المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 2 ص -5-            قال المصنف رحمه الله تعالى:
"باب الأحداث التي تنقض الوضوء
الأحداث التي تنقض الوضوء خمسة: الخارج من السبيلين، والنوم، والغلبة على العقل بغير النوم، ولمس النساء، ومس الفرج. فأما الخارج من السبيلين فإنه ينقض الوضوء لقوله تعالى: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: من الآية43] ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا وضوء إلا من صوت أو ريح".
الشرح: قال الله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: من الآية43] اختلف العلماء في (أو) هذه فقال الأزهري: هي بمعنى الواو. قال: وهي واو الحال، وأنشد فيه أبياتا. قال: ولا يجوز في الآية غير معنى الواو حتى يستقيم التأويل على ما أجمع عليه الفقهاء. وقال القاضي أبو الطيب في "تعليقه" في مسألة ملامسة المرأة: في الآية تقديم وتأخير ذكره الشافعي عن زيد بن أسلم، تقديرها: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم، وإن كنتم جنبا فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا.
قال: وزيد بن أسلم من العالمين بالقرآن. والظاهر أنه قدر الآية توقيفا مع أن التقدير في الآية لا بد منه، فإن نظمها يقتضي أن المرض والسفر حدثان يوجبان الوضوء، ولا يقوله أحد.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا وضوء إلا من صوت أو ريح". فحديث صحيح. رواه الترمذي وغيره بهذا اللفظ بأسانيد صحيحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ورواه مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه بقريب من معناه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". 
وثبت عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: "شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة. فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". رواه البخاري ومسلم. ومعنى "يجد ريحا" يعلمه ويتحقق خروجه، وليس المراد يشمه، والأحاديث في الدلالة على الذي ذكره كثيرة مشهورة.
أما حكم المسألة: فالخارج من قبل الرجل أو المرأة أو دبرهما ينقض الوضوء، سواء كان غائطا أو بولا أو ريحا أو دودا أو قيحا أو دما أو حصاة أو غير ذلك ولا فرق في ذلك بين النادر والمعتاد، ولا فرق في خروج الريح بين قبل المرأة والرجل ودبرهما. نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم، واتفق عليه الأصحاب.

 

ج / 2 ص -6-            قال أصحابنا:  ويتصور خروج الريح من قبل الرجل إذا كان آدر - وهو عظيم الخصيين - وكل هذا متفق عليه في مذهبنا. ولا يستثنى من الخارج إلا شيء واحد وهو المني، فإنه لا ينقض الوضوء على المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور.
قالوا: لأن الخارج الواحد لا يوجب طهارتين، وهذا قد أوجب الجنابة فيكون جنبا لا محدثا. قال الرافعي: لأن الشيء مهما أوجب أعظم الأثرين بخصوصه لا يوجب أوهنهما بعمومه، كزنا المحصن يوجب أعظم الحدين دون أخفهما. وحكى جماعة منهم صاحب "البيان" عن القاضي أبي الطيب أنه ينقض الوضوء فيكون جنبا محدثا.
وقد وافق القاضي أبو الطيب الجمهور في "تعليقه" فقال (في مسألة من وجب عليه وضوء وغسل): "إنه يكون جنبا لا محدثا"، وهناك ذكر عن الجمهور المسألة.
وأما قول الغزالي رحمه الله: "الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، طاهرا كان أو نجسا"، فمراده بالطاهر الدود والحصا وشبههما مما هو طاهر العين، وإنما ينجس بالمجاورة.
قال الرافعي: ولا يغتر بتعميم الأئمة القول في أن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، فإن هذا ظاهر يعارضه تصريحهم في تصوير الجنابة المفردة عن الحدث على أن من أنزل بمجرد النظر فهو جنب غير محدث. وأما أدلة الانتقاض بكل خارج من السبيلين غير المني فكلها صحيحة ظاهرة.
أما الغائط فبنص الكتاب والسنة والإجماع. وأما البول فبالسنة المستفيضة، والإجماع، والقياس على الغائط. وأما الريح فبالأحاديث الصحيحة التي قدمناها وهي صريحة تتناول الريح من قبلي الرجل والمرأة ودبرهما، وأما المذي والودي والدود وغيرها من النادرات فسنذكر دليلها في فرع مذاهب العلماء والله أعلم.
فرع: ذكر المصنف أن نواقض الوضوء خمسة، وهكذا ذكرها جمهور الأصحاب، وبقي من النواقض ثلاثة أشياء: أحدها متفق عليه، والآخران مختلف فيهما فالمتفق عليه انقطاع الحدث الدائم كدم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحو ذلك، فإن صاحبه إذا توضأ حكم بصحة وضوئه، فلو انقطع حدثه وشفي انتقض وضوءه ووجب وضوء جديد، كما سنوضحه في باب الحيض إن شاء الله. والمختلف فيه نزع الخف، وفيه خلاف تقدم واضحا. والأصح أن مسح الخف يرفع الحدث، فإذا نزعه عاد الحدث. وهل يعود إلى الأعضاء كلها أم إلى الرجلين فقط؟ فيه القولان.
والثالث: الردة وفيها ثلاثة أوجه، أصحها أنها تبطل التيمم دون الوضوء. والثاني تبطلهما. والثالث: لا تبطل واحدا منهما. حكاها البندنيجي -في آخر باب التيمم- وآخرون.
وممن ذكر مسألة الخف وانقطاع الحدث الدائم من النواقض في هذا الباب المحاملي في (اللباب) ولعل الأصحاب لم يذكروهما هنا؛ لكونهما موضحتين في بابيهما. وأما مسألة الردة فالنقض

 

ج / 2 ص -7-            في الوضوء وجه ضعيف لم يعرجوا عليه هنا، وقد قطع المصنف ببطلان التيمم بالردة1  ذكره في باب التيمم.
واحتج لإبطال الوضوء والتيمم بأن الطهارة عبادة لا تصح مع الردة ابتداء، فلا تبقى معها دواما كالصلاة إذا ارتد في أثنائها. ولعدم الإبطال بأنها ردة بعد فراغ العبادة فلم تبطلها كالصوم والصلاة بعد الفراغ منهما. وللفرق بين الوضوء والتيمم بقوة الوضوء وضعف التيمم.
وأما إذا اغتسل ثم ارتد ثم أسلم فالمذهب أنه لا يجب إعادة الغسل، وبه قطع الأصحاب، وفيه وجه أنه يجب، حكاه الرافعي، وهو شاذ ضعيف. ولو ارتد في أثناء وضوئه ثم أسلم فإن أتى بشيء منه في حال الردة لم يصح ما أتى به في الردة، كذا قطع به إمام الحرمين وغيره، ويجيء فيه الوجه الشاذ الذي سبق في باب نية الوضوء عن حكاية المحاملي أنه يصح من كل كافر كل طهارة، وإن لم يأت بشيء فقد انقطعت النية، فإن لم تجدد نية لم يصح وضوءه، وإن جددها بعد الإسلام -وقلنا: لا يبطل الوضوء بالردة- انبنى على الخلاف في تفريق النية، والأصح أنه لا يضر كما سبق بيانه في باب نية الوضوء.
فإن قلنا: يضر، استأنف الوضوء، وإلا فإن كان الفصل قريبا بنى، وإلا ففيه القولان في الموالاة، والله أعلم.
فرع في مذاهب العلماء في الخارج من السبيلين
قد سبق أن مذهبنا أن الخارج من أحد السبيلين ينقض، سواء كان نادرا أو معتادا وبه قال الجمهور. قال ابن المنذر: أجمعوا أنه ينتقض بخروج الغائط من الدبر، والبول والمذي من القبل، والريح من الدبر. قال: ودم الاستحاضة ينقض في قول عامة العلماء إلا ربيعة2 .
قال: واختلفوا في الدود يخرج من الدبر، فكان عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وحماد بن أبي سليمان وأبو مجلز والحكم وسفيان الثوري والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور يرون منه الوضوء،
وقال: قتادة ومالك: لا وضوء فيه. وروي ذلك عن النخعي وقال مالك: لا وضوء في الدم يخرج من الدبر. هذا كلام ابن المنذر. ونقل أصحابنا عن مالك أن النادر لا ينقض، والنادر عنده كالمذي يدوم لا بشهوة، فإن كان بشهوة فليس بنادر. وقال داود: لا ينقض النادر وإن دام إلا المذي للحديث.
واحتج لمن قال لا ينقض النادر بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح". وهو حديث

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  راجع بقية أحكام المرتد في قتال أهل البغي جزءي 17, 18 لنا. المطيعي.
2  ربيعة الرأي شيخ مالك واسمه ربيعة بن عبد الرحمن (ط).

 

 

ج / 2 ص -8-            صحيح كما سبق، وبحديث صفوان بن عسال المتقدم في أول باب مسح الخف. وقوله: "لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم" ولأنه نادر فلم ينقض، كالقيء، وكالمذي الخارج من سلس المذي.
واحتج أصحابنا بحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المذي:
"يغسل ذكره ويتوضأ". وفي رواية "الوضوء فيه"وفي رواية: "يتوضأ وضوءه للصلاة" رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم قالا:
"في الودي الوضوء" رواه البيهقي، ولأنه خارج من السبيل فنقض كالريح والغائط، ولأنه إذا وجب الوضوء بالمعتاد الذي تعم به البلوى فغيره أولى.
وأما الجواب عن حديثهم الأول فهو أنا أجمعنا على أنه ليس المراد به حصر ناقض الوضوء في الصوت والريح، بل المراد نفي وجوب الوضوء بالشك في خروج الريح، كما قدمناه.
وأما حديث صفوان فبين فيه جواز المسح وبعض ما يمسح بسببه، ولم يقصد بيان جميع النواقض؛ ولهذا لم يستوفها. ألا تراه لم يذكر الريح وزوال العقل، وهما مما ينقض بالإجماع، وأما القيء فلأنه من غير السبيل فلم ينقض كالدمع، وأما سلس المذي فللضرورة؛ ولهذا نقول هو محدث، ولا يجمع بين فريضتين ولا يتوضأ قبل الوقت فهذا ما نعتمده في المسألة دليلا وجوابا. وأما ما احتج به بعض أصحابنا "الوضوء مما خرج". فقد رواه البيهقي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت، والله أعلم.
فرع: قد ذكرنا أن خروج الريح من قبلي الرجل والمرأة ينقض الوضوء، وبه قال أحمد ومحمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة: "لا ينقض".
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن انسد المخرج المعتاد وانفتح دون المعدة مخرج انتقض الوضوء بالخارج منه، لأنه لا بد للإنسان من مخرج يخرج منه البول والغائط، فإذا انسد المعتاد صار هذا هو المخرج فانتقض الوضوء بالخارج منه، وإن انفتح فوق المعدة ففيه قولان: أحدهما: ينتقض الوضوء بالخارج منه لما ذكرناه، وقال في حرملة لا ينتقض لأنه في معنى القيء، وإن لم ينسد المعتاد وانفتح فوق المعدة لم ينقض الوضوء بالخارج منه، وإن كان دون المعدة ففيه وجهان: أحدهما: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه لأن ذلك كالجائفة، فلا ينتقض الوضوء بما يخرج منه، والثاني: ينتقض؛ لأنه مخرج يخرج منه الغائط فهو كالمعتاد".
الشرح: المعدة بفتح الميم وكسر العين، وبكسر الميم وإسكان العين، ومراد الشافعي والأصحاب بما تحت المعدة ما تحت السرة، وبما فوق المعدة ما فوق السرة، ولو انفتح في نفس السرة أو في محاذاتها فله حكم ما فوقها؛ لأنه في معناه. ذكره إمام الحرمين وغيره.
 وقد ذكر المصنف أربع صور: إحداها: ينسد المعتاد وينفتح مخرج تحت المعدة فينتقض الوضوء بالخارج منه قولا واحدا، هكذا قطع به الأصحاب في كل الطرق إلا صاحب "الحاوي",

 

ج / 2 ص -9-            فحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: فيه قولان كما لو لم ينسد، قال: وأنكر سائر أصحابنا ذلك عليه ونسبوه إلى الغفلة فيه.
الثانية: ينسد المعتاد وينفتح فوق المعدة فقولان مشهوران، الصحيح عند الجمهور لا ينتقض، ممن صححه القاضي أبو حامد والجرجاني والرافعي في كتابيه، واختاره المزني، وقطع المحاملي بالانتقاض وهو ضعيف.
الثالثة: لا ينسد المعتاد وينفتح تحت المعدة، ففي الانتقاض خلاف مشهور، منهم من حكاه وجهين، وبعضهم حكاه قولين، والأصح باتفاقهم لا ينقض، وبه قطع الجرجاني في التحرير.
الرابعة: لا ينسد المعتاد وينفتح فوق المعدة، فطريقان قطع الجمهور بأنه لا ينتقض قولا واحدا، ممن صرح به المصنف هنا. وفي "التنبيه" والماوردي والشيخ أبو محمد والقاضي حسين والفوراني وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي وصاحب "العدة" والرافعي وآخرون، ونقل الفوراني والمتولي الاتفاق عليه، وقال الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي: إن قلنا فيما إذا انسد الأصلي وانفتح فوق المعدة لا ينقض فهنا أولى وإلا فوجهان، وادعى صاحب "البيان" أن هذه طريقة الأكثرين، وأن صاحب المهذب خالفهم، وليس كما قال والله أعلم.

فرع في مسائل تتعلق بهذه المسألة
إحداها: قال صاحب "الحاوي": هذه المسائل والتفصيل الذي ذكرناه في المخرج المنفتح، هي إذا كان انسداد المخرج عارضا لعلة، قال وحينئذ حكم السبيلين جار عليهما في نقض الوضوء بمسهما ووجوب الغسل بالإيلاج فيهما، فأما إذا كان انسداد الأصلي من أصل الخلقة فسبيل الحدث هو التفتح والخارج منه ناقض للوضوء، سواء كان تحت المعدة أو فوقها، والمنسد كالعضو الزائد من الخنثى لا وضوء بمسه ولا غسل بإيلاجه أو إيلاج فيه، هذا كلام صاحب "الحاوي" ولم أر لغيره تصريحا بموافقته أو مخالفته، والله أعلم.
الثانية: لا فرق فيما ذكرناه في المنفتح بين الرجل والمرأة والقبل والدبر.
الثالثة: حيث حكمنا في مسائل المنفتح بالانتقاض بالخارج، فإن كان الخارج بولا أو غائطا انتقض بلا خلاف، وإن كان غيرهما كدم أو قيح أو حصاة ونحوها ففيه قولان حكاهما الخراسانيون.
قال إمام الحرمين وآخرون منهم: أصحهما الانتقاض، وبه قطع المتولي وهو مقتضى إطلاق العراقيين لأنا جعلناه كالأصلي، ولا فرق عندنا في الأصلي بين المعتاد وغيره، وخالف البغوي الجماعة فقال: الأصح لا ينقض لأنا جعلناه كالأصلي للضرورة، لكون الإنسان لا بد له من مخرج يخرج منه المعتاد، فإذا خرج غير المعتاد عدنا إلى الأصل، ولو خرج منه الريح انتقض عند الجمهور لأنه معتاد، وطرد البغوي والرافعي فيه القولين.
الرابعة: إذا نقضنا بالخارج هل يكفيه الاستنجاء فيه بالحجر أم يتعين الماء؟ فيه ثلاثة أوجه:

 

ج / 2 ص -10-         أصحها: يتعين الماء، والثاني: لا، والثالث: يتعين في الخارج النادر دون المعتاد وإن قلنا: لا ينقض، تعين الماء لإزالة هذه النجاسة بلا خلاف.
الخامسة: حيث قلنا ينقض الخارج منه هل يجب الوضوء بمسه والغسل بالإيلاج فيه؟ فيه وجهان مشهوران، أصحهما بالاتفاق لا يجب؛ لأنه ليس بفرج. قال إمام الحرمين: وهذا الخلاف على بعده لا يتعدى أحكام الحدث، فلا يثبت بالإيلاج فيه شيء من أحكام الوطء سوى الغسل، على وجه، وهكذا قطع به الجمهور مع الإمام.
وذكر القاضي حسين -في "تعليقه"- الوجهين في وجوب الحد 1  بالإيلاج فيه، وذكر صاحب "البيان" أن الوجهين يجريان في وجوب المهر بالإيلاج فيه، وحصول التحليل به، قال الرافعي: وطرد أبو عبد الله الحناطي -بالحاء المهملة والنون- الوجهين في المهر وسائر أحكام الوطء.
قلت: وكل هذا شاذ فاسد.
السادسة: إذا كان فوق سرة الرجل ونقضنا به، ففي وجوب ستره، وحل النظر إليه للرجال وجهان أصحهما: لا يجب الستر، ويحل النظر لأنه ليس في محل العورة، وقال الرافعي: ويجري الوجهان لو حاذى السرة، وقلنا بالمذهب: إنها ليست عورة.
السابعة: إذا نقضنا بخروج الريح منه -فنام ملصقا له بالأرض- ففي انتقاضه وجهان حكاهما صاحبا "الحاوي" والبحر أصحهما لا ينتقض.
فرع: الخنثى الذي زال إشكاله إذا خرج من فرجه الزائد شيء، فله حكم المنفتح تحت المعدة مع انفتاح الأصلي، وأما الخنثى المشكل إذا بال من أحد قبليه 2 ففيه ثلاثة طرق قطع الجمهور بأنه كالمنفتح تحت المعدة مع انفتاح الأصلي لاحتمال أنه زائد، وممن قطع بهذا إمام الحرمين والمتولي والقاضي أبو الفتوح، وقطع أبو علي السنجي بالانتقاض، كذا حكاه عنه صاحب البيان، وقطع الماوردي بأنه لا ينتقض، ذكره في مسائل لمس الخنثى فرجه، وإذا بال منهما توضأ قطعا.
فرع: لو كان لرجل ذكران فخرج من أحدهما شيء انتقض وضوءه، ذكره الماوردي.
فرع: إذا خرج دم من الباسور إن كان داخل الدبر نقض الوضوء، وإن كان الباسور خارج الدبر لم ينقض، هكذا ذكره الصيمري وغيره.
فرع: لو أخرجت دودة رأسها من أحد السبيلين، ثم رجعت قبل انفصالها ففي انتقاض الوضوء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  راجع ما كتبنا في أبواب النكاح من الجزءين 15, 16 والحدود من الجزء18 المطيعي.
2 لفظ الإمام في "النهاية" (فرع) خروج الخارج من أحد سبيلي الخنثى المشكل بمثابة خروج نجاسة من سبيل ينفتح أسفل من العادة وقد مضى (ط).

 

ج / 2 ص -11-         وجهان. حكاهما الماوردي والروياني والشاشي وغيرهم، أصحهما: ينتقض للخروج والثاني: لا، لعدم الانفصال، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن أدخل في إحليله مسبارا وأخرجه، أو زرق فيه شيئا وخرج منه، انتقض وضوءه".
الشرح: الإحليل بكسر الهمزة، هو مجرى البول من الذكر، والمسبار بكسر الميم وبالباء الموحدة بعد السين، وهو ما يسبر به الجرح من حديدة أو ميل أو فتيلة أو نحوه، أي يعرف به غور الجرح، ويقال له أيضا: السبار بكسر السين وحذف الميم، وكذا ذكره الشافعي رحمه الله، ويقال: سبرت الجرح أسبره سبرا كقتلته أقتله قتلا، واتفق الأصحاب على أنه إذا أدخل رجل أو امرأة في قبلهما أو دبرهما شيئا من عود أو مسبار أو خيط أو فتيلة [أو أصبع] أو غير ذلك ثم خرج، انتقض الوضوء، سواء اختلط به أم لا، وسواء انفصل كله أو قطعة منه لأنه خارج من السبيل.
وأما مجرد الإدخال فلا ينقض بلا خلاف، فلو غيب بعض المسبار فله أن يمس المصحف ما لم يخرجه، ولو صلى لم تصح صلاته، لا بسبب الوضوء بل لأن الطرف الداخل تنجس، والظاهر له حكم ثوب المصلي، فيكون حاملا لمتصل بالنجاسة، فلو غيب الجميع صحت صلاته. هكذا ذكره القاضي حسين في "تعليقه" والمتولي والشاشي في "المعتمد" وآخرون.
وحكى الشيخ أبو محمد في "الفروق" أن بعض أصحابنا قال: لو لف على أصبعه خرقة وأدخلها في دبره وهو في الصلاة لم تبطل صلاته فحصل وجهان، وحاصلهما أن النجاسة الداخلة هل لها حكم النجاسة؟ ويتنجس المتصل بها، الذي له حكم الظاهر أم لا؟ والأشهر أن لها حكم النجاسة وينجس المتصل بها، وفي "الفتاوى" المنقولة عن صاحب 1  "الشامل" أنه لا حكم لها.
وذكر القاضي حسين هنا والمتولي في كتاب الصيام وغيرهما فرعا له تعلق بهذا وهو أنه لو ابتلع خيطا في ليلة من رمضان فأصبح صائما وبعض الخيط من فمه، وبعضه داخل في جوفه فإن نزع الخيط غيره في نومه أو مكرها له لم يبطل صومه، وتصح صلاته. وإن بقي الخيط لم تصح صلاته، لاتصاله بالنجاسة، ويصح صومه. وإن نزعه أو ابتلعه بطل صومه وصحت صلاته لكن يغسل فمه إن نزعه، وأيهما أولى بالمحافظة عليه؟ فيه وجهان، أرجحهما عند القاضي وغيره: مراعاة صحة الصوم أولى، لأنه عبادة دخل فيها فلا يبطلها2.
قال القاضي: وهذا كما لو دخل في صلاة القضاء ثم بان له أنه لم يبق من الوقت إلا قدر إذا اشتغل بإتمام القضاء فاته صلاة الوقت يلزمه إتمام القضاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الشامل لابن الصباغ وقد عثرت على نسخة خطية منه في مكتبة معهد دمياط الأزهري وقد أعانني الله على نقل أكثرها وقد نقلنا في تكملتنا لهذا الكتاب ما أعان على شرح بقية "المهذب". المطيعي.

 

ج / 2 ص -12-         لشروعه فيه، فعلى هذا يصلي في مسألة الخيط على حسب حاله ويعيد، والثاني: الصلاة أولى بالمراعاة، ولأنها آكد من الصيام، ولأنها متعددة فإنها ثلاث صلوات، ونقل الشاشي هذه المسألة عن القاضي كما ذكرتها.
ثم قال: وعندي أن البقاء على حاله لا يصح، بل ينزعه أو يبتلعه ويبطل صومه، لأن بطلان الصوم حاصل لا محالة، لأنه مستديم لإدخاله بعد الفجر، واستدامته بالابتداء كما لو طلع الفجر وهو مجامع فاستدام فإنه يبطل بابتداء الجماع. هذا كلام الشاشي وهو ضعيف والفرق ظاهر، فإن مستديم الجماع يعد مجامعا منتهكا حرمة اليوم، بخلاف مستديم الخيط والله أعلم.
نظير المسألة ما إذا كان محرما بحج، وهو بقرب عرفات ولم يكن وقف بها ولا صلى العشاء ولم يبق من وقت العشاء والوقوف إلا قدر يسير، بحيث لو صلى فاته الوقوف، ولو ذهب إلى الوقوف لفاتته الصلاة وأدرك الوقوف، ففيه ثلاثة أوجه الصحيح منها: منها عند القاضي وغيره أنه يذهب إلى الوقوف ويعذر في تأخير الصلاة، لأن فوات الوقوف أشق، فإنه لا يمكن قضاؤه إلا بعد سنة، وقد يعرض قبل ذلك عارض، وقد يعرض في القضاء ما يحصل به الفوات أيضا، وقد يموت، مع ما يلزمه من المشقة الشديدة في تكرار هذا السفر، ولزوم دم الفوات، وغير ذلك.
والصلاة يجوز تأخيرها بعذر الجمع الذي ليس فيه هذه المشقة، ولا قريب منها، مع إمكان قضائها في الحال. والثاني: يقدم الصلاة لأنها آكد وعلى الفور، وهذا ليس بشيء وإن كان مشهورا. والثالث: يصلي صلاة الخوف ماشيا، فيحصل الحج والصلاة جميعا، ويكون هذا عذرا من أعذار صلاة شدة الخوف، وقد حكى إمام الحرمين وغيره هذه الأوجه في باب الخوف عن القفال رحمه الله، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما النوم فينظر فيه، فإن وجد منه وهو مضطجع، أو مكب أو متكئ انتقض وضوءه، لما روي عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ". وإن وجد منه وهو قاعد، ومحل الحدث متمكن من الأرض: فإنه قال في "البويطي": ينتقض وضوءه، وهو اختيار المزني لحديث علي، ولأن ما نقض الوضوء في حال الاضطجاع نقضه في حال القعود كالإحداث، والمنصوص في الكتب أنه لا ينتقض وضوءه لما روى أنس رضي الله عنه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون قعودا ثم يصلون ولا يتوضئون".
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "من نام جالسا فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء". ويخالف الأحداث فإنها تنقض الوضوء لعينها، والنوم ينقض لأنه يصحبه خروج الخارج وذلك لا يحس به إذا نام زائلا عن مستوى الجلوس، ويحس به إذا نام جالسا، وإن نام راكعا أو ساجدا أو قائما في الصلاة ففيه قولان.
قال في الجديد: "ينتقض وضوءه" لحديث علي رضي الله عنه ولأنه نام زائلا عن مستوى الجلوس، فأشبه المضطجع.

 

ج / 2 ص -13-         وقال في القديم: "لا ينتقض وضوءه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا نام العبد في صلاته 1  باهى الله به ملائكته، يقول: عبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي" فلو انتقض وضوءه لما جعله ساجد".
الشرح: في هذا الفصل جمل من الأحاديث واللغات والألفاظ والأسماء والأحكام وبيانها مع فروعها بمسائل.
إحداها: حديث علي رضي الله عنه حديث حسن، رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما بأسانيد حسنة وأما حديث أنس رضي الله عنه عنه فصحيح، رواه في صحيحه بمعناه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون". رواه أبو داود وغيره بلفظه في المهذب، إلا قوله "قعودا "فإنه لم يذكره، لكن ذكر ما يدل عليه فقال "حتى تخفق رءوسهم" وإسناد رواية أبي داود إسناد صحيح، وكذلك رواه الشافعي رحمه الله في مسنده وغيره، وفي رواية لأبي داود والبيهقي وغيرهما: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"
وفي رواية للبيهقي: "لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطا، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون".
وأما حديث عمرو بن شعيب فضعيف جدا، ورواه أبو داود وغيره من رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الوضوء على من نام مضطجعا، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله". قال أبو داود: "هذا حديث منكر "، وأما حديث المباهاة بالساجد فيروى من رواية أنس، وهو حديث ضعيف جدا.
المسألة الثانية: في اللغات والألفاظ: المكب بضم الميم وكسر الكاف يقال أكب فلان على وجهه، وكببته أنا لوجهه إذا صرعته لوجهه، قال الله تعالى:
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} [الملك: من الآية22] قال أهل اللغة والتصريف: هذا من النادرات أن يقال: أفعلت وفعلت غيري وقوله: أو متكئا "هو بهمز آخره، والوكاء بكسر الواو وبالمد وهو الخيط الذي يشد به رأس الوعاء، والسه بفتح السين المهملة وكسر الهاء المخففة وهي الدبر، ومعناه اليقظة، وكاء الدبر: أي حافظة ما فيه من الخروج، أي ما دام الإنسان مستيقظا فإنه يحس بما يخرج منه، فإذا نام زال ذلك الضبط.
وقوله: "يحس به"، هو بضم الياء وكسر الحاء، هذه اللغة الفصيحة المشهورة، وبها جاء القرآن، قال الله تعالى
{هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: من الآية98] وفي لغة قليلة بفتح الياء وضم الحاء، قوله: "مستوى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في ك والركبي (في سجوده).

 

ج / 2 ص -14-         الجلوس" هو بفتح الواو، أي عن استوائه، وأصل المباهاة: المفاخرة، والروح تذكر وتؤنث، لغتان، ومذهب أصحابنا المتكلمين أنها أجسام لطيفة والله أعلم.
الثالثة: في الأسماء: أما علي رضي الله عنه فسبق بيانه في أول صفة الوضوء وأنس تقدم في باب الآنية، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده تقدم بيانه في آخر الفصول السابقة في مقدمة الكتاب، و"البويطي" في الباب الثاني من الكتاب.
الرابعة: في الأحكام: وحاصل المنقول في النوم خمسة أقوال للشافعي، الصحيح منها من حيث المذهب، ونصه في كتبه ونقل الأصحاب، والدليل أنه: إن نام ممكنا مقعده من الأرض أو نحوها لم ينتقض، وإن لم يكن ممكنا انتقض على أي هيئة كان، في الصلاة وغيرها.
والثاني: أنه ينتقض بكل حال، وهذا نصه في "البويطي".
الثالث: إن نام في الصلاة لم ينتقض على أي هيئة كان، وإن نام في غيرها غير ممكن مقعده انتقض وإلا فلا، وهذه الأقوال ذكرها المصنف.
والرابع: إن نام ممكنا أو غير ممكن، وهو على هيئة من هيئات الصلاة سواء كان في الصلاة أو في غيرها لم ينتقض وإلا انتقض.
والخامس: إن نام ممكنا أو قائما لم ينتقض وإلا انتقض، حكى هذين القولين الرافعي وغيره، وحكى أولهما القفال في شرح "التلخيص". والصواب القول الأول من الخمسة، وما سواه ليس بشيء، وقد ذكر المصنف دلائلها وسأبسطها في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى.
وتأول أصحابنا نصه في "البويطي" على أن المراد أنه نام غير ممكن، وقال إمام الحرمين، قال الأئمة: غلط "البويطي"، وهذا الذي قاله الإمام ليس بجيد، و"البويطي" يرتفع عن التغليط، بل الصواب تأويل النص وهو محتمل للتأويل، وهذا نصه في "البويطي" قال: "ومن نام مضطجعا أو راكعا أو ساجدا فليتوضأ، وإن نام قائما فزالت قدماه عن موضع قيامه فعليه الوضوء، وإن نام جالسا فزالت مقعدته عن موضع جلوسه وهو نائم فعليه الوضوء، ومن نام جالسا أو قائما فرأى رؤيا وجب عليه الوضوء، ومن شك أنام جالسا أو قائما أو لم ينم؟ فليس عليه شيء حتى يستيقن النوم، فإن ذكر أنه رؤيا وشك أنام أم لا؟ فعليه الوضوء، لأن الرؤيا لا تكون إلا بنوم" هذا نصه بحروفه في "البويطي" ومنه نقلته.
 فقوله: "إن نام جالسا فزالت مقعدته فعليه الوضوء" دليل على أن من لم تزل لا وضوء عليه، فيتأول باقي كلامه على النائم غير ممكن، والله أعلم.
فرع: إذا نام في صلاته ممكنا مقعده من الأرض، لم تبطل صلاته بلا خلاف إلا على رواية "البويطي"، ولا تفريع عليها، ولو نام في الصلاة غير ممكن -إن قلنا بالقديم الضعيف- فصلاته ووضوءه صحيحان. وإن قلنا بالمذهب بطلا، قال القاضي حسين والمتولي وغيرهما: لو صلى

 

ج / 2 ص -15-         مضطجعا لمرض فنام، ففي بطلان وضوئه القولان، لأن علة منع انتقاض وضوء المصلي على القديم حرمة الصلاة، وهي موجودة والله أعلم.
فرع: في مسائل تتعلق بالفصل، والتفريع على المذهب، وهو أن نوم الممكن لا ينقض، وغيره ينقض.
إحداها: قال الشافعي في "الأم" والمختصر، والأصحاب رحمهم الله: يستحب للنائم ممكنا أن يتوضأ لاحتمال خروج حدث، وللخروج من خلاف العلماء.
الثانية: قال الشافعي في "الأم" والأصحاب: "لا ينتقض الوضوء بالنعاس وهو السنة" 1 ، وهذا لا خلاف فيه، ودليله من الأحاديث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني يصلي في الليل- فقمت إلى جنبه الأيسر، فجعلني في شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، فصلى إحدى عشرة ركعة". رواه مسلم.
قال الشافعي والأصحاب: الفرق بين النوم والنعاس أن النوم فيه غلبة على العقل وسقوط حاسة البصر وغيرها، والنعاس لا يغلب على العقل، وإنما تفتر فيه الحواس بغير سقوط، قال القاضي حسين والمتولي: حد النوم ما يزول به الاستشعار من القلب، مع استرخاء المفاصل.
وقال إمام الحرمين: "النعاس يغشى الرأس فتسكن به القوى الدماغية، وهو مجمع الحواس ومنبت الأعصاب، فإذا فترت فترت الحركات الإرادية، وابتداؤه من أبخرة تتصعد فتوافي أعباء من قوى الدماغ، فيبدو فتور في الحواس، فهذا نعاس وسنة، فإذا تم انغمار القوة الباصرة، فهذا أول النوم، ثم تترتب غلبة فتور الأعضاء واسترخاؤها، وذلك غمرة النوم، قال: ولا ينتقض الوضوء بالغفوة، وإذا تحققنا النوم لم نشترط غايته، فإن الشافعي رحمه الله نقض وضوء النائم قائما، ولو تناهى نومه لسقط" هذا كلام إمام الحرمين.
قال أصحابنا: ومن علامات النعاس أن يسمع كلام من عنده، وإن لم يفهم معناه. قالوا: والرؤيا من علامات النوم، ونص عليه في الأم، وفي "البويطي" كما سبق، واتفقوا عليه. فلو تيقن الرؤيا وشك في النوم انتقض إذا لم يكن ممكنا، فإن خطر بباله شيء فشك أكان رؤيا أم حديث نفس؟ لم ينتقض لأن الأصل بقاء الطهارة. ولو شك أنام؟ أم نعس؟ وقد وجد أحدهما، لم ينتقض، قال الشافعي في الأم: "والاحتياط أن يتوضأ".
الثالثة: لو تيقن النوم، وشك هل كان ممكنا أم لا؟ فلا وضوء عليه، هكذا صرح به صاحب "البيان" وآخرون، وهو الصواب، وأما قول البغوي في مسائل الشك في الطهارة: لو تيقن رؤيا ولا يذكر نوما فعليه الوضوء. ولا يحمل على النوم قاعدا لأنه خلاف العادة، فهو متأول أو ضعيف، والله أعلم.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  السنة بكسر السين وفتح النون المخففة.

 

ج / 2 ص -16-         الرابعة: نام جالسا فزالت ألياه أو إحداهما عن الأرض، فإن زالت قبل الانتباه انتقض لأنه مضى لحظة وهو نائم غير ممكن، وإن زالت بعد الانتباه أو معه أو لم يدر أيهما سبق لم ينتقض؛ لأن الأصل الطهارة، ولا فرق بين أن تقع يده على الأرض أو لا تقع، وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إن وقعت يده على الأرض انتقض وإلا فلا، ودليلنا أن الاعتبار بمحل الحدث، فتعين التفصيل الذي ذكره أصحابنا.
الخامسة: نام ممكنا مقعده من الأرض مستندا إلى حائط أو غيره لا ينتقض وضوءه، سواء كان بحيث لو وقع الحائط لسقط أم لا، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا، قال إمام الحرمين: ونقل المعلقون عن شيخي أنه كان يقول: "إن كان بحيث لو رفع الحائط لسقط انتقض" قال الإمام: وهذا غلط من المعلقين والذي ذكروه إنما هو مذهب أبي حنيفة.
السادسة: قليل النوم وكثيره عندنا سواء، نص عليه الشافعي والأصحاب، فنوم لحظة ويومين سواء في جميع التفصيل والخلاف.
السابعة: قال أصحابنا: لا فرق في نوم القاعد الممكن بين قعوده متربعا أو مفترشا أو متوركا أو غيره من الحالات، بحيث يكون مقعده لاصقا بالأرض أو بغيرها متمكنا، وسواء القاعد على الأرض، وراكب السفينة والبعير وغيره من الدواب فلا ينتقض الوضوء بشيء من ذلك، نص عليه الشافعي رحمه الله في "الأم" واتفق الأصحاب عليه، ولو نام محتبيا وهو أن يجلس على ألييه رافعا ركبتيه محتويا عليهما بيديه أو غيرهما ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الماوردي والروياني أحدها: لا ينتقض كالمتربع والثاني: ينتقض كالمضطجع والثالث: إن كان نحيف البدن بحيث لا تنطبق ألياه على الأرض انتقض وإلا فلا، قاله أبو الفياض البصري، والمختار الأول.
الثامنة: إذا نام مستلقيا على قفاه وألصق ألييه بالأرض. فإنه يبعد خروج الحدث منه، ولكن اتفق الأصحاب على أنه ينتقض وضوءه لأنه ليس كالجالس الممكن، فلو استثفر وتلجم بشيء فالصحيح المشهور الانتقاض أيضا، وبه قطع إمام الحرمين في "النهاية".
وقال في كتابه (الأساليب) في الخلاف فيه للنظر مجال، ويظهر عدم الانتقاض، وقال صاحبه أبو الحسن إلكيا في كتابه في الخلافيات: فيه تردد للأصحاب.
التاسعة: (في مذاهب العلماء في النوم) قد سبق أن الصحيح -في مذهبنا- أن النائم الممكن مقعده من الأرض أو نحوها لا ينتقض وضوءه وغيره ينتقض، سواء كان في صلاة أو غيرها، وسواء طال نومه أم لا، وحكي عن أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وأبي مجلز وحميد الأعرج أن النوم لا ينقض بحال ولو كان مضطجعا، قال القاضي أبو الطيب وإليه ذهب الشيعة.
وقال إسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام والمزني: "ينتقض بالنوم بكل حال"، ورواه البيهقي بإسناده عن الحسن البصري، قال ابن المنذر: وبه أقول. قال: وروي معناه عن ابن عباس

 

ج / 2 ص -17-         وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم وقال مالك وأحمد في إحدى الروايتين: ينقض كثير النوم بكل حال دون قليله، وحكاه ابن المنذر عن الزهري وربيعة والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة وداود: "إن نام على هيئة من هيئات المصلي كالراكع والساجد والقائم والقاعد لم ينتقض، سواء كان في الصلاة أم لا، وإن نام مستلقيا أو مضطجعا انتقض". ولنا قول أن نوم المصلي خاصة لا ينتقض به كيف كان، كما سبق وحكاه أصحابنا عن ابن المبارك، وحكاه الماوردي عن جماعة من التابعين.
واحتج لأبي موسى وموافقيه بقول الله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: من الآية6] إلى آخر الآية فذكر سبحانه نواقض الوضوء ولم يذكر النوم، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح". قالوا: ولأنا أجمعنا -نحن وأنتم- على أن النوم ليس حدثا في عينه وأنتم أوجبتم الوضوء لاحتمال خروج الريح، والأصل عدمه فلا يجب الوضوء بالشك.
واحتج أصحابنا بحديث علي رضي الله عنه "العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ". وهو حديث حسن كما سبق بيانه، وبحديث صفوان: "لكن من غائط أو بول أو نوم" وهو حديث حسن كما سبق بيانه، وفي المسألة أحاديث كثيرة، ولأن النائم غير الممكن يخرج منه الريح غالبا، فأقام الشرع هذا الظاهر مقام اليقين كما أقام شهادة الشاهدين التي تفيد الظن مقام اليقين في شغل الذمة.
وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية فمن وجهين:
أحدهما: أن جماعة من المفسرين قالوا: وردت الآية في النوم أي: "إذا قمتم إلى الصلاة - من النوم - فاغسلوا وجوهكم". وكذا حكاه الشافعي في "الأم" عن بعض أهل العلم بالقرآن قال: ولا أراه إلا كما قال.
والثاني: أن الآية ذكر فيها بعض النواقض وبينت السنة الباقي ولهذا لم يذكر البول وهو حدث بالإجماع. وأما الجواب عن حديث أبي هريرة فهو أنه ورد في دفع الشك لا في بيان أعيان الأحداث وحصرها؛ ولهذا لم يذكر فيه البول والغائط وزوال العقل وهي أحداث بالإجماع، ونظيره حديث عبد الله بن زيد الذي قدمناه في شرح أول الفصل: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". وأما قولهم: خروج الخارج مشكوك فيه، فجوابه ما قدمناه، أن الشرع جعل هذا الظاهر كاليقين كما جعل شهادة شاهدين كاليقين والله أعلم.
واحتج من قال: ينقض بكل حال بعموم حديثي علي وصفوان رضي الله عنهما وبالقياس على الإغماء.
واحتج أصحابنا بحديث أنس: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون". وهو صحيح ذكرناه بطرقه في أول الفصل.
 وعن أنس رضي الله عنه قال: "أقيمت صلاة العشاء فقال رجل: لي حاجة؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم

 

ج / 2 ص -18-         يناجيه حتى نام القوم أو بعض القوم، ثم صلوا" وفي رواية "حتى نام أصحابه ثم جاء فصلى بهم". رواهما مسلم في صحيحه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل ليلة عن العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم خرج علينا".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما.
"أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا". روى البخاري في صحيحه هذين الحديثين بهذا اللفظ، وظاهرهما أنهم صلوا بذلك الوضوء وروى مالك والشافعي بإسناد الصحيح: "أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ينام وهو جالس ثم يصلي ولا يتوضأ" وروى البيهقي وغيره معناه عن ابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم، فهذه دلائل ظاهرة من الأحاديث الصحيحة والآثار.
واحتج جماعة من أصحابنا بحديث عمرو بن شعيب المذكور في الكتاب وبحديث حذيفة: "كنت أخفق برأسي فقلت: يا رسول الله وجب علي وضوء؟ قال: لا حتى تضع جنبك". وهذان الحديثان ضعيفان. بين البيهقي وغيره ضعفهما وفيما سبق ما يغني عنهما.
وأما الجواب عن الحديث فهو أنه محمول على نوم غير الممكن وهذا يتعين المصير إليه للجمع بين الأحاديث الصحيحة. وأما قياسهم على الإغماء فالفرق ظاهر لأن المغمي عليه ذاهب العقل لا يحس بشيء أصلا، والنائم يحس؛ ولهذا إذا صيح به تنبه.
واحتج من قال: ينقض كثير النوم - كيف كان - دون قليله بحديث أنس: "أنهم كانوا ينامون فتخفق رءوسهم" وهذا يكون في النوم القليل؛ ولأنه مع الاستثقال يغلب خروج الخارج بخلاف القليل. واحتج أصحابنا بالأحاديث السابقة وليس فيها فرق بين القليل والكثير،
والجواب عن حديث أنس أنا قد بينا أنه حجة لنا وليس فيه فرق بين قليله وكثيره ودعواهم أن خفق الرءوس إنما يكون في القليل لا يقبل. وأما المعنى الذي ذكروه فلا نسلمه، لأن النوم إما أن يجعل حدثا في عينه كالإغماء، وهم لا يقولون به، وإما دليلا على الخارج، وحينئذ إنما تظهر دلالته إذا لم يكن المحل ممكنا، وأما المتمكن فيبعد خروجه منه ولا يحس به فلا ينتقض بالوهم.
واحتج من قال لا ينقض النوم على هيئة من هيئات الصلاة بما رواه أبو خالد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس قال: قال النبي: صلى الله عليه وسلم
"إنما الوضوء على من نام مضطجعا، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله". وبحديث حذيفة الذي قدمنا أنه نام جالسا فقال: يا رسول الله، أمن هذا وضوء؟ قال: "لا حتى تضع جنبك على الأرض".
واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة السابقة كحديث علي وصفوان وغيرهما من غير تعرض لهذا الفرق الذي زعموه ولا أصل له؛ ولأنه نام غير ممكن مقعده من الأرض فأشبه المضطجع ولأننا اتفقنا -نحن وهم- على أن النوم ليس حدثا في عينه وإنما هو دليل للخارج فضبطناه نحن بضابط صحيح جاءت به السنة، ومناسبته ظاهرة، وضبطوه بما لا أصل له ولا معنى يقتضيه، فإن الساجد والراكع كالمضطجع ولا فرق بينهما في خروج الخارج.

 

ج / 2 ص -19-         وأما حديث الدالاني فجوابه أنه حديث ضعيف باتفاق أهل الحديث. وممن صرح بضعفه من المتقدمين أحمد بن حنبل والبخاري وأبو داود. قال أبو داود وإبراهيم الحربي: هو حديث منكر.
ونقل إمام الحرمين في كتابه (الأساليب) إجماع أهل الحديث على ضعفه، وهو كما قال، والضعف عليه بين. وأجاب أصحابنا عنه بأجوبة وتأولوه تأويلات لا حاجة إليها مع الاتفاق على ضعفه، فإنه لا يلزم الجواب عما ليس بدليل. وأما حديث حذيفة فضعيف أيضا كما سبق بيانه قريبا.
واحتج من قال: لا ينتقض وضوء النائم في الصلاة كيف كان، بحديث المباهاة المذكور في الكتاب، ولأن الحاجة تدعو إليه ولا يمكن لمجتهد ونحوه الاحتراز منه إلا بعسر فعفي عنه كما عفي عن أشياء كثيرة في الصلاة للحاجة.
واحتج أصحابنا بما احتجوا به على القائلين: لا ينقض النوم على هيئة المصلي.
وأجابوا عن حديث المباهاة بما سبق من الاتفاق على ضعفه، ولو صح لكان تسميته ساجدا باسم ما كان عليه، فمدحه على مكابدة العبادة، وأما المعنى الذي ذكروه فلا يقبل؛ لأن الأحداث لا تثبت إلا توقيفا، وكذا العفو عنها، فحصل في هذه المسألة جمل من الأحاديث جمعنا بينها ولم نرد منها صحيحا، ولله الحمد، وهو أعلم بالصواب.
العاشرة: كان من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعا للأحاديث الصحيحة، منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما في "الصحيحين"
"أنه صلى الله عليه وسلم نام حتى سمع غطيطه، ثم صلى ولم يتوضأ". وقال: صلى الله عليه وسلم "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي".
فإن قيل: هذا مخالف للحديث الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم نام في الوادي عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس", ولو كان غير نائم القلب لما ترك صلاة الصبح، فجوابه من وجهين أحدهما: وهو المشهور في كتب المحدثين والفقهاء أنه لا مخالفة بينهما، فإن القلب يقظان يحس بالحدث، وغيره مما يتعلق بالبدن ويشعر به القلب، وليس طلوع الفجر والشمس من ذلك، ولا هو مما يدرك بالقلب، وإنما يدرك بالعين، وهي نائمة،
والجواب الثاني: حكاه الشيخ أبو حامد في "تعليقه" في هذا الباب عن بعض أصحابنا، قال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم نومان أحدهما: ينام قلبه وعينه والثاني: عينه دون قلبه، فكان نوم الوادي من النوع الأول". والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما زوال العقل بغير النوم فهو أن يجن أو يغمى عليه أو يسكر أو يمرض فيزول عقله فينتقض وضوءه، لأنه إذا انتقض الوضوء بالنوم فلأن ينتقض بهذه الأسباب أولى، ولا فرق في ذلك بين القاعد وغيره، ويخالف النوم فإن النائم إذا كلم تكلم,

 

ج / 2 ص -20-         وإذا نبه تنبه، فإذا خرج منه الخارج وهو جالس أحس به بخلاف المجنون والسكران. قال الشافعي رحمه الله: قد قيل: إنه قل من جن 1  إلا وينزل، فالمستحب أن يغسل احتياطا".
الشرح: أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون وبالإغماء، وقد نقل الإجماع فيه ابن المنذر وآخرون واستدل له أصحابنا وغيرهم بحديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغمي عليه ثم أفاق فاغتسل ليصلي، ثم أغمي عليه ثم أفاق فاغتسل". رواه البخاري ومسلم، واتفق أصحابنا على أن من زال عقله بجنون أو إغماء أو مرض أو سكر بخمر أو نبيذ أو غيرهما، أو شرب دواء للحاجة أو غيرها فزال عقله انتقض وضوءه، ولا خلاف في شيء من هذا إلا وجها للخراسانيين أنه لا ينتقض وضوء السكران إذا قلنا: له حكم الصاحي في أقواله وأفعاله. حكاه الفوراني والغزالي في "البسيط"، والمتولي وصاحب "العدة" والروياني وغيرهم، وهو غلط صريح، فإن انتقاض الوضوء منوط بزوال العقل، فلا فرق فيه بين العاصي والمطيع،
 قال أصحابنا: والسكر الناقض هو الذي لا يبقى معه شعور، دون أوائل النشوة، وقال أصحابنا: ولا فرق في كل ذلك بين القاعد ممكنا مقعده وغيره، ولا بين قليله وكثيره. وأما الدوار -بضم الدال وتخفيف الواو، وهو دوار الرأس- فلا ينقض مع بقاء التمييز. ذكره إمام الحرمين، وهو واضح.
قال القاضي حسين والمتولي: حد الجنون زوال الاستشعار من القلب مع بقاء الحركة والقوة في الأعضاء، والإغماء زوال الاستشعار مع فتور الأعضاء، والله أعلم.
وأما قوله: قال الشافعي قد قيل: "قل من يجن إلا وينزل" فهو مشهور عن الشافعي، ذكره في "الأم" وحرملة، وأما لفظ النص فقال في "الأم" في آخر باب ما يوجب الغسل: "وقد قيل ما جن إنسان إلا أنزل، فإن كان هذا هكذا اغتسل المجنون للإنزال، وإن شك فيه أحببت له الاغتسال احتياطا ولم أوجب ذلك عليه حتى يستيقن الإنزال".
هذا نصه بحروفه ومن "الأم" نقلته، وكذا نقله عن "الأم" جماعة من الأصحاب، ونقله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي وجماعة في المغمي عليه. والذي في "الأم" إنما هو في المجنون كما نقلته، واختلف الأصحاب في المسألة، فجزم المصنف وجماعات من المحققين بأن غسل المجنون إذا أفاق سنة ولا يجب، إلا أن يتيقن خروج المني.
وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجماعات من الأصحاب: إن كان الغالب من حال الذين يجنون الإنزال وجب الغسل إذا أفاق وإن لم يتحقق الإنزال، كما نوجب الوضوء بالنوم مضطجعا للظن الغالب، فإن لم يكن الإنزال غالبا لم يجب الغسل بالشك ونقل صاحب "البحر" هذا التفصيل عن الأصحاب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في الركبي (يجن) ط.

 

ج / 2 ص -21-         ونقل صاحب "الحاوي" عن الأصحاب أن الإغماء إن كان لا ينفك عن الإنزال وجب الغسل وإن كان قد ينفك فلا، والصحيح طريقة المصنف ومن وافقه أنه يستحب الغسل ولا يجب حتى يتيقن خروج المني، فإن القواعد تقتضي أن لا تنتقض الطهارة إلا بيقين الحدث، خالفنا ذلك في النوم بالنصوص التي جاءت، وبقي ما عداها على مقتضاه.
قال أصحابنا: ويستحب للمغمى عليه الغسل إذا أفاق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر وابن الصباغ وغيرهما: أجمع العلماء على أن الغسل لا يجب عليه، وحكى الرافعي وجها ضعيفا شاذا أنه يجب الغسل من الجنون مطلقا، ووجها أشذ منه أنه يجب من الإغماء أيضا. ذكره في باب الغسل، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما لمس النساء فإنه ينقض الوضوء، وهو أن يلمس الرجل بشرة المرأة أو المرأة بشرة الرجل بلا حائل بينهما فينتقض وضوء اللامس منهما لقوله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6]. 
وفي الملموس قولان: أحدهما: ينتقض وضوءه لأنه لمس بين الرجل والمرأة ينقض طهر اللامس، فنقض طهر الملموس كالجماع، وقال في حرملة: "لا ينتقض "لأن عائشة رضي الله عنها قالت:
"افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفراش فقمت أطلبه فوقعت يدي على أخمص قدميه، فلما فرغ من صلاته قال: أتاك شيطانك؟".
ولو انتقض طهره لقطع الصلاة، ولأنه لمس ينقض الوضوء فنقض طهر اللامس دون الملموس، كما لو مس ذكر غيره، وإن لمس شعرها أو ظفرها لم ينتقض الوضوء لأنه لا يلتذ بلمسه، وإنما يلتذ بالنظر إليه. وإن لمس ذات رحم محرم ففيه قولان: أحدهما: ينتقض وضوءه للآية، والثاني: لا ينتقض لأنه ليس بمحل لشهوته فأشبه لمس الرجل الرجل والمرأة المرأة، وإن مس صغيرة لا تشتهى أو عجوزا لصد بلمسها الشهوة فأشبه الشعر".
الشرح: في هذا الفصل مسائل إحداها: حديث عائشة صحيح رواه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة من طريقين بغير هذا اللفظ.
أما الطريق الأولى فقالت: "افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسست ثم رجعت فإذا هو راكع أو ساجد يقول: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت".
وأما الثانية فقالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدمه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول
: اللهم أعوذ برضاك من سخطك. . . " إلى آخر الدعاء.
وفي رواية للبيهقي بإسناد صحيح: "فالتمست بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول: "اللهم أعوذ" إلى آخره، فحصل من مجموع هذه الروايات أن الرواية المذكورة في

 

ج / 2 ص -22-         الكتاب صحيحة المعنى، لكن قوله: "أتاك شيطانك" غير مذكور في الروايات المشهورة. وذكرها البيهقي في السنن الكبير في باب ضم العقبين في السجود من أبواب صفة الصلاة بإسناد صحيح، فيه رجل مختلف في عدالته وقد روى له البخاري، وقد ذكر مسلم في أواخر صحيحه هذه اللفظة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "أقد جاءك شيطانك؟" والله أعلم.
المسألة الثانية: في اللغات والألفاظ والاحترازات، قوله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: من الآية6] قرئ في السبع لمستم ولامستم، والنساء من الجموع التي لا واحد لها من لفظها، كالرهط والنفر والقوم، وكذا النسوة بكسر النون وضمها لغتان.
وقوله: "يلمس" بضم الميم وكسرها لغتان، وقوله "لا حائل بينهما" تأكيد وإيضاح ولو حذفه لاستغنى عنه، فإن لمس البشرة إنما يكون إذا لم يكن حائل، وقوله: لأنه لمس بين الرجل والمرأة فيه احتراز مما إذا أولج في بهيمة فإنه ينقض طهر اللامس دون الملموس، واحتراز أيضا من لمس الرجل ذكر غيره فإنه ينقض اللامس دون الملموس على المذهب وبه قطع المصنف والعراقيون.
وقوله: "ينقض طهر اللامس" احتراز من مس الصغيرة والشعر والظفر، وقولها: "افتقدت" وفي الرواية الثانية لمسلم: "فقدت" وهما لغتان فصيحتان.
قال أهل اللغة: يقال فقدت الشيء أفقده فقدا وفقدانا وفقدانا بكسر القاف وضمها 1 ، وكذا افتقدته أفتقده افتقادا، وقولها: "أخمص قدميه"، هو مفسر في رواية مسلم "بطن قدمه".
قال أهل اللغة: الأخمص ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض، , والشيطان: كل جني مارد، ونونه أصلية، وقيل زائدة، فعلى الأول وهو من شطن إذا بعد، وعلى الثاني من شاط إذا احترق وهلك، وقوله لأنه لمس ينقض الوضوء احتراز من لمس الشعر، ولو قال: لمس يوجب الوضوء على اللامس لكان أحسن ليعم باحترازه الشعر والجماع، ويكون فيه احتراز عما قاس عليه الأول، وهكذا عادة المصنف فإنه يذكر في قياس القول الثاني قيودا يخرج بها ما قاس عليه الأول ولم يعمل هنا بعادته، ولا يقال قد احترز عن الجماع بقوله: ينقض الوضوء، لأن الجماع ناقض للوضوء وإن كان يوجب الغسل، وفيه وجه شاذ سنذكره في باب صفة الغسل إن شاء الله تعالى.
وقوله: "كما لو مس ذكر غيره" يعني فإنه ينقض الماس دون الممسوس قولا واحدا، وهذا على طريقة المصنف والعراقيين، وفيه خلاف للخراسانيين سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: إذا التقت بشرتا رجل وامرأة أجنبية تشتهى، انتقض وضوء اللامس منهما، سواء كان اللامس الرجل أو المرأة، وسواء كان اللمس بشهوة أم لا، تعقبه لذة أم لا، وسواء قصد ذلك أم حصل سهوا أو اتفاقا، وسواء استدام اللمس أم فارق بمجرد التقاء البشرتين، وسواء لمس بعضو من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  كسر القاف وضمها في مضارعه أما المصدر وهو فقدانا فلعله بكسر الفاء وضمها وبهذا يستقيم السياق والله أعلم (ط).

 

ج / 2 ص -23-         أعضاء الطهارة أم بغيره، وسواء كان الملموس أو الملموس به صحيحا أو أشل، زائدا أم أصليا، فكل ذلك ينقض الوضوء عندنا، وفي كله خلاف للسلف سنذكره في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى.
ولنا أوجه ضعيفة في بعض هذه الصور، منها: وجه حكاه القاضي حسين وغيره أن المرأة لا تزال ملموسة ولا تكون لامسة -وإن كانت هي الفاعلة- بل يكون فيها القولان في الملموس.
ووجه حكاه الرافعي وغيره أن لمس العضو الأشل أو الزائد لا ينقض، ووجه حكاه الرافعي عن الحناطي أن ابن سريج كان يعتبر الشهوة في الانتقاض. قال الحناطي: وحكى هذا عن نص الشافعي، ووجه حكاه الفوراني وإمام الحرمين وآخرون أن اللمس إنما ينقض إذا وقع قصدا، وهذه الأوجه شاذة ضعيفة والصحيح المعروف في المذهب ما سبق.
الرابعة: هل ينتقض وضوء الملموس؟ فيه قولان مشهوران، قد ذكر المصنف دليلهما، وذكر الماوردي والقاضي حسين والمتولي وغيرهم أن القولين مبنيان على القراءتين، فمن قرأ "لمستم" فلم ينقض الملموس لأنه لم يلمس، ومن قرأ "لامستم" نقضه لأنها مفاعلة، وهذا البناء الذي ذكروه ليس بواضح، واختلف في الأصح من القولين، فصحح الروياني والشاشي في طائفة قليلة عدم الانتقاض وصحح الأكثرون الانتقاض، ممن صححه الشيخ أبو حامد والمحاملي في "التجريد" وصاحب "الحاوي" والجرجاني في التحرير، والبغوي والرافعي في كتابيه وآخرون وقطع به أبو عبد الله الزبيري في كتابه "الكافي" والمحاملي في المقنع والشيخ نصر المقدسي في الكافي، وغيرهم من أصحاب المختصرات، وهو المنصوص عليه في معظم كتب الشافعي.
قال الشيخ أبو حامد: نقل حرملة أنه لا ينتقض، ونص الشافعي في "مختصر المزني" و"الأم" و"البويطي" و"الإملاء" والقديم وسائر كتبه أنه ينتقض، وكذا قال المحاملي وغيره. قال الشافعي في حرملة "لا ينتقض" وقال في سائر كتبه "ينتقض" وبعضهم يقول: عامة كتبه ينتقض، كذا قاله البندنيجي.
ونقل القاضي أبو الطيب وغيره أن الشافعي نص في حرملة على قولين: الانتقاض وعدمه، وأجاب هؤلاء عن حديث عائشة بأنه يحتمل كون اللمس كان فوق حائل، وعن القياس على الممسوس أن المعتبر في مس الذكر مسه ببطن كفه ولم يحصل ذلك من الممسوس، والمعتبر هنا التقاء بشرتي رجل وامرأة.
فرع: لو التقت بشرة رجل وامرأة بحركة منهما دفعة واحدة، فكل واحد منهما لامس وليس فيهما ملموس. ذكره الدارمي وهو واضح.
الخامسة: إذا لمس أحدهما شعر الآخر أو سنه أو ظفره أو لمس بشرته بسنه أو شعره أو ظفره فطريقان أحدهما: لا ينتقض وهو المذهب، والمنصوص في "الأم" وبه قطع الجمهور والثاني: فيه وجهان حكاهما الماوردي وجماعات من الخراسانيين أحدهما: الانتقاض لأن الشعر له حكم البدن

 

ج / 2 ص -24-         في الحل بالنكاح والتحريم بالطلاق، ووقوع الطلاق بإيقاعه عليه، وعتقها بإعتاقه ووجوب غسله بالجنابة والموت وغيرهما، وغير ذلك من الأحكام.
واستدلوا من نص الشافعي بقوله في المختصر: "والملامسة أن يفضي بشيء منه إلى جسدها" والشعر شيء فينبغي أن ينقض، والصحيح أنه لا ينقض كما نص عليه في الأم، وقاله الجمهور لأنه لا يقصد ذلك للشهوة غالبا إنما تحصل اللذة وتثور الشهوة عن التقاء البشرتين للإحساس. وأما نصه في المختصر فمراده به ما صرح به في "الأم" وغيره. فعلى هذا قال الشافعي في "الأم" والأصحاب: "يستحب أن يتوضأ من لمس الشعر والسن والظفر".
فرع: تيقن لمسها وشك هل لمس شعرها أم غيره؟ وهل لمسها بظفره أو بشعره أم بغيره؟ لم ينتقض لأن الأصل بقاء الطهارة ويستحب أن يتوضأ.
السادسة: إذا لمس ذات رحم محرم ففي انتقاضه قولان مشهوران ذكر المصنف دليلهما. قال القاضي أبو الطيب والمحاملي في كتابيه وصاحبا "الشامل" والبحر وآخرون: نص عليهما الشافعي في حرملة. قال المحاملي في المجموع: "لم يذكر الشافعي هذه المسألة إلا في حرملة" وقال الشيخ أبو حامد في التعليق "ظاهر قول الشافعي في جميع كتبه أنه لا ينتقض، إلا أن أصحابنا قالوا فيه قولان ولست أعلم أن ذلك منصوص".
وقال صاحب "الحاوي": في المسألة قولان أصحهما وبه قال في الجديد والقديم: لا ينتقض. فحصل من هذا أن المشهور عن الشافعي عدم الانتقاض.
واتفق أصحابنا في جميع الطرق على أنه الصحيح إلا صاحب "الإبانة" فصحح الانتقاض وهو شاذ ليس بشيء. وهذان القولان في محرم ذات رحم كالأم والبنت والأخت وبنت الأخ والأخت والعمة والخالة، وأما المحرمة برضاع أو مصاهرة كأم الزوجة وبنتها وزوجة "الأم" والابن والجد ففيها طريقان "المذهب" أنها على القولين، الصحيح عدم الانتقاض، وبهذا قطع البغوي والرافعي والآخرون. والثاني: حكاه الروياني: القطع بالانتقاض، قال: وهذا ليس بشيء، وحكى في "البيان" الطريقين فيمن كانت حلالا له، ثم حرمت بالمصاهرة كأم زوجته وبنتها، والصحيح الأول، وأما المحرمة على التأبيد بلعان أو وطء شبهة أو بالجمع كأخت الزوجة وبنتها قبل الدخول والمحرمة لمعنى فيها كالمرتدة المجوسية والمعتدة فينقض لمسها بلا خلاف.
فرع: إذا قلنا: لا ينقض لمس المحرم، فلمسها بشهوة لم ينتقض صرح به القاضي حسين والبغوي، قالا: لأنها كالرجل في حقه فيصير كما لو لمس رجل رجلا بشهوة فإنه لا ينتقض.
فرع: قال أصحابنا: أو لمس صغيرة أو عجوزا لا تشتهى من محارمه، وقلنا: الصغيرة والعجوز الأجنبية تنقض ففيها القولان.

 

ج / 2 ص -25-         فرع: لمس امرأة وشك هل هي محرم أم أجنبية؟ فعلى القولين في المحارم لأن الأصل بقاء الطهارة. ذكره الدارمي.
السابعة: لمس صغيرة لا تشتهى أو عجوزا لا تشتهى، فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما ومن الأصحاب من حكاهما قولين، والصواب وجهان ومن قال قولان أراد أنهما مخرجان.
قال القاضي أبو الطيب والروياني وجماعات: ليس للشافعي نص في هذه المسألة ولكن الأصحاب خرجوها على وجهين بناء على القولين في المحارم، واتفقوا على أن الصحيح في الصغيرة عدم الانتقاض، وأما العجوز فالجمهور صححوا الانتقاض، وقطع به جماعة لأنها مظنة الشهوة ومحل قابل في الجملة.
وشذ الجرجاني فصحح عدم الانتقاض وقطع به المحاملي في المقنع، والصحيح الانتقاض، والخلاف في صغيرة لا تشتهى كما ذكرنا، فأما التي بلغت حدا تشتهيها الرجال فتنقض بلا خلاف. والرجوع في ضبط هذا إلى العرف. ورأيت في تعليق الشيخ أبي حامد قال: الصغيرة مثل أن يكون لها سبع سنين فما دونها "والصواب ما قدمته لأن هذا يختلف باختلاف الصغيرات.
قال الدارمي: ويجري الخلاف في لمس المرأة شيخا هرما وصبيا صغيرا لا يشتهيان قال صاحب "الحاوي": ويجري الخلاف إذا لمس شيخ فقد الشهوة واللذة بدن شابة، وقطع الدارمي بأن الشيخ إذا لمس ينتقض كما لمس العنين والخصي والمراهق فإنه ينتقض بلا خلاف والله أعلم.
فروع: "الأول" لمس امرأة أو لمسته فوق ثوب رقيق بشهوة ولم تمس البشرة أو تضاجعا كذلك بشهوة، لا ينتقض لعدم حقيقة الملامسة.
"الثاني" لمس لسانها أو لثتها أو لمسها بلسانه انتقض، ذكره الدارمي وهو واضح ولو تصادم لسانهما دفعة فلامسان.
"الثالث" لمس امرأة ميتة أو لمست رجلا ميتا ففي انتقاض اللامس طريقان حكاهما ابن الصباغ والبغوي والشاشي وآخرون إحداهما: أنه على الوجهين في العجوز، وبهذا قطع الماوردي والروياني والقاضي حسين وإمام الحرمين والمتولي وغيرهم لعدم الشهوة واللذة والطريق الثاني القطع بالانتقاض وهذا هو الصحيح المختار وممن صححه البغوي وقطع به جماعة منهم الدارمي والمحاملي والفوراني ونقل الشيخ أبو حامد الاتفاق عليه كما لو مس ذكر ميت وكما لو أولج في ميتة فإنه يلزمه الغسل بلا خلاف.
"الرابع" لمس عضوا مقطوعا من امرأة كيد وأذن وغيرهما. أو لمست عضوا مقطوعا من رجل فطريقان أحدهما: فيه وجهان أحدهما: ينتقض كلمسه في حال الاتصال وأصحهما: لا؛ لأنها ليست امرأة ولا شهوة ولا لذة. وهذا الطريق مشهور عند الخراسانيين.
والثاني: وهو المذهب: لا ينتقض وبه قطع العراقيون والبغوي ونقله القاضي حسين في

 

ج / 2 ص -26-         تعليقه عن نص الشافعي. ونقل القاضي أن الشافعي نص على الانتقاض في مس الذكر المقطوع وعلى عدمه في اليد المقطوعة. فمن الأصحاب من نقل وخرج. فجعل في المسألتين خلافا ومنهم من قرر النصين وفرق بأنه مس ذكرا ولم يلمس امرأة، والشرع ورد بمس الذكر ولمس المرأة.
"الخامس" لو لمس الخنثى المشكل بشرة خنثى مشكل أو لمس رجل أو امرأة بدن المشكل أو لمس المشكل بدنهما، لم ينتقض للاحتمال، فلو لمس المشكل بشرة رجل وامرأة انتقض هو لأنه لمس من يخالفه ولا ينتقض الرجل ولا المرأة للشك، وكذا لو لمساه لم ينتقض واحد منهما للشك. وفي انتقاض الخنثى القولان في الملموس، فلو اقتدت المرأة بهذا الرجل لم تصح صلاتها لأنها إن لم تكن محدثة فإمامها محدث.
"السادس" لو ازدحم رجال ونساء فوقعت يده على بشرة لا يعلم أهي بشرة امرأة أم رجل؟ لم ينتقض كما لو شك هل لمس محرما أم أجنبية أو هل لمس شعرا أو بشرة كما سبق بيانه.
"السابع" إذا لمس الرجل أمرد حسن الصورة بشهوة أم بغيرها لم ينتقض وضوء واحد منهما صغيرا كان أو كبيرا. هذا هو المذهب الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور وحكى الماوردي والروياني والشاشي وغيرهم وجها عند أبي سعيد الإصطخري أنه ينتقض لأنه في معنى المرأة والله أعلم.
فرع: في مذاهب العلماء في اللمس قد ذكرنا أن مذهبنا أن التقاء بشرتي الأجنبي والأجنبية ينقض سواء أكان بشهوة وبقصد أم لا، ولا ينتقض مع وجود حائل وإن كان رقيقا. وبهذا قال عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وزيد بن أسلم ومكحول والشعبي والنخعي وعطاء بن السائب والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وسعيد بن عبد العزيز وهي إحدى الروايتين عن الأوزاعي.
"المذهب الثاني" لا ينتقض الوضوء باللمس مطلقا وهو مروي عن ابن عباس وعطاء وطاوس ومسروق والحسن وسفيان الثوري وبه قال أبو حنيفة، لكنه قال إذا باشرها دون الفرج وانتشر فعليه الوضوء.
"المذهب الثالث" إن لمس بشهوة انتقض وإلا فلا، وهو مروي عن الحكم وحماد ومالك والليث وإسحاق، ورواية عن الشعبي والنخعي وربيعة والثوري. وعن أحمد ثلاث روايات كالمذاهب الثلاثة.
"المذهب الرابع": إن لمس عمدا انتقض وإلا فلا، وهو مذهب داود، وخالفه ابنه فقال: لا ينتقض بحال.
"والخامس" إن لمس بأعضاء الوضوء انتقض وإلا فلا، حكاه صاحب "الحاوي" عن الأوزاعي، وحكى عنه أنه لا ينتقض إلا اللمس باليد.

 

ج / 2 ص -27-         " السادس" إن لمس بشهوة انتقض وإن لمس فوق حائل رقيق، حكي عن ربيعة ومالك في رواية عنهما.
"السابع" إن لمس من تحل له لم ينتقض وإن لمس من تحرم عليه انتقض. حكاه ابن المنذر وصاحب "الحاوي" عن عطاء وهذا خلاف ما حكاه الجمهور عنه ولا يصح هذا عن أحد إن شاء الله.
واحتج لمن قال لا ينتقض مطلقا بحديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ". وعن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعد الوضوء ثم لا يعيد الوضوء". وبحديث عائشة المتقدم أن يدها وقعت على قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد وهو صحيح كما سبق وبالحديث المتفق على صحته "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة بنت زينب، رضي الله عنها فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها". رواه البخاري ومسلم وبحديث عائشة في "الصحيحين" "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة، فإذا أراد أن يسجد غمز رجلها فقبضتها".
وفي رواية للنسائي بإسناد صحيح "فإذا أراد أن يوتر مسني برجله" واحتجوا بالقياس على المحارم والشعر، قالوا: ولو كان اللمس ناقضا لنقض لمس الرجل، كما أن جماع الرجل الرجل كجماعه المرأة.
واحتج أصحابنا بقول الله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: من الآية6] واللمس يطلق على الجس باليد، قال الله تعالى: {فَلَمَسُوهُ 1  بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: من الآية7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لماعز رضي الله عنه: "لعلك قبلت أو لمست" الحديث، ونهى عن بيع الملامسة، وفي الحديث الآخر: "واليد زناها اللمس".
وفي حديث عائشة "قل يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا فيقبل ويلمس". قال أهل اللغة: اللمس 2  يكون باليد وبغيرها، وقد يكون بالجماع، قال ابن دريد: اللمس أصله باليد ليعرف مس الشيء وأنشد الشافعي وأصحابنا وأهل اللغة في هذا قول الشاعر:

وألمست كفي كفه طلب الغنى                  ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

قال أصحابنا: ونحن نقول بمقتضى اللمس مطلقا، فمتى التقت البشرتان انتقض، سواء كان بيد أو جماع، واستدل مالك ثم الشافعي وأصحابهما بحديث مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه "قال قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء" وهذا إسناد في نهاية من الصحة كما تراه.
 فإن قيل ذكر النساء قرينة تصرف اللمس إلى الجماع، كما أن الوطء أصله الدوس بالرجل وإذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الآية: من سورة البقرة وقد وردت في الأصل هكذا؛ {أو لو كانوا لا يعقلون} الخ.
2  أوضحنا وجوها من مادتها في بيع الملامسة من كتاب البيوع, جـ13. المطيعي.

 

ج / 2 ص -28-         قيل وطئ المرأة لم يفهم منه إلا الجماع، فالجواب أن العادة لم تجر بدوس المرأة بالرجل، فلهذا صرفنا الوطء إلى الجماع بخلاف اللمس فإن استعماله في الجس باليد للمرأة وغيرها مشهور.
وذكر أصحابنا أقيسة كثيرة منها أنه لمس يوجب الفدية على المحرم، فنقض كالجماع قال إمام الحرمين في (الأساليب): الوجه أن يقال ما ينقض الوضوء لا يعلل وفاقا، قال: وقد اتفق الأئمة على أن اقتضاء الأحداث الوضوء ليس مما يعلل، وإذا كان كذلك فلا مجال للقياس، وليس لمس الرجل الرجل في معنى لمسه المرأة، فإن لمسها يتعلق به وجوب الفدية وتحريم المصاهرة وغير ذلك، فلا مطمع لهم في القياس على الرجل، وقد سلم أكثرهم أن الرجل والمرأة إذا تجردا وتعانقا وانتشر له وجب الوضوء، فيقال لهم بم نقضتم في الملامسة الفاحشة ؟
فإن قالوا بالقياس لم يقبل، وإن قالوا لقربه من الحدث، قلنا: القرب من الحدث ليس حدثا بالاتفاق، ولا يرد علينا النائم فإنه إنما انتقض بالسنة لكونه لا يشعر بالخارج، فلم يبق لهم ما يوجب الوضوء في الملامسة الفاحشة إلا ظاهر القرآن العزيز وليس فيه فرق بين الملامسة الفاحشة وغيرها.
وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث حبيب بن أبي ثابت فمن وجهين أحسنهما وأشهرهما أنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ، ممن ضعفه سفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وأبو داود وأبو بكر النيسابوري وأبو الحسن الدارقطني وأبو بكر البيهقي وآخرون من المتقدمين والمتأخرين.
قال أحمد بن حنبل وأبو بكر النيسابوري وغيرهما: غلط حبيب من قبلة الصائم إلى القبلة في الوضوء، وقال أبو داود: روي عن سفيان الثوري أنه قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني يعني لا عن عروة بن الزبير وعروة المزني مجهول، وإنما صح من حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم".
والجواب الثاني: لو صح لحمل على القبلة فوق حائل بين الأدلة، والجواب عن حديث أبي روق بالوجهين السابقين وضعفوا الحديث بوجهين:
أحدهما: ضعف أبي روق ضعفه يحيى بن معين وغيره.
والثاني: أن إبراهيم التيمي لم يسمع عائشة، هكذا ذكره الحافظ أبو داود وآخرون وحكاه عنهم البيهقي فتبين أن الحديث ضعيف مرسل، قال البيهقي: وقد روينا سائر ما روي في هذا الباب في الخلافيات وبينا ضعفها فالحديث الصحيح عن عائشة في قبلة الصائم، فحمله الضعفاء من الرواة على ترك الوضوء منها. والجواب عن حديث حمل أمامة في الصلاة ورفعها ووضعها من أوجه أظهرها: أنه لا يلزم من ذلك التقاء البشرتين.
والثاني: أنها صغيرة لا تنقض الوضوء.

 

ج / 2 ص -29-         والثالث: أنها محرم. والجواب عن حديث عائشة في وقوع يدها على بطن قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحتمل كونه فوق حائل، والجواب عن حديثها الآخر أنه لمس من وراء حائل وهذا هو الظاهر فيمن هو نائم في فراش وهذان الجوابان إذا سلمنا انتقاض ظهر الملموس وإلا فلا يحتاج إليهما.
وأما قياسهم على الشعر والمحارم ولمس الرجل الرجل فجوابه ما سبق أن الشعر لا يلتذ بلمسه، والمحرم والرجل ليسا مظنة شهوة وقد سبق عن إمام الحرمين إبطال القياس في هذا الباب.
واحتج لمن قال ينقض اللمس بشهوة دون غيره بحديث أمامة والظاهر أنه كان يحصل معه مباشرة لكن بغير شهوة. ولأنها مباشرة بلا شهوة فأشبهت مباشرة الشعر والمحارم والرجل ولأنها ملامسة فاشترط في ترتب الحكم عليها الشهوة كمباشرة المحرم بالحج.
واحتج أصحابنا بقول الله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: من الآية6] ولم يفرق. والجواب عن حديث أمامة بالأوجه الثلاثة السابقة. وعن الشعر وما بعده بأنه ليس مظنة شهوة ولذة. وعن مباشرة المحرم بأنه منع من الترفه وذلك يختص بالشهوة بخلاف هذا، واحتج لداود بقول الله تعالى {أو لمستم} وهذا يقتضي قصدا. واحتج أصحابنا بالآية وليس فيها فرق. ولأن الأحداث لا فرق فيها بين العمد والسهو كالبول والنوم والريح.
وقولهم: "اللمس يقتضي القصد" غلط لا يعرف عن أحد من أهل اللغة وغيرهم، بل يطلق اللمس على القاصد والساهي كما يطلق اسم القاتل والمحدث والنائم والمتكلم على من وجد ذلك منه قصدا أو سهوا أو غلبة.
واحتج لمن خص النقض باليد بالقياس على مس الذكر.
واحتجاج الأصحاب بالآية، والملامسة لا تختص باليد، وغير اليد في معناها في هذا وليس على اختصاص اليد دليل. وأما مس الذكر باليد فمثير للشهوة بخلاف غير اليد ولمس المرأة يثير الشهوة بأي عضو كان.
واحتج لمن قال: اللمس فوق حائل رقيق ينقض بأنه مباشرة بشهوة. فأشبه مباشرة البشرة. واحتج الأصحاب بأن المباشرة فوق حائل لا تسمى لمسا. ولهذا لو حلف لا يلمسها فلمس فوق حائل لم يحنث والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما مس الفرج فإنه إن كان ببطن الكف نقض الوضوء لما روت بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ".
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضئون"، قالت 1 : بأبي وأمي هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ فقال: "إذا مست

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الركبي والمتوكلية: قالت عائشة رضي الله عنها (ط).

 

ج / 2 ص -30-         إحداكن فرجها فلتتوضأ" وإن كان بظهر الكف لم ينتقض لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ وضوءه للصلاة". والإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف، ولأن ظهر الكف ليس بآلة لمسه فهو كما لو أولج الذكر في غير الفرج، وإن مس بما بين الأصابع ففيه وجهان، "المذهب" أنه لا ينتقض لأنه ليس بباطن الكف.
والثاني: ينتقض لأن خلقته خلقة الباطن، وإن مس حلقة الدبر انتقض وضوءه وحكى ابن القاص قولا أنه لا ينقض، وهو غير مشهور ووجهه أنه لا يلتذ بمسه والدليل على أنه ينقض أنه أحد السبيلين فأشبه القبل، وإن انسد المخرج المعتاد وانفتح دون المعدة مخرج فمسه ففيه وجهان.
أحدهما: لا ينقض لأنه ليس بفرج، والثاني: ينقض لأنه سبيل للحدث فأشبه الفرج، وإن مس فرج غيره من صغير أو كبير أو حي أو ميت انتقض وضوءه لأنه إذا انتقض بمس ذلك من نفسه ولم يهتك به حرمة فلأن ينتقض بمس ذلك من غيره وقد هتك به حرمة أولى، وإن مس ذكرا مقطوعا ففيه وجهان:
أحدهما: لا ينتقض وضوءه كما لو مس يدا مقطوعة من امرأة.
والثاني: ينتقض لأنه قد وجد مس الذكر، ويخالف اليد المقطوعة فإنه لم يوجد لمس المرأة، وإن مس فرج بهيمة لم يجب الوضوء، وحكى ابن عبد الحكم قولا آخر أنه يجب الوضوء، وليس بشيء لأن البهيمة لا حرمة لها، ولا تعبد عليها".
الشرح: في هذه الجملة مسائل:
إحداها: حديث بسرة حديث حسن، رواه مالك في الموطأ والشافعي في مسنده وفي الأم، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم في سننهم بالأسانيد الصحيحة. قال الترمذي وغيره: هو حديث حسن صحيح. وقال الترمذي: في كتاب العلل. قال البخاري: "أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة" وعليه إيراد سنذكره مع جوابه في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى.
وأما حديث عائشة فضعيف. وفي حديث بسرة كفاية عنه، فإنه روي "مس ذكره" وروي "من مس فرجه" وأما حديث أبي هريرة فرواه الشافعي في مسنده وفي "الأم" و"البويطي" بأسانيده، ورواه البيهقي من طرق كثيرة، وفي إسناده ضعف لكنه يقوى بكثرة طرقه.
المسألة الثانية: في ألفاظ الفصل، أصل الفرج: الخلل بين شيئين. قوله يمسون بفتح الميم على المشهور، وحكي ضمها في لغة قليلة، والماضي مسست بكسر السين على المشهور، وعلى اللغة الضعيفة بضمها.
قولها: "بأبي وأمي" معناه أفديك بأبي وأمي من كل مكروه. ويجوز أن يقول الإنسان: "فداك أبي وأمي" سواء كان أبواه مسلمين أم لا. هذا هو الصحيح المختار ومن العلماء من منعه إذا كانا

 

ج / 2 ص -31-         مسلمين. وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب (الأذكار) الذي لا يستغني طالب الآخرة عن مثله. قوله الإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف، معناه الإفضاء باليد لا يكون إلا ببطن الكف، وإلا فالإفضاء يطلق على الجماع وغيره.
قال الشافعي رحمه الله في الأم: "والإفضاء باليد إنما هو ببطنها، كما يقال أفضى بيده مبايعا، وأفضى بيده إلى الأرض ساجدا، وإلى ركبتيه راكعا" هذا لفظ الشافعي في "الأم" ونحوه في "البويطي" ومختصر الربيع. وهذا الذي ذكره الشافعي مشهور كذلك في كتب اللغة.
قال ابن فارس في المجمل: أفضى بيده إلى الأرض إذا مسها براحته في سجوده، ونحوه في صحاح الجوهري وغيره. وقوله: ولأن ظهر الكف ليس بآلة لمسه، معناه أن التلذذ لا يكون إلا بالباطن، فالباطن هو آلة مسه. وقوله: حلقة الدبر هي بإسكان اللام، هذه اللغة المشهورة. وحكى الجوهري فتحها أيضا في لغة رديئة وكذلك حلقة الحديد وحلقة العلم وغيرها، كله بإسكان اللام على المشهور. وقوله: فلأن ينتقض هو بفتح اللام، وقد سبق بيانه في باب الآنية. قوله: "لأن البهيمة لا حرمة لها ولا تعبد عليها" هذه العبارة عبارة الشافعي رحمه الله، وشرحها صاحب "الحاوي" وغيره فقالوا: معناه لا حرمة لها في وجوب ستر فرجها وتحريم النظر إليه، ولا تعبد عليها في أن الخارج منه لا ينقض طهرا.
المسألة الثالثة: في الأسماء: أما عائشة وابن القاص فسبق بيانهما، وأما بسرة فبضم الباء وإسكان السين المهملة. وهي بسرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى. وورقة بن نوفل عمها، وهي جدة عبد الملك بن مروان أم أمه، وهي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها.
وأما ابن عبد الحكم هذا فهو أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري كان من أجل أصحاب مالك وأفضت إليه الرياسة بمصر بعد أشهب، وأحسن إلى الشافعي كثيرا، فأعطاه من ماله ألف دينار وأخذ له من أصحابه ألفي دينار. ولد سنة خمسين ومائة وتوفي سنة أربع عشرة ومائتين رحمه الله.
المسألة الرابعة في الأحكام: فإذا مس الرجل أو المرأة قبل نفسه أو غيره من صغير أو كبير حي أو ميت ذكر أو أنثى انتقض وضوء الماس، ودليله ما ذكره المصنف، ويتصور كون مس الرجل قبل المرأة ناقضا إذا كانت محرما له أو صغيرة، وقلنا بالمذهب إن لمسها لا ينقض، فينتقض بمس فرجها بلا خلاف، وحكى الماوردي والشاشي والروياني وغيرهم وجها شاذا أنه لا ينتقض بمس ذكر الميت، وحكى الرافعي وجها آخر أنه لا ينتقض بمس ذكر الصغير، وحكى غيره وجها شاذا أنه لا ينتقض بمس فرج غيره إلا بشهوة، والصحيح المشهور الانتقاض بكل ذلك، ثم إنه لا ضبط لسن الغير، حتى لو مس ذكر ابن يوم انتقض. صرح به الشيخان أبو حامد وأبو محمد وإمام الحرمين وغيرهم.
فرع: ولو مس ذكرا أشل أو بيد شلاء انتقض على المذهب، وبه قطع الجمهور لأنه مس ذكرا.

 

ج / 2 ص -32-         وحكى الماوردي والروياني والشاشي وجها شاذا، أنه لا ينتقض لأنه لا لذة.
الخامسة: إن مس ببطن الكف وهو الراحة وبطن الأصابع انتقض، وإن مس بظهر الكف فلا. ودليله مذكور في الكتاب.
وإن مس برءوس الأصابع أو بما بينها أو بحرفها أو بينها بحرف الكف ففي الانتقاض وجهان مشهوران، الصحيح عند الجمهور لا ينتقض، وبه قطع البندنيجي. ثم الوجهان في موضع الاستواء من رءوس الأصابع، وأما المنحرف الذي يلي الكف فإنه من الكف فينقض، وجها واحدا.
قال الرافعي: من قال: المس برءوس الأصابع ينقض، قال باطن الكف ما بين الأظفار والزند في الطول، ومن قال: لا ينقض قال: باطن الكف هو القدر المنطبق إذا وضعت إحدى الكفين على الأخرى مع تحامل يسير، والتقييد بتحامل يسير ليدخل المنحرف. وحكى الماوردي عن أبي الفياض البصري وجها أنه إن مس بما بين الأصابع مستقبلا للعانة ببطن كفه انتقض، وإن استقبلها بظهر كفه لم ينقض. قال الماوردي: وهذا لا معنى له.
السادسة: إذا مس دبر نفسه أو دبر آدمي غيره انتقض على المذهب، وهو نصه في الجديد وهو الصحيح عند الأصحاب وقطع به جماعات منهم. وحكى ابن القاص في كتابه "المفتاح" قولا قديما أنه لا ينتقض، ولم يحكه هو في "التلخيص"، وقد حكاه جمهور أصحابنا المصنفين عن حكاية ابن القاص عن القديم ولم ينكروه، وقال صاحب الشامل: قال أصحابنا لم نجد هذا القول في القديم، فإن ثبت فهو ضعيف. قال أصحابنا والمراد بالدبر ملتقى المنفذ، أما ما وراء ذلك من باطن الأليين فلا ينقض بلا خلاف.
السابعة: إذا انفتح مخرج تحت المعدة أو فوقها وحكمنا بأن الخارج منه ينقض الوضوء - على التفصيل والخلاف السابقين - فهل ينتقض الوضوء بمسه؟ فيه وجهان، أصحهما لا ينتقض، وقد سبق بيانهما في فروع مسائل المنفتح في أول الباب.
الثامنة: إذا مس ذكرا مقطوعا ففي انتقاض وضوئه وجهان مشهوران. ذكرهما المصنف بدليلهما أصحهما عند الأكثرين الانتقاض ونقله القاضي حسين عن نص الشافعي، وصححه المتولي والبغوي والرافعي وآخرون، وقطع به الجرجاني في التحرير واختار الشيخ أبو محمد في كتابه "الفروق" وصاحب الشامل: عدم الانتقاض لكونه لا لذة فيه ولا يقصد، ولا يكفي اسم الذكر كما لو مسه بظهر كفه وسواء قطع كل الذكر أو بعضه ففيه الوجهان. صرح به البغوي وغيره. قال الماوردي. ولو مس من ذكر الصغير الأغلف ما يقطع في الختان انتقض بلا خلاف لأنه من الذكر ما لم يقطع. قال: فإن مس ذلك بعد القطع لم ينتقض لأنه بائن من الذكر لا يقع عليه اسم الذكر.
التاسعة: إذا مس فرج بهيمة لم ينتقض وضوءه على المذهب الصحيح. وهو المشهور في نصوص الشافعي. وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه ينقض، قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في "تعليقه": ابن الحكم هذا هو عبد الله بن عبد الحكم. وحكى الفوراني وإمام الحرمين وصاحب

 

ج / 2 ص -33-         العدة وغيرهم هذا القول عن حكاية يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي. وحكاه الدارمي عن حكاية ابن عبد الحكم ويونس جميعا، فمن الأصحاب من أنكر كون هذا قولا للشافعي. وقال: مذهبه أنه لا ينقض بلا خلاف، وإنما حكاه الشافعي عن عطاء. قال المحاملي: لم يثبت أصحابنا هذا قولا للشافعي.
وقال البندنيجي: رد أصحابنا هذه الرواية وذهب الأكثرون إلى إثباته، وجعلوا في المسألة قولين. قال الدارمي: ولا فرق في هذا بين البهائم والطير، ثم الجمهور أطلقوا الخلاف في فرج البهيمة، وظاهره طرد الخلاف في قبلها ودبرها. وقال الرافعي: القول بالنقض إنما هو بالقبل، أما دبر البهيمة فلا ينقض قطعا، لأن دبر الآدمي لا يلحق على القديم بقبله فدبر البهيمة أولى. وهذا الذي قاله غريب وكأنه بناه على أن القول الضعيف في النقض قول قديم كما ذكره الغزالي، وليس هو بقديم، ولم يحكه الأصحاب عن القديم وإنما حكوه عن رواية ابن عبد الحكم ويونس، وهما ممن صحب الشافعي بمصر دون العراق.
فإن قلنا بالمذهب وهو أن مس فرج البهيمة لا ينقض فأدخل يده في فرجها ففي الانتقاض وجهان مشهوران، وحكاهما إمام الحرمين عن الأصحاب أصحهما بالاتفاق لا ينقض. صححه الفوراني والإمام والغزالي في "البسيط" والروياني وغيرهم. هذا حكم مذهبنا في البهيمة.
وحكى أصحابنا عن عطاء أن مس فرج البهيمة المأكولة ينقض وغيرها لا ينقض وعن الليث ينقض الجميع لإطلاق الفرج والصواب عدم النقض مطلقا؛ لأن الأصل عدم النقض حتى تثبت السنة به ولم تثبت، وإطلاق الفرج في بعض الروايات محمول على المعتاد المعروف وهو فرج الآدمي والله أعلم.
فروع: "الأول" اللمس ينقض سواء كان عمدا أو سهوا. نص عليه الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى، وحكى الحناطي والرافعي وجها أنه لا ينتقض بمس الناسي وهذا شاذ ضعيف.
الثاني: إذا مس ذكرا أشل أو بيد شلاء انتقض على المذهب وفيه وجه سبق بيانه، ولو مس ببطن أصبع زائدة أو كف زائدة انتقض أيضا على المذهب، ونقله أيضا الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي وقطع به الجمهور، وفيه وجه مشهور وهو ضعيف.
ثم الجمهور أطلقوا الانتقاض بالكف الزائدة، وقال البغوي إن كانت الكفان عاملتين انتقض بكل واحدة، وإن كان العامل إحداهما انتقض بها دون الأخرى، وأطلق الجمهور أيضا الانتقاض بالأصبع الزائدة.
قال المتولي والبغوي وغيرهما: هذا إذا كانت الزائدة نابتة على وفق سائر الأصابع فإن كانت على ظهر الكف لم ينقض المس ببطنها، قال الرافعي: إن كانت الأصبع الزائدة على سنن الأصابع الأصلية نقضت في أصح الوجهين، وإلا فلا في أصح الوجهين.

 

ج / 2 ص -34-         الثالث: قال أصحابنا: لا ينقض مس الأنثيين وشعر العانة من الرجل والمرأة، ولا موضع الشعر، ولا ما بين القبل والدبر، ولا ما بين الأليين وإنما ينقض نفس الذكر وحلقة الدبر وملتقى شفري المرأة، فإن مست ما وراء الشفر لم ينقض بلا خلاف. صرح به إمام الحرمين والبغوي وآخرون ولو جب ذكره قال أصحابنا: إن بقي منه شيء شاخج / 2 ص -وإن قل- انتقض بمسه بلا خلاف، وإن لم يبق منه شيء أصلا فهو كحلقة الدبر فينتقض على الصحيح، وإن نبت في موضع الجب جلدة فمسها فهو كمسه من غير جلدة، قاله إمام الحرمين وغيره وهو واضح، هذا تفصيل مذهبنا. وحكى أصحابنا عن عروة بن الزبير أن مس الأنثيين والألية والعانة ينقض، وقال جمهور العلماء: لا ينقض ذلك كمذهبنا.
واحتج لعروة بما روي "من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليتوضأ". وهذا حديث باطل موضوع إنما هو من كلام عروة، كذا قاله أهل الحديث، والأصل أن لا نقض إلا بدليل والرفغ بضم الراء وإسكان الفاء وبالغين المعجمة وهو أصل الفخذين. ويقال لكل موضع يجتمع فيه الوسخ رفغ.
الرابع: اتفق أصحابنا ونصوص الشافعي أن المس بغير بطن الكف من الأعضاء لا ينقض، إلا صاحب "الشامل" فقال: لو مس بذكره دبر غيره ينبغي أن ينتقض لأنه مسه بآلة مسه.
وحكى صاحب "البحر" هذا عن بعض أصحابنا بالعراق، وأظنه أراد صاحب الشامل، ثم قال: هذا ليس بصحيح لأن الاعتماد على الخبر، ولم يرد بهذا خبر، وصرح الدارمي ثم إمام الحرمين بأنه لا ينقض فقالا في باب غسل الجنابة: إذا أجنب من غير حدث بأن أولج ذكره في بهيمة أو رجل أجزأه الغسل بلا خلاف. فهذا تصريح بأن إدخال الذكر في دبر الرجل لا ينقض الوضوء، فوضعه عليه أولى فالصواب أنه لا ينتقض بمسه به ولا بإدخاله لأن الباب مبني على اتباع الاسم ولهذا لو قبل امرأة وعانقها - فوق حائل رقيق - وأطال وانتشر ذكره لا ينتقض ولو وقع بعض رجله على رجلها -بلا قصد- انتقض في الحال لوجود اللمس، مع أن الأول أفحش. بل لا نسبة بينهما ووافق صاحب "الشامل" على أنه لو مس بذكره ذكر غيره لم ينقض والله أعلم.
الخامس: لو كان له ذكر مسدود فمسه انتقض وضوءه على الصحيح المشهور وفيه وجه حكاه الصيمري وصاحبا "البحر" والبيان.
السادس: إذا كان له ذكران عاملان انتقض بمس كل واحد منهما بلا خلاف. صرح به الأصحاب، وإن كان العامل أحدهما فوجهان، الصحيح الذي قطع به الجمهور أنه ينتقض بالعامل ولا ينتقض بالآخر، ممن قطع به الدارمي والماوردي والفوراني والبغوي وصاحب "العدة" وآخرون. ونقله الروياني عن أصحابنا الخراسانيين وقال المتولي: المذهب أنه ينتقض أيضا بغير العامل لأنه ذكر، وشذ الشاشي عن الأصحاب فقال في كتابيه: ينبغي أن لا ينتقض بأحد العاملين كالخنثى. وهذا غلط مخالف للنقل والدليل.

 

ج / 2 ص -35-         قال الماوردي ولو أولج أحد العاملين في فرج لزمه الغسل، ولو خرج من أحدهما شيء وجب الوضوء قال: ولو كان يبول من أحدهما وحده فحكم الذكر جار عليه، والآخر زائد لا يتعلق به حكم في نقض الطهارة.
قال الدارمي: ولو خلق للمرأة فرجان فبالت منهما وحاضت انتقض بكل واحد وإن بالت وحاضت من أحدهما فالحكم متعلق به.
السابع: الممسوس ذكره لا ينتقض وضوءه على المذهب الصحيح وبه قطع العراقيون وكثير من الخراسانيين أو أكثرهم، وقال كثيرون من الخراسانيين: فيه قولان كالملموس، والفرق -على المذهب- أن الشرع ورد هناك بالملامسة، وهي تقتضي المشاركة إلا ما  خرج بدليل وهنا ورد بلفظ المس، والممسوس لم يمس.
فرع: في مذاهب العلماء قد ذكرنا أن مذهبنا انتقاض الوضوء بمس فرج الآدمي بباطن الكف ولا ينتقض بغيره، وبه قال عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وعائشة وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وأبان بن عثمان وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار ومجاهد وأبو العالية والزهري ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والمزني.
وعن الأوزاعي: أنه ينقض المس بالكف والساعد وهو رواية عن أحمد، وعنه رواية أخرى أنه ينقض بظهر الكف وبطنها، وأخرى أن الوضوء مستحب وأخرى يشترط المس بشهوة، وهو رواية عن مالك.
وقالت طائفة: لا ينقض مطلقا، وبه قال علي بن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة وعمار، وحكاه ابن المنذر أيضا عن ابن عباس وعمران بن الحصين وأبي الدرداء وربيعة، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وابن القاسم وسحنون، قال ابن المنذر: وبه أقول.
وقال بعض أهل العلم: ينقض مسه ذكر نفسه دون غيره، واحتج لهؤلاء بحديث طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الذكر في الصلاة فقال:
"هل هو إلا بضعة منك".
وعن أبي ليلى قال:
"كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل الحسن يتمرغ عليه فرفع عن قميصه وقبل زبيبته". ولأنه مس عضوا منه فلم ينقض كسائر الأعضاء.
واحتج أصحابنا بحديث بسرة وهو صحيح، كما قدمنا بيانه، وبحديث أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من مس فرجه فليتوضأ". قال البيهقي: قال الترمذي: سألت أبا زرعة عن حديث أم حبيبة فاستحسنه، قال: ورأيته يعده محفوظا.
وعن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من مس ذكره فليتوضأ".
 قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: روى الوضوء من مس الذكر بضعة عشر نفسا من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل: قال يحيى بن معين: ثلاثة أحاديث لا تصح.

 

ج / 2 ص -36-         أحدها: الوضوء من مس الذكر، فالجواب أن الأكثرين على خلافه فقد صححه الجماهير من الأئمة الحفاظ، واحتج به الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وهم أعلام أهل الحديث والفقه ولو كان باطلا لم يحتجوا به، فإن قالوا: حديث بسرة رواه شرطي لمروان عن بسرة وهو مجهول.
فالجواب أن هذا وقع في بعض الروايات، وثبت من غير رواية الشرطي، روى البيهقي عن إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة قال أوجب الشافعي الوضوء من مس الذكر لحديث بسرة، وبقول الشافعي أقول؛ لأن عروة سمع حديث بسرة منها، فإن قالوا الوضوء هنا غسل اليد، قلنا هذا غلط، فإن الوضوء إذا أطلق في الشرع حمل على غسل الأعضاء المعروفة هذا حقيقته شرعا ولا يعدل عن الحقيقة إلا بدليل، واحتج أصحابنا بأقيسة ومعان لا حاجة إليها مع صحة الحديث وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث طلق بن علي فمن أوجه.
أحدها: أنه ضعيف باتفاق الحفاظ وقد بين البيهقي وجوها من وجوه تضعيفه.
الثاني: أنه منسوخ فإن وفادة طلق بن علي على النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة الأولى من الهجرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبني مسجده، وراوي حديثنا أبو هريرة وغيره، وإنما قدم أبو هريرة على النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة، وهذا الجواب مشهور ذكره الخطابي والبيهقي وأصحابنا في كتب المذهب.
والثالث: أنه محمول على المس فوق حائل لأنه قال "سألته عن مس الذكر في الصلاة" والظاهر أن الإنسان لا يمس الذكر في الصلاة بلا حائل.
والرابع: أن خبرنا أكثر رواة فقدم.
الخامس: أن فيه احتياطا للعبادة فقدم. وأما حديث أبي ليلى فجوابه من أوجه:
أحدها: أنه ضعيف بين البيهقي وغيره ضعفه.
الثاني: يحتمل أنه كان فوق حائل.
الثالث: أنه ليس فيه أنه مس زبيبته ببطن كفه ولا ينقض غير بطن الكف.
الرابع: أنه ليس فيه أنه صلى بعد مس زبيبته ببطن كفه، ولم يتوضأ، وعلى الجملة استدلالهم بهذا الحديث من العجائب وأما قياسهم على سائر الأعضاء فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه قياس ينابذ النص فلا يصح.
الثاني: أن الذكر تثور الشهوة بمسه غالبا بخلاف غيره والله أعلم.
فرع: مس الدبر ناقض عندنا على الصحيح، وهو رواية عن أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة وداود وأحمد في رواية: لا ينقض ولا ينقض مس فرج البهيمة عندنا، وبه قال العلماء كافة إلا عطاء والليث، وإذا مست المرأة فرجها انتقض وضوءها عندنا وعند أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك: لا ينتقض.

 

ج / 2 ص -37-         قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن مس الخنثى المشكل فرجه أو ذكره أو مس ذلك منه غيره لم ينتقض الوضوء، حتى يتحقق أنه مس الفرج الأصلي أو الذكر الأصلي، ومتى جوز أن يكون الذي مسه غير الأصلي لم ينتقض الوضوء 1 ؛ ولذا لو تيقنا أنه انتقض طهر أحدهما ولم نعرفه بعينه لم نوجب الوضوء على واحد منهما، لأن الطهارة متيقنة، ولا يزال ذلك بالشك".
الشرح: هذا الذي ذكره المصنف رحمه الله في بعضه تساهل، فأنا أذكر المذهب على ما قاله الأصحاب واقتضته الأدلة ثم أبين وجه التساهل إن شاء الله. قال أصحابنا: إذا مس الخنثى المشكل ذكر رجل أو فرج امرأة انتقض طهر الخنثى ولا ينتقض الممسوس لاحتمال أنه مثله إلا إذا قلنا بالوجه الضعيف أن الممسوس فرجه ينتقض فينتقض هنا لأنه ملموس أو ممسوس.
وأما إذا مس الخنثى المشكل فرج نفسه أو ذكر نفسه فلا ينتقض بالاتفاق لاحتمال أنه عضو زائد لكن يندب الوضوء للاحتمال. فإن مسهما معا أو مس أحدهما ثم مس الآخر انتقض بالاتفاق. وإن مس أحدهما ثم مس مرة ثانية وشك هل الممسوس ثانيا هو الأول؟ أو الآخر؟ لم ينتقض لاحتمال أنه الأول وإن مس أحدهما ثم صلى الظهر ثم توضأ ثم مس الآخر ثم صلى العصر فوجهان مشهوران أحدهما: تلزمه إعادة الصلاتين لأن إحداهما بغير وضوء فهو كمن نسي صلاة من صلاتين والثاني: لا يلزمه إعادة واحدة من الصلاتين لأن كل واحدة مفردة بحكمها وقد صلاها مستصحبا أصلا صحيحا فلا تلزمه إعادتها كمن صلى صلاتين بالاجتهاد إلى جهتين، ويخالف من نسي صلاة من صلاتين؛ لأن ذمته اشتغلت بكل واحدة من الصلاتين، والأصل أنه لم يفعلها فتبقى، وهنا فعلها قطعا معتمدا أصلا صحيحا، وصحح الروياني الوجه الأول وهو شاذ منفرد بتصحيحه، وصحح جمهور الأصحاب الوجه الثاني وهو أنه لا إعادة. صححه الفوراني والرافعي وآخرون وقطع به القفال في "شرح التلخيص" والقاضي حسين في "تعليقه" والشيخ أبو محمد في "الفروق" والمتولي والبغوي وغيرهم.
ولو مس أحدهما وصلى الظهر ثم مس الآخر وصلى العصر ولم يتوضأ بينهما لزمه إعادة العصر بلا خلاف؛ لأنه صلاها محدثا قطعا ولا يلزمه إعادة الظهر بلا خلاف لأنها مضت على الصحة ولم يعارضها شيء. ولو مس ذكره وصلى أياما يمس فيها الذكر ثم بان أنه رجل فهل يلزمه قضاء تلك الصلوات؟ فيه طريقان حكاهما المتولي والشاشي: أحدهما: وبه قطع القاضي حسين أنه على وجهين بناء على القولين فيمن صلى إلى جهة أو جهات ثم تيقن الخطأ.
والثاني: وهو الصحيح عند المتولي والشاشي وقطع به البغوي وهو المختار: تلزمه الإعادة بلا خلاف كمن ظن الطهارة وصلى فبان محدثا. بخلاف القبلة فإن أمرها مبني على التخفيف فيباح تركها في نافلة السفر مع القدرة، ولا يجوز ترك الطهارة مع القدرة؛ ولأن اشتباه القبلة -والخطأ فيها يكثر-

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في الركبي والمتوكلية (وكذا) بدل (ولدا).

 

ج / 2 ص -38-         بخلاف الحدث. ومتى أبحنا للخنثى الصلاة بعد مس أو لمس أو إيلاج -بناء على الأصل- ثم بان خلافه ففي وجوب الإعادة الطريقان.
وكذا ينبغي أن يكون الحكم في الرجل والمرأة إذا لمساه أو مساه أو أولج فيه رجل أو أولج هو في امرأة ولم نوجب طهارة وصلى فبان الخنثى بصفة توجب الطهر ففي الإعادة الخلاف. هذا حكم مس الخنثى نفسه أو رجلا أو امرأة، أما إذا مس رجل فرج الخنثى فلا ينتقض واحد منهما لاحتمال أنه عضو زائد، وكذا إذا مست المرأة ذكر الخنثى فلا وضوء للاحتمال. ولو مس الرجل ذكر الخنثى انتقض وضوء الرجل؛ لأن الخنثى إن كان رجلا فقد مس ذكره وإن كان امرأة فقد لمسها بلمس عضوها الزائد، ولا ينتقض الخنثى لاحتمال أنه رجل والممسوس لا ينتقض. هكذا قاله الأصحاب.
ومرادهم التفريع على المذهب وهو الممسوس لا ينتقض وأن العضو الزائد ينقض لمسه. ولو مست المرأة فرج الخنثى فهو كمس الرجل ذكر الخنثى فتنقض المرأة؛ لأنه إن كان رجلا فقد لمسته، وإن كان أنثى فقد مست فرجها فهي لامسة أو ماسة ولا ينتقض الخنثى بما سبق، وإن مس الرجل أو المرأة فرجي الخنثى انتقض الماس، وضابطه أن من مس من الخنثى ما له مثله انتقض وإلا فلا، فينتقض الرجل بمسه ذكر الخنثى لا فرجه والمرأة عكسه.
وأما إذا مس الخنثى خنثى فينظر إن مس فرجيه انتقض الماس، وكذا لو مس فرج مشكل وذكر مشكل آخر انتقض، لأنه مس أو لمس، وإن مس أحد فرجي المشكل لم ينتقض، كالواضح لاحتمال الزيادة، ولو لمس إحدى الخنثيين فرج صاحبه ومس الآخر ذكر الأول فقد انتقض طهر أحدهما بيقين؛ لأنهما إن كانا رجلين انتقض ماس الذكر أو أنثيين انتقض ماس الفرج، أو رجلا وامرأة انتقضا جميعا، فانتقاض أحدهما متيقن لكنه غير متعين، والأصل في حق كل واحد الطهارة فلا تبطل بالاحتمال، فلكل واحد أن يصلي بتلك الطهارة.
هذا كله إذا لم يكن بين الخنثى وبين من مسه محرمية أو غيرها مما يمنع نقض الوضوء باللمس، فإن كان لم يخف حكمه بتقدير أحواله، وحيث لا ينقض في هذه الصور يستحب الوضوء لاحتمال الانتقاض، هذا مختصر كلام الأصحاب في المسألة وفروعها.
وأما قول المصنف: "أو مس ذلك منه غيره لم ينتقض حتى يتحقق أنه مس الفرج الأصلي أو الذكر الأصلي" فهذا مما ينكر عليه لأن غيره إن كان مس منه ما له مثله انتقض كما قدمناه لأنه ماس أو لامس، ويجاب عن المصنف بأن مراده لا ينتقض بسبب المس فإن الكلام فيه.
وأما إذا مس منه ما له مثله فينتقض بسبب اللمس أو المس لا بالمس على التعيين، ولم يرد أنه لا ينتقض بكل سبب ولكن كلامه موهم. وقوله: ومتى جوز أن يكون الذي مسه غير الأصلي لم ينتقض، هذا مكرر وزيادة لا حاجة إليها؛ لأنه قد علم من قوله: لم ينتقض حتى يتحقق أنه مس الأصلي إلا أن فيه ضربا من الإيضاح والتأكيد فلهذا ذكره، وقوله: وكذا لو تيقنا أنه انتقض طهر

 

ج / 2 ص -39-         أحدهما ولم نعرفه بعينه لم نوجب الوضوء على واحد منهما" مثاله مس أحد الخنثيين ذكر صاحبه، والآخر فرج الأول وقد بيناه والله أعلم.
فرع: هذا أول موضع جرى فيه شيء من أحكام الخنثى في الكتاب، ولبيان أحكامه وصفات وضوحه وأشكاله مواطن، منها هذا الباب وباب الحجر وكتاب الفرائض وكتاب النكاح، وللأصحاب فيه عادات مختلفة، فبعضهم ذكره هنا، كإمام الحرمين والغزالي وآخرين، وبعضهم في الحجر، وذكر المصنف منه هناك شيئا وأكثرهم ذكروه في الفرائض، ومنهم المصنف في المهذب وبعضهم في النكاح، ومنهم المصنف في "التنبيه" والبغوي، وبعضهم أفرده بالتصنيف، كالقاضي أبي الفتوح وغيره.
وقد ذكر البغوي فيه فصلين حسنين قبيل كتاب الصداق، وقد قدمت في الخطبة أني أقدم ما أمكن تقديمه في أول مواطنه، فأذكر إن شاء الله تعالى معظم أحكامه مختصرة جدا، وسأوضحها إن شاء الله تعالى في مواطنها أيضا مفصلة، والكلام فيه يحصره فصلان: أحدهما: في طريق معرفة ذكورته وأنوثته وبلوغه. والثاني: في أحكامه في حال الإشكال.
أما الفصل الأول: ففي معرفة حاله، قال أصحابنا: الأصل في الخنثى ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مولود له ما للرجال وما للنساء:
"يورث من حيث يبول". وهذا حديث ضعيف بالاتفاق وقد بين البيهقي وغيره ضعفه والكلبي وأبو صالح، هذان ضعيفان وليس هو أبا صالح ذكوان السمان، الراوي في "الصحيحين" عن أبي هريرة، وروي عن علي بن أبي طالب وسعيد بن المسيب مثله.
واعلم أن الخنثى ضربان أحدهما: وهو المشهور أن يكون له فرج المرأة وذكر الرجل والضرب الثاني أن لا يكون له واحد منهما، بل له ثقبة يخرج منها الخارج ولا تشبه فرج واحد منهما وهذا الضرب الثاني ذكره صاحب "الحاوي" والبغوي والرافعي وجماعات في كتاب الفرائض. قال البغوي وحكم هذا الثاني أنه مشكل يوقف أمره حتى يبلغ فيختار لنفسه ما يميل إليه طبعه من ذكورة وأنوثة، فإن أمنى على النساء ومال إليهن طبعه فهو رجل وإن كان عكسه فامرأة. ولا دلالة في بول هذا.
وأما الضرب الأول فهو الذي فيه التفريع، فمذهبنا أنه إما رجل وإما امرأة وليس قسما ثالثا، والطريق إلى معرفة ذكورته وأنوثته من أوجه: منها: البول، فإن بال بآلة الرجال فقط فهو رجل، وإن بال بآلة المرأة فقط فهو امرأة، وهذا لا خلاف فيه، فإن كان يبول بهما جميعا نظر إن اتفقا في الخروج والانقطاع والقدر فلا دلالة فيه، وإن اختلفا في ذلك ففيه وجهان:
أحدهما: لا دلالة في البول فهو مشكل إن لم تكن علامة أخرى.
والثاني: وهو الأصح أنهما إن كانا ينقطعان معا، ويتقدم أحدهما في الابتداء فهو للمتقدم، وإن استويا في التقدم وتأخر انقطاع أحدهما فهو للمتأخر، وإن تقدم أحدهما وتأخر الآخر فهو للسابق على

 

ج / 2 ص -40-         أصح الوجهين، وقيل لا دلالة، وإن استويا في الابتداء والانقطاع وكان أحدهما أكثر وزنا فوجهان، أحدهما: يحكم بأكثرهما، وهو نص الشافعي في الجامع الكبير للمزني. وهو مذهب أبي يوسف ومحمد. والثاني وهو الأصح: لا دلالة فيه، وصححه البغوي والرافعي وغيرهما. وقطع به صاحب "الحاوي" في كتاب الفرائض وإمام الحرمين هنا، وهو مذهب أبي حنيفة والأوزاعي.
ولو زرق كهيئة الرجل أو رشش كعادة المرأة فوجهان، أصحهما لا دلالة فيه. والثاني: يدل، فعلى هذا إن زرق بهما فهو رجل، وإن رشش بهما فامرأة، وإن زرق بأحدهما ورشش بالآخر فلا دلالة، ولو لم يبل من الفرجين وبال من ثقب آخر فلا دلالة في بوله، ومنها المني والحيض، فإن أمنى بفرج الرجل فهو رجل، وإن أمنى بفرج المرأة أو حاض به فهو امرأة، وشرطه في الصور الثلاث أن يكون في زمن إمكان خروج المني والحيض، وأن يتكرر خروجه ليتأكد الظن به ولا يتوهم كونه اتفاقا.
ولو أمنى بالفرجين فوجهان، أحدهما: لا دلالة، وأصحهما: أنه إن أمنى منهما بصفة مني الرجل فرجل، وإن أمنى بصفة مني النساء فامرأة، لأن الظاهر أن المني بصفة مني الرجال ينفصل من رجل وبصفة مني النساء ينفصل من امرأة، ولو أمنى من فرج النساء بصفة مني الرجال أو من فرج الرجال بصفة مني النساء، أو أمنى من فرج الرجال بصفة منيهم ومن فرج النساء بصفة منيهن فلا دلالة، ولو تعارض بول وحيض فبال من فرج الرجل وحاض من فرج المرأة فوجهان، أصحهما: لا دلالة للتعارض والثاني: يقدم البول لأنه دائم متكرر، قال إمام الحرمين: كان شيخي يميل إلى البول، قال: والوجه عندي القطع بالتعارض، ولو تعارض المني والحيض فثلاثة أوجه ذكرها البغوي وغيره.
أحدها: وهو قول أبي إسحاق: إنه امرأة لأن الحيض مختص بالنساء والمني مشترك، والثاني: وهو قول أبي بكر الفارسي إنه رجل؛ لأن المني حقيقة وليس دم الحيض حقيقة، والثالث: لا دلالة للتعارض وهو الأصح الأعدل، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وصححه الرافعي، ومنها الولادة وهي تفيد القطع بالأنوثة وتقدم على جميع العلامات المعارضة لها لأن دلالتها قطعية.
قال القاضي أبو الفتوح في كتابه (كتاب الخناثى): لو ألقى الخنثى مضغة، وقال القوابل: إنها مبدأ خلق آدمي حكم بأنها امرأة، وإن شككن دام الإشكال، قال ولو انتفخ بطنه فظهرت أمارات حمل لم يحكم بأنه امرأة حتى يتحقق الحمل. أما نبات اللحية ونهود الثدي ففيهما وجهان: أحدهما: يدل النبات على الذكورة والنهود على الأنوثة؛ لأن اللحية لا تكون غالبا إلا للرجال والثدي لا يكون غالبا إلا للنساء والثاني: وهو الأصح لا دلالة لأن ذلك قد يختلف، ولأنه لا خلاف أن عدم اللحية في وقته لا يدل للأنوثة ولا عدم النهود في وقته للذكورة، فلو جاز الاستدلال بوجوده عملا بالغالب لجاز بعدمه عملا بالغالب.
قال إمام الحرمين: ولا يعارض نبات اللحية والنهود شيئا من العلامات المتفق عليها، وأما نزول اللبن من الثدي فقطع البغوي بأنه لا دلالة فيه للأنوثة، وذكر غيره فيه وجهين الأصح لا دلالة,

 

ج / 2 ص -41-         وأما عدد الأضلاع ففيه وجهان أحدهما: يعتبر، فإن كانت أضلاعه من الجانب الأيسر ناقصة ضلعا فهو رجل وإن تساوت من الجانبين فامرأة، ولم يذكر البول غيره.
والثاني: لا دلالة فيه وهو الصحيح وبه قطع صاحب "الحاوي" والأكثرون وصححه الباقون؛ لأن هذا لا أصل له في الشرع ولا في كتب التشريح.
قال إمام الحرمين: هذا الذي قيل من تفاوت الأضلاع لست أفهمه ولا أدري فرقا بين الرجال والنساء، قال صاحب "الحاوي": لا أصل لذلك؛ لإجماعهم على تقديم المبال عليه، يعني ولو كان له أصل لقدم على المبال؛ لأن دلالته حسية كالولادة.
قال أصحابنا: ومن العلامات شهوته، وميله إلى النساء أو الرجال، فإن قال: أشتهي النساء ويميل طبعي إليهن، حكم بأنه رجل، وإن قال: أميل إلى الرجال، حكم بأنه امرأة؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بميل الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل. وإن قال: أميل إليهما ميلا واحدا أو لا أميل إلى واحد منهما فهو مشكل.
وقال أصحابنا: وإنما نراجعه في ميله وشهوته ونقبل في ذلك قوله إذا عجزنا عن العلامات السابقة، فأما مع واحدة منها فلا نقبل قوله؛ لأن العلامة حسية وميله خفي، قال أصحابنا: وإنما نقبل قوله في الميل بعد بلوغه وعقله كسائر أخباره؛ ولأن الميل إنما يظهر بعد البلوغ. هذا هو المذهب الصحيح المشهور.
وحكى الرافعي وغيره وجها أنه يقبل قول الصبي المميز في هذا كالتخيير بين الأبوين في الحضانة، وهذا ليس بشيء؛ لأن تخييره بين الأبوين تخيير شهوة للرفق به ولا يلزمه الدوام عليه ولا يتعلق به أحكام، بخلاف قول الخنثى فإنه إخبار. فيشترط أن يكون ممن يقبل خبره وليس موضوعا للرفق؛ ولأنه يتعلق به حقوق كثيرة في النفس والمال والعبادات له وعليه وهو أيضا لازم لا يجوز الرجوع عنه.
وفرع أصحابنا على إخباره فروعا: أحدها: أنه إذا بلغ وفقدت العلامات، ووجد الميل لزمه أن يخبر به ليحكم به ويعمل عليه فإن أخره أثم وفسق. كذا قاله البغوي وغيره.
الثاني: أن الإخبار إنما هو بما نجده من الميل الجبلي، ولا يجوز الإخبار بلا ميل بلا خلاف. 
الثالث: إذا أخبر بميله إلى أحدهما عمل به ولا يقبل رجوعه عنه، بل يلزمه الدوام عليه فلو كذبه الحس بأن يخبر أنه رجل ثم يلد بطل قوله ويحكم بأنه امرأة. وكذا لو ظهر حمل وتبيناه، كما لو حكمنا بأنه رجل بشيء من العلامات ثم ظهر حمل فإنا نبطل ذلك ونحكم بأنه امرأة.
وأما قول الغزالي في "الوسيط" "فإذا أخبر لا يقبل رجوعه إلا أن يكذبه الحس بأن يقول أنا رجل ثم يلد" فهذه العبارة مما أنكر عليه لأنه استثنى من قبول رجوعه ما إذا ولد، فأوهم أنه يشترط في الحكم بأنوثته رجوع إليها، وذلك غير معتبر بلا خلاف بل بمجرد العلم بالحمل يحكم بأنه أنثى

 

ج / 2 ص -42-         وإن لم يرض، وكلام الغزالي محمول على هذا فكأنه قال فلا يقبل رجوعه بل يجري عليه الأحكام إلا أن يكذبه الحس، فالاستثناء راجع إلى جريان الأحكام لا إلى قبول الرجوع، وهذا الذي ذكرناه -من منع قبول الرجوع- هو فيما عليه، ويقبل رجوعه عما هو له قطعا، وقد نبه عليه إمام الحرمين، وأهمله الغزالي والرافعي وغيرهما.
الرابع: إذا أخبر حكم بقوله في جميع الأحكام، سواء ما له وما عليه، وقال إمام الحرمين: لأن ابن عشر سنين، لو قال: بلغت صدقناه، لأن الإنسان أعرف بما جبل عليه.
قال البغوي وغيره: حتى لو مات للخنثى قريب فأخبر بالذكورة - وإرثه بها يزيد - قبل قوله وحكم له بمقتضاه، ولو قطع طرفه فأخبر بالذكورة وجب له دية رجل.
وقال إمام الحرمين في كتاب الجنايات: "لو أقر الخنثى بعد الجناية على ذكره بأنه رجل فظاهر المذهب أنه لا يقبل إقراره لإيجاب القصاص" قال: "ومن أصحابنا من قال: يقبل، وهذا مزيف لا أصل له والوجه القطع بأن قوله غير مقبول -بعد الجناية- إذا كان يتضمن ثبوت حق لولاه لم يثبت، مالا كان أو قصاصا لأنه متهم" وهذا الذي ذكره الإمام ظاهر، والخلاف في إقراره بعد الجناية، أما قبله فمقبول في كل شيء بلا خلاف.
الخامس: قد سبق أنه إنما يرجع إلى قوله إذا عجزنا عن العلامات فلو حكمنا بقوله ثم وجد بعض العلامات، فالذي يقتضيه كلام الأصحاب أنه لا يبطل قوله بذلك؛ لأنهم قالوا: لا يرجع عنه إلا أن يكذبه الحس؛ لأنه حكم لدليل، فلا يترك بظن مثله، بل لا بد من دليل قاطع، وذكر الرافعي فيه احتمالين لنفسه أحدهما: هذا، والثاني: يحتمل أن يحكم بالعلامة كما لو تداعى اثنان طفلا، وليس هناك قائف، فانتسب بعد بلوغه إلى أحدهما، ثم وجدنا قائفا، فإنا نقدم القائف على إخباره والله أعلم.
الفصل الثاني: في أحكام الخنثى المشكل على ترتيب المهذب مختصرة جدا فإذا لم يتبين الخنثى بعلامة ولا إخباره بقي على إشكاله، وحيث قالوا: خنثى فمرادهم المشكل وقد يطلقونه -نادرا- على الذي زال إشكاله لقرينة يعلم بها، كقوله في "التنبيه" في باب الخيار في النكاح: "وإن وجد أحد الزوجين الآخر خنثى ففي ثبوت الخيار قولان، وهذه نبذة من أحكامه".
إذا توضأ الخنثى المشكل أو اغتسل أو تيمم لعجزه عن الماء بسبب إيلاج وملامسة فإن كان في موضع حكمنا بانتقاض طهارته صار الماء والتراب مستعملا. وكل موضع لم يحكم بانتقاضها للاحتمال ففي مصيره مستعملا الوجهان في المستعمل في نقل الطهارة ذكره القاضي أبو الفتوح. وفي ختانه وجهان سبقا في باب السواك، الأصح: لا يختن، وحكم لحيته الكثيفة كلحية المرأة في الوضوء لا في استحباب حلقها وقد سبق بيانه في الوضوء، ولو خرج شيء من فرجيه انتقض وضوءه فإن خرج من أحدهما، ففيه ثلاث طرق سبقت في أول هذا الباب، ولو لمس رجلا أو امرأة أو لمسه أحدهما، لم يوجب الوضوء على أحد منهم, وإن مس ذكر نفسه أو فرجه أو فرج خنثى آخر، أو

 

ج / 2 ص -43-         ذكره لم ينتقض، وكذا لو مس فرجه رجل، أو ذكره امرأة - وقد سبق بيانه ولو مس إنسان ذكرا مقطوعا. وشك هل هو ذكر خنثى؟ أو ذكر رجل.
قال القاضي أبو الفتوح في كتابه كتاب الخناثى: يحتمل أن لا ينتقض. قطعا للشك قال: والأصح أنه على الوجهين في ذكر الرجل المقطوع لندوره، ولا يجزيه الاستنجاء بالحجر في قبليه على الأصح، وقيل وجهان. ولو أولج في فرج أو أولج رجل في قبله لم يتعلق به حكم الوطء فلو أولج في امرأة وأولج في قبله رجل، وجب الغسل على الخنثى ويبطل صومه وحجه لأنه إما رجل أولج، وإما امرأة وطئت، ولا كفارة عليه في الصوم إن قلنا: لا يجب على المرأة، لاحتمال أنه المرأة ويستحب له إخراجها.
قال البغوي: وكل موضع لا نوجب الغسل على الخنثى لا نبطل صومه ولا حجه ولا نوجب على المرأة التي أولج فيها عدة، ولا مهر لها ولو أولج ذكره في دبر رجل ونزعه لزمهما الوضوء لأنه إن كان رجلا لزمهما الغسل وإن كان امرأة فقد لمست رجلا وخرج من دبر الرجل شيء، فغسل أعضاء الوضوء واجب، والزيادة مشكوك فيها والترتيب في الوضوء واجب لتصح طهارته، وقيل لا يجب وهو غلط وسنوضحه في بابه إن شاء الله تعالى.
ولو أن خنثيين أولج كل واحد في فرج صاحبه، فلا شيء على واحد منهما، لاحتمال زيادة الفرجين، ولو أولج كل واحد في دبر صاحبه، لزمهما الوضوء بالإخراج، ولا غسل لاحتمال أنهما امرأتان، ولو أولج أحدهما في فرج صاحبه، والآخر في دبر الأول لزمهما الوضوء بالنزع لاحتمال أنهما امرأتان ولا غسل.
وإذا أمنى الخنثى من فرجيه لزمه الغسل، ومن أحدهما قيل: يجب، وقيل: وجهان. قال البغوي: ولو أمنى من الذكر وحاض من الفرج وحكمنا ببلوغه وإشكاله لم يجز له ترك الصلاة والصوم لذلك الدم، لجواز أنه رجل، ولا يمس المصحف ولا يقرأ في غير الصلاة، فإذا انقطع الدم اغتسل لجواز كونه امرأة، ولو أمنى من الذكر اغتسل ولا يمس المصحف ولا يقرأ حتى يغتسل، هكذا نقل البغوي هذه المسائل عن ابن سريج، ثم قال: والقياس أنه لا يجب الغسل بانقطاع الدم ولا يمنع المصحف والقرآن كما لا يترك الصلاة لذلك الدم، فإن أمنى معه وجب، كما لا يجب الوضوء بمس أحد فرجيه، ويجب لهما جميعا قال: وما ذكره ابن سريج احتياط.
قلت: وقطع القاضي أبو الفتوح بأنه لا يجب الغسل بخروج الدم من الفرجين وإن استمر يوما وليلة لاحتمال أنه رجل، وهذا دم فساد بخلاف المني من الفرجين لأنه لا يكون فاسدا، وبول الخنثى الذي لم يأكل شيئا كالأنثى فلا يكفي نضحه على المذهب.
وله حكم المرأة في الأذان والإقامة، ولو صلى مكشوف الرأس صحت صلاته، هكذا أطلقه البغوي وكثيرون.
وقال أبو الفتوح: يجب عليه ستر جميع عورة المرأة فإن كشف بعضهما مما سوى عورة الرجل أمرناه بستره، فإن لم يفعل، وصلى كذلك لم تلزمه الإعادة للشك، وذكر في وجوب الإعادة

 

ج / 2 ص -44-         وجهين، ولا يجهر بالقراءة في الصلاة كالمرأة ولا يجافي مرفقيه عن جنبيه في الركوع والسجود كالمرأة.
وقال أبو الفتوح: لا نأمره بالمجافاة ولا بتركها بل يفعل أيهما شاء، والمختار ما قدمناه، وإذا نابه شيء في صلاته صفق كالمرأة، ولا يؤم رجلا ولا خنثى فإن أم نساء وقف قدامهن، ولا جمعة عليه بالاتفاق لكن يستحب.
قال أبو الفتوح: فلو صلى الظهر، ثم بان رجلا وأمكنه إدراك الجمعة لزمه السعي إليها، فإن لم يفعل لزمه إعادة الظهر وهذا تفريع على الصحيح أن الرجل إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة لا يجزئه، قال: ولو صلى بهم الجمعة أو خطب أو كمل به العدد لزمهم الإعادة، فإن لم يعيدوا حتى بان رجلا، قال: ففي سقوط الإعادة وجهان، الصحيح: تجب الإعادة. ويحرم عليه لبس الحرير؛ لأنه أبيح للنساء للتزين للزوج وإذا مات -فإن كان له قريب من المحارم- غسله وإلا فأوجه أصحها -عند الخراسانيين- يغسله الأجانب من الرجال والنساء للضرورة واستصحابا لما كان في الصغر.
والثاني: يغسله أوثق من هناك من الرجال، أو النساء من فوق ثوب، قاله الماوردي.
والثالث: يشتري له جارية من ماله، وإلا فمن بيت المال تغسله، ثم تباع وهذا ضعيف بالاتفاق.
والرابع: هو كرجل أو امرأة لم يحضرهما إلا أجنبية أو أجنبي وفيه وجهان.
أحدهما: ييمم والثاني: يغسل من فوق ثوب. وهذا الرابع اختاره ابن الصباغ والمتولي والشاشي وغيرهم، ويستحب تكفينه في خمسة أثواب كالمرأة وإذا مات محرما، قال البغوي لا يخمر رأسه ولا وجهه، وهذا إن أراد به أنه يستحب فهو حسن احتياطا؛ لأنه إن كان رجلا وجب كشف رأسه، وإن كان امرأة وجب كشف الوجه، فالاحتياط كشفهما، وإن أراد وجوب ذلك فهو مشكل، وينبغي أن يكفي كشف أحدهما. ويقف الإمام في الصلاة عليه عند عجيزته كالمرأة، ولو حضر جنائز قدم الإمام الرجل ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة، ولو صلى الخنثى على الميت فله حكم المرأة، ولا يسقط به الفرض على أصح الوجهين. ويتولى حمل الميت ودفنه الرجال، فإن فقدوا فالخناثى ثم النساء، وحيث أوجبنا في الزكاة أنثى لم تجزئ الخنثى، وحيث أوجبنا الذكر أجزأ الخنثى على الصحيح، وفيه وجه لقبح صورته ويعد ناقصا.
ولا يباح له حلي النساء، وكذا لا يباح له أيضا حلي الرجال للشك في إباحته. ذكره القاضي أبو الفتوح.
ولو كان صائما فباشر بشهوة فأمنى بأحد فرجيه أو رأى الدم يوما وليلة لم يفطر، وإن اجتمعا أفطر وليس له الاعتكاف في مسجد بيته، وإن جوزناه للمرأة وفيه احتمال لأبي الفتوح، قال:

 

ج / 2 ص -45-         ولا يبطل اعتكافه بخروج الدم من فرجه ولا يخرج من المسجد إلا أن يخاف تلويثه، ولو أولج في دبره بطل اعتكافه ولو أولج في قبله أو أولج هو في رجل أو امرأة أو خنثى ففي بطلان اعتكافه قولان، كالمباشرة بغير جماع قال أبو الفتوح: ولا يلزمه الحج إلا إذا كان له محرم من الرجال أو النساء كأخيه وأخواته يخرجون معه، ولا أثر لنسوة ثقات أجنبيات فإنه لا تجوز الخلوة بهن.
قال أصحابنا: وإذا أحرم فستر رأسه أو وجهه فلا فدية، فإن سترهما وجبت، وإن لبس المخيط وستر وجهه وجبت، وإن لبسه وستر رأسه فلا، لاحتمال أنه امرأة، ويستحب ترك المخيط فإن لبسه استحبت الفدية ولا يرفع صوته بالتلبية ولا يرمل ولا يضطبع ولا يحلق بل يقصر ويمشي في كل المسعى ولا يسعى كالمرأة ويستحب له أن يطوف ويسعى ليلا، كالمرأة لأنه أستر فإن طاف نهارا طاف متباعدا عن الرجال والنساء وله حكم المرأة في الذبح فالرجل أولى منه.
قال البغوي: ولو أولج البائع أو المشتري في زمن الخيار أو الراهن أو المرتهن في فرج الخنثى فليس له حكم الوطء في الفسخ والإجازة وغيره، قال: فإن اختار الأنوثة بعده تعلق بالوطء السابق الحكم، ولو اشترى خنثى قد وضح وبان رجلا فوجده يبول بفرجيه فهو عيب لأن ذلك لاسترخاء المثانة، وإن كان يبول بفرج الرجال فليس بعيب، وإذا وكل في قبول نكاح أو طلاق فلم أر فيه نقلا، وينبغي أن يكون كالمرأة للشك في أهليته، فلو أولج فيه غاصب قهرا فلا مهر كما سبق ولا يدخل في الوقف على البنين ولا على البنات، ويدخل في الوقف عليهما على الصحيح وفيه وجه، ويدخل في الوقف على الأولاد. وليس لمن وهب لأولاده وفيهم خنثى أن يجعله كابن فلا يفضل الابن عليه وجها واحدا، وإن كان يفضل الابن على البنت على وجه ضعيف، ولو أوصى بعتق أحد رقيقيه دخل فيه الخنثى على الصحيح، وفيه وجه ويورث - اليقين هو ومن معه - ويوقف ما يشك فيه.
ولو قال له سيده: إن كنت ذكرا فأنت حر:
قال البغوي: إن اختار الذكورة أو الأنوثة فلا، وإن مات قبل الاختيار فكسبه لسيده؛ لأن الأصل رقه، وقيل يقرع فإن خرج سهم الحرية فهو موروث، وإن خرج سهم الرق فهو لسيده ويحرم على الرجال والنساء النظر إليه إذا كان في سن يحرم النظر فيه إلى الواضح ولا تثبت له ولاية النكاح ولا ينعقد بشهادته ولا بعبارته ,ولو ثار له لبن لم تثبت به أنوثته على المذهب، فلو رضع منه صغير يوقف في التحريم، فإن بان أنثى حرم لبنه وإلا فلا، وأما حضانته وكفالته بعد البلوغ فلم أر فيه نقلا، وينبغي أن يكون كالبنت البكر حتى يجيء في جواز استقلاله وانفراده عن الأبوين إذا شاء وجهان،. وديته دية امرأة، فإن ادعى وارثه أنه كان رجلا صدق الجاني بيمينه ولا يتحمل الدية مع العاقلة. ولا يقتل في القتال إذا كان حربيا إلا إذا قاتل كالمرأة، وإذا أسرناه لم يقتل إلا إذا اختار الذكورة، ولا يسهم له في الغنيمة ويرضخ له كالمرأة. 
ولا تؤخذ منه جزية فإن اختار الذكورة بعد مضي سنة أخذت منه جزية ما مضى ولا يكون إماما ولا قاضيا،. ولا يثبت بشهادته إلا ما يثبت بامرأة، وشهادة خنثيين كرجل، فهذه أطراف من مسائل

 

ج / 2 ص -46-         الخنثى نقحتها ولخصتها مختصرة وستأتي إن شاء الله تعالى مبسوطة بأدلتها وفروعها في مواطنها، وقل أن تراها في غير هذا الموضع هكذا والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وما سوى هذه الأشياء الخمسة لا ينقض الوضوء، كدم الفصد والحجامة والقيء لما روى أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى، ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه".
الشرح: أما حديث أنس هذا فرواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما وضعفوه ويغني عنه ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومذهبنا أنه لا ينتقض الوضوء بخروج شيء من غير السبيلين، كدم الفصد والحجامة والقيء والرعاف سواء قل ذلك أو كثر. وبهذا قال ابن عمر وابن عباس وابن أبي أوفى وجابر وأبو هريرة وعائشة وابن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد وطاوس وعطاء ومكحول وربيعة ومالك وأبو ثور وداود. قال البغوي: وهو قول أكثر الصحابة والتابعين.
وقالت طائفة: يجب الوضوء بكل ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
قال الخطابي: وهو قول أكثر الفقهاء، وحكاه غيره عن عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما وعن عطاء وابن سيرين وابن أبي ليلى وزفر. ثم اختلف هؤلاء في الفرق بين القليل والكثير، واحتجوا بما روي عن معدان بن طلحة عن أبي الدرداء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر". قال معدان فلقيت ثوبان فذكرت ذلك له، فقال: "أما صببت له وضوءه ؟".
وعن إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس أو رعف فليتوضأ، ثم ليبن على ما مضى ما لم يتكلم". وبما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فتوضئي لكل صلاة" فعلل وجوب الوضوء بأنه دم عرق وكل الدماء كذلك.
وعن يزيد بن خالد عن يزيد بن محمد عن عمر بن عبد العزيز عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم "الوضوء من كل دم سائل". وعن سلمان قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد سال من أنفي دم فقال:
أحدث لذلك وضوءا". وعن ابن عباس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رعف في صلاته توضأ، ثم بنى على ما بقي من صلاته". ولأنه نجس خرج إلى محل يلحقه حكم التطهير فنقض كالبول.
واحتج أصحابنا بحديث أنس المذكور في الكتاب لكنه ضعيف كما سبق، وأجود منه حديث جابر: "أن رجلين 1  من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرسا المسلمين ليلة في غزوة ذات الرقاع، فقام أحدهما يصلي، فجاء رجل من الكفار فرماه بسهم فوضعه فيه، فنزعه ثم رماه بآخر ثم ركع وسجد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هما عباد بن بشر وعمار بن ياسر والذي أصيب هو الأول ولما سأله عمار عما أخره عن الخروج من الصلاة قال: كنت في سورة الكهف فخشيت أن أقطعها.

 

ج / 2 ص -47-         ودماؤه تجري". رواه أبو داود في سننه بإسناد حسن. واحتج به أبو داود، وموضع الدلالة أنه خرج دماء كثيرة واستمر في الصلاة، ولو نقض الدم لما جاز بعده الركوع والسجود وإتمام الصلاة. وعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم ينكره وهذا محمول على أن تلك الدماء لم يكن يمس ثيابه منها إلا قليل يعفى عن مثله. هكذا قاله أصحابنا ولا بد منه وأنكر الخطابي على من يستدل بهذا الحديث مع سيلان الدماء على ثيابه وبدنه ويجاب عنه بما ذكرنا.
واحتجوا أيضا بما رواه البيهقي عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم في ترك الوضوء من ذلك ولأن ما لا يبطل قليله لا يبطل كثيره كالجشاء وهذا قياس الشافعي. وأحسن ما أعتقده في المسألة أن الأصل أن لا نقض حتى يثبت بالشرع ولم يثبت، والقياس ممتنع في هذا الباب؛ لأن علة النقض غير معقولة.  وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث أبي الدرداء فمن أوجه أحسنها أنه ضعيف مضطرب، قاله البيهقي وغيره من الحفاظ.
والثاني: لو صح لحمل على ما تغسل به النجاسة، وهذا جواب البيهقي وغيره.
والثالث: أنه يحتمل الوضوء لا بسبب القيء فليس فيه أنه توضأ من القيء
والجواب عن حديث ابن جريج من أوجه أحسنها أنه ضعيف باتفاق الحفاظ، وضعفه من وجهين:
أحدهما: أن رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج، وابن جريج حجازي، ورواية إسماعيل عن أهل الحجاز ضعيفة عند أهل الحديث.
والثاني: أنه مرسل، قال الحفاظ: المحفوظ في هذا أنه عن ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ممن قال ذلك الشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى الذهلي وعبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه وأبو زرعة وأبو أحمد بن عدي والدارقطني والبيهقي وغيرهم، وقد بين الدارقطني والبيهقي ذلك أحسن بيان.
والجواب الثاني: لو صح لحمل على غسل النجاسة كما سبق وبه أجاب الشافعي والأصحاب وغيرهم، والثالث: أنه محمول على الاستحباب.
والجواب عن حديث المستحاضة من وجهين:
أحدهما: أنه ضعيف غير معروف، وحديث المستحاضة مشهور في "الصحيحين" بغير هذه الزيادة، وهي ذكر الوضوء فهي زيادة باطلة.
والثاني: لو صح لكان معناه إعلامها أن هذا الدم ليس حيضا بل هو موجب للوضوء لخروجه من محل الحدث ولم يرد أن خروج الدم -من حيث كان- يوجب الوضوء، ومن العجب تمسكهم

 

ج / 2 ص -48-         بهذا الحديث الضعيف الذي لو صح لم يكن فيه دلالة، وقد قال إمام الحرمين في "الاساليب": إن هذا الحديث مما يعتمدونه وهذا أشد تعجبا.
وأما حديث تميم الداري، فجوابه من أوجه أحدها: أنه ضعيف وضعفه من وجهين:
أحدهما: أن يزيد ويزيد الراويين مجهولان.
والثاني: أنه مرسل أو منقطع، فإن عمر بن عبد العزيز لم يسمع تميما.
الجواب الثاني والثالث: لو صح حمل على غسل النجاسة أو الاستحباب، والجواب عن حديثي سلمان وابن عباس من الأوجه الثلاثة، وأما قياسهم فرده أصحابنا وقالوا: الحدث المجمع عليه غير معقول المعنى ولا يصح القياس لعدم معرفة العلة.
قال أبو بكر بن المنذر: لا وضوء في شيء من ذلك لأني لا أعلم - مع من أوجب الوضوء فيه - حجة. هذا كلام ابن المنذر الذي لا شك في إتقانه وتحقيقه وكثرة اطلاعه على السنة ومعرفته بالدلائل الصحيحة وعدم تعصبه والله أعلم.
وأما قول المصنف: لا ينقض الوضوء بشيء سوى هذه الخمسة فهو كقوله في أول الباب الذي ينقضه خمسة، وقد قدمنا في أول الباب أنه ترك ثلاثة: انقطاع الحدث الدائم، ونزع الخف، والردة على خلاف فيهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وكذلك أكل شيء من اللحم لا ينقض الوضوء، وحكى ابن القاص قولا آخر: أن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء، وليس بمشهور، والدليل على أنه لا ينقض الوضوء: ما روى جابر رضي الله عنه قال:
"كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار". ولأنه إذا لم ينتقض الوضوء بأكل لحم الخنزير -وهو حرام- فلأن لم ينتقض بغيره أولى".
الشرح: حديث جابر صحيح، رواه أبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة، ومذهبنا أنه لا ينتقض الوضوء بشيء من المأكولات، سواء ما مسته النار وغيره غير لحم الجزور وفي لحم الجزور بفتح الجيم وهو لحم الإبل قولان، الجديد المشهور لا ينتقض، وهو الصحيح عند الأصحاب والقديم أنه ينتقض. وهو ضعيف عند الأصحاب ولكنه هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل وهو الذي أعتقد رجحانه، وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه واختياره والذب عنه، وسنرى دليله إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب أحدها: لا يجب الوضوء بأكل شيء سواء ما مسته النار ولحم الإبل وغير ذلك، وبه قال جمهور العلماء وهو محكي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي طلحة وأبي الدرداء وابن عباس وعامر بن ربيعة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه قال جمهور التابعين ومالك وأبو حنيفة

 

ج / 2 ص -49-         وقالت طائفة: يجب مما مسته النار، وهو قول عمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وأبي قلابة وأبي مجلز وحكاه ابن المنذر عن جماعة من الصحابة ابن عمر وأبي طلحة وأبي موسى وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم.
وقالت طائفة: يجب من أكل لحم الجزور خاصة، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى، وحكاه الماوردي عن جماعة من الصحابة زيد بن ثابت وابن عمر وأبي موسى وأبي طلحة وأبي هريرة وعائشة، وحكاه ابن المنذر عن جابر بن سمرة الصحابي ومحمد بن إسحاق وأبي ثور وأبي خيثمة واختاره من أصحابنا أبو بكر بن خزيمة وابن المنذر، وأشار إليه البيهقي كما سبق.
واحتج من أوجبه مما مست النار بأحاديث صحيحة منها حديث زيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"توضئوا مما مست النار". رواها كلها مسلم في صحيحه، وفي المسألة عن أبي طلحة وأبي موسى وأبي سعيد وأم حبيبة وأم سلمة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة، منها حديث ابن عباس:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ". رواه البخاري ومسلم.
وعن عمرو بن أمية الضمري قال:
"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة يأكل منها ثم صلى ولم يتوضأ". رواه البخاري ومسلم من طرق، وعن ميمونة "أن النبي صلى الله عليه وسلم: أكل عندها كتفا ثم صلى ولم يتوضأ". رواه مسلم.
وعن أبي رافع قال:
"أشهد لكنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الشاة ثم صلى ولم يتوضأ". رواه مسلم، وعن جابر وعائشة وأم سلمة مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي وغيره: وفي الباب عن عثمان وابن مسعود وسويد بن النعمان ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمرو بن العاص والمغيرة وأبي هريرة وعبد الله بن الحارث ورافع بن خديج وغيرهم.
واحتج الأصحاب أيضا بحديث جابر المذكور في الكتاب، واعترض عليه جماعة ممن نفى القول بإيجاب الوضوء، فقالوا: لا دلالة فيه؛ لأنه مختصر من حديث طويل رواه أبو داود وغيره عن جابر قال:
"ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى امرأة من الأنصار فقربت شاة مصلية (أي: مشوية،) فأكل وأكلنا فحانت الظهر، فتوضأ ثم صلى، ثم رجع إلى فضل طعامه فأكل، ثم حانت صلاة العصر فصلى ولم يتوضأ". قالوا: فقوله: "آخر الأمرين" يريد هذه القضية وأن الصلاة الثانية هي آخر الأمرين يعني آخر الأمرين من الصلاتين لا مطلقا، وممن قال هذا التأويل أبو داود السجستاني.
قالوا: والأحاديث الواردة بالأمر بالوضوء متأخرة على حديث جابر وناسخة له، وممن قال هذا الزهري وغيره فعندهم أن أحاديث ترك الوضوء منسوخة بأحاديث الأمر به، وهذا الذي قالوه ليس كما زعموه، فأما تأويلهم حديث جابر فهو خلاف الظاهر بغير دليل فلا يقبل وهذه الرواية المذكورة لا

 

ج / 2 ص -50-         تخالف كونه آخر الأمرين، فلعل هذه القضية هي آخر الأمرين واستمر العمل بعدها على ترك الوضوء، ولا يجوز أيضا أن يكون ترك الوضوء قبلها، فإنه ليس فيها أن الوضوء كان لسبب الأكل، وأما دعواهم نسخ أحاديث ترك الوضوء فهي دعوى بلا دليل فلا تقبل.
وروى البيهقي عن الإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي شيخ مسلم قال: اختلف الأول والآخر من هذه الأحاديث، فلم يقف على الناسخ منها ببيان يحكم به فأخذنا بإجماع الخلفاء الراشدين والأعلام من الصحابة رضي الله عنهم في الرخصة في ترك الوضوء مع أحاديث الرخصة.
والجواب عن أحاديثهم أنها منسوخة هكذا أجاب الشافعي وأصحابه وغيرهم من العلماء، ومنهم من حمل الوضوء فيها على المضمضة وهو ضعيف.
واحتج القائلون بوجوب الوضوء بأكل لحم الجزور بحديث جابر بن سمرة
"أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل". رواه مسلم من طرق.
وعن البراء "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فأمر به". قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديثان حديث جابر والبراء.
وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: لم نر خلافا بين علماء الحديث في صحة هذا الحديث وانتصر البيهقي لهذا المذهب، فقال بعد أن ذكر ما ذكرناه: وأما ما روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم "الوضوء مما خرج، وليس مما دخل". فمرادهما ترك الوضوء مما مست النار. قال: وأما ما روي عن أبي جعفر عن ابن مسعود "أنه أتي بقصعة من لحم الجزور من الكبد والسنام، فأكل ولم يتوضأ" فهو منقطع وموقوف قال وبمثل هذا لا يترك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتج أصحابنا بأشياء ضعيفة في مقابلة هذين الحديثين فتركتها لضعفها، والمعتمد للمذهب حديث جابر المذكور: "كان آخر الأمرين" ولكن لا يرد عليهم؛ لأنهم يقولون ينتقض بأكله نيئا وأصحابنا يقولون: هو محمول أكله مطبوخا؛ لأنه الغالب المعهود.
وأجاب الأصحاب عن حديث جابر بن سمرة والبراء بجوابين:
أحدهما: أن النسخ بحديث جابر كان آخر الأمرين.
والثاني: حمل الوضوء على غسل اليد والمضمضة. قالوا: وخصت الإبل بذلك لزيادة سهوكة لحمها، وقد نهى أن يبيت وفي يده أو فمه دسم خوفا من عقرب ونحوها، وهذان الجوابان اللذان أجاب بهما أصحابنا ضعيفان. أما حمل الوضوء على اللغوي فضعيف؛ لأن الحمل على الوضوء الشرعي مقدم على اللغوي كما هو معروف في كتب الأصول، وأما النسخ فضعيف أو باطل؛ لأن حديث ترك الوضوء مما مست النار عام، وحديث الوضوء من لحم الإبل خاص، والخاص يقدم على العام، سواء وقع قبله أو بعده وأقرب ما يستروح إليه قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة والله أعلم.

 

ج / 2 ص -51-         فرع: لا فرق عند أحمد بين أكل لحم الإبل مطبوخا ونيئا ومشويا ففي كله الوضوء، وكذا قولنا القديم، ولأحمد رواية أنه يجب الوضوء من شرب لبن الإبل ولا أعلم أحدا وافقه عليها، ومذهبنا ومذهب العلماء كافة لا وضوء من لبنها.
واحتج أصحاب أحمد بحديث عن أسيد بن حضير -بضم أولهما والحاء مهملة والضاد معجمة- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا توضئوا من ألبان الغنم وتوضئوا من ألبان الإبل". رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف فلا حجة فيه ودليلنا أن الأصل الطهارة ولم يثبت ناقض.
واختلف أصحاب أحمد في أكل كبد الجزور وطحاله وسنامه ودهنه ومرقه، وعندنا وعند الجمهور لا ينقض لما سبق في اللبن، وأما قول الغزالي رحمه الله في "الوسيط": لا وضوء مما مسته النار خلافا لأحمد فما أنكروه عليه؛ لأن أحمد لا ينقض بما مست النار، وإنما ينقض بالجزور خاصة والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وكذلك لا ينتقض الطهر بقهقهة المصلي لما روي 1  عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء"
الشرح: حديث جابر هذا روي مرفوعا وموقوفا على جابر ورفعه ضعيف قال البيهقي وغيره: الصحيح أنه موقوف على جابر، وذكره البخاري في صحيحه عن جابر موقوفا عليه، ذكره تعليقا، والضحك معروف، وهو بفتح الضاد وكسر الحاء، هذا أصله، ويجوز إسكان الحاء مع فتح الضاد وكسرها، ويجوز كسرهما فهي أربعة أوجه.
واختلف العلماء في الضحك في الصلاة إن كان بقهقهة، فمذهبنا ومذهب جمهور العلماء أنه لا ينقض، وبه قال ابن مسعود وجابر وأبو موسى الأشعري، وهو قول جمهور التابعين فمن بعدهم.
وروى البيهقي عن أبي الزناد قال: أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبا بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبد الله بن عبيد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار ومشيخة جلة سواهم يقولون: الضحك في الصلاة ينقضها ولا ينقض الوضوء قال البيهقي: وروينا نحوه عن عطاء والشعبي والزهري، وحكاه أصحابنا عن مكحول ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود.
وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة: ينقض الوضوء. وعن الأوزاعي روايتان، وأجمعوا أن الضحك إذا لم يكن فيه قهقهة لا يبطل الوضوء، وعلى أن القهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء.
واحتج للقائلين بالنقض في الصلاة بما روي عن أبي العالية والحسن البصري ومعبد الجهني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في الركبي بحذف (عن)(ط).

 

ج / 2 ص -52-         وإبراهيم النخعي والزهري: "أن رجلا أعمى جاء والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فتردى بماء في بئر؛ فضحك طوائف من الصحابة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة". 
وعن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم "الضحك في الصلاة قرقرة تبطل الصلاة والوضوء". ولأنها عبادة يبطلها الحدث فأبطلها الضحك كالصلاة واحتج أصحابنا بحديث جابر المذكور في الكتاب وقد بيناه، وبأن الضحك لو كان ناقضا لنقض في الصلاة وغيرها كالحدث؛ لأنها صلاة شرعية فلم ينقض الضحك فيها الوضوء، كصلاة الجنازة فقد وافقوا عليها. وذكر الأصحاب أقيسة كثيرة ومعاني، والمعتمد أن الطهارة صحيحة ونواقض الوضوء محصورة، فمن ادعى زيادة فليثبتها، ولم يثبت في النقض بالضحك شيء أصلا.
وأما ما نقلوه عن أبي العالية ورفقته وعن عمران وغير ذلك مما رووه فكلها ضعيفة واهية باتفاق أهل الحديث قالوا: ولم يصح في هذه المسألة حديث وقد بين البيهقي وغيره وجوه ضعفها بيانا شافيا، فلا حاجة إلى الإطالة بتفصيله مع الاتفاق على ضعفها.
وأما قياسهم فلا يصح؛ لأن الأحداث لا تثبت قياسا؛ لأنها غير معقولة العلة كما سبق ولو صح لكان منتقضا بغسل الجنابة فإنه يبطله خروج المني لا يبطله الضحك في الصلاة بالإجماع. قال ابن المنذر بعد أن ذكر اختلاف العلماء فيه: وبقول من قال لا وضوء نقول: لا؛ لأنا لا نعلم لمن أوجب الوضوء حجة. قال: والقذف في الصلاة عند من خالفنا لا يوجب الوضوء فالضحك أولى والله أعلم.
فرع: قدمنا في أول الباب أن الردة لا تنقض الوضوء عندنا على الصحيح وبه قال جمهور العلماء. وقال الأوزاعي وأحمد وأبو ثور وأبو داود: تنقض.
واحتجوا بقوله تعالى
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: من الآية5] ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم "لا وضوء إلا من صوت أو ريح". وهو حديث صحيح سبق بيانه أول الباب. 
والجواب عن الآية الكريمة أن المراد بالإحباط من مات على الردة كما قال سبحانه وتعالى:
{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}[البقرة: من الآية217].
قال المصنف رحمه الله تعالى: والمستحب أن يتوضأ من الضحك في الصلاة ومن الكلام القبيح لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنه قال: "لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أتوضأ من الطعام الطيب"، وقالت عائشة رضي الله عنها: "يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب ولا يتوضأ من الكلمة العوراء". وقال ابن عباس رضي الله عنهم: "الحدث حدثان حدث اللسان وحدث الفرج، وأشدهما حدث اللسان".
الشرح: الأثر المذكور، عن ابن عباس مشهور، رواه البخاري في كتاب الضعفاء، وأشار إلى تضعيفه، وقول عائشة: "الكلمة العوراء" أي القبيحة، قال الهروي قال ابن الأعرابي: تقول العرب للرديء من الأمور والأخلاق أعور والأنثى عوراء ثم إن المصنف حمل هذه الآثار على الوضوء الشرعي الذي هو غسل الأعضاء المعروفة، وكذا حملها ابن المنذر وجماعة من أصحابنا

 

ج / 2 ص -53-         وقال ابن الصباغ: الأشبه أنهم أرادوا غسل الفم، وكذا حملها المتولي على غسل الفم، وحكى الشاشي في "المعتمد" كلام ابن الصباغ. ثم قال: وهذا بعيد بل ظاهر كلام الشافعي أنه أراد الوضوء الشرعي.
قال: والمعنى يدل عليه؛ لأن غسل الفم لا يؤثر فيما جرى من الكلام وإنما يؤثر فيه الوضوء الشرعي، والغرض منه تكفير الخطايا كما ثبت في الأحاديث فحصل أن الصحيح أو الصواب استحباب الوضوء الشرعي من الكلام القبيح، كالغيبة والنميمة والكذب والقذف وقول الزور والفحش وأشباهها. ولا خلاف في استحبابه إذا ضحك في الصلاة ولا يجب شيء من ذلك. 
قال ابن المنذر في كتابيه "الأشراف" و"الإجماع" وابن الصباغ 1 : أجمع العلماء على أنه لا يجب الوضوء من الكلام القبيح، كالغيبة والقذف وقول الزور وغيرها ونقل الروياني عن الشيعة إيجاب الوضوء من ذلك. والشيعة لا يعتد بخلافهم. واحتج الشافعي ثم ابن المنذر ثم البيهقي وأصحابنا في المسألة بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من قال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لغيره: تعال أقامرك فليتصدق". رواه البخاري ومسلم.
فرع: قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله وما أوجب الطهارة فلا فرق فيه بين ما وجد منه بتعمده واختياره، وما وجد بغير تعمد واختيار، كالساهي والمكره على الحدث ومن سبقه الحدث ودليله الكتاب والسنة قال الله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: من الآية6] والجنابة تكون باحتلام وغيره. والاحتلام بغير قصد واختيار وأمر النبي صلى الله عليه وسلم في المذي بالوضوء، وهو يخرج بلا قصد. وقد سبق في اللمس والمس ساهيا وجه شاذ ضعيف أنهما لا ينقضا.
فرع: قال أبو العباس بن القاص في "التلخيص"، "لا يبطل شيء من العبادات بعد انقضاء فعلها إلا الطهارة إذا تمت ثم أحدث فتبطل" قال القفال في "شرح التلخيص" قال غير أبي العباس لا نقول بطلت الطهارة بل نقول انتهت نهايتها. فإن أطلقنا لفظ "بطلت" فهو مجاز وذكر جماعة غير القفال أيضا الخلاف، والأظهر قول من يقول: انتهت، ولا يقول: بطلت إلا مجازا. كما يقال: إذا غربت الشمس انتهى الصوم ولا يقال بطل. وإذا مضت مدة الإجارة يقال: انتهت الإجارة لا بطلت، وقوله: "لا يبطل شيء من العبادات بعد انقضائها" يستثنى منه الردة المتصلة بالموت فإنها تحبط العبادات بالنص والإجماع والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة؛ لأن الطهارة يقين فلا يزال ذلك بالشك. وإن تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على يقين الحدث؛ لأن الحدث بيقين فلا يزال بالشك، وإن تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما نظرت فإن كان قبلهما طهارة فهو الآن محدث؛ لأنه تيقن أن الطهارة قبلهما ورد عليها حدث

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في "الشامل" له نسخة خطية في معهد دمياط الديني كاملة ولعلها أدق نسخة في العالم اليوم.

 

ج / 2 ص -54-         فأزالها، وهو يشك هل ارتفع هذا الحدث بطهارة بعده أم لا؟ فلا يزال يقين الحدث بالشك وإن كان قبلهما حدث فهو الآن متطهر؛ لأنه قد تيقن أن الحدث قبلهما قد ورد عليه طهارة فأزالته، وهو يشك هل ارتفعت هذه الطهارة بحدث بعدها أم لا؟ فلا يزال يقين الطهارة بالشك. وهل كما نقول في رجل أقام بينة بدين وأقام المدعى عليه بينة بالبراءة، فإنا نقدم بينة البراءة؛ لأنا تيقنا أن البراءة وردت على دين واجب فأزالته، ونحن نشك هل اشتغلت ذمته بعد البراءة بدين بعدها؟ فلا يزال يقين البراءة بالشك".
الشرح: في الفصل ثلاث مسائل:
إحداها: إذا تيقن الحدث وشك هل تطهر أم لا؟ فيلزمه الوضوء بالإجماع ودليله مع الإجماع ما ذكره المصنف.
الثانية: تيقن الطهارة، وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة، ولا يلزمه الوضوء، سواء حصل الشك، وهو في صلاة أو غيرها، هذا مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء.
وحكى أصحابنا عن الحسن البصري أنه إن شك وهو في صلاة فلا وضوء عليه، وإن كان في غيرها لزمه الوضوء، وحكى المتولي والرافعي وجها لأصحابنا مثله وعن مالك ثلاث روايات إحداها: مثله، والثانية: يلزمه الوضوء بكل حال، والثالثة: يستحب.
ودليل الجمهور ما ذكره المصنف مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". رواه البخاري ومسلم، وسبق في أول الباب. 
قال أصحابنا: وسواء في الشك استوى احتمالان عنده أو ترجح أحدهما فالحكم سواء. وقد قدمت بيان هذه القاعدة في باب الشك في نجاسة الماء.
قال إمام الحرمين: اتفق الأصحاب على أن من تيقن الوضوء وغلب على ظنه الحدث فله الأخذ بالوضوء، قال: وقد ذكرنا قولين للشافعي رحمه الله في أن ما يغلب على الظن نجاسته هل يحكم بنجاسته؟ قال: وكان شيخي يقول: الفرق بينهما أن الاجتهاد يتطرق إلى تمييز الطاهر من النجس؛ لأن للنجاسة أمارات بخلاف الحدث والطهارة، قال الإمام: وعندي من هذا فضل مباحثة فأقول تمييز الحيض من الاستحاضة، والمني من غيره، إنما هو بالصفات وهذا اجتهاد. فإطلاق القول بأن الاجتهاد لا يتطرق إلى الأحداث غير سديد، ثم ذكر الإمام لنفسه فرقا بعبارة طويلة حاصله أن الأسباب التي تظن بها النجاسة كثيرة جدا، وهي قليلة في الأحداث فلا مبالاة بالنادر منها فتعين التمسك بحكم اليقين.
قال أصحابنا: وإذا تيقن الطهارة وشك في الحدث استحب أن يتوضأ، فإن توضأ ودام الإشكال فوضوءه وصلاته صحيحان مجزيان، وإن بان كونه كان محدثا ففي أجزائه وجهان سبقا في آخر نية الوضوء.

 

ج / 2 ص -55-         المسألة الثالثة: إذا علم أنه جرى منه بعد طلوع الشمس طهارة وحدث لا يعلم أسبقهما ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه بضد ما كان قبل طلوع الشمس ودليله ما ذكره المصنف وهذا الوجه هو قول أبي العباس بن القاص ذكره في باب المسح على الخف من كتابه "التلخيص"، وبه قطع المصنف هنا وفي "التنبيه"، وهكذا قطع به جمهور المصنفين فعلى هذا لو لم يعرف ما كان قبلهما لزمه الوضوء، صرح به الدارمي والمتولي وغيرهما؛ لأنهما تعارضا، وما قبلهما لا يعرف، ولا بد من طهارة متيقنة أو مظنونة أو مستصحبة وليس هنا شيء فوجب الوضوء.
والوجه الثاني: أنه يتعارض الأمران ويسقطان ويكون حكمه ما كان قبلهما فإن كان قبل طلوع الشمس متطهرا فهو الآن متطهر وإلا فمحدث، وهذا الوجه حكاه جماعات من الخراسانيين وحكاه الدارمي وغيره عن ابن المرزبان.
قال الدارمي وغيره - ورجع عنه ابن المرزبان إلى قول ابن القاص حين بلغه، وهذا الوجه غلط لا شك فيه؛ لأنا علمنا بطلان ما قبلهما قطعا، فكيف نحكم ببقائه ونعمل بمقتضاه.
والوجه الثالث: يعمل بما يظنه، فإن تساويا فمحدث، وهذا الوجه اختاره الدارمي في "الاستذكار".
والوجه الرابع: يلزمه الوضوء بكل حال وهذا هو الأظهر المختار حكاه القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وابن الصباغ والمتولي والروياني والشاشي وآخرون، قال القاضي أبو الطيب: هو قول عامة أصحابنا، وأشار ابن الصباغ إلى ترجيحه واختاره الدارمي في كتابه "الاستذكار" وغيره ورجحه غيره، ودليله أن الطهارة والحدث - بعد طلوع الشمس - تعارضا فليس أحدهما أولى من الآخر وما قبلهما تحققنا بطلانه ولا بد من طهارة معلومة أو مظنونة أو مستصحبة فوجب الوضوء، ثم إن الجمهور أطلقوا المسألة، وقال المتولي والرافعي: صورتهما فيمن عادته تجديد الوضوء، فأما من لم يعتده فالظاهر أن طهارته تكون بعد الحدث فيكون الآن متطهرا وتباح له الصلاة والله أعلم.
وأما قول المصنف: لا يزال اليقين بالشك فمعناه حكم اليقين، وقد سبق بيان هذه العبارة في باب الشك في نجاسة الماء. وقوله "الآن" هو الزمان الحاضر وأما قياسه على مسألة البراءة من الدين، فكذا قاسه أصحابنا لكن صورها المتولي تصويرا حسنا مشابها لمسألة الحدث، وقال: استشهد أصحابنا، فقالوا: لو علمنا لزيد على عمرو ألف درهم فأقام عمرو بينة بالأداء أو الإبراء فأقام زيد بينة أن عمرا أقر له بألف درهم مطلقا لم يثبت بهذه البينة شيء لاحتمال أن الألف الذي أقر به هي الألف الذي علمنا وجوبه وقامت البينة ببراءته منه ولا تشغل ذمته بالاحتمال ولهذه المسألة فروع، وتتمات سبق بيانها، في آخر باب الشك في نجاسة الماء، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومن أحدث حرمت عليه الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور". ويحرم عليه الطواف، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه

 

ج / 2 ص -56-         الكلام" ويحرم عليه مس المصحف لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79].
ولما روى حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر". ويحرم عليه حمله في كمه؛ لأنه إذا حرم مسه فلأن يحرم حمله وهو في الهتك أبلغ وأولى.
ويجوز أن يتركه بين يديه ويتصفح أوراقه بخشبة؛ لأنه غير مباشر له ولا حامل له. وهل يجوز للصبيان حمل الألواح وهم محدثون؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز كما لا يجوز لغيرهم.
والثاني: يجوز؛ لأن طهارتهم لا تنحفظ وحاجتهم إلى ذلك ماسة، وإن حمل رجل متاعا، وفي جملته مصحف وهو محدث جاز؛ لأن القصد نقل المتاع فعفي عما فيه من القرآن كما لو كتب كتابا إلى دار الشرك وفيه آيات من القرآن، وإن حمل كتابا من كتب الفقه وفيه آيات من القرآن أو حمل الدراهم الأحدية أو الثياب التي طرزت بآيات من القرآن ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يحمل القرآن.
والثاني: يجوز؛ لأن القصد منه غير القرآن، وإن كان على موضع من بدنه نجاسة فمس المصحف بغيره جاز، وقال القاضي أبو القاسم الصيمري رحمه الله: لا يجوز كما لا يجوز للمحدث أن يمس المصحف بظهره، وإن كانت الطهارة تجب في غيره وهذا لا يصح؛ لأن حكم الحدث يتعدى وحكم النجاسة لا يتعدى محلها".
الشرح: في هذا الفصل مسائل: إحداها: حديث
"لا يقبل الله صلاة بغير طهور". صحيح رواه مسلم من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، وحديث "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام". رواه البيهقي وغيره من رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف، والصحيح عندهم أنه موقوف على ابن عباس، وحديث "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر". رواه المصنف والشيخ أبو حامد، عن حكيم بن حزام والمعروف في كتب الحديث والفقه أنه عن عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه له لما وجهه إلى اليمن وإسناده ضعيف، رواه مالك في الموطأ مرسلا ورواه البيهقي أيضا من رواية ابن عمر والله أعلم.
الثانية: في اللغات والألفاظ والأسماء: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور "هو بضم الطاء ويجوز فتحها في لغة والمراد به فعل الطهارة، وفي المصحف ثلاث لغات ضم الميم وفتحها وكسرها، تقدم بيانهن في نية الوضوء. قوله: "فلأن يحرم" هو بفتح اللام- وقد سبق بيانه في مواضع، والدراهم الأحدية - بفتح الهمزة والحاء وكسر الدال وتشديد الياء - هي المكتوب عليها "قل هو الله أحد". 
وأما حكيم بن حزام - بالزاي - فهو أبو خالد حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى أسلم يوم الفتح وكان ولد في جوف الكعبة ولم يصح أن غيره ولد في الكعبة وعاش مائة وعشرين سنة: ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام وتوفي بالمدينة، وأما الصيمري - فهو بصاد مهملة مفتوحة ثم ياء ساكنة، ثم ميم مفتوحة على المشهور، وحكي ضمها، وقد بينته في (تهذيب الأسماء) وهو

 

ج / 2 ص -57-         منسوب إلى قرية عند البصرة وقيل غير ذلك وهو أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين بن محمد كان من كبار أئمة أصحابنا حضر مجلس أبي حامد المروروذي وتفقه على أبي الفياض وتفقه عليه أقضى القضاة الماوردي صاحب "الحاوي" وكان حافظا للمذهب حسن التصانيف، له مصنفات كثيرة في أنواع من العلوم منها الإيضاح في المذهب نحو سبع مجلدات نفيس وقد بسطت في تهذيب الأسماء.
المسألة الثالثة: أجمع المسلمون على تحريم الصلاة على المحدث وأجمعوا على أنها لا تصح منه سواء إن كان عالما بحدثه أو جاهلا أو ناسيا لكنه إن صلى جاهلا أو ناسيا فلا إثم عليه وإن كان عالما بالحدث وتحريم الصلاة مع الحدث فقد ارتكب معصية عظيمة ولا يكفر عندنا بذلك إلا أن يستحله، وقال أبو حنيفة: يكفر لاستهزائه.
دليلنا أنه معصية فأشبهت الزنا وأشباهه، هذا كله إذا لم يأت ببدل ولا اضطر إلى الصلاة محدثا. 
أما المستحاضة وسلس البول وسائر من به حدث دائم ومن صلى بالتيمم ومن صلى الفرض بلا ماء ولا تراب لعدمهما أو أكره على الصلاة محدثا فلا شك في أنه لا إثم عليه في هذه المواضع في الصلاة وإن كان محدثا.
وحكم سجود التلاوة والشكر حكم الصلاة في ذلك وأما ما يفعله عوام الفقراء وشبههم من سجودهم بين يدي المشايخ - وربما كانوا محدثين - فهو حرام بإجماع المسلمين وسواء في ذلك كان متطهرا أو غيره وسواء استقبل القبلة أم لا وقد يتخيل كثير منهم أن ذلك تواضع وكسر للنفس وهذا خطأ فاحش وغباوة ظاهرة فكيف تكسر النفوس أو تتقرب إلى الله تعالى بما حرمه؟ وربما اغتر بعضهم بقوله تعالى: { )
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [يوسف: من الآية100] والآية منسوخة أو متأولة كما هو معروف في كتب العلماء. وسئل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عن هذا السجود الذي قدمناه فقال: هو من عظائم الذنوب ونخشى أن يكون كفرا.
المسألة الرابعة: يحرم على المحدث الطواف بالكعبة. فإن طاف عصى ولم يصح.
هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وقال أبو حنيفة يصح بلا طهارة وفي تحريمه عنه روايتان دليلنا الحديث المذكور وهو صحيح عن ابن عباس كما ذكرنا. وثبت في الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ للطواف وقال:
"لتأخذوا عني مناسككم". وسواء الطواف في حج وعمرة وغيره والله أعلم.
المسألة الخامسة : يحرم على المحدث مس المصحف وحمله سواء إن حمله بعلاقته أو في كمه أو على رأسه. وحكى القاضي حسين والمتولي وجها أنه يجوز حمله بعلاقته وهو شاذ في المذهب وضعيف.

 

ج / 2 ص -58-         قال أصحابنا: وسواء مس نفس الأسطر أو ما بينها أو الحواشي أو الجلد فكل ذلك حرام. وفي مس الجلد وجه ضعيف أنه يجوز وحكى الدارمي وجها شاذا بعيدا أنه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي ولا ما بين الأسطر ولا يحرم إلا نفس المكتوب. والصحيح الذي قطع به الجمهور تحريم الجميع.
وفي مس العلاقة والخريطة والصندوق إذا كان المصحف فيها وجهان مشهوران أصحهما يحرم، وبه قطع المتولي والبغوي؛ لأنه متخذ للمصحف منسوب إليه كالجلد. والثاني: يجوز، واختاره الروياني في مس الصندوق وأما حمل الصندوق وفيه المصحف فاتفقوا على تحريمه.
قال أبو محمد الجويني في "الفروق": وكذا يحرم تحريكه من مكان إلى مكان، وأما إذا تصفح أوراقه بعود ففيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين أصحهما وبه قطع المصنف وسائر العراقيين يجوز؛ لأنه غير مباشر له ولا حامل.
والثاني: لا يجوز ورجحه الخراسانيون؛ لأنه حمل الورقة وهي بعض المصحف، ولو لف كمه على يده وقلب الأوراق بها فهو حرام. هكذا صرح به الجمهور منهم الماوردي والمحاملي في "المجموع" وإمام الحرمين والغزالي والروياني وغيرهم، وفرقوا بينه وبين العود بأن الكم متصل به وله حكم أجزائه في منع السجود عليه وغيره بخلاف العود. قال إمام الحرمين: ولأن التقليب يقع باليد لا بالكم، قال: ومن ذكر فيه خلافا فهو غالط، وشذ الدارمي عن الأصحاب فقال إن مسه بخرقة أو بكمه فوجهان، وإن مسه بعود جاز.
وأما إذا حمل المصحف في متاع فوجهان حكاهما الماوردي والخراسانيون أصحهما وبه قطع المصنف والجمهور، ونقله الماوردي والبغوي عن نص الشافعي يجوز؛ لأنه غير مقصود.
والثاني: يحرم؛ لأن حامله حقيقة ولا أثر لكون غيره معه، كما لو حمل المصلي متاعا فيه نجاسة فإن صلاته تبطل، قال الماوردي: وصورة المسألة أن يكون المتاع مقصودا بالحمل، فإن كان بخلافه لم يجز، وإنما قاس المصنف على ما إذا كتب كتابا إلى دار الشرك فيه آيات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى دار الشرك كتابا فيه شيء من القرآن مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن المسافرة بالقرآن إلى دار الكفر، فدل على أن الآيات في ضمن كتاب لا يكون لها حكم المصحف والله سبحانه أعلم.
وأما إذا حمل كتاب فقه وفيه آيات من القرآن أو كتاب حديث فيه آيات، أو دراهم أو ثوبا أو عمامة طرز بآيات أو طعاما نقش عليه آيات فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما أصحهما بالاتفاق جوازه. وقطع به إمام الحرمين والبغوي وجماعات، ومنهم من قطع به في الثوب وخص الخلاف بالدراهم، وعكسه المتولي فقطع بجواز مس كتاب الفقه وجعل الوجهين في مس ثوب أو خشبة أو حائط أو طعام أو دراهم عليها آيات، وكذا ذكر غيره الوجهين في مس الحائط أو الحلوى والخبز المنقوش بقرآن والصحيح الجواز مطلقا؛ لأنه ليس بمصحف ولا في معناه قال المتولي وغيره: إذا لم نحرمه فهو مكروه. وفيما قالوه نظر.

 

ج / 2 ص -59-         وقال الماوردي: الدراهم والدنانير المنقوشة بقرآن ضربان: ضرب لا يتداوله الناس كثيرا ولا يتعاملون به غالبا كالتي عليها سورة الإخلاص، وضرب يتداولونه كثيرا، فالأول لا يجوز حمله، وفي الثاني الوجهان. والمشهور في كتب الأصحاب إطلاق الوجهين بلا فرق بين المتداول وغيره. فالفرق غريب نقلا ضعيف دليلا، قال القاضي حسين: ويجوز مس خاتم نقش بآيات وحمله، ولعله فرعه على الصحيح وإلا فهو كالدراهم.
وأما إذا كان على موضع من بدنه نجاسة غير معفو عنها فإن أصاب المصحف بموضع النجاسة فهو حرام بلا خلاف وإن أصابه بغيره فوجهان. الصحيح أنه لا يحرم وبه قطع الجمهور وقال الصيمري: يحرم. وقد ذكر المصنف دليلهما. قال القاضي أبو الطيب: هذا الذي قاله الصيمري مردود بالإجماع.
قال المتولي: إذا قلنا بالمذهب أنه لا يحرم فهو مكروه وفيما قاله نظر.
وأما الصبي فإن كان غير مميز لم يجز لوليه تمكينه من المصحف لئلا ينتهكه وإن كان مميزا فهل يجب على الولي والمعلم تكليفه الطهارة لحمل المصحف واللوح ومسهما؟ فيه وجهان مشهوران أصحهما عند الأصحاب لا يجب للمشقة. ونقله الماوردي عن أكثر الأصحاب، وقطع القاضي حسين والمتولي به في اللوح، وذكر الوجهين في المصحف، وقطع الجرجاني بأنه لا يمنع من مس المصحف واللوح في المكتب، والمشهور طرد الوجهين فيهما في المكتب وغيره، وقول المصنف: هل يجوز للصبيان؟ فيه وجهان، أحدهما: لا يجوز، والثاني: يجوز، وقد قال مثله الفوراني وابن الصباغ والروياني وهو تساهل، فإن الصبي ليس مكلفا فكيف يقال هل يجوز له؟ فيه وجهان والعبارة الصحيحة ما قدمناه والله أعلم
فرع: في مسائل: إحداها: أجمع المسلمون على جواز قراءة القرآن للمحدث والأفضل أنه يتطهر لها، قال إمام الحرمين والغزالي في "البسيط": ولا نقول قراءة المحدث مكروهة، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مع الحدث.
الثانية: كتاب تفسير القرآن إن كان القرآن فيه أكثر، كبعض كتب غريب القرآن حرم مسه وحمله وجها واحدا، كذا ذكره الماوردي وغيره ونقله الروياني عن الأصحاب، وإن كان التفسير أكثر كما هو الغالب ففيه أوجه أصحها لا يحرم؛ لأنه ليس بمصحف، وبهذا قطع الدارمي وغيره.
والثاني: يحرم لتضمينه قرآنا كثيرا.
والثالث: إن كان القرآن متميزا عن التفسير بخط غليظ حمرة أو صفرة ونحو ذلك حرم وإلا فلا، وبه قطع القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وضعفه غيرهم. قال المتولي: وإذا لم يحرم كره. وأما كتب القراءات فجعلها الشيخ نصر المقدسي ككتب الفقه وقطع هو بجوازها.
وأما كتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق الماوردي والقاضي حسين والبغوي وغيرهم جواز مسها

 

ج / 2 ص -60-         وحملها مع الحدث؛ وقال المتولي والروياني: يكره، والمختار ما قاله آخرون أنه إن لم يكن فيها شيء من القرآن جاز؛ والأولى أن لا يفعل إلا بطهارة، وإن كان فيها قرآن فعلى الوجهين في كتب الفقه. 
الثالثة: يجوز للمحدث مس التوراة والإنجيل وحملهما. وكذا قطع به الجمهور وذكر الماوردي والروياني فيه وجهين؛ أحدهما لا يجوز، والثانية قالا وهو قول جمهور أصحابنا يجوز؛ لأنها مبدلة منسوخة.
قال المتولي: فإن ظن أن فيها شيئا غير مبدل كره مسه ولا يحرم؛ قال الرافعي: وحكم المنسوخ تلاوته من القرآن حكم التوراة.
الرابعة: إذا كتب المحدث أو الجنب مصحفا نظر إن حمله أو مسه في حال كتابته حرم وإلا فالصحيح جوازه؛ لأنه غير حامل ولا ماس، وفيه وجه مشهور أنه يحرم، ووجه ثالث حكاه الماوردي أنه يحرم على الجنب دون المحدث.
الخامسة: إذا كتب القرآن في لوح فله حكم المصحف فيحرم مسه وحمله على البالغ المحدث، هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع الأكثرون، وفيه وجه مشهور أنه لا يحرم؛ لأنه لا يراد للدوام بخلاف المصحف فعلى هذا يكره، قاله في التتمة، ولا فرق بين أن يكون المكتوب قليلا أو كثيرا فيحرم على الصحيح، قال إمام الحرمين: لو كان على اللوح آية أو بعض آية كتب للدراسة حرم مسه وحمله.
السادسة: لا يجوز كتابة القرآن بشيء نجس، ذكره البغوي وغيره، قال البغوي وغيره: يكره نقش الحيطان والثياب بالقرآن وبأسماء الله تعالى. قال القاضي حسين والبغوي وغيرهما: وإذا كتب قرآنا على حلوى وطعام فلا بأس بأكله قال القاضي: فإن كان على خشبة كره إحراقها.
السابعة: قال القاضي حسين وغيره: لا يجوز توسد المصحف ولا غيره من كتب العلم، قال القاضي: إلا أن يخاف عليه السرقة فيجوز، وهذا الاستثناء فيه نظر، والصواب منعه في المصحف وإن خاف السرقة. قال القاضي حسين: ولا يمكن الصبيان من محو الألواح بالأقدام ولا يمكن المجنون والصبي الذي لا يميز من حمل المصحف لئلا ينتهكه.
الثامنة: لو خاف المحدث على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه بيد كافر جاز أخذه مع الحدث صرح به الدارمي وغيره بل يجب ذلك صيانة للمصحف ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث قال القاضي أبو الطيب: ولا يلزمه التيمم له؛ لأنه لا يرفع الحدث وفيما قاله نظر. وينبغي أن يجب التيمم؛ لأنه وإن لم يرفع الحدث فيبيح الصلاة ومس المصحف وحمله. التاسعة: قال القاضي حسين وغيره: يكره للمحدث حمل التعاويذ - يعنون الحروز - قال أبو

 

ج / 2 ص -61-         عمرو بن الصلاح في الفتاوى: كتابة الحروز واستعمالها مكروه وترك تعليقها هو المختار، وقال في فتوى أخرى: "يجوز تعليق الحروز التي فيها قرآن على النساء والصبيان والرجال ويجعل عليها شمع ونحوه ويستوثق من النساء وشبههن بالتحذير من دخول الخلاء بها؛ والمختار أنه لا يكره إذا جعل عليه شمع ونحوه؛ لأنه لم يرد فيه نهي" ونقل ابن جرير الطبري عن مالك نحو هذا فقال: قال مالك "لا بأس بما يعلق على النساء الحيض، والصبيان من القرآن إذا جعل في كن كقصبة حديد أو جلد يحرز عليه" وقد يستدل للإباحة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع كلمات: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون". قال: "وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه"، رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
العاشرة: إذا تيمم المحدث تيمما صحيحا فله مس المصحف، وإن كان لم يرتفع حدثه وكذا إذا توضأ من به حدث دائم كالمستحاضة فله مس المصحف وحمله، وأما من لم يجد ماء ولا ترابا فيصلي على حاله للضرورة ويحرم عليه مسه وحمله لعدم الضرورة.
الحادية عشرة: اتفقوا على أنه لا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم
"نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو". واتفقوا أنه يجوز أن يكتب إليهم الآية والآيتان وشبههما في أثناء كتاب لحديث أبي سفيان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم كتابا فيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}الآية [آل عمران: من الآية64].
الثانية عشرة: قال أصحابنا لا يمنع الكافر سماع القرآن ويمنع مس المصحف. وهل يجوز تعليمه القرآن؟ ينظر إن لم يرج إسلامه لم يجز، وإن رجي جاز في أصح الوجهين وبه قطع القاضي حسين ورجحه البغوي وغيره. والثاني: لا يجوز كما لا يجوز بيعه المصحف، وإن رجي إسلامه. قال البغوي: وحيث رآه معاندا لا يجوز تعليمه بحال، وهل يمنع التعليم؟ فيه وجهان حكاهما المتولي والروياني وغيرهما أصحهما يمنع.
الثالثة عشرة: أجمع العلماء على وجوب صيانة المصحف واحترامه، فلو ألقاه والعياذ بالله في قاذورة كفر، وأجمعوا على استحباب كتابة المصحف وتحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها وإيضاح الخط دون مشقة وتعليقه، ويستحب نقط المصحف وشكله؛ لأنه صيانة له من اللحن والتحريف، وفي تذهيبه وتفضيضه خلاف سنذكره حيث ذكره المصنف والأصحاب في باب زكاة الذهب والفضة، وبيع المصحف وشراؤه جائز عندنا وفي كراهة بيعه وجهان: المنصوص يكره، وفيه مذاهب للسلف سنوضحها حيث ذكره المصنف في باب ما يجوز بيعه إن شاء الله تعالى. وبيعه للكفار حرام، وفي انعقاده قولان أصحهما لا ينعقد، وسنوضحه مع فروعه في كتاب البيع إن شاء الله تعالى، وأما آداب قراءة القرآن وتفضيلها على التسبيح وتحسين الصوت بالقرآن ونحو ذلك فسأذكره موضحا إن شاء الله تعالى في آخر باب ما يوجب الغسل فهو أليق به.

 

ج / 2 ص -62-         فرع: في مذاهب العلماء في مس المصحف وحمله: مذهبنا تحريمهما، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور العلماء. وعن الحكم وحماد وداود: يجوز مسه وحمله وروي عن الحكم وحماد جواز مسه بظهر الكف دون بطنه واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتابا فيه قرآن وهرقل محدث، يمسه وأصحابه، ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، ولأنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى، وقاسوا حمله على حمله في متاع واحتج أصحابنا بقول الله تعالى:{أِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ, لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ, فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ, تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 80. 79. 78. 77] فوصفه بالتنزيل، وهذا ظاهر في المصحف الذي عندنا، فإن قالوا: المراد اللوح المحفوظ لا يمسه إلا الملائكة المطهرون ولهذا قال: يمسه بضم السين على الخبر، ولو كان المصحف لقال يمسه بفتح السين على النهي، فالجواب أن قوله تعالى: "تنزيل" ظاهر في إرادة المصحف فلا يحمل على غيره إلا بدليل صحيح صريح، وأما رفع السين فهو بلفظ الخبر، كقوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: من الآية233] على قراءة من رفع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيع أحدكم على بيع أخيه". بإثبات الياء، ونظائره كثيرة مشهورة وهو معروف في العربية، فإن قالوا: لو أريد ما قلتم لقال لا يمسه إلا المتطهرون، فالجواب أنه يقال في المتوضئ مطهر ومتطهر واستدل أصحابنا بالحديث المذكور وبأنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهم ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة.
والجواب عن قصة هرقل أن ذلك الكتاب كان فيه آية ولا يسمى مصحفا، وأبيح حمل الصبيان الألواح للضرورة، وأبيحت القراءة للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وحمله في المتاع؛ لأنه غير مقصود، وبالله التوفيق.