المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 1 ص -148-       بَابُ السِّوَاكِ
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"السِّوَاكُ سُنَّةٌ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ"وَيُسْتَحَبُّ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أحدها: عِنْدَ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ".وَالثَّانِي: عِنْدَ اصْفِرَارِ الْأَسْنَانِ لِمَا رَوَى الْعَبَّاسُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اسْتَاكُوا، لَا تَدْخُلُوا عَلَيَّ قُلْحًا". وَالثَّالِثُ: عِنْدَ تَغَيُّرِ الْفَمِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ النَّوْمِ وَقَدْ يَكُون بِالْأَزْمِ، وَهُوَ تَرْكُ الْأَكْلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَكْلِ شَيْءٍ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَمُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ مِنْ النَّوْمِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ"وَإِنَّمَا اسْتَاكَ؛  لِأَنَّ النَّائِمَ يَنْطَبِقُ فَمُهُ وَيَتَغَيَّرُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَمُ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ لَهُ السِّوَاكُ ".
الشرح:فِي هَذِهِ الْقِطْعَةِ جُمَلٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَحْكَامِ يَحْصُلُ بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَسَائِلَ: إحداها: حَدِيثُ عَائِشَةَ:
"السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ"حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنُ خُزَيْمَةَ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا وَآخَرُونَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ تَعْلِيقًا فَقَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ" وَهَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحٌ؛  لِأَنَّهُ بِصِيغَةِ جَزْمٍ، وَقَدْ ذَكَرْت فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ تَعْلِيقَاتِ الْبُخَارِيِّ إذَا كَانَتْ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ. وَالْمَطْهَرَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ السِّكِّيتِ وَآخَرُونَ وَهِيَ كُلُّ إنَاءٍ يُتَطَهَّرُ بِهِ، شَبَّهَ السِّوَاكَ بِهَا لِأَنَّهُ يُنَظِّفُ الْفَمَ. وَالطَّهَارَةُ: النَّظَافَةُ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ" قَالَ الْعُلَمَاءُ: الرَّبُّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ رَبٍّ فَإِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْمَخْلُوقِ، فَيُقَالُ رَبُّ الْمَالِ وَرَبُّ الدَّارِ وَرَبُّ الْمَاشِيَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ: "دَعْهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا" ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ إضَافَةَ رَبٍّ إلَى الْحَيَوَانِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ قَوْلَهُ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ كُلَّ هَذَا بِدَلَائِلِهِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْأَذْكَارِ. وَمِمَّا جَاءَ فِي فَضْلِ السِّوَاكِ مُطْلَقًا حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكْثَرْت عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ: "صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ بِغَيْرِ سِوَاكٍ" فَضَعِيفٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ وَضَعَّفَهَا كُلَّهَا وَكَذَا ضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، وَذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِالتَّسَاهُلِ فِي التَّصْحِيحِ، وَسَبَبُ ضَعْفِهِ أَنَّ مَدَارَهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَلَمْ يُذْكَرْ سَمَاعُهُ، وَالْمُدَلِّسُ إذَا لَمْ يُذْكَرْ سَمَاعُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ لِأَهْلِ هَذَا الْفَنِّ وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ لَمْ يَرْوِ لَهُ مُسْلِمٌ شَيْئًا مُحْتَجًّا بِهِ، وَإِنَّمَا رَوَى لَهُ مُتَابَعَةً، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ فِي الْمُتَابَعَاتِ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِلتَّقْوِيَةِ لَا لِلِاحْتِجَاجِ، وَيَكُونُ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ وَذَلك مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ، وَالْبَيْهَقِيُّ أَتْقَنُ فِي هَذَا الْفَنِّ مِنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 1 ص -149-       وَيُغْنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ " وَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ فَزَعَمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَرْوِهِ وَجَعَلَهُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْعَبَّاسِ فَهُوَ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْعَبَّاسِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاس وَإِسْنَادُهُمَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي إسْنَادِهِ وَضَعَّفَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ، وَيُغْنِي عَنْهُ فِي الدَّلَالَةِ حَدِيثُ: "السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ: " إذَا قَامَ مِنْ النَّوْمِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ " فَهُوَ فِي "الصحيحين" بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما، لَا مِنْ  رِوَايَةِ عَائِشَةَ، وَقِيلَ: إنَّ ذِكْرَ عَائِشَةَ وَهْمٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ وَعَدُّوهُ مِنْ غَلَطِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمسألة:الثَّانِيَةُ فِي لُغَاتِهِ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: السِّوَاكُ بِكَسْرِ السِّينِ وَيُطْلَقُ السِّوَاكُ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الِاسْتِيَاكُ وَعْلِي الْآلَةِ الَّتِي يَسْتَاكُ بِهَا وَيُقَالُ فِي الْآلَةِ أَيْضًا مِسْوَاكٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ، يُقَالُ: سَاكَ فَاهُ يَسُوكُهُ سَوْكًا، فَإِنْ قُلْت: اسْتَاكَ، لَمْ تَذْكُرْ الْفَمَ. وَالسِّوَاكُ مُذَكَّرٌ نَقَلَهُ الْأَزْهَرِيُّ عَنْ الْعَرَبِ، قَالَ: وَغَلِطَ اللَّيْثُ بْنُ الْمُظَفَّرِ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ مُؤَنَّثٌ، وَذَكَر صَاحِبُ الْمُحْكَمِ أَنَّهُ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ لُغَتَانِ، قَالُوا: وَجَمْعُهُ سُوكٌ بِضَمِّ السِّينِ وَالْوَاوِ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ وَيُخَفَّفُ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَعْنِي الدِّينَوَرِيَّ الْإِمَامَ فِي اللُّغَةِ: رُبَّمَا هُمِزَ فَقِيلَ سُؤَاكٌ، قَالَ: وَالسِّوَاكُ مُشْتَقٌّ مِنْ سَاكَ الشَّيْءَ إذَا دَلَكَهُ، وَأَشَارَ غَيْرُهُ إلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّسَاوُكِ يَعْنِي التَّمَايُلَ، يُقَالُ: جَاءَتْ الْإِبِلُ تَتَسَاوَكُ أَيْ تَتَمَايَلُ فِي مِشْيَتِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ سَاكَ إذَا دَلَكَ، هَذَا مُخْتَصَرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ. وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ اسْتِعْمَالُ عُودٍ أَوْ نَحْوِهِ فِي الْأَسْنَانِ لِإِذْهَابِ التَّغَيُّرِ وَنَحْوِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: " مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ سَبَقَ شَرْحُهُمَا، وَمِيمُ الْفَمِ مُخَفَّفَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي لُغَيَّةٍ يَجُوزُ تَشْدِيدُهَا، وَقَدْ بَسُطَتْ ذَلِكَ فِي " تهذيب الأسماء واللغات"، وَقَوْلُهُ: " يُسْتَحَبُّ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ " كَذَا هُوَ فِي "المهذب" ثَلَاثَةٌ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَفِي الْحَالِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ فَيُقَالُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَثَلَاثُ أَحْوَالٍ، وَحَالٌ حَسَنٌ، وَحَالَةٌ حَسَنَةٌ.
وَقَوْلُهُ:"صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ" مَعْنَاهُ ثَوَابُهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ سَبْعِينَ، وَقَوْلُهُ:
لَا تَدْخُلُوا عَلَيَّ قُلْحًا بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ أَقْلَحَ وَهُوَ الَّذِي عَلَى أَسْنَانِهِ قَلَحٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ وَهُوَ صُفْرَةٌ وَوَسَخٌ يَرْكَبَانِ الْأَسْنَانَ. قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا الْقُلَاحُ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَيُقَالُ قَلِحَ الرَّجُلُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَأَقْلَحَ.
وَقَوْلُهُ: وَقَدْ يَكُونُ بِالْأَزْمِ وَهُوَ تَرْكُ الْأَكْلِ، الْأَزْمُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَتَأَوَّلَهُ أَصْحَابُنَا. تَأْوِيلَيْنِ  أَحَدُهُمَا: الْجُوعُ، وَالثَّانِي: السُّكُوتُ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وقول المصنف:  تَرْكُ الْأَكْلِ " كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: " تَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ". وَقَوْلُهُ: " يَشُوصُ

 

ج / 1 ص -150-       فَاهُ "بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَالشَّوْصُ دَلْكُ الْأَسْنَانِ عَرْضًا بِالسِّوَاكِ، كَذَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْغَسْلُ وَقِيلَ: التَّنْقِيَةُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمسألة:الثَّالِثَةُ: الْعَبَّاسُ هُوَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو الْفَضْلِ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَمَامُ نَسَبِهِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ سَمْعًا.
الْمسألةالرَّابِعَةُ فِي الْأَحْكَامِ: فَالسِّوَاكُ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا مَا حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَنْ دَاوُد أَنَّهُ أَوْجَبَهُ، وَحَكَى صَاحِبُ "الحاوي" أَنَّ دَاوُد أَوْجَبَهُ وَلَمْ يُبْطِلْ الصَّلَاةَ بِتَرْكِهِ، قَالَ: وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. هُوَ وَاجِبٌ فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَهَذَا النَّقْلُ عَنْ إِسْحَاقَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيُّ: غَلِطَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي حِكَايَتِهِ وُجُوبَهُ عَنْ دَاوُد، بَلْ مَذْهَبُ دَاوُد أَنَّهُ سُنَّةٌ؛  لِأَنَّ أَصْحَابَنَا نَصُّوا أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَأَنْكَرُوا وُجُوبَهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَامِدٍ. وَاحْتَجَّ لِدَاوُدَ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي  "الأم" وَ"المختصر" بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ:
"لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ"قَالَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله: لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُمْ بِهِ، شَقَّ أَوْ لَمْ يَشُقَّ. قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِأَحَادِيثَ أُخَرَ وَأَقْيِسَةٍ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِطَالَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ إذَا لَمْ نَتَيَقَّنْ خِلَافًا، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِالْأَمْرِ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّدْبِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ السِّوَاكَ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابه فِي أَحْوَالٍ، هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا. وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تُوهِمُ اخْتِصَاصَ الِاسْتِحْبَابِ بِالْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ  فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ لِغَيْرِ الصَّائِمِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ".
وَأَمَّا الْأَحْوَالُ الَّتِي يَتَأَكَّدُ الِاسْتِحْبَابُ فِيهَا فَخَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ صَلَاةُ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَسَوَاءٌ صَلَّى بِطَهَارَةِ مَاءٍ أَوْ تَيَمُّمٍ أَوْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا وَصَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا. الثَّانِي: عِنْدَ اصْفِرَارِ الْأَسْنَانِ وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ: "السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ"وَأَمَّا احْتِجَاجُ الْمُصَنِّفِ لَهُ بِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ. الثَّالِثُ: عِنْدَ الْوُضُوءِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبَا "الحاوي" وَالشَّامِلِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا اخْتِلَافَ الْأَصْحَابِ فِي أَنَّ السِّوَاكَ هَلْ هُوَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَمْ سُنَّةً مُسْتَقِلَّةً عِنْدَ الْوُضُوءِ لَا مِنْهُ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي التَّسْمِيَةِ وَغَسْلِ الْكَفَّيْنِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَدَلِيلُ اسْتِحْبَابِهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ"وَفِي رِوَايَةٍ: "لَفَرَضْت عَلَيْهِمْ السِّوَاكَ مَعَ الْوُضُوءِ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَصَحَّحَاهُ وَأَسَانِيدُهُ جَيِّدَةٌ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ جَزْمٍ، وَفِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ فِي الصَّحِيحِ ذَكَرْته

 

ج / 1 ص -151-       فِي جَامِعِ السُّنَّةِ تَرَكْته هُنَا لِطُولِهِ. الرَّابِعُ: عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَالْخَامِسُ: عِنْدَ تَغَيُّرِ الْفَمِ، وَتَغَيُّرُهُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّوْمِ وَقَدْ يَكُونُ بِأَكْلِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَبِطُولِ السُّكُوتِ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: وَيَكُونُ أَيْضًا بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْخَمْسَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا، وَفِي "صحيح مسلم"عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع:إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً ذَاتَ تَسْلِيمَاتٍ كَالتَّرَاوِيحِ وَالضُّحَى، وَأَرْبَعَ رَكَعَاتٍ سُنَّةَ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ، وَالتَّهَجُّدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَسْتَاكَ  لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَأَمَرْتهمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ"  وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ.
فرع: قَالَ الْمُزَنِيّ فِي الْمُخْتَصَرِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله: أُحِبُّ السِّوَاكَ لِلصَّلَوَاتِ عِنْدَ كُلِّ حَالٍ تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْفَمُ. كَذَا وَقَعَ فِي "المختصر"عِنْدَ " بِغَيْرِ وَاوٍ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَخَلَّ الْمُزَنِيّ بِالْوَاوِ، وَكَذَا قَالَهُ غَيْرُ الْقَاضِي، وَهُوَ كَمَا قَالُوهُ فَقَدْ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - فِي  "الأم" بِالْوَاوِ، وَاتَّفَقَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رحمه الله - وَالْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ سُنَّةٌ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْفَمُ.
فرع: فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحَيَاءُ وَالتَّعَطُّرُ وَالسِّوَاكُ وَالنِّكَاحُ"قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، هَذَا كَلَامُهُ وَفِي إسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَأَبُو الشَّمَالِ، وَالْحَجَّاجُ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَبُو الشَّمَالِ مَجْهُولٌ فَلَعَلَّهُ اعْتَضَدَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَصَارَ حَسَنًا، وَقَوْلُهُ: الْحَيَاءُ هُوَ بِالْيَاءِ لَا بِالنُّونِ وَإِنَّمَا ضَبَطْته لِأَنِّي رَأَيْت مَنْ صَحَّفَهُ فِي عَصْرِنَا وَقَدْ سَبَقَ بِتَصْحِيفِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ الِاسْتِغْنَاءِ فِي اسْتِعْمَالِ الْحِنَّاءِ وَأَوْضَحَهُ وَقَالَ: هُوَ مُخْتَلَفٌ فِي إسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَجَدُّ مَلِيحٍ كُلُّهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى لَفْظِ الْحَيَاءِ قَالَ: وَكَذَا أَوْرَدَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْحُفَّاظِ وَالْأَئِمَّةِ، قَالَ: وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ. وَمُرَادِي بِذِكْرِ هَذَا الْفَرْعِ بَيَانُ أَنَّ السِّوَاكَ كَانَ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا يُكْرَهُ إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ" وَالسِّوَاكُ يَقْطَعُ ذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يُكْرَهَ، وَلِأَنَّهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ مَشْهُودُ لَهُ بِالطَّيِّبِ فَكُرِهَ إزَالَتُهُ كَدَمِ الشُّهَدَاءِ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهُوَ بَعْضُ  حَدِيثٍ، وَالْخُلُوفُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ وَهُوَ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ الْفَمِ، وَلَا يَجُوزُ فَتْحُ الْخَاءِ يُقَالُ: خَلَفَ فَمُ الصَّائِمِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَاللَّامِ يَخْلُفُ بِضَمِّ اللَّامِ، وَأَخْلَفَ يُخْلِفُ إذَا تَغَيَّرَ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَلَا يُكْرَهُ السِّوَاكُ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ لِأَحَدٍ إلَّا لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ

 

ج / 1 ص -152-       يُكْرَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي  "الأم" وَفِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا، وَحَكَى أَبُو عِيسَى1 فِي جَامِعِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رحمه الله - أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، وَهَذَا النَّقْلُ غَرِيبٌ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيّ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَالْمَشْهُورُ الْكَرَاهَةُ وَسَوَاءٌ فِيهِ صَوْمُ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَتَبْقَيْ الْكَرَاهَةُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: حَتَّى يُفْطِرَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّ بَعْدَ الزَّوَالِ يَظْهَرُ كَوْنُ الْخُلُوفِ مِنْ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ لَا مِنْ الطَّعَامِ الشَّاغِلِ لِلْمَعِدَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ مَشْهُودٌ لَهُ بِالطِّيبِ فَكُرِهَ إزَالَتُهُ كَدَمِ الشُّهَدَاءِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْقَلَعِيُّ - رحمه الله: قَوْلُهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالطِّيبِ احْتِرَازٌ مِنْ بَلَلِ الْوُضُوءِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَمِنْ أَثَرِ التَّيَمُّمِ وَشَعْرِ الْمُحْرِمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: احْتِرَازٌ مِمَّا يُصِيبُ ثَوْبَ الْعَالِمِ مِنْ الْحِبْرِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَثَرَ عِبَادَةٍ لَكِنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْفَضْلِ لَا بِالطِّيبِ، وَدَمُ الشُّهَدَاءِ مَشْهُودٌ لَهُ بِالطِّيبِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَفْجُرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ" . وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَجَمْعُ شَهِيدٍ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ شَهِيدًا فَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الشَّهِيدُ الْحَيُّ، فَسُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ يَشْهَدُونَهُ فَيَقْبِضُونَ رُوحَهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْأُمَمِ. حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْأَزْهَرِيُّ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ شُهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَخَاتِمَةِ الْخَيْرِ بِظَاهِرِ حَالِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ لَهُ شَاهِدًا بِقَتْلِهِ وَهُوَ دَمُهُ  لِأَنَّهُ يُبْعَثُ وَجُرْحُهُ يَتَفَجَّرُ دَمًا، وَقِيلَ: لِأَنَّ رُوحَهُ تَشْهَدُ دَارَ السَّلَامِ وَرُوحَ غَيْرِهِ لَا تَشْهَدُهَا إلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فرع: يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ" وَكَانَ وَقَعَ نِزَاعٌ بَيْنَ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رضي الله عنهما فِي أَنَّ هَذَا الطِّيبَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمْ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فِي الْآخِرَةِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ لِمُسْلِمٍ: "وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُوَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاسْتَدَلَّ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ لِأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْبُسْتِيِّ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُحَدِّثِينَ الْفُقَهَاءِ قَالَ: بَابٌ فِي كَوْنِ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَبَابٌ فِي كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا وَرَوَى فِي هَذَا الْبَابِ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ حِينَ يَخْلُفُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّه مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ".
وَرَوَى الْإِمَامُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أُعْطِيت أُمَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَمْسًا قَالَ: وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُمْ يُمْسُونَ وَخُلُوفُ أَفْوَاهِهِمْ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الترمذي .

 

ج / 1 ص -153-       الْمِسْكِ" وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ فِي أَمَالِيهِ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُ فِي وَقْتِ وُجُودِ الْخُلُوفِ فِي الدُّنْيَا يَتَحَقَّقُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ قَالَ: وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ شَرْقًا وَغَرْبًا مَعْنَى مَا ذَكَرْته فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: طِيبُهُ عِنْدَ اللَّهِ رِضَاهُ بِهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ مَعْنَاهُ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْرَبُ إلَيْهِ وَأَرْفَعُ عِنْدَهُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ الثَّنَاءُ عَلَى الصَّائِمِ وَالرِّضَا بِفِعْلِهِ، وَكَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْقُدُورِيُّ إمَامُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فِي الْخِلَافِ مَعْنَاهُ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ، وَمِثْلُهُ قَالَ الْبَوْنِيُّ مِنْ قُدَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الصَّفَّارِ الشَّافِعِيُّونَ فِي أَمَالِيهِمْ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا لَمْ يَذْكُرُوا سِوَى مَا ذَكَرْته وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَجْهًا بِتَخْصِيصِهِ بِالْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ كُتُبَهُمْ جَامِعَةٌ لِلْوُجُوهِ الْمَشْهُورَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ. وَمَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحِيحِ. بَلْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الرِّضَا وَالْقَبُولِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَفِيهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ الْخُلُوفِ فِي الْمِيزَانِ عَلَى الْمِسْكِ الْمُسْتَعْمَلِ لِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ طَلَبًا لِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يُؤْمَرُ بِاجْتِنَابِهَا وَاجْتِلَابِ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ كَمَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ، فَخُصَّ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَةِ لِذَلِكَ كَمَا خُصَّ فِي قوله تعالى:
{إنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}[العاديات:11] وَأُطْلِقَ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ نَظَرًا إلَى أَنَّ أَصْلَ أَفْضَلِيَّتِهِ ثَابِتٌ فِي الدَّارَيْنِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، هَذَا مُخْتَصَرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو رحمه الله.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا: الْمَشْهُورَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ1 وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَخَّصَ فِيهِ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ النَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي فَضْلِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْبَيْطَارِ الْخُوَارِزْمِيُّ قَالَ: قُلْت لِعَاصِمٍ الْأَحْوَلِ: أَيَسْتَاكُ الصَّائِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْت: عَمَّنْ ؟ قَالَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَلِأَنَّهُ طَهَارَةٌ لِلْفَمِ فَلَمْ يُكْرَهْ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ كَالْمَضْمَضَةِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْخُلُوفِ وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ.  وَبِحَدِيثٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ وَلَا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الثابت عن ابن عمر خلاف هذا قال البخاري في كتاب الصيام في باب اغتسال الصائم " وقال ابن عمر يستاك أول النهار آخره " نعم حكاه الموفق الحنبلي في "المغني " عن ابن عمر ثم حكي عن عمر رواية أخرى أنه لايكره  ا هـ أذرعي .

 

ج / 1 ص -154-       مِنْ صَائِمٍ تَيْبَسُ شَفَتَاهُ بِالْعَشِيِّ إلَّا كَانَتَا نُورًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَلَكِنَّهُ ضَعَّفَهُ وَبَيَّنَ ضَعْفَهُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ مَشْهُودٌ لَهُ بِالطِّيبِ فَكُرِهَ إزَالَتُهُ كَدَمِ الشَّهِيدِ. وَأَجَابُوا عَنْ أَحَادِيثِ فَضْلِ السِّوَاكِ بِأَنَّهَا عَامَّةٌ مَخْصُوصَةٌ وَالْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ الصَّائِمِ آخِرَ النَّهَارِ، وَعَنْ حَدِيثِ الْخُوَارِزْمِيِّ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْخُوَارِزْمِيَّ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ. وَعَنْ الْمَضْمَضَةِ بِأَنَّهَا لَا تُزِيلُ الْخُلُوفَ بِخِلَافِ السِّوَاكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي فَضِيلَةَ الْخُلُوفِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ تَحْصِيلِ فَضِيلَةِ السِّوَاكِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ دَمَ الشَّهِيدِ لَا يُزَالُ بَلْ يُتْرَكُ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ1 غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَهُمَا وَاجِبَانِ فَإِذَا تُرِكَ مِنْ أَجْلِهِ وَاجِبَانِ دَلَّ عَلَى رُجْحَانِهِ عَلَيْهِمَا لِكَوْنِهِ مَشْهُودًا لَهُ بِالطِّيبِ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْخُلُوفِ الَّذِي يُشَارِكُهُ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ بِالطِّيبِ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُتْرَكُ مِنْ أَجْلِهِ سُنَّةُ السِّوَاكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ السِّوَاكُ الرَّطْبُ قَبْلَ الزَّوَالِ إذَا لَمْ يَنْفصل: مِنْهُ شَيْءٌ يَدْخُلُ جَوْفَهُ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ السَّلَفِ، وَسَتَأْتِي الْمسألة:مَبْسُوطَةً حَيْثُ ذَكَرهَا الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رحمهم الله - فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ عَرْضًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"اسْتَاكُوا2 عَرْضًا وَادَّهِنُوا غِبًّا وَاكْتَحِلُوا وِتْرًا".
قال المصنف رحمه الله تعالى:  هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ - رحمه الله: بَحَثْت عَنْهُ فَلَمْ أَجِدْ لَهُ أَصْلًا وَلَا ذِكْرًا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ  الْحَدِيثِ، وَاعْتَنَى جَمَاعَةٌ بِتَخْرِيجِ أَحَادِيثِ "المهذب" فَلَمْ يَذْكُرُوهُ أَصْلًا، وَعَقَدَ الْبَيْهَقِيُّ بَابًا فِي الِاسْتِيَاكِ عَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَدِيثًا يُحْتَجُّ بِهِ وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِيَاكِ عَرْضًا يُسْتَدَلُّ لَهُ أَنَّهُ يَخْشَى فِي الِاسْتِيَاكِ طُولًا إدْمَاءَ اللَّثَةِ وَإِفْسَادَ عَمُودِ الْأَسْنَانِ3، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِحْبَابِ الِاسْتِيَاكِ عَرْضًا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ إلَّا إمَامَ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيَّ فَإِنَّهُمَا قَالَا: يَسْتَاكُ عَرْضًا وَطُولًا فَإِنْ اقْتَصَرَ فَعَرْضًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ شَاذٌّ مَرْدُودٌ مُخَالِفٌ لِلنَّقْلِ وَالدَّلِيلِ.
وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ بِالنَّهْيِ عَنْ الِاسْتِيَاكِ طُولًا مِنْهُمْ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل واوا ساقطة فيقال للمحافظة عليه وغسل الميت الخ (ط)
2 روى ابن أبي شيبة في " مصفنه " والطبراني ف " الأوسط " عن سليمان بن صرد حديثا بهذا المعنى ولفظه (
سلكوا وتنظفوا وأوتروا فإن الله عز وجل يحب الوتر )(ط)
3 علماء الأسنان يقولون: إن الإستياك الصحيح يكون طولا أي أعلى وأسفل لأن الغشاء العاجي الأملس الذي يكسو الأسنان ينبغي المحافظة عليه فالاستياك عرضا يضر بهذا الغشاء فيسرع إلى الاسنان الفساد وعلى هذا يتوجه كلام إمام الحرمين وتلميذه الغزالي (ط)

 

ج / 1 ص -155-       وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَغَيْرُهُمْ، وَصَرَّحَ صَاحِبُ "الحاوي" بِكَرَاهَةِ الِاسْتِيَاكِ طُولًا، فَلَوْ خَالَفَ وَاسْتَاكَ طُولًا حَصَلَ السِّوَاكُ، وَإِنْ خَالَفَ الْمُخْتَارَ وَصَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا، وَأَوْضَحَ صَاحِبُ "الحاوي" كَيْفِيَّةَ السِّوَاكِ فَقَالَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ عَرْضًا فِي ظَاهِرِ الْأَسْنَانِ وَبَاطِنِهَا وَيُمِرَّ السِّوَاكَ عَلَى أَطْرَافِ أَسْنَانِهِ وَكَرَاسِيِّ أَضْرَاسِهِ، وَيُمِرَّهُ عَلَى سَقْفِ حَلْقِهِ إمْرَارًا خَفِيفًا، قَالَ: فَأَمَّا جَلَاءُ الْأَسْنَانِ بِالْحَدِيدِ وَبَرْدُهَا بِالْمِبْرَدِ فَمَكْرُوهٌ؛  لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْأَسْنَانَ وَيُفْضِي إلَى انْكِسَارِهَا، وَلِأَنَّهُ يُخَشِّنُهَا فَتَتَرَاكَمُ الصُّفْرَةُ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الِادِّهَانَ غِبًّا وَهُوَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَدَّهِنَ ثُمَّ يَتْرُكَ حَتَّى يَجِفَّ الدُّهْنُ ثُمَّ يَدَّهِنَ ثَانِيًا، وَأَمَّا الِاكْتِحَالُ وِتْرًا فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ يَكُونُ فِي عَيْنٍ وِتْرًا وَفِي عَيْنٍ شَفْعًا لِيَكُونَ " المجموع" وِتْرًا، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ فِي كُلِّ عَيْنٍ وِتْرٌ، وَعَلَى هَذَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثَةً" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالْوَتْرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَسْتَاكَ بِعُودٍ رَطْبٍ لَا يُقْلِعُ وَلَا بِيَابِسٍ يَجْرَحُ اللِّثَةَ، بَلْ يَسْتَاكُ بِعُودٍ بَيْنَ عُودَيْنِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَاكَ مِمَّا يَقْلَعُ الْقَلَحَ وَيُزِيلُ التَّغَيُّرَ كَالْخِرْقَةِ الْخَشِنَةِ وَغَيْرِهَا أَجْزَأَهُ؛  لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ أَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى أَسْنَانِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛  لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى سِوَاكًا".
الشرح: اللِّثَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَهِيَ مَا حَوْلَ الْأَسْنَانِ مِنْ اللَّحْمِ، كَذَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ اللَّحْمُ الَّذِي يَنْبُتُ فِيهِ الْأَسْنَانُ، فَأَمَّا اللَّحْمُ الَّذِي يَتَخَلَّلُ الْأَسْنَانَ فَهُوَ عَمْرٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَجَمْعُهُ عُمُورٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَجَمْعُهَا لِثَاتٌ وَلِثًى.
أَمَّا حُكْمُ الْمسألة:فَقَوْلُهُ: لَا يَسْتَاكُ بِيَابِسٍ وَلَا رَطْبٍ بَلْ بِمُتَوَسِّطٍ، كَذَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا قَالُوا: فَإِنْ كَانَ يَابِسًا نَدَّاهُ بِمَاءٍ، وَقَوْلُهُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَاكَ مِمَّا يُزِيلُ التَّغَيُّرَ وَالْقَلَحَ أَجْزَأَهُ، كَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَآخَرُونَ: فَيَجُوزُ الِاسْتِيَاكُ بِالسُّعُدِ وَالْأُشْنَانِ وَشِبْهِهِمَا.
وَأَمَّا الْأُصْبُعُ فَإِنْ كَانَتْ لَيِّنَةً لَمْ يَحْصُلْ بِهَا السِّوَاكُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ خَشِنَةً فَفِيهَا أَوْجُهٌ: الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ لَا يَحْصُلُ؛  لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى سِوَاكًا وَلَا هِيَ فِي مَعْنَاهُ بِخِلَافِ الْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ سِوَاكًا فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ.وَالثَّانِي: يَحْصُلُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَبِهَذَا قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي اللُّبَابِ وَالْبَغَوِيُّ وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَحْرِ. وَالثَّالِثُ: إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عُودٍ وَنَحْوِهِ حَصَلَ وَإِلَّا فَلَا، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ. وَمَنْ قَالَ بِالْحُصُولِ فَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِي مِنْ السِّوَاكِ الْأَصَابِعُ" فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمُخْتَارُ الْحُصُولُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ثُمَّ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي إصْبَعِهِ أَمَّا أُصْبُعُ غَيْرِهِ الْخَشِنَةِ فَتُجْزِي قَطْعًا؛  لِأَنَّهَا لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْهُ فَهِيَ كَالْأُشْنَانِ. وَفِي الْإِصْبَعِ عَشْرُ لُغَاتٍ:  كَسْرُ الْهَمْزَةِ،

 

ج / 1 ص -156-       وَفَتْحُهَا، وَضَمُّهَا مَعَ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْبَاءِ، وَالْعَاشِرَةُ أُصْبُوعٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ، وَأَفْصَحُهُنَّ كَسْرُ الْهَمْزَةِ مَعَ فَتْحِ الْبَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ السِّوَاكُ بِعُودٍ وَأَنْ يَكُونَ بِعُودِ أَرَاك، قَالَ الشَّيْخُ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ: الْأَرَاكُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ النَّخْلُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ الْمَتُولِيَّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عُودًا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ كَالْأَرَاكِ، وَاسْتَدَلُّوا لِلْأَرَاكِ بِحَدِيثِ "أَبِي خَيْرَةَ الصُّبَاحِيِّ1 رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ فِي الْوَفْدِ يَعْنِي وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَنَا بِأَرَاكٍ فَقَالَ:
اسْتَاكُوا بِهَذَا"، وَأَبُو خَيْرَةَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتَ، وَالصُّبَاحِيَّ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ مُخَفَّفَةٌ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ هَكَذَا ضَبَطَهُ ابْنُ مَاكُولَا وَغَيْرُهُ، قَالَ: وَلَمْ يَرْوِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ سِوَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "القاموس " الصنابخي وفي"الأستيعاب " هو من ولد صباخ بنلكيز بن أفصى بن عبدالقيس وينتهي إلى ربيعة بن نزار وفي الاصابة أبو خيرة العبدي ثم الصباحي نسبة إلى صباح بضم المهملة وتخفيف الموحدة وآخره حاء مهملة لكيز بن أفصى بطن من عبد القيس أخرج التخاري في التاريخ مختصرا وخليفة والدولابي والطبراني وأبو أحمد والحاكم من طريق داود ابن المشاور عن مقاتل بن همام عن أبي خيرة الصباحي قال:كنتا في الوفد الذين أتو رسول الله صلى الله عليه وسلم منعبد القيس فزودنا الأراك نستاك به فقلنا يارسول الله عندنا الجريد ولكن نقبل كرامتك وعطيتك فقال: اللهم اغفر لعبد القيس ،اسلموا طائعين غير مكرهين ،إذ قعد قوم لم يسلموا إلا موتورين اهـ لفظ الطبراني (ط)

فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالسِّوَاكِ
قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ فِي الِاسْتِيَاكِ بِجَانِبِ فَمِهِ الْأَيْمَنِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَطَهُّرِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ" وَقِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: وَيَنْوِي بِهِ الْإِتْيَانَ بِالسُّنَّةِ، وَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِيَاكِ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيهِ، قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَوِّدَ الصَّبِيَّ السِّوَاكَ لِيَأْلَفَهُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَاكَ ثَانِيًا أَنْ يَغْسِلَ مِسْوَاكَهُ، وَهَذَا يُحْتَجُّ لَهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ فَيُعْطِينِي الْمِسْوَاكَ لِأَغْسِلَهُ فَأَبْدَأُ بِهِ فَأَسْتَاكُ ثُمَّ أَغْسِلُهُ فَأَدْفَعُهُ إلَيْهِ" حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ. أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٌ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا  حَصَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَسَخٍ أَوْ رَائِحَةٍ وَنَحْوِهِمَا، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُدْخِلَ مِسْوَاكَهُ فِي مَاءِ وُضُوئِهِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَلَّا يُكْرَهَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السِّوَاكِ: اللَّهُمَّ بَيِّضْ بِهِ أَسْنَانِي وَشُدَّ بِهِ لَثَاتِي وَثَبِّتْ بِهِ لَهَاتِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَإِنَّهُ دُعَاءٌ حَسَنٌ .
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَلِّمَ الْأَظَافِرَ وَيَقُصَّ الشَّارِبَ وَيَغْسِلَ الْبَرَاجِمَ وَيَنْتِفَ الْإِبِطَ وَيَحْلِقَ الْعَانَةَ لِمَا رَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْفِطْرَةُ عَشَرَةٌ: الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَالِانْتِضَاحُ بِالْمَاءِ، وَالْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ".

 

ج / 1 ص -157-       الشرح: فِي هَذِهِ الْقِطْعَةِ جُمَلٌ وَبَيَانُهَا بِمَسَائِلَ إحداها: حَدِيثُ عَمَّارٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مُنْقَطِعٍ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ الْحُفَّاظُ: لَمْ يَسْمَعْ سَلَمَةُ عَمَّارًا وَلَكِنْ يَحْصُلُ الِاحْتِجَاجُ بِالْمَتْنِ؛  لِأَنَّهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ"قَالَ مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ أَحَدُ رُوَاتِهِ: وَنَسِيت الْعَاشِرَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ " الْمَضْمَضَةَ " وَقَالَ وَكِيعٌ وَهُوَ أَحَدُ رُوَاتِهِ: انْتِقَاصُ الْمَاءِ الِاسْتِنْجَاءُ وَهُوَ بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ.
الْمسألةالثَّانِيَةُ فِي لُغَاتِهِ: فَالظُّفْرُ فِيهِ لُغَاتٌ: ضَمُّ الظَّاءِ وَالْفَاءِ وَإِسْكَانُ الْفَاءِ، وَبِكَسْرِ الظَّاءِ مَعَ إسْكَانِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا وَأُظْفُورٌ، وَالْفَصِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ، وَالْبَرَاجِمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ بُرْجُمَةٍ بِضَمِّهَا وَهِيَ الْعُقَدُ الْمُتَشَنِّجَةُ الْجِلْدِ فِي ظُهُورِ الْأَصَابِعِ، وَهِيَ مَفَاصِلُهَا الَّتِي فِي وَسَطِهَا بَيْنَ الرَّوَاجِبِ وَالْأَشَاجِعِ فَالرَّوَاجِبُ هِيَ الْمَفَاصِلُ الَّتِي تَلِي رُءُوسَ الْأَصَابِعِ، وَالْأَشَاجِعُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ هِيَ الْمَفَاصِلُ الَّتِي تَلِي ظَهْرَ الْكَفِّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الرَّوَاجِبُ  وَالْبَرَاجِمُ جَمِيعًا هِيَ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا وَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَآخَرُونَ، وَهَذَا مُرَادُ الْحَدِيثِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا تَجْمَعُ الْوَسَخَ.
وَأَمَّا الْإِبْطُ فَبِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَفِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ الزُّجَاجِيُّ وَآخَرُونَ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْإِبْطُ مُذَكَّرٌ وَقَدْ يُؤَنَّثُ فَيُقَالُ إبْطٌ حَسَنٌ وَحَسَنَةٌ وَأَبْيَضُ وَبَيْضَاءُ، وَأَمَّا الْفِطْرَةُ فَبِكَسْرِ الْفَاءِ وَأَصْلُهَا الْخِلْقَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[النساء:30] وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الْخِلَافِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا: هِيَ الدِّينُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَدِيثِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ: هَذَا فِيهِ إشْكَالٌ لِبُعْدِ مَعْنَى السُّنَّةِ مِنْ مَعْنَى الْفِطْرَةِ فِي اللُّغَةِ قَالَ: فَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ أَصْلَهُ سُنَّةُ الْفِطْرَةِ أَوْ أَدَبُ الْفِطْرَةِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ. قُلْت: تَفْسِيرُ الْفِطْرَةِ هُنَا بِالسُّنَّةِ هُوَ الصَّوَابُ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنْ السُّنَّةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ" وَأَصَحُّ مَا فُسِّرَ بِهِ غَرِيبُ الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهُ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا سِيَّمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "
الْفِطْرَةُ عَشْرَةٌ " فَمَعْنَاهُ مُعْظَمُهَا عَشَرَةٌ " كَالْحَجِّ عَرَفَةَ " فَإِنَّهَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي الْعَشَرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ " عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ " وَأَمَّا ذِكْرُ الْخِتَانِ فِي جُمْلَتِهَا وَهُوَ وَاجِبٌ وَبَاقِيهَا سُنَّةٌ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ، فَقَدْ يُقْرَنُ الْمُخْتَلِفَانِ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ}[الأنعام:141] وَالْأَكْلُ مُبَاحٌ وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ، وقوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ}[النور:33] وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ وَالْكِتَابَةُ سُنَّةٌ، وَنَظَائِرُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَأَمَّا الِانْتِضَاحُ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ هُوَ نَضْحُ الْفَرْجِ بِقَلِيلٍ مِنْ الْمَاءِ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ، بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ. وَهُوَ بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّضْحِ وَهُوَ الْمَاءُ  الْقَلِيلُ. وَأَمَّا الِاسْتِحْدَادُ فَهُوَ اسْتِعْمَالُ

 

ج / 1 ص -158-       الْحَدِيدَةِ، وَصَارَ كِنَايَةً عَنْ حَلْقِ الْعَانَةِ. وَأَمَّا رَاوِي الْحَدِيثِ فَهُوَ أَبُو الْيَقْظَانِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَاسْمُ أُمِّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ وَأَبُوهُ يَاسِرٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ صَحَابِيُّونَ رضي الله عنهم وَكَانُوا مِمَّنْ تَقَدَّمَ إسْلَامُهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَكَانُوا يُعَذِّبُهُمْ الْكُفَّارُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَيَمُرُّ بِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: "صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةُ"وَسُمَيَّةُ أَوَّلُ شَهِيدَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، تُوُفِّيَ عَمَّارٌ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً رضي الله عنه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمسألةالثَّالِثَةُ فِي الْأَحْكَامِ: أَمَّا تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ فَمُجْمَعٌ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَسَوَاءٌ فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْيَدِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى ثُمَّ الرِّجْلِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: يَبْدَأُ بِمُسَبِّحَةِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْبِنْصِرِ ثُمَّ الْخِنْصَرِ ثُمَّ خِنْصَرِ الْيُسْرَى إلَى إبْهَامِ الْيُمْنَى، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا وَكَلَامًا فِي حِكْمَتِهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيّ1ُ الْمَالِكِيُّ الْإِمَامُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ وَالْفِقْهِ، وَذَكَرَ فِي إنْكَارِهِ عَلَيْهِ كَلَامًا لَا أُوثِرُ ذِكْرَهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ، إلَّا فِي تَأْخِيرِ إبْهَامِ الْيُمْنَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ، بَلْ يُقَدِّمُ الْيُمْنَى بِكَمَالِهَا ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْيُسْرَى، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَأَمَّا الرِّجْلَانِ فَيَبْدَأُ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَمُرّ عَلَى التَّرْتِيبِ حَتَّى يَخْتِمَ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى كَمَا فِي تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ، وَأَمَّا التَّوْقِيتُ، فِي تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِطُولِهَا، فَمَتَى طَالَتْ قَلَّمَهَا وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، وَكَذَا الضَّابِطُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً"رَوَاهُ مُسْلِمُ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالْبَيْهَقِيِّ " وَقَّتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ مَا سَبَقَ. وَقَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا " لَكِنَّ إسْنَادَهَا ضَعِيفٌ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ: " وُقِّتَ لَنَا " كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا وَنُهِينَا  عَنْ كَذَا وَهُوَ مَرْفُوعٌ كَقَوْلِهِ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ. ثُمَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَا يُؤَخِّرُونَ فِعْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنْ وَقْتِهَا فَإِنْ أَخَّرُوهَا فَلَا يُؤَخِّرُونَهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِذْنَ فِي التَّأْخِيرِ أَرْبَعِينَ مُطْلَقًا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَالْأَخْذُ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَظْفَارِ وَسَخٌ فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ وُصُولَ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ لِقِلَّتِهِ صَحَّ الْوُضُوءُ، وَإِنْ مَنَعَ فَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَلَا يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَسَخُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْبَدَنِ، وَقَطَعَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ بِالْإِجْزَاءِ وَصِحَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ لِلْحَاجَةِ، قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَيُنْكِرُ مَا تَحْتَهَا مِنْ وَسَخٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قَصُّ الشَّارِبِ فَمُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ. وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثَانِ السَّابِقَانِ وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نسبة إلى مارزة من صقلية .

 

ج / 1 ص -159-       الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ جَامِعِهِ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ثُمَّ ضَابِطُ قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ يَقُصَّ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَلَا يَحُفُّهُ مِنْ أَصْلِهِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَقَالَ أَحْمَدُ: رحمه الله: إنْ حَفَّهُ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ قَصَّهُ فَلَا بَأْسَ، وَاحْتَجَّ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحْفُوا الشَّارِبَ وَاعْفُوا اللِّحَى"رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ. "جُزُّوا الشَّوَارِبَ" وَفِي رِوَايَةٍ "انْهَكُوا الشَّوَارِبَ" وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَنَا عَلَى الْحَفِّ مِنْ طَرَفِ الشَّفَةِ لَا مِنْ أَصْلِ الشَّعْرِ، وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي أَنَّ السُّنَّةَ قَصُّ بَعْضِ الشَّارِبِ كَمَا ذَكَرْنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ قَالَ: وَكَانَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ يَفْعَلُهُ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: " رَأَيْت خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ  وَعُتْبَة1ُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَامِرٍ الثُّمَالِيُّ، وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ وَكَانُوا يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ مَعَ طَرَفِ الشَّفَةِ ".
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْإِمَامِ - رحمه الله - أَنَّهُ ذُكِرَ إحْفَاءُ بَعْضِ النَّاسِ شَوَارِبَهُمْ فَقَالَ مَالِكٌ: يَنْبَغِي أَنْ يُضْرَبَ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ وَلَكِنْ يُبْدِي حَرْفَ الشَّفَةِ وَالْفَمِ، قَالَ مَالِكٌ: حَلْقُ الشَّارِبِ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ فِي النَّاسِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ سَبَلَتَيْهِ وَهُمَا طَرَفَا الشَّارِبِ، فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ. قُلْت: وَلَا بَأْسَ أَيْضًا بِتَقْصِيرِهِ رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، وَيُسْتَحَبُّ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ لِمَا سَبَقَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ" ، وَالتَّوْقِيتُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ كَمَا سَبَقَ فِي تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقُصَّ شَارِبَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَقُصَّهُ لَهُ غَيْرُهُ؛  لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ هَتْكِ مُرُوءَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا غَسْلُ الْبَرَاجِمِ فَمُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَهُوَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالْوُضُوءِ، وَقَدْ أَوْضَحَهَا الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَأَلْحَقَ بِهَا إزَالَةَ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْوَسَخِ فِي مَعَاطِفِ الْأُذُنِ وَقَعْرِ الصِّمَاخِ فَيُزِيلُهُ بِالْمَسْحِ، وَرُبَّمَا أَضَرَّتْ كَثْرَتُهُ بِالسَّمْعِ، قَالَ: وَكَذَا مَا يَجْتَمِعُ فِي دَاخِلِ الْأَنْفِ مِنْ الرُّطُوبَاتِ الْمُلْتَصِقَةِ بِجَوَانِبِهِ، وَكَذَا الْوَسَخُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبَدَنِ بِعَرَقٍ وَغُبَارٍ وَنَحْوِهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا نَتْفُ الْإِبْطِ فَمُتَّفَقٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالتَّوْقِيتُ فِيهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْأَظْفَارِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، ثُمَّ السُّنَّةُ نَتْفُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَلَوْ حَلَقَهُ جَازَ، وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: دَخَلْت عَلَى الشَّافِعِيِّ - رحمه الله - وَعِنْدَهُ الْمُزَيِّنُ يَحْلِقُ إبْطَيْهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ عَلِمْت أَنَّ السَّنَةَ النَّتْفُ وَلَكِنْ لَا أَقْوَى عَلَى الْوَجَعِ، وَلَوْ أَزَالَهُ بِالنُّورَةِ فَلَا بَأْسَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمُسْتَحَبُّ نَتْفُهُ وَذَلِكَ سَهْلٌ لِمَنْ تَعَوَّدَهُ فَإِنْ حَلَقَهُ جَازَ؛  لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّظَافَةُ، وَأَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْوَسَخُ فِي خَلَلِ ذَلِكَ وَرُبَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِهِ رَائِحَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْإِبِطِ الْأَيْمَنِ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عتبة بن النذر بضم الدال المشددتين كان اسمه عتلة فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه (ط)

 

ج / 1 ص -160-       وَأَمَّا حَلْقُ الْعَانَةِ فَمُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ أَيْضًا، وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ إذَا أَمَرَهَا زَوْجُهَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا الْوُجُوبُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَفْحُشْ بِحَيْثُ يُنَفِّرُ التَّوَّاقَ، فَإِنْ فَحُشَ بِحَيْثُ نَفَّرَهُ وَجَبَ قَطْعًا، وَسَتَأْتِي الْمسألة:مَبْسُوطَةً فِي كِتَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالسُّنَّةُ فِي الْعَانَةِ الْحَلْقُ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْحَدِيثِ، فَلَوْ نَتَفَهَا أَوْ قَصَّهَا أَوْ أَزَالَهَا بِالنُّورَةِ جَازَ، وَكَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ وَهُوَ الْحَلْقُ، وَيَحْلِقُ عَانَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَيَحْرُمُ أَنْ يُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ إلَّا زَوْجَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ الَّتِي تَسْتَبِيحُ النَّظَرَ إلَى عَوْرَتِهِ وَمَسَّهَا، فَيَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَالتَّوْقِيتُ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ اعْتِبَارِ طُولِهَا، وَأَنَّهُ إنْ أَخَّرَهُ فَلَا يُجَاوِزُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَدْ فَعَلَ مِنْ السَّلَفِ جَمَاعَةٌ بِالنُّورَةِ، وَكَرِهَهَا آخَرُونَ مِنْهُمْ، وَجَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ الْآثَارَ عَنْهُمْ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ وَأَفْرَدَ لَهَا بَابًا.
وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْعَانَةِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ حَلْقُهَا فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا الشَّعْرُ النَّابِتُ حَوَالَيْ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَقُبُلِ الْمَرْأَةِ وَفَوْقَهُمَا، وَرَأَيْت فِي كِتَابِ الْوَدَائِعِ الْمَنْسُوبِ إلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ قَالَ: الْعَانَةُ الشَّعْرُ الْمُسْتَدِيرُ حَوْلَ حَلَقَةِ الدُّبُرِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَرِيبٌ وَلَكِنْ لَا مَانِعَ مِنْ حَلْقِ شَعْرِ الدُّبُرِ، وَأَمَّا اسْتِحْبَابُهُ فَلَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا لِمَنْ يُعْتَمَدُ غَيْرَ هَذَا، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّنَظُّفَ وَسُهُولَةَ الِاسْتِنْجَاءِ فَهُوَ حَسَنٌ مَحْبُوبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ دَفْنُ مَا أُخِذَ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ وَالْأَظْفَارِ وَمُوَارَاتُهُ فِي الْأَرْضِ، نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَسَنَبْسُطُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فرع: سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ إعْفَاءَ اللِّحْيَةِ مِنْ الْفِطْرَةِ فَالْإِعْفَاءُ بِالْمَدِّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ تَوْفِيرُهَا وَتَرْكُهَا بِلَا قَصٍّ، كُرِهَ لَنَا قَصُّهَا كَفِعْلِ الْأَعَاجِمِ، قَالَ: وَكَانَ مِنْ زِيِّ كِسْرَى قَصُّ اللِّحَى وَتَوْفِيرُ الشَّوَارِبِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا طَالَ مِنْ اللِّحْيَةِ فَقِيلَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقْبِضَ عَلَيْهَا وَيَقُصَّ مَا تَحْتَ الْقَبْضَةِ، فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ ثُمَّ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ، وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ، وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقَالُوا: يَتْرُكُهَا عَافِيَةً لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"وَاعْفُوا اللِّحَى" .
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ إذَا لَمْ يَنْتَهِ إلَى تَقْصِيصِهَا؛  لِأَنَّ الطُّولَ الْمُفْرِطَ قَدْ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ. هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ وَالصَّحِيحُ كَرَاهَةُ الْأَخْذِ مِنْهَا مُطْلَقًا، بَلْ يَتْرُكُهَا عَلَى حَالِهَا كَيْفَ كَانَتْ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ "وَاعْفُوا اللِّحَى"، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا"فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا نَبَتَتْ لَهَا لِحْيَةٌ فَيُسْتَحَبُّ حَلْقُهَا، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ وَكَذَا الشَّارِبُ وَالْعَنْفَقَةُ لَهَا، هَذَا مَذْهَبُنَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: لَا يَجُوزُ لَهَا حَلْقُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ خِلْقَتِهَا بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ.
وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْ الْحَاجِبَيْنِ إذَا طَالَا فَلَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا لِأَصْحَابِنَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ فَكُرِهَ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ: وَكَانَ أَحْمَدُ يَفْعَلُهُ وَحُكِيَ

 

ج / 1 ص -161-       أَيْضًا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ فِي اللِّحْيَةِ وَالنَّقْصُ مِنْهَا، وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي شَعْرِ. الْعِذَارَيْنِ مِنْ شَعْرِ الصُّدْغَيْنِ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ، أَوْ يَنْزِلَ فَيَحْلِقَ بَعْضَ الْعِذَارَيْنِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ نَتْفُ جَانِبَيْ الْعَنْفَقَةِ1 وَغَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُغَيِّرُ شَيْئًا، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا بَأْسَ بِحَلْقِ مَا تَحْتَ حَلْقِهِ مِنْ لِحْيَتِهِ، وَلَا يَقُصُّ مَا زَادَ مِنْهَا عَلَى قَبْضَةِ الْيَدِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَطَاوُسٍ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الصَّحِيحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ فِي قُوتِ الْقُلُوبِ ثُمَّ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ فِي اللِّحْيَةِ عَشْرَ خِصَالٍ مَكْرُوهَةٍ إحداها: خِضَابُهَا بِالسَّوَادِ إلَّا لِغَرَضِ الْجِهَادِ إرْعَابًا لِلْعَدُوِّ بِإِظْهَارِ الشَّبَابِ وَالْقُوَّةِ فَلَا بَأْسَ إذَا كَانَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، لَا لِهَوًى وَشَهْوَةٍ، هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ وَسَأُفْرِدُ فَرْعًا لِلْخِضَابِ بِالسَّوَادِ قَرِيبًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. الثَّانِيَةُ: تَبْيِيضُهَا بِالْكِبْرِيتِ أَوْ غَيْرِهِ اسْتِعْجَالًا لِلشَّيْخُوخَةِ وَإِظْهَارًا لِلْعُلُوِّ فِي السِّنِّ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْمَهَابَةِ وَالتَّكْرِيمِ وَلِقَبُولِ حَدِيثِهِ وَإِيهَامًا لِلِقَاءِ الْمَشَايِخِ وَنَحْوِهِ الثَّالِثَةُ: خِضَابُهَا بِحُمْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ تَشَبُّهًا  بِالصَّالِحِينَ وَمُتَّبِعِي السُّنَّةِ لَا بِنِيَّةِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ. الرابعة: نَتْفُهَا فِي أَوَّلِ طُلُوعِهَا وَتَخْفِيفُهَا بِالْمُوسَى إيثَارًا لِلْمُرُودَةِ وَاسْتِصْحَابًا لِلصِّبَا وَحُسْنِ الْوَجْهِ، وَهَذِهِ الْخَصْلَةُ مِنْ أَقْبَحِهَا.  الْخَامِسَةُ: نَتْفُ الشَّيْبِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى السَّادِسَةُ: تَصْفِيفُهَا وَتَعْبِيَتُهَا طَاقَةً فَوْقَ طَاقَةِ التَّزَيُّنِ وَالتَّصَنُّعِ لِيَسْتَحْسِنَهُ النِّسَاءُ وَغَيْرُهُنَّ  السَّابِعَةُ: الزِّيَادَةُ فِيهَا وَالنَّقْصُ مِنْهَا كَمَا سَبَقَ الثَّامِنَةُ: تَرْكُهَا شَعِثَةً مُنْتَفِشَةً إظْهَارًا لِلزَّهَادَةِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِنَفْسِهِ  التَّاسِعَةُ: تَسْرِيحُهَا تَصَنُّعًا الْعَاشِرَةُ: النَّظَرُ إلَيْهَا إعْجَابًا وَخُيَلَاءَ غِرَّةً بِالشَّبَابِ وَفَخْرًا بِالْمَشِيبِ وَتَطَاوُلًا عَنْ الشَّبَابِ، وَهَاتَانِ الْخَصْلَتَانِ فِي التَّحْقِيقِ لَا تَعُودُ الْكَرَاهَةُ فِيهِمَا إلَى مَعْنًى فِي اللِّحْيَةِ، بِخِلَافِ الْخِصَالِ السَّابِقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يُكْرَهُ فِي اللِّحْيَةِ عَقْدُهَا، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ رُوَيْفِعٍ رضي الله عنه بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَالَ: "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
يَا رُوَيْفِعُ لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِك فَأَخْبِرْ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا أَوْ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ". قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي عَقْدِهَا تَفْسِيرَانِ: أحدهما: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِدُونَ لِحَاهُمْ فِي الْحَرْبِ وَذَلِكَ مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ. والثاني: مُعَالَجَةُ الشَّعْرِ لِيَنْعَقِدَ وَيَتَجَمَّدَ وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ التَّأْنِيثِ وَالتَّوْضِيعِ.
فرع: يُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا يُكْرَهُ، صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ كَمَا سَبَقَ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، وَلَوْ قِيلَ: يَحْرُمُ لِلنَّهْيِ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ لَمْ يَبْعُدْ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نَتْفِهِ مِنْ اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ .
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ وَدَهْنُهُ غِبًّا، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ الْغِبِّ، وَتَسْرِيحُ اللِّحْيَةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العذاران جانبا الحية من شعر الخدين والعنفق خفة الشيء والعنفقة الشعيرات الخفيفة بين الشفة السفلى والذقن (ط)

 

ج / 1 ص -162-       حَسَنٍ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَهَى عَنْ التَّرَجُّلِ إلَّا غِبًّا"حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ  أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ"رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَجَهَالَةُ اسْمِ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عُدُولٌ .
فرع: يُسَنُّ خِضَابُ الشَّيْبِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الصَّيْمَرِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ"رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
فرع: اتَّفَقُوا عَلَى ذَمِّ خِضَابِ الرَّأْسِ أَوْ اللِّحْيَةِ بِالسَّوَادِ. ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ وَآخَرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ: هُوَ مَكْرُوهٌ، وَظَاهِرُ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّهُ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَالصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ صَاحِبُ "الحاوي" فِي بَابِ الصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ، قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَادِ، وَقَالَ فِي آخِرِ كِتَابِهِ: الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: يَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ النَّاسَ مِنْ خِضَابِ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ إلَّا الْمُجَاهِدَ. وَدَلِيلُ تَحْرِيمِهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
غَيِّرُوا هَذَا وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ"رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَالثَّغَامَةُ بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ نَبَاتٌ لَهُ ثَمَرٌ أَبْيَضُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ قَوْمٌ يُخَضِّبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ. كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يُرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ تَتَزَيَّنُ بِهِ لِزَوْجِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فرع: أَمَّا خِضَابُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالْحِنَّاءِ فَمُسْتَحَبٌّ لِلْمُتَزَوِّجَةِ مِنْ النِّسَاءِ، لِلْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِيهِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ إلَّا لِحَاجَةِ التَّدَاوِي  وَنَحْوِهِ. وَمِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى تَحْرِيمِهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
"لَعَنْ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ"وَيَدُلُّ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ"رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلَوْنِهِ لَا لِرِيحِهِ فَإِنَّ رِيحَ الطِّيبِ لِلرِّجَالِ مَحْبُوبٌ وَالْحِنَّاءُ فِي هَذَا كَالزَّعْفَرَانِ. وَفِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أُتِيَ بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَّبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا ؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إلَى النَّقِيعِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ إنِّي نُهِيت عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ"لَكِنْ إسْنَادُهُ فِيهِ مَجْهُولٌ، وَالنَّقِيعُ بِالنُّونِ، وَسَنُعِيدُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ أَوْضَحَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيُّ هَذِهِ الْمسألة:وَبَسَطَهَا بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَظَاهِرَةِ فِي كِتَابِهِ الِاسْتِغْنَاءُ فِي مَعْرِفَةِ اسْتِعْمَالِ الْحِنَّاءِ، وَهُوَ كِتَابٌ نَفِيسٌ، وَسَنُعِيدُ هَذِهِ الْمسألة:مَبْسُوطَةً مَعَ نَظَائِرِهَا فِي أَوَّلِ

 

ج / 1 ص -163-       بَابِ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ مَنْ جُبِرَ عَظْمُهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ فَهُنَاكَ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر" وَالْأَصْحَابُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رَوَى يَعْلَى بْنُ مُرَّةَ الصَّحَابِيُّ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ خَلُوقٌ فَقَالَ
اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ ثُمَّ اغْسِلْهُ ثُمَّ لَا تَعُدْ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي النَّهْيِ عَنْ الْخَلُوقِ لِلرِّجَالِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَهُوَ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ .
فرع: يُسْتَحَبُّ فَرْقُ الشَّعْرِ مِنْ الرَّأْسِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه "كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، فَسَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاصِيَتَهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدَهُ"رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فرع: يُكْرَهُ الْقَزَعُ وَهُوَ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي "الصحيحين" قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْقَزَعِ"وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْعَقِيقَةِ وَسَيَأْتِي هُنَا مَبْسُوطًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَرْعٌ: أَمَّا حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ أَرَادَ التَّنْظِيفَ وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ لِمَنْ أَرَادَ دَهْنَهُ وَتَرْجِيلَهُ. هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رحمه الله: لَا بَأْسَ بِقَصِّهِ بِالْمِقْرَاضِ، وَعَنْهُ فِي كَرَاهَةِ حَلْقِهِ رِوَايَتَانِ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ وَلَكِنَّ السُّنَّةَ تَرْكُهُ فَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَقَهُ إلَّا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ تَصْرِيحٌ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ الْحَلْقِ وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبِيًّا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ شَعْرِهِ وَتَرَك بَعْضَهُ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوْ اُتْرُكُوهُ كُلَّهُ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ:
لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ: اُدْعُوَا لِي بَنِي أَخِي فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ فَقَالَ: اُدْعُوَا لِي الْحَلَّاقَ فَأَمَرَهُ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا"حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
فرع: يَحْرُمُ وَصْلُ الشَّعْرِ بِشَعْرٍ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَكَذَلِكَ الْوَشْمُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي لَعْنِ الْوَاصِلَةِ وَالْمُسْتَوْصِلَة وَالْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَة وَالْوَاشِرَةِ إلَى آخِرِهِنَّ، وَسَنُوَضِّحُ الْمسألة:إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ طَهَارَةِ الْبَدَنِ عِنْدَ وَصْلِ الْعَظْمِ حَيْثُ ذَكَرَهَا الْأَصْحَابُ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ جُمَلًا مِنْ الْفُرُوعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

فرع: لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ
يُكْرَهُ لِمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ أَوْ رَيْحَانٌ رَدُّهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدَّهُ"رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَنَسٍ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَرُدُّ الطِّيبَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

 

ج / 1 ص -164-       قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَيَجِبُ الْخِتَانُ لقوله تعالى:{أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ}[النحل:123] وَرُوِيَ " أَنَّ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم خَتَنَ نَفْسَهُ بِالْقَدُومِ " وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمَا كُشِفَتْ لَهُ الْعَوْرَةُ؛  لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مُحَرَّمٌ فَلَمَّا كُشِفَتْ لَهُ الْعَوْرَةُ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ".
الشرح:رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ"رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ: " رُوِيَ " بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّضْعِيفِ مَعَ أَنَّهُ فِي "الصحيحين" وَقَدْ سَبَقَ لَهُ نَظِيرُهُ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ هُنَاكَ. وَقَدْ سَبَقَ إيضَاحُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ.
وَفِي الْقَدُومِ رِوَايَتَانِ التَّخْفِيفُ وَالتَّشْدِيدُ، وَالْأَكْثَرُونَ رَوَوْهُ بِالتَّشْدِيدِ، وَعَلَى هَذَا هُوَ اسْمُ مَكَان بِالشَّامِ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَاخْتَلَفُوا عَلَى هَذَا فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَيْضًا مَوْضِعٌ بِالشَّامِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْمُرَادُ بِهِ آلَةُ النَّجَّارِ وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ لَا غَيْرُ وَجَمْعُهَا قُدُمٌ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى قَدَائِمَ، وَلَا يُقَالُ قَدَادِيمُ قَالَ: وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى فَتْحِ الْقَافِ فِي الْآلَةِ وَالْمَكَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَة عَلَى وُجُوبِ الْخِتَانِ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِالتَّدَيُّنِ بِدِينِهِ فَمَا فَعَلَهُ مُعْتَقِدًا وُجُوبَهُ فَعَلْنَاهُ مُعْتَقِدِينَ وُجُوبَهُ، وَمَا فَعَلَهُ نَدْبًا فَعَلْنَاهُ نَدْبًا، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُهُ وَاجِبًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي اتِّبَاعِهِ فِيمَا فَعَلَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي إيجَابَ كُلِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي حَقِّنَا كَالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ نَقَلَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ خِصَالَ الْفِطْرَةِ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِكَشْفِ الْعَوْرَةِ فَقَدْ ذَكَرَهُ آخَرُونَ مَعَ الْمُصَنِّفِ وَقَالَهُ قَبْلَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ - رحمه الله - أُورِدَ عَلَيْهِ كَشْفُهَا لِلْمُدَاوَاةِ الَّتِي لَا تَجِبُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ كَشْفَهَا لَا يَجُوزُ لِكُلِّ مُدَاوَاةٍ وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي مَوْضِعٍ يَقُولُ أَهْلُ  الْعُرْفِ: إنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْمُدَاوَاةِ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمُرُوءَةِ وَصِيَانَةِ الْعَوْرَةِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ.
فَلَوْ كَانَ الْخِتَانُ سُنَّةً لَمَا كُشِفَتْ الْعَوْرَةُ الْمُحَرَّمُ كَشْفُهَا لَهُ. وَاعْتَمَدَ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِهِ فِي الْخِلَافِ وَالْغَزَالِيُّ فِي " الوسيط" وَجَمَاعَةٌ قِيَاسًا فَقَالُوا: الْخِتَانُ قَطْعُ عُضْوٍ سَلِيمٍ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَمْ يَجُزْ كَقَطْعِ الْأُصْبُعِ، فَإِنَّ قَطْعَهَا إذَا كَانَتْ سَلِيمَةً لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا وَجَبَ بِالْقِصَاصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: الْخِتَانُ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ كَثِيرُونَ مِنْ السَّلَفِ، كَذَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَمِمَّنْ أَوْجَبَهُ أَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: سُنَّةٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَجْهًا لَنَا، وَحَكَى وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ وَسُنَّةٌ فِي الْمَرْأَةِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ شَاذَانَ، وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَدَلِيلُنَا مَا سَبَقَ. فَإِنْ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ بِحَدِيثِ: الْفِطْرَةُ عَشْرَةٌ وَمِنْهَا الْخِتَانُ، فَجَوَابُهُ قَدْ سَبَقَ عِنْدَ ذِكْرِنَا تَفْسِيرَ الْفِطْرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

ج / 1 ص -165-       فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْوَاجِبُ فِي خِتَانِ الرَّجُلِ قَطْعُ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ بِحَيْثُ تَنْكَشِفُ الْحَشَفَةُ كُلُّهَا، فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا وَجَبَ قَطْعُ الْبَاقِي ثَانِيًا، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ كَجٍّ أَنَّهُ قَالَ: عِنْدِي أَنَّهُ يَكْفِي قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ الْقُلْفَةِ وَإِنْ قَلَّ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَطْعُ تَدْوِيرَ رَأْسِهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْن كَجٍّ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي الطُّرُقِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ قَطْعُ جَمِيعِ مَا يُغَطِّي الْحَشَفَةَ. وَالْوَاجِبُ فِي الْمَرْأَةِ قَطْعُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ فَوْقَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ. قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْتَصَرَ فِي الْمَرْأَةِ عَلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ وَلَا يُبَالَغُ فِي الْقَطْعِ وَاسْتَدَلُّوا فِيهِ بِحَدِيثٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها "أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَنْهَكِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ إلَى الْبَعْلِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَكِنْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ، وَتَنْهَكِي بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْهَاءِ أَيْ لَا تُبَالِغِي فِي الْقَطْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَرْعٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَقْتُ وُجُوبِ الْخِتَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْتِنَ الصَّغِيرَ فِي صِغَرِهِ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ "الحاوي" وَصَاحِبَا الْمُسْتَظْهِرِيِّ وَالْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْتَنَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِخَبَرٍ وَرَدَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا لَا يَحْتَمِلُهُ فَيُؤَخِّرَهُ حَتَّى يَحْتَمِلَهُ، قَالَ صَاحِبَا "الحاوي" وَالْمُسْتَظْهَرَيْ، وَهَلْ يُحْسَبُ يَوْمُ الْوِلَادَةِ مِنْ السَّبْعَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُحْسَبُ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يُحْسَبُ، فَيُخْتَنُ فِي السَّابِعِ بَعْدَ يَوْمِ الْوِلَادَةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُسْتَظْهِرِيِّ فِي بَابِ التَّعْزِيرِ. قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: فَإِنْ خَتَنَهُ قَبْلَ الْيَوْمِ السَّابِعِ كُرِهَ. قَالَ: وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ قَالَ: فَإِنْ أَخَّرَ عَنْ السَّابِعِ اُسْتُحِبَّ خِتَانُهُ فِي الْأَرْبَعِينَ، فَإِنْ أَخَّرَ اُسْتُحِبَّ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ خِتَانُهُ فِي الصِّغَرِ وَلَا يَجِبُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَفِي الْمسألة:وَجْهٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ خِتَانُهُ فِي الصِّغَرِ لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِهِ فَوَجَبَ. حَكَاهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ حِكَايَةِ الْقَاضِي أَبِي الْفُتُوحِ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجِبُ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَحْرُمُ خِتَانُهُ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ، لِأَنَّ أَلَمَهُ فَوْقَ أَلَمِ الضَّرْبِ وَلَا يُضْرَبُ عَلَى الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْبَغَوِيّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ كَالْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ذَكَرَانِ قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: إنْ عُرِفَ الْأَصْلِيُّ مِنْهُمَا خُتِنَ وَحْدَهُ، قَالَ صَاحِبُ الْإِبَانَةِ: يُعْرَفُ الْأَصْلِيُّ بِالْبَوْلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بِالْعَمَلِ فَإِنْ كَانَا عَامِلَيْنِ أَوْ يَبُولُ مِنْهُمَا وَكَانَا عَلَى مَنْبَتِ الذَّكَرِ عَلَى السَّوَاءِ وَجَبَ خِتَانُهُمَا. وَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَقَالَ فِي الْبَيَانِ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفُتُوحِ: يَجِبُ خِتَانُهُ فِي فَرْجَيْهِ جَمِيعًا؛  لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَاجِبٌ وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِخِتَانِهِمَا، كَمَا أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِكْرًا لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ وُصُولِهِ إلَى الْوَطْءِ الْمُسْتَحَقِّ إلَّا بِقَطْعِ بَكَارَتِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِلَا ضَمَانٍ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى صَغِيرًا خَتَنَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ إذَا قُلْنَا بِالْوَجْهِ الضَّعِيفِ: إنَّ الصَّغِيرَ يَجِبُ خِتَانُهُ،

 

ج / 1 ص -166-       وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ  إنَّهُ لَا يَجِبُ خِتَانُ الصَّغِيرِ لَمْ يُخْتَنْ الْخُنْثَى الصَّغِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَجِبُ، وَحِينَئِذٍ إنْ كَانَ هُوَ يُحْسِنُ الْخِتَانَ خَتَنَ نَفْسَهُ وَإِلَّا اشْتَرَى لَهُ جَارِيَةً تَخْتِنُهُ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ جَارِيَةٌ تُحْسِنُ ذَلِكَ خَتَنَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِلضَّرُورَةِ كَالتَّطْبِيبِ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْبَيَانِ وَقَطَعَ الْبَغَوِيّ بِأَنْ لَا يُخْتَنَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ لِأَنَّ الْجُرْحَ عَلَى الْإِشْكَالِ لَا يَجُوزُ، ذَكَرَهُ قَبْلَ كِتَابِ الصَّدَاقِ بِأَسْطُرٍ فِي فصل:يْنِ ذَكَرَ فِيهِمَا أَحْكَامَ الْخُنْثَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ هُوَ الْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْخِتَانُ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِذَا بَلَغَ وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ.
 قَالَ صَاحِبُ "الحاوي" وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا: فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ بِحَيْثُ لَوْ خُتِنَ خِيفَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَنَ، بَلْ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتَهُ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ فِيمَا يُفْضِي إلَى التَّلَفِ .
فرع: لَوْ مَاتَ غَيْرَ مَخْتُونٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ لَا يُخْتَنُ؛  لِأَنَّ خِتَانَهُ كَانَ تَكْلِيفًا وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ وَالثَّانِي: يُخْتَنُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ وَالثَّالِثُ: يُخْتَنُ الْكَبِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ، حَكَاهُمَا فِي الْبَيَانِ وَهُمَا شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ، وَهَذِهِ الْمسألة:مَوْضِعُهَا كِتَابُ الْجَنَائِزِ، وَهُنَاكَ ذَكَرَهَا الْأَصْحَابُ وَسَنُوَضِّحُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَخْتِنَ عَبْدَهُ أَوْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَسْبِهِ لَيَخْتِنَ بِهِ نَفْسَهُ، قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ زَمِنًا فَأُجْرَةُ خِتَانِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَى السَّيِّدِ كَالنَّفَقَةِ.
فرع: أُجْرَةُ خِتَانِ الطِّفْلِ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مِنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فرع: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةُ فِي الْوَسْوَسَةِ: لَوْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِلَا قُلْفَةٍ فَلَا خِتَانَ لَا إيجَابًا وَلَا اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْقُلْفَةِ  الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَجَبَ قَطْعُهُ كَمَا لَوْ خُتِنَ خِتَانًا غَيْرَ كَامِلٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُهُ ثَانِيًا حَتَّى يُبَيِّنَ جَمِيعَ الْقُلْفَةِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِزَالَتِهَا فِي الْختان

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ الْخِتَانِ .
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحَبُّوهُ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ وِلَادَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِ الْخِتَانِ مِنْ كِتَابِهِ "الإشراف" وَهُوَ عَقِبَ الْأُضْحِيَّةِ وَهِيَ عَقِبَ كِتَابِ الْحَجِّ: رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَخْتِنُ وَلَدَهَا يَوْمَ السَّابِعِ، قَالَ: وَكَرِهَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ الْخِتَانَ يَوْمَ سَابِعِهِ لَمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ، قَالَ مَالِكٌ: عَامَّةُ مَا رَأَيْت الْخِتَانَ بِبَلَدِنَا إذَا ثُغِرَ1 الصَّبِيُّ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يُخْتَنُ مَا بَيْنَ السَّبْعِ إلَى الْعَشْرِ، قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثغر بالبناء للمجهول إذا نبتت أسنانه أو سقط ثغره ، ويقالك أثغر بتشديد المثلثة (ط)

 

ج / 1 ص -167-       الْخَلِيلَ صلى الله عليه وسلم خَتَنَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَإِسْمَاعِيلَ لَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ هَذَا كُلَّهُ: لَيْسَ فِي بَابِ الْخِتَانِ نَهْيٌ يَثْبُتُ، وَلَا لِوَقْتِهِ حَدٌّ يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَلَا سُنَّةٌ تُتَّبَعُ، وَالْأَشْيَاءُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَا يَجُوزُ حَظْرُ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَا نَعْلَمُ مَعَ مَنْ مَنَعَ أَنْ يُخْتَنَ الصَّبِيُّ لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ حُجَّةً. هَذَا آخِرُ كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِر