المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 1 ص -110-       قالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: باب الآنية.
"كُلُّ حَيَوَانٍ نَجِسَ بِالْمَوْتِ طَهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ وَهُوَ مَا عَدَا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" وَلِأَنَّ الدِّبَاغَ يَحْفَظُ الصِّحَّةُ عَلَى الْجِلْدِ وَيَصْلُحُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَيَاةِ ثُمَّ الْحَيَاةُ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ الْجِلْدِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ، وَأَمَّا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُمَا بِالدِّبَاغِ لِأَنَّ الدِّبَاغَ كَالْحَيَاةِ ثُمَّ الْحَيَاةُ لَا تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ".
الشرح:الْآنِيَةُ جَمْعُ إنَاءٍ وَجَمْعُ الْآنِيَةِ الْأَوَانِي، فَالْإِنَاءُ مُفْرَدٌ وَجَمْعُهُ آنِيَةٌ وَالْأَوَانِي جَمْعُ الْجَمْعِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ إلَّا مَجَازًا. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْغَزَالِيِّ رحمه الله وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ الْآنِيَةَ فِي الْمُفْرَدِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي اللُّغَةِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَمْعُ الْإِنَاءِ آنِيَةٌ وَجَمْعُ الْآنِيَةِ الْأَوَانِي كَسِقَاءٍ وَأَسْقِيَةٍ وَأَسَاقٍ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَمَّا مُسْلِمٌ فَذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَأَمَّا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ فَفِي كِتَابِ اللِّبَاسِ وَالنَّسَائِيِّ فِي الذَّبَائِحِ وَهَذَا الْمَذْكُورُ لَفْظُ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَقَلِيلِينَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَآخَرِينَ فَفِيهَا "إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" وَقَدْ جَمَعْتُ طُرُقَهُ وَاخْتِلَافَ أَلْفَاظِهِ فِي كِتَابِ جَامِعِ السُّنَّةِ. وَيُقَالُ طَهُرَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
وَأَمَّا الْإِهَابُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَجَمْعُهُ أُهُبٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ، وَأَهَبٌ بِفَتْحِهِمَا لُغَتَانِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيهِ فَقَالَ إمَامُ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ رحمه الله الْإِهَابُ هُوَ الْجِلْدُ قَبْلَ أَنْ يُدْبَغَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ فِي سُنَنِهِ وَحَكَاهُ عَنْ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، وَكَذَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ فِي شَرْحِ أَلْفَاظِ "المختصر" وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ الْجِلْدُ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِمَا لَمْ يُدْبَغْ.
الْخِنْزِيرُ مَعْرُوفٌ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي نُونِهِ هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ أَمْ أَصْلِيَّةٌ ؟ وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي " تهذيب الأسماء واللغات".
 وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: " فَكُلُّ حَيَوَانٍ نَجِسَ بِالْمَوْتِ " فَمَعْنَاهُ حَكَمْنَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنَّهُ نَجَسٌ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ فَلِهَذَا اسْتَثْنَاهُ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ: مَا عَدَا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ، وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَزَعَمَ أَنَّ بِقَوْلِهِ: " نَجِسَ بِالْمَوْتِ " يَخْرُجُ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ بَلْ كَانَ نَجِسًا قَبْلَهُ وَاسْتَمَرَّتْ نَجَاسَتُهُ، هَذَا الْإِنْكَارُ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا حَصَلَ الْإِنْكَارُ لِحَمْلِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمسألة: فَكُلُّ الْجُلُودِ النَّجِسَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إلَّا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمُتَوَلَّدَ

 

ج / 1 ص -111-       مِنْ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَسَنَذْكُرُ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَرْعٍ، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَيْسَ بِنَجَسٍ. حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الْقَطَّانِ قَالَ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالدَّبْغِ بِسَبَبِ الزُّهُومَةِ الَّتِي فِي الْجِلْدِ فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ فَيُؤْمَرُ بِالدَّبْغِ لِإِزَالَتِهَا كَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ وَغَايَةِ الشُّذُوذِ، وَفَسَادُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" .
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْجِلْدَ نَجَسُ الْعَيْنِ فَتُحْمَلُ الطَّهَارَةُ فِيهِ عَلَى الطَّهَارَةِ مِنْ نَجَاسَةِ الْمُجَاوَرَةِ بِالزُّهُومَةِ كَمَا يُقَالُ: طَهُرَ ثَوْبُهُ إذَا غُسِلَ مِنْ النَّجَاسَةِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ يُعَضِّدُهُ وَلَا حَاجَةَ تَسْنُدُهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ، وَتَخْصِيصُهُ الْجِلْدَ بِالطَّهَارَةِ دُونَ بَاقِي الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ دَلِيلٌ عَلَى تَنَاقُضِ قَوْلِهِ وَقَدْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ نَجَسٌ، وَكَذَا صَرَّحَ بِنَقْلِ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ آخَرُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَفَرْعُ أَحَدِهِمَا فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَوْلُهُ: فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهَا بِالدِّبَاغِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ جِلْدُهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، فَالتَّثْنِيَةُ تَعُودُ إلَى النَّوْعَيْنِ، وَقَوْلُهُ:  جِلْدُهَا يَعُودُ إلَى الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَاَللَّذَانِ بَعْدَهُمَا وَأَمَّا قَوْلُهُ:كُلُّ حَيَوَانٍ نَجِسَ بِالْمَوْتِ فَاحْتِرَازٌ مِمَّا لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بَلْ يَبْقَى طَاهِرًا، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْحَاوِي: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالْجَنِينُ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ أَوْ السَّهْمُ بِشَرْطِهِ، وَالْخَامِسُ الْآدَمِيُّ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. فَهَذِهِ مَيْتَاتٌ طَاهِرٌ لَحْمُهَا وَجِلْدُهَا، فَأَمَّا الْجَرَادُ فَلَا جِلْدَ لَهُ وَالسَّمَكُ مِنْهُ مَا لَا جِلْدَ لَهُ وَمِنْهُ مَا لَهُ جِلْدٌ كَعَظِيمِ حِيتَانِ الْبَحْرِ، وَالْجَنِينُ وَالصَّيْدُ لَهُمَا جِلْدٌ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِلَا دِبَاغِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ مِنْ بَيْعٍ وَاسْتِعْمَالٍ فِي يَابِسٍ وَرَطْبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
 وَأَمَّا الْآدَمِيُّ فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ فَجِلْدُهُ طَاهِرٌ لَكِنْ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ جِلْدِهِ وَلَا شَيْءَ مِنْ أَجْزَائِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِحُرْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ، اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَصَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَخَلَائِقُ، قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي الِاسْتِذْكَارِ: لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ أَنَّ دِبَاغَ جُلُودِ بَنِي آدَمَ وَاسْتِعْمَالَهَا حَرَامٌ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ كِتَابِ الْإِجْمَاعِ1 إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِ سَلْخِ جِلْدِ الْآدَمِيِّ وَاسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الضَّعِيفِ: أَنَّ الْآدَمِيَّ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ فَجِلْدُهُ نَجِسٌ وَهَلْ يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ يَطْهُرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ وَالْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: كُلُّ جِلْدٍ نَجِسَ بِالْمَوْتِ طَهُرَ بِالدِّبَاغِ وَدَلِيلُهُ عُمُومُ الْحَدِيثِ:
"أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" وَالْوَجْهُ الثَّانِي:   لَا يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ لِأَنَّ دِبَاغَهُ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِامْتِهَانِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يَحْرُمُ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ حُصُولُ الِامْتِهَانِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ، وَأَغْرَبَ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَذَكَرَا وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى دِبَاغُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو كتاب " مراتب الاإجماع " وابن حزم أذكى وأفقه من إمام مذهبه داود بن علي ولعله أوثق منه رواية (ط)

 

ج / 1 ص -112-       فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ.
هِيَ سَبْعَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا: لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ شَيْءٌ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جِلْدُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي دَاوُد وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَالثَّالِثُ: يَطْهُرُ بِهِ كُلُّ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إلَّا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمُتَوَلَّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما وَالرَّابِعُ: يَطْهُرُ بِهِ الْجَمِيعُ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْخَامِسُ: يَطْهُرُ الْجَمِيعُ وَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ إلَّا أَنَّهُ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لَا فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِيمَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْهُ. وَالسَّادِسُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جَمِيعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَالَ دَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَالسَّابِعُ: يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ حَكَوْهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
وَاحْتَجَّ لِأَحْمَدَ وَمُوَافِقِيهِ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:
"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ" وَهُوَ عَامٌّ فِي الْجِلْدِ وَغَيْرِهِ وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ "أَلَّا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ" وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ عُمْدَتُهُمْ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَطْهُرْ بِشَيْءٍ كَاللَّحْمِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نَجِسَ بِهِ هُوَ الْمَوْتُ وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ لَا يَزُولُ بِالدَّبْغِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ: "إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ"وَأَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" وَهُمَا صَحِيحَانِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: هَلَّا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ: "إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي  صَحِيحَيْهِمَا مِنْ طُرُقٍ، أَمَّا مُسْلِمٌ فَرَوَاهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْهَا كِتَابُ الزَّكَاةِ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَغَيْرِهِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ وَالْحُفَّاظِ جَعَلَهُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ كَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ مَوَاضِعُهُ مِنْ الْبُخَارِيِّ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلَانَةُ تَعْنِي الشَّاةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَهَلَّا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا ؟ فَقَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ" وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ" حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَآخَرُونَ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ. وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ فِي اللِّبَاسِ، وَالنَّسَائِيِّ فِي الذَّبَائِحِ. وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ سِقَاءٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ مَيْتَةٌ فَقَالَ: دِبَاغُهُ يَذْهَبُ بِخَبَثِهِ أَوْ نَجَسِهِ أَوْ رِجْسِهِ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى "الصحيحين" وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ.

 

ج / 1 ص -113-       وَبِحَدِيثِ جَوْنِ بِفَتْحِ الْجِيمِ ابْنِ قَتَادَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَكَسْرِهَا رضي الله عنه "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ قَالَتْ: مَا عِنْدِي إلَّا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا ؟ قَالَتْ: بَلَى قَالَ: فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، إلَّا أَنَّ جَوْنًا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ مَجْهُولٌ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ مَعْرُوفٌ. وَفِي الْمسألة:أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، وَلِأَنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ كَجِلْدِ الْمُذَكَّاةِ إذَا تَنَجَّسَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا عَامَّةٌ خَصَّتْهَا السُّنَّةُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ قَالَ  التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ: وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ هَذَا لِقَوْلِهِ: " قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرَيْنِ " وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا آخِرُ الْأَمْرِ، قَالَ: ثُمَّ تَرَكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هَذَا الْحَدِيثَ لَمَّا اضْطَرَبُوا فِي إسْنَادِهِ حَيْثُ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ عُكَيْمٍ1 عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ. هَذَا كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ " قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ " وَرُوِيَ " بِشَهْرَيْنِ " وَرُوِيَ  بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا  قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ وَآخَرُونَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ وَابْنُ عُكَيْمٍ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ الدِّبَاغِ وَوَهَّنُوا هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّ ابْنَ عُكَيْمٍ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ كِتَابٍ أَتَاهُمْ، وَعَلَّلُوهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، وَعَنْ مَشْيَخَةٍ مَجْهُولِينَ لَمْ تَثْبُتْ صُحْبَتُهُمْ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أحدها: مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ والثاني: أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ كَمَا سَبَقَ وَكَمَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ قَالَهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ هُوَ وَغَيْرُهُ وَجْهَ ضَعْفِهِ كَمَا سَبَقَ الثالث: أَنَّهُ كِتَابٌ، وَأَخْبَارُنَا سَمَاعٌ وَأَصَحُّ إسْنَادًا وَأَكْثَرُ رُوَاةً وَسَالِمَةٌ مِنْ الِاضْطِرَابِ فَهِيَ أَقْوَى وَأَوْلَى الرابع: أَنَّهُ عَامٌّ فِي النَّهْيِ، وَأَخْبَارُنَا مُخَصِّصَةٌ لِلنَّهْيِ بِمَا قَبْلَ الدِّبَاغِ مُصَرِّحَةٌ بِجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ. والخامس: أَنَّ الْإِهَابَ الْجِلْدُ قَبْلَ دِبَاغِهِ وَلَا يُسَمَّى إهَابًا بَعْدَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ وَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ وَأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ وَالْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَلْ النَّهْيُ لِمَا قَبْلَ الدِّبَاغِ تَصْرِيحًا.
فَإِنْ قَالُوا: خَبَرُنَا مُتَأَخِّرٌ فَقُدِّمَ، فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ أحدها: لَا نُسَلِّمُ  تَأَخُّرَهُ عَلَى أَخْبَارِنَا لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِدُونِ شَهْرَيْنِ وَشَهْرٍ الثاني: أَنَّهُ رُوِيَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ وَرُوِيَ شَهْرَيْنِ وَرُوِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا سَبَقَ، وَكَثِيرٌ مِنْ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهَا تَارِيخٌ، وَكَذَا هُوَ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن عبد البر في "الاستيعاب ": عبد الله بن عكيم الجهني يكنى أبا معبد ، اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم حديثه عنه صلى الله عليه وسلم
" من علق شيئا وكل إليه " وهو القائل: حاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض حهينة قبل وفاته بشهر وساق الحديث (ط)

 

ج / 1 ص -114-       رِوَايَتَيْ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا. فَحَصَلَ فِيهِ نَوْعُ اضْطِرَابٍ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ تَارِيخٌ يُعْتَمَدُ  الثَّالِثُ: لَوْ سَلِمَ تَأَخُّرَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ لِأَنَّهُ عَامٌّ، وَأَخْبَارُنَا خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ الْجَمَاهِيرِ مِنْ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى اللَّحْمِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ نُصُوصٍ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ والثاني: أَنَّ الدِّبَاغَ فِي اللَّحْمِ لَا يَتَأَتَّى وَلَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، بَلْ يَمْحَقُهُ بِخِلَافِ الْجِلْدِ فَإِنَّهُ يُنَظِّفُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيُصَلِّبُهُ، وَبِهَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: الْعِلَّةُ فِي التَّنْجِيسِ الْمَوْتُ وَهُوَ قَائِمٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ فَاحْتَجَّ لَهُمْ بِمَا رَوَى أَبُو الْمَلِيحِ عَامِرُ بْنُ أُسَامَةَ 1عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ "نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ أَنْ تُفْتَرَشَ" ، قَالُوا: فَلَوْ كَانَتْ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لَمْ يَنْهَ عَنْ افْتِرَاشِهَا مُطْلَقًا، وَبِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ: "دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ" قَالُوا: وَذَكَاةُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَا تُطَهِّرُهُ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ فَلَمْ يَطْهُرْ جِلْدُهُ بِالدَّبْغِ كَالْكَلْبِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" وَبِحَدِيثِ: "إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" وَهُمَا صَحِيحَانِ كَمَا سَبَقَ، وَهُمَا عَامَّانِ لِكُلِّ جِلْدٍ. وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ" وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ كَمَا سَبَقَ. وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْمُسْتَدْرَكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ فَهِيَ  عَلَى عُمُومِهَا إلَّا مَا أَجْمَعْنَا عَلَى تَخْصِيصِهِ وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ فَإِنْ قَالُوا: جِلْدُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَا يُسَمَّى إهَابًا كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ الْخَطَّابِيُّ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا خِلَافُ لُغَةٍ الْعَرَبِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَتْ الْعَرَبُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ إهَابًا وَأَنْشَدَ فِيهِ قَوْلَ عَنْتَرَةَ:

فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ إهَابَهُ.                                                                         

أَرَادَ رَجُلًا لَقِيَهُ فِي الْحَرْبِ فَانْتَظَمَ جِلْدَهُ بِسِنَانِ رُمْحِهِ، وَأَنْشَدَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ فِيهِ أَبْيَاتًا كَثِيرَةً مِنْهَا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

لَا يَدَّخِرَانِ مِنْ الْإِيغَامِ بَاقِيَة                      حَتَّى تَكَادَ تُفْرَى عَنْهُمَا الْأُهُبُ

وَعَنْ عَائِشَةَ فِي وَصْفِهَا أَبِيهَا رضي الله عنهما قَالَتْ: " وَحَقَنَ الدِّمَاءَ فِي أُهُبِهَا " تُرِيدُ دِمَاءَ النَّاسِ، وَهَذَا مَشْهُورٌ لَا حَاجَةَ إلَى الْإِطَالَةِ فِيهِ وَلِأَنَّهُ جِلْدُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَأَشْبَهَ الْمَأْكُولَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أسامة بن عمر الهذلي بصري له صحبة وروايةلم يرد عن أسامة هذا غير ابنه أبي المليح عامر(ط)

 

ج / 1 ص -115-       وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِهِمْ الْأَوَّلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحْسَنُهُمَا وَأَصَحُّهُمَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ غَيْرُهُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهَا لَا يُزَالُ عَنْهَا الشَّعْرُ فِي الْعَادَةِ، لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقْصَدُ لِلشَّعْرِ كَجُلُودِ الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ. فَإِذَا دُبِغَتْ بَقِيَ الشَّعْرُ نَجِسًا فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، فَلِهَذَا نُهِيَ عَنْهَا الثاني: أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الدَّبْغِ، كَذَا أَجَابَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ ضَعِيفٌ، إذْ لَا مَعْنًى لِتَخْصِيصِ السِّبَاعِ حِينَئِذٍ بَلْ كُلُّ الْجُلُودِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّهَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ قَبْلَ الدِّبَاغِ غَالِبًا أَوْ كَثِيرًا.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَسْلَمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ دِبَاغَ الْأَدِيمِ مُطَهِّرٌ لَهُ وَمُبِيحٌ لِاسْتِعْمَالِهِ كَالذَّكَاةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَلْبِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ نَجِسٌ فِي حَيَاتِهِ فَلَا يَزِيدُ الدِّبَاغُ عَلَى الْحَيَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ جِلْدُ الْكَلْبِ، وَدَاوُد فِي قَوْلِهِ وَالْخِنْزِيرُ فَاحْتَجَّ لَهُمَا بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْحِمَارِ وَغَيْرِهِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَحَادِيثَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا فَتَرَكْتُهَا لِأَنِّي الْتَزَمْتُ فِي خُطْبَةِ الْكِتَابِ الْإِعْرَاضَ عَنْ الدَّلَائِلِ الْوَاهِيَةِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَيَاةَ أَقْوَى مِنْ الدِّبَاغِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا سَبَبٌ لِطَهَارَةِ الْجُمْلَةِ، وَالدِّبَاغُ إنَّمَا يُطَهِّرُ  الْجِلْدَ، فَإِذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ لَا تُطَهِّرُ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ فَالدِّبَاغُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا تَزُولُ بِالْمُعَالَجَةِ إذَا كَانَتْ طَارِئَةً كَثَوْبٍ تَنَجَّسَ، أَمَّا إذَا كَانَتْ لَازِمَةً لِلْعَيْنِ فَلَا، كَالْعَذِرَةِ وَالرَّوْثِ فَكَذَا الْكَلْبُ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْأَحَادِيثِ فَأَجَابَ الْأَصْحَابُ لِأَنَّهَا عَامَّةٌ مَخْصُوصَةٌ بِغَيْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَوَابٌ آخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى إخْرَاجِ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْعُمُومِ، وَالْكَلْبُ فِي مَعْنَاهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحِمَارِ فَالْفَرْقُ أَنَّهُ طَاهِرٌ فِي الْحَيَاةِ فَرَدَّهُ الدِّبَاغُ إلَى أَصْلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ فَاحْتَجُّوا فِي طَهَارَةِ ظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ بِأَنَّ الدِّبَاغَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ كَحَدِيثِ: "إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" وَغَيْرِهِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَبِحَدِيثِ سَوْدَةَ الْمُتَقَدِّمِ قَالَتْ: "مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا وَهُوَ جِلْدُهَا فَمَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا" حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْمسألة:فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي مَائِعٍ وَهُمْ لَا يُجِيزُونَهُ، وَإِنْ كَانُوا يُجِيزُونَ شُرْبَ الْمَاءِ مِنْهُ؛  لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ عِنْدَهُمْ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّ مَا طَهُرَ ظَاهِرُهُ طَهُرَ بَاطِنُهُ كَالذَّكَاةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّمَا يُؤَثِّرُ الدِّبَاغُ فِي الظَّاهِرِ. فَمِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ أَيْضًا بِانْتِزَاعِ الْفَضَلَاتِ وَتَنْشِيفِ رُطُوبَاتِهِ الْمُعَفَّنَةِ كَتَأْثِيرِهِ فِي الظَّاهِرِ والثاني: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَاحْتَجَّ بِرِوَايَةٍ جَاءَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ" وَلَمْ يَذْكُرْ الدِّبَاغَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ، وَأَمَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَمُطْلَقَةٌ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَاتِ الْمَشْهُورَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ مَذَاهِبَ السَّلَفِ بِنَحْوِ مَا سَبَقَ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَسْتَنِدُ عَلَى هَذَا

 

ج / 1 ص -116-       السِّبْرِ1 غَيْرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ يُؤَثِّرُ الدِّبَاغُ  فِي الْمَأْكُولِ خَاصَّةً تَعَلَّقُوا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ مُسْتَقِلٌّ بِالْإِفَادَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَطَّرِدْ مَذْهَبُهُ فِي الْخِنْزِيرِ عَمَلًا بِالْعُمُومِ وَلَا يُظْهِرُ فَرْقٌ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ نَظَرَ إلَى مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْأَشْيَاءِ الْجَائِزَةِ كَالْقَرَظِ، وَغَاصَ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نَجَاسَةِ الْجُلُودِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهَا بِانْقِطَاعِ الْحَيَاةِ عَنْهَا تَتَعَرَّضُ لِلْبِلَى وَالْعَفَنِ وَالنَّتْنِ، فَإِذَا دُبِغَتْ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلتَّغَيُّرِ، وَقَدْ بَطَلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ وَامْتَنَعَ التَّعْمِيمُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي جِلْدِ الْخِنْزِيرِ، وَأَرْشَدَ2 الدِّبَاغُ إلَى مَعْنًى يُضَاهِي بِهِ الْمَدْبُوغُ الْحَيَوَانَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْحَيَاةَ دَافِعَةٌ لِلْعَفِنِ، وَالْمَوْتُ جَالِبٌ لَهُ، وَالدِّبَاغُ يَرُدُّهُ إلَى مُضَاهَاةِ الْحَيَاةِ فِي السَّلَامَةِ مِنْ التَّغَيُّرِ، فَانْتَظَمَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ الْمَدْبُوغِ بِالْحَيِّ فَقَالَ: كُلُّ مَا كَانَ فِي الْحَيَاةِ طَاهِرًا عَادَ جِلْدُهُ بِالدَّبْغِ طَاهِرًا، وَمَا كَانَ نَجَسًا لَا يَطْهُرُ، ثُمَّ ثَبَتَ عِنْدَهُ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ مِنْ نَجَاسَةِ لُعَابِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجُوزُ الدِّبَاغُ بِكُلِّ مَا يُنَشِّفُ فُضُولَ الْجِلْدِ وَيُطَيِّبُهُ وَيَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ كَالشَّثِّ وَالْقَرَظِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْمَلُ عَمَلَهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"أَلَيْسَ فِي الْمَاءِ وَالْقَرَظِ مَا يُطَهِّرُهُ ؟" فَنَصَّ عَلَى الْقَرَظِ لِأَنَّهُ يُصْلِحُ الْجِلْدَ وَيُطَيِّبُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بِكُلِّ مَا عَمِلَ عَمَلَهُ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الْإِمَامَانِ الْحَافِظَانِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ عَلِيٍّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَيْتَةٍ فَقَالَ:
هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ: إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا، أَوَ لَيْسَ فِي الْمَاءِ وَالْقَرَظِ مَا يُطَهِّرُهَا ؟" وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ فِي سُنَنِهِمَا بِمَعْنَاهُ عَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الْحِمَارِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم  لَوْ أَخَذْتُمْ إهَابَهَا ؟ قَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُطَهِّرُهَا الْمَاءَ وَالْقَرَظَ" . هَكَذَا جَاءَتْ رِوَايَاتُ الْحَدِيثِ بِطُهْرِهَا بِالتَّأْنِيثِ وَوَقَعَ فِي "المهذب"يُطَهِّرُهُ " وَهُوَ تَحْرِيفٌ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا، وَالْقَرَظُ بِالظَّاءِ لَا بِالضَّادِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا فَلَا يَضُرُّ " التنبيه" عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ مُصَحَّفًا.
وَالْقَرَظُ3: وَرَقُ شَجَرِ السَّلَمِ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ وَمِنْهُ أَدِيمٌ مَقْرُوظٌ أَيْ: مَدْبُوغٌ بِالْقَرَظِ، قَالُوا: وَالْقَرَظُ يَنْبُتُ بِنَوَاحِي تِهَامَةَ، وَأَمَّا الشَّثُّ فَضَبْطُهَا فِي "المهذب" بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ الشَّبُّ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ مِنْ الْجَوَاهِرِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يُدْبَغُ بِهِ يُشْبِهُ الزَّاجَ قَالَ: وَالسَّمَاعُ فِيهِ الشَّبُّ يَعْنِي بِالْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ الشَّثُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السبر كلمة اصطلاحية عند علماء أصول الفقه وأصلها في اللغة فتيلة توضع في الجرح لمعرفة عمقه ، وكأنها استعملت في معناها مجازا عندهم .(ط)
2 لعل مضافا محذوفا تقديره :( حديث ) .فنقول: وأرشد حديد الدباغ (ط)
3 العامة في الديار المصرية تسمية شجر السنط والقرظ  ثمرة وليس ورقه (ط)

 

ج / 1 ص -117-       يَعْنِي بِالْمُثَلَّثَةِ قَالَ: وَالشَّثُّ بِالْمُثَلَّثَةِ شَجَرٌ مُرُّ الطَّعْمِ لَا أَدْرِي أَيُدْبَغُ بِهِ أَمْ لَا ؟ هَذَا كَلَامُ الْأَزْهَرِيِّ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ صَاحِبَ الشَّامِلِ وَالْبَحْرِ. وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْفَرَجِ الدَّارِمِيُّ بِالْمُثَلَّثَةِ. وَفِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ الشَّثُّ بِالْمُثَلَّثَةِ: نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ مُرُّ الطَّعْمِ يُدْبَغُ بِهِ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ قَالَ أَصْحَابُنَا: الشَّثُّ يَعْنِي بِالْمُثَلَّثَةِ، قَالَ: وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ الْأَمْرَانِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالدِّبَاغُ بِهِ جَائِزٌ، وَصَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَآخَرُونَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ بِالشَّبِّ وَالشَّثِّ جَمِيعًا وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّبِّ وَلَا الشَّثِّ ذِكْرٌ فِي حَدِيثِ الدِّبَاغِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ قَالَ رحمه الله: وَالدِّبَاغُ بِمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَدْبُغُ بِهِ وَهُوَ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ "الحاوي" وَغَيْرُهُ: جَاءَ فِي الْحَدِيثِ النَّصُّ عَلَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ، كَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ الْأَصْحَابِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيقِهِ: الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ مَيْمُونَةَ الَّذِي قَدَّمْتُهُ وَقَالَ: هَذَا هُوَ الَّذِي أَعْرِفُهُ مَرْوِيًّا، قَالَ: وَأَصْحَابُنَا يَرْوُونَ: "يُطَهِّرُهُ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ" وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الدِّبَاغَ لَا يَخْتَصُّ بِالشَّبِّ وَالْقَرَظِ، بَلْ يَجُوزُ بِكُلِّ مَا عَمِلَ عَمَلَهَا كَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَالْعَفْصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: يَجُوزُ الدِّبَاغُ بِكُلِّ شَيْءٍ قَامَ مَقَامَ الْقَرَظِ مِنْ الْعَفْصِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَغَيْرِهِمَا إذَا نَظَّفَ الْفُضُولَ وَاسْتَخْرَجَهَا مِنْ بَاطِنِ الْجِلْدِ وَحَفِظَهُ مِنْ أَنْ يُسْرِعَ إلَيْهِ الْفَسَادُ، قَالَ: وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الصَّنْعَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجَمَاهِيرُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ فِيهِ قَوْلَيْنِ أحدهما: هَذَا والثاني: لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ الشَّبِّ وَالْقَرَظِ كَمَا يَخْتَصُّ وُلُوغُ الْكَلْبِ بِالتُّرَابِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ أَيْضًا وَجْهًا فِي اخْتِصَاصِهِ بِالشَّثِّ وَالْقَرَظِ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَطْلَقَ الدِّبَاغَ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَدْبُغُ بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ فَوَجَبَ جَوَازُهُ بِكُلِّ مَا حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُ الدِّبَاغِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُلُوغِ الْكَلْبِ أَنَّ الدِّبَاغَ إحَالَةٌ فَحَصَلَ بِمَا تَحْصُلُ بِهِ الْإِحَالَةُ، وَالْوُلُوغُ إزَالَةُ نَجَاسَةٍ دَخَلَهَا التَّعَبُّدُ فَاخْتَصَّتْ بِالتُّرَابِ كَالتَّيَمُّمِ وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ جَوَازُ الدِّبَاغِ بِكُلِّ مَا حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الطَّرِيقَتَيْنِ وَلَا يَحْصُلُ بِتَشْمِيسِ الْجِلْدِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ يَجُوز، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا التُّرَابُ فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الدِّبَاغُ بِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَأَبُو الْفَتْحِ سُلَيْمٌ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ رُءُوسِ الْمَسَائِلِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْفُورَانِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَخَلَائِقُ آخَرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَحْصُلُ حَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وَرَجَّحَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ لَا يَحْصُلُ بِالتُّرَابِ وَالرَّمَادِ قَالَ الْقَاضِي: وَلَمْ أَرَ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذَا نَصًّا، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَإِنْ كَانَ لِلتُّرَابِ وَالرَّمَادِ هَذَا الْفِعْلُ حَصَلَ

 

ج / 1 ص -118-       الدِّبَاغُ بِهِمَا، وَأَمَّا الْمِلْحُ فَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ  فِي الْإِفْصَاحِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله نَصَّ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الدِّبَاغُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الشَّامِلِ، وَقَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْحُصُولِ .
فرع: لَوْ دَبَغَهُ بِعَيْنٍ نَجِسَةٍ كَذَرْقِ الْحَمَامِ وَغَيْرِهِ أَوْ بِمُتَنَجِّسٍ كَقَرَظٍ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ أَوْ دَبَغَهُ بِمَاءٍ نَجِسٍ فَهَلْ يَحْصُلُ بِهِ الدِّبَاغُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ الْحُصُولُ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ، لِأَنَّ الْغَرَضَ تَطَيُّبُ الْجِلْدِ وَإِزَالَةُ الْفُضُولِ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِالنَّجَسِ كَالطَّاهِرِ والثاني: لَا يَحْصُلُ لِأَنَّ النَّجَسَ لِلتَّطْهِيرِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ وَجَبَ غَسْلُهُ بَعْدَ حُصُولِ الدِّبَاغِ بِلَا خِلَافٍ وَيَكُونُ نَجِسًا بِالْمُجَاوَرَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ دَبَغَهُ بِطَاهِرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: لَا يَفْتَقِرُ الدِّبَاغُ إلَى فِعْلِ فَاعِلٍ لِأَنَّ مَا طَرِيقُهُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ كَالسَّيْلِ إذَا مَرَّ عَلَى نَجَاسَةٍ فَأَزَالَهَا، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ مَحَلُّهَا بِلَا خِلَافٍ. فَلَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَأَلْقَتْهُ فِي مَدْبَغَةٍ فَانْدَبَغَ صَارَ طَاهِرًا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ وَاضِحٌ. .
فرع: لَوْ أَخَذَ جِلْدَ مَيْتَةٍ لِغَيْرِهِ فَدَبَغَهُ طَهُرَ وَلِمَنْ يَكُونُ ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ أحدها: لِلدَّابِغِ كَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بَعْدَ أَنْ تَحَجَّرَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لِلْمُحْيِي والثاني: لِصَاحِبِ الْمَيْتَةِ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ  وَالثَّالِثُ إنْ كَانَ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ ثُمَّ أَخَذَهُ الدَّابِغُ فَهُوَ لِلدَّابِغِ، وَإِنْ كَانَ غَصَبَهُ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْأَصَحُّ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْأَوْجُهُ مَبْسُوطَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْغَصْبِ حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ، وَإِنَّمَا أَشَرْتُ إلَيْهَا لِمَا قَدَّمْتُهُ فِي الْخُطْبَةِ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ تَقْدِيمُ مسألة:لِنَوْعِ ارْتِبَاطٍ قَدَّمْتُهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى غَسْلِهِ بِالْمَاءِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَفْتَقِرُ، لِأَنَّ طَهَارَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِحَالَةِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فَطَهُرَ كَالْخَمْرِ إذَا اسْتَحَالَتْ خَلًّا وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَطْهُرُ حَتَّى يُغْسَلَ بِالْمَاءِ لِأَنَّ مَا يُدْبَغُ بِهِ تَنَجَّسَ بِمُلَاقَاةِ  الْجِلْدِ، فَإِذَا زَالَتْ نَجَاسَةُ الْجِلْدِ بَقِيَتْ نَجَاسَةُ مَا يُدْبَغُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُغْسَلَ حَتَّى يَطْهُرَ".
الشرح:هَذَانِ الْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُسْتَظْهِرِيِّ أَنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ، وَرَأَيْتُ أَنَا كَلَامَهُ فِي التَّلْخِيصِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ، وَاخْتَلَفَ الْمُصَنِّفُونَ فِي أَصَحِّهِمَا فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ وُجُوبُ الْغَسْلِ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَالْوَجِيزِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابَيْهِ التَّهْذِيبِ وَالِانْتِخَابِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: الْأَصَحُّ لَا يَفْتَقِرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرِينَ وَتَوْجِيهُ الْوَجْهَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَيَدُلُّ لِعَدَمِ الْغَسْلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
"إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ طَهُرَتْ عَيْنُهُ الَّتِي كَانَتْ نَجِسَةً، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُغْسَلُ وَهَذَا فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ.
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ فَفِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَصَحُّهُمَا لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، قَالُوا وَمَأْخَذُ

 

ج / 1 ص -119-       الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي الدِّبَاغِ الْإِزَالَةُ أَمْ الْإِحَالَةُ وَفِيهِ وَجْهَانِ. فَإِنْ غَلَّبْنَا الْإِزَالَةَ افْتَقَرَ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. وَيُسْتَدَلُّ لِلْأَصَحِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخَمْرِ إذَا اسْتَحَالَتْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحَالَةِ، وَلِلْوَجْهِ الْآخَرِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ" وَلِأَنَّهُ يُلَيِّنُ الْجِلْدَ وَيَصِلُ بِهِ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ وَنَحْوُهُمَا إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا غَسْلَهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ فَهُوَ طَاهِرُ الْعَيْنِ بِلَا خِلَافٍ وَالدِّبَاغُ حَاصِلٌ قَطْعًا لَكِنَّهُ نَجِسٌ بِالْمُجَاوَرَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَهُوَ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا جَوَّزْنَا بَيْعَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغِ، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا إذَا أَوْجَبْنَا اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ فَالْجِلْدُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِلَا خِلَافٍ. صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ. وَهَلْ يَطْهُرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَقْعِهِ فِي مَاءٍ كَثِير أَمْ يُشْتَرَطُ رَدُّهُ إلَى الْمَدْبَغَةِ وَاسْتِعْمَالُ الشَّثِّ ؟ حَكَى الرَّافِعِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ شَيْخِهِ وَالِدِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ ابْتِدَاءِ دَبْغِهِ ثَانِيًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنَّهُ يُكْتَفَى بِنَقْعِهِ فِي الْمَاءِ الطَّهُورِ، وَوَجَّهَهُ الْإِمَامُ  أَحْسَنَ تَوَجُّهٍ، وَأَنَا أَظُنُّ الرَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلَ الْإِمَامِ وَوَالِدِهِ ثُمَّ إذَا أَوْجَبْنَا اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ بَعْدَ الدِّبَاغِ اُشْتُرِطَ كَوْنُهُ طَهُورًا نَقِيًّا مِنْ أَدْوِيَةِ الدِّبَاغِ وَغَيْرِهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ إزَالَةُ نَجَاسَةٍ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَطْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ فَلَا بَأْسَ بِكَوْنِهِ مُتَغَيِّرًا بِأَدْوِيَةِ الدِّبَاغِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: الْأَجْزَاءُ الَّتِي يَتَشَرَّبُهَا الْجِلْدُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمَدْبُوغِ بِهَا طَاهِرَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ الْمُتَنَاثِرَةُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فَإِنْ تَنَاثَرَتْ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ فَهِيَ نَجِسَةٌ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ، وَإِنْ تَنَاثَرَتْ بَعْدَهُ فَهَلْ نَحْكُمُ بِطَهَارَتِهِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ أَمْ بِنَجَاسَتِهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ قَالُوا: وَهُمَا الْوَجْهَانِ فِي افْتِقَارِ الْجِلْدِ إلَى غَسْلِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ إنْ قُلْنَا يَفْتَقِرُ فَهِيَ نَجِسَةٌ وَإِلَّا فَهِيَ طَاهِرَةٌ تَبَعًا لَهُ، كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِذَا طَهُرَ الْجِلْدُ بِالدِّبَاغِ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ".
الشرح:هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَوْلُهُ: " جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ " يَعْنِي فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَائِعَاتِ، وَجَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَفِيهِ، وَطَهُرَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَقَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ تَصْرِيحًا وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ شَيْخُ الْأَصْحَابِ فِي تَعْلِيقِهِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ طَاهِرٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ جَائِزٌ فِي الْمَائِعَاتِ، وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي طَهَارَتِهِ قَوْلَيْنِ، وَحَكَاهُمَا جَمَاعَاتٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: يَطْهُرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَمَا ذَكَرْنَا.
والثاني: وَهُوَ الْقَدِيمُ: لَا يَطْهُرُ بَاطِنًا فَيُسْتَعْمَلُ فِي يَابِسٍ لَا رَطْبٍ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لَا فِيهِ، وَهَذَا النَّقْلُ عَنْ الْقَدِيمِ غَرِيبٌ وَالْمُحَقِّقُونَ يُنْكِرُونَهُ، وَيَقُولُونَ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِعَدَمِ طَهَارَةِ بَاطِنِهِ لَا قَدِيمٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ. قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي الِاسْتِذْكَارِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:  قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ فِي هَذِهِ الْمسألة:كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَلَمْ يُرَ هَذَا فِي الْقَدِيمِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْ الْقَدِيمِ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ قَالَ: كَانَ شَيْخِي يَحْكِي عَنْ

 

ج / 1 ص -120-       الْقَفَّالِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَوَجَّهُ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْمَدْبُوغِ إلَّا بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ لَا بَاطِنُهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ بَلْ اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ مَنْعِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ بَلْ لِمَنْعِ الْبَيْعِ دَلِيلٌ آخَرُ قَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْقَدِيمَ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ بَلْ هُوَ قَوْلُ مُجْتَهِدٍ قَدْ يُوَافِقُ مَالِكًا وَقَدْ يُخَالِفُهُ قَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّخْلِيصِ: أَكْثَرُ الْقَدِيمِ قَدْ يُوَافِقُ مَالِكًا، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الْفَرْعَ لِأَنِّي رَأَيْتُ مَنْ يَغْلَطُ فِي هَذَا بِمَا لَا أُوثِرُ نَشْرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فرع: اسْتِعْمَالُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ جَائِزٌ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ فَقَالَ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ فِي الْيَابِسَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالشَّيْخِ نَصْرٍ الْمَقْدِسِيِّ وَصَاحِبِ الْبَيَانِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَمُرَادُهُمْ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّطَبَاتِ أَوْ فِي اللَّيِّنِ لَا فِي الْيَابِسِ وَسَيَأْتِي كَلَامُ الْأَصْحَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي عَظْمِ الْفِيلِ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسِ وَلَا يَحْرُمُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ فِي عَظْمِ الْفِيلِ بِكَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَابِسِ وَتَحْرِيمِهِ فِي الرَّطْبِ الشَّيْخُ نَصْرٌ فَدَلَّ أَنَّ مُرَادَهُ هُنَا اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّطْبِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْعَبْدَرِيِّ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ فِي الْيَابِسَاتِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فَغَلَطٌ مِنْهُ، وَصَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ: فِي الرَّطَبَاتِ.
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ هِبَتُهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ، دَلِيلُنَا أَنَّهُ عَيْنٌ نَجِسَةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ كَالْعَذِرَةِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَإِنَّ عَيْنَهُ طَاهِرٌ، وَكَذَا قَالَ الرُّويَانِيُّ: يَجُوزُ هِبَتُهُ عَلَى سَبِيلِ نَقْلِ الْيَدِ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِهِ لَا التَّمْلِيكُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حُرِّمَ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْمَوْتِ ثُمَّ رُخِّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ فَبَقِيَ مَا سِوَى الِانْتِفَاعِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ لِنَجَاسَتِهِ، وَقَدْ زَالَتْ النَّجَاسَةُ فَوَجَبَ أَنْ يُجَوِّزَ الْبَيْعَ كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ".
الشرح:هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي صِحَّةِ بَيْعِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ مَشْهُورَانِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ هُوَ الْجَدِيدُ وَهُوَ صِحَّتُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وقول المصنف:  لِأَنَّهُ حُرِّمَ التَّصَرُّفُ فِيهِ ثُمَّ رُخِّصَ فِي الِانْتِفَاعِ " يَعْنِي الِانْتِفَاعَ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْ إطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ، وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِثَمَنِهِ فَلَيْسَ انْتِفَاعًا بِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ طَاهِرًا مُنْتَفَعًا بِهِ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ، فَإِنَّ أُمَّ الْوَلَدِ وَالْوَقْفَ وَالطَّعَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي تَوْجِيهِ الْقَدِيمِ. وَأَمَّا مَا يُوَجِّهُهُ بِهِ كَثِيرٌ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ مَنْعَ بَيْعِهِ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ لَا يَطْهُرُ بَاطِنُهُ فَضَعِيفٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَمَّا اُحْتُجَّ بِهِ لِلْقَدِيمِ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ وَالْوَقْفِ وَطَعَامِ دَارِ الْحَرْبِ بِأَنَّ مَنْعَ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ لِاسْتِحْقَاقِهَا الْحُرِّيَّةَ، وَالْوَقْفُ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ مَلَكَهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْبَطْنِ الثَّانِي، وَطَعَامُ دَارِ الْحَرْبِ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ أَكْلُ قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنْعُ فِي مَسْأَلَتِنَا لِلنَّجَاسَةِ وَقَدْ زَالَتْ فَجَازَ الْبَيْعُ.

 

ج / 1 ص -121-       فَإِذَا جَوَّزْنَا بَيْعَهُ جَازَ رَهْنُهُ وَإِجَارَتُهُ وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ بَيْعَهُ فَفِي جَوَازِ إجَارَتِهِ وَجْهَانِ كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: وَقِيلَ يَجُوزُ إجَارَتُهُ قَطْعًا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي بَيْعِهِ وَرَهْنِهِ، أَمَّا بَيْعُهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَبَاطِلٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَحَكَى الْعَبْدَرِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَهَلْ يَجُوزُ أَكْلُهُ ؟ يُنْظَرُ. فَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ. فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يُؤْكَلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا" وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ فَأَشْبَهَ جِلْدَ  الْمُذَكَّى، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ لَا يُؤْكَلُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ الذَّكَاةِ، وَالذَّكَاةُ لَا تُبِيحُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَلَأَنْ لَا يُبِيحَهُ الدِّبَاغُ أَوْلَى، وَحَكَى شَيْخُنَا أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ أَنَّهُ حَكَى وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِأَنَّ الدِّبَاغَ عَمِلَ فِي تَطْهِيرِهِ كَمَا عَمِلَ فِي تَطْهِيرِ مَا يُؤْكَلُ فَعَمِلَ فِي إبَاحَتِهِ بِخِلَافِ الذَّكَاةِ".
الشرح:الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ثَابِتٌ فِي "الصحيحين" وَهُوَ تَمَامُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْفصل: فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ ؟ قَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ: إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا" وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ: "إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَهَا" وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي حِلِّ أَكْلِهِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْقَدِيمُ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ لِلْحَدِيثِ، وَهَذِهِ الْمسألة:مِمَّا يُفْتَى فِيهِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُفْتَى فِيهَا عَلَى الْقَدِيمِ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ. وَصَحَّحَتْ طَائِفَةٌ الْجَدِيدَ وَهُوَ حِلُّ الْأَكْلِ، مِنْهُمْ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ وَالْفُورَانِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبُلْغَةِ وَقَطَعَ بِهِ فِي التَّحْرِيرِ، وَيُجَابُ لِهَؤُلَاءِ عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ أَكْلِ اللَّحْمِ فَإِنَّهُ الْمَعْهُودُ، هَذَا حُكْمُ جِلْدِ الْمَأْكُولِ. فَأَمَّا جِلْدُ مَا لَا يُؤْكَلُ فَالْمَذْهَبُ الْجَزْمُ بِتَحْرِيمِهِ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ ضَعِيفٌ وَحَكَى الْفُورَانِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ فَفِي الْجَمِيعِ الْقَوْلَانِ وَهَذَا ضَعِيفٌ.
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فَلَأَنْ لَا يُبِيحَهُ الدِّبَاغُ أَوْلَى، هَذِهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ " فَلَأَنْ " مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ كَقَوْلِك: لَزَيْدٌ قَائِمٌ أَوْ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَهِيَ كَثِيرَةُ التَّكْرَارِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا. وَإِنَّمَا ضَبَطْتُهَا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُبْتَدِئِينَ يَكْسِرُونَهَا وَذَلِكَ خَطَأٌ، وَأَمَّا الشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ فَاسْمُهُ مَحْمُودُ بْنُ الْحَسَنِ كَانَ حَافِظًا لِلْمَذْهَبِ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْأُصُولِ وَالْمَذْهَبِ وَالْخِلَافِ وَالْجَدَلِ، وَهُوَ الْقَزْوِينِيُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ مَنْسُوبٌ إلَى قَزْوِينَ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمَدِينَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِخُرَاسَانَ، وَأَمَّا ابْنُ كَجٍّ فَبِفَتْحِ الْكَافِ وَبَعْدَهَا جِيمٌ مُشَدَّدَةٌ اسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَجٍّ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ نَفِيسَةٌ فِيهَا نُقُولٌ غَرِيبَةٌ وَمَسَائِلُ غَرِيبَةٌ مُهِمَّةٌ لَا تَكَادُ تُوجَدُ لِغَيْرِهِ، تَفَقَّهَ عَلَى  أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ وَحَضَرَ مَجْلِسَ الدَّارَكِيِّ، قَتَلَهُ اللُّصُوصُ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِالدِّينَوَرِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّبَقَاتِ: جَمَعَ ابْنُ كَجٍّ رِئَاسَةَ الْعِلْمِ وَالدُّنْيَا، وَرَحَلَ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الْآفَاقِ رَغْبَةً فِي عِلْمِهِ وَجُودِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"كُلُّ حَيَوَانٍ نَجِسَ بِالْمَوْتِ نَجِسَ شَعْرُهُ وَصُوفُهُ عَلَى

 

ج / 1 ص -122-       الْمَنْصُوصِ، وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقَالَ: يَنْجُسُ الشَّعْرُ بِالْمَوْتِ قَوْلًا وَاحِدًا؛  لِأَنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَيَنْجُسُ بِالْمَوْتِ كَالْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الرُّجُوعَ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ رُجُوعًا عَنْ تَنْجِيسِ جَمِيعِ الشُّعُورِ، فَجَعَلَ فِي الشُّعُورِ قَوْلَيْنِ:أَحَدُهُمَا: يَنْجُسُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِي: لَا يَنْجُسُ لِأَنَّهُ لَا يُحِسُّ وَلَا يَتَأَلَّمُ فَلَا تَلْحَقُهُ نَجَاسَةُ الْمَوْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ رُجُوعًا عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ خَاصَّةً فَجَعَلَ فِي الشَّعْرِ1قَوْلَيْنِ:أَحَدُهُمَا: يَنْجُسُ الْجَمِيعُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.وَالثَّانِي: يَنْجُسُ الْجَمِيعُ إلَّا شَعْرَ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ؛  لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْكَرَامَةِ، وَلِهَذَا يَحِلُّ لَبَنُهُ مَعَ تَحْرِيمِ أَكْلِهِ. وَأَمَّا شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّا إذَا قُلْنَا شَعْرُ غَيْرِهِ طَاهِرٌ فَشَعْرُهُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ، وَاذَا قُلْنَا: إنَّ شَعْرَ غَيْرِهِ نَجِسٌ فَفِي شَعْرِهِ عليه السلام وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَجِسٌ؛  لِأَنَّ مَا كَانَ نَجِسًا مِنْ غَيْرِهِ كَانَ نَجِسًا مِنْهُ كَالدَّمِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ طَاهِرٌ؛  "لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَاوَلَ أَبَا طَلْحَةَ رضي الله عنه شَعْرَهُ فَقَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ" . وَكُلُّ مَوْضِعِ قُلْنَا: إنَّهُ نَجِسٌ عُفِيَ عَنْ الشَّعْرَةِ وَالشَّعْرَتَيْنِ فِي الْمَاءِ وَالثَّوْبِ؛  لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَمَا عُفِيَ عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ ".
الشرح:أَمَّا قَوْلُهُ: "لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَاوَلَ أَبَا طَلْحَةَ شَعْرَهُ فَقَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ" فَحَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْمسألة:فَحَاصِلُهَا أَنَّ الْمَذْهَبَ نَجَاسَةُ شَعْرِ الْمَيْتَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ،  وَطَهَارَةُ شَعْرِ الْآدَمِيِّ، هَذَا مُخْتَصَرِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا بَسْطُهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَ طُرُقٍ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي الْمَذْهَبِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ: الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالْعَظْمُ وَالْقَرْنُ وَالظِّلْفُ تُحِلُّهَا الْحَيَاةُ، وَتَنْجُسُ بِالْمَوْتِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ وَحَرْمَلَةُ، وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْبُلَيْدِيُّ عَنْ الْمُزَنِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ. وَقَالَ صَاحِبِ الْحَاوِي: الشَّعْرُ وَالْوَبَرُ وَالصُّوفُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ. هَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ وَاَلَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ: الْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ وَحَرْمَلَةُ وَأَصْحَابُ الْقَدِيمِ.
قَالَ: وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ عَنْ الْمُزَنِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ الشَّعْرِ، وَحَكَى إبْرَاهِيمُ الْبُلَيْدِيُّ عَنْ الْمُزَنِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ، وَحَكَى الرَّبِيعُ الْجِيزِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّعْرَ تَابِعٌ لِلْجِلْدِ: يَطْهُرُ بِطَهَارَتِهِ وَيَنْجُسُ بِنَجَاسَتِهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْحِكَايَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي شَذَّتْ عَنْ الْجُمْهُورِ فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعَيَّ أَنَّ الشَّعْرَ طَاهِرٌ، وَامْتَنَعَ الْجُمْهُورُ مِنْ إثْبَاتِ قَوْلٍ ثَانٍ لِمُخَالِفَتِهَا نُصُوصَهُ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ حَكَى مَذْهَبَ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا شَعْرُ الْآدَمِيِّ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ. والثاني: وَهُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْجَدِيدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نسخة الركبي (الشعور )(ط)

 

ج / 1 ص -123-       أَنَّهُ طَاهِرٌ. هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْحَاوِي. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ شَعْرَ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَصُوفَهُ وَوَبَرَهُ وَرِيشَهُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَأَمَّا الْآدَمِيُّ فَاخْتَلَفُوا فِي الرَّاجِحِ فِيهِ: فَاَلَّذِي صَحَّحَهُ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ نَجَاسَتُهُ، وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ جَمِيعُ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَوْ جَمَاهِيرُهُمْ طَهَارَتُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رُجُوعُهُ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ، فَهُوَ مَذْهَبُهُ، وَمَا سِوَاهُ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَهُ، ثُمَّ الدَّلِيلُ يَقْتَضِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى: فِي فَرْعٍ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ.
ثُمَّ إنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي شَعْرِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ مُفَرَّعٌ عَلَيَّ نَجَاسَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ، أَمَّا إذَا قُلْنَا بِطَهَارَةِ مَيْتَتِهِ فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ بِلَا خِلَافٍ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالشَّاشِيُّ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ  وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ. وَإِذَا انْفصل: شَعْرُ آدَمِيٍّ فِي حَيَاتِهِ فَطَاهِرٌ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ تَكْرِمَةً لِلْآدَمِيِّ، وَلِعُمُومِ الْبَلْوَى وَعُسْرِ الِاحْتِرَازِ. وَأَمَّا إذَا انْفصل: جُزْءٌ مِنْ جَسَدِهِ كَيَدِهِ وَظُفْرِهِ فَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ أَوْ جُمْهُورُهُمْ بِنَجَاسَتِهِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي مَيْتَتِهِ بِجُمْلَتِهِ لِحُرْمَةِ الْجُمْلَةِ. وَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الطَّهَارَةُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَنْ قَالَ: الْعُضْوُ الْمُبَانُ فِي الْحَيَاةِ نَجِسٌ فَقَدْ غَلِطَ، وَالْوَجْهُ اعْتِبَارُ الْجُزْءِ بِالْجُمْلَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا قُلْنَا بِطَهَارَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هُوَ طَاهِرٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ نَجِسٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ أَوْ كَالْغَلَطِ، وَسَأَذْكُرُ فِي شَعْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَفَضَلَاتِ بَدَنِهِ فَرْعًا مَخْصُوصًا بِهَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: " وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: إنَّهُ نَجِسٌ عُفِيَ عَنْ الشَّعْرَةِ أَوْ الشَّعْرَتَيْنِ - فَظَاهِرُهُ تَعْمِيمُ الْعَفْوِ فِي شَعْرِ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى الْعَفْوِ، وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَخْصِيصِهِ بِالْآدَمِيِّ، فَأَطْلَقَتْ طَائِفَةٌ الْكَلَامَ إطْلَاقًا يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ كَمَا أَطْلَقَهُ الْمُصَنِّفُ، مِنْهُمْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ، وَصَرَّحَ الْقَاضِي بِجَرَيَانِ الْعَفْوِ فِي شَعْرِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا عَنْ تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَلَمْ أَرَهُ أَنَا فِيهِ هَكَذَا، وَلَكِنَّ نُسَخَ تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ يَقَعُ فِيهَا اخْتِلَافٌ، وَخَصَّتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ، مِنْهُمْ الْفُورَانِيِّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وَالرُّويَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَجْهٌ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ التَّعْمِيمُ. وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ كَالصَّرِيحَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ فصل: الْكَلَامَ فِي الشَّعْرِ ثُمَّ قَالَ: " وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا إنَّهُ نَجِس عُفِيَ "، وَلِأَنَّ الْجَمِيعَ سَوَاءٌ فِي عُمُومِ الِابْتِلَاءِ وَعُسْرِ الِاحْتِرَازِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: " كَالشَّعْرَةِ وَالشَّعْرَتَيْنِ " فَلَيْسَ تَحْدِيدًا لِمَا يُعْفَى عَنْهُ بَلْ كَالْمِثَالِ لِلْيَسِيرِ الَّذِي يُعْفَى عَنْهُ. وَعِبَارَةُ أَصْحَابِنَا يُعْفَى عَنْ الْيَسِيرِ مِنْهُ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا فَسَّرَهُ بِالشَّعْرَةِ وَالشَّعْرَتَيْنِ، وَقَالَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إذَا حَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ فَمَا يُنْتَفُ مِنْ اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ عَلَى الْعُرْفِ الْغَالِبِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَعَ نَجَاسَتِهِ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ.  قَالَ: ثُمَّ الْقَوْلُ فِي ضَبْطِ الْقَلِيلِ كَالْقَوْلِ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ، قَالَ: وَلَعَلَّ الْقَلِيلَ مَا يَغْلِبُ انْتِتَافُهُ مَعَ اعْتِدَالِ الْحَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فرع: الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْقَطْعُ بِطَهَارَةِ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَبَقَ، وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ وَعِظَمُ مَرْتَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ قَالَ بِالنَّجَاسَةِ قَالُوا: إنَّمَا قَسَّمَ الشَّعْرَ لِلتَّبَرُّكِ، قَالُوا: وَالتَّبَرُّكُ يَكُونُ بِالنَّجِسِ كَمَا يَكُونُ بِالطَّاهِرِ، كَذَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ. قَالُوا: لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي أَخَذَهُ كُلُّ وَاحِدٍ كَانَ يَسِيرًا مَعْفُوًّا عَنْهُ،

 

ج / 1 ص -124-       وَالصَّوَابُ الْقَطْعُ بِالطَّهَارَةِ كَمَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَحَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَآخَرُونَ.
 وَأَمَّا بَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَدَمُهُ فَفِيهِمَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ فِي الْعَذِرَةِ وَجْهَيْنِ وَنَقَلَهُمَا فِي الْعَذِرَةِ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْغَزَالِيِّ طَرْدَهُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَذِرَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْعَذِرَةَ نَجِسَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ مَخْصُوصٌ بِالْبَوْلِ وَالدَّمِ، وَهَذَا الْإِنْكَارُ غَلَطٌ، بَلْ الْخِلَافُ فِي الْعَذِرَةِ مَشْهُورٌ، نَقَلَهُ غَيْرُ الْغَزَالِيِّ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَصَاحِبِ الْبَيَانِ وَآخَرِينَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ فَقَالُوا: فِي فَضَلَاتِ بَدَنِهِ صلى الله عليه وسلم كَبَوْلِهِ وَدَمِهِ وَغَيْرِهِمَا وَجْهَانِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ فِي الْخَصَائِصِ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: جَمِيعُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم طَاهِرٌ، قَالَ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَهَذَا نَقْلُ الْقَفَّالِ وَهُوَ شَيْخُ طَرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَعَلَيْهِ مَدَارُهَا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَةِ هَذِهِ الْفَضَلَاتِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَزَّهُ مِنْهَا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهَا بِالْحَدِيثَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ: "أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ الْحَاجِمَ حَجَمَهُ صلى الله عليه وسلم وَشَرِبَ دَمَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ" ، "وَأَنَّ امْرَأَةً شَرِبَتْ بَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا" وَحَدِيثُ أَبِي طَيْبَةَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ شُرْبِ الْمَرْأَةِ الْبَوْلَ صَحِيحٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ كَافٍ فِي الِاحْتِجَاجِ لِكُلِّ الْفَضَلَاتِ قِيَاسًا. وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِغُسْلِ فَمِهَا، وَلَا نَهَاهَا عَنْ الْعَوْدِ إلَى مِثْلِهِ، وَأَجَابَ الْقَائِلُ بِالطَّهَارَةِ عَنْ تَنَزُّهِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّظَافَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَجَاسَةُ الدَّمِ وَالْفَضَلَاتِ، وَبِهِ  قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَخَالَفَهُمْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَقَالَ: الْأَصَحُّ طَهَارَةُ الْجَمِيعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فرع: قَدَّمْنَا فِي شَعْرِ مَيْتَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ خِلَافًا، الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُتَوَلَّدِ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَمَّا شُعُورُ هَذِهِ فَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ بِنَجَاسَتِهَا وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا الْخِلَافَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ: إذَا قُلْنَا بِطَهَارَةِ غَيْرِهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الطَّهَارَةُ. وَأَصَحُّهُمَا النَّجَاسَةُ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ بِنَجَاسَتِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ: هِيَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ طَاهِرَةٌ، قَالَ الْإِمَامُ: وَاخْتَارَهُ شَيْخِي يَعْنِي وَالِدَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيَّ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْوَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي حَالَتَيْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.
فرع: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: " لِأَنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَنَجِسَ بِالْمَوْتِ كَالْأَعْضَاءِ " احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: " مُتَّصِلٌ " عَنْ الْحَمْلِ وَالْبَيْضِ الْمُتَصَلِّبِ فِي جَوْفِ مَيْتَتِهِ، وَبِقَوْلِهِ: " بِالْحَيَوَانِ " عَنْ أَغْصَانِ الشَّجَرِ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ، وَبِقَوْلِهِ: " اتِّصَالَ خِلْقَةٍ " عَنْ الْأُذُنِ الْمُلْصَقَةِ. وَقَوْلُهُ: " فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقَالَ: يَنْجُسُ الشَّعْرُ بِالْمَوْتِ قَوْلًا وَاحِدًا " لَيْسَ مَعْنَاهُ الْقَدْحَ فِي النَّاقِلِ بِتَكْذِيبٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ تَأْوِيلُ الرِّوَايَةِ عَلَى حِكَايَةِ مَذْهَبِ الْغَيْرِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ نَقْلِ صَاحِبِ الْحَاوِي. وَقَوْلُهُ: يَنْجُسُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا، وَقَوْلُهُ: " لَا يُحِسُّ وَلَا يَأْلَمُ " يُحِسُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، هَذِهِ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ - تعالى:
{هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}[مريم: 98] وَفِيهِ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ يَحُسُّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْحَاءِ. وَقَوْلُهُ: يَأْلَمُ بِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ.

 

ج / 1 ص -125-       فرع: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: " لِأَنَّ مَا كَانَ نَجِسًا مِنْ غَيْرِهِ كَانَ نَجِسًا مِنْهُ كَالدَّمِ " قَدْ وَافَقَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ صَاحِبُ الشَّامِلِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِنَجَاسَةِ الدَّمِ وَلَيْسَ مَقْطُوعًا بِهِ، بَلْ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: إنَّ أَبَا جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيَّ الْقَائِلَ بِطَهَارَةِ شَعْرِهِ صلى الله عليه وسلم  قِيلَ لَهُ: قَدْ حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَشَرِبَ دَمَهُ، أَفَتَقُولُ بِطَهَارَةِ دَمِهِ ؟ فَرَكِبَ الْبَابَ وَقَالَ: أَقُولُ بِهِ، قِيلَ لَهُ: قَدْ شَرِبَتْ امْرَأَةٌ بَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم أَفَتَقُولُ بِطَهَارَتِهِ ؟ فَقَالَ: لَا؛  لِأَنَّ الْبَوْلَ اسْتَحَالَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّمُ وَالشَّعْرُ؛  لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْحَاوِي، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ يَقُولُ بِطَهَارَةِ الشَّعْرِ وَالدَّمِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ عَلَى الدَّمِ؛  لِأَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَهُ، وَحِينَئِذٍ يُنْكِرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ هَذَا الْقِيَاسَ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ جَائِزٌ، فَإِنْ مَنَعَ الْخَصْمُ الْأَصْلَ أَثْبَتَهُ الْقَايِسُ بِدَلِيلِهِ الْخَاصِّ، ثُمَّ أَلْحَق بِهِ الْفَرْعَ، وَقَدْ أَكْثَر الْمُصَنِّفُ فِي "المهذب" مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَكُلُّهُ خَارِجٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْفصل: أَبَا طَلْحَةَ الصَّحَابِيَّ وَأَبَا جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيَّ، أَمَّا أَبُو طَلْحَةَ فَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ بْنُ الْأَسْوَدِ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَأُحُدًا وَسَائِرَ الْمُشَاهَدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ رضي الله عنهم، وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَرَدُوا الصَّوْمَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَنَذْكُرُهُمْ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى: فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ الْحَافِظُ: عَاشَ أَبُو طَلْحَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ سَنَةً يَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ رضي الله عنه.
وَأَمَّا أَبُو جَعْفَرٍ فَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ نَصْرٍ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ تَنْشَرِحُ بِذِكْرِهِمْ الصُّدُورُ، وَتَرْتَاحُ لِذِكْرِ مَآثِرِهِمْ الْقُلُوبُ، كَانَ رضي الله عنه حَنَفِيًّا ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا لِرُؤْيَا رَآهَا مَشْهُورَةٍ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ آخُذُ بِرَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ ؟ فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَقُلْت: بِرَأْيِ مَالِكٍ ؟ فَقَالَ: خُذْ مَا وَافَقَ سُنَّتِي، فَقُلْت: بِرَأْيِ الشَّافِعِيِّ ؟ فَقَالَ أَوَ ذَاكَ رَأْيُ الشَّافِعِيِّ، ذَلِكَ رَدَّ مَنْ خَالَفَ سُنَّتِي. حَكَى هَذِهِ الرُّؤْيَا الْمُصَنِّفُ فِي الطَّبَقَاتِ وَآخَرُونَ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى تِرْمِذَ الْبَلْدَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي نُسِبَ إلَيْهَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، وَفِي ضَبْطِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا  الْحَافِظُ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْأَنْسَابُ، أَحَدُهَا تِرْمِذُ بِكَسْرِ التَّاءِ وَالْمِيمِ. وَالثَّانِي: بِضَمِّهِمَا، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. وَالثَّالِثُ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ الْمُتَدَاوَلُ بَيْنَ أَهْلِ تِرْمِذَ، وَهِيَ مَدِينَةٌ قَدِيمَةٌ عَلَى طَرَفِ نَهْرِ بَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: جَيْحُونَ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ تُقَالُ فِي كُلِّ مَنْ يُقَالُ لَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّبَقَاتِ: سَكَنَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ بَغْدَادَ وَلَمْ يَكُنْ لِلشَّافِعِيِّينَ فِي وَقْتِهِ بِالْعِرَاقِ أَرْأَسُ وَلَا أَوْرَعُ وَلَا أَكْثَرُ نَقْلًا مِنْهُ. وَكَانَ قُوتُهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. وُلِدَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ مِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ - رحمه الله -، وَمَوْضِعُ بَسْطِ أَحْوَالِهِ الطَّبَقَاتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي شَعْرِ الْمَيْتَةِ وَعَظْمِهَا وَعَصَبِهَا.
فَمَذْهَبُنَا أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ وَالرِّيشَ وَالْعَصَبَ وَالْعَظْمَ وَالْقَرْنَ وَالسِّنَّ وَالظِّلْفَ نَجِسَةٌ، وَفِي الشَّعْرِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ سَبَقَ، وَفِي الْعَظْمِ خِلَافٌ أَضْعَفُ مِنْهُ قَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا، وَأَمَّا

 

ج / 1 ص -126-       الْعَصَبُ فَنَجِسٌ بِلَا خِلَافٍ، هَذَا فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالنَّجَاسَةِ عَطَاءٌ، وَذَهَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْمُزَنِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إلَى أَنَّ الشُّعُورَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ وَالرِّيشَ طَاهِرَةٌ، وَالْعَظْمَ وَالْقَرْنَ وَالسِّنَّ وَالظِّلْفَ وَالظُّفُرَ نَجِسَةٌ، كَذَا حَكَى مَذَاهِبَهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَحَكَى الْعَبْدَرِيُّ، عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَنْجَسُ بِالْمَوْتِ لَكِنْ تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَعَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالرِّيشُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد: وَكَذَا لَا يَنْجُسُ الْعِظَامُ وَالْقُرُونُ وَبَاقِيهَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَّا شَعْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهُ، وَرَخَّصَ لِلْخَرَّازِينَ فِي اسْتِعْمَالِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ. لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ، وَعَنْهُ فِي الْعَصَبِ رِوَايَتَانِ.
وَاحْتُجَّ لِمَنْ قَالَ بِطَهَارَةِ الشَّعْرِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
"وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِين"، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَيْتَةِ: "إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا" وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا بَأْسَ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ،  وَلَا بِشَعْرِهَا إذَا غُسِلَ"، وَذَكَرُوا أَقْيِسَةً وَمُنَاسِبَاتٍ لَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ"وَهُوَ عَامٌّ لِلشَّعْرِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قَالُوا: الشَّعْرُ لَيْسَ مَيْتَةً - قَالَ أَصْحَابُنَا: قُلْنَا بَلْ هُوَ مَيْتَةٌ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ اسْم لِمَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ مَيْتَةً فَمَسَّ شَعْرَهَا حَنِثَ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمَيْتَةِ، وَالْآيَةُ الَّتِي احْتَجَجْنَا بِهَا خَاصَّةٌ فِي بَعْضهَا وَهُوَ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ - فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْآيَتَيْنِ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَإِنَّ تِلْكَ الْآيَةَ أَيْضًا عَامَّةٌ فِي الْحَيَوَانِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، فَكُلُّ آيَةٍ عَامَّةٌ مِنْ وَجْهٍ، خَاصَّةٌ مِنْ وَجْهٍ، فَتَسَاوَيَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، وَكَانَ التَّمَسُّكُ بِآيَتِنَا أَوْلَى لِأَنَّهَا وَرَدَتْ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمِ، وَأَنَّ الْمَيْتَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْنَا، وَوَرَدَتْ الْأُخْرَى لِلِامْتِنَانِ بِمَا أُحِلَّ لَنَا.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ:
"هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ ؟" وَالْغَالِبُ أَنَّ الشَّاةَ لَا تَخْلُو مِنْ شَعْرٍ وَصُوفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ طَهَارَتَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ فِي الْحَالِ، وَلَوْ كَانَ طَاهِرًا لَبَيَّنَهُ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا نَظَرٌ. وَاعْتِمَادُ الْأَصْحَابِ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَذَكَرُوا أَقْيِسَةً كَثِيرَةً تَرَكْتهَا لِضَعْفِهَا. وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا"أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى شَعْرِ الْمَأْكُولِ إذَا ذُكِّيَ أَوْ أُخِذَ فِي حَيَاتِهِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ. وَأَجَابَ الْمَاوَرْدِيُّ بِجَوَابٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الطَّاهِرُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "
إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا1 ".
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَجْوَدُهُمَا أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ قَالُوا: لِأَنَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل ولعل السقط هو ( أنه في طهارة الجلد بالدباغ ) لأن بقية الحديث " أول ليس  في الماء والقرظ ما يطهرها " والله أعلم (ط)

 

ج / 1 ص -127-       تَفَرَّدَ بِهِ يُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ  الْفَاءِ، قَالُوا: وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. هَذِهِ عِبَارَةُ جَمِيعِ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ فِيهِ، وَهِيَ أَبْلُغُ الْعِبَارَاتِ عِنْدَهُمْ فِي الْجَرْحِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ مَتْرُوكٌ يَكْذِبُ عَلَى الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِطَهَارَةِ الشَّعْرِ بِلَا غَسْلٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: يَطْهُرُ الشَّعْرُ بِالْغَسْلِ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا اتِّفَاقَ الْحُفَّاظِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَبَيَانُهُمْ سَبَبُ الضَّعْفِ وَالْجَرْحِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا عَيْنٌ نَجِسَةٌ فَلَمْ تَطْهُرْ بِالْغَسْلِ كَالْعَذِرَةِ وَاللَّحْمِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِطَهَارَةِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ بِحَدِيثٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: امْتَشَطَ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ" ، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُمَيْدٍ الشَّامِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ الْمُنَبِّهِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
يَا ثَوْبَانُ اشْتَرِ لَفَاطِمَةَ قِلَادَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ" ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْمَذْهَبِ: وَالْعَاجُ عَظْمُ الْفِيلِ.
 وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}[ يس: 78] فَأَثْبَتَ لَهَا إحْيَاءً فَدَلَّ عَلَى مَوْتِهَا وَالْمَيْتَةُ نَجِسَةٌ، فَإِنْ قَالُوا: الْمُرَادُ أَصْحَابُ الْعِظَامِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ اخْتِصَارًا - قُلْنَا: هَذَا خِلَافُ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَدَّهِنَ فِي عَظْمِ فِيلٍ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، وَالسَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا التَّحْرِيمَ، وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ. وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَنَس مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَاجَ هُوَ الذَّبْلُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَكَذَا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ عَظْمٍ عَاجًا.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ بِالْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَإِنَّ حُمَيْدًا الشَّامِيَّ  وَسُلَيْمَانَ الْمُنَبِّهِيَّ مَجْهُولَانِ ( وَالْمُنَبِّهِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَبَعْدَهَا نُونٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ ). وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى:"فَإِنْ دُبِغَ جِلْدُ الْمَيْتَة وَعَلَيْهِ شَعْرٌ فَقَدْ قَالَ فِي الْأُمَّ: لَا يَطْهُرُ لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِهِ، وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يَطْهُرُ؛  لِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ عَلَى جِلْدٍ طَاهِرٍ، فَكَانَ كَالْجِلْدِ فِي الطَّهَارَةِ كَشَعْرِ الْحَيَوَانِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ".
الشرح:هَذَانِ الْقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ - نَصُّهُ فِي  "الأم" - أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ صَاحِبِ "الحاوي" أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَاَلَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ، وَصَحَّحَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالرُّويَانِيُّ طَهَارَتَهُ، قَالَ

 

ج / 1 ص -128-       الرُّويَانِيُّ: لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَسَّمُوا الْفِرَى1 الْمَغْنُومَةَ مِنْ الْفُرْسِ، وَهِيَ ذَبَائِحُ مَجُوسٍ.
وَمِمَّا يَدُلُّ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ حَدِيثُ أَبِي الْمَلِيحِ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَامِرِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَعَنْ الْمِقْدَامِ2 بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما: "أُنْشِدُك بِاَللَّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ ؟ قَالُوا: نَعَمْ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَنَحْوُهَا احْتَجَّ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ؛  لِأَنَّ النَّهْيَ مُتَنَاوِلٌ لِمَا بَعْدَ الدِّبَاغِ،  وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَائِدًا إلَى نَفْسِ الْجِلْدِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ بِالدِّبَاغِ بِالدَّلَائِلِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ إلَى الشَّعْرِ. وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الرُّويَانِيُّ مِنْ الْفِرَى الْمَغْنُومَةِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهَا فِيمَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ فِيهِ مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا.
فرع: إذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إنَّ الشَّعْرَ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا: يُعْفَى عَنْ الْقَلِيلِ الَّذِي يَبْقَى عَلَى الْجِلْدِ، وَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ تَبَعًا .
فرع: مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ وَتَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ جُلُودُ الثَّعَالِبِ وَنَحْوِهَا إذَا مَاتَتْ أَوْ أُفْسِدَتْ ذَكَاتُهَا بِإِدْخَالِ السِّكِّينِ فِي آذَانِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَجِلْدُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَهَذِهِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا عَلَى الْأَصَحِّ لِعَدَمِ طَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ - رحمه الله: وَأَمَّا الْقُنْدُسُ3 فَبَحَثْنَا عَنْهُ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَأْكُولٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجْتَنَبَ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَلِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ فِي تَحْرِيمِ مَا أَشْكَلَ مِنْ الْحَيَوَانِ فَلَمْ يُدْرَ أَنَّهُ مَأْكُولٌ أَمْ لَا، وَسَنَذْكُرُ فِي فَرْعٍ قَرِيبٍ عَنْ صَاحِبِ "الحاوي" نَحْوَ هَذَا فِي الشَّعْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: لَوْ بَاعَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ قَبْلَ إمَاطَةِ الشَّعْرِ عَنْهُ وَفَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْجِلْدَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَأَنَّ الشَّعْرَ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إحداها: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك الْجِلْدَ دُونَ الشَّعْرِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك الْجِلْدَ مَعَ شَعْرِهِ فَبَيْعُ الشَّعْرِ بَاطِلٌ، وَفِي الْجِلْدِ قَوْلَا تَفْرِيقِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله الفراء (ط)
2 المقدام بن معديكرب الكندي صحابي له أربعون حديثا انفرد له البخاري بحديث .
3 في كتب الحيوان أنه كلب الماء وفسر به حديثأبيهريرة رضي الله عنه الذي رواه الجماعة إلا النسائي مرفوعا:
"تقاتلون بين يدي الساعة قوما نعالهم الشعر وفي رواية يلبسون الشعر ويمشون في الشعر وجوههم كالمجان المطرقة حمر الوجوه صغار الأعين ذلف الأنوف " قال الدميري: وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بحثنا عن القندس فلم يتبين لنا أنه مأكول أو غيره فينبغي أن يتورغ عن الصلاة فيه ا هـ فانظر الفرق بين العبارتين (ط)

 

ج / 1 ص -129-       الصَّفْقَةِ، أَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ مُطْلَقًا فَهَلْ هُوَ كَالْحَالَةِ الثَّانِيَةِ أَمْ الْأُولَى ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
فرع: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ "الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْجِيزَيَّ " وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي "المهذب" إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي غَيْرِ "المهذب" فِي مسألة:قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ فَإِنَّهُ نَقَلَهَا عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْتهَا فِي "الروضة" وَفِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ،  وَأَمَّا الرَّبِيعُ الْمُتَكَرِّرُ فِي "المهذب" وَكُتُبِ الْأَصْحَابِ فَهُوَ الرَّبِيعُ1 بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ وَهُوَ رَاوِي  "الأم" وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ أَوْضَحْت حَالَ الرَّبِيعَيْنِ فِي " تهذيب الأسماء واللغات"، وَهَذَا الْجِيزِيُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالزَّايِ مَنْسُوبٌ إلَيَّ جِيزَةِ مِصْرَ، وَهُوَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمِصْرِيُّ الْأَزْدِيُّ مَوْلَاهُمْ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ فِي سُنَنِهِمَا، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ عُمْدَةً عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ جُزَّ الشَّعْرَ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ نَظَرْت - فَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ - لَمْ يَنْجُسْ؛  لِأَنَّ الْجَزَّ فِي الشَّعْرِ كَالذَّبْحِ فِي الْحَيَوَانِ، وَلَوْ ذُبِحَ الْحَيَوَانُ لَمْ يَنْجُسْ فَكَذَلِكَ إذَا جَزّ شَعْرَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ لَا يُؤْكَلُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَيَوَانِ، وَلَوْ ذُبِحَ الْحَيَوَانُ كَانَ مَيْتَةً فَكَذَلِكَ إذَا جُزَّ شَعْرُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةٌ".
الشرح:فِي هَذِهِ الْقِطْعَةِ مَسَائِلُ: إحداها: إذَا جُزَّ شَعْرٌ أَوْ صُوفٌ أَوْ وَبَرٌ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ الْقِيَاسُ نَجَاسَتَهُ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمُنْفصل:ةِ فِي الْحَيَاةِ وَلَكِنْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى طَهَارَتِهَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فِي مَلَابِسِ الْخَلْقِ وَمَفَارِشِهِمْ، وَلَيْسَ فِي شُعُورِ الْمُذَكَّيَاتِ كِفَايَةٌ، لِذَلِكَ قَالُوا: وَنَظِيرُهُ اللَّبَنُ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ فِي الْبَاطِنِ كَالدَّمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجُزَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ أَوْ وَثَنِيٌّ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: إذَا انْفصل: شَعْرٌ أَوْ صُوفٌ أَوْ وَبَرٌ أَوْ رِيشٌ عَنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ فِي حَيَاتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَتْفٍ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: الصَّحِيحُ مِنْهَا وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ سَوَاءٌ انْفصل: بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَتْفٍ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَطْهُرُ إلَّا الْمَجْزُوزُ؛  لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتُ. وَالثَّالِثُ: إنْ سَقَطَ بِنَفْسِهِ فَطَاهِرٌ، وَإِنْ نُتِفَ فَنَجِسَ؛  لِأَنَّهُ عُدِلَ بِهِ عَنْ  الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ الْحَيَوَانِ فَهُوَ كَخَنْقِهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَالْمُخْتَارُ مَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الطَّهَارَةُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَزِّ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ ذَبَحَ بِسِكِّينٍ كَالٍّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحِلَّ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفَ - رحمه الله: وَإِنْ جُزَّ الشَّعْرُ لَمْ يَنْجُسْ؛  لِأَنَّ الْجَزَّ كَالذَّبْحِ فَرُبَّمَا أَوْهَمَ أَنَّ السَّاقِطَ بِنَفْسِهِ نَجِسٌ، وَهَذَا الْوَهْمُ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِالْجَزِّ التَّمْثِيلُ لِمَا انْفصل: فِي الْحَيَاةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ترجمناه في حواشي هذا الجزء (ط)

 

ج / 1 ص -130-       فرع: قَالَ الْبَغَوِيّ: لَوْ قُطِعَ جَنَاحُ طَائِرٍ مَأْكُولٍ فِي حَيَاتِهِ فَمَا عَلَيْهِ مِنْ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ نَجِسٌ تَبَعًا لَمَيْتَتِهِ .
الرَّابِعَةُ: إذَا جُزَّ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالرِّيشُ مِنْ حَيَوَانٍ لَا يُؤْكَلُ أَوْ سَقَطَ بِنَفْسِهِ أَوْ نُتِفَ - فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ شَعْرِ الْمَيْتَةِ؛  لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي شَعْرِ الْمَيْتَةِ، وَالْمَذْهَبُ نَجَاسَتُهُ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَطَهَارَتُهُ مِنْ الْآدَمِيِّ.
فرع: مُهِمٌّ: قَدْ اُشْتُهِرَ فِي أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ وَكُتُبِهِمْ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٍ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ، وَدَلِيلُهَا حَدِيثُ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَجُبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ وَيَقْطَعُونَ أَلَيَاتِ الْغَنَمِ فَقَالَ:
مَا يُقْطَعُ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
فرع: إذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّ الشَّعْرَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ فَرَأَى شَعْرًا لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ فَهُوَ طَاهِرٌ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَهُوَ نَجِسٌ؛  لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنْ شَكَّ فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْحَابِ فِي أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّحْرِيمِ، وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ صَاحِبُ الْبَحْرِ ثُمَّ قَالَ احْتِمَالًا لِنَفْسِهِ فِي نَجَاسَةِ الْمَأْكُولِ: لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أُخِذَ فِي حَيَاتِهِ أَمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ خَطَأٌ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا طَهَارَتَهُ وَلَمْ يُعَارِضْهَا أَصْلٌ وَلَا ظَاهِرٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِيمَا إذَا شَكَّ فَوَجْهَانِ، فَالْمُخْتَارُ مِنْهُمَا الطَّهَارَةُ لِأَنَّنَا تَيَقَّنَّا طَهَارَتَهُ  فِي الْحَيَاةِ وَلَمْ يُعَارِضْهَا أَصْلٌ وَلَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى كَوْنِ الظَّاهِرِ نَجَاسَتُهُ، وَأَمَّا احْتِمَالُ كَوْنِهِ شَعْرَ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَضَعِيفٌ؛  لِأَنَّهُ فِي غَايَةِ النُّدُورِ. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمُسْتَظْهِرِيِّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْوَجْهَيْنِ عَنْ حِكَايَةِ صَاحِبِ الْحَاوِي: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلْ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا - فَمَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النَّقْلِ وَالدَّلِيلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا الْعَظْمُ وَالسِّنُّ وَالْقَرْنُ وَالظِّلْفُ وَالظُّفُرُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هُوَ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ؛  لِأَنَّهُ لَا يُحِسُّ وَلَا يَأْلَمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْجُسُ قَوْلًا وَاحِدًا".
الشرح:هَذَانِ الطَّرِيقَانِ مَشْهُورَانِ، الْمَذْهَبُ مِنْهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ الْقَطْعُ بِالنَّجَاسَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ الْمسألة:وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي مسألة:الشَّعْرِ، وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُحِسُّ وَلَا يَأْلَمُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ السِّنَّ تَضْرَسُ وَالْعَظْمَ1 يُحِسُّ، قَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الكلام مبني على القول بأن الشعر والظفر والسن تحل فيها الحياة ويرده نمو الشعر بعد حلقه ونبت السن أن الضرس بعد قلعه إلى البلوغ وقد استدل الغزالي في معارج القدس على حياة النبات ينمو والنمو حركة وانتشار (ط)

 

ج / 1 ص -131-       أَصْحَابُنَا: حُكْمُ الظُّفُرِ حُكْمُ الْعَظْمِ وَالظِّلْفِ وَالْقَرْنِ، هَذَا فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ، وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْآدَمِيِّ فَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي مسألة:الشَّعْرِ، وَأَمَّا خُفُّ الْبَعِيرِ الْمَيِّتِ فَنَجِسٌ بِلَا خِلَافٍ .
فرع: الْعَاجُ الْمُتَّخَذُ مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ نَجِسٌ عِنْدَنَا كَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْعِظَامِ، لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي شَيْءٍ رَطْبٍ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ نَجَّسَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ لِمُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ، وَلَا يَحْرُمُ؛  لِأَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ بِهِ، وَلَوْ اتَّخَذَ مُشْطًا مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ فَاسْتَعْمَلَهُ فِي رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ رُطُوبَةً مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَنَجَّسَ شَعْرُهُ، وَإِلَّا فَلَا وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ لِلْأَصْحَابِ. وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ مِنْ تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ.
قُلْت: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ هَكَذَا فِي اسْتِعْمَالِ مَا يُصْنَعُ بِبَعْضِ بِلَادِ  حَوْرَانَ مِنْ أَحْشَاءٍ لِلْغَنَمِ عَلَى هَيْئَةِ الْأَقْدَاحِ وَالْقِصَاعِ وَنَحْوِهَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَطْبٍ، وَيَجُوزُ فِي يَابِسٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَلَوْ جُعِلَ الدُّهْنُ فِي عَظْمِ الْفِيلِ لِلِاسْتِصْبَاحِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ فِي غَيْرِ الْبَدَنِ فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِزَيْتٍ نَجِسٍ؛  لِأَنَّهُ يَنْجُسُ بِوَضْعِهِ فِي الْعَظْمِ. هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا فِي عَظْمِ الْفِيلِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدْته عَنْ الْعِظَامِ كَمَا أَفْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ الْأَصْحَابُ، قَالُوا: وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ النَّاسِ لَهُ، وَلِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ بِطَهَارَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي كُلِّ الْعِظَامِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ: إنْ ذُكِّيَ فَطَاهِرٌ وَإِلَّا فَنَجِسٌ، بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّ الْفِيلَ مَأْكُولٌ، قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إنَّهُ نَجِسٌ لَكِنْ يَطْهُرُ بِخَرْطِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلِيلَ نَجَاسَةِ جَمِيعِ الْعِظَامِ وَهَذَا مِنْهَا، وَمَذْهَبُ النَّخَعِيِّ ضَعِيفٌ بَيِّنُ الضَّعْفِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فرع: قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: سُئِلَ فَقِيهُ الْعَرَبِ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ الْإِنَاءِ الْمُعَوَّجِ فَقَالَ: إنْ أَصَابَ الْمَاءُ تَعْوِيجَهُ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا فَيَجُوزُ، وَالْإِنَاءُ الْمُعَوَّجُ هُوَ الْمُضَبَّبُ بِقِطْعَةٍ مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالصُّورَةُ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ. وَفَقِيهُ الْعَرَبِ لَيْسَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ يَذْكُرُونَ مَسَائِلَ فِيهَا أَلْغَازٌ وَمُلَحٌ يَنْسِبُونَهَا إلَى فُتْيَا فَقِيهِ الْعَرَبِ، وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ كِتَابًا سَمَّاهُ فُتْيَا فَقِيهِ الْعَرَبِ، ذَكَرَ فِيهِ هَذِهِ الْمسألة:وَأَشَدُّ إلْغَازًا مِنْهَا .
فرع: وَيَجُوزُ إيقَادُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ غَيْرَ الْآدَمِيِّ تَحْتَ الْقُدُورِ وَفِي التَّنَانِيرِ وَغَيْرِهَا، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ "الحاوي" وَالْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابَيْهِ التَّحْرِيرِ وَالْبُلْغَةِ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ .
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا اللَّبَنُ فِي ضَرْعِ الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ فَهُوَ نَجِسٌ؛  لِأَنَّهُ مُلَاقٍ لِلنَّجَاسَةِ فَهُوَ كَاللَّبَنِ فِي إنَاءٍ نَجِسٍ. وَأَمَّا الْبَيْضُ فِي جَوْفِ الدَّجَاجَةِ الْمَيِّتَةِ فَإِنْ لَمْ يَتَصَلَّبْ قِشْرُهُ فَهُوَ كَاللَّبَنِ، وَإِنْ تَصَلَّبَ قِشْرُهُ لَمْ يَنْجُسْ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ بَيْضَةٌ فِي شَيْءٍ نَجِسٍ ".
الشرح: أَمَّا مسألة:اللَّبَنِ فَهُوَ نَجِسٌ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ، هَذَا حُكْمُ لَبَنِ الشَّاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَفِي  ثَدْيِهَا لَبَنٌ - فَإِنْ قُلْنَا يَنْجُسُ الْآدَمِيُّ بِالْمَوْتِ - فَاللَّبَنُ نَجِسٌ كَمَا فِي الشَّاةِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ فَهَذَا اللَّبَنُ طَاهِرٌ؛  لِأَنَّهُ فِي إنَاءٍ طَاهِرٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ الْمسألة:فِي آخِرِ بَابِ بَيْعِ الْغَرَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 1 ص -132-       وَأَمَّا الْبَيْضَةُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ أَصَحُّهَا وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ: إنْ تَصَلَّبَتْ فَطَاهِرَةٌ، وَإِلَّا فَنَجِسَةٌ.وَالثَّانِي: طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا.وَالثَّالِثُ: نَجِسَةٌ مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ الْمُتَوَلِّي عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا نَقْلٌ غَرِيبٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. قَالَ صَاحِبَا "الحاوي" وَالْبَحْرِ: وَلَوْ وُضِعَتْ هَذِهِ الْبَيْضَةُ تَحْتَ طَائِرٍ فَصَارَتْ فَرْخًا كَانَ الْفَرْخُ طَاهِرًا عَلَى الْأَوْجُهِ كُلِّهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْبَيْضَةِ نَجِسٌ، وَأَمَّا الْبَيْضَةُ الْخَارِجَةُ فِي حَيَاةِ الدَّجَاجَةِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ ظَاهِرِهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي الْوَلَدِ الْخَارِجِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. وَأَمَّا إذَا انْفصل:الْوَلَدُ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهَا فَعَيْنُهُ طَاهِرَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَيَجِبُ غُسْلُ ظَاهِرِهِ بِلَا خِلَافٍ. وَاذَا اسْتَحَالَتْ الْبَيْضَةُ الْمُنْفصل:ةُ دَمًا فَهَلْ هِيَ نَجِسَةٌ أَمْ طَاهِرَةٌ ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ اخْتَلَطَتْ صُفْرَتُهَا بِبَيَاضِهَا فَهِيَ طَاهِرَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَسَنُعِيدُ الْمسألة:فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَبْسُوطَةً - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَالدَّجَاجَةُ وَالدَّجَاجُ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّبَنَ فِي ضَرْعِ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ طَاهِرٌ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ يُلَاقِي نَجَاسَةً بَاطِنِيَّةً فَكَانَ طَاهِرًا كَاللَّبَنِ مِنْ شَاةٍ حَيَّةٍ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَنِيَّ طَاهِرٌ عِنْدَكُمْ وَيَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ مُلَاقٍ لِنَجَاسَةٍ فَهُوَ كَلَبَنٍ فِي إنَاءٍ نَجِسٍ.
وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّبَنَ يُلَاقِي الْفَرْثَ وَالدَّمَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْمُلَاقَاةَ؛  لِأَنَّ الْفَرْثَ فِي الْكِرْشِ، وَالدَّمَ فِي الْعُرُوقِ، وَاللَّبَنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ رَقِيقٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ نَجَاسَةُ الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ لَهَا حُكْمٌ إذَا انْفصل:  مَا لَاصَقَهَا، وَلِهَذَا لَوْ ابْتَلَعَ جَوْزَةً وَتَقَايَأَهَا صَارَتْ نَجِسَةَ الظَّاهِرِ. وَأَمَّا الْمَنِيُّ فَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَخْرَجَهُ مَخْرَجُ الْبَوْلِ فَالْفَرْقُ أَنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ، وَتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، بِخِلَافِ اللَّبَنِ فِي الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ وَأَمَّا مسألة:الْبَيْضِ فِي دَجَاجَةٍ مَيِّتَةٍ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا، وَحُكِيَ تَنْجِيسُهَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمَالِكٍ رضي الله عنهم، وَطَهَارَتُهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"إذَا ذُبِحَ حَيَوَانٌ يُؤْكَلُ لَمْ يَنْجُسْ بِالذَّبْحِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَظْمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ؛  لِأَنَّهُ جُزْءٌ طَاهِرٌ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ مَأْكُولٍ فَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَعْدَ الذَّكَاةِ كَاللَّحْمِ ".
الشرح: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: " مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ " احْتِرَازٌ مِنْ أَجْزَاءِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِمُجَرَّدِ الذَّكَاةِ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ ذُبِحَ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ نَجِسَ بِذَبْحِهِ كَمَا يَنْجُسُ بِمَوْتِهِ؛  لِأَنَّهُ ذَبْحٌ لَا يُبِيحُ أَكْلَ اللَّحْمِ فَنَجِسَ بِهِ كَمَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ ".

 

ج / 1 ص -133-       الشرح:مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِذَبْحِ مَا لَا يُؤْكَلُ شَعْرُهُ وَلَا جِلْدُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَطْهُرُ جِلْدُهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي طَهَارَةِ لَحْمِهِ، وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ مَالِكٍ طَهَارَةَ الْجِلْدِ بِالذَّكَاةِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَا عَلَى نَجَاسَتِهِمَا، وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ"فَشُبِّهَ الدِّبَاغُ بِالذَّكَاةِ وَالدِّبَاغُ يُطَهِّرُهُ فَكَذَا الذَّكَاةُ؛  وَلِأَنَّهُ جِلْدٌ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ فَطَهُرَ بِالذَّكَاةِ كَالْمَأْكُولِ، وَلِأَنَّ مَا طَهَّرَ جِلْدَ الْمَأْكُولِ طَهَّرَ غَيْرَهُ كَالدِّبَاغِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَشْيَاءَ أَحْسَنُهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَفِيهِ كِفَايَةٌ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا مُنْتَقَضٌ بِذَبْحِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ فَإِنَّهُ لَا يُبِيحُ أَكْلَهَا وَيُفِيدُ  طَهَارَتَهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّ أَكْلَهَا كَانَ مُبَاحًا وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَارِضٍ وَهُوَ السُّمُّ حَتَّى لَوْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِ السُّمِّ بِطَرِيقٍ أُبِيحَ الْأَكْلُ، وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ بِالذَّبْحِ أَكْلُ اللَّحْمِ، فَإِذَا لَمْ يُبِحْهُ هَذَا الذَّبْحُ فَلَأَنْ لَا يُبِيحَ طَهَارَةَ الْجِلْدِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ:
"دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ"- فَمِنْ أَوْجُهٍ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ: أحدها: أَنَّهُ عَامُّ فِي الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ فَنَخُصُّهُ بِالْمَأْكُولِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا.وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُهُ. الثالث: ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّ الْأَدِيمَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى جِلْدِ الْغَنَمِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ بِ"الإجماع" فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُخْتَلِفِ فِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الدِّبَاغِ مِنْ وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدِّبَاغَ مَوْضُوعٌ لِإِزَالَةِ نَجَاسَةٍ حَصَلَتْ بِالْمَوْتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الذَّكَاةُ، فَإِنَّهَا تَمْنَعُ عِنْدَهُمْ حُصُولَ نَجَاسَةٍ.وَالثَّانِي: أَنَّ الدِّبَاغَ إحَالَةٌ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ فِعْلٌ، بَلْ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَدْبَغَةِ انْدَبَغَ، بِخِلَافِ الذَّكَاةِ فَإِنَّهَا مُبِيحَةٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا فِعْلُ فَاعِلٍ بِصِفَةٍ فِي حَيَوَانٍ بِصِفَةٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لِأَخْذِ جِلْدِهِ وَلَا لِيَصْطَادَ عَلَى لَحْمِهِ النُّسُورَ وَالْعِقْبَانَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْحِمَارُ الزَّمِنُ وَالْبَغْلُ الْمُكَسَّرُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى الْمسألة:الْقَاضِي حُسَيْنٌ ذَكَرَهَا فِي تَعْلِيقِهِ فِي بَابِ بَيْعِ الْكِلَابِ قُبَيْلَ كِتَابِ السَّلَمِ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةُ: يَجُوزُ ذَبْحُهُ لِجِلْدِهِ، وَحَكَى غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ أَصَحُّهُمَا عَنْهُ جَوَازُهُ. وَالثَّانِيَةُ تَحْرِيمُهُ، وَهُمَا مَبْنِيَّتَانِ عَلَى تَحْرِيمِ لَحْمِهِ عِنْدَهُ.
فرع: اتَّخَذَ حَوْضًا مِنْ جِلْدٍ نَجِسٍ وَوَضَعَ فِيهِ قُلَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْمَاءِ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ وَالْإِنَاءُ نَجِسٌ، وَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِ كَلَامٌ سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ قُلَّتَيْنِ فَنَجِسٌ، وَنَظِيرُهُ لَوْ وَلَغَ كَلْبٌ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ مَاءٌ طَاهِرٌ فِي إنَاءٍ نَجِسٍ، وَإِلَّا فَهُمَا نَجِسَانِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبَ فِي تَعْلِيقِهِ: وَلَا نَظِيرَ لِهَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ  وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ"، وَهَلْ يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ ؟ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ:كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ؛  لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِلسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ": "الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ

 

ج / 1 ص -134-       الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ"، فَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ النَّارَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ. وَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْهُ صَحَّ الْوُضُوءُ؛  لِأَنَّ الْمَنْعَ لَا يَخْتَصُّ بِالطَّهَارَةِ فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ هُوَ جَرَيَانُ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ فِي اسْتِعْمَالِ الظَّرْفِ دُونَ مَا فِيهِ، فَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ الْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ حَرَامًا؛  لِأَنَّ الْمَنْعَ لِأَجْلِ الظَّرْفِ دُونَ مَا فِيهِ. وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛  لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ الِاتِّخَاذِ. وَالثَّانِي: لَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛  لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ كَالطُّنْبُورِ وَالْبَرْبَطِ. وَأَمَّا أَوَانِي الْبَلُّورِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمُثَمَّنَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: رَوَى حَرْمَلَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛  لِأَنَّهُ أَعْظَمُ فِي السَّرَفِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَهُوَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى، وَرَوَى الْمُزَنِيّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛  لِأَنَّ السَّرَفَ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛  لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ".
الشرح:قَدْ جَمَعَ هَذَا الْفصل: جُمَلًا مِنْ الْحَدِيثِ فِي اللُّغَةِ وَالْأَحْكَامِ وَيَحْصُلُ بَيَانُهَا بِمَسَائِلَ: إحداها: حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي "الصحيحين" لَكِنَّ لَفْظَهُ فِيهِمَا:
"لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"إلَخْ فَذَكَرَ فِيهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ "المهذب" الْفِضَّةُ فَقَطْ، وَفِي بَعْضِهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمَّا الصِّحَافُ فَجَمْعُ صَحْفَةٍ كَقَصْعَةٍ وَقِصَاعٍ وَالصَّحْفَةُ دُونَ الْقَصْعَةِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْقَصْعَةُ مَا تَسَعُ مَا يُشْبِعُ عَشْرَةً، وَالصَّحْفَةُ مَا يُشْبِعُ خَمْسَةً. وَأَمَّا رَاوِيهِ فَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالْيَمَانُ لَقَبٌ وَاسْمُهُ حُسَيْلٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَآخِرُهُ لَامٌ، وَيُقَالُ: حِسْلٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ، وَالْيَمَانُ صَحَابِيٌّ شَهِدَ هُوَ وَابْنُهُ حُذَيْفَةُ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ الْيَمَانَ رضي الله عنه خَطَأً، وَكَانَ حُذَيْفَةُ مِنْ  فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْخِصِّيصِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ بِالْمَدَائِنِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، بَعْدَ وَفَاةِ عُثْمَانَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ:
"الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ"فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها وَلَفْظُهُ فِيهِمَا: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ"، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "إنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ" ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءٍ مِنْ ذَهَبِ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ". وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم يُجَرْجِرُ بِكَسْرِ الْجِيمِ الثَّانِيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَنَارًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ النَّارَ فَاعِلَةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالْخَطَّابِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَزْهَرِيُّ وَآخَرُونَ غَيْرَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ، وَرَوَيْنَاهُ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ وَفِي الْجَعْدِيَّاتِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارًا"كَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ نَارًا بِالْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَهَنَّمَ.
 وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَعَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ الْفَاعِلُ هُوَ الشَّارِبُ مُضْمَرٌ فِي يُجَرْجِرُ، أَيْ يُلْقِيهَا فِي بَطْنِهِ بِجَرْعٍ مُتَتَابِعٍ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ لِتَرَدُّدِهِ فِي حَلْقِهِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ تَكُونُ النَّارُ فَاعِلَةً، مَعْنَاهُ أَنَّ النَّارَ تُصَوِّتُ فِي جَوْفِهِ، وَسُمِّيَ الْمَشْرُوبُ نَارًا لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}[النساء:10] وَأَمَّا جَهَنَّمُ - عَافَانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ بَلَاءٍ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ

 

ج / 1 ص -135-       فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ يُونُسُ وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ: هِيَ عَجَمِيَّةٌ لَا تَنْصَرِفُ لِلتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عَرَبِيَّةٌ لَا تَنْصَرِفُ لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّعْرِيفِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرِهَا، يُقَالُ: بِئْرٌ جِهْنَامٌ إذَا كَانَتْ عَمِيقَةَ الْقَعْرِ، وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجُهُومَةِ وَهِيَ الْغِلَظُ سُمِّيَتْ بِهِ لِغِلَظِ أَمْرِهَا فِي الْعَذَابِ.
الْمسألةالثَّانِيَةُ:فِي لُغَاتِ الْفصل: سَبَقَ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثَيْنِ، وَأَمَّا السَّرَفُ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ  الْمَحْدُودِ لِمِثْلِهِ، وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ فَبِضَمِّ الْخَاءِ وَالْمَدِّ مِنْ الِاخْتِيَالِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الِاخْتِيَالُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّخَيُّلِ وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِالشَّيْءِ، فَالْمُخْتَالُ يَتَخَيَّلُ فِي صُورَةِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ تَكَبُّرًا. وَقَوْلُهُ: وَالتَّشَبُّهُ بِالْأَعَاجِمِ يَعْنِي بِهِمْ الْفُرْسَ مِنْ الْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ هَذَا غَالِبًا فِي الْأَكَاسِرَةِ. وَأَمَّا الطُّنْبُورُ فَبِضَمِّ الطَّاءِ وَالْبَاءِ، وَالْبَرْبَطُ بِفَتْحِ الْبَاءَيْنِ الْمُوَحَّدَتَيْنِ وَهُوَ الْعُودُ وَالْأَوْتَارُ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ وَمَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ صَدْرُ الْبَطِّ وَعُنُقُهُ؛  لِأَنَّ صُورَتَهُ تُشْبِهُ ذَلِكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخِضْرُ الْجَوَالِيقِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُعَرَّبِ: هُوَ مُعَرَّبٌ، وَتَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ قَدِيمًا، وَهُوَ مِنْ مَلَاهِي الْعَجَمِ، قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: وَالطُّنْبُورُ مُعَرَّبٌ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي لَفْظِ الْعَرَبِ، قَالَ: وَالطِّنْبَارُ لُغَةٌ فِيهِ. وَأَمَّا الْفَيْرُوزَجُ فَبِفَتْحِ الْفَاء وَضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ. وَالْبِلَّوْرُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُقَال بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ، وَمِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ هَذَا الثَّانِي أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيُّ، وَهَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ أَيْضًا عَجَمِيَّتَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمسألةالثَّالِثَةُ: فِي أَحْكَامِ الْفصل: فَاسْتِعْمَالُ الْإِنَاءِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ حِرَامٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى الْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَاهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهُ يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَلَا يَحْرُمُ، وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ الْخُرَاسَانِيِّينَ هَذَا الْقَوْلَ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْمَشْرُوبَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ حَرَامًا، وَذَكَر صَاحِبُ التَّقْرِيبِ أَنَّ سِيَاقَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ عَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي اُتُّخِذَ مِنْهُ الْإِنَاءُ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، وَلِهَذَا لَمْ يُحَرَّمْ الْحُلِيُّ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَمَنْ أَثْبَتَ الْقَدِيمَ فَهُوَ مُعْتَرِفٌ بِضَعْفِهِ فِي النَّقْلِ وَالدَّلِيلِ. وَيَكْفِي فِي ضَعْفِهِ مُنَابَذَتُهُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَشْبَاهِهِ، وَقَوْلُهُمْ فِي تَعْلِيلِهِ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِلسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ. لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هُوَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَكَمْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى تَحْرِيمِ الْخُيَلَاءِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لِلْقَدِيمِ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ كَمَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْحَرِيرِ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَدِيمَ لَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ وَنَذْكُرُهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْجَدِيدِ، وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَحْرُمُ الشُّرْبُ دُونَ  الْأَكْلِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ فَاحِشٌ، فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا سَبَقَ، وَهَذَانِ نَصَّانِ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَإِجْمَاعٌ مِنْ قَبْلِ دَاوُد حُجَّةٌ عَلَيْهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الِاسْتِعْمَالِ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد، وَإِلَّا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَلِأَنَّهُ إذَا حَرَّمَ الشُّرْبَ فَالْأَكْلُ أَوْلَى؛  لِأَنَّهُ أَطْوَلُ مُدَّةً وَأَبْلُغُ فِي السَّرَفِ.

 

ج / 1 ص -136-       وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ" وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَكْلَ فَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدهَا: أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَمَا سَبَقَ.الثَّانِي: أَنَّ الْأَكْلَ مَذْكُورٌ فِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعَارَضَةٌ لَهُ.وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشُّرْبِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛  لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الِاسْتِيلَاءِ فِي مَعْنَى الْأَكْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا نَبَّهَ بِهِ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ:قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ: يَسْتَوِي فِي تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَشُمُولِ الْمَعْنَى الَّذِي حُرِّمَ بِسَبَبِهِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي التَّحَلِّي لِمَا يُقْصَدُ فِيهِنَّ مِنْ غَرَضِ الزِّينَةِ لِلْأَزْوَاجِ وَالتَّجَمُّلِ لَهُمْ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَسْتَوِي فِي التَّحْرِيمِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالْبَوْلِ فِي الْإِنَاءِ، وَالْأَكْلِ بِمِلْعَقَةِ الْفِضَّةِ وَالتَّجَمُّرِ بِمِجْمَرَةٍ فِضَّةٍ إذَا اُحْتُوِيَ عَلَيْهَا، قَالُوا: وَلَا بَأْسَ إذَا لَمْ يَحْتَوِ عَلَيْهَا وَجَاءَتْهُ الرَّائِحَةُ مِنْ بَعِيدٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا بِحَيْثُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ أَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ بِهَا، وَتَحْرُمُ الْمُكْحُلَةُ، وَظَرْفُ الْغَالِيَةِ وَإِنْ صَغُرَ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ وَالِدِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ تَرَدُّدًا فِي جَوَازِ ذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ فِضَّةٍ.
قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِهِ، وَأَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ خِلَافًا فِي اسْتِعْمَالِ الْإِنَاءِ الصَّغِيرِ كَالْمُكْحُلَةِ وَلَمْ يَخُصَّهُ بِالْفِضَّةِ، وَكَلَامُهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرَ شَيْخُهُ وَهُوَ التَّخْصِيصُ بِالْفِضَّةِ، وَيَحْرُمُ تَزْيِينُ الْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ وَالْمَجَالِسِ بِأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ  شَيْخَهُ حَكَى فِيهِ وَجْهَيْنِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِالتَّحْرِيمِ لِلسَّرَفِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ الْوَرْدِ مِنْ قَارُورَةِ الْفِضَّةِ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ: وَالْحِيلَةُ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِنْهَا أَنْ يَصُبَّهُ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ يَصُبَّهُ مِنْ الْيَسَرَيْ فِي الْيُمْنَى وَيَسْتَعْمِلَهُ فَلَا يَحْرُمُ، وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ: لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ إنَاءِ فِضَّةٍ فَصَبَّ الْمَاءَ عَلَى يَدِهِ ثُمَّ صَبَّهُ مِنْهَا عَلَى مَحَلِّ الطَّهَارَة جَازَ. قَالَ: وَكَذَا لَوْ صَبَّ الْمَاءَ فِي يَدِهِ ثُمَّ شَرِبَهُ مِنْهَا جَازَ فَلَوْ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي يُرِيدُ غَسْلَهُ فَهُوَ حَرَامٌ؛  لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ، وَذَكَرَ صَاحِبُ "الحاوي" نَحْوَ هَذَا فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ التَّوَقِّيَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فِي الْأَكْلِ مِنْ إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلْيُخْرِجْ الطَّعَامَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ ثُمَّ يَأْكُلْ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَلَا يَعْصِي، قَالَ: وَفَعَلَ مِثْلَ هَذَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِثْلَهُ عَنْ شَيْخِهِ الْقَفَّالِ الْمَرْوَزِيِّ، وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ؛  لِأَنَّ فِعْلَهُ هَذَا تَرْكٌ لِلْمَعْصِيَةِ فَلَا يَكُونُ حَرَامًا، كَمَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ بِنِيَّةِ التَّوْبَةِ، وَيَكُونُ فِي خُرُوجِهِ مُطِيعًا لَا عَاصِيًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّادِسَةُ: لَوْ تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ مِنْ إنَاءِ الذَّهَبِ صَحَّ وُضُوءُهُ وَغُسْلُهُ بِلَا خِلَافٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - فِي الْأُمِّ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَوْلُهُ: كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، هَكَذَا عَادَةُ أَصْحَابِنَا يَقِيسُونَ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ،

 

ج / 1 ص -137-       وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا "الإجماع" عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ قَبْلَ مُخَالَفَةِ أَحْمَدَ - رحمه الله -، وَمِثْلُ هَذَا لَوْ تَوَضَّأَ أَوْ تَيَمَّمَ بِمَاءٍ أَوْ بِتُرَابٍ مَغْصُوبٍ، أَوْ ذَبَحَ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبٍ، أَوْ أَقَامَ الْإِمَامُ الْحَدَّ بِسَوْطٍ مَغْصُوبٍ - صَحَّ الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ وَالذَّبْحُ وَالْحَدُّ، وَيَأْثَمُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ هُوَ جَرَيَانُ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ فَفِيهِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ حَتَّى يَجْرِيَ الْمَاءُ عَلَى الْعُضْوِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي إمْسَاسُهُ وَالْبَلَلُ وَسَتَأْتِي الْمسألة:مَبْسُوطَةً فِي بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ الْوُضُوءِ مِنْ إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ دَاوُد: لَا يَصِحُّ .
السَّابِعَةُ:إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْ إنَاءِ الْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ عَصَى بِالْفِعْلِ،  وَلَا يَكُونُ الْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ حَرَامًا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي  "الأم" وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّامِنَةُ: هَلْ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْإِنَاءِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَادِّخَارُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَفِي التَّنْبِيهِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ وَالْأَكْثَرُونَ وَجْهَيْنِ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ " المجموع" وَالتَّجْرِيدِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالشَّيْخُ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ قَوْلَيْنِ، وَذَكَرَ صَاحِبَا الشَّامِلِ وَالْبَحْرِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي حِكَايَتِهِ، فَبَعْضُهُمْ حَكَاهُ قَوْلَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ وَجْهَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ تَحْرِيمُ الِاتِّخَاذِ، وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛  لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ كَالطُّنْبُورِ، وَلِأَنَّ اتِّخَاذَهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِعْمَالِهِ فَحُرِّمَ كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الِاتِّخَاذِ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ الْآخَرِ: إنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ الِاتِّخَاذِ، فَيُقَالُ: عَقَلْنَا الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ وَهِيَ السَّرَفُ وَالْخُيَلَاءُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الِاتِّخَاذِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ صَنَعَ الْإِنَاءَ صَانِعٌ أَوْ كَسَرَهُ كَاسِرٌ - فَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ - وَجَبَ لِلصَّانِعِ الْأُجْرَةُ وَعْلِي الْكَاسِرِ الْأَرْشُ، وَإِلَّا فَلَا.
التَّاسِعَةُ: هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي مِنْ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ كَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالْعَقِيقِ وَالزُّمُرُّدِ وَهُوَ بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَالزَّبَرْجَدِ وَهُوَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَلُّورِ وَأَشْبَاهِهَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ الْجَوَازُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي  "الأم" وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَلِيلُ الْقَوْلَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إنَّهُ لَا يَحْرُمُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَوْ اتَّخَذَ إنَاءً مِنْ هَذِهِ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: إنْ قُلْنَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فَالِاتِّخَاذُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَكَاِتِّخَاذِ إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمَا كَانَتْ نَفَاسَتُهُ بِسَبَبِ الصَّنْعَةِ لَا لِجَوْهَرِهِ كَالزُّجَاجِ الْمَخْرُوطِ وَغَيْرِهِ لَا يَحْرُمُ بِلَا خِلَافٍ، هَكَذَا صَرَّحُوا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَأَشَارَ صَاحِبُ الْبَيَانِ إلَى وَجْهِ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ مِنْ حَيْثُ الْمَذْهَبُ، وَالدَّلِيلُ الْجَزْمُ بِإِبَاحَتِهِ، وَنَقَلَ

 

ج / 1 ص -138-       صَاحِبُ الشَّامِلِ "الإجماع" عَلَى ذَلِكَ، قَالَ  أَصْحَابُنَا: وَكَذَا لَوْ اتَّخَذَ لِخَاتَمِهِ فَصًّا مِنْ جَوْهَرَةٍ مُثَمَّنَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَا لَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْكَتَّانِ النَّفِيسِ وَالصُّوفِ وَنَحْوِهِ، قَالَ صَاحِبَا "الحاوي" وَالْبَحْرِ: الْإِنَاءُ الْمُتَّخَذُ مِنْ طِيبٍ رَفِيعٍ كَالْكَافُورِ الْمُرْتَفِعِ وَالْمَصَاعِدِ وَالْمَعْجُونِ مِنْ مِسْكٍ وَعَنْبَرٍ يَخْرُجُ فِيهِ وَجْهَانِ:أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ لِحُصُولِ السَّرَفِ.وَالثَّانِي: لَا، لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ لَهُ، قَالَا: وَأَمَّا غَيْرُ الْمُرْتَفِعِ كَالصَّنْدَلِ وَالْمِسْكِ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ قَطْعًا.
فرع: قَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْبِلَّوْرَ1 كَالْيَاقُوتِ وَأَنَّ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ عَلَقَ فِي ذِهْنِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُبْتَدَئِينَ وَشِبْهِهِمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ خَالَفَ الْأَصْحَابَ فِي هَذَا، وَأَنَّهُمْ قَطَعُوا بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ إنَاءِ الْبِلَّوْرِ لِأَنَّهُ كَالزُّجَاجِ، وَهَذَا الَّذِي عَلَقَ بِأَذْهَانِهِمْ وَهْمٌ فَاسِدٌ، بَلْ صَرَّحَ الْجُمْهُورُ بِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْبِلَّوْرِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ شَيْخُ الْأَصْحَابِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي " المجموع" وَالتَّجْرِيدِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابَيْهِ التَّحْرِيرِ وَالْبُلْغَةِ وَالشَّيْخُ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ الْإِبَانَةِ وَالْغَزَالِيُّ فِي "الوجيز" وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَالتَّهْذِيبِ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابَيْهِ الْبَحْرِ وَالْحِلْيَةِ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُمْ صَاحِبُ "الحاوي" فَقَطَعَ بِجَوَازِهِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَلْحَقَ شَيْخِي الْبِلَّوْرَ بِالزُّجَاجِ، وَأَلْحَقَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْعِرَاقِيُّونَ بِالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَحَصَلَ أَنَّ الْجُمْهُورَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، عَلَى طَرْدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْبِلَّوْرِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا صَاحِبُ "الحاوي" وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فرع: إذَا بَاعَ إنَاءَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ؛  لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَيْنٌ يَصِحُّ بَيْعُهَا، هَكَذَا أَطْلَقَ الْقَاضِي هُنَا، وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي جَامِعِهِ هُنَا اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى عَلَى الِاتِّخَاذِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ حَرَّمْنَاهُ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا إذَا بَاعَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً تُسَاوِي أَلْفًا بِلَا غِنَاءٍ، وَأَلْفَيْنِ بِسَبَبِ الْغِنَاءِ وَذَكَرَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَوَاخِرِ  كِتَابِ الصَّدَاقِ فِي فُرُوعٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ. قَالَ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: إنْ بَاعَهَا بِأَلْفٍ صَحَّ، وَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أحدها: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْمَحْمُودِيُّ؛  لِئَلَّا يَصِيرَ الْغِنَاءُ مُقَابَلًا بِمَالٍ. وَالثَّانِي: إنْ قَصَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمُغَالَاةِ فِي ثَمَنِهَا غِنَاءَهَا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ صَحَّ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ.وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِالْمَقْصُودِ وَالْأَغْرَاضِ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَوْدَنِيُّ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ السَّدِيدُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فرع: إذَا خَلَّلَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَسْنَانَهُ أَوْ شَعْرَهُ بِخِلَالِ فِضَّةٍ أَوْ اكْتَحَلَا بِمِيلِ فِضَّةٍ فَهُوَ حَرَامٌ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُكْحُلَةِ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ "لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يضبط البلور بكس الباء وفتح اللام المشددة كما يضبط بفتح الباء وضم اللام المشددة (ط)

 

ج / 1 ص -139-       الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ: إنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا"فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ جَازَ لِمَا رُوِيَ "أَنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ".
الشرح:أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَحَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ"قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ حِلٌّ لِإِنَاثِهَا ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِمَا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِلَفْظِهِ فِي "المهذب". وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَرْفَجَةَ فَحَدِيثٌ حَسَنٌ أَيْضًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ رُوِيَ بِصِيغَةِ تَمْرِيضٍ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا " التنبيه" عَلَى هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ وَبَعْدَهَا، وَرَاوِي حَدِيثِ عَرْفَجَةَ هَذَا هُوَ عَرْفَجَةُ رضي الله عنه.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ " أَيْ حَرَامٌ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي التَّحَلِّي وَنَحْوِهِ، وَالْحِلُّ بِكَسْرِ الْحَاءِ هُوَ الْحَلَالُ. وَقَوْلُهُ: " يَوْمَ الْكُلَابِ " هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَهُوَ يَوْمٌ مَعْرُوفٌ مِنْ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ وَقْعَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَالْكُلَابُ اسْمٌ لِمَاءٍ مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ كَانَتْ عِنْدَهُ الْوَقْعَةُ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْكُلَابِ، وَقِيلَ: عِنْدَهُ وَقْعَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، يُقَالُ: فِيهِمَا الْكُلَابُ الْأَوَّلُ وَالْكُلَابُ الثَّانِي، وَقَوْلُهُ: " مِنْ وَرِقٍ " هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفِضَّةُ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ ثُمَّ الْخَطَّابِيُّ وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ كُلُّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ وَرِقٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ: " اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ، " وَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي  "الأم" فِي بَابِ مَا يُوصَلُ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي "المهذب" فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عَلَى فَعِلَ مَفْتُوحَ الْأَوَّلِ مَكْسُورَ الثَّانِي جَازَ إسْكَانُ ثَانِيه مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِهِ فَيَصِيرُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: كَوَرِقٍ وَوَرْقٍ وَوَرِقٍ وَكَتِفِ وَكَتْفٍ وَكِتْفٍ وَوَرْكٍ وَوِرْكٍ وَأَشْبَاهِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَرْفُ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثُ حَرْفَ حَلْقٍ جَازَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَالرَّابِعُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ كَفَخِذٍ وَفَخْذٍ وَفَخِذٍ وَفَخِذٍ. وَحُرُوفُ الْحَلْقِ الْعَيْنُ وَالْغَيْنُ وَالْحَاءُ وَالْخَاءُ وَالْهَاءُ وَالْهَمْزَةُ.
وَهَذَا إنَّمَا أَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ فَقَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ إنْسَانٌ عَلَى بَعْضِ الْأَوْجُهِ الْجَائِزَةِ فَيُغَلِّطُهُ فِيهِ مِنْ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، وَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا عَرْفَجَةُ الرَّاوِي فَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَأَسْعَدُ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْعَيْنِ، وَهُوَ عَرْفَجَةُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ كَرِبَ بْنُ صَفْوَانَ التَّمِيمِيُّ الْعُطَارِدِيُّ رضي الله عنه.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُضَبَّبَ هُوَ مَا أَصَابَهُ شَقٌّ وَنَحْوُهُ فَيُوضَعُ عَلَيْهِ صَفِيحَةٌ تَضُمُّهُ وَتَحْفَظُهُ، وَتَوَسَّعَ الْفُقَهَاءُ فِي إطْلَاقِ الضَّبَّةِ عَلَى مَا كَانَ لِلزِّينَةِ بِلَا شَقٍّ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فِيهِ

 

ج / 1 ص -140-       طَرِيقَانِ:الصَّحِيحُ مِنْهُمَا الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِهِ سَوَاءٌ كَثُرَتْ الضبطَةُ1 أَوْ قَلَّتْ لِحَاجَةٍ أَوْ لِزِينَةٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ  وَصَاحِبُ "الحاوي" وَالْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابَيْهِ. وَالشَّيْخُ نَصْرٌ فِي كِتَابِهِ الْكَافِي وَالْعَبْدَرِيُّ فِي الْكِفَايَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيّ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَقَالَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ: إنَّهُ كَالْمُضَبَّبِ بِالْفِضَّةِ عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ؛  لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْإِنَاءِ فَكَذَا فِي الضَّبَّةِ، وَالْمُخْتَارُ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ لِلْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الذَّهَبِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا ضَبَّةُ الْفِضَّةِ فَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِحَدِيثِ قَبِيعَةِ السَّيْفِ وَضَبَّةِ الْقَدَحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ بَابَ الْفِضَّةِ أَوْسَعُ فَإِنَّهُ يُبَاحُ مِنْهُ الْخَاتَمُ وَغَيْرُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إنْ اُضْطُرَّ إلَى الذَّهَبِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: فَيُبَاحُ لَهُ الْأَنْفُ وَالسِّنُّ مِنْ الذَّهَبِ وَمِنْ الْفِضَّةِ، وَكَذَا شَدُّ السِّنِّ الْعَلِيلَةِ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ جَائِزٌ، وَيُبَاحُ أَيْضًا الْأُنْمُلَةُ مِنْهُمَا، وَفِي جَوَازِ الْأُصْبُعِ وَالْيَدِ مِنْهُمَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْأُنْمُلَةِ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ، وَأَشْهُرُهُمَا لَا يَجُوزُ وَبِهِ قَطَعَ الْفُورَانِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَصَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ؛  لِأَنَّ الْأُصْبُعَ وَالْيَدَ مِنْهُمَا لَا تَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِيَّةِ بِخِلَافِ الْأُنْمُلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ قَلِيلًا لِلْحَاجَةِ لَمْ يَكْرَهْ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه "أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّفَةِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ"وَإِنْ كَانَ لِلزِّينَةِ كُرِهَ؛  لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَلَا يَحْرُمُ لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: "كَانَ نَعْلُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ، وَقَبِيعَةُ سَيْفِهِ فِضَّةً وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ حِلَقُ الْفِضَّةِ"وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لِلْحَاجَةِ كُرِهَ لِكَثْرَتِهِ، وَلَمْ يَحْرُمْ لِلْحَاجَةِ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لِلزِّينَةِ حَرُمَ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: لَا يَتَوَضَّأُ وَلَا يَشْرَبُ مِنْ قَدَحٍ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ضَبَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: " أَنَّهَا نَهَتْ أَنْ تُضَبَّبَ الْأَقْدَاحُ بِالْفِضَّةِ " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَحْرُمُ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ؛  لِأَنَّهُ يَقَعُ الِاسْتِعْمَالُ بِهِ، وَلَا يَحْرُمُ فِيمَا سِوَاهُ؛  لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِعْمَالُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ لِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
الشرح:قَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْقِطْعَةُ جُمَلًا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَحْكَامِ يَحْصُلُ بَيَانُهَا بِمَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: حَدِيثُ الْقَدَحِ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ إلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي "المهذب" فَاتَّخَذَ مَكَانَ " الشَّفَةِ " هُوَ تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فَاتَّخَذَ مَكَانَ لِلشَّعْبِ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالشَّعْبِ الشَّقُّ وَالصَّدْعُ، وَقَوْلُهُ: انْكَسَرَ مَعْنَاهُ انْشَقَّ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ انْصَدَعَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ شَدَّ الشَّقَّ بِخَيْطِ فِضَّةٍ فَصَارَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ سِلْسِلَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رحمه الله: وَقَوْلُهُ فَاتَّخَذَ، يُوهِمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُتَّخِذُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَنَسٌ هُوَ الْمُتَّخِذُ، فَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْت مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا الأصل ولعل الضبة فزيدت الطاء سهوا (ط)

 

ج / 1 ص -141-       َأبُو عَمْرٍو قَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: رَأَيْت قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَكَانَ قَدْ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ، وَقَدْ أَوْضَحْت ذَلِكَ مَعَ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِي جَامِعِ السُّنَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَحَسَنٌ، رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْهُ: "كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ"قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ فِي الطَّبَقَاتِ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فِي "المهذب" كُلَّهُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي رَوَاهُ مِنْهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ فَجَمِيعُ الْحَدِيثِ عَلَى شَرْطِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَالْقَبِيعَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى رَأْسٍ قَائِمِ السَّيْفِ وَطَرَفِ مِقْبَضِهِ، وَالْحَلَقُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَاللَّامُ فِيهِمَا مَفْتُوحَةٌ جَمْعُ حَلْقَةٍ بِإِسْكَانِ اللَّامِ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ فَتْحَهَا أَيْضًا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ، وَالْمَشْهُورُ إسْكَانُهَا، وَنَعْلُ السَّيْفِ مَا يَكُونُ فِي أَسْفَلِ غِمْدِهِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ فِضَّةٍ وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَصَحِيحٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّ لَفْظَهُ: " كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَشْرَبُ فِي قَدَحٍ فِيهِ حَلْقَةُ فِضَّةٍ وَلَا ضَبَّةُ فِضَّةٍ، " وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَحَسَنٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا أَنَسٌ فَهُوَ أَبُو حَمْزَةَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ بْنُ النَّضْرِ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ  بِالنُّونِ وَالْجِيم الْمَدَنِيُّ ثُمَّ الْبَصْرِيُّ خَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ وَدُفِنَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَثَلَاثِ سِنِينَ، وَكَانَ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ أَوْلَادًا لِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْبَرَكَةِ، وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ رِوَايَةً. وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ بْنُ نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ، أَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ بِمَكَّةَ قَدِيمًا، شَهِدَ الْخَنْدَقَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَقِيلَ أَرْبَعٍ، وَمَنَاقِبُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ مَشْهُورَةٌ ذَكَرْت جُمَلًا مِنْهَا فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَالْمسألةالثَّانِيَةُ: فِي الْأَحْكَامِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْمُخْتَصَرِ: وَأَكْرَهُ الْمُضَبَّبَ بِالْفِضَّةِ لِئَلَّا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ ، وَلِلْأَصْحَابِ فِي الْمسألة:أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: حَكَى الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةً بِدَلَائِلِهَا: أحدها: إنْ كَانَ قَلِيلًا لِلْحَاجَةِ لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَ لِلزِّينَةِ كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا حَرُمَ، وَإِنْ كَانَ لِلْحَاجَةِ كُرِهَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَوْضِعِ فَمِ الشَّارِبِ حَرُمَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّالِثُ: يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ بِحَالٍ.وَالرَّابِعُ: حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ يَحْرُمُ بِكُلِّ حَالٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم، وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ وَصَحَّحَهُ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ الدَّارَكِيِّ وَمُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ، قَالَ: وَحَمَلُوا نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي:هُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَالْقَائِلُ لَا يَحْرُمُ

 

ج / 1 ص -142-       بِحَالٍ هُوَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَلِيلَ لِلزِّينَةِ يُكْرَهُ، وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَحْرُمُ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ.
فرع: فِي بَيَانِ الْحَاجَةِ وَالْقِلَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إنْ كَانَ قَلِيلًا لِلْحَاجَةِ أَمَّا الْحَاجَةُ فَقَالَ الْأَصْحَابُ: الْمُرَادُ بِهَا غَرَضٌ يَتَعَلَّقُ بِالتَّضْبِيبِ سِوَى الزِّينَةِ،  كَإِصْلَاحِ مَوْضِعِ الْكَسْرِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ مَوْضِعَ الْكَسْرِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَسْتَمْسِكُ بِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَجْزُ عَنْ التَّضْبِيبِ بِنُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَغَيْرِهِمَا، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَالْغَزَالِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ احْتِمَالَيْنِ لِنَفْسِهِ: أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: مَعْنَاهَا أَنْ يَعْدِمَ مَا يُضَبِّبُ بِهِ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَأَمَّا ضَبْطُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أحدها: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي طَرِيقَتَيْ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ أَنَّ الْكَثِيرَ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْعِبُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْإِنَاءِ بِكَمَالِهِ كَأَعْلَاهُ أَوْ أَسْفَلِهِ أَوْ شَفَتِهِ أَوْ عُرْوَتِهِ أَوْ شَبَهِ ذَلِكَ، وَالْقَلِيلُ مَا دُونَهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ. وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ صَاحِبُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ  زَوَايَا الْمَسَائِلِ بِأَنَّهُ إذَا اسْتَوْعَبَتْ الْفِضَّةُ جُزْءًا كَامِلًا خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْإِنَاءِ، وَخَرَجَ الْإِنَاءُ عَنْ أَنْ يَكُونَ إنَاءَ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ مَثَلًا، بَلْ يُقَالُ إنَاءٌ مُرَكَّبُ مِنْ نُحَاسٍ وَفِضَّةٍ، لِكَوْنِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ الْمَقْصُودَةِ بِكَمَالِهِ فِضَّةً، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسْتَوْعِبْ جُزْءًا بِكَمَالِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَغْمُورًا تَابِعًا، وَلَا يُعَدُّ الْإِنَاءُ بِسَبَبِهِ مُرَكَّبًا مِنْ فِضَّةٍ وَنُحَاسٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إلَى الْعُرْفِ، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَأَشَارَ إلَى اخْتِيَارِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ مَا أُطْلِقَ وَلَمْ يَحُدَّ رَجَعَ فِي ضَبْطِهِ إلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ وَالْحِرْزِ فِي السَّرِقَةِ وَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَنَظَائِرِهَا.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا أَنَّ الْكَثِيرَ مَا يَلْمَعُ لِلنَّاظِرِ عَلَى بُعْدٍ، وَالْقَلِيلَ مَا لَا يَلْمَعُ، وَمُرَادُهُمْ مَا لَا يَخْرُجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَالْعَادَةِ فِي رِقَّتِهِ وَغِلَظِهِ، وَأَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَضَعَّفَهُ، ثُمَّ اخْتَارَ هَذَا الثَّالِثَ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ فِيهِ ضَعْفٌ، وَالْمُخْتَارُ الرُّجُوعُ إلَى الْعُرْفِ، وَالْوَجْهُ الْمَشْهُورُ حَسَنٌ مُتَّجَهٌ أَيْضًا، وَمَتَى شَكَكْنَا فِي الْكَثْرَةِ فَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا ضَبَّبَ الْإِنَاءَ تَضْبِيبًا جَائِزًا فَلَهُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ مِنْ الْآنِيَةِ الَّتِي لَا فِضَّةَ فِيهَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ .

فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْفصليْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْأَوَانِي:
أحدها: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ شَرِبَ بِكَفَّيْهِ وَفِي أُصْبُعِهِ خَاتِمُ فِضَّةٍ لَمْ يُكْرَهْ، وَكَذَا لَوْ صَبَّ الدَّرَاهِمَ فِي إنَاءٍ وَشَرِبَ مِنْهُ أَوْ كَانَ فِي فَمِهِ دَنَانِيرُ وَدَرَاهِمُ فَشَرِبَ لَمْ يُكْرَهْ، وَلَوْ أَثْبَتَ الدَّرَاهِمَ فِي الْإِنَاءِ بِمَسَامِيرَ لِلزِّينَةِ قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ: هُوَ كَالضَّبَّةِ لِلزِّينَةِ، وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِجَوَازِهِ .
الثَّانِي : لَوْ اتَّخَذَ إنَاءً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَطَلَاهُ بِنُحَاسٍ دَاخِلَهُ وَخَارِجَهُ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي

 

ج / 1 ص -143-       تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالتَّتِمَّةِ وَالتَّهْذِيبِ وَالْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ وَغَيْرِهَا: أَصَحُّهُمَا لَا يَحْرُمُ، قَالُوا: وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ حَرَامُ لَعَيْنِهِمَا أَمْ لِلْخُيَلَاءِ ؟ إنْ قُلْنَا لِعَيْنِهِمَا حَرُمَ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ غَشَّى ظَاهِرَهُ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، وَإِنْ غَشَّى ظَاهِرَهُ وَدَاخِلَهُ فَاَلَّذِي أَرَاهُ الْقَطْعُ بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ؛  لِأَنَّهُ إنَاءُ نُحَاسٍ أُدْرِجَ فِيهِ ذَهَبٌ مُسْتَتِرٌ، وَبِهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَقَالَ: لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَوْ اتَّخَذَ إنَاءً مِنْ نُحَاسٍ وَمَوَّهَهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ: إنْ كَانَ يَتَجَمَّعُ مِنْهُ شَيْءٌ بِالنَّارِ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ. وَالْأَصَحُّ لَا يَحْرُمُ، قَالَهُ فِي " الوسيط" وَالْوَجِيزِ، وَأَطْلَقَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُسْتَهْلَكِ وَمَا يَتَجَمَّعُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالصَّوَابُ حَمْلُ كَلَامِهِمْ عَلَى الْمُسْتَهْلَكِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَتَابِعُوهُ، وَقَدْ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ إذَا غُشِّيَ جَمِيعُهُ بِالْفِضَّةِ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمْ .
الثالث: لَوْ كَانَ لَهُ قَدَحٌ عَلَيْهِ سِلْسِلَةُ فِضَّةٍ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَاهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ بِجَوَازِهِ، وَزَادَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ فَقَالَا: لَوْ اتَّخَذَ لِإِنَائِهِ حَلْقَةً أَوْ سِلْسِلَةَ فِضَّةٍ أَوْ رَأْسًا - جَازَ؛  لِأَنَّهُ مُنْفصل: عَنْ الْإِنَاءِ لَا يَسْتَعْمِلُهُ، هَذَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كَالتَّضْبِيبِ، وَيَجِيءُ فِيهِ التَّفْصِيلُ وَالْخِلَافُ .
الرابع: إذَا قُلْنَا بِطَرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيِّينَ: إنَّ الْمُضَبَّبَ بِذَهَبٍ كَالْمُضَبَّبِ بِفِضَّةٍ فَهَلْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي التَّفْصِيلِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ عَلَى مَا سَبَقَ ؟، قَالَ الرَّافِعِيُّ:  لَمْ يَتَعَرَّضْ الْأَكْثَرُونَ لِذَلِكَ، وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسَوَّى؛  لِأَنَّ الْخُيَلَاءَ فِي قَلِيلِ الذَّهَب كَالْخُيَلَاءِ فِي كَثِيرِ الْفِضَّةِ، وَأَقْرَبُ ضَابِطٍ لَهُ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ ضَبَّةِ الذَّهَبِ إذَا قُوِّمَتْ بِفِضَّةٍ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقِيَاسُ الْبَابِ أَنْ لَا فَرْقَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ هُوَ الصَّحِيحُ؛  لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمسألة:أَنَّ بَعْضَ الْإِنَاءِ كَالْإِنَاءِ أَمْ لَا ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْخَامِسُ: لَوْ اُضْطُرَّ إلَى اسْتِعْمَالِ إنَاءٍ وَلَمْ يَجِدْ إلَّا ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً جَازَ اسْتِعْمَالُهُ حَالَ الضَّرُورَةِ، وَصَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَاتٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُضَبَّبِ بِالْفِضَّةِ.
قَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ مَذْهَبِنَا فِيهِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ جُمْهُور الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ عَلَى كَرَاهَةِ الضَّبَّةِ وَالْحَلْقَةِ مِنْ الْفِضَّةِ، قَالَ: وَجَوَّزَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَمُهُ عَلَى الْفِضَّةِ فِي الشُّرْبِ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ الْمُضَبَّبِ .
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ وَثِيَابُهُمْ لِمَا رَوَى "أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ، فَقَالَ:
لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إلَّا إنْ لَمْ تَجِدُوا عَنْهَا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ كُلُوا فِيهَا" ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَةَ فَكُرِهَ لِذَلِكَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ أَوَانِيهِمْ نَظَرْت - فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ - صَحَّ الْوُضُوءُ؛  "لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ" . وَتَوَضَّأَ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ

 

ج / 1 ص -144-       جَرَّةِ نَصْرَانِيٍّ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمْ الطَّهَارَةُ. وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ الْوُضُوءُ؛  لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمْ الطَّهَارَةُ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ؛  لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ كَمَا يَتَدَيَّنُ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ أَوَانِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ النَّجَاسَةُ".
الشرح:حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ فِيهِمَا  "قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ فَقَالَ
إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا"، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارَيَّ: "فَلَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إلَّا أَنْ لَا تَجِدُوا بُدًّا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: "إنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمْ الْخِنْزِيرَ وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمْ الْخَمْرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا"، هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي "المهذب"  لَا تَأْكُلْ خِطَابًا لِلْوَاحِدِ وَلَهُ وَجْهٌ، وَلَكِنَّ الْمَعْرُوفَ لَا تَأْكُلُوا، قَالَ أَهْل اللُّغَةِ: يُقَالُ لَا بُدَّ مِنْ كَذَا أَيْ لَا فِرَاقَ مِنْهُ وَلَا انْفِكَاكَ عَنْهُ، أَيْ هُوَ لَازِمٌ، وَأَبُو ثَعْلَبَةَ الرَّاوِي وَهُوَ الْخُشَنِيُّ بِخَاءٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ شِينٍ مَفْتُوحَةٍ مُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ نُونٍ مَنْسُوبُ إلَى خُشَيْنٍ بَطْنٌ مِنْ قُضَاعَةَ، وَاسْمُهُ جُرْهُمٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْهَاءِ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَآخَرُونَ. وَقِيلَ جُرْثُومٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاسْم أَبِيهِ نَاشِمٌ بِالنُّونِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو ثَعْلَبَةَ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْت الشَّجَرَةِ ثُمَّ نَزَلَ الشَّامَ وَتُوُفِّيَ أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ، وَقِيلَ أَيَّامَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ" فَهُوَ بَعْضٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما أَنَّهُمْ "كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَعَطِشُوا فَأَرْسَلَ مَنْ يَطْلُبُ الْمَاءَ، فَجَاءُوا بِامْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ عَلَى بَعِيرٍ بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ فِيهِ مِنْهُمَا ثُمَّ قَالَ فِيهِ: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي الْمَزَادَتَيْنِ وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: اسْقُوا وَاسْتَقُوا، فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا وَلَمْ يَدَعُوا إنَاءً وَلَا سِقَاءً إلَّا مَلَئُوهُ، وَأَعْطَى رَجُلًا أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ إنَاءً مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ وَقَالَ: أَفْرِغْهُ عَلَيْك، ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْ الْمَزَادَتَيْنِ وَكَأَنَّهُمَا أَشَدُّ امْتِلَاءً مِمَّا كَانَتَا، ثُمَّ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ هِيَ وَقَوْمُهَا". هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ مُخْتَصَرًا وَفِيهِ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِنْهُ صَرِيحًا، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِنْهُ؛  لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ كَثِيرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَضَّأَ فَقَدْ أَعْطَى الْجُنُبَ  مَا يَغْتَسِلُ بِهِ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ طَهَارَةُ إنَاءِ الْمُشْرِكِ، وَالْمَزَادَةُ هِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الرَّاوِيَةَ، وَإِنَّمَا الرَّاوِيَةُ فِي الْأَصْلِ الْبَعِيرُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرِّ نَصْرَانِيٍّ، فَصَحِيحٌ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِمَعْنَاهُ تَعْلِيقًا فَقَالَ: وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ، وَالْحَمِيمُ الْمَاءُ الْحَارُّ، لَكِنْ وَقَعَ فِي "المهذب" نَصْرَانِيٌّ بِالتَّذْكِيرِ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَازِمِيُّ رَوَاهُ خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادِهِ كَذَلِكَ، قَالَ: وَالْمَحْفُوظُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادِهِ نَصْرَانِيَّةٌ بِالتَّأْنِيثِ.
قَوْلُهُ: مِنْ " جَرٍّ " كَذَا هُوَ فِي "المهذب"، وَغَيْرُهُ " جَرٌّ "، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي  "الأم" جَرَّةُ نَصْرَانِيَّةٍ بِالْهَاءِ

 

ج / 1 ص -145-       فِي آخِرِهِمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي مَعْنَى الَّذِي فِي "المهذب" فَالْمَشْهُورُ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ جَمْعُ جَرَّةٍ وَهِيَ الْإِنَاءُ الْمَعْرُوفُ مِنْ الْخَزَفِ، وَقَوْلُنَا جَمْعُ جَرَّةٍ هُوَ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّصْرِيفِ وَالنَّحْوِ فَيَقُولُونَ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَلَا يُسَمُّونَهُ جَمْعًا، وَذَكَرَ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِهِ حِلْيَةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْجَرَّ هُنَا سَلَاخَةُ عُرْقُوبِ الْبَعِيرِ يُجْعَلُ وِعَاءً لِلْمَاءِ، وَذَكَرَ هُوَ فِي الْمُجْمَلِ نَحْوَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي الْكُفَّارِ وَثِيَابِهِمْ سَوَاءٌ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ، وَالْمُتَدَيِّنُ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرُهُ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله: وَإِنَّا لِسَرَاوِيلَاتِهِمْ وَمَا يَلِي أَسَافِلَهُمْ أَشَدُّ كَرَاهَةً، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَوَانِيهِمْ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الْمَاءِ أَخَفُّ كَرَاهَةً، فَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَةَ أَوَانِيهِمْ أَوْ ثِيَابِهِمْ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ فِي اسْتِعْمَالِهَا كَثِيَابِ الْمُسْلِمِ مِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَحَامِلِيُّ فِي " المجموع" وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي الْبُلْغَةِ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ طَهَارَتَهَا، وَتَعْلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ فَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ اسْتِعْمَالِهَا إذَا وَجَدَ عَنْهَا بُدًّا وَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَتَهَا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ فِي أَوَانِيهِمْ الَّتِي كَانُوا يَطْبُخُونَ فِيهَا  لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ فِيهَا الْخَمْرَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ الْأَكْلِ لِلِاسْتِقْذَارِ كَمَا يُكْرَهُ الْأَكْلُ فِي الْمِحْجَمَةِ الْمَغْسُولَةِ، وَإِذَا تَطَهَّرَ مِنْ إنَاءِ كَافِرٍ وَلَمْ يَعْلَمْ طَهَارَتَهُ وَلَا نَجَاسَتَهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ - صَحَّتْ طَهَارَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَوَجْهَانِ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ أَنَّهُ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي  "الأم" وَحَرْمَلَةَ وَالْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي الصَّلَاة فِي الْمَقْبَرَةِ الْمَنْبُوشَةِ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ مسألة:بَوْلِ الصَّبِيَّةِ1، وَهَذَا أَجْوَدُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُتَدَيِّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ دِينًا وَفَضِيلَةً، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَجُوسِ يَرَوْنَ اسْتِعْمَالَ أَبْوَالِ الْبَقَرِ وَأَحْشَائِهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ الْبَرَاهِمَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَتَدَيَّنُونَ فَكَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ ظَهَرَ مِنْ الرَّجُلِ اخْتِلَاطُهُ بِالنَّجَاسَاتِ وَعَدَمُ تَصَوُّنِهِ مِنْهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا فَفِي نَجَاسَةِ ثِيَابِهِ وَأَوَانِيهِ الْخِلَافُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ أَوَانِي الْكُفَّارِ وَثِيَابِهِمْ هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ، وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ نَجَاسَةَ ذَلِكَ لقوله تعالى:
{إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}[التوبة:28]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض الأصول (الظبية )بالظاء (ط)

 

ج / 1 ص -146-       وَلِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَاغْسِلُوهَا، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}[المائدة:5]وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَعَامَهُمْ يَطْبُخُونَهُ فِي قُدُورِهِمْ وَيُبَاشِرُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَبِحَدِيثِ عِمْرَانَ وَفِعْلِ عُمَرَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ، وَبِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، "وَبِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْذَنُ لِلْكُفَّارِ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ" ، وَلَوْ كَانُوا أَنْجَاسًا لَمْ يَأْذَنْ. وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْ الْآيَةِ بِجَوَابَيْنِ:  أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَجَسٌ أَدْيَانُهُمْ وَاعْتِقَادُهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَبْدَانَهُمْ وَأَوَانِيَهُمْ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَدْخَلَهُمْ الْمَسْجِدَ، وَاسْتَعْمَلَ آنِيَتَهُمْ وَأَكَلَ طَعَامَهُمْ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ بِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنْ الْآنِيَةِ الَّتِي يَطْبُخُونَ  فِيهَا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ فِيهَا الْخَمْرَ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَجَوَابٌ آخَرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُمْ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِلَا شَكٍّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: " وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ " يَعْنِي بِالْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارَ، سَوَاءٌ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ، وَاسْمُ الْمُشْرِكِينَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تعالى:
{إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:48]، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ"، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِعْمَالِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَشْهُورَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتعالى:{وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة:30] وَقَالَ فِي آخِرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:{سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون}[الروم:40]. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ تَغْطِيَةُ الْإِنَاءِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَغْطِيَةِ الْإِنَاءِ وَإِيكَاءِ السِّقَاءِ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، وَرُوِيَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ جَابِرٍ:
"غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكِئُوا السِّقَاءَ"، وَفِي رِوَايَةٍ "خَمِّرْ إنَاءَك وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا"وَتَعْرُضُ بِضَمِّ الرَّاءِ، رُوِيَ بِكَسْرِهَا وَالضَّمُّ أَصَحُّ وَأَشْهُرُ، وَمَعْنَاهُ تَضَعُ عَلَيْهِ عُودًا أَوْ نَحْوَهُ عَرْضًا.
وَقَوْلُهُ:تَغْطِيَةُ1 الْوَضُوءِ هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَإِيكَاءِ السُّقَاةِ الْإِيكَاءُ وَالسِّقَاءُ مَمْدُودَانِ، وَالْإِيكَاءُ هُوَ شَدُّ رَأْسِ السِّقَاءِ وَهُوَ قِرْبَةُ اللَّبَنِ أَوْ الْمَاءِ وَنَحْوِهِمَا بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ، وَهُوَ مَمْدُودٌ أَيْضًا، وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ اسْتِحْبَابُ تَغْطِيَةِ  الْإِنَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ فِيهِ إنَاءُ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَغَيْرِهِمَا، وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَفَائِدَتُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحِلُّ سِقَاءً وَلَا يَكْشِفُ إنَاءً". الثَّانِي: جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ أَوْ سِقَاءٌ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ"، قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَحَدُ رُوَاتِهِ فِي مُسْلِمٍ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكر المصنف عذه العبارة ولا جاءة في الحديث الذي أورده (ط)

 

ج / 1 ص -147-       فَالْأَعَاجِمُ يَتَّقُونَ ذَلِكَ فِي كَانُونَ الْأَوَّلِ. وَالْوَبَاءُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ لُغَتَانِ، وَإِذَا قُصِرَ هُمِزَ. وَكَانُونُ عَجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ. الثَّالِثُ: صِيَانَتُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَشِبْهِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما رَاوِي الْحَدِيثِ هُوَ أَوَّلُ مَنْ كُنِّيَ بِهَذِهِ الْكُنْيَةِ، قِيلَ: كَانَ لَهُ هِرَّةٌ يَلْعَبُ بِهَا فِي صِغَرِهِ فَكُنِّيَ بِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى نَحْوِ ثَلَاثِينَ قَوْلًا، أَشْهُرُهَا وَأَصَحُّهَا أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ، وَهُوَ سَابِقُ الْمُحَدِّثِينَ وَأَوَّلُ حُفَّاظِهِ الْمُتَصَدِّينَ لَحِفْظِهِ، تَصَدَّى لَحِفْظِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَرَعَ فِيهِ وَفَاقَ سَائِرَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِيهِ، وَرُوِيَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسَةُ آلَافِ حَدِيثٍ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ حَدِيثًا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يُقَارِبُ هَذَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله: أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ - رحمه الله: رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ وَأَكْثَرُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَشْهَرَ أَهْلِ الصُّفَّةِ فِي زَمَنِ صُحْبَتِهِ، وَكَانَ عَرِيفَ أَهْلِ الصُّفَّةِ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً رضي الله عنه وَقَدْ بَسَطْتُ   فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فرع: مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَا سَبَقَ مَا ثَبَتَ فِي "صحيح مسلم"وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ وَأَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الْبَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا  اسْمَ اللَّهِ وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ"وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: "لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ"وَفِي "الصحيحين" عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ"فَهَذِهِ سُنَنٌ يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، وَجُنْحُ اللَّيْلِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا ظَلَامُهُ، وَالْفَوَاشِي بِالْفَاءِ جَمْعُ فَاشِيَةٍ وَهِيَ كُلُّ مَا يَنْتَشِرُ مِنْ الْمَالِ كَالْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا، وَفَحْمَةُ الْعِشَاءِ ظُلْمَتُهَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ شَرْحَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَمَعَانِيَهَا فِي شَرْحِ "صحيح مسلم"- رحمه الله.
وَفِي "صحيح مسلم"عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ، بَيْتَهُ فَذَكَر اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ، وَالْعَشَاءَ"
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ دُخُولِهِ بَيْتَهُ وَبَيْتَ غَيْرِهِ، وَالسَّلَامُ إذَا دَخَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، وَيَدْعُو عِنْدَ خُرُوجِهِ، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ يَعْنِي إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِاسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: كُفِيت وَوُفِيت، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا أَوْضَحْتهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَذْكَارِ، وَفِيهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفصل: وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .