الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (كِتَابُ صَوْلِ الْفَحْلِ)
(بَابُ دَفْعِ الرَّجُلِ عَنْ نفسه وحريمه ومن يتطلع في بيته)
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِذَا طَلَبَ الْفَحْلُ رجلاً ولم يقدر على دفعه إلا بقتله فقتله لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمٌ كَمَا لَوْ حَمَلَ عليه مسلم بالسيف فلم يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِضَرْبِهِ فَقَتَلَهُ بِالضَّرْبِ أنه هدر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) فَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ الْأَكْثَرُ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ بما يَجُوزُ لَهُ كَانَ الْأَقَلُّ أَسْقَطَ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا خَافَ الإنسان عل نفسه من طالب لقتله أو قاطع لطرقه أَوْ جَارِحٍ لِبَدَنِهِ أَوْ خَافَهُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ فَلَهُ دَفْعُ الطَّالِبِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ وَإِنْ أَفْضَى الدَّفْعُ إِلَى قَتْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّالِبُ آدَمِيًّا مُكَلَّفًا كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَوْ كَانَ بَهِيمَةً كَالْفَحْلِ الصَّائِلِ وَالْبَعِيرِ الْهَائِجِ لِمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالَهُ وَدَمَهُ) .
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ جَارِيَةً خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ تَحْتَطِبُ فَتَبِعَهَا رَجُلٌ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَرَمَتْهُ بفهر فقتلته فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقال: هذا قتيل الله والله لا يؤدي أبداً، ومعنى " قَتِيلُ اللَّهِ) : أَيْ أَبَاحَ اللَّهُ قَتْلَهُ، وَفِي قوله: " والله لا يؤدي أَبَدًا) تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْقَسَمِ بالله أنه لا يغرم دِيَتَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أن من أباح قتله لم يغرم دِيَتُهُ، وَلِأَنَّ الطَّلَبَ جِنَايَةٌ وَعُقُوبَةُ الْجَانِي مُبَاحَةٌ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ وَهُوَ متفق عليه كانت نفسه هدراً مُكَلَّفًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ.

(13/451)


وقال أبو حنيفة: إن كان آدمياً كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ كَانَتْ نَفْسُهُ هَدَرًا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَوْ كَانَ بَهِيمَةً كَالْفَحْلِ الصَّائِلِ كَانَتْ نفسه مع إباحة قتله مضمونة بدية الأذى وَقِيمَةِ الْبَهِيمَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفس منه) .
وهذا المال مستهلك على مالكه بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مضموناً على مستهلكة قال: ولأنه استهلك ملك غَيْرِهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِضَمَانِهِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى طَعَامِ غَيْرِهِ، وَهَذَا أَوْلَى بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَعَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِهَذَا الْقَتْلِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ بِغَيْرِ قَتْلٍ، فَلَمَّا ضَمِنَ مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ الْحَيَاةَ كَانَ أولى أن يضمن مالا يَتَيَقَّنُ بِهِ الْحَيَاةَ قَالَ: وَلِأَنَّ الْبَهِيمَةَ لَا قَصْدَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا وَلَيْسَ صاحبها معها كَانَ هَدَرًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ) فَإِذَا بَطَلَ قَصْدُهَا سَقَطَ حكم الصول فَصَارَ كَالْقَاتِلِ لَهَا بِغَيْرِ صَوْلٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91] وَهَذَا بِالدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ مُحْسِنٌ فَوَجَبَ أَنْ لا يكون عليه سبيل في الغرم وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] .
فَإِنْ قِيلَ: لَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ ظُلْمٌ.
قِيلَ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَصَارَ الدَّافِعُ مَظْلُومًا وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى الْمَدْفُوعِ يرفع الْقَلَمِ عَنْهُ ظُلِمَ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا يحل ما امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ غُرْمٌ مَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ.
وَمِنَ الِاعْتِبَارِ: أَنَّهُ إِتْلَافٌ بِدَفْعٍ مُبَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الضَّمَانُ قِيَاسًا عَلَى قَتْلِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْمُكَلَّفِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى فِي الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ قَتْلَ نَفْسِهِ بِالطَّلَبِ وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ إِبَاحَةُ نَفْسِهِ بِالطَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا حكم لقصده.

(13/452)


قِيلَ: افْتِرَاقُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا فِي إِبَاحَةِ الْقَتْلِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ قتل مباح بسبب كان من الصول فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَدْرًا كَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ وَالزِّنَا، وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ بِهِ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ سَقَطَ بِهِ ضَمَانُ الْبَهِيمَةِ قِيَاسًا عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ إِذَا صَالَ عَلَى مُحْرِمٍ لَمْ يُضْمَنْ بِالْجَزَاءِ كَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَتْلُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ مَضْمُونٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَخَفَّ حُكْمًا مِنَ الْمَضْمُونِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ هَذَا مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ إذا اضطر إلى إتلافها لِشِدَّةِ جُوعِهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سقوط الضمان إذا قتلها لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْبَهِيمَةِ لِضَمَانِ نَفْسِهِ بِالْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَانْفِرَادِ ضَمَانِ الْبَهِيمَةِ بِالْقِيمَةِ، فَلَمَّا سَقَطَ بِالدَّفْعِ ضَمَانُ الْأَغْلَظِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ بِهِ ضَمَانُ الْأَخَفِّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أكل المضطر فمن وجهين:
أحدهما: انتفاضه بالعبد إذا قتله دفاعاً عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْيَا نَفْسَهُ بِقَتْلِ مَالِ غَيْرِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ سلم من هذا النقص لكان لهذا الْمَعْنَى فِي الطَّعَامِ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَهُوَ ضَرُورَةُ جُوعِهِ.
وَالْمَعْنَى فِي صَوْلِ الْفَحْلِ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِمَعْنًى فِي الْفَحْلِ وَهُوَ مخافة صوله فافترقا في المعنى من هذا الوجه، فوجب افْتِرَاقهُمَا فِي الضَّمَانِ كَالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَهُ لِلْجُوعِ ضَمِنَهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ لِلدَّفْعِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَكَالصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لِجُوعِهِ ضَمِنَهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ قَصْدَ الْبَهِيمَةِ لَا حُكْمَ له فمن وجهين:
أحدهما: انتفاضة بِصَوْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ يَسْقُطُ بِهِ الْجَزَاءُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ لَوْ لَمْ يَصُلْ.
وَالثَّانِي: أنه لما حل قتله بصوله وَلَمْ يَحِلَّ إِذَا لَمْ يَصُلْ دَلَّ عَلَى سقوط الضمان بصوله إِذَا لَمْ يَصُلْ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الضمان في تلف المدفوع من آدمي وبهيمة فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ:
أحدها: صفة الحال التي يجوز فيها الدفع، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ قَادِرًا عَلَى

(13/453)


المطلوب يصل إليه إذا أراده، فأما أن كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ فَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَدْفَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلطَّلَبِ وَالْعَجْزُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: خَوْفُ السُّلْطَانِ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّلَبِ فَيَسْتَخْفِي تَوَقُّعًا لِاخْتِلَاسِهِ فَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ الدَّفْعُ، وَيَكِلُهُ إِلَى السُّلْطَانِ فِيمَا يَخَافُهُ مِنَ اخْتِلَاسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْجَزَ عَنْهُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْهُ بِحِصْنٍ يَأْوِي إِلَيْهِ أَوْ جَبَلٍ يَرْقَاهُ أَوْ عَشِيرَةٍ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ الدَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مَانِعٌ نُظِرَ فِيهِ، فإن كان واسعاً لاتصل إِلَيْهِ سِهَامُهُ إِلَّا بِالْعُبُورِ إِلَيْهِ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدَفْعِهِ مَا لَمْ يَعْبُرْ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْمَطْلُوبُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ سهام الطالب، فإن قدر على البعد منها مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ كَفَّ عَنْهُ وَبَعُدَ مِنْهُ.

(فَصْلٌ)
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: فِي الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِذَا أَرَادَ نَفْسَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ لِقَتْلٍ أَوْ فَاحِشَةٍ أَوْ أَذًى أَوْ أَرَادَ مَالَهُ أَوْ حَرِيمَهُ أَوْ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ، فيكون حُكْمُ دَفْعِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَحُكْمِ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَحُكْمُ دَفْعِهِ عَنِ الْمَالِ وَالْحَرِيمِ كَحُكْمِ دَفْعِهِ عَنِ النُّفُوسِ؛ لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) .
والشهيد: من كان له القتال وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِي حُكْمِ الدَّفْعِ، فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ يَقْصِدُهُ بِالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى نَفْسٍ وَلَا مَالٍ فَلَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ بجرح ولا ضرب، ولا مقاتلته عَلَيْهِ بِقَذْفٍ وَلَا سَبٍّ؛ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ عَنِ الْقَذْفِ بِالْحَدِّ، وَعَنِ السَّبِّ بِالتَّعْزِيرِ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا يَقُومُ السُّلْطَانُ بِهِمَا، فَإِنْ بَعُدَا عَنِ السُّلْطَانِ فِي بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ فَقَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ فِيهِ جَازَ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَصَارَ كَالدَّيْنِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِهِ إِذَا مُنِعَ مِنْهُ.
(فَصْلٌ)
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي صِفَةِ الدَّفْعِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِأَقَلِّ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ وَأَقَلُّهُ الْكَلَامُ، فَإِنْ كَانَ يَنْدَفِعُ بِالْكَلَامِ بِالنَّهْيِ وَالْوَعِيدِ ولم يَتَجَاوَزْهُ إِلَى ضَرْبٍ وَلَا جِرَاحٍ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ بِالْكَلَامِ، فإن له أن يتجاوزه إِلَى الضَّرْبِ دُونَ الْجِرَاحِ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ عَدَدِ الضَّرْبِ وَصِفَتِهِ قَدْرُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ، فَإِنْ تجاوزه إلى زيادة أو الجراح

(13/454)


بِالْحَدِيدِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ قَدْرُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْجِرَاحِ أَوْ إِلَى الْقَتْلِ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْدَفِعُ إِلَّا بِالْقَتْلِ كَانَ لَهُ قَتْلُهُ، وَإِنْ كَانَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَرَحَهُ جراحتين فمات منها فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مُبَاحَةٌ لَا تُضْمَنُ، وَالثَّانِيَةُ مَحْظُورَةٌ تُضْمَنُ، وَكَذَلِكَ لَوِ انْدَفَعَ بِجِرَاحِة فَجَرَحَهُ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ ضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ وَكَذَلِكَ لَوِ انْدَفَعَ بِجِرَاحَتَيْنِ فَجَرَحَهُ ثَلَاثًا ضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ وَلَا تَتَقَسَّطُ الدِّيَةُ عَلَى أعداد الجراح، إنما تَتَقَسَّطُ عَلَى أَحْكَامِهَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَالْمُرْتَدِّ إِذَا جُرِحَ فِي حَالِ الرِّدَّةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَكَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْجِرَاحِ إِذَا جُرِحَ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَجُرِحَ الْآخَرُ عَشْرًا، كَانَا فِي الدِّيَةِ سَوَاءً، وَهَكَذَا لَوِ انْدَفَعَ بِقَطْعِ إِحْدَى يَدَيْهِ فَعَادَ بعد قطعهما وَقَطَعَ الْيَدَ الْأُخْرَى ضَمِنَهَا، فَإِنْ سَرَى الْقَطْعُ إِلَى نَفْسِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وإن انْدَمَلَ الْقَطْعُ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الْيَدِ الثَّانِيَةِ أَوْ دِيَتُهَا، وَلَا يَجُوزُ إِذَا وَلَّى الطَّالِبُ مُدْبِرًا أَنْ يُتْبَعَ بِجِرَاحٍ وَلَا قَتْلٍ، ويكون ما فعله المطلوب بعد إدلائه عَنْهُ الطَّالِبَ مِنْ جِرَاحٍ وَقَتْلٍ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، كَالْمُحَارِبِينَ إِذَا وَلَّوْا عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْبُغَاةِ إِذَا أَدْبَرُوا عَنِ الْقِتَالِ.

(فَصْلٌ)
وَالْحُكْمُ الرَّابِعُ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ وَوُجُوبِهِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَطْلُوبِ، وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا جَازَ وَلَمْ يَجِبْ وَهُوَ طَلَبُ الْمَالِ، فَالْمَطْلُوبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ مَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْهُ وَلَا يَدْفَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ مُبَاحٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ الدَّفْعُ عَنْهُ، وَهُوَ مَنْ أُرِيدَ مِنْهُ قَتْلُ غَيْرِهِ مِنْ وَلَدٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ أُرِيدَ مِنْ أَحَدِهِمُ الْفَاحِشَةُ فَالدَّفْعُ عَنْهُ وَاجِبٌ، وَفِي الْإِمْسَاكِ عَنْهُ مَأْثَمٌ؛ لِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ مَحْظُورٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ وَجَوَازِهِ، وَهُوَ إِذَا أُرِيدَتْ نَفْسُهُ، وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِالطَّالِبِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ زَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ كَالْبَهِيمَةِ وَالْمَجْنُونِ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ فِي الْكَفِّ كَالْإذُنِ في قتل نفسه، وإن كان الطالب من يَزْجُرُهُ عَنِ الْقَتْلِ عَقْلٌ وَدِينٌ كَالْمُكَلَّفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَفِي وُجُوبِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَكُونُ آثِمًا بِالْكَفِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَلِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ وَإِبَاحَةُ قَتْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَفَّ لَمْ يَأْثَمْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْنَيْ آدَمَ: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ

(13/455)


الله رب العالمين} [المائدة: 28] ولأن للطالب زاجر مِنْ نَفْسِهِ وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه من الدفع عن نفسه والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ عَضَّ يَدَهُ رَجُلٌ فَانْتَزَعَ يَدَهُ فَنَدَرَتْ ثنيتا العاض كان ذلك هدرا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيدع يده في فيك تقضهما كأنها في في فحل) وأهدر ثنيته) .
قال الماوردي: وهذا صحيح، وحكم الدَّفْعِ عَنِ الْأَطْرَافِ كَحُكْمِ الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ، فَإِذَا عَضَّ يَدَهُ فَلَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ فيه، وإن سَقَطَ بِنَزْعِهَا أَسْنَانُ الْعَاضِّ كَانَتْ هَدَرًا، وَلَا يَلْزَمُهُ زَجْرُهُ بِالْقَوْلِ قَبْلَ النَّزْعِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَلَاصِهَا بِالنَّزْعِ تَجَاوَزَهُ إِلَى أَقَلِّ ما يمكن، ولا يتجاوزه مِنَ الْأَقَلِّ إِلَى الْأَكْثَرِ، وَتَنْهَدِرُ بِالْجَذْبِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا أَسْنَانُ الْعَاضِّ، وَيُقَالُ لِلْعَضِّ بِالْأَسْنَانِ الْقَضْمُ، وَلِلْعَضِّ بِالْأَضْرَاسِ الْخَضْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ البصري: يا ابن آدم تخضم وتقضم، والحساب في البيدر.
فإن سَقَطَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْمَعْضُوضِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَضْمَنُهَا الْمَعْضُوضُ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنِ النَّفْسَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ فِي الْأَسْنَانِ وَالْأَطْرَافِ كَسُقُوطِهِ فِي النَّفْسِ مَا رَوَاهُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ عن عميه يعلى بن أمية وسلمة بْنِ أُمَيَّةَ قَالَا خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَعَنَا صَاحِبٌ لَنَا فَقَاتَلَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعَضَّ الرَّجُلُ ذِرَاعَهُ فَجَذَبَهَا مِنْ فِيهِ، فَطَرَحَ ثَنِيَّتَهُ فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يلتمس العقل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ينطلق أحدكم لأخيه فيعضه عضيض الفحل، ثم يأتي يطب الْعَقْلَ لَا عَقْلَ لَهُ) فَأَبْطَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ لَمْ يَضْمَنْ، فَكَانَ بِأَنْ لَا يَضْمَنَ مَا دُونَهَا أَجْدَرُ، وَلِأَنَّ تَرْكَ يَدِهِ فِي فِيهِ حَتَّى يَزْجُرَهُ بِالْقَوْلِ اسْتِصْحَابُ أَلَمٍ وَزِيَادَةُ ضَرَرٍ فَلَمْ يَلْزَمِ الصَّبْرُ عَلَيْهِ رِفْقًا بِالْعَاضِّ في زجره ووعظه.
(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ عَضَّهُ كَانَ لَهُ فَكُّ لَحْيَيْهِ بِيَدِهِ الأخرى فإن عض قفاه فلم تنله يداه كان له أن ينزع رَأْسَهُ مِنْ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَهُ التحامل عليه برأسه إلى ورائه ومصعداً ومنحدراً وإن غلبه ضبطاً بِفِيهِ كَانَ لَهُ ضَرْبُ فِيهِ بِيَدِهِ حَتَّى يُرْسِلَهُ فَإِنْ بَعَجَ بَطْنَهُ بِسِكِّينٍ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ بِيَدِهِ أَوْ ضَرَبَهُ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ ضمن ورفع إِلَى عُمَرَ بْنِ

(13/456)


الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَارِيَةٌ كَانَتْ تَحْتَطِبُ فَاتَّبَعَهَا رَجُلٌ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَرَمَتْهُ بِفِهْرٍ أَوْ صخر فَقَتَلَتْهُ فَقَالَ عُمَرُ هَذَا قَتِيلُ اللَّهِ وَاللَّهِ لا يودي أبداً) .
قال الماوردي: وهذا صَحِيحٌ إِذَا عَضَّ قَفَاهُ فَلَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى خَلَاصِهِ مِنْهُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، كَمَا وصفه الشافعي في الترتيب أن يبدأ ببدنه فِي فَكِّ لَحْيَيْهِ، فَإِنْ تَخَلَّص بِذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ ضَمِنَ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ بِيَدِهِ فَلَهُ التَّحَامُلُ عَلَيْهِ بِرَأْسِهِ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ تَخَلَّصَ مِنْهُ لَمْ يتجاوزه، فإن تجاوز ضمن، فإن لم يتخلص منه نتر قفاه ولم يضمن أسنانه إن ذهبت، فإن تجاوزه ضمن، وإن لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَعْجِ بَطْنِهِ أَوْ فَقْءِ عَيْنِهِ، وَلَا يَضْمَنُ أَقْرَبَهُمَا وَيَضْمَنُ أَبْعَدَهُمَا: إِلَّا أَنْ لَا يَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَّا بِأَبْعَدِهِمَا وَأَغْلَظِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ إِلَّا بِقَتْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ قَتْلَهُ، وَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ها هنا أنه إن بعج بطنه أو فقء عَيْنَهُ ضَمِنَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الترتيب في القدرة على خلاصة بغير فقء ولا بعج، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ إِلَّا بِالْبَعْجِ وَالْفَقْءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَصْلٌ مستمر فلو قتله واختلف ولي القاتل والمقتول فَقَالَ الْقَاتِلُ: قَتَلْتُهُ دَفْعًا عَنِّي لِأَنِّي لَمْ أَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ، وَقَالَ وَلِيُّهُ: بَلْ كُنْتَ قَادِرًا عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ فَتَعَدَّيْتَ بِقَتْلِهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْقَاتِلِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِمَا ادَّعَاهُ سُمِعَتْ وَلَمْ يَضْمَنِ النَّفْسَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الولي والقاتل ضامن للنفس وكذلك الرَّجُلُ إِذَا رَاوَدَ جَارِيَةً عَلَى نَفْسِهَا أَوْ راود غلاما على نفسه فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِقَتْلِهِ لَمْ يَضْمَنَاهُ لِحَدِيثِ عُمَرَ، وَلَوْ قَدَرَا عَلَى دَفْعِهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ ضَمِنَاهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَقَالَ وَجَدْتُهُ عَلَى امرأتي فقد أقر بالقود وادعى فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً قُتِلَ قَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فقال عليه الصلاة والسلام " نعم) وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ مَعَ امرأته رجلاً يزني بها أو مع بنته أَوْ أُخْتِهِ أَوْ مَعَ ابْنِهِ يَلُوطُ بِهِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ وَيَمْنَعَهُ مِنْهُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَعَنَ الرَّكَانَةَ وَهُوَ الَّذِي لَا يَغَارُ عَلَى أَهْلِهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ لِلْمُسْلِمِ فليغر) .

(13/457)


وَلِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الله تعالى وحق نفسه في أهله وحق امْرَأَتِهِ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَلَمْ يَسَعْهُ إِضَاعَةُ هذه الحقوق بالكف والإمساك، فأما إن كان وَجَدَهُ يَزْنِي بِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهَا وَيَكُفَّهُ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً تَفَرَّدَ الْمَنْعُ بِهِ دُونَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مطاوعة توجه المنع إليهما وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا؛ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ مَحَارِمِ الله تعالى وَحِفْظِ حُقُوقِهِ وَالْكَفِّ عَنْ مَعَاصِيهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَرَى ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرَاهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ أَنَّ فَرْضَهُ فِي أَهْلِهِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ، وَفِي غَيْرِ أَهْلِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الدفع نظر حال الرجل الزَّانِي فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قد أَوْلَجَ فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْقَتْلِ إِلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى دَفْعِهِ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَمَا قُلْنَا فِي دَفْعِهِ عَنْ طَلَبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وينظر فإن لم يكن قد وقع عليهما فَفِي الدَّفْعِ أَنَاةٌ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهَا تَعَجَّلَ الدَّفْعُ وَتَغَلَّظَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْلَجَ جَازَ أن يبدأ في دفعه بالقتل ولا يترتب عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهِ مُوَاقِعًا لَهُ بِالزِّنَا لَا يَسْتَدْرِكُ بالأناة فجاز لأجلها أن يعجل القتل.
روي أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنني وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا فَلَمْ أَقْتُلْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَتَلْتُهُ يَعْنِي الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ، وَفِي هَذَا الْقَتْلِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَتْلُ دَفْعٍ فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَتْلُ حَدٍّ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ دُونَ السُّلْطَانِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِتَفَرُّدِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّاهُ.
وَالثَّانِي: لِاخْتِصَاصِهِ فِيهِ بِحَقِّ نَفْسِهِ فِي إِفْسَادِ فِرَاشِهِ عَلَيْهِ فِي الزِّنَا بِزَوْجَتِهِ.
فَعَلَى هذا يجوز فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَتُقْتَلُ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَتُجْلَدُ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا.
وَأَمَّا الرَّجُلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ؛ لِأَنَّهُ حد زنا كَالْمَرْأَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَيُقْتَلُ فِي الْحَالَيْنِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَتْلَهُ حَدًّا أَغْلَظُ مِنْ قَتْلِهِ دَفْعًا، وَيَجُوزُ لِتَغْلِيظِ حَالِهِ أَنْ يُقْتَلَ دَفْعًا فَجَازَ أَنْ يُقْتَلَ حَدًّا.

(13/458)


وَالثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تُفَرِّقْ فِي إِبَاحَتِهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لِتَغْلِيظِ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْمُسْتَوْفِي.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ وأنكر وليه ذلك وادعى قتله لغير سَبَبٍ وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ وُجُودِهِ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَإِنْ أَقَامَهَا بَرِئَ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا أُحْلِفَ الْوَلِيُّ وأقيد من القاتل؛ لأنه مقر بالقتل ومدع سقوط القود.
وروي أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَقْتُلُهُ أو لَا حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ قَالَ: " لَا حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، كَفَى بِالسَّيْفِ شَا) ، يَعْنِي شَاهِدًا عَلَيْكَ، وَمَعْنَى هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ سُقُوطِ الْقَوَدِ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ له ابن خيري، وجد مع امرأته رجلاً فقتله وقتلها، فَرُفِعَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأُشْكِلَ عَلَيْهِ فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لِيَسْأَلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ هَذَا بِأَرْضِنَا، عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتُخْبِرْنِي، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ عَلِىٌّ: يَرْضَوْنَ بِحُكْمِنَا وَيَنْقِمُونَ عَلَيْنَا إِنْ لم ما يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ فَلْيُضْرَبْ عَلَى رُمَّتِهِ قَوَدًا.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ فَلْتُبْذَلْ رُمَّتُهُ لِلْقَوَدِ اسْتِسْلَامًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُكَلِّفْ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَيِّنَةِ وَأَهْدَرَ الدَّمَ بِشَاهِدِ الْحَالِ فِيمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خرج في الجهاد وَخَلَفَ زَوْجَتَهُ وَأَخَاهُ، وَكَانَ لَهُ جَارٌ يَهُودِيٌّ فَمَرَّ الْأَخُ بِبَابِ أَخِيهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَسَمِعَ منها كلام اليهودي وهو ينشد:
(وأشعث الْإِسْلَامُ مِنِّي ... خَلَوْتُ بِعِرْسِهِ لَيْلَ التَّمَامِ)

(أَبِيتُ على ترائبها وتمسي ... على جرداء لاحقة الخزام)

(كَأَنَّ مَوَاضِعَ الرَّبَلَاتِ مِنْهَا ... فِئَامٌ يَنْهَضُونَ إِلَى فئام)

فدخل الدار فوجده معها فَقَتَلَهُ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَأَهْدَرَ دَمَهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اشْتِهَارَ الْحَالِ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَغْنَى عَنِ الْبَيِّنَةِ الْخَاصَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى طَلَبِ الْوَلِيِّ، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ سَقَطَ لُزُومُهَا.

(13/459)


(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ تَطَلَّعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ ثُقْبٍ فَطَعَنَهُ بِعُودٍ أَوْ رَمَاهُ بِحَصَاةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهَا فذهبت عينه فهي هدر وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يَنْظُرُ إِلَى بَيْتِهِ مِنْ جحر وبيده مدرى يحك به رأسه فقال عليه الصلاة والسلام " لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لِي أَوْ تَنْظُرُنِي لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل الْبَصَرِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَنَازِلَ سَاتِرَةٌ لعورات أهلها يحرم انتهاكها بالنظر إلى من فيها، فإذا تطلع رجل على مَنْزِلِ رَجُلٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا تَطَلَّعَ مِنْهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِأَبْصَارِ الْمَارَّةِ أَوْ غَيْرَ سَاتِرٍ لَهَا، فَإِنْ كَانَ سَاتِرًا لِأَبْصَارِ الْمَارَّةِ كَالْمُتَطَلِّعِ مِنْ ثُقْبٍ فِي بَابٍ أَوْ كُوَّةٍ صَغِيرَةٍ فِي حَائِطٍ أَوْ شُبَّاكٍ ضَيِّقِ الْأَعْيُنِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَرْمِيَ عَيْنَ الْمُتَطَلِّعِ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، وَلَا يُفْضِيَ إِلَى تَلَفِ نَفْسِهِ كَالْحَصَاةِ وَالْعُودِ اللَّطِيفِ وَالْمِدْرَى وَإِنْ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَهُ بِسَهْمٍ وَلَا أَنْ يَطْعَنَهُ بِرُمْحٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِلُ إِلَى الدِّمَاغِ فَتَتْلَفُ بِهِ النَّفْسُ، وَالْمَقْصُودُ كف العين من النَّظَرِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَلَفَ النَّفْسِ، فَإِنْ فَعَلَ ذلك ضمن نفسه ولا يضمن بإفقاء عَيْنه، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ اسْتَبَاحَ فَقْءَ عَيْنِهِ بِابْتِدَاءِ التَّطَلُّعِ أَوْ بَعْدَ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَجُمْهُورِ البصريين أن يَسْتَبِيحَهُ بَعْدَ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ، فَإِنِ امْتَنَعَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ، وَإِنِ ابْتَدَأَ بِفَقْءِ عَيْنِهِ ضَمِنَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ فِي صَوْلِ الْفَحْلِ وَطَلَبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي تَرْتِيبِ الدَّفْعِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ فَقْءَ عَيْنِهِ بِابْتِدَاءِ التَّطَلُّعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَقْدِيمُ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ فِي صَوْلِ الْفَحْلِ وَطَلَبِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَمُوَافِقًا لِنَزْعِ الْيَدِ الْمَعْضُوضَةِ إِذَا سَقَطَ بِهَا أَسْنَانُ الْعَاضِّ ابْتِدَاءً واختلف في مذهب أبي حنيفة من الْوَجْهَيْنِ فَحَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْوَجْهَ الأول أنه لا يجوز أن يبدأ بفقء إِلَّا بَعْدَ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ، وَهُوَ ضَامِنٌ إِنِ ابْتَدَأَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ احْتِجَاجًا بِأَنَّ دخول الدار أَغْلَظُ مِنَ التَّطَلُّعِ عَلَيْهِ فِي دَارِهِ، فَلَوْ دَخَلَهَا لَمْ يَسْتَبِحْ أَنْ يَبْتَدِئَ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فكان بأن لا يستبيحه بالتطلع أولى وحكى عنه الطحاوي.
والوجه الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ بِالتَّطَلُّعِ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِفَقْءِ العين وَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَيَجْعَلُونَهُ خِلَافًا مَعَ أَبي حَنِيفَةَ احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ

(13/460)


فِي الْمُتَطَلِّعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقوله للرجل: " لو أعلم أنك تنظرني لطعنت بها فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ) فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ لِتَغْلِيظِ حرمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى حُرْمَةِ سَائِرِ أُمَّتِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِشَرْعٍ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بتعليله كقوله: " إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ) وَقَدْ رُوِيَ بِمَا هُوَ عَامُّ الْحُكْمِ لَا يَدْخُلُهُ احْتِمَالٌ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: لو أن امرءاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ) وَهَذَا نَصٌّ، فَإِنْ قيل: فهذا خبر واحد مخالف الْأُصُولَ، فَلَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهِ.
قِيلَ: الْأُصُولُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النُّصُوصِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ بِهَا النَّصُّ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُلْحَقُ بِأَصْلٍ فِي هَدْرِ أَسْنَانِ الْعَاضِّ بِابْتِدَاءِ نَزْعِ الْيَدِ مِنْ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من اطلع من صيرة بَابٍ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ فَهِيَ هَدَرٌ) .
قَالَ أَبُو عبيد: الصير الشق.
فأما توجيه الْأَوَّلِ بِأَنَّ دَاخِلَ الدَّارِ لَا يُبْتَدَأُ بِفَقْءِ عَيْنِهِ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِفَقْئِهَا وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْمُتَطَلِّعِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ سَقَطَ الْحُكْمُ في تفضيل الأعضاء كالجنايات يلزم فيها دية لأعضاء إذا فضلت وَلَا يَلْزَمُ فِي الْقَتْلِ دِيَاتُهَا وَإِنْ بَطَلَتْ.

(فَصْلٌ)
وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَسْتُرُ أَبْصَارَ الْمَارَّةِ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ وَالْكُوَّةِ الْوَاسِعَةِ وَالشُّبَّاكِ الْوَاسِعِ الْأَعْيُنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى اجْتِيَازِهِ مَارًّا، لَا يقف عليه، فلا إنكار عليه،

(13/461)


وَلَوْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ لَوْ أَرَادَ الِاسْتِتَارَ عَنِ الْأَبْصَارِ لغلق بَابَهُ، وَسَدَّ كُوَّتَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقِفَ الْمُتَطَلِّعُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَدِيمَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَهُ رَمْيُهُ وَفَقْءُ عَيْنِهِ كَالْمُتَطَلِّعِ مِمَّا يَسْتُرُ أَبْصَارَ الْمَارَّةِ لِلتَّعَدِّي بِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ لَيْسَ لَهُ رَمْيُهُ وَلَا فَقْءُ عَيْنِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ إِنْ فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ إِلَيْهِ بِفَتْحِ بَابِهِ، وَلَوْ أراد أن يستتر لغلقه، وَيَصِيرُ كَالْوَاقِفِ عَلَيْهِ فِي طَرِيقٍ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ وَقَفَ الْمُتَطَلِّعُ فِي حَرِيمِ الدَّارِ كَانَ لِصَاحِبِهَا مَنْعُهُ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَقَفَ في باحة الطَّرِيقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْوُقُوفِ، ويمنعه من النظر وباحة الطريق وسطه، وفي حيث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ بَاحَةُ الطَّرِيقِ وَلَكِنْ لَهُنَّ حُجْرَتَاهُ، وَبَاحَتُهُ وَسَطُهُ، وَحُجْرَتَاهُ جَانِبَاهُ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حَظْرِ التَّطَلُّعِ وَرَمْيِ الْمُتَطَلِّعِ فَالْحَظْرُ عَامٌّ وَالرَّمْيُ خَاصٌّ فَيَحْرُمُ التطلع على المناسبين مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَجَانِبِ،؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، أَوْ كَانَ مَعَ حُرْمَتِهِ عَلَى حَلَالِهِ، فَلَا يَحِلُّ لِذِي بَصَرٍ أَنْ يَرَاهُ وَأَمَّا الرَّمْيُ فَخَاصٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُتَطَلِّعِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ مِنْ وَالِدَيْهِ الَّذَيْن لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِمْ قِصَاصٌ فِي جِنَايَةٍ وَلَا حَدٌّ فِي قَذْفٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ رَمْيُهُمْ، وَلَا فقؤهم، لأنه نوع حد فسقط عنه كَالْقَذْفِ، فَإِنْ رَمَاهُمْ وَفَقَأَهُمْ ضَمِنَ وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ أَمْ لَا؟ مُعْتَبَرًا بِحَالِهِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ التَّطَلُّعِ عَلَيْهِ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ فَلَا شُبْهَةَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ فَهِيَ شُبْهَةٌ لَهُ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُتَطَلِّعُ أَجْنَبِيًّا أَوْ مِنْ مناسبية وَذَوِي رَحِمِهِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِ كَبَنِي الْأَعْمَامِ، وَبَنِي الْأَخْوَالِ. فَهُمْ فِي حَظْرِ التطلع كَالْأَجَانِبِ فِي إِبَاحَةِ رَمْيِهِمْ، وَفَقْءِ أَعْيُنِهِمْ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَطَلِّعُ رَجُلًا، أَوِ امْرَأَةً وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ رَجُلٌ، أَوِ امْرَأَةٌ فِي تَحْرِيمِ التَّطَلُّعِ، وَرَمْيِ الْمُتَطَلِّعِ، وَإِنْ كَانَ تَطَلُّعُ الرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ، وَتَطَلُّعُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ، أَخَفَّ حَظْرًا مِنْ تَطَلُّعِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَتَطَلُّعِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ، وَلَكِنْ لو كان

(13/462)


التَّطَلُّعُ عَلَى دَارٍ لَا سَاكِنَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْمَى الْمُتَطَلِّعُ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا مَتَاعٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِارْتِفَاعِ الْعَوْرَةِ. فَإِنْ رُمِيَ الْمُتَطَلِّعُ ضَمِنَهُ رَامِيهِ وَهَكَذَا الْأَعْمَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْمَى إِذَا تَطَلَّعَ عَلَى الْمَنَازِلِ المسكونة، لأنه لا ينهتك بِتَطَلُّعِهِ عَوْرَةٌ فَإِنْ رُمِيَ ضَمِنَهُ الرَّامِي.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَطَلِّعُ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ الذين يجري بينهم الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ، وَالْحَدُّ فِي الْقَذْفِ، كَالْأَبْنَاءِ، وَالْبَنَاتِ، وَالْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَعْمَامِ، وَالْعَمَّاتِ، وَالْأَخْوَالِ، وَالْخَالَاتِ، فَفِي جَوَازِ رَمْيِهِمْ وَفَقْءِ أَعْيُنِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: لَهُ رَمْيُهُمْ كَالْأَجَانِبِ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ، وَالْحُدُودِ، بَيْنَهُمْ.
روَى صَفْوَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ إِنِّي أَخْدُمُهَا، قَالَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً قَالَ لَا، قَالَ فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ لَهُ رَمْيُهُمْ، ويضمن إن رماهم كالآباء لقول الله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ فَشَرَكَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الزِّينَةِ الباطنة؛ لأن الزينة الظاهرة لا تحرم عَلَى الْأَجَانِبِ فَسَوَّى بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ فِيهَا وَإِنْ خَالَفَهُمْ فِي التَّلَذُّذِ بِهَا دونهم.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ دَخَلَ بَيْتَهُ فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ فَلَمْ يَخْرُجْ فَلَهُ ضَرْبُهُ وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ (قَالَ المزني) رحمه الله الَّذِي عُضَّ رَأْسُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنَ الْعَاضِّ أَوْلَى بِضَرْبِهِ وَدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَسَاكِنَ حِمَى سَاكِنِيهَا سَوَاءٌ مَلَكُوهَا، أَوِ اسْتَأْجَرُوهَا وَلَهُمْ مَنْعُ غَيْرِهِمْ مِنْ دُخُولِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا سَاتِرَةٌ لِعَوْرَاتِهِمْ وَلِحُرَمِهِمْ.
فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا أَجْنَبِيٌّ، أَوْ مُنَاسِبٌ، لَيْسَ بِذِي مَحْرَمٍ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا، أَوْ مَفْتُوحًا؛ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وَقَرَأَ ابْنُ

(13/463)


عَبَّاسٍ " حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا) فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَهُ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا مَعَ مَالِكِهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ الاستئذان، ولكن عليه إذا أَرَادَ الدُّخُولَ أَنْ يُشْعِرَ بِدُخُولِهِ، بِالنَّحْنَحَةِ، وَشِدَّةِ الوطئ، وَتَثْقِيلِ الْخُطُوَاتِ لِيَسْتَتِرَ الْعُرْيَانُ، وَيَفْتَرِقَ الْمُجْتَمِعَانِ.
وَالْحَال الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ ذُو الْمَحْرَمِ سَاكِنًا فِيهَا، فَيَنْظُرُ فِي الْبَابِ، فَإِنْ كَانَ مُغَلَّقًا، لَمْ يَجُزِ الدُّخُولُ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ وَانْتِظَارِ الْإِذْنِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاسْتِئْذَانُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِذنٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الدَّارِ عَلَى عَوْرَةٍ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يلتزم الِاسْتِئْذَانُ وَيَلْزَمُ الْإِشْعَارُ بِالدُّخُولِ بِالنَّحْنَحَةِ وَالْحَرَكَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيت أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم} [النور: 61] الآية ففرق الله تعالى بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْإِبَاحَةِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الدُّخُولِ بِإِذْنٍ، وَغَيْرِ إِذْنٍ، فَدَخَلَهَا مَنْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِالْقَتْلِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِفَقْءِ الْعَيْنِ أَمْ لَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَيَسْتَحِقُّ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا بِالْقَوْلِ، وَلَا يَتَجَاوَزُهُ إِنْ خَرَجَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْقَوْلِ تَجَاوَزَهُ إِلَى الدَّفْعِ، وَالْجَرِّ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ تَجَاوَزَهُ إِلَى الضَّرْبِ بِالْعَصَا، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ تَجَاوَزَهُ إِلَى الْجَرْحِ بِالسَّيْفِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا بِالْقَتْلِ فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَطَالِبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ يَتَرَتَّبُ الْأَمْرُ فِيهِمَا بِأَقْرَبِ ما يمكن إلى أن تنتهي غايته إلى القتل، فإن وُجِدَ هَذَا الدَّاخِلُ قَتِيلًا فِي الدَّارِ فَادَّعَى صَاحِبُهَا أَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ دَارِهِ، وَتَوَصُلًا إِلَى إِخْرَاجِهِ، وَادَّعَى وَلِيُّهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ كَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَادَّعَى أَنَّهُ وجده مع امْرَأَتِهِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ. وأُقِيدَ مِنْهُ، فَلَوْ أقام صاحب الدار بينته أنه دخل عليه بسيف مشهور، أو قوس موتور، أو رهب مَخْرُوط، نُظِرَ فِي الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أُكْمِلَتِ الشَّهَادَةُ بِأَنْ قَالُوا: وَأَرَادَهُ بِذَلِكَ: سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ. وإن لم يقولوا له ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ مِنْهُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَوَدُ والدية؛ لأن الظاهر من هذه الحال تشهد بِصِدْقِ الْمُدَّعِي، فَقُبِلَ بِهَا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ فِيهِ، وَلَا تُوجِبُ سُقُوطَ الدِّيَةِ، لِاحْتِمَالِ دُخُولِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَكُونَ لِهَرَبٍ مِنْ طَلَبٍ، وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ

(13/464)


بِسَيْفٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ، وَقَوْسٍ غَيْرِ مَوْتُورٍ، لَمْ يسقط بها قود، ولا دية. والله أعلم.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا الْتَقَى رَجُلَانِ أَوْ زَحِفَانِ فَتَقَاتَلَا ظُلْمًا عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نفس الآخر وماله فَكُلُّ قَاتِلٍ مِنْهُمَا ظَالِمٌ، وَكُلُّ مَقْتُولٍ مِنْهُمَا مَظْلُومٌ يُقَادُ مِنْ قَاتِلِهِ وَيَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الظُّلْمِ قَبْلَ الْقَتْلِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعَدِّي بِالْقِتَالِ وَمُخْتَلِفَيْنِ بَعْدَ الْقَتْلِ فَيَصِيرُ الْقَاتِلُ ظَالِمًا وَالْمَقْتُولُ مَظْلُومًا؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ صَارَ بِالْقَتْلِ مُتَعَيِّنًا فِي الْقَاتِلِ دُونَ الْمَقْتُولِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يُحْمَلُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا التقى المسلمان بسيفهما فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) يَعْنِي لِظُلْمِهِمَا بِالْقِتَالِ ثُمَّ صَارَ الْقَاتِلُ أَكْثَرَ ظُلْمًا بَالْقَتْلِ فَصَارَ وَعِيدُهُ أَغْلَظَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا كَلَامُ الْمُزَنِيِّ فَقَدْ أَصَابَ فِي جَوَابِهِ وَوَهِمَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَأْوِيلِهِ وَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى وبالله التوفيق.

(13/465)


(باب الضمان على البهائم)
قال الشافعي: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سعد بن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائطاً فأفسدت فيه فقضى عليه السلام أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَمَا افسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها (قال الشافعي) رحمه الله: والضمان عَلَى الْبَهَائِمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا أَفْسَدَتْ مِنَ الزَّرْعِ بِاللَّيْلِ ضَمِنَهُ أَهْلُهَا وَمَا أَفْسَدَتْ بِالنَّهَارِ لَمْ يَضْمَنُوهُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا الْبَابُ مَقْصُورٌ على جنايات البهائم المضمونة على أربابها بعد ما تَقَدَّمَ مِنْ جِنَايَاتِ الْآدَمِيِّينَ الْمَضْمُونَةِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ سَارِحَةً فِي مَرَاعِيهَا، وهي مسألة الكتاب، فتعدل من مراعيها إلى زروع ترعاها، وأشجار تفسدها، أو تفسد ثمرها، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَرْبَابُهَا فَيَضْمَنُوا مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ إِذَا كَانَتْ مَعَ صَاحِبِهَا مَنْسُوبٌ إليه، وإذا لم يكن معها منصوب إِلَيْهَا، كَالْكَلْبِ إِذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ أَكَلَ مَا صَادَهُ، وَإِذَا اسْتُرْسِلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُؤْكَلْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَنْفَرِدَ الْبَهَائِمُ عَنْ أَرْبَابِهَا، وَلَا يَكُونُوا مَعَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْسَبَ أَرْبَابُهَا إِلَى التَّفْرِيطِ لِإِرْسَالِهِمْ لَهَا فِيمَا لَا يَسْتَبِيحُونَ رَعْيَهُ، أَوْ فِيمَا يَضِيقُ عَنْ كفاياتهم، كحريم الأنهار وطرق الضباع فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُنْسَبَ أَرْبَابُهَا إِلَى التَّفْرِيطِ لِإِرْسَالِهِمْ لَهَا نَهَارًا فِي مَوَاتٍ يَتَّسِعُ لَهَا وَحَبْسِهَا لَيْلًا في مراحها، وعطنها فذهب الشافعي أنه لا ضمان عليهم في مارعته نَهَارًا، وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا رَعَتْهُ لَيْلًا، وَفَرَّقَ بَيْنَ رَعْيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ.

(13/466)


وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ رَعْيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ الَّذِي سَوَّى فِيهِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَحَكَى الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ عَنْهُ سُقُوطَ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ عَنْهُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ فِيهِمَا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ) .
وَرُوِيَ " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ) .
وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ، وَالْجُبَارُ: الْهَدَرُ الَّذِي لَا يُضْمَنُ، وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ ضَمَانُهُ نَهَارًا سَقَطَ ضَمَانُهُ لَيْلًا كَالْوَدَائِعِ طَرْدًا وَالْغُصُوبِ عَكْسًا.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ ضَمَانُهُ لَيْلًا وَجَبَ ضَمَانُهُ نَهَارًا، كالْغُصُوبِ طَرْدًا وَالْوَدَائِعِ عَكْسًا.
وَدَلِيلُنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ لَيْلًا وَسُقُوطِهِ نَهَارًا، سُنَّةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ مَا وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78، 79] وَفِي الْحَرْثِ الَّذِي حَكَمَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنه زرع وقعت فيه الغنم ليلاً قَالَهُ قَتَادَةُ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِلَفْظِ الْحَرْثِ.
وَالثَّانِي: أنه كرم وقعت فيه الْغَنَمُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَشْهَرُ فِي النقل. {إذا نفشت فيه غنم القوم} [الأنبياء: 78] والنفش رَعْيُ اللَّيْلِ وَالْهَمْلُ: رَعْيُ النَّهَارِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي رَعْيِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ. {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] يَعْنِي: حُكْمَ دَاوُدَ وَحُكْمَ سُلَيْمَانَ، وَالَّذِي حَكَمَ به داود على ما ورد به النَّقْلُ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ الْغَنَمَ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَرْثِ عِوَضًا عَنْ فساده وكان سليمان عليه السلام حاضر الحكمة فَقَالَ: أَرَى أَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهَا وَيُدْفَعَ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، لِيُعَمِّرَهُ، فَإِذَا عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَاسْتَرْجَعَ غَنَمَهُ، فَصَوَّبَ الله تعالى حُكْمَ سُلَيْمَانَ وَبَيَّنَ خَطَأَ دَاوُدَ فَقَالَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] فَرَدَّ دَاوُدُ حُكْمَهُ، وَأَمْضَى حُكْمَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا وَعِلْمًا فِي وُجُوبِ ذلك الضمان لَيْلًا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ.

(13/467)


والثاني: معناه إن خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعِلْمٍ أَفْرَدَهُ بِهِ دُونَ الْآخَرِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أُوتِيَ حُكْمًا، وَعِلْمًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ نَقَضَ دَاوُدُ حُكْمَهُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَكَرَ الْحُكْمَ وَلَمْ يُمْضِهِ، حَتَّى بَانَ لَهُ صَوَابُ مَا حَكَمَ بِهِ سُلَيْمَانُ فَعَدَلَ إِلَيْهِ، وَحَكَمَ بِهِ وَهَذَا جَائِزٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَوَّبَ قَضَاءَ سُلَيْمَانَ فَصَارَ نَصًّا وَحُكْمُ مَا خَالَفَ النَّصَّ مَرْدُودٌ.
وَالدَّلِيلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّيْلِ والنهار وفي سُقُوطِ الضَّمَانِ، نَصٌّ صَرِيحٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَهُ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ فِي اللَّيْلِ، وَعَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ طَرِيقِ التَّنْبِيهِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى صِفَةٍ تقتضي انتفاء عِنْدَ عَدَمِهَا، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ، بِنَصٍّ صَرِيحٍ، فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ المتقدم في صدر الكتاب رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَنَّ نَاقَةً للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فَإِنْ قِيلَ: حَرَامُ بْنُ سَعْدٍ لَا صُحْبَةَ لَهُ فَكَانَ مُرْسَلًا.
قِيلَ: قَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُسْنَدًا عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سُوَيْدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ، فَأَفْسَدَتْ فيه فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَمَا أفسدت المواشي بالليل فهو ضمان على أهلها " فَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُسْنَدًا فَتَأَكَّدَ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِاللَّيْلِ، وَسُقُوطِهِ بِالنَّهَارِ لَا تأويل فيه بصرفه عَنْ ظَاهِرِ نَصِّهِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوَاشِيَ وَالزُّرُوعَ مَرْصَدَانِ لِطَلَبِ الْفَضْلِ فِيهِمَا، وَاسْتِمْدَادِ الرِّزْقِ مِنْهُمَا، وَالْفَضْلُ فِي الْمَوَاشِي بِإِرْسَالِهَا نَهَارًا، فِي مَرَاعِيهَا فَسَقَطَ حِفْظُهَا فِيهِ، وَالْفَضْلُ فِي الزُّرُوعِ، بِعَمَلِ أَهْلِهَا نَهَارًا، فِيهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ حِفْظُهَا فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ النَّوْمِ وَالدَّعَةِ، فَلَزِمَ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي فِيهِ حِفْظُهَا فِي أَفْنِيَتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَسَقَطَ فِيهِ عَنْ أَرْبَابِ الزروع حفظها لا يوائهما فِيهِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ حِفْظُ الزُّرُوعِ عَلَى أَهْلِهَا فِي النَّهَارِ، دُونَ اللَّيْلِ، وَحِفْظُ الْمَوَاشِي عَلَى أَهْلِهَا

(13/468)


بِاللَّيْلِ، دُونَ النَّهَارِ، فَلِذَلِكَ صَارَ رَعْيُ النَّهَارِ هَدَرًا لِوُجُوبِ الْحِفْظِ فِيهِ عَلَى أَرْبَابِ الزُّرُوعِ، ورعي الليل مضموناً بالوجوب، للحفظ فِيهِ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي.
وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ أَنَّ النَّهَارَ زَمَانٌ لَا يُنْسَبُ أرباب المواشي فيه إِلَى التَّفْرِيطِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُمْ ضَمَانُ ما أفسدته قياساً على غير الزروع.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، أَنَّ اللَّيْلَ زَمَانٌ، يُنْسَبُ أرباب المواشي فيه إلى التفريط؛ فوجب أن يلزمهم الضمان مَا أَفْسَدَتْ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الزُّرُوعِ.
وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ أَنَّهَا بَهَائِمُ أَفْسَدَتْ مَالًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ مُعْتَبَرًا بِجِهَةِ التَّفْرِيطِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الزُّرُوعِ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ.
فَأَمَّا جَوَابُ مَنْ أَسْقَطَ الضَّمَانَ لِقَوْلِهِ " الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ) فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّوَايَةَ " جرح العجماء) ، وَالْجَرْحُ لَا يَكُونُ فِي رَعْيِ الزُّرُوعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَعْيِ النَّهَارِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى رَعْيِ النَّهَارِ فَالْمَعْنَى فِي النَّهَارِ عَدَمُ التَّفْرِيطِ، وَفِي اللَّيْلِ وُجُودُ التَّفْرِيطِ، فَافْتَرَقَا، وأما جواب من أوجب الضمان لقوله: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ أَرْبَابِ الزُّرُوعِ بِأَوْلَى مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِتَكَافُؤِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى رَعْيِ اللَّيْلِ، فَالْمَعْنَى فِي اللَّيْلِ وُجُودُ التَّفْرِيطِ وَفِي النَّهَارِ عَدَمُهُ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذكرنَا مِنْ سُقُوطِ الضَّمَانِ فِي النَّهَارِ، وَوُجُوبِهِ فِي اللَّيْلِ فَتَكَاثَرَتِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ، حَتَّى عَجَزَ أَرْبَابُ الزُّرُوعِ عَنْ حِفْظِهَا، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الزُّرُوعِ تَقْصِيرٌ فِي الْحِفْظِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي؛ تَفْرِيطٌ فِي الْحِفْظِ.
وَعَلَى هَذَا لو أحرز أرباب المواشي مواشيهم في الليل، فَغَلَبَتْهُمْ، وَنَفَرَتْ فَرَعَتْ فِي اللَّيْلِ زَرْعًا، فَفِي وجوب الضمان وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي تَفْرِيطٌ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أرباب الزروع تقصير.

(13/469)


(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ هِرٌّ فَأَكَلَتْ حَمَامَ قَوْمٍ، أَوْ أَفْسَدَتْ طَعَامَهُمْ، أَوْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِهِمْ فَهَذَا عَلَى ضربين:
أحدهما: أن يكون الكلب والهر ضَعِيفَيْنِ غَيْرَ ضَارِيَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ أَرْبَابَهُمَا حِفْظُهُمَا ليلاً ولا نهاراً، فلا يجب عليهم ضَمَانُ مَا أَفْسَدَاهُ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ.
والضرب الثاني: أن يكون الهر قوياً ضارباً، وَالْكَلْبُ شَدِيدًا عَقُورًا، فَعَلَى أَرْبَابِهِمَا حِفْظُهُمَا فِي اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَفْسَدَاهُ لَيْلًا، وَنَهَارًا، فَيَسْتَوِي فِيهِمَا حُكْمُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُ الْمَوَاشِي فِي ضَمَانِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: السُّنَّةُ الَّتِي فَرَّقَتْ فِي الْمَوَاشِي بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَطْلَقَتْ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي حُكْمَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَالثَّانِي: الْعُرْفُ، وَالْعَادَةُ، فِي رَعْيِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ، وَحَبْسِهَا فِي اللَّيْلِ، وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْهِرِّ وَالْكَلْبِ، بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَالْوَجْهُ الثَّانِي إِنْ كَانَ الرَّجُلُ رَاكِبًا فَمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ فِيهَا أَوْ ذَنَبِهَا مِنْ نَفْسٍ أَوْ جُرْحٍ فَهُوَ ضَامِنٌ له لأن عليه منعها في تلك الحال من كل ما أتلفت به أحداً وكذلك إن كان سائقا أو قائداً وكذلك الإبل المقطورة بالبعير الذي هو عليه لأنه قائد لها وكذلك الإبل يسوقها ولا يجوز إلا ضمان ما أصابت الدابة تحت الرجل ولا يضمن إلا ما حملها عليه فوطئته فأما من ضمن عن يدها ولم يضمن عن رجلها فهذا تحكم وأما مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أن " الرجل جبار) فهو خطأ لأن الحفاظ لم يحفظوه هكذا) .
قال الماوردي: وهذا صَحِيحٌ وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضَمَانِ الْبَهَائِمِ أَنْ تَكُونَ سَائِرَةً وَلَا تَكُونُ رَاعِيَةً وَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا صَاحِبُهَا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا.
فَإِنْ كَانَ مَعَهَا صاحبها ضمن جميع ما أتلفته برأسها ويدها ورجلها وذنبها سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا. أَوْ قَائِدًا، أَوْ سَائِقًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ سَائِقًا ضَمِنَ جميع ذلك كله، كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ قَائِدًا، أَوْ رَاكِبًا ضَمِنَ ما أتلفته برأسها، ويدها، ولم يضمن ما أتلفته برجلها، وذنبها،

(13/470)


اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرِّجْلُ جُبَارٌ) وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ رَاكِبًا، أَوْ قَائِدًا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْهَا إلا رأسها ويدها فضمن مَا تَلِفَ بِهِمَا، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْهَا رِجْلَهَا، وَذَنَبَهَا، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِمَا، وَيُمْكِنُ السَّائِقُ حِفْظَ جَمِيعِهِ، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِجَمِيعِهِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا بَهِيمَةٌ مَعَهَا صَاحِبُهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِجِنَايَتِهَا كَالسَّائِقِ؛ وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ يَضْمَنُهَا سَائِقُهَا فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا راكبها، وقائدها، كالجناية برأسها ويده.
فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " الرِّجْلُ جُبَارٌ) فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أنه ضعيف عنه أصحاب الحديث قد أَنْكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَغَيْرُهُ،
وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: " الرِّجْلُ جُبَارٌ) عَلَى مَعْنَى " ذِي الرِّجْلِ جُبَارٌ) كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ، أَوْ خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ) مَعْنَاهُ فِي ذِي خُفٍّ، وَذِي حَافِرٍ، وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: " الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ) وَهُوَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا صَاحِبُهَا.
وَأَمَّا الجواب عن قولهم: إن راكبها وقائدها لا يقدر على حفظ يدها وَذَنَبِهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَاكِبَهَا وَقَائِدَهَا أضبط بها وَأَقْدَرُ عَلَى تَصَرُّفِهَا بِاخْتِيَارٍ مِنْ سَائِقِهَا؛ فَكَانَ أَوْلَى بِالضَّمَانِ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رَأْسَهَا وَيَدَهَا فِي حَقِّ سَائِقِهَا كَرِجْلِهَا وَذَنَبِهَا فِي حَقِّ قَائِدِهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءً.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا صَاحِبُهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ فَرَّطَ فِي رَبْطِهَا وَحِفْظِهَا فَاسْتَرْسَلَتْ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا أَتَلَفَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا، لِأَنَّ مَا حَدَثَ بِتَفْرِيطِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يقصر صاحبها بعد ربطها وضبطها، ويسترسل فتتلف مالاً، أو إنساناً فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنْ لَا ضَمَانَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ) ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي الْحِفْظِ فَكَانَ كَرَعْيِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ.

(13/471)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ تَفْرِيطٍ خَفِيٍّ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اصْطِدَامِ السَّفِينَتَيْنِ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَفِي وجوب الضمان قولان.

(مسألة)
قال الشافعي: " ولو أنه اوقفها فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقِفَهَا فِيهِ ضَمِنَ وَلَوْ وَقَفَهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ وُقُوفَ الدَّابَّةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ، أَوْ غَيْرِ مِلْكِهِ فَإِنْ وَقَفَهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا أَتْلَفَتْهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ، لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ التَّعَدِّي، وَإِنْ وَقَفَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقِفَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْ لِتَعَدِّيهِ بِوَقْفِهَا فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذَنِ الْمَالِكِ، فَلَا يَضْمَنُ، كَمَا لَا يَضْمَنُ إِذَا وَقَفَهَا فِي مِلْكِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقِفَهَا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْسَبَ إِلَى التَّفْرِيطِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. إِمَّا أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ ضَيِّقَةً.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ شَغِبَةً.
وَإِمَّا أَنْ يَقِفَهَا فِي وَسَطِ طَرِيقٍ فَسِيحَةٍ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَتْ لِتَعَدِّيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُنْسَبَ إِلَى تَفْرِيطٍ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَهَا بِفِنَاءِ دَارِهِ فِي طَرِيقٍ وَاسِعَةٍ وَالدَّابَّةُ غَيْرُ شَغِبَةٍ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي حَفْرِ الْبِئْرِ بِفِنَاءِ داره هل يضمن ما تلف بِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَلَوْ مَرَّ بِهَذِهِ الدَّابَّةِ الواقفة من تحتها وبعج بطنها حتى نفرت، وأتلفت، ضمن الذي بعجها مَا أَتْلَفَتْهُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَمْ يَضْمَنْهُ وَاقِفُهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَدٍّ بِمُبَاشَرَةٍ يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ السَّبَبِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا مَرَّتْ بَهِيمَةٌ لِرَجُلٍ بِجَوْهَرَةٍ لِآخَرَ، فَابْتَلَعَتْهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْبَهِيمَةِ صَاحِبُهَا فَيَضْمَنُ الْجَوْهَرَةَ، لِأَنَّ فِعْلَ البهيمة مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ شَاةً أَوْ بَعِيرًا.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ شاة يَضْمَنُ الْجَوْهَرَةَ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيرًا ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ العادة في البعير أن تضبط، وَفِي الشَّاةِ أَنْ تُرْسَلَ وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ضَمَانِ الزَّرْعِ وَسُقُوطِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ الْبَهِيمَةِ صَاحِبُهَا فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ

(13/472)


لَا يَضْمَنُ الْجَوْهَرَةَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ نَهَارًا، ويضمنها أن كان ليلاً كالزروع، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا بِخِلَافِ الزَّرْعِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ رَعْيَ الزَّرْعِ مَأْلُوفٌ، فَلَزِمَ حِفْظُهُ مِنْهَا، وَابْتِلَاعَ الْجَوْهَرَةِ غَيْرُ مَأْلُوفٍ فَلَمْ يَلْزَمْ حِفْظُهَا مِنْهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضامنها؛ فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ ذَبْحَ الْبَهِيمَةِ لِيَسْتَرْجِعَ جَوْهَرَتَهُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبَهِيمَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَأْكُولَةً، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ فَإِنْ كَانَتْ غير مأكولة؛ لم تذبح، وغرم صَاحِبُهَا، قِيمَةَ الْجَوْهَرَةِ، فَإِنْ دُفِعَتِ الْقِيمَةُ، ثُمَّ مَاتْتِ الْبَهِيمَةُ، وَأُخْرِجَتِ الْجَوْهَرَةُ مِنْ جَوْفِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَمْلِكُهَا صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُعَادُ إِلَى صاحبها وتسترجع قيمة البهمية، لِأَنَّهَا عَيْنُ مَالِهِ، فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِالِابْتِلَاعِ ضمن صاحب البهيمة قدر نقصها، فإن كَانَتِ الْبَهِيمَةُ مَأْكُولَةً فَفِي ذَبْحِهَا لِاسْتِرْجَاعِ الْجَوْهَرَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُذْبَحُ لِأَجْلِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَصَّلُ إِلَى رَدِّهَا بِوَجْهٍ مُبَاحٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُذْبَحُ وَتَكُونُ كَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا أَدْخَلَتِ الْبَهِيمَةُ رَأْسَهَا فِي إِنَاءٍ لِرَجُلٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ خَلَاصُهَا إِلَّا بِذَبْحِهَا، أَوْ كَسْرِ الْإِنَاءِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أن يكون صاحب البهيمة غير متعد لوضعها في حقه وصاحب الإناء متعد لوضعه فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَالْإِنَاءُ غَيْرُ مَضْمُونٍ لِتَعَدِّي صَاحِبِهِ؛ فَيُكْسَرُ لِخَلَاصِ الْبَهِيمَةِ، وَيَكُونُ مَا لَا يُمْكِنُ خَلَاصُ الْبَهِيمَةِ، إِلَّا بِكَسْرِهِ فَكَسْرُهُ هَدَرٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَضْمُونًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ مُتَعَدِّيًا وَصَاحِبُ الْإِنَاءِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ؛ فَيَكُونُ الْإِنَاءُ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ لِتَعَدِّيهِ بِهَا وَيُنْظَرُ فِي الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كُسِرَ الْإِنَاءُ لِاسْتِخْلَاصِهَا، وَضَمِنَهُ صَاحِبُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَيُسْتَخْلَصُ الْإِنَاءُ.
وَالثَّانِي: يُكْسَرُ الْإِنَاءُ وَيُضْمَنُ لِصَاحِبِهِ كَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدِّيًا، فَيَكُونُ الضَّمَانُ بِصَاحِبِ البهيمة أخص؛ لأن لها فعلاً اختص بزيادة التعدي، فيكون كَمَا لَوْ تَعَدَّى صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ، وَلَمْ يَتَعَدَّ صَاحِبُ الْإِنَاءِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أضرب:

(13/473)


أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ صَاحِبُ الْإِنَاءِ بِالْبَهِيمَةِ، وَلَا يَعْلَمَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِالْإِنَاءِ، فَيَخْتَصُّ الْحِفْظُ بِصَاحِبِ الْإِنَاءِ، وَيَكُونُ إِنَاؤُهُ هَدَرًا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِالْإِنَاءِ، وَلَا يَعْلَمَ صَاحِبُ الْإِنَاءِ بِالْبَهِيمَةِ، فَيَخْتَصُّ الْحِفْظُ بِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ، وَيَكُونُ الْإِنَاءُ مَضْمُونًا كَالْقِسْمِ الثَّانِي.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ؛ فَيَصِيرُ الْحِفْظُ عَلَيْهِمَا، وَيَكُونُ الضَّمَانُ بِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ أَخَصَّ لِزِيَادَةِ فِعْلِهَا كَالْقِسْمِ الثَّالِثِ.
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْآخَرِ، فَفِي ضَمَانِ الْإِنَاءِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اختلاف الوجهين من ضمان البهيمة إذا وقفت بفناء داره، فأتلفت.
أحد الوجهين: أَنَّ الْإِنَاءَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ، فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي كَسْرِهِ لِخَلَاصِ الْبَهِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الثَّانِي فِي اعْتِبَارِ حَالِ الْبَهِيمَةِ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ؛ لَمْ تُذْبَحْ وَكُسِرَ الْإِنَاءُ لِخَلَاصِهَا وَضُمِنَ، وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، فَفِي ذَبْحِهَا وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى.

(مسألة)
قال الشافعي: " ولو جعل في داره كلبا عقوراً أو حبالة فَدَخَلَ إِنْسَانٌ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ (قال المزني) وسواء عندي أذن له في الدخول أو لم يأذن له) .
قال الماوردي: فقد مضت مثل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فِي دَارِهِ، فَإِذَا رَبَطَ فِي دَارِهِ سَبُعًا، أَوْ كَلْبًا عَقُورًا، أَوْ نَصَبَ فِيهَا أُحْبُولَةً، أَوْ شَرَكًا فَدَخَلَ إِلَيْهَا مَنْ هَلَكَ بِهَا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا، فَنَفْسُهُ هَدَرٌ لِتَعَدِّيهِ بِالدُّخُولِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يكرهه رب الدار على الدخول فيها فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِلَ الْإِكْرَاهُ بِالتَّلَفِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِتَعَدِّيهِ بِالْإِكْرَاهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَّصِلَ الْإِكْرَاهُ بِالتَّلَفِ، فَفِي اسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مستصحب الحكم إلى التَّلَفِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُكْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ زَالَ حُكْمُهُ بِانْقِطَاعِهِ فَيَكُونُ كَغَيْرِ الْمُكْرَهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْذَنَ وَلَا يكره فإن علم الدَّاخِلُ بِالْحَالِ، أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ مُضِيئًا وَالدَّاخِلُ بصيراً، أو كان التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ مُمْكِنًا، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، ونفس الداخل

(13/474)


هدر، وإن لم يعلمه بالحال، وكان الموضع مظلماً، أو كانت الدَّاخِلُ ضَرِيرًا، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِالسَّبَبِ، وَلَا مُبَاشِرٍ لِلتَّلَفِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَخَرَجَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ سَمَّ طَعَامًا، وَأُذِنَ فِي أَكْلِهِ، لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ؛ لِمَا يَخْفَى تَلَفُهُ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا أَوْقَدَ نَارًا فِي دَارِهِ، أَوْ سَجَّرَ بِهَا تَنُّورًا، فَطَارَ مِنْ شَرَرِ النَّارِ مَا أَتْلَفَ، وَأَحْرَقَ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غير متعد، وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ قَالَ: " النَّارُ جُبَارٌ) وَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِبَاحَةُ النَّارِ، وَأَنَّ مَنِ اقْتَبَسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ له قِيمَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْقَدَهَا فِي حَقِّهِ، فَتَعَدَّتْ إِلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَغْرَمْ مُوقِدُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ، وَأَمَّا إِذَا أَحْرَقَ بِهَا حَشِيشًا فِي أَرْضِهِ، فَتَعَدَّتِ النَّارُ إِلَى زَرْعِ جَارِهِ، فَأَحْرَقَتْهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَرْعُ الْجَارِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِحَشِيشِ صَاحِبِ النَّارِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَضْمَنُ صَاحِبُ التَّنُّورِ مَا أَطَارَتْهُ الرِّيحُ مِنْ شَرَرِ نَارِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ النَّابِتُ مُتَّصِلًا بِالْحَشِيشِ الْمَحْرُوقِ فَيَنْظُرُ فِي صِفَةِ الرِّيحِ وَقْتَ إِلْقَاءِ النَّارِ، فَإِنْ كَانَتْ مَصْرُوفَةً عَنْ جِهَةِ الزَّرْعِ بِهُبُوبِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ هُبُوبُهَا إِلَى جِهَةِ الزَّرْعِ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يجب؛ لأن من طبع النار أن تسري إِلَى جِهَةِ الرِّيحِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ هُبُوبَ الرِّيحِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي أَرْضِهِ فَخَرَجَ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ، فَأَفْسَدَهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَرْسَلَهُ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ بِقَدْرِ حَاجَتِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْجَزَ عَنْ حَبْسِ الزِّيَادَةِ لِطُغْيَانِ الْمَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى حَبْسِهِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ:

(13/475)


أَحَدُهُمَا: يَجِبُ؛ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِ الْمَاءِ أَنْ يَجْرِيَ وَيَفِيضَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْجَارَ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ بحظيرة تصد عنه، والله أعلم بالصواب.

(13/476)