَ النَّبِيذِ إِلَى الْخَمْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيذَ نَوْعٌ من الخمر، واسم الخمر أعم، ودخل فِي اسْمِ الْأَعَمِّ، وَهُوَ الْخَمْرُ عُمُومًا وَانْفَرَدَ بِاسْمِ النَّبِيذِ خُصُوصًا، فَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن خفي عليه. وقد روى عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ وَهُوَ شَاعِرٌ جَاهِلِيٌّ سَبَقَ ورود الشرع:
(وقالوا هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعدة)

والطلاء: اسم نوع منه يختص بالمطبوخ دون النيء.
روى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بغير اسمها) .
وسنذكر ما أَنْوَاعِ أَسْمَائِهَا مَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَمْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن البتع فقال: كل شراب أسكر فهو حَرَامٌ) .
فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي أَسْكَرَ هُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ الَّذِي ظَهَرَ بِهِ السُّكْرُ وَهُوَ حَرَامٌ وما قبله غير مسكر، فكان حلالاً، ففيه سِتَّةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكْرِ صِفَةُ جنسه فانطلق عَلَى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، كَمَا يُقَالُ فِي الطَّعَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَعْلِيقَ التَّحْرِيمِ بِالْأَخِيرِ يُوجِبُ تَعْلِيقَهُ بِالْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَخِيرِ لَا يُسْكِرُ كَأَوَّلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ الْأَخِيرِ حَرَامًا كَآخِرِهِ، فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا كَالْأَخِيرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الخمر الأول، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَخِيرَ الْمُحَرَّمَ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ حَرَامًا.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مِقْدَارٍ مِنَ الْخَمْرِ يَجُوزُ أن يسكر؛ لأن الصغير يسكر بقليله كما يسكر الكبير بِكَثِيرِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ يَسْكَرُ بِقَلِيلِهِ، وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَسْكَرُ بِكَثِيرِهِ، فَصَارَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ مُسْكِرًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْخَمْرِ تَأْثِيرًا فِي السكر، والقدح الأول مبدأه، وَالْقَدَحُ الْأَخِيرُ مُنْتَهَاهُ، فَصَارَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ مُسْكِرًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، كَالضَّرْبِ الْقَاتِلِ يَكُونُ بالسوط الأول مبدأ الْأَلَمِ، وَالْأَخِيرِ غَايَتُهُ، وَالْجَمِيعُ قَاتِلٌ.

(13/392)


وَالسَّادِسُ: أَنَّ الْأَخِيرَ الَّذِي يُسْكِرُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ إِلَّا بَعْدَ شُرْبِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تعليق التحريم به. وقد روى هاشم بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ) .
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها وقالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: " ما أسكر الفرق منه فاللحسة مِنْهُ حَرَامٌ) .
وَالْفَرْقُ: أَحَدُ مَكَايِيلِ الْعَرَبِ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، لِأَنَّ لَهُمْ أَرْبَعَةُ مَكَايِيلَ
الْمُدُّ: وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ.
وَالْقِسْطُ: وَهُوَ ضِعْفُ الْمُدِّ، رِطْلَانِ وَثُلُثَانِ.
وَالصَّاعُ: وَهُوَ ضِعْفُ الْقِسْطِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ.
وَالْفَرْقُ: وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْعَافِ الصَّاعِ، سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا فَدَلَّ هَذَا عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِأَسَانِيدَ ثَابِتَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَخَبَّابُ بْنِ الْأَرَتِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ) .
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ الْأَخِيرَ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ السُّكْرُ فَصَارَ هُوَ الْمُحَرَّمَ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكَثِيرِ الَّذِي لَمْ يسكر ففيه ثلاثة أجوبة:
أحدهما: أَنَّ هَذَا تَكَلُّفُ تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ فَكَانَ مُطَّرَحًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَعُمُّ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ فَلَمَّا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْخَمْرِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فِي النبيذ.
والثالث: أنه إذا حرم القليل كالتحريم الْكَثِيرِ أَغْلَظَ كَالْخَمْرِ إِذَا حُرِّمَتْ بِغَيْرِ سُكْرٍ كان تحريمها بالسكر أغلظ.
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ شَرِبَ خَمْرًا لَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ سَبْعَة أَيَّامٍ وَمَنْ

(13/393)


سكر منها لم تقبل صلاته أَرْبَعِينَ يَوْمًا) .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عن أبي سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عَلَى عُمُومَةٍ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْقِيهِمْ فَضِيخًا لَهُمْ، فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مَذْعُورٌ، فَقُلْنَا: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: حُرِّمَتِ الخمر فقالوا لي: أكفها فكفأتها قال: وَهُوَ كَانَ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي عُمُومَتِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجِرَّاحِ، وَأَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، شَرَابًا لهم مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ وَالْفَضِيخُ مِنَ الْبُسْرِ. فَجَعَلُوهُ خَمْرًا مُحَرَّمًا وَالْمِهْرَاسُ الْفَأْسُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن شراب من العسل فقال: " ذلك البتع) قلت: وينبذون من الشعير والذرة فقال: " ذلك المذر ثُمَّ قَالَ أَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) .
وَرَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنا ومعاذ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: " بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تعاصيا فقال معاذاً يا رسول الله إنك تبعثنا إِلَى بِلَادٍ كَثِيرٍ شَرَابُ أَهْلِهَا فَمَا نَشْرَبُ؟ قَالَ: اشْرَبُوا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) .
وَرَوَى أَحْمَدُ بن حنبل والحميدي في كِتَابِهِمَا فِي الْأَشْرِبَةِ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ دَيْلَمٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت؛ يا رسول الله، إنا بأرض بارة نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا، وَإِنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا من هذا الفضيخ فنقوى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هل يسكر؟ قلت نعم: قال: فاجتنبوه فَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ) .

(13/394)


وَرَوَى الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ حُبْشَانِ أَهْلِ اليمن قالوا: يا رسول الله إن أرضنا أرض بَارِدَةٌ وَإِنَّا نَعْمَلُ بِأَنْفُسِنَا، وَلَيْسَ لَنَا منْ ممتهن دُونَ أَنْفُسِنَا وَلَنَا شَرَابٌ نَشْرَبُهُ بِأَرْضِنَا، يُقَالُ له المذر فَإِذَا شَرِبْنَاهُ نَفَى عَنَّا الْبَرْدَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمُسْكِرٌ هُوَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ) .
رَوَى أَبُو سعيد السحيتي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " الخمر مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ) ، فَإِنْ قَالُوا: يُسَمَّى مَا يُعْمَلُ مِنَ النَّخْلَةِ، خَمْرًا عَلَى طريق المجاز: لا يصح هذا، لأنه جمع بين العنبة والنخلة وَهُوَ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَكَذَلِكَ من النخلة. فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْمِلُهُ فِي الْعِنَبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَفِي النَّخْلِ عَلَى الْمَجَازِ قِيلَ: لَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ والمجاز على قوله: فلم يجز تأويله عليه عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ إِذَا وَافَقَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ صار حقيقة تقدم على حقيقة اللغة إذا خالفها.
وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُحَارِبٍ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ هِيَ الْخَمْرُ) وَهَذَا نَصٌّ فِي حَقِيقَةِ الِاسْمِ دُونَ مَجَازِهِ.
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وإن من البسر خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا) .
وَهَذَا نَصٌّ لَا يَعْتَرِضُهُ تَأْوِيلٌ فَهَذِهِ نُصُوصُ السُّنَّةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: مَا يُعَاضِدُهَا فَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَة من العنب والتمر والعسل والحنظة وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ.

(13/395)


فَدَلَّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَمْرِ على النبيذ والثاني: تعليل الخمر لأنه مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْمِ ما رواه صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا إِنَّ خَمْرَ الْمَدِينَةِ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، وَخَمْرُ أَهْلِ فَارِسَ الْعِنَبُ، وَخَمْرُ أَهْلِ الْيَمَنِ الْبِتْعُ، وَخَمْرُ الْحَبَشَةِ السُّكْرُكَةُ: وَهِيَ الْأُرْزُ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ: عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن السائب بن زيد أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةٍ، فَشَمَّ مِنَ ابْنِهِ عبيد الله رائحة شارب، فسأله، فقال: إني شربت الطلا فَقَالَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ ابْنِي شَرِبَ شَرَابًا، وَإِنِّي سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا حَدَدْتُهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَكَانَ مُسْكِرًا فَحَدَّهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لما سأل عنه، أنشد قول أبي عبيدة بن الأبرص:
(هي الخمر لا شك تكنى الطِّلَا ... كَمَا الذِّئْبُ يُكْنَى أَبَا جَعْدَةِ)

وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُوتَى بِأَحَدٍ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ نَبِيذًا مُسْكِرًا إِلَّا حَدَدْتُهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " خَمْرُ الْبِتْعِ مِنَ الْعَسَلِ وَخَمْرُ المذر مِنَ الذُّرَةِ) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عن ابن عمر ورجل سأله عن الفضيخ فقال: وما الفضيخ؟ قال: بُسْرٌ وَتَمْرٌ قَالَ: ذَاكَ الْفَضُوخُ، لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَهِيَ شَرَابُنَا.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْجُوَيْرِيَةِ الْجَرْمِيَّ يَقُولُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَأَنَا وَاللَّهِ أَوَّلُ الْعَرَبِ سألته عن الباذق فقال: سبق محمد الباذق فما أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ.
والْبَاذِقُ الْمَطْبُوخُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ عُرِّبَتْ.
فَهَذَا قَوْلُ: من ذكرنا من الصحابة وغيرهم، وليس له مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، ثُمَّ نُتْبِعُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من النهي عن أوانيها.

(13/396)


وذلك ما روى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ شريك عن معاذ عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ) ، وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَوَانِي مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: أَمَّا الدُّبَّاءُ فَإِنَّا مَعَاشِرَ ثَقِيفٍ كُنَّا بِالطَّائِفِ نَأْخُذُ الدُّبَّاءَ يَعْنِي الْيَقْطِينَةَ مِنَ الْقَرْعِ فَنَخْرُطُ فِيهَا عَنَاقِيدَ الْعِنَبِ، ثُمَّ نَدْفِنُهَا حَتَّى تَهْدِرَ، ثُمَّ تَمُوتَ. وَأَمَّا النَّقِيرُ فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَامَةِ كانوا ينقرون أصل النخلة ثم يشرفون فيها الرطب أو البسر حتى تهدر أو تموت. وأما المزفت فالأوعية التي تُطْلَى بِالزِّفْتِ.
وَأَمَّا الْحَنْتَمُ فَجِرَارٌ حُمْرٌ كَانَتْ تحمل إلينا فيها الخمر.
وقال الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ الْجِرَارُ الْخُضْرُ خَاصَّةً وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّ نَوْعٍ مِنَ الْجِرَارِ حَنْتَمٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ ألوانها.
وهو الأصح لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ: عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عن نبيذ الجر الْأَخْضَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ) ؛ وَفِي نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي وَإِنْ كَانَ حكم جميعها واحد تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَجُعِلَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأَوَانِي مُقَدَّمَةً ينوطون بِهَا عَلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِنْ تَحْرِيمِ الخمر؛ لأنهم قد كانوا ألغوها فواطأهم لِتَحْرِيمِهَا.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ التحريم؛ لأنه حرم عليهم المسكر وأباحهم غير المسكر، وهذه الأواني يتعجل إسكار شاربها فَنَهَى عَنْهَا لِيَطُولَ مُكْثُ مَا لَا يُسْكِرُ فِي غَيْرِهَا؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِرَاقَةِ مَا نَشَّ مِنَ الشَرَابِ وَأُتِيَ بِشَرَابٍ قَدْ نَشَّ فَضَرَبَ بِهِ عُرْضَ الْحَائِطِ وَقَالَ: " إِنَّمَا يَشْرَبُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ: عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تجمعوا بين الرطب والبسر وبين الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ نَبِيذًا) وَفِي نَهْيِهِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا فِي الِانْفِرَادِ وَالْجَمْعِ سَوَاءً.
أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ: أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ تَوْطِئَةً لَهُمْ فِي التحريم؛ لأنهم كانوا

(13/397)


يجمعون بينها لقوة شدتها وكثرة لذتها وَيُسَمُّونَهُ نَبِيذَ الْخَلِيطَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ جَمْعَهَا يُعَجِّلُ حُدُوثَ السُّكْرِ مِنْهَا لِيَدُومَ عليهم مكث ما لا يسكر إن انْفَرَدَ، وَلَا يُتَعَجَّلُ إِسْكَارُهُ إِذَا اجْتَمَعَ.
فَهَذِهِ دَلَائِلُ النُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ مِنَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ فَأَمَّا دَلَائِلُ مَا يُوجِبُهُ الِاعْتِبَارُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ فَمِنْ وُجُوهٍ.
مِنْهَا: الِاشْتِقَاقُ وَهُوَ: أَنَّ الْخَمْرَ سُمِّيَ خَمْرًا لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ.
إِمَّا لِأَنَّهُ خَامَرَ العقل أي غطاه. وهو قول عمر.
أو لِأَنَّهُ يُخَمّرُ أَيْ يُغَطّى، وَمِنْ أَيِّهِمَا اشْتُقَّ فهو فِي النَّبِيذِ، كَوُجُودِهِ فِي الْخَمْرِ فَوَجَبَ أَنْ يشترك فِي الِاسْمِ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا لِمَنْ بَقِيَتْ فِيهِ نَشْوَةُ السُّكْرِ: مَخْمُورًا، اشْتِقَاقًا مِنَ اسْمِ الْخَمْرِ، سَوَاءٌ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ نَبِيذٍ أَوْ خَمْرٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَلَوِ افْتَرَقَا فِي الِاسْمِ لافترقا في الصفة فقيل له في نشوة النبيذ: منبوذاً، كما قيل له في نشوة الخمر: مخموراً.
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: فِي خَلِّ الْعِنَبِ: خَلَّ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَقُولُوا فِي خَلِّ التَّمْرَ: خَلَّ الْخَمْرِ. فَإِنْ دَلَّ مَا نُصَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْمِ دَلَّ هَذَا عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ.
قِيلَ: هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَجَازٌ، وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ يَسْتَمِرُّ فِيهَا قِيَاسٌ، وَيَصِحُّ فيها اشتقاق؛ ولأن خَلَّ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا، وَإِنْ حَدَثَ عن العنب، كما لا يسمى التَّمْرُ نَبِيذًا، وَإِنْ حَدَثَ عَنِ التَّمْرِ، وَلَوْ كان لهذه العلة سمي خمر الْعِنَبِ: خَلَّ الْخَمْرِ لَوَجَبَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَنْ يُسَمَّى خَلُّ التَّمْرِ خَلَّ النَّبِيذِ، وَفِي فَسَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ بُطْلَانُ هَذَا التَّعَارُضِ.
وَمِنْهَا الْمَعْنَى: وَهُوَ أَنَّ الْخَمْرَ مُخْتَصٌّ بِمَعْنَيَيْنِ، صِفَةٍ بِخَلِّهِ وَهِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَتَأْثِيرٍ يَحْدُثُ عَنْهُ وَهُوَ السكر يثبت بها اسم الخمر وتحريمه ويزول بارتفاعها اسْمُ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَصِيرًا لَيْسَ فِيهِ شِدَّةٌ، وَلَا يَحْدُثُ عَنْهُ إِسْكَارٌ، ولم يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ وَإِذَا حَدَثَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَصَارَ مُسْكِرًا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ، وجرى عليه حكمه في التحريم.
فإذا ارْتَفَعَتِ الشِّدَّةُ وَزَالَ عَنْهُ الْإِسْكَارُ، ارْتَفَعَ عَنْهُ اسْمُ الْخَمْرِ، وَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الِاسْمِ وَالْحُكْمِ بِالصِّفَةِ وَالتَّأْثِيرِ دُونَ الْجِنْسِ، وَقَدْ وُجِدَتْ صِفَةُ الشِّدَّةِ وَتَأْثِيرُ السُّكْرِ فِي النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ اسْمُ الْخَمْرِ وَحُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ؛ وَلِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الشِّدَّةُ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ، كَذَلِكَ ما جلبته الشِّدَّةُ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ.

(13/398)


فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حَامِضٍ خَلًّا؛ لِأَنَّا نَرَاهُ خَلَّا إِذَا حَدَثَتْ فِيهِ الْحُمُوضَةُ، وَغَيْرَ خَلٍّ إِذَا ارتفعت عنه الحموضة.
فإن لَمْ يَكُنْ كُلُّ حَامِضٍ خَلًّا لَمْ يَكُنْ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرًا قِيلَ: صِحَّةُ التَّعْلِيلِ مَوْقُوفٌ عَلَى اطِّرَادِهِ، وَهُوَ فِي الْخَمْرِ مُطَّرِدٌ فَصَحَّ وَفِي الْخَلِّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَبَطَلَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَلِيلُ الْخَمْرِ مِثْلَ كَثِيرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَلِيلُ النَّبِيذِ مِثْلَ كَثِيرِهِ؛ لِأَنَّهُمَا قد اجتمعا فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ فوجب أن يستوي حكم قليله وكثيره كَالْخَمْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ كَثِيرَ السَّقَمُونِيَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْأَدْوِيَةِ حَرَامٌ، وَقَلِيلُهُ غَيْرُ حَرَامٍ.
قيل لأن تحريم السقمونيا لضرر هو مَوْجُودٌ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِشِدَّتِهِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، فَإِنْ مَنَعُوا مِنَ التَّعْلِيلِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ ثُمَّ يقال: لما لم يمنع هذا مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَلِيلِ الْخَمْرِ وَكَثِيرِهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَلِيلِ النَّبِيذِ وَكَثِيرِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ دَوَاعِيَ الْحَرَامِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُسَبَّبِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ السَّبَبِ، وَشُرْبَ الْمُسْكِرِ يَدْعُو إِلَى السُّكْرِ، وَشُرْبُ الْقَلِيلِ يدعو إلى شرب الكثر فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ الْمُسْكِرُ لِتَحْرِيمِ السُّكْرِ وَيُحَرَّمَ الْقَلِيلُ لِتَحْرِيمِ الْكَثِيرِ.
فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ هَذَا بِقُبْلَةِ الصَّائِمِ تَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ.
قِيلَ: إِذَا دَعَتْ إِلَى الْوَطْءِ حَرُمَتْ.
وَإِنَّمَا يُبَاحُ مِنْهَا مَا لَمْ يَدْعُ إِلَى الْوَطْءِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَّقَ عَلَى طَبْخِ الْأَشْرِبَةِ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَجَعَلَهُ مُحِلًّا لِلْحَرَامِ، وَمُحَرِّمًا لِلْحَلَالِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا طُبِخَ الْخَمْرُ حَلَّ، وَإِذَا طُبِخَ النَّبِيذُ حَرُمَ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ تَأْثِيرًا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا حَلَّ مِنْ لَحْمِ الْجَمَلِ لَمْ يَحْرُمْ بِالطَّبْخِ، وَمَا حَرُمَ مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَحِلَّ بِالطَّبْخِ، فَوَجَبَ إِسْقَاطُ تَأْثِيرِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ نيء الْخَمْرِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ مَطْبُوخُهُ، وَأَنَّ مَطْبُوخَ النَّبِيذِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ نَيِّئُهُ.

(13/399)


وَمِنْهَا: أَنَّ تَأْثِيرَ الشَّمْسِ فِي الْأَشْرِبَةِ كَتَأْثِيرِ الطَّبْخِ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْطَأَ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالشَّمْسِ حُدُوثُ الشِّدَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِالطَّبْخِ حُدُوثَ الشِّدَّةِ: لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي التَّأْثِيرِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحُكْمِ.
وَمِنْهَا: مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنَ " الْأُمِّ) ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ إِذَا شَرِبَ أَقْدَاحًا، فَلَمْ يَسْكَرْ قَالُوا: حَلَالٌ، قَالَ: فَإِنْ خَرَجَ إِلَى الْهَوَاءِ فَضَرَبَتْهُ الرِّيحُ فَسَكِرَ قَالُوا: يَكُونُ حَرَامًا قَالَ: يَا عجبا ينزل الشراب إلى جوفه حلالاً ويصير بالريح حراماً.
قالوا: يكون التحريم مراعاً، قِيلَ لَهُمْ: إِنَّمَا يَكُونُ مُرَاعًى مَعَ بَقَائِهِ، لأن المراعى موقوف والمقوف مَمْنُوعٌ وَالْمَمْنُوعُ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّ مَا رَاعَيْتُمُوهُ بَعْدَ شُرْبِهِ أَبَحْتُمُوهُ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَالشَّكُّ يَمْنَعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَغُرِّرْتُمْ بِهِ فِي إِبَاحَةِ مَا تُحَرِّمُونَهُ عَلَيْهِ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ حَرَامًا.
وَمِنْهَا: مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِمْ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ إِذَا كَانَتْ حُلْوَةً فَهِيَ حَلَالٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا، فَإِذَا حَمُضَتْ وَصَارَتْ خَلَّا فَهِيَ حَلَالٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَجَبَ إِذَا اشْتَدَّتْ وَأَسْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا وَاحِدًا، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ جَمِيعُهَا وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ جَمِيعُهَا. وَلَمَّا لَمْ يُحِلَّ قَلِيلُهَا وكَثِيرَهَا وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْخَمْرَ قَدِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا، وَالنَّبِيذُ قَدِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فَمِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ: الْعُقَارُ سُمِّيَتْ بِهِ؛ لِأَنَّهَا تُعَاقِرُ الْإِنَاءَ أَيْ تُقِيمُ فِيهِ.
وَمِنْ أَسْمَائِهَا: الْمُدَامُ؛ لِأَنَّهَا تَدُومُ فِي الْإِنَاءِ.
وَمِنْ أَسْمَائِهَا: القهوة وسميت به؛ لأنها تقهي عن الطعام. أي يقطع شَهْوَتُهُ.
وَمِنْ أَسْمَائِهَا السُّلَافُ: وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ من عينه بغير اعتصار، ولها خير ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ.
وَمِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيذِ: السَّكَرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُسْكِرُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يطبخ.
ومن أسمائه: البازق، وَهُوَ الْمَطْبُوخُ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْفَضِيخُ، وَهُوَ مِنَ البسر، سمي بذلك؛ لافتضاخ البسر منه.
ويسميه أهل البصرة العري.
ومنه البتع مِنَ الْعَسَلِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَمِنْهُ الْمِزْرُ، وَهُوَ مِنَ الذُّرَةِ لِأَهْلِ الْحَبَشَةِ.

(13/400)


ومنه: المزاء وهو من أشربة أهل الشَّامِ، وَمِنْهُ: السَّكَرُ، وَهُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ وَمِنْهُ: السُّكْرُكَةُ وَهُوَ مِنَ الْأُرْزِ لِأَهْلِ الْحَبَشَةِ.
وَمِنْهُ: الْجِعَةُ وَهُوَ مِنَ الشعير ومنه الضعف وهو من عنب شرخ كَالْفَضِيخِ مِنَ الْبُسْرِ يُتْرَكُ فِي أَوْعِيَتِهِ حَتَّى يَغْلِيَ.
وَمِنْهُ الْخَلِيطَانِ وَهُوَ مَا جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ بُسْرٍ وَعِنَبٍ أَوْ بَيْنَ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ.
ومنه المغذي اسْتُخْرِجَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالشَّامِ مِنْ ماء الرمان وماء العنب.
وَمِنْهُ مَا يَتَغَيَّرُ بِالطَّبْخِ، فَمِنْهُ: الْمُنَصَّفُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ بِالنَّارِ نِصْفُهُ وَبَقِيَ نِصْفُهُ، وَمِنْهُ: الْمُثَلَّثُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ ثُلُثُهُ وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ، ومنه: الكلا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، وَمِنْهُ الْجَهْوَرِيُّ وَهُوَ مَا يَجْمُدُ، فَإِذَا أُرِيدَ شُرْبُهُ حل بالماء والنار وعليه يسميه أهل فارس البحتح إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تحصى فلما اختلفت أسماء الخمر واتفقت أحكامها لِلِاشْتِرَاكِ فِي مَعْنَى الشِّدَّةَ، وَاخْتَلَفَتْ أَسْمَاءُ النَّبِيذِ، وَاتَّفَقَتْ أَحْكَامُهُ مَعَ الشِّدَّةِ، وَجَبَ إِذَا اخْتَلَفَ اسم الخمر والنبيذ أن تتفق أحكامها لأجل الشدة، وهذا الاستدلال فِي سَائِرِ اخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَطْلَقَ عَلَى النَّبِيذِ اسْمَ الْخَمْرِ حَرَّمَهُ بِالنَّصِّ، وَمَنْ لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ اسْمَ الْخَمْرِ حَرَّمَهُ بِالْقِيَاسِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْجَوَابُ، عَنْ قَوْله تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ السَكَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ، بِبَعْضِهِ لِأَنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْخَمْرُ قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ النَّبِيذُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا طَابَ وَلَمْ يُسْكِرْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ الْمُسْكِرُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ الْحَرَامُ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ الطَّعَامُ، قَالَهُ أبو عبيدة.
والسابع: أنه الخل.
ومع اختلاف هذا التأويل لن يَصِحَّ فِي أَحَدِهَا دَلِيلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَسْمَاءِ السُّكْرِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ الْمُشْتَرِكِ.

(13/401)


إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أحدهم، هَلْ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهَا؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى جَوَازِ حَمْلِهِ عَلَى عُمُومِ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي اسْمِ اللَّوْنِ وَالْعَيْنِ، كَمَا يَجُوزُ حَمْلُهُ على عموم الأجناس المتماثلة في قوله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] فِي حَمْلِهِ عَلَى كُلِّ زَانٍ وَسَارِقٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَعْيَانِ وَإِنْ جَازَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَجْنَاسِ؛ لِتَغَايُرِ الْأَعْيَانِ: وَتَمَاثُلِ الْأَجْنَاسِ.
وقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَعْيَانِ وَالْأَجْنَاسِ إِذَا دَخَلَهُمَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْعَيْنِ وَاللَّوْنِ، وَفِي الزَّانِي والسارق لا يجوز حملها عَلَى الْعُمُومِ مَعَ حَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، إِذَا قيل: اقطع سارقاً، واجلد زانياً فهذا واجب.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ استعمالاً للنصيين فيه.
والثالث: أنها إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِهِ دُونَ إِبَاحَتِهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حسناً} فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ رَاوِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ: فَكَانَ مُنْقَطِعًا لَا يُلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَوَاهُ موقوفاً على ابن عباس غير مسند عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الرِّوَايَةَ: " والمسكر من كل شراب) فمنها الراوي، فأسقط المسكر منها فَرُوي: " وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ السُّكْرُ، لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُسْكِرَ، لَأَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الشَّارِبِ، فينهي عنه وإنما شرب المسكر فعله، فصار النهي متوجهاً إليه.
الخامس: أَنَّ تَحْرِيمَ السُّكْرِ فِي هَذَا الْخَبَرِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَيَحْرُمُ السُّكْرُ وَالْمُسْكِرُ جَمِيعًا، وَتَكُونُ أَخْبَارُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَعَمُّ حُكْمًا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ السُّكْرِ، وَتَحْرِيمُ السُّكْرِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ السكر محرم بالعقل؛ لاستقباحه فيه، والمسكر محرم بالشر؛ لِزِيَادَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْلِ.

(13/402)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِبَ فِي طَوَافِهِ مِنَ السِّقَايَةِ نَبِيذًا فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ سُفْيَانَ، وقد سئل سفيان عن المذر فَقَالَ: ذَلِكَ شَرَابُ الْفَاسِقِينَ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَسْتَحِلُّ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا) .
وَالثَّانِي: أَنَّ نَبِيذَ السِّقَايَةِ كَانَ غَيْرَ مُسْكِرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُصْنَعُ لِلْحُجَّاجِ إِذَا صَدَرُوا مِنْ مِنًى لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، لِيَسْتَطِيبُوا به شرب ماء زمزم وكان ثقيلاً، لا يستسقى أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْكِرٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَطَّبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين شربه فدعى بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نبيذاً مشتداً قيل الجواب يجوز أن يكون قد قطب لحموضته وصب عليه الماء لغلظته.
وأما الجواب الثالث: أن نبيذ السقاية كان نقع الزَّبِيبِ، غَيْرَ مَطْبُوخٍ، وَهُوَ إِذَا أَسْكَرَ حَرُمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ حَمْلُهُ عليه وبطل اسْتِدْلَالُهُ بِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كان ينبذ لَهُ إِلَى ثَلَاثٍ فَيَشْرَبُهُ ثُمَّ يَسْقِيهِ الْخَدَمَ ثم يهراق هو أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُهُ وَيَسْقِيهِ الْخَدَمَ إِذَا لِمَ يَشْتَدَّ ثُمَّ يُهْرَاقُ إِذَا اشْتَدَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيذَ لَا يَشْتَدُّ لِثَلَاثٍ حَتَّى تَطُولَ مُدَّتُهُ وَلِذَلِكَ كان يأمر بإراقة ما نش.
كذلك الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أباح النبيذ مَعَ ضَعْفِهِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَنْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ) .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " اشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا) فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ تَفَرَّدَ به أبو الأحوص، ووهن فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " اشْرَبُوا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) .
وَالثَّانِي: أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الشَّارِبِ، فَيَتَوَجَّهُ النَّهْيُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ حمله عليه، وأما الجواب عن حديث عمر " إذا اغتلصت عَلَيْكُمْ فَاقْطَعُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ) فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنه ضعيف؛ لأن رواية عبد الملك ابن أَخِي الْقَعْقَاعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

(13/403)


وَالثَّانِي: أَنَّ اغْتِلَامَهَا هُوَ تَغَيُّرُهَا، إِمَّا إِلَى حموضة أو قوة، وليس في واحد منها سُكْرٌ وَلِذَلِكَ كُسِرَتْ بِالْمَاءِ لِتَزُولَ حُمُوضَتُهَا أَوْ قُوَّتُهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَأَلَ السَّكْرَانَ أَشَرِبْتَ خَمْرًا؟ قَالَ: لَا شَرِبْتُ الْخَلِيطَيْنِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُعُرَفُ إِسْنَادُهُ، وَلَا يُحْفَظُ لَفْظُهُ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمٌ.
والثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ جَوَابٌ مِنْ إِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ قَوْلِهِ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " شَهِدْتُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَمَا شَهِدْتُمْ ثُمَّ شَهِدْتُ تَحْلِيلَهُ فَحَفِظْتُ وَنَسِيتُمْ) . فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ أَحَلَّ النَّبِيذَ لَمْ يَعْتَرِفْ بِتَحْرِيمِهِ قَبْلَهُ وَمَنْ حَرَّمَهُ لَمْ يَدَعْ إِحْلَالَهُ بَعْدَهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الأوعية، قد رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نهى عن الأوعية إلا وعاء بوكاء) .
وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ والنقير وَالْمُزَّفَتِ وَأَبَاحَ مَا يُوكَأُ مِنْ أَوْعِيَةِ الْأَدِيمِ، ثم اختلف أصحابه عن النهي في هَذِهِ الظُّرُوفِ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ هَلْ نُسِخَ أم لا؟ فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى بَقَائِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ فِيمَا لَمْ يُسْكِرْ وقال عُمَرُ: لَأَنْ تَخْتَلِفَ الْأَسِنَّةُ فِي جَوْفِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَشْرَبَ نَبِيذَ الْجَرِّ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " اجْتَنِبُوا الْحَنَاتِمَ وَالنَّقِيرَ) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أشرب في سقا ثلاث على خمسة أَيْ يُشَدُّ وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ إِلَى إِبَاحَتِهَا فِيمَا لَمْ يُسْكِرْ وَنَسْخِ تَحْرِيمِهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِن الظُّرُوفَ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) .
وقد روى محارب بن دثار عن أبي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ وَأَنَا آمُرُكُمْ بِهِنَّ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّ زِيَارَتَهَا تَذْكِرَةٌ. وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ أَنْ تَشْرَبُوا إِلَّا فِي ظَرْفِ الْأَدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غير ألا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي أَنْ تَأْكُلُوهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ فَكُلُوا وَاسْتَمْتِعُوا) .

(13/404)


وَتَأْثِيرُ نَسْخِ الشُّرْبِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ فِي الكراهة دون التحريم، فمن ذهب إلى أنها مَنْسُوخَة كَرِهَ أَنْ يُشْرَبَ مِنْهَا إِلَّا مَا يُسْكِرُ وَمَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ لَمْ يَكْرَهْ شُرْبَ مَا لَا يُسْكِرُ مِنْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ.
وأما الجواب عن آثار الصحابة رضي الله عنهم فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ مَا يُخَالِفُهُ. وَهُوَ أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَأَشْبَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَتَشَدُّدِهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ مَحْظُورَاتِهِ، وَشَرِبَ عُمَرُ مِنْ إِدَاوَةٍ حَدَّ شَارِبَهَا فَلِأَنَّ عُمَرَ شَرِبَ قَبْلَ إِسْكَارِهَا، وَشَرِبَ الرَّجُلُ بَعْدَ إِسْكَارِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ شُرْبِ ابن أبي ليلى عند علي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَى مِثْلُهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلالهم بالمعاني: بِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنِ النَّبِيذِ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ، انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي الِاسْمِ وَالتَّحْرِيمِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِذَا افْتَرَقَا فِي حُكْمٍ يَجِبُ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي كُلِّ حُكْمٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي تَحْرِيمِ الْكَثِيرِ وَافْتَرَقَا عِنْدَهُ فِي تَحْرِيمِ الْيَسِيرِ، وَلَمْ يَكُنِ الفرق في الْيَسِيرِ مَانِعًا مِنَ التَّسَاوِي فِي الْكَثِيرِ. كَذَلِكَ لَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُمَا فِي التَّكْفِيرِ مُوجِبًا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ التَّسَاوِي فِي التَّحْرِيمِ مَعَ الِافْتِرَاقِ فِي التَّكْفِيرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ يَسْتَوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّكْفِيرِ فَيُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِ الْكَبَائِرِ وَلَا يُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِ الصَّغَائِرِ، كَذَلِكَ الْخَمْرُ والنبيذ لا يمنع افتراقهما في التكفير استواءهما فِي التَّحْرِيمِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ التَّكْفِيرُ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِزَوَالِ التَّكْفِيرِ فِي اسْتِحْلَالِ النَّبِيذِ عَلَى إِبَاحَتِهِ، كَمَا دَلَّ التَّكْفِيرُ فِي اسْتِبَاحَةِ الْخَمْرِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِي التَّكْفِيرِ ارْتِفَاعُ الشُّبْهَةِ عَمَّا اسْتُحِلَّ مِنَ الْحَرَامِ وهذا موجود في الخمر، معدوم فِي النَّبِيذِ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ النبيذ النيء محرم، ولا يكفر مستحلة.
والجواب على أن مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفِيضًا فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الْبَيَانِ لَا فِي النَّقْلِ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ الْبَيَانُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى بِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو طلحة بالنداء وهو على شراب، فَأَمَرَ أَنَسًا بِإِرَاقَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ وَالْبَيَانَ مَعًا مُسْتَفِيضَانِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي التَّأْوِيلِ فِي الْبَيَانِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ بَيَانَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ نص الكتاب في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

(13/405)


فأخر بَيَانُ الْكِتَابِ عَنِ الِاسْتِفَاضَةِ فِي بَيَانِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ، بِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا ثَبَتَ تَحْلِيلُهُ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنَّصِّ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ ابْتِدَاء شَرْع، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، لأنهم كانوا في صدر الإسلام مستدرجين لِاسْتِبَاحَتِهَا مِنْ قَبْلُ، فَجَاءَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا، وَمَا هذه سبيله يَجُوزُ إِثْبَاتُ حُكْمِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. كَمَا نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَيَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ كَمَا جَازَ إِثْبَاتُ الرِّبَا فِي الْأُرْزِ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَسْخًا، لَكَانَ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ نَصٌّ مُسْتَفِيضٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي آيَةِ الْخَمْرِ، أَنْ يُنْسَخَ بِمَا يَسْتَفِيضُ بَيَانُهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِضْ نَقْلُهُ، كَمَا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَأَهْلُ قُبَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَأَتَاهُمْ مَنْ أَخْبَرَهُمْ بِنَسْخِهَا وَتَحْوِيلِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ فاستداروا إليها وعملوا على قوله وَاحِد.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ، بِأَنَّ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَعُمَّ بَيَانُهُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا أَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَا نُسَلِّمُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى خاصاً مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ في الصلاة ما يعم بِهِ الْبَلْوَى، وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا بِالْخَمْرِ صَارَ إِمَّا دَاخِلًا فِي اسْمِهِ فَهُوَ نَصٌّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ فَرْعٌ، لِأَصْلٍ عَمَّ بَيَانُهُ فَصَارَ بَيَانُ الْفَرْعِ عَامًّا كأصله.
والثالث: أنه لما كان يمنع هذا من تحريم النبيذ التي عِنْدَهُ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَطْبُوخِ عِنْدَنَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ النَّبِيذَ بِالْمَدِينَةِ أكثر، وهم إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِهِ أَحْوَجُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ جَعَلَ النَّبِيذَ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْخَمْرِ فَقَدْ جَعَلَ الْعُمُومَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِمَا، وَهُوَ أَصَحُّ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فَزَالَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ بَيَانَ تَحْرِيمِهَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَلْ هُوَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. وَلَئِنْ كَانَ النَّبِيذُ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْرِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ بِالشَّامِ وَفَارِسَ أَكْثَرُ مِنَ

(13/406)


النَّبِيذِ. وَالْبَعِيدُ أَحْوَجُ إِلَى عُمُومِ الْبَيَانِ مِنَ الْقَرِيبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ تَنْبِيهًا عَلَى الْكَثِيرِ فَجَازِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ. بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ السُّكْرَ وَإِنْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ أَنْ يُحَرِّمَ الْمُسْكِرَ وَإِنْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَا يُسْكِرُ فَأَغْنَى عَنِ الْمُسْكِرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ استدلالهم، بالترغيب بها فِي الْجَنَّةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ عرفوا لذتها قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنِ الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ غَيْرُ مُسْكِرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَهَا بِأَنْ لَا غَوْلَ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمَ. أَيْ: لَا تَغْتَالُ عقولهم بالسكر، ولا يأثمون بارتكاب الحظر، والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: رضي الله عنه " وَفِيهِ الْحَدُّ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا شَارِبُ الْخَمْرِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ سَكِرَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا شَارِبُ النَّبِيذِ فَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ حُدَّ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ حُدَّ فِي قَوْلِ مَنْ حَرَّمَهُ، وَلَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ مَنْ أَحَلَّهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى تَحْرِيمِهِ فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ كَالْخَمْرِ، وَهُمَا فِي الْحَدِّ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ أَغْلَظَ مَأْثَمًا كَمَا أَنَّ الْحَد فِي الْخَمْرِ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سَكِرَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَسْكَرْ، وَإِنْ كَانَ السُّكْرُ أَغْلَظَ مَأْثَمًا، فَهَذَا حُكْمُ الْحَدِّ، فَأَمَّا التَّكْفِيرُ فَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ النَّبِيذِ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ.
وَقَدْ مَضَى وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا التَّفْسِيقُ: فَيَفْسُقُ شَارِبُ الْخَمْرِ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. وَأَمَّا شَاربُ النَّبِيذِ فَيَفْسُقُ فِي كَثِيرهِ الْمُسْكِرِ والتفسيق في قليله معتبر بحال شاربه. فإن تأوله فِي شُرْبِهِ، إِمَّا بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ بِفُتْيَا فَقِيهٍ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَفْسُقْ، وَإِنْ حُدَّ.
وَإِنْ شَرِبَهُ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ فُسِّقَ وَحُدَّ، فَاسْتَوَى حَدُّهُ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنِ افْتَرَقَ بِفِسْقِهِ فِيهِمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَفْسُقُ فِي الْحَالَيْنِ، كَمَا يُحَدُّ فِيهِمَا، ولا تبقى مَعَ وُجُوبِ حَدِّهِ عَدَالَةٌ.

(13/407)


وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ شُرْبَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْفِسْقَ إِذَا تَأَوَّلَهُ، كَشَارِبِ لَبَنِ الْأُتُنِ؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا تَابَ بَعْدَ شُرْبِهِ وَقَبْلَ حَدِّهِ. فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَهُوَ عَدْلٌ كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أن يجب الحد عليه وهو عدل؛ لتسوية بَيْنَ حَالِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدِّ والتفسيق في التأويل، لأن الْحَدَّ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ فَاسْتَوَى فِيهِ حَالُ الْمُتَأَوِّلِ وَغَيْرِ الْمُتَأَوِّلِ وَالتَّفْسِيقُ مُخْتَصٌّ بِالْحَظْرِ فَافْتَرَقَ فِيهِ حكم المتأول وغير المتأول.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَا يُحَدُّ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ شَرِبْتُ الْخَمْرَ أَوْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ بِهِ أَوْ يَقُولَ شَرِبْتُ ما يسكر أو يشرب من إناء هُوَ وَنَفَرٌ فَيَسْكَرُ بَعْضُهُمْ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرَابَ مُسْكِرٌ وَاحْتُجَّ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَا أُوتَى بِأَحَدٍ شَرِبَ خَمْرًا أو نبيذا مسكراً إلا جلدته الجد) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِي شُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنْ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ، فَثُبُوتُ شُرْبِهِ لِلْمُسْكِرِ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أوجه، ذكرها الشافعي ها هنا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَرِفَ بِشُرْبِ الْمُسْكِرِ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ اعترافه.
والثاني: يشهد عليه شاهدان أنه شرب الْمُسْكِرَ. فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ، وَلَا يَلْزَمُ سُؤَالُ الشاهدين عن وصفهما للشهادة فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَإِنْ لَزِمَ شُهُودَ الزِّنَا سؤالهم عن صفة الزنا، للفرق بينهما بأن الزِّنَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لا يوجبه والشرب المسكر لا ينطلق على ما لا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْرَبَ شَرَابًا يَسْكَرُ مِنْهُ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَشْرَبَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ شَرَابٍ يَسْكَرُ مِنْهُ بَعْضُهُمْ، فَيُعْلَمُ بِسُكْرِ بَعْضِهِمْ أَنَّ جَمِيعَهُمْ شَرِبَ مُسْكِرًا، فَإِذَا ثَبَتَ شُرْبُهُ لِلْمُسْكِرِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، كَانَ وُجُوبُ حَدِّهِ بَعْدَ شُرْبِهِ مُعْتَبَرًا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الشَّرَابَ مُسْكِرٌ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَشْرَبَهُ مُخْتَارًا، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهِ فَلَا حدَّ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لْقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
والرابع: ألا تَدْعُوَهُ ضَرُورَةٌ إِلَى شُرْبِهِ، فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ، لشدة عطش، أو تداوي مرض، لا يوجد الطِّبُّ مِنْ شُرْبِهِ بُدًّا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ شُرْبُهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ

(13/408)


مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَإِذَا اسْتُكْمِلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

(فَصْلٌ)
وَلَا يُحَدُّ بِرَائِحَةِ الْمُسْكِرِ مِنْ فَمِهِ وَلَا إِذَا تَقَيَّأَ مُسْكِرًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَحُدُّهُ بِرَائِحَةِ الْمُسْكِرِ وَبِقَيْءِ الْمُسْكِرِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي مَاعِزٍ: اسَتَنْكِهُوهُ، فَجَعَلَ لِلرَّائِحَةِ حُكْمًا، وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَدَّ ابْنَهُ عُبَيْدَ الله بالرائحة.
وَلِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فِي الْخَمْرِ بِشَاهِدَيْنِ، شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَقَيَّأَهَا فَقَالَ عُثْمَانُ، مَا تَقَيَّأَهَا حَتَّى شَرِبَهَا.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يستدرك بِرَائِحَةِ الْخَمْرِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا فَيُعْلَمُ بِالرَّائِحَةِ أَنَّهَا خمر جاز أن تستدرك بالرائحة بعد شربها.
ودليلنا قول الله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 34] وَلَيْسَ لَهُ بِالرَّائِحَةِ عِلْمٌ مُتَحَقِّقٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ.
وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أن يكون قد تَمَضْمَضَ بِالْخَمْرِ ثُمَّ مَجَّهَا، وَلَمْ يَشْرَبْهَا فَلَمْ تدرك رَائِحَتُهَا مِنْ فَمِهِ عَلَى شُرْبِهَا، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا، وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ مُشْتَرَكَةٌ، يجوز أن يوجد مِثْلُهَا فِي أَكْلِ النَّبْقِ، وَبَعْضِ الْفَوَاكِهِ. فَلَمْ يُقْطَعْ بِهِ عَلَيْهَا. وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ قَدْ تُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ كَشَرَابِ التُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ وَرُبُوبِ الْفَوَاكِهِ.
فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يقطع بالرائحة عليها إذا شُوهِدَتْ. لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ جِسْمِهَا يَنْفِي عَنْهَا ظُنُونَ الِاشْتِبَاهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ.
فَأَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزٍ، فَلِأَنَّهُ رَآهُ ثَائِرَ الشَّعْرِ، مُتَغَيِّرَ اللون، مقراً بالزنا. فاشتبهت عليه حالته فِي ثَبَاتِ عَقْلِهِ أَوْ زَوَالِهِ، فَأَرَادَ اخْتِبَارَ حَالِهِ بِاسْتِنْكَاهِهِ، وَلَمْ يُعَلِّقْ بِالِاسْتِنْكَاهِ حُكْمًا، وَأَمَّا عمر رضي الله عنه: فَإِنَّهُ سَأَلَ ابْنَهُ حِينَ شَمِّ مِنْهُ الرَّائِحَةَ، فاعترف بشرب الطلا، فحده باعترافه.
وأما عثمان: فلأنه لَمَّا اقْتَرَنَ بِشَهَادَةِ الْقَيْءِ شَهَادَةُ الشُّرْبِ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا.

(13/409)


(فَصْلٌ)
وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ سُكْرِهِ فَيَعْتَرِفَ بِشُرْبِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحُدُّهُ بِالسُّكْرِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ مُخْتَارًا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا.
وَالثَّانِي: غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ. وهو أن يشربها غير عالم بها، أو مكرهاً عليها، فَكَانَ إِدْرَاءُ الْحَدِّ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِهِ بِهَا.
لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ادرؤوا الحدود بالشبهة) والله أعلم.

(13/410)


(بَابُ عَدَدِ حَدِّ الْخَمْرِ)
(وَمَنْ يَمُوتُ مِنْ ضرب الإمام وخطأ السلطان)

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ قَالَ أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَارِبٍ فَقَالَ " اضْرِبُوهُ) فَضَرَبُوهُ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثياب وحثوا عليه التراب ثم قال " نكبوه) فنكبوه ثُمَّ أَرْسَلَهُ قَالَ فَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الضَّرْبَ فَقَوَّمَهُ أَرْبَعِينَ فَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ حَيَاتَهُ ثم عمر ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْخَمْرِ فَاسْتَشَارَ فَضَرَبَ ثمانين وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ استشار فقال علي نرى أن يجلد ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وإذا هذي افترى أو كما قال فجلده عمر ثمانين في الخمر وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ليس أحد نقيم عليه حدا فيموت فأجد في نفسي شيئاً الحق قتله إلا حد الخمر فإنه شيء رأيناه بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمن مات منه فديته إما قال في بيت المال وإما قال على عاقلة الإمام " الشك من الشافعي)) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْحَدِّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَشُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ. سَكِرَ الشَّارِبُ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ.
فَأَمَّا صِفَةُ الْحَدِّ فَأَصْلُهُ: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ: عِنْ عَبْدِ الرحمن بن أزهر قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سأل عَنْ رَحْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَجَرَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَسْأَلُ عَنْ رَحْلِ خَالِدٍ حَتَّى أَتَاهُ، وقد خرج فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَارِبٍ فَقَالَ: " اضْرِبُوهُ) فَضَرَبُوهُ بِالْأَيْدِي، وَالنِّعَالِ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ وَحَثَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نكبوه فنكبوه ثُمَّ أَرْسَلَهُ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الضَّرْبَ فَقَوَّمَهُ أَرْبَعِينَ.
فَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ حَيَاتَهُ، ثم عمر رضي الله عنه ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْخَمْرِ فَاسْتَشَارَ فَضَرَبَ ثمانين، وروي أن عمر لما اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ

(13/411)


فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ
الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَخَذَ بِهَا عُمَرُ، وَجَلَدَ فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِهِ ثمانين. وجلد عثمان في أيامه أربعين وثمانين. وجلد عثمان ثمانين، فروى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ حَدًّا عَلَى إِنْسَانٍ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ فَأَجِدَ فِي نفسي منه شيئاً، إلا الخمر، فإني كانت أَدِيهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه فكان عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ حَدَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ. وَأَوَّلُ مَنْ حَدَّهُ عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ ثُمَّ حَدَّ عُمَرُ بَعْدَهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ. وَحَدَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْوَلِيدَ بْنَ عقبة في الخمر، وقد صلى بالناس بالكوفة، فَقَالَ: أَزِيدُكُمْ فَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ حَدِّهِ، فَرَوَى عَنْهُ قَوْمٌ أَنَّهُ حَدَّهُ أَرْبَعِينَ.
وَرَوَى آخَرُونَ: أَنَّهُ حَدَّهُ ثَمَانِينَ. وَحَدَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب النجاشي الحادي بالكوفة، وقد شرب الخمر في رَمَضَانَ فَحَدَّهُ ثَمَانِينَ ثُمَّ عِشْرِينَ فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: أما الثمانون قد عرفتها فما هذه العلاوة؟ فقال: على تجرئك عَلَى اللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ حَدِّهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَربَعُونَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهَا وَمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى الثَّمَانِينَ تَعْزِيرٌ، يَقِفُ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وسفيان الثوري: حد الخمر ثمانون كالقذف، ولا يجوز الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سعيد عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ الْأَرْبَعِينَ. وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ. فَأَخَذَ بِهَا عُمَرُ. فصار اجتهاد الصحابة موافقاً لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ بِالْجَرِيدَتَيْنِ ثَمَانُونَ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلد في الخمر بنعلين أربعين فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ جَلَدَ بَدَلَ كُلِّ نَعْلٍ سَوْطًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابَةِ كَانَ فِي صِفَةِ الْحَدِّ لَا فِي عَدَدِهِ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَدَ شَارِبَ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَهَذَا نَصٌّ.

(13/412)


ومن الاعتبار أنه حد يجب على الحر، فلم يتقدر بالأربعين كالقذف ولأن حَدَّ الْقَذْفِ أَخَفُّ، وَحَدَّ الشُّرْبِ أَغْلَظُ لِمَا في النفوس من الداعي إِلَيْهِ، وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ، فَكَانَ إِنْ لَمْ يزد عليه فأولى أن لا ينقص عنه، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ لَوْ كَانَتْ تَعْزِيرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، لَأَنَّ التَّعْزِيرَ لا يجوز أن يكون مساوياً للحد.
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ مَا رَوَاهُ حُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو سَاسَانَ الرَّقَاشِيُّ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَقَدْ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ. شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَقَيَّأَهَا فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا تَقَيَّأَهَا حَتَّى شَرِبَهَا فَقَالَ لَعَلِيٍّ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ.
فقال علي للحسن: أقم عليه فقال الحسن: ولي حارها من تولى قارها أي: ولي صَعْبَهَا مَنْ تَوَلَّى سَهْلَهَا.
فَقَالَ عَلِيٌّ لِعَبْدِ الله بن جعفر: أقم عليه الحد فجلده عَبْدُ اللَّهِ بِالسَّوْطِ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ قَالَ: حَسْبُكَ جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ عُمَرُ ثمانين: وكل سنة أَحَبُّ إِلَيَّ وَهَذَا نَصٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ.
وَالثَّانِي: إِخْبَارُهُ بِأَنَّ كِلَا الْعَدَدَيْنِ سُنَّةٌ يُعْمَلُ بِهَا وَيَصِحُّ التَّخْيِيرُ فِيهَا.
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِعَدَدٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ، كالزنا والقذف.
فإن قيل: فوجب ألا يُقَدَّرَ بِأَرْبَعِينَ كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ، قِيلَ: الْحُدُودُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمِقْدَارِ، لِاخْتِلَافِهَا فِي الْأَسْبَابِ، فَجَازَ لَنَا اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي التَّفَاضُلِ، ولم يجز اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي التَّمَاثُلِ.
وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأجْرَامِ، فَمَا كَانَ جُرْمُهُ أغلظ كان حده أكثر.
ولأن الزِّنَا لَمَّا غَلُظَ جُرْمُهُ لِلِاشْتِرَاكِ فِيهِ غَلُظَ حده.
والقذف لما اختص كان حده اكثر بِالتَّعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ كَانَ أَخَفَّ مِنَ الزِّنَا.
وَالْخَمْرُ لَمَّا اخْتَصَّ بِوَاحِدٍ لَمْ يَتَعَدَّ عَنْهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ مِنَ الْقَذْفِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ فَمِنْ وجهين:

(13/413)


أَحَدُهُمَا: اضْطِرَابُ الْحَدِيثَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ نَصٌّ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ الصَّحَابَةُ، ولعملوا فيه على الثقل.
والثاني: تحمل الرواية بجريدتين، والنعلين عَلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَقَطَّعَتْ فَأَخَذَ الثَّانِيَةَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَهُوَ مُرْسَلٌ، لَا يَلْزَمُ وَفِيهِ نَصٌّ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ لِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، فَصَارَ الْإِجْمَاعُ مَانِعًا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَضْعَفُ فَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَغْلَظُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَذْفَ مُتَعَدٍّ وَالشُّرْبَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَحَدَّ الشُّرْبِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا تَعَلَّقَ بِالْعِبَادِ أَغْلَظُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ تَعْزِيرًا ما جاز أن يساوي حَدًّا فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُبْلَغُ بالتعزير إِذَا كَانَ سَبَبُهُ وَاحِدًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الأسباب مختلفة جاز؛ لأن لكل حُكْمًا وَتَعْزِيرُهُ فِي الْخَمْرِ لِأَسْبَابٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افترى.
والثاني: أن هذا تعزير، بعقد إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ، فَصَارَ مَخْصُوصًا من غَيْرِهِ.
ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَلَسْتَ تَقُولُ: إِنَّ أَكْثَرَ التَّعْزِيرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَلَا يَجُوزُ إن يبلغ به الأربعين؛ لأنه لا يساوي أقل الحدود؟ فلذلك وجب أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعُونَ حَدًّا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ ما وصفنا، من أن الثمانين في الخمر حَدٌّ وَتَعْزِيرٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّمَانِينَ. ويجوز أن يقتصر على الأربعين. وهو بما زَادَ عَلَيْهَا إِلَى الثَّمَانِينَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الإمام. فإن رآه عمل به وَإِنْ لَمْ يَرَهُ كَفَّ عَنْهُ.
فَأَمَّا صِفَةُ حَدِّهِ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَدَّهُ بِالثِّيَابِ، وَالنِّعَالِ، وَأَمَرَ بِتَبْكِيتِهِ

(13/414)


وَحَثْوِ التُّرَابِ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُمْ حَدُّوهُ بِالسِّيَاطِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالثياب والنعال هل كان بعذر أو شرع؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ كَانَ لعذر في الشارب مِنْ مَرَضٍ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ نِضْوًا، كَمَا حَدَّ مُقْعَدًا بَأَثْكَالِ النَّخْلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حد الصحابة بالسياط نصاً في غير المعذور لأنه جنس ما يستوفى بِهِ الْحُدُودُ. فَيُحَدُّ بِالسِّيَاطِ، وَيَكُونُ حَدُّ الْخَمْرِ مُخَفَّفًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ مِقْدَارُ الْعَدَدِ دُونَ صِفَةِ الْحَدِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ حَدَّهُ بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ كَانَ شَرْعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَفَّفَ بِهِ حَدَّ الْخَمْرِ كَمَا خَفَّفَهُ فِي الْعَدَدِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عُدُولُ الصَّحَابَةِ عَنْهُ إِلَى السِّيَاطِ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُمْ فِيهِ حِينَ تهافتوا فِي الْخَمْرِ، وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ، كَمَا اجْتَهَدُوا فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ إِلَى الثَّمَانِينَ. وَيَكُونُ حَدُّ الْخَمْرِ مُخَفَّفًا مِنْ وَجْهَيْنِ:
فِي مِقْدَارِ الْعَدَدِ، وَصِفَةِ الْحَدِّ، وَيَكُونُ الْعُدُولُ إِلَى السِّيَاطِ اجْتِهَادًا. كَمَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ إِلَى الثَّمَانِينَ اجْتِهَادًا. فَأَمَّا التَّبْكِيتُ وَحَثْوُ التُّرَابِ، فَزِيَادَةٌ فِي التَّعْزِيرِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَدِّ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي: " وَإِذَا ضَرَبَ الْإِمَامُ فِي خَمْرٍ أَوْ مَا يسكر من شراب بِنَعْلَيْنِ أَوْ طَرَفِ ثَوْبٍ أَوْ رِدَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ ضَرْبًا يُحِيطُ الْعِلْمُ أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ أَرْبَعِينَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالْحَقُّ قَتَلَهُ) .
قال الماوردي: إِذَا جَلَدَ الْإِمَامُ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ اقْتِصَارًا على الحدود دُونَ التَّعْزِيرِ فَمَاتَ الْمَحْدُودُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ضَرْبُهُ بِالنِّعَالِ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ فِي مَوْتِهِ. لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِجَلْدِ ابْنِهِ فِي الشَّرَابِ قال له ابنه: با أَبَتِي قَتَلْتَنِي. فَقَالَ لَهُ: الْحَقُّ قَتَلَكَ. وَمَعْلُومٌ أن قتل الْحَقِّ غَيْرُ مَضْمُونٍ.
وَلِأَنَّ حُدُوثَ التَّلَفِ عَنِ الحدود الواجبة هدر لا تضمن كَجَلْدِ الزَّانِي، وَحَدِّ الْقَاذِفِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحُدَّهُ الْأَرْبَعِينَ بِالسِّيَاطِ فَيَمُوتُ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي حَدِّهِ بِالنِّعَالِ وَالثِّيَابِ، (قيل) هل كان لعذر أو شرع؟ :

(13/415)


أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، وَتَكُونُ نَفْسُهُ هَدْرًا إِذَا قيل: إن حده بالثياب كان شرعا، وإن السياط فيه اجْتِهَادٌ، فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ دِيَتِهِ، وَلَا يَضْمَنُ بَعْضَهَا؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ جِنْسِ الْحَدِّ إِلَى غَيْرِهِ يَجْعَلُ الْكُلَّ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ لِتَلَفِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمَحْظُورٍ.

(مسألة)
قال الشافعي: وإن ضرب أكثر من أربعين بالنعال وغير ذَلِكَ فَمَاتَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ دُونَ بيت المال لأن عمر أرسل إلى امرأة ففزعت فأجهضت ذا بطنها فاستشار عليا فأشار عليه أن يديه فأمر عمر علياً فقال عمر عزمت عليك لتقسمنها على قومك (قال المزني) رحمه الله هذا غلط في قوله إذا ضرب أكثر من أربعين فمات فلم يَمُتْ مِنَ الزِّيَادَةِ وَحْدَهَا وَإِنَّمَا مَاتَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا فَكَيْفَ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْإِمَامِ كلها وإنما مات المضروب من مباح وغير مباح ألا ترى أن الشافعي يقول لو ضرب الإمام رجلا في القذف إحدى وثمانين فمات أن فيها قولين أحدهما أن عليه نصف الدية والآخر أن عليه جزءاً من أحد وثمانين جزءاً من الدية (قال المزني) ألا ترى أنه يقول لو جرح رجلاً جرحاً فخاطه المجروح فمات فإن كان خاطه في لحم حي فعلى الجارح نصف الدية لأنه مات من جرحه والجرح الذي أحدثه في نفسه فكل هذا يدلك إذا مات المضروب من أكثر من أربعين فمات أنه بهما مات فلا تكون الدية كلها على الإمام لأنه لم يقتله بالزيادة وحدها حتى كان معها مباح ألا ترى أنه يقول فيمن جرح مرتداً ثم اسلم ثم جرح جرحاً آخر فمات أن عليه نصف الدية لأنه مات من مباح وغير مباح (قال المزني) رحمه الله وكذلك إن مات المضروب بأكثر من أربعين من مباح وغير مباح) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ، فَمَاتَ الْمَحْدُودُ لم تخل حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَكْمِلَ فِيهِ الْحَدَّ وَالتَّعْزِيرَ فَيَجْلِدُهُ ثَمَانِينَ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا فَيَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مات من حد واجب وتعزير مباح يسقط مِنْ دِيَتِهِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَدِّ الواجب. ولزم من ديته النصف؛ لأنه من مُقَابَلَةِ التَّعْزِيرِ الْمُبَاحِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ضَمِنَ مَا قَابَلَ التَّعْزِيرَ مَعَ إِبَاحَتِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْمُبَاحَ مِنْهُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى التَّلَفِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَيْهِ صَارَ غَيْرَ مُبَاحٍ، فَضَرْبُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ مُبَاحٌ لَهُ مَا لَمْ يُفْضِ

(13/416)


الضَّرْبُ إِلَى تَلَفِهَا. فَإِنْ أَتْلَفَهَا ضَمِنَهَا، كَذَلِكَ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْحَدَّ وَبَعْضَ التَّعْزِيرِ، فَيَجْلِدُهُ فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ وَدُونَ الثَّمَانِينَ، فإن جَلَدَهُ خَمْسِينَ فَمَاتَ. فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ دِيَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ اعتباراً بالنوع لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِرَاحِ. فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا جُرْحًا وَجَرَحَهُ الآخر عشراً كان في الدية سواء، ولا يقسط على أعداد الْجِرَاحِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْجُنَاةِ كَذَلِكَ فِي الضَّرْبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ خُمْسَ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الضَّرْبِ، لِتَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِعَشَرَةٍ مِنْ خَمْسِينَ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدَدِ تَأْثِيرًا فِي تَلَفِهِ، والضرب متشابه فسقطت الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَقَسَّطْ عَلَى عَدَدِ الجراح؛ لأن للجراح موراً في اللحم يختلف ولا يتشابه، ولذلك ما جَازَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ جِرَاحِة وَيَعِيشَ مِنْ عشرة وليس للضرب موراً في اللحم فصار متشابها، وامتنع أن يموت من سوط ويعيش من عشرة فافترق لذلك ضمان الضرب وضمان الجراح. فَعَلَى هَذَا لَوْ ضَرَبَهُ سِتِّينَ فَمَاتَ ضَمِنَ نِصْفَ دِيَتِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا قِيلَ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ، وَضَمِنَ ثُلُثَ دِيَتِهِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي إِذَا قِيلَ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ، وَعَلَى هَذَا القياس في السبعين إذا مات الثمانين ضَمِنَ نِصْفِ دِيَتِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَثَلَاثَةَ أسباعها على القول الثاني. أما إِذَا مَاتَ مِنَ الثَّمَانِينَ فَيَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ قَدْ تَسَاوَى فِيهِ ضمان النوع وضمان العدد.
القسم الثالث: أن يزيد في جلده، على الاستكمال للحد وَالتَّعْزِيرِ، فَيَجْلِدُهُ تِسْعِينَ فَيَمُوتُ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ دِيَتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ النَّوْعِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ وَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ ما أبيح من ضَرْبِ التَّعْزِيرِ، وَمَا لَمْ يبح مِنَ الزِّيَادَةِ عليه.
القول الثَّانِي: أنَّهُ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَتْسَاعِ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بعدد الضرب، ثم على هذا المصير فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَلَا يَضْمَنُ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ دِيَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ، تَوَهَّمَ أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ الدِّيَةِ فَقَالَ: لَمْ يَمُتْ مِنَ الزِّيَادَةِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا مَاتَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا، فَكَيْفَ تَكُونُ الدِّيَةُ على الإمام كلها.

(فصل)
وَهَذَا مِنَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ فِي الْحُكْمِ وَخَطَأٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي التَّأْوِيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ جميع الدية إنما أراد القدر الذي يوفي وَأَطْلَقَهُ اكْتِفَاءً بِمَا أَوْضَحَهُ مِنْ مَذْهَبِهِ

(13/417)


وَقَدَّمَهُ مِنْ أُصُولِهِ وَقَالَ: أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ أَرَادَ جَمِيعَ الدِّيَةِ إِذَا عَدَلَ عَنْ ضَرْبِهِ بِالثِّيَابِ إِلَى السِّيَاطِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَدْرِ الْمَضْمُونِ مِنَ الدِّيَةِ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهَا من ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ أَمَرَ بِهَا فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ، وأين يكون ضمانه؟ على قولين: أحدهما: يكون ضمانه على عاقلته؛ لأنه من خطئه قد أمر عمر علياً رضي الله عنهما في التي أجهضت بإرهابها جنينها أن يقسم دِيَةَ جَنِينِهَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ لِأَنَّهُمْ عَاقِلَةُ عُمَرَ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْكَفَّارَةَ وَإِنْ حملت الدية.
القول الثَّانِي: أَنَّ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ، كَالْوَكِيلِ الَّذِي يُضْمَنُ مَا فَعَلَهُ عَنْ مُوَكِّلِهِ فِي مَالِ مُوَكِّلِهِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ عُمَرُ جَنِينَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَرْهَبَهَا فِي تُهْمَةٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ، فَعَدَلَ بِالضَّمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى عَاقِلَتِهِ فَعَلَى هَذَا فِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي بَيْتِ المال، تعليلا بما ذكرنا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تحتمل، وَكَذَلِكَ إِذَا تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ الدِّيَةَ لَمْ تَتَحَمَّلِ الْكَفَّارَةَ وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي ضَمَانِ الْإِمَامِ وَجْهًا ثَالِثًا: أنه يضمن فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمَضْمُونِ، كَتَعْزِيرِ مَنْ عَزَّرَ نَفْسَهُ أَوْ قَدَحَ فِي عِرْضِهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْ فِعْلِ الْجَلَّادِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ فَوَّضَهُ إِلَى رَأْيِهِ، وَوَكَّلَهُ إِلَى اجْتِهَادِهِ، فَيَكُونُ خَطَؤُهُ فِيهِ كَخَطَأِ الْإِمَامِ، فَيَكُونُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّفْوِيضِ فِي حُكْمِ الْإِمَامِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون الإمام قد أمره بالحد وحدده، فَزَادَ الْجَلَّادُ عَلَيْهِ،

(13/418)


فَيَضْمَنُهُ الْجَلَّادُ عَلَى عَاقِلَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِحُدُوثِهَا عَنْ تَعَدِّيهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مشتركة بين الإمام والجلاد، كأن أمره بأن يَحُدَّهُ ثَمَانِينَ فَحَدَّهُ مِائَةً فَمَاتَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الضَّمَانَ مُقَسَّطٌ عَلَى أَعْدَادِ الضَّرْبِ ضَمِنَ الإمام خمس الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِمَامِ تَعَلَّقَ بِأَرْبَعِينَ مِنْ جُمْلَةِ مِائَةٍ وَضَمِنَ الْجَلَّادُ خُمُسَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ضمانه بعشرين من مائة، فإن قِيلَ: إِنَّ الضَّمَانَ مُقَسَّطٌ عَلَى النَّوْعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي زِيَادَةِ الْإِمَامِ وَالْجَلَّادِ هَلْ تَتَنَوَّعُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَتَنَوَّعُ، فَيَكُونُ الْحَدُّ نَوْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ، وَزِيَادَةُ الْإِمَامِ نَوْعًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ، وَزِيَادَةُ الجلاد نوعاً يتعلق به الضمان، فتسقط ثُلُثَ الدِّيَةِ وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ثُلُثُهَا، وَعَلَى الْجَلَّادِ ثُلُثُهَا لِاخْتِلَافِ الْإِمَامِ وَالْجَلَّادِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا تتنوع الزيادة، وإن اختلف فاعلها لِتَسَاوِيهَا فِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهَا فَتُسْقِطُ نِصْفُ الدية ويضمن الإمام ربعها، والجلاد ربعها والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ ضَرَبَ امْرَأَةً حَدًّا فَأُجْهِضَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَضَمِنَ مَا فِي بَطْنِهَا لِأَنَّهُ قَتَلَهُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَيَسْكُنَ أَلَمُ نِفَاسِهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ، حِينَ أَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، وَكَانَتْ حَامِلًا " اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَكِ) ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا حَدَّهَا فِي حَالِ الْحَمْلِ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهَا وَإِجْهَاضِ حَمْلِهَا، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَحْظُورٌ.
وَالْإِجْهَاضُ أَنْ تلقى جنينها مَيْتًا. فَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا لَمْ يُسَمَّ إِجْهَاضًا فَإِنْ حَدَّهَا فِي حَمْلِهَا فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أحدها: أَنْ تَبْقَى عَلَى حَالِ السَّلَامَةِ فِي نَفْسِهَا وَحَمْلِهَا. فَلَا شَيْءَ عَلَى الْإِمَامِ فِي حَدِّهَا وهو مسيء إن علم بحملها وغيره مسيئ إن لم يعلم.
والحال الثانية: أن يجهض مَا فِي بَطْنِهَا وَتَسْلَمَ مِنَ التَّلَفِ، فَيَضْمَنُ جنينها بغرة عبداً أَوْ أَمَةٍ لِأَنَّ عُمَرَ ضَمِنَ جَنِينَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْهَبَهَا فَإِنْ عَلِمَ بِحَمْلِهَا ضَمِنَ جَنِينَهَا فِي مَالِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ عَمْدِهِ وَإِنْ لَمْ يعمل بِحَمْلِهَا فَهُوَ مِنْ خَطَئِهِ وَفِي دِيَةِ جَنِينِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ إِجْهَاضٍ فَيُنْظَرُ فِي سَبَبِ مَوْتِهَا، فَإِنْ كَانَ من إقامة الحد عليها لَوْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا لَمْ يَضْمَنْهَا. وَإِنْ كان من الحمل الذي يتلف به

(13/419)


الحدود ضَمِنَ دِيَتَهَا كَمَا يَضْمَنُهَا إِذَا جَلَدَهَا فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ. ثُمَّ إِنْ عَلِمَ بِحَمْلِهَا فَدِيَتُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي بيت المال.
والحال الرابعة: أن يجهض جنينها وتموت، فيضمن دية جنينها. فأما دية نفسها فمعتبر بسبب موتها فإنه لا يخلو من ثلاث أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْحَدِّ، فَلَا يَضْمَنُ دِيَتَهَا؛ لِحُدُوثِ تَلَفِهَا عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهَا.
الحال الثانية: أن يكون مِنْ إِجْهَاضِهَا فَيَضْمَنُ دِيَتَهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عُدْوَانٍ عليها.
الحال الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهَا مِنَ الْحَدِّ وَالْإِجْهَاضِ مَعًا، فَيَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهَا لِحُدُوثِ التَّلَفِ عَنْ سَبَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ وَالْآخَرُ: عُدْوَانٌ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا ذُكِرَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ الْإِمَامِ بِسُوءٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فأرهبها، فأجهضت ذا بطنها فمن دِيَةِ جَنِينِهَا، وَلَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَضْمَنْهَا. لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُؤَثِّرٌ فِي إِجْهَاضِهَا، وَغَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي تَلَفِهَا وَلَوْ أَرْهَبَهَا الرَّسُولُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ كَانَ الرَّسُولُ ضَامِنًا دُونَ الْإِمَامِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَلَوْ حَدَّهُ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ غَيْرِ عَدْلَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمَا فَمَاتَ ضَمِنَتْهُ عَاقِلَتُهُ لِأَنَّ كُلَّ هَذَا خَطَأٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ عَلَى الجاني شَيْءٌ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَقَامَ الْإِمَامُ حَدًّا بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ، أَوْ فَاسِقَيْنِ، أَوْ كَافِرَيْنِ فَمَاتَ الْمَحْدُودُ ضَمِنَ الْإِمَامُ دِيَتَهُ دُونَ الشُّهُودِ وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِزُورٍ ضَمِنَ الشَّاهِدَانِ دِيَتَهُ دُونَ الْإِمَامِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَشْفَ الْعَدَالَةِ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الشُّهُودِ فَصَارَ الْإِمَامُ ضَامِنًا لِتَقْصِيرِهِ. وَالصِّدْقُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشُّهُودِ، دُونَ الْإِمَامِ فَضَمِنَ الشُّهُودَ لِكَذِبِهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ لَيْسَ بِمُعْتَرِفٍ بِالتَّعَدِّي فَلَمْ يَضْمَنْ، وَشَاهِدَ الزُّورِ مُعْتَرِفٌ بِالتَّعَدِّي فضمن. فأما الجالد فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِرِقِّ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ فِسْقِهِمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بحكم الإمام. والإمام آمره.
(مسألة)
قال الشافعي: " ولو قال الإمام للجالد إنما أضرب هذا ظلما ضمن الجالد والإمام مَعًا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدِ اسْتُوفِيَتْ في كتاب الجنايات. فإذا أمر الإمام

(13/420)


بِضَرْبِ رَجُلٍ أَوْ بِقَتْلِهِ ظُلْمًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أقسام:
أحدها: ألا يعلم الجلاد بظلم الإمام، أو يعتقد فِيهِ أَنَّهُ بِحَقٍّ، لِأَنَّ الْإِمَامَ الْعَادِلَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا بِحَقٍّ. فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِلطَّاعَةِ، فَقَامَ أَمْرُهُ مَقَامَ فِعْلِهِ لِنُفُوذِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ الْجَلَّادُ بِظُلْمِ الْإِمَامِ. إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ له الإمام أن اضرب هذا ظلماً بغير حد أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ، وَلَا يكون من الإمام إكراه للجلاد، فالضمان هنا عَلَى الْجَلَّادِ دُونَ الْإِمَامِ فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، لأنه مختار.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ الْجَلَّادُ بِظُلْمِ الْإِمَامِ، والإمام مكره له عليه، فلا قود على الإمام إلا من وَاجِبٌ وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْجَلَّادِ الْمُبَاشِرِ قَوْلَانِ: فَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ وجب كان عليه مع سقوط القود عنهما.
وإن قيل لَوْ وَجَبَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ. فَفِي الدِّيَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى الْإِمَامِ وَحْدَهُ، اعتباراً بالقود.
والوجه الثاني: أنها عليهما نصفين، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنِ الْجَلَّادِ بِأَيِّ عِلَّةٍ سَقَطَ. فَعَلَى تعليل البغداديين أن سقوط القود لشبهة الْإِكْرَاهِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَعَلَى تَعْلِيلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ نَقْلُ حُكْمِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُكْرَهِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ كُلُّهَا عَلَى الْإِمَامِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " ولو قال الجالد قد ضَرَبْتُهُ وَأَنَا أَرَى الْإِمَامَ مُخْطِئًا وَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ رَأْيُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ ضَمِنَ إِلَّا مَا غاب عَنْهُ بِسَبَبِ ضَرْبِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَمَرَ الْجَلَّادَ بِقَتْلٍ أَوْ جَلْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وحد الزنا بشهادة الراويان وَحَدِّ الْقَذْفِ فِي التَّعْرِيضِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فيه من أربعة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِمَامُ وَالْجَلَّادُ وُجُوبَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوَدًا وَلَا دِيَةً، وَلَا تكون مخالفة غيرها مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَاهُ غَيْرَ وَاجِبٍ، فَالضَّمَانُ فِيهِ وَاجِبٌ ولا تكون مخالفة غيرها مُسْقِطَةٌ لِلضَّمَانِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى قَتْلٍ يَعْتَقِدُ حَظْرَهُ، لِأَنَّ غَيْرَهُ أَبَاحَهُ وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فَإِنْ كَانَ الْجَلَّادُ غَيْرَ مُكْرَهٍ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ دُونَ الْإِمَامِ. وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ لَمْ يَخْلُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ أَوْ لَا نَصَّ فِيهِ فَإِنْ لم يكن

(13/421)


فيه نص كحد الزنا بشهادة الراويان وَحَدِّ الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ فَالضَّمَانُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّ الْقَوَدَ فِيهِ وَاجِبٌ لِأَجْلِ النَّصِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ فِيهِ؛ لِشُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِمَامُ وُجُوبَهُ وَيَعْتَقِدَ الْجَلَّادُ حَظْرَهُ فَإِنْ أُكْرِهَ الْجَلَّادُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ لِاجْتِهَادِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَلَّادِ لِإِكْرَاهِهِ، وَإِنْ لَمْ يُكْرَهِ الْجَلَّادُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الإمام، وفي ضمانه عَلَى الْجَلَّادِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنَفِّذٌ لِحُكْمٍ نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِإِقْدَامِهِ مُخْتَارًا عَلَى اسْتِهْلَاكِ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ ضَمَانِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِمَامُ حَظْرَهُ وَيَعْتَقِدَ الْجَلَّادُ وُجُوبَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرُدَّهُ الْإِمَامُ إِلَى اجْتِهَادِ الْجَلَّادِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا الْإِمَامُ فَلِعَدَمِ فِعْلِهِ وَأَمَّا الْجَلَّادُ: فَلِنُفُوذِ اجْتِهَادِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ بِهِ، وَلَا يَرُدَّهُ إِلَى اجْتِهَادِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَلَّادِ، سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ غَيْرَ مُكْرَهٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ بِإِذْنٍ مُطَاعٍ مَا يَرَاهُ مُسَوَّغًا فِي الِاجْتِهَادِ. فَأَمَّا الْإِمَامُ فَإِنْ لَمْ يُكْرِهِ الْجَلَّادَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ ضَمِنَ. لِأَنَّهُ اتجاه إِلَى مَا لَا يُسَوَّغُ فِي اجْتِهَادِهِ. وَاللَّهُ أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: وَلَوْ قَالَ اضْرِبْهُ ثَمَانِينَ فَزَادَ سَوْطًا فَمَاتَ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أن عليهما نصفين كَمَا لَوْ جَنَى رَجُلَانِ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بِضَرْبَه وَالْآخَرُ بِثَمَانِينَ ضَمِنَا الدِّيَةَ نِصْفَيْنِ أَوْ سَهْمًا مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي نَظَائِرِهَا وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ ثَمَانُونَ فيضربه الجلاد أحداً وَثَمَانِينَ فَيَمُوتُ فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مات من نوعي إِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ، وَقَدْ شَبَّهَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْجِنَايَاتِ.
وَالْقَوْلُ الثاني: أن يَضْمَنَ جُزْءًا مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ

(13/422)


الضَّرْبِ وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ لَمْ يخل حالها من ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أَنْ يَكُونَ عَنْ أَمْرِ الْإِمَامِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْجَلَّادِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ الْجَلَّادِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دون الإمام.
والقسم الثالث: أن يضرب الجلاد وَالْإِمَامُ يَعُدُّ فَأَخْطَأَ الْإِمَامُ فِي عَدَدِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَنْسُوبَةٌ إلى العدد، فصار الضَّمَانُ عَلَى الْعَادِّ دُونَ الْجَلَّادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَإِذَا خَافَ رَجُلٌ نُشُوزَ امْرَأَتِهِ فَضَرَبَهَا فَمَاتَتْ فَالْعَقْلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِبَاحَةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إِذَا خَافَ نُشُوزَ امْرَأَتِهِ أَنْ يَضْرِبَهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المضاجع واضربوهن} .
وَهَذَا الضَّرْبُ مُبَاحٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ. وَالِاسْتِصْلَاحِ. لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ، وَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ أَدْنَى الْحَدِّ، فَصَارَ أَكْثَرُهُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ كَالتَّعْزِيرِ. فَأَمَّا جِنْسُ مَا يُضْرَبُ بِهِ فَهُوَ الثَّوْبُ وَالنَّعْلُ، وَأَكْثَرُهُ الْعَصَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالسَّوْطِ؛ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ وَلِنَقْصِهِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُدُودِ. فَإِنْ ضَرْبَهَا فَأَفْضَى الضَّرْبُ إِلَى تَلَفِهَا. . رُوعِيَ الضَّرْبُ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْعُرْفِ مُتْلِفًا مِثْلُهُ فِي الْغَالِبِ، فَالْقَوَدُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الْعُرْفِ غَيْرَ مُتْلِفٍ فِي الْغَالِبِ، كَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، تتحملها عنه الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ أُبِيحَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِصْلَاحِ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ به مضموناً، كما ضمن عمر جنين المجهضة؛ لأن الاستصلاح يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ النَّفْسِ، فَإِذَا صَارَ مُتْلِفًا لم يكن استصلاحاً.
فإن قيل: فيقتصر عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ شِقَّ بَابٍ، فَقَلَعَ عَيْنَهُ أَنْ يَضْمَنَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ الرَّمْيَ اسْتِصْلَاحًا قِيلَ لَا يَضْمَنُ عَيْنَهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الرَّمْيِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْعَيْنِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا وَلَيْسَ كَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْبَدَنِ.
فَإِنْ قِيلَ: عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَنْ دَفَعَ رَجُلًا عَنْ نَفْسِهِ بِضَرْبٍ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ أَنْ يَكُونَ ضامناً لنفسه لأن ضربه يَتَعَيَّنُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ، قِيلَ: لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ مُبَاحٌ لَهُ إِذَا كَانَ لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ، فَلَمْ يَكُنْ كَغَيْرِهِ مِنْ ضَرْبِ التَّأْدِيبِ الْمَقْصُورِ عَلَى الِاسْتِصْلَاحِ، وهكذا ضرب المعلم والأب للصبي؛ لأن

(13/423)


الْمَقْصُودَ بِهِ الِاسْتِصْلَاحُ وَالتَّأْدِيبُ فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ كَانَ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَقْتَضِي عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ الضارب إِذَا أَفْضَى إِلَى تَلَفِ الدَّابَّةِ أَنْ يَضْمَنَهَا قِيلَ لَا يَضْمَنُهَا لِأَنَّهُ لَا يسْتَغْني عَنْ ضَرْبِهَا بِغَيْرِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ زَجْرٍ وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ ضَرْبِ الصَّبِيِّ بِالْقَوْلِ وَالزَّجْرِ، فَتَعَيَّنَ ضَرْبُ الدَّابَّةِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ضَرْبُ الصبي فضمنه.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ عَزَّرَ الْإِمَامُ رَجُلًا فَمَاتَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التعزير فتأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، وَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي صِفَتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي حُكْمِهِ.
فَأَمَّا صِفَتُهُ: فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الذَّنْبِ وَاخْتِلَافِ فَاعِلِهِ فَيُوَافِقُ الْحُدُودَ فِي اخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الذُّنُوبِ. وَيُخَالِفُ الْحُدُودَ فِي الْفَاعِلِ فَيَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ تَعْزِيرُ ذِي الْهَيْئَةِ أَخَفَّ مِنْ تَعْزِيرِ ذِي السَّفَاهَةِ.
وَيَسْتَوِي فِي الْحُدُودِ ذُو الْهَيْئَةِ وَذُو السَّفَاهَةِ، لِأَنَّ الْحُدُودَ نُصُوصٌ فَاسْتَوَى الْكَافَّةُ فِيهَا. وَالتَّعْزِيرُ اجْتِهَادٌ فِي الِاسْتِصْلَاحِ، فَاخْتَلَفَ الناس فيه باختلاف أحوالهم.
رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّه قَالَ: " تَجَافَوْا لِذَوِي الْهَيْئَاتِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ)) .
وإذا كان كذلك نزل التَّعْزِيرُ بِاخْتِلَافِ الذُّنُوبِ وَاخْتِلَافِ فَاعِلِيهَا عَلَى أَرْبَعِ مراتب:
فالمرتبة الأولى: التعزير بالكلام.
والمرتبة الثانية: التعزير بالحبس.
والمرتبة الثالثة: التعزير بالنفي.
ثم المرتبة الرَّابِعَةُ: التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ، يَنْدَرِجُ ذَلِكَ فِي النَّاسِ حَسَبَ مَنَازِلِهِمْ. فَيَكُونُ تَعْزِيرُ مَنْ جَلَّ قَدْرُهُ بالإعراض عنه. وتعزير من دونه بالتعنيف له. وتعزير من

(13/424)


دُونَهُ بِزَوَاجِرِ الْكَلَامِ. وَغَايَتُهُ الِاسْتِخْفَافُ الَّذِي لَا قَذْفَ فِيهِ وَلَا سَبَّ. ثُمَّ يَعْدِلُ عَنْ ذلك إلى المرتبة الثانية، وهو الْحَبْسُ يُنْزَلُونَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَنَازِلِهِمْ، وَبِحَسَبِ ذُنُوبِهِمْ. فَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ أَكْثَرَ مِنْهُ إِلَى غَايَةٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ بقدر ما يؤدي الاجتهاد إليها، ويرى الْمَصْلَحَةَ فِيهَا.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَتَقَدَّرُ غَايَتُهُ بِشَهْرٍ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَشْفِ، وَبِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّقْوِيمِ. ثُمَّ يَعْدِلُ بمن دون ذَلِكَ إِلَى الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ النَّفْيُ وَالْإِبْعَادُ. وَهَذَا وَالْحَبْسُ فِيمَنْ تَعَدَّتْ ذُنُوبُهُ إِلَى اجْتِذَابِ غَيْرِهِ إِلَيْهَا وَاسْتِضْرَارِهِ بِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي غَايَةِ نَفْيِهِ وَإِبْعَادِهِ.
فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يُقَدَّرُ الْأَكْثَرُ بِمَا دُونَ السَّنَةِ وَلَوْ بِيَوْمٍ؛ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسَاوِيًا لِتَغْرِيبِ السَّنَةِ فِي الزِّنَا.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ على السنة، بما يرى أسباب الاستقامة ثم يعدل عن دُونِ ذَلِكَ إِلَى الضَّرْبِ يَنْزِلُونَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ ذُنُوبِهِمْ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَكْثَرِ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَكْثَرَهُ فِي الْحُرِّ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَفِي الْعَبْدِ تِسْعَةَ عشرة ينتقص لِيَنْقُصَ عَنْ أَقَلِّ الْحُدُودِ فِي الْخَمْرِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ فِي الْحُرِّ، وَعِشْرُونَ فِي الْعَبْدِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَكْثَرِ الْحُدُودِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: تَعْزِيرُ كُلِّ ذَنْبٍ مُسْتَنْبَطٌ من الْمَشْرُوعِ فِي جِنْسِهِ، فَأَعْلَاهُ فِيمَنْ تَعَرَّضَ لِشُرْبِ الْخَمْرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ، وأعلاه فيمن يعرض بِالزِّنَا خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ، ثُمَّ جَعَلَهُ مُعْتَبَرًا بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ فِي التَّعْرِيضِ بِالزِّنَا فَإِنْ وَجَدَهُ يَنَالُ مِنْهَا مَا دُونَ الفرج ضربه أكثر للتعزير وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا، وَإِنْ وُجِدَا عُرْيَانَيْنِ في إزار قد تضاما أنهما لا حَائِلَ بَيْنَهُمَا، ضُرِبَا سِتِّينَ سَوْطًا.
فَإِنْ وُجِدَا عُرْيَانَيْنِ فِي إِزَارٍ غَيْرَ مُتَضَامَّيْنِ؛ ضُرِبَا خَمْسِينَ سَوْطًا وَإِنْ وُجِدَا فِي بَيْتٍ مُبْتَذَلَيْنِ قَدْ كشفا سؤاتهما ضُرِبَا أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَإِنْ وُجِدَا فِيهِ مَسْتُورَيِ السَّوْءَةِ ضُرِبَا ثَلَاثِينَ سَوْطًا، وَإِنْ وُجِدَا فِي طريق متحادثين بِفُجُورِهِمَا ضُرِبَا عِشْرِينَ سَوْطًا، وَإِنْ وُجِدَا فِيهِ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِالرِّيبَةِ ضُرِبَا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ.
وَإِنْ وُجِدَا فِيهِ وَكُلُّ واحد منهما يتبع صاحبه ضربا خفقات عَلَى غَيْرِ هَذَا فِيمَا عَدَاهُ.

(13/425)


وقال أبو يوسف: اكثر التعزير خمسة وسبعون من غير تفصيل. ولا استنباط مِنْ ذُنُوبِ الْحُدُودِ.
وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ: أَظْهَرُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ بَلَغَ بِمَا لَيْسَ بِحَدٍّ حَدًّا فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ) .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى) .
وَأَمَّا إِشْهَارُ الْمُعَزَّرِ فِي الناس فجائز إذا أدى الاجتهاد إليه ليكون زيادة في نكال التَّعْزِيرِ، وَأَنْ يُجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ إِلَّا قَدْرَ ما يستر عَوْرَتَهُ وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْلَقَ شَعْرُ رَأْسِهِ. وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُحْلَقَ شَعْرُ لِحْيَتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
يجوز أَحَدُهُمَا: وَيُمْنَعُ مِنْهُ فِي الْآخَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يصلب في التعزير حياً؛ قد صَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلاً على جبل يقال له أبو ناب، وَلَا يُمْنَعُ إِذَا صُلِبَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي مُومِئًا، وَيُعِيدُ إِذَا أَرْسَلَ. وَلَا يَتَجَاوَزُ صَلْبُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا حُكْمُ التَّعْزِيرِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْحُدُودِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ.
وَالثَّانِي: فِي حُدُوثِ التَّلَفِ عَنْهُ.
فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ فَالتَّعْزِيرُ مُبَاحٌ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَالْحُدُودُ وَاجِبَةٌ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ لَا يَرْتَدِعُ بِغَيْرِ التَّعْزِيرِ، وَجَبَ تَعْزِيرُهُ وَلَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَرْتَدِعُ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَى خِيَارِ الْإِمَامِ فِي تَعْزِيرِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: " لْقَدْ شَقِيتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ) . وَلَمْ يُعَزِّرْهُ. وَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ يَقْتَضِيهِ، وَحَكَمَ بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرْبٍ بَيْنَهُمَا فَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: اسق أنت ثم أرسل الماء إليه. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إنه ابن عمتك، أي قدمته لقرابته لا بحقه فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: " احْبِسِ الْمَاءَ فِي أَرْضِكَ إِلَى الكعبين) .

(13/426)


وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ يَقْتَضِيهِ.
وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ تَأْدِيبٌ فَأَشْبَهَ تَأْدِيبَ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرحمن لعمر رضي الله عنهم فِي إِجْهَاضِ الْمَرْأَةِ: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ إِنَّمَا أنت معلم.
فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْعَفْوِ عَنْهُ فَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا تَعَلَّقَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى: فَكَالتَّعْزِيرِ بِأَسْبَابِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَفْوِ عَنْهُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا لَهُ. وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِ فِي الصُّلْحِ.
وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَالْمُوَاثَبَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ. فَفِيهِ حَقٌّ للمشتوم والمضروب وحق الإمام فِي التَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ. فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ فِيهِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ. فَإِنْ عَفَا الْإِمَامُ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَضْرُوبِ مِنْهُ، وَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَشْتُومُ نُظِرَ فِي عَفْوِهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الإمام فيه، وإن كان لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَعْزِيرِهِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ فَفِي سُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وهو قول أبي عبيد اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ: قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ التَّعْزِيرُ فِيهِ، كَالْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ يَمْنَعُ الْإِمَامَ مِنَ اسْتِيفَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْإِمَامِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التقويم فيه من حقوق المصالح العامة، فلو تشاتما، وَتَوَاثَبَ وَالِدٌ مَعَ وَلَدِهِ، سَقَطَ تَعْزِيرُ الْوَالِدِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ تَعْزِيرُ الْوَلَدِ فِي حَقِّ وَالِدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يُحَدُّ لِوَلَدِهِ وَيُحَدُّ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ. وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْإِمَامِ فِي تَعْزِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ تعزير الوالد مختصاً بالإمام مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْإِمَامِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي فِي حُدُوثِ التَّلَفِ عَنْهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْإِمَامِ سَوَاءٌ اسْتَوْفَاهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَضْمَنُهُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ أَوْجَبَهُ، أَوْ أَبَاحَهُ كَالْحُدُودِ؛ لِحُدُوثِهِ عَنْ تَأْدِيبٍ مُسْتَحَقٍّ. ودليلنا قضية عمر رضي الله عنه فِي إِجْهَاضِ الْمَرْأَةِ جَنِينَهَا حِينَ بَعَثَ إِلَيْهَا رسولا

(13/427)


أَرْهَبَهَا، فَشَاوَرَ عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ، فَشَاوَرَ عَلِيًّا عليه السلام وقال: إِنْ كَانَ صَاحِبَاكَ مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّا، وإن كان قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ، عَلَيْكَ الدِّيَةُ فَقَالَ عمر لعلي: عزمت عليك ألا تَبْرَحَ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ. فَكَانَ سُكُوتُ عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْجَوَابِ رُجُوعًا مِنْهُمَا إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْ جَمِيعِهِمْ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مَا أَحَدٌ يَمُوتُ فِي حَدٍّ يُقَامُ عليه فأجد فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ رَأَيْنَاهُ فَإِنْ مَاتَ فَدِيَتُهُ في بيت مال المسلمين، أَوْ قَالَ: عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَضْمُونٌ؛ وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَمَّا نَقَصَ عَنْ قَدْرِ الْحُدُودِ خَالَفَ حُكْمَهَا فِي الضَّمَانِ كَضَرْبِ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ فَإِذَا ضَمِنَ الْإِمَامُ دِيَةَ التَّالِفِ بِالتَّعْزِيرِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَحَلِّهَا قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ، وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ.
وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مَالِهِ.
وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ المال.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَإِذَا كَانَتْ بِرَجُلٍ سِلْعَةٌ فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَطْعِهَا أَوْ أَكَلَةٌ فَأَمَرَ بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ فَمَاتَ فَعَلَى السُّلْطَانِ الْقَوَدُ فِي الْمُكْرَهِ وَقَدْ قِيلَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَقِيلَ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَأَمَّا غَيْرُ السُّلْطَانِ يَفْعَلُ هَذَا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا السِّلْعَةُ بِكَسْرِ السِّينِ فَهِيَ الْعُقْدَةُ الْبَارِزَةُ مِنَ الْبَدَنِ. وَأَمَّا السَّلْعَةُ بِفَتْحِ السِّينِ فَهِيَ الشَّجَّةُ الدَّاخِلَةُ فِي الرَّأْسِ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي إِنْسَانٍ بِهِ سِلْعَةٌ، أَوْ أَكَلَةٌ، فَقُطِعَتْ مِنْهُ السِّلْعَةُ، أَوْ عُضْوُ الْأَكَلَةِ فَمَاتَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْأَمْرِ أَوْ مُوَلًّى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ جَائِزَ الأمر بالبلوغ والعقل لم يخل أن تقطع بِإِذْنِهِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ قُطِعَتْ بِإِذْنِهِ، فَلَا قَوَدَ عَلَى قَاطِعِهَا سَوَاءٌ كَانَ قَطْعُهَا مُخَوِّفًا، أَوْ غَيْرَ مُخَوِّفٍ؛ لِأَنَّ فِي الْإِذْنِ إِبْرَاءً.
وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي دِيَةِ الْقَتِيلِ، هَلْ تَجِبُ لَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَوْ تَجِبُ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟
فَإِنْ قِيلَ: تجب فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَا دِيَةَ عَلَى الْقَاطِعِ لِإِبْرَائِهِ مِنْهَا بِالْإِذْنِ.
وَإِنْ قِيلَ: تَجِبُ لِوَرَثَتِهِ بعد موته فعلى القاطع الدية، لأن المستبرئ منها غير

(13/428)


الْمُسْتَحِقِّ لَهَا. وَإِنْ قَطَعَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاطِعُ لَهَا سُلْطَانًا أَوْ نَائِبًا، كَانَ فِي قَطْعِهَا صَلَاحٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ جَوَازَ أَمْرِهِ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى بَدَنِهِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَصَارَ قَطْعُهَا مِنْهُ تَعَدِّيًا عَلَيْهِ. فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ كَانَتِ الدِّيَةُ حَالَّةً في مال القاطع؛ لأنها دية عند محصن.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِصِغَرٍ، أَوْ جُنُونٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِإِذْنِهِ؛ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهِ وَلِلْقَاطِعِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ وَلَا حُكْمٍ، فَالْقَوَدُ عَلَيْهِ واجب لتعديه، سواء كانت في قطعها صلاح، أو لم يكن. وإن عَفَا عَنِ الْقَوَدِ كَانَتِ الدِّيَةُ حَالَّةً فِي ماله.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِلْقَاطِعِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ، فلا يخلوا حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِسَلْطَنَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِنَسَبٍ.
والثالث: بِاسْتِنَابَةٍ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الوالي سُلْطَانًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَطْعُهَا أَخْوَفَ مِنْ تَرْكِهَا، فَالْقَوَدُ فِيهَا عَلَى السُّلْطَانِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا أَخْوَفَ مِنْ قَطْعِهَا، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لأنها من مصالحه، وعليه الدية؛ لأنها من خطئه.
والقول الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ مِنْ تَلَفِهِ ما كان مؤخراً، فَهَذَا حُكْمُ السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا كالأمير والقاضي. وإن كَانَ إِمَامًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ كغيره، من أمير وقاض؛ لِعُمُومِ وِلَايَةِ جَمِيعِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ التُّهْمَةِ أبعد.
والثاني: أن ولايته أعم.

(13/429)


وَإِذَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ، فَإِنْ قِيلَ: بِاسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ، كَانَتْ دِيَةَ عَمْدٍ تَجِبُ فِي مَالِهِ حَالَّةً، وَلَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقَوَدَ لَا يستحق كان دِيَةَ عَمْدٍ شِبْهَ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ عَامِدٌ فِي فِعْلِهِ مُخْطِئٌ فِي قَصْدِهِ، وَأَيْنَ تَكُونُ الدِّيَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي بيت المال.
وأما القسم الثاني: أن يكون الوالي عَلَيْهِ مُنَاسِبًا لَهُ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَيُنْظَرُ فِي قَطْعِهَا فَإِنْ كَانَ تَرْكُهَا أَخْوَفَ مِنْ قَطْعِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السُّلْطَانِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ التُّهْمَةِ أَبْعَدُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لمصالحه أَخَصُّ.
وَإِنْ كَانَ قَطْعُهَا أَخْوَفَ مِنْ تَرْكِهَا، ففي ضمانه للدية وجهان:
أحدهما: يَضْمَنُهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُهَا لِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِي تَرْكِهَا.
وَهَلْ تَكُونُ دِيَةَ عَمْدٍ تُتَعَجَّلُ فِي مَالِهِ، أَوْ دِيَةَ خَطَأٍ شِبْهِ الْعَمْدِ تُؤَجَّلُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وأما القسم الثالث: أن يكون الوالي عَلَيْهِ مُسْتَنَابًا، وَهُمْ صِنْفَانِ وَصِيُّ أَبٍ، وَأَمِينُ حَاكِمٍ، وَفِيهِمَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوَدَ عَلَيْهِمَا فِي الْأَحْوَالِ وَاجِبٌ لِاخْتِصَاصِ وِلَايَتِهِمَا بِمَالِهِ دُونَ بدنه.
والوجه الثاني: أنه يجري عليه حُكْمُ مَنِ اسْتَنَابَهُمَا لِقِيَامِهِمَا بِالِاسْتِنَابَةِ مَقَامَهُ فَإِنْ كَانَ وَصِيَّ أَبٍ أُجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْأَبِ إِذَا قَطَعَهَا، وَإِنْ كَانَ أَمِينَ حَاكِمٍ أُجْرِي عليه حكم الحاكم إذا قطعها.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ أَغْلَفُ أَوِ امْرَأَةٌ لَمْ تخفض فأمر السلطان فعزرا فماتا لَمْ يَضْمَنِ السُّلْطَانُ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ يفعلا إلا أن يعزرهما في حر أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مَنْ عُزِّرَ فِي مِثْلِهِ فَيَضْمَنُ عَاقِلَتُهُ الدِّيَةَ) .
قال الماوردي: أما الختان فرض وَاجِبٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.

(13/430)


وقال أبو حنيفة: هو سنة يأثم عَلَى قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنْهُمْ: هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ كَمَا قَالُوهُ فِي الْوِتْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ. وَاسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْمُلَيْحِ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ. الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَالْخِتَانُ) . فَلَمَّا جعله من الفطرة، والظاهر من الفطرة أنه السنة، وَقَرَنَهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غير واجب قال: ولأنه قطع الشيء مِنَ الْجَسَدِ يُقْصَدُ بِهِ التَّنْظِيفُ، فَوَجَبَ أَنْ يكون مستحباً كتقليم الأظفار وحلق الشعر.
وقال: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخِتَانِ إِزَالَةُ الْقُلْفَةِ الَّتِي تَغْشَى الْحَشَفَةَ، لِيُمْكِنَ إِزَالَةُ الْبَوْلِ عَنْهَا، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عِنْدَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
ودليلنا قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ، رُوِيَ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، فَمَنْ رَوَاهُ مُخَفَّفًا جَعَلَهُ اسْمَ الْمَكَانِ الَّذِي اخْتَتَنَ فِيهِ، وَمَنْ رواه مشدداً جعله اسم الفأس الذي اختتن به.
وقيل: اخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: ثَمَانِينَ سنة، ولا يفعل ذلك بهذه السِّنِّ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى: وَوَحْيِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَسْلَمَ: " أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الكفر واختتن) فهذا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يَخْتَتِنَ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ) قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ تَأْكِيدًا لِإِيجَابِهِ.

(13/431)


وَمِنَ الِاعْتِبَارِ: أَنَّهُ قَطْعُ تَعَبُّدٍ مِنْ جَسَدِهِ مَا لَا يُسْتَخْلَفُ بَعْدَ قَطْعِهِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.
وَقَوْلُنَا تَعَبُّدًا احترازاً عن قطع الأكل من الجسد، فَإِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
وَقَوْلُنَا: مَا لَا يُسْتَخْلَفُ احْتِرَازًا مِنَ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ؛ وَلِأَنَّ فِي الْخِتَانِ قَطْعَ عُضْوٍ وَإِدْخَالَ أَلَمٍ عَلَى النَّفْسِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ إما المصلحة، أَوْ عُقُوبَةٌ، أَوْ وَاجِبٌ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْخِتَانِ مَصْلَحَةٌ وَلَا عُقُوبَةٌ دَلَّ عَلَى أنه واجب.
وأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: الْخِتَانُ سُنَّةٌ مَعَ ضَعْفِ طَرِيقِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الطريقة المتبعة قد يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَمُسْتَحَبًّا، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي) .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَشَارَ بِالسُّنَّةِ إِلَى مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) ، فَهُوَ أن الفطرة الدين، قال الله تعالى: {فطرة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] يَعْنِي دينهم الَّذِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ.
وَمَا قَرَنَ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي حكمها؛ لأنه قد يقترن الواجب بغير واجب كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .
وَأَمَّا الجواب عن قياسهم عن الْحَلْقِ وَالتَّقْلِيمِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: يُقْصَدُ بِهِ التَّنْظِيفَ غَيْرَ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ تَأْدِيَةُ الْفَرْضِ دُونَ التَّنْظِيفِ؛ لِأَنَّ مقصود التَّنْظِيفِ بِالْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُ الْبَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّنْظِيفَ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْثَمْ بِتَرْكِ الشَّعْرِ وَأَثِمَ بِتَرْكِ الْخِتَانِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي حُكْمِ الْوُجُوبِ، وَفِي هذا جواب اسْتِدْلَالِهِمْ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْخِتَانِ فِي الرجال والنساء فهو من الرِّجَالِ يُسَمَّى إعْذَارًا

(13/432)


وَفِي النِّسَاءِ يُسَمَّى خَفْضًا، وَيُسَمَّى غَيْرُ الْمَعْذُورِ مِنَ الرِّجَالِ أَغْلَفَ وَأَقْلَفَ. وَإِعْذَارُ الرَّجُلِ هُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ الَّتِي تَغْشَى الْحَشَفَةَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ تستوعب من أصلها وأقل ما يجزي فيه ألا يتغير بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْحَشَفَةِ.
وَأَمَّا خَفْضُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ قَطْعُ جِلْدَةٍ تَكُونُ فِي الْفَرْجِ فَوْقَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ عَلَى أَصْلٍ كَالنَّوَاةِ تؤخذ منه الْجِلْدَةُ الْمُسْتَعْلِيَةُ دُونَ أَصْلِهَا رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أُمَّ عَطِيَّةَ إِذَا خَفَضْتِ فَأَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَسْرَى لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى عِنْدَ الزَّوْجِ) .
وَقَوْلُهُ: " أَشِمِّي) أَيْ لَا تُبَالِغِي.
وَفِي قوله: " أسرى للوجه وأحظى عند الزوج) تأويلان:
أحدهما: أصفى للون.
وَالثَّانِي: مَا يَحْصُلُ لَهَا فِي نَفْسِ الزَّوْجِ من الحظوة بها.
وَلِلْخِتَانِ وَقْتَانِ: وَقْتُ اسْتِحْبَابٍ وَوَقْتُ وُجُوبٍ فَأَمَّا وقت الاستحباب فما قبل البلوغ.
والأختتان: أن يختتن فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سن اختتان الْمَوْلُودِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَفِيهِ يَعِقُّ عَنْهُ، وختن الحسن والحسين عليهما السلام فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْتَسِبُ فيها يوم الْوِلَادَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْتَسِبُ يوم الولادة، ويختتن في السَّابِعِ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ لا يحتسب به، ويختتن في السابع بعد يوم الولادة.
وهكذا روي ختان الحسن والحسين أنه كان فِي اليوم السَّابِعِ بَعْدَ يَوْمِ الْوِلَادَةِ فَإِنِ اختتن قَبْلَ السَّابِعِ كَرِهْنَاهُ، وَإِنْ أَجْزَأَ لِضَعْفِ الْمَوْلُودِ عن احتماله سواء فِي ذَلِكَ الْغُلَامُ أَوِ الْجَارِيَةُ.
فَإِنْ أَخَّرَ عن اليوم السابع المستحب بعده أن يختتن فِي الْأَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ فِيهِ أَثَرًا. فَإِنْ أخر عنه فالمستحب بعده أن يختتن فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤْمَرُ فيه بالطهارة والصلاة، ويميز بَيْنَ أَبَوَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَخْتَتِنْ حَتَّى بَلَغَ، صَارَ وَقْتُ الْخِتَانِ
فَرْضًا، يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا فِي أَوَّلِ أوقات إمكانه.

(13/433)


وَلَا يُؤَخِّرُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ وَقْتِ الْإِيجَابِ إِلَّا لِعُذْرٍ فِي الزَّمَانِ مِنْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ لِعُذْرٍ في بدنه من شدة مرض يخاف عَلَى نَفْسِهِ إِنْ خُتِنَ، فَيُؤَخِّرُ إِلَى زَوَالِ العذر، فلو كان نضو الخلق وعلم مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إِنْ خُتِنَ تَلِفَ سَقَطَ فَرْضُ الْخِتَانِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ فِيمَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى خِتَانَ الْمَوْلُودِ إِلَّا مَنْ كَانَ ذَا وِلَايَةٍ عَلَيْهِ بِأُبُوَّةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ حُكْمٍ، فَإِنْ خَتَنَهُ مَنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، فَأَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ ضَمِنَ نَفْسَهُ، وَإِنْ خَتَنَهُ ذُو وِلَايَةٍ عَلَيْهِ كَالْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ أَوِ السُّلْطَانِ فَتَلِفَ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عُذْرٍ لَمْ يَضْمَنْ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ فِعْلٍ وَاجِبٍ.
وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانِ عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ شَدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ: ضَمِنَ نَفْسَهُ.
وَقَالَ فِي الْمَحْدُودِ فِي حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ مَرَضٍ: إِنَّهُ إِذَا مَاتَ لَمْ يَضْمَنْهُ.
اختلف أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى طَرِيقَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: الْجَمْعُ بَيْنَ الجوابين في الموضعين، ونخرجهما عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُضْمَنُ فِي الْمَحْدُودِ وَالْمَخْتُونِ على ما نص عليه في المختون للتقدير بِالزَّمَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ فِي الْمَخْتُونِ وَالْمَحْدُودِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَحْدُودِ.
والطريقة الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيُضْمَنُ الْمَخْتُونُ وَلَا يُضْمَنُ الْمَحْدُودُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخِتَانَ أَخْوَفُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ عُضْوٍ وَإِرَاقَةِ دَمٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وَقْتَ الْخِتَانِ مُتَّسِعٌ، وَوَقْتَ الْحَدِّ يضيق.
فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ، مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ جَمِيعَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: يَضْمَنُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِحُدُوثِ التَّلَفِ عَنْ وَاجِبٍ وَمَحْظُورٍ، فَإِنْ ضَمِنَ ذَلِكَ غَيْرُ السُّلْطَانِ كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وإن ضمن السُّلْطَانُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ ضَمِنَ جَمِيعَ الدِّيَةِ أَوْ نِصْفَهَا؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ تَلَفَ نفس وإن تبعضت فيه الدية، والله أعلم.

(13/434)


(باب صفة السوط)
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " يُضْرَبُ الْمَحْدُودُ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ لَا جَدِيدٍ وَلَا خَلَقٍ) .
قَالَ الماوردي: وأما الضرب المشروع فيستحق من وجهين:
حد وتعزير.
فأما الْحَدُّ الْمَشْرُوعُ فَثَلَاثَةُ حُدُودٍ، حَدُّ الزِّنَا مِائَةُ جَلْدَةٍ، وَحَدُّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَحَدُّ الْخَمْرِ أربعون.
وأما حد الزنا والقذف فيستوفى بِالسَّوْطِ، وَبِهِ وَرَدَ الشَّرْعُ.
وَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِالسَّوْطِ.
وَالثَّانِي: بالثياب والنعال والأيدي.
وأما ضَرْبُ التَّعْزِيرِ فَمَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ تعزيره عن اجتهاد، فيجوز أن يضرب بالثياب والنعال، ويجوز أن يضرب بالسوط.
فأما صِفَةُ السَّوْطِ الَّذِي تُقَامُ بِهِ الْحُدُودُ فَهُوَ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ لَا جَدِيدَ فَيُتْلِفُ، وَلَا خَلَقَ لا يُؤْلِمُ، لِمَا رُوِيَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِزَانٍ فَدَعَا بالسَّوْطِ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُكْسَرْ ثَمَرَتُهُ فَقَالَ: دُونَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ لَانَ وَانْكَسَرَ، فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ لَا جَدِيدَ وَلَا خَلَقَ، فَحَدَّهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَمَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حد الله عليه) .
رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ وَسَوْطٌ بَيْنَ سَوْطَيْنِ.
فَأَمَّا صِفَةُ الضَّرْبِ، فَلَا يَكُونُ شَدِيدًا قَاتِلًا، وَلَا ضَعِيفًا لَا يَرْدَعُ، فَلَا يَرْفَعُ بَاعَهُ

(13/435)


فَيَنْزِلُ مِنْ عَلٍ، وَلَا يَخْفِضُ ذِرَاعَهُ فَيَقَعُ من أسفل، فَيَمُدُّ عَضُدَهُ وَيَرْفَعُ ذِرَاعَهُ؛ لِيَقَعَ الضَّرْبُ مُعْتَدِلًا.
قال ابن مسعود: لا يرفع ذراعه فِي الضَّرْبِ فَيُرَى بَيَاضُ إِبْطِهِ.
فَأَمَّا السَّوْطُ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دُونَ سَوْطِ الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَ فِي التَّعْزِيرِ بِسَوْطٍ لَمْ تُكْسَرْ ثَمَرَتُهُ فَوْقَ سَوْطِ الحد، ويكون صِفَةُ الضَّرْبِ فِيهِ أَعْلَى مِنْ صِفَتِهِ فِي الحد؛ لأن ذنوب التعزير مختلفة، فجاز أن يكون الضرب مُخْتَلِفًا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْحُدُودَ أَغْلَظُ، فَلَمَّا كَانَ التَّعْزِيرُ دُونَهَا فِي الْقَدْرِ لَمْ يَجُزْ أن يكون فوقها في الصفة.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ قَائِمًا وَتُتْرَكُ له يده يتقي بِهَا وَلَا يُرْبَطُ وَلَا يُمَدُّ وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً وَتُضَمُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا وَتُرْبَطُ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ وَيَلِي ذَلِكَ مِنْهَا امْرَأَةٌ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي صِفَةِ السَّوْطِ وَالضَّرْبِ.
فَأَمَّا صِفَةُ المضروب فلا يخلوا إما أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا ضُرِبَ قَائِمًا وَلَمْ يُصْرَعْ إِلَى الْأَرْضِ، ووقف مُرْسَلًا غَيْرَ مَشْدُودٍ وَلَا مَرْبُوطٍ، وَتُرْسَلُ يَدُهُ لِيَتَوَقَّى بِهَا أَلَمَ الضَّرْبِ إِنِ اشْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَدَ مَنْ حَدَّهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.
فَأَمَّا ثِيَابُهُ فَلَا يُجَرَّدُ مِنْهَا، وَتُتْرَكُ عَلَيْهِ؛ لِتُوَارِيَ جَسَدَهُ، وَتَسْتُرَ عَوْرَتَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا ما يمنع من ألم الضرب كالفراء والجياب الحشوة، فَتُنْزَعُ عَنْهُ وَيُتْرَكُ مَا عَدَاهَا مِمَّا لَا يَمْنَعُ أَلَمَ الضَّرْبِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي دِينِنَا مَدٌّ وَلَا قَيْدٌ وَلَا غَلٌّ وَلَا تَجْرِيدٌ.
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُضْرَبُ جَالِسَةً؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَجُلُوسُهَا أَسْتَرُ لَهَا، وَتُرْبَطُ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا؛ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ فتبدوا عَوْرَتُهَا، وَتَقِفُ عِنْدَهَا امْرَأَةٌ تَتَوَلَّى رَبْطَ ثِيَابِهَا، وتستر مَا بَدَا ظُهُورُهُ مِنْ جَسَدِهَا، وَيَتَوَلَّى الرِّجَالُ ضَرْبَهَا دُونَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ فِي مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ له هتكه.
قد أَحْدَثَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ وُلَاةِ الْعِرَاقِ ضَرْبَ النِّسَاءِ في صفة مِنْ خُوصٍ أَوْ غِرَارَةٍ مِنْ شَعْرٍ لِيَسْتُرَهَا، وذلك حسن والغرارة احب إلينا من الصفة لأن الصفة تدفع مِنْ أَلَمِ الضَّرْبِ مَا لَا تَدْفَعُهُ الْغِرَارَةُ، فَلَوْ خَالَفَ الْجَلَّادُ مَا وَصَفْنَا، وَضَرَبَ الرَّجُلَ جالساً أو

(13/436)


مَبْطُوحًا، وَضَرَبَ الْمَرْأَةَ قَائِمَةً أَوْ نَائِمَةً أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ الضَّرْبُ وَلَا يَضْمَنُهُ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ؛ لِأَنَّهَا تَغْيِيرُ حَالٍ لَا زِيَادَةُ ضَرْبٍ.

(مسألة)
قال الشافعي: " ولا يبلغ في الحد أن ينهر الدم لأنه سبب التلف وإنما يراد بالحد النكال أو الكفارة) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ في العدول به عن الحديد إِلَى السَّوْطِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَثَرِ الحديد.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِضَرْبِهِ أَلَمُهُ الَّذِي يَرْتَدِعُ بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَلَمِهِ بِإِنْهَارِ دَمِهِ الْمُفْضِي إِلَى تَلَفِهِ، فَإِنْ أَنْهَرَ دَمَهُ بِالضَّرْبِ فَلَمْ يَتْلَفْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْهَرَ دَمَهُ فَتَلِفَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَضْرِبَهُ بَعْدَ إِنْهَارِ دَمِهِ لِاسْتِكْمَالِ حَدِّهِ قَبْلَ إِنْهَارِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إِنْهَارَ دَمِهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ رِقَّةِ لَحْمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ شِدَّةِ ضَرْبِهِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُمَا مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَضْرِبَهُ بَعْدَ إِنْهَارِ دَمِهِ اسْتِكْمَالًا لِحَدِّهِ، فَإِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ إِنْهَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ مُوَالَاةَ الْحَدِّ مُسْتَحَقَّةٌ.
وَإِنْ ضَرَبَهُ فِي موضع إنهاره ففي ضمانه وجهان:
أحدهما: يضمن؛ لأن إنهاره من غير واجب.
ثانيهما: يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ بِإِعَادَةِ الضَّرْبِ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا في قدر ضمانه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الدِّيَةِ.
وَالثَّانِي: نِصْفُهَا، عَلَى مَا مَضَى فِي ضَمَانِ الْمَخْتُونِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ " وَيَتَّقِي الْجَلَّادُ الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ وروي ذلك عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَجِبُ فِي جَلْدِ الْحُدُودِ أَنْ يُفَرِّقَ الضَّرْبُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ؛ لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنَ الْأَلَمِ، وَلَا يَجْمَعُهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فيفضي إلى تلفه إلا في موضعين عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ ضَرْبَهُمَا:
أَحَدُهُمَا: الْمَوَاضِعُ الْقَاتِلَةُ كالرأس والخاصرة والقواد، وَالنَّحْرِ، وَالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَيَيْنِ.

(13/437)


وَالثَّانِي: مَا شَأنَهُ الضَّرْبُ وَقَبَّحَهُ كَالْوَجْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا جَلَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ) .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْ وَأَوْجِعْ وَاتَّقِ الرَّأْسَ وَالْفَرْجَ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَقْبِيحِ الْوَجْهِ، وَعَنْ ضَرْبِهِ وعن الوشم فِيهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَسُبُّ رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَكَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَسُبُّوا الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) يَعْنِي عَلَى صُورَةِ هَذَا الرَّجُلِ، فَلَمَّا نَهَى عَنْ سَبِّ الْوَجْهِ كَانَ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِهِ أَوْلَى.
فَأَمَّا ضَرْبُ التَّعْزِيرِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ كَالْجَلدِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَفَرَّقَ بينه وبين الجلد بأنه لما يَجُزِ الْعَفْوُ عَنِ الْحَدِّ لَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عن بَعْضِ الْجَسَدِ، وَلَمَّا جَازَ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ جَازَ الْعَفْوُ عَنْ ضَرْبِ بَعْضِ الْجَسَدِ، وَهَذَا ليس بصحيح؛ لأن جميع الضَّرْبِ مُفْضٍ إِلَى التَّلَفِ فَلَمَّا مَنَعَ مِنْهُ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ كَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي التعزير المباح أولى.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله: " ولا يبلغ بعقوبة أربعين تقصيراً عن مساواة عقوبة الله تعالى في حدوده) .
قال الماوردي: فقد ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعْزِيرَ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْلَغَ بِأَكْثَرِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ وَغَايَتُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْحُدُودِ حَدُّ الْخَمْرِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ.
رَوَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ ضَرَبَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ) .
فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِمُ الزِّيَادَةَ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ عَلَى أكثر الحدود: ليس مع هذا الخبر من مساواة التعزير في الحدود.
روى أبو بُردَةَ بن نيار عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا جلد فوقع عشر جلدات إلا في حدود الله) فهلا منعكم هذا الْخَبَرُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي التَّعْزِيرِ، وأنتم لا

(13/438)


تَمْنَعُونَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مَعَ مَا رُوِيَ فِيهَا.
قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، فَإِنْ صَحَّ وَثَبَتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ عَلَى عَشْرِ جَلْدَاتٍ، وَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ، أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافُهُ فَهُوَ أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قول كثير من أصحابه: أنه لا يجوز الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ صَحَّ لِجَوَازِ أَنْ يَرِدَ فِي ذَنْبٍ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، فلا يجب حمله في عُمُومِ الذُّنُوبِ وَلَا عَلَى عُمُومِ النَّاسِ.

(فَصْلٌ)
لا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْعَفْوُ عَنِ الْحُدُودِ إِذَا وَجَبَتْ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْفَعَ إِلَى الْإِمَامِ فِيهَا، وَإِنْ جَازَ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ وَجَازَتِ الشَّفَاعَةُ فِيهِ.
رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَعَافَوْا عَنِ الْحُدُودِ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي من حد فقد وجب) .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لعن الله الشافع والمشفع) .
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلد رجلاً في شراب فقال شعراً.
(أَلَا أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي ... بِحَقٍّ مَا سرقت ولا زنيت)

(شربت شربة لَا عِرْضَ أَبْقَتْ ... وَلَا مَا لَذَّةٌ فِيهَا قَضَيْتُ)
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَوْ بَلَغَنِي قَبْلَ أَنْ أَجْلِدَهُ لَمْ أَجْلِدْهُ) فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَفْوِ عَنِ الْحُدُودِ.
قِيلَ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ لَا يُعَارَضُ بِهِ ما كان متصلاً ثابتاً، وَلَوْ ثَبَتَ وَصَحَّ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِشِعْرِهِ على تقدم توبته.
وإما أن حَدَّ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا، وَكَانَ تَعْزِيرًا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ.

(13/439)


ثم استقر حده من بعده فَلَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ.

(فَصْلٌ)
رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّه قَالَ: " تَجَافَوْا لِذَوِي الْهَيْئَاتِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ) .
وَرُوِيَ " أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ) .
وَفِي ذَوِي الهيئات ها هنا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ إِذَا أَلَمُّوا بِالذَّنْبِ نَدِمُوا عليه، وتابوا منه.
وفي عثراتهم ها هنا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهَا صَغَائِرُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا توجب الحدود.
والثاني: أنها أول معصية ذل فيها مطيع، فأما قول الله تعالى: {والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} [النجم: 32] .
ففي كبائر الإثم ثلاث تأويلات:
أحدها: أنها الشرك بالله.
وَالثَّانِي: مَا لَا يُكَفَّرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ.
وَالثَّالِثُ: مَا زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِالْحَدِّ.
وَفِي الفواحش ها هنا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الزِّنَا خَاصَّةً.
وَالثَّانِي: جَمِيعُ الْمَعَاصِي.
وَفِي اللَّمَمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَا هَمَّ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ.
والثاني: أنه ما يأت مِنْهُ وَلَمْ يُعَاوِدْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا تُوجِبُ حَدًّا وَلَا وَعِيدًا.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا النَّظْرَةُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ.
وَالْخَامِسُ: أنه النكاح.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ

(13/440)


فيها اسمه} [النور: 36] يريد بالبيوت: المساجد.
في قوله تعالى: {أذن الله أن ترفع} وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُعَظَّمَ.
وَالثَّانِي: تُصَانَ وَفِي قَوْلِهِ: " ويذكر فيها اسمه) وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّعَبُّدُ لَهُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: طَاعَتُهُ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا.
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ مِنَ السُّنَّةِ نَصٌّ لِرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يقتل بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ) .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: " يا أيها الناشد، غيرك الواجد إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا إِنَّمَا بُنِيَتْ لذكر الله وللصلاة) .
وَرَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن يستقاد في المساجد وأن تنشد فِيهَا الْأَشْعَارُ، وَأَنْ تُقَامَ فِيهَا الْحُدُودُ) .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَشْعَارِ مَا كَانَ هِجَاءً، أَوْ عزلا، أو مدحاً كاذباً؛ لِأَنَّ الشِّعْرَ قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْهُ.
فَأَمَّا مَا تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْعَارِ فَغَيْرُ ممنوع من إنشادها فيه.
وقد أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَصِيدَتَهُ الَّتِي مَدَحَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المسجد فلم ينكر عليه، وَكَذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ.
وَلِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ مُؤْذٍ لِلْمُصَلِّينَ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَحْدُودَ ربما نجس المسجد بدمه، أو حدثه.
فإن ثَبَتَ أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ نُظِرَ فِي الْمَحْدُودِ، فَإِنْ كَانَ مُتَهَافِتًا فِي ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي أُظْهِرَ حَدُّهُ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَمَحَافِلِهِمْ؛ لِيَزْدَادَ بِهِ نَكَالًا وَارْتِدَاعًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ حُدَّ فِي الْخَلَوَاتِ حِفْظًا لصيانته. وبالله التوفيق.

(13/441)


(باب قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَا أُصِيبَ فِي أَيْدِيهِمْ من متاع المسلمين)
(من كتاب قتل الخطأ)

قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا أَسْلَمَ الْقَوْمُ ثُمَّ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَيِّ كُفْرٍ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ دَارِ الْحَرْبِ وَهُمْ مَقْهُورُونَ أَوْ قَاهِرُونَ فِي مَوْضِعِهِمُ الَّذِي ارتدوا فيه فعلى المسلمين أن يبدؤوا بِجِهَادِهِمْ قَبْلَ جِهَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لَمْ يسلموا قط) .
قال الماوردي: قد ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى دِينِهِ، سَوَاءٌ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ، أَوْ أَسَلَمَ عَنْ كُفْرٍ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَسَوَاءٌ ارتد إلى دين يقر عليه أهله أَمْ لَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وقال تعالى: {ومن يرتد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ ابن عباس أن علياً - عليه السلام أَحْرَقَ الْمُرْتَدِّينَ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ وَلَقَتَلْتُهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إنا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مَقْهُورًا فَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ في وجوب قتله إن لم يتب
وإما أن يكونوا جماعة قاهرين فالواجب أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ قَبْلَ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فَكَانَ مَنْ عَدَلَ عَنْ دِينِنَا أَقْرَبَ إِلَيْنَا، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى الِابْتِدَاءِ بقتالهم حين ارتدوا بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنِ ارْتَدَّ وَكَانَ قَدْ جَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ بن زيد إلى الروم فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ: لَوْ صَرَفْتَ الْجَيْشَ إِلَى قتال أهل الردة فقال: والله لو انثالت المدينة سباعاً علي مَا رَدَدْتُ جَيْشًا جَهَّزَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَلَّ احْتِجَاجُ أَبِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهُمْ؛ لِأَنَّ رَسُولَ

(13/442)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جهزهم على إجماعهم أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْمُرْتَدِّينَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ عَنِ الْإِسْلَامِ أَغْلَظُ مِنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ وَإِنْ أقر الكافر على كفره.
والثاني: أنه يتقدم إِسْلَامِهِ قَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ الدِّينِ الَّذِي ارْتَدَّ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْكَافِرِ إِقْرَارٌ بِبُطْلَانِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُفْسِدُ قُلُوبَ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَيُقَوِّي نُفُوسَ الْمُشْرِكِينَ، فَوَجَبَ لِغِلَظِ حَالِهِ أَنْ يُبْدَأَ بِقِتَالِ أَهْلِهِ، فَإِذَا أَرَادَ قِتَالَهُمْ لَمْ يَبْدَأْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ عَنْ سَبَبِ رِدَّتِهِمْ، فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً رَفَعَهَا، فَإِنْ أَصَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الرِّدَّةِ قَاتَلَهُمْ، وَأَجْرَى عَلَى قِتَالِهِمْ حُكْمَ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ وَجْهٍ، وَحُكْمَ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ وَجْهٍ.
فَأَمَّا مَا يُسَاوُونَ فِيهِ أَهْلَ الْحَرْبِ مِنْ أَحْكَامِ قِتَالِهِمْ وَيُخَالِفُونَ فِيهِ أَهْلَ الْبَغْيِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يجوز أن يقاتلوا مدبرين ومقبلين، وَلَا يُقَاتَلُ أَهْلُ الْبَغْيِ إِلَّا مُقْبِلِينَ.
وَالثَّانِي: يجوز أن يوضع عليهم البيان والتحريق، ويرموا بالقرادة وَالْمَنْجَنِيقِ، وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ.
وَالثَّالِثُ: إِبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَسْرَى وَمُمْتَنِعِينَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ.
وَالرَّابِعُ: مَصِيرُ أَمْوَالِهِمْ فَيْئًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ.
وَأَمَّا مَا يُوَافِقُونَ فِيهِ أَهْلَ الْبَغْيِ وَيُخَالِفُونَ فِيهِ أَهْلَ الْحَرْبِ فَمِنْ أربعة أوجه:
أحدها: انهم لا يهادنوا عَلَى الْمُوَادَعَةِ إِقْرَارًا عَلَى الرِّدَّةِ وَإِنْ جَازَ مُهَادَنَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَالثَّانِي: أنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَلَا أَنْ يُصَالَحُوا على مال يقروا بِهِ عَلَى الرِّدَّةِ وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقُّوا وَإِنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَلَا تُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الحرب والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: " فَإِذَا ظَفِرُوا بِهِمُ اسْتَتَابُوهُمْ فَمَنْ تَابَ حُقِنَ دَمُهُ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ) .

(13/443)


قَالَ: الْمَاوَرْدِي: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا ظُفِرَ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ قَتْلِهِمْ قَبْلَ اسْتِتَابَتِهِمْ، فإن تابوا حقنوا دمائهم بِالتَّوْبَةِ، وَوَجَبَ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا وَجَبَ قَتْلُهُمْ بِالسَّيْفِ صَبْرًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فاقتلوه) وفي الثاني بِهِمْ ثَلَاثا قَوْلَانِ مَضَيَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا عَلَى الرِّدَّةِ بِجِزْيَةٍ وَلَا بِعَهْدٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى دِينِهِمْ بِجِزْيَةٍ وَعَهْدٍ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ قَدْ تَقَدَّمَ إِقْرَارُهُ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ بِبُطْلَانِ مَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِقْرَارُ الْحَرْبِيِّ بِبُطْلَانِ دِينِهِ فَجَازَ أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا أَمْوَالُ الْمُرْتَدِّ فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا مَقْهُورًا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهَا وَمُنِعَ مِنَ التصرف فيها ما كان حياً، ولم يملك عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا صَارَتْ فَيْئًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ لَا حق فيها لورثته، وقد قدمت ذِكْرَ الْخِلَافِ فِيهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً مُمْتَنِعِينَ وَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُحَارَبَتِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ لم يجز أن يمتلكها الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ مَا بَقُوا أَحْيَاءً عَلَى رِدَّتِهِمْ؛ لِجَوَازِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا إِنْ أَسْلَمُوا وَكَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِمْ، فَإِنْ مَاتُوا عَلَى رِدَّتِهِمْ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ فَيْئًا، فَإِنْ طَلَبَهُ الْغَانِمُونَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَسَّمَ فِيهِمْ مَا مَلَكَهُ الْمُرْتَدُّونَ قَبْلَ رِدَّتِهِمْ، وَفِي قَسْمِ مَا مَلَكُوهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَجْهَانِ مخرجان من اختلاف القولين في استرقاق المولدين مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا وَقْتَ الرِّدَّةِ لَمْ يَصِرْ مُرْتَدًّا بِرِدَّةِ أَبِيهِ كَمَا لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ بَالِغٍ نُظِرَ فِي أُمِّهِ فَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا؛ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مُرْتَدَّةً كَأَبِيه جَرَى عَلَى الْوَلَدِ حُكْمُ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ مُلْحَقٌ بِأَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ.
فَأَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ فَإِنْ وُلِدَ فِي حَالِ إِسْلَامِهِمَا أَوْ إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرَقَّ كَمَا لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُ أَبَوَيْهِ؛ لِمَا ثَبَتَ لَهُمَا مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ وُلِدَ بَعْدَ رِدَّتِهِمَا فَفِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: يجوز استرقاقه؛ لأنه كافر وولده كافر كالحربي.
والقول الثاني: لا يجوز استرقاقهما لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمَا فَلَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ، وَلَا فَرْقَ فِي الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ وِلَادَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا

(13/444)


وُلِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الدَّارِ جَارٍ عَلَى أَهْلِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشرك مَا فِيهَا) وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الدَّارَ لَا تُبِيحُ مَحْظُورًا وَلَا تَحْظُرُ مُبَاحًا؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا لَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يُسْتَبَحِ اسْتِرْقَاقُهُ وقتله، ولو دخل حربي دار الإسلام لم يحرم اسْتِرْقَاقُهُ وَقَتْلُهُ فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْحَرْبِيِّ، وَكُلُّ مَنْ حَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْلِمِ، فَيَدُلُّ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَيَدُلُّ الْقِيَاسُ الثَّانِي عَلَى الْمَنْعِ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَبَطَلَ بِهِمَا فُرْقَةُ بين الدارين.

(فصل)
ويجبر ولد المرتدة عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقَرُّ عَلَى الْكُفْرِ غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً، وَكَذَلِكَ وَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْبَرُ الْغُلَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْجَارِيَةِ، وَيُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ وَلَدِ الْوَلَدِ إِلَّا أَنْ يُولَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يُجْبَرُ الْوَلَدُ وَلَا وَلَدُ الولد غلاماً كان أو جارية، وفرق بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا وَالْغُلَامَ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ في عبدة الأوثان. وفرق بين الولد وولد الولد بأن الولد تبع أَبَاهُ فِي الْإِسْلَامِ وَوَلَدُ الْوَلَدِ لَا يَتْبَعُ جَدَّهُ فِي الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ مُبِيحَةٌ ودار الإسلام حاظرة، وكل هذا الْفُرُوقِ بَنَاهَا عَلَى أُصُولٍ يُخَالَفُ فِيهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي بَعْضِهَا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ في باقيها.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ اسْتِوَاءَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ فِي أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ كَالرَّجُلِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ بالردة، وقد مضى الكلام فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا بِالرِّدَّةِ وَتُؤْخَذُ بِالْإِسْلَامِ جَبْرًا، سَوَاءٌ أَقَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا إِذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْلِمِ طَرْدًا وَالْحَرْبِيِّ عَكْسًا، ولأن مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ حَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُ بالردة كالرجل.
(مسألة)
قال الشافعي: " وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الرِّدَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَبَعْدَ إِظْهَارِ التَّوْبَةِ فِي قِتَالٍ وهم ممتنعون أو غير قتال أو على نائرة أو غيرها سواء والحكم

(13/445)


عَلَيْهِمْ كَالْحُكْمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْقَوَدِ وَالْعَقْلِ وَضَمَانِ مَا يُصِيبُونَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي بَابِ قِتَالِ أَهْلِ البغي (قال الشافعي) فإن قيل فما صنع أبو بكر في أهل الردة؟ قيل قال لقوم جاؤوه تائبين تَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ فَقَالَ عُمَرُ لا نأخذ لقتلانا دية فإن قيل فما قوله تدون؟ قيل إن كانوا يصيبون غير متعمدين ودوا وإذا ضمنوا الدية في قتل غير عمد كان عليهم القصاص في قتلهم متعمدين وهذا خلاف حكم أهل الحرب عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإن قيل فلا نعلم منهم أحداً أقيد بأحد قيل ولا يثبت عليه قتل أحد بشهادة ولو ثبت لم نعلم حاكماً أبطل لولي دما طلبه والردة لا تدفع عنهم قوداً ولا عقلا ولا تزيدهم خيراً إن لم تزدهم شراً (قال المزني) هذا عندي أقيس من قوله في كتاب قتال أهل البغي يطرح ذلك كله لأن حكم أهل الردة أن نردهم إلى حكم الإسلام ولا يرقون ولا يغنمون كأهل الحرب فكذلك يقاد منهم ويضمنون) .
قال الماوردي: أما مَا أَتْلَفَهُ الْمُرْتَدُّونَ وَأَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ وَهُمْ فِي غَيْرِ مَنَعَةٍ فَمَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ بِالْقَوَدِ فِي الدِّمَاءِ وَالْغُرْمِ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَا أَتْلَفُوهُ وَهُمْ فِي مَنَعَةٍ وَالْمَنَعَةُ أن لا يقدر الإمام عليه حَتَّى يَسْتَعِدَّ لِقِتَالِهِمْ فَفِي ضَمَانِهِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ.
فَأَمَّا ضَمَانُهُ عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ عليهم قولين كأهل البغي سواء.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ، وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عليه قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى قولين الفرق بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِأَهْلِ الْبَغْيِ تأويلاً محتملاً، وليس لأهل الردة تأويلاً مُحْتَمِلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لِأَهْلِ الْبَغْيِ إِمَامًا تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ إِمَامٌ تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: بِسُقُوطِ ضَمَانِهِ عَنْهُمْ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عن الشافعي في سير الأوزاعي فوجهه قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ: تَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دِيَةً، فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ رِضًا بِقَوْلِهِ وَرُجُوعًا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ طُلَيْحَةَ قَتَلَ فِي رِدَّتِهِ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ وَفِيهِمَا يَقُولُ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ حِينَ قَتَلَهُمَا:

(13/446)


(عشية غادرت ابن اقرم ثاوياً ... وعكاشة الغنمي تحت مجال)

(أقمت له صدر الجمالة إنها ... معودة قبل الكماة نزال)

(فيوم نراها في الجلال مصونة ... ويوم تراها في ظلال عوال)

ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِدَمِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ولأنه إسلام عَنْ كُفْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ ضَمَانُ مَا اسْتَهْلَكَ فِي الْكُفْرِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ فِي تَضْمِينِهِمْ مَا اسْتَهْلَكُوهُ تَنْفِيرًا لَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وهم مرغبون فيه فوجب أن لا يؤخذوا بِمَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ في أكثر الكتب فوجهه قول أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ: تَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ عَارَضَهُ عُمَرُ فَقَالَ: لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دِيَةً قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عمر رضي الله عنه قَالَ ذَلِكَ تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ كَعَفْوِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَمْ يكن فيه مخالفاً لِحُكْمِ أَبِي بَكْرٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُمْ وَلَمْ يُغَرِّمْهُمْ.
قِيلَ: الْقِصَاصُ وَالْغُرْمُ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مُطَالِبٌ بِحَقِّهِ مِنْهُ فَمَنَعَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي الشرك إِسْقَاطٌ لِلْوُجُوبِ، وَمِنَ الِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَنْ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ فِي مَنَعَةٍ كَالْمُسْلِمِ طَرْدًا وَالْحَرْبِيِّ عَكْسًا، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا لَمْ تُفِدْهُ خَيْرًا وَهُوَ يَضْمَنُ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَكَانَ ضَمَانُهُ بَعْدَهَا أَوْلَى.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا قَامَتْ لِمُرْتَدٍّ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ يَعْلَمُ تَوْبَتَهُ أَوْ لَا يَعْلَمُهَا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُرْتَدُّ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتُلَهُ إِلَّا الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَدٌّ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُدُودِ التي تختص الْأَئِمَّةُ بِإِقَامَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ مُحَارِبًا فِي مَنَعَةٍ جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخْتَصَّ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ كَمَا يَجُوزُ قَتْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ.
فَإِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا فادعى وليه أنه قد كان أسلم وأنكر القاتل إسلامه فإن لم يكن لِوَلِيِّهِ بَيِّنَةٌ عَلَى إِسْلَامِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ فِي بَقَاءِ رِدَّتِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنَعَةٍ أَوْ غَيْرِ مَنَعَةٍ، فَإِنْ أَقَامَ وَلِيُّهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِسْلَامِهِ فَإِنْ عَلِمَ الْقَاتِلُ بِإِسْلَامِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بإسلامه قال الشافعي ها هنا؛ وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ) أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ، وَقَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ مُوجِبٌ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فَيَكُونُ وُجُوبُ الْقَوَدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(13/447)


أَحَدُهُمَا: لَا قَوْدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الرِّدَّةِ شُبْهَةٌ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَتَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ وَضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ كَذَلِكَ إِسْلَامُ الْمُرْتَدِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ؛ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي الطَّرَفَيْنِ مَحْظُورَةٌ وَإِبَاحَتُهَا مَخْصُوصَةٌ فَاقْتَضَى عُمُومُ الْحَظْرِ وُجُوبَ الْقَوَدِ، وَلَا يَسْقُطُ بِخُصُوصِ الْإِبَاحَةِ، وَبِذَلِكَ خَالَفَ حُكْمَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي هُوَ عَلَى عُمُومِ الْإِبَاحَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَسْقَطَ فِيهِ الْقَوَدَ إِذَا كَانَتْ آثَارُ الرِّدَّةِ عَلَيْهِ بَاقِيَةً مِنْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ الْقَوَدَ إِذَا زَالَتْ عَنْهُ آثَارُ الرِّدَّةِ فَلَمْ يبق فيه قيد ولا حبس ولا اعتبار بِشَاهِدِ حَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي: أن الموضع الذي أسقط فيه القود إذا كَانَ فِي مَنَعَةٍ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي أُوجِبَ فِيهِ الْقَوَدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَتْلِ غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ وَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ قَتْلِ الْمُمْتَنِعِ فَأجْرى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَمْكِينٍ وَمَنْعٍ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ أَوْ قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا قَدْ أُعْتِقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعِتْقِهِ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ الْقَوَدُ بِالشُّبْهَةِ وتكمل الدِّيَةُ حَالَّةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ الْقَوَدُ لِمُصَادَفَةِ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ شُرُوطَ الْقَوَدِ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا أُكْرِهَ الْمُسْلِمُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ بِهَا كَافِرًا، وَكَانَ عَلَى إِسْلَامِهِ بَاقِيًا، وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى بَقَائِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَخَالَفَ فِي نِكَاحِ زَوْجَتِهِ فَأَبْطَلَهُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَائِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] الآية وفي الآية تقديم وتأخير فترتيبها: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَشَرَحَ بالكفر صدره فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فاستثناء الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى إِيمَانِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ أَكْرَهَتْهُ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ مَعَ أبويه على الكفر، فامتنع أبواه فقتلا، وأجاب إليه عمار فأطلق والدليل على بقاء نكاحه على

(13/448)


الصِّحَّةِ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرِ الْإِكْرَاهُ فِي إِيمَانِهِ وَهُوَ أَصْلٌ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي نِكَاحِهِ وَهُوَ فَرْعٌ، فَأَمَّا إِذَا أَظْهَرَ المسلم كلمة الكفر ولم يعلم إكراهه عليها ولا اعتقاده لها فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ وَرِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا إِكْرَاهَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ رُوعِيَتْ حَالُهُ، فَإِنْ تَلَفَّظَ بِهَا وَهُوَ عَلَى صِفَةِ الْإِكْرَاهِ فِي قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا، فَلَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ اعْتِقَادُهُ لِلْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى صِفَةِ الِاخْتِيَارِ مُخْلَى السَّبِيلِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُخْتَارًا فَيُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَالَهَا مُكْرَهًا.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا أُكْرِهَ الْكَافِرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُكْرَهًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَذَلِكَ فِيمَنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَصْحَابِ الْعَهْدِ، فَلَا يَصِيرُ بِالْإِكْرَاهِ مُسْلِمًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّعَدِّي بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقٍ كَإِكْرَاهِ الْمُرْتَدِّ وَإِكْرَاهِ مَنْ جَازَ قَتْلُهُ مِنْ أَسْرَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَصِيرُ بِالْإِكْرَاهِ مُسْلِمًا لِخُرُوجِهِ عَنِ التَّعَدِّي.
وَمِثَالُهُ الْإِكْرَاهُ على الطلاق وإن كَانَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كان باستحقاق في المولى وقع الطلاق، والله أعلم.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ ثُمَّ تَابَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ وَكَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَوِ ارْتَدَّ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَا أَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي الثَّالِثَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كفروا ثم ازدادو كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] يُرِيدُ بِهَ الكفر الثالث.
ودليلنا قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ) وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِسْلَامِ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْكُفْرُ فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ كَقَبُولِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فأما الآية فهي فيمن أراد كُفْرًا وَلَمْ يُحْدِثْ إِيمَانًا فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِسْلَامَهُ مَقْبُولٌ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بَعْدَ الرِّدَّةِ الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا مِنْ كُلِّ رِدَّةٍ وَلَا يُحْبَسُ.

(13/449)


وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أُعَزِّرُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَأَحْبِسُهُ فِي الثَّالِثَةِ وَمَا بَعْدَهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَكُفُّهُ عَنِ الرِّدَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ وَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ مُتَهَاوِنٌ بِالدِّينِ كَهُوَ فِي الثالثة فاقتضى التعزير فيها كما يعزر في الثالثة والله أعلم.

(13/450)