المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

2- باب الاستطابة
الاستطابة والاستنجاء والاستجمار عبارات عن إزالة الخارج من السبيلين عن مخرجه فالاستطابة والاستنجاء يكونان تارة بالماء وتارة بالأحجار والاستجمار يختص بالأحجار مأخوذا من الجمار وهي الحصى الصغار، وأما الاستطابة فسميت بذلك؛ لأنها تطيب نفسه بإزالة الخبث. قال الأزهري: يقال استطاب يستطيب فهو مستطيب، وأطاب يطيب فهو مطيب إذا فعل ذلك.
وأما الاستنجاء فقال الأزهري: قال شمر: هو مأخوذ من نجوت الشجر وأنجيتها إذا قطعتها كأنه يقطع الأذى عنه، وقال ابن قتيبة: هو مأخوذ من النجوة وهي ما يرتفع من الأرض، وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة تستر بنجوة قال الأزهري: قول شمر أصح والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء عليه ذكر الله تعالى، فالمستحب أن ينحيه، لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:
"كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه". وإنما وضعه؛ لأنه كان عليه محمد رسول الله.
الشرح: حديث أنس هذا مشهور، رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وغيرهم في كتاب

 

ج / 2 ص -63-         الطهارة، والترمذي في اللباس، والنسائي في الزينة وضعفه أبو داود والنسائي والبيهقي، قال أبو داود: هو منكر، وإنما يعرف عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه". وقال النسائي: هذا الحديث غير محفوظ وخالفهم الترمذي فقال: حديث حسن صحيح غريب.
وقوله: "وإنما وضعه" إلى آخره هو من كلام المصنف لا من الحديث ولكنه صحيح، ففي "الصحيحين" "أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم كان: محمد رسول الله". ويقال خاتم وخاتم بكسر التاء وفتحها وخاتام وخيتام أربع لغات، والخلاء بالمد وهو الموضع الخالي، وقوله: "كان إذا دخل الخلاء" أي أراد الدخول.
وأما حكم المسألة: فاتفق أصحابنا على استحباب تنحية ما فيه ذكر الله تعالى عند إرادة دخول الخلاء ولا تجب التنحية، وممن صرح بأنه مستحب المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، والمحاملي في كتبه الثلاثة وابن الصباغ والشيخ نصر المقدسي في كتبه الثلاثة "الانتخاب" والتهذيب والكافي وآخرون.
قال المتولي والرافعي وغيرهما لا فرق في هذا بين أن يكون المكتوب عليه درهما ودينارا أو خاتما أو غير ذلك: وكذا إذا كان معه عوذة، وهي الحروز المعروفة - استحب أن ينحيه صرح به المتولي وآخرون وألحق الغزالي في "الإحياء" و"الوسيط" بذكر الله تعالى اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
وقال إمام الحرمين لا يستصحب شيئا عليه اسم معظم ولم يتعرض الجمهور لغير ذكر الله تعالى. وفي اختصاص هذا الأدب بالبنيان وجهان، قال الشيخ أبو حامد في "تعليقه" يختص، وقطع الجمهور بأنه يشترك فيه البنان والصحراء وهو ظاهر كلام المصنف وصرح به المحاملي وغيره وإذا كان معه خاتم، فقد قلنا ينزعه قبل الدخول فلو لم ينزعه سهوا أو عمدا ودخل فقيل: يضم عليه كفه لئلا يظهر.
قال ابن المنذر: إن لم ينزعه جعل فصه مما يلي بطن كفه، وحكى ابن المنذر عن جماعة من التابعين ابن المسيب والحسن وابن سيرين، الترخيص في استصحابه، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويستحب أن يقول إذا دخل الخلاء باسم الله لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ستر ما بين عورات أمتي وأعين الجن باسم الله".
الشرح: هذا الحديث رواه الترمذي وغيره من رواية علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول باسم الله". قال الترمذي: إسناده ليس بالقوي. والستر بكسر السين: الحجاب، قال ابن السكيت يقال: ما دون ذلك الأمر ستر وما دونه حجاب، وما دونه وجاح بمعنى واحد، والوجاح بواو مفتوحة وجيم ثم ألف ثم حاء مهملة، وقوله: باسم الله هكذا يكتب باسم بالألف، وإنما تحذف الألف من بسم الله الرحمن الرحيم لكثرة تكرارها، كذا علله أهل الأدب والمصنفون في الخط وفيه نظر، وقوله: "إذا دخل" أي أراد الدخول وهذا الأدب متفق على استحبابه ويستوي فيه الصحراء والبنيان صرح به المحاملي والأصحاب والله أعلم.

 

ج / 2 ص -64-         قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويستحب أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" لما روى أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال ذلك".
الشرح: حديث أنس هذا رواه البخاري ومسلم، قال الخطابي: الخبث بضم الباء جماعة الخبيث والخبائث جمع الخبيثة يريد ذكور الشياطين وإناثهم قال: وعامة المحدثين يقولون: خبث وهو غلط والصواب الضم، وهذا الذي غلطهم الخطابي فيه ليس بغلط بل إنكار تسكين الباء وشبهه غلط، فإن التسكين في هذا وشبهه جائز تخفيفا بلا خلاف عند أهل النحو والتصريف، وهو باب معروف عندهم فمن ذلك كتب ورسل وعنق وأشباهها مما هو على ثلاثة أحرف مضموم الأول والثاني، ولعل الخطابي أراد أنه ليس ساكنا في الأصل، ولم يرد إنكار الإسكان تخفيفا، ولكن عبارته موهمة، وقد صرح جماعة من أئمة هذا الفن بإسكان الباء منهم أبو عبيد القاسم بن سلام إمام هذا الفن، واختلف الذين رووه ساكن الباء في معناه فقيل: الخبث الشر؛ وقيل: الكفر، وقيل: الشيطان، والخبائث: المعاصي.
قال ابن الأعرابي: الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر؛ وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار.
وقوله: إذا دخل الخلاء أي إذا أراد دخوله وكذا جاء مصرحا به في رواية للبخاري، وهذا الذكر مجمع على استحبابه، وسواء فيه البناء والصحراء؛ وقول المصنف "يقول
: باسم الله ويقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" فيه إشارة إلى أنه يستحب أن يقدم التسمية، وهكذا صرح به إمام الحرمين والغزالي والروياني والشيخ نصر وصاحبا "العدة" والبيان وآخرون، وقد جاء في رواية من حديث أنس هذا: "بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" ويخالف هذا التعوذ في الصلاة والقراءة فإنه يقدم على البسملة؛ لأن التعوذ هناك للقراءة والبسملة من القرآن فقدم التعوذ عليها بخلاف هذا والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويقول: إذا خرج غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني لما روى 1  أبو ذر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال:
الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني". وروت عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلاء إلا قال: : غفرانك".
الشرح: حديث أبي ذر هذا ضعيف رواه النسائي في كتابه (عمل اليوم والليلة) من طرق بعضها مرفوع وبعضها موقوف على أبي ذر وإسناده مضطرب غير قوي ورواه ابن ماجه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف.
قال الترمذي: لا يعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة، وأما حديث عائشة فصحيح رواه أبو


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في النسخة المطبوعة من المهذب "لما روى أبو داود رضي الله عنه" وهو خطأ فاحش (ط).

 

ج / 2 ص -65-         داود والترمذي وابن ماجه؛ ورواه النسائي في اليوم والليلة، قال الترمذي: حديث حسن، ولفظ روايتهم كلهم قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الغائط قال: غفرانك". وبين هذا اللفظ ولفظ المصنف تفاوت لا يخفى لكن المقصود يحصل. جاء في الذي يقال عقب الخروج أحاديث كثيرة ليس فيها شيء ثابت إلا حديث عائشة المذكور وهذا مراد الترمذي بقوله: لا يعرف في الباب إلا حديث عائشة والله أعلم.
"وغفرانك" منصوب بتقدير أسألك غفرانك أو اغفر غفرانك، والوجهان مقولان في قول الله تعالى:
{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: من الآية285] والأول أجود، واختاره الخطابي وغيره، قال الخطابي: وقيل في سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذكر في هذا الموطن قولان:
أحدهما: أنه استغفر من ترك ذكر الله تعالى حال لبثه على الخلاء، وكان لا يهجر ذكر الله تعالى إلا عند الحاجة.
والثاني: أنه استغفر خوفا من تقصيره في شكر نعمة الله تعالى التي أنعمها عليه فأطعمه ثم هضمه ثم سهل خروجه، فرأى شكره قاصرا عن بلوغ هذه النعمة؛ فتداركه بالاستغفار، وقولها: "خرج من الغائط" أي الموضع الذي يتغوط فيه، قال أهل اللغة: أصل الغائط المكان المطمئن كانوا يأتونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث، كراهة لاسمه، ومن عادة العرب التعفف في ألفاظها، واستعمال الكنايات في كلامها وصون الألسن مما تصان الأبصار والأسماع عنه وهذا الذي ذكره المصنف متفق على استحبابه ويشترك فيه البناء والصحراء، صرح به المحاملي وغيره والله أعلم.
وأبو ذر اسمه جندب بفتح الدال وضمها ابن جنادة بالضم، وقيل في اسمه أقوال أخر، أسلم بمكة في أول الأمر، رابع أربعة وقيل خامس خمسة ومناقبه كثيرة مشهورة وزهده من المشهورات، توفي بالربذة سنة اثنتين وثلاثين، وقد بسطت أحواله في تهذيب الأسماء رضي الله عنه والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويستحب أن يقدم في الدخول رجله اليسرى، وفي الخروج اليمنى؛ لأن اليسار للأذى واليمنى لما سواه".
الشرح: اليسار بفتح الياء وكسرها لغتان الفتح أفصح عند الجمهور، وخالفهم ابن دريد، وهذا الأدب متفق على استحبابه وهذه قاعدة معروفة، وهي أن ما كان من التكريم بدئ فيه باليمنى وخلافه باليسار، وقد قدمت هذه القاعدة بأمثلتها ودلائلها من الأحاديث الصحيحة في باب صفة الوضوء في فصل غسل اليد وفي اختصاص هذا الأدب بالبنيان وجهان:
أحدهما - وبه قطع إمام الحرمين والغزالي - يختص، وهو ظاهر كلام المصنف وكثيرين، وأصحهما لا يختص صرح به المحاملي في كتبه وغيره، ونقله الرافعي عن الأكثرين، قال: فيقدم في الصحراء رجله اليسرى إذا بلغ موضع جلوسه وإذا فرغ قدم اليمنى في انصرافه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كان في الصحراء أبعد لما روى المغيرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد". ويستتر عن العيون بشيء لما روى أبو هريرة أن

 

ج / 2 ص -66-         النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستتر به".
الشرح: حديث المغيرة صحيح رواه أحمد بن حنبل والدارمي في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. وعن المغيرة أيضا قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: يا مغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عني فقضى حاجته". رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد". رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد فيه ضعف يسير وسكت عليه أبو داود، فهو حسن عنده، وأما حديث أبي هريرة فحسن، رواه أحمد والدارمي وأبو داود وابن ماجه بأسانيد حسنة. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: "كان أحب ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم هدف أو حائش نخل". رواه مسلم، والحائش بالحاء المهملة والشين المعجمة، وهو الحائط، والكثيب بالثاء المثلثة قطعة من الرمل مستطيلة محدوبة تشبه الربوة، وهذان الأدبان متفق على استحبابهما، وجاء فيهما أحاديث كثيرة جمعتها في جامع السنة؛ قال الرافعي وغيره: ويحصل هذا التستر بأن يكون في بناء مسقف أو محوط يمكن سقفه، أو يجلس قريبا من جدار وشبهه، وليكن الساتر قريبا من آخرة الرحل، وليكن بينه وبينه ثلاث أذرع فأقل، ولو أناخ راحلته وتستر بها، أو جلس في وهدة أو نهر أو أرخى ذيله حصل هذا الغرض والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائط ولا بول". ويجوز ذلك في البنيان لما روت عائشة رضي الله عنها "أن ناسا كانوا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوقد فعلوها حولوا بمقعدتي إلى القبلة". ولأن في الصحراء خلقا من الملائكة والجن يصلون فيستقبلهم بفرجه، وليس ذلك في البنيان.
الشرح: حديث أبي هريرة صحيح رواه الشافعي في مسنده، وفي "الأم" بإسناده الصحيح بهذا اللفظ المذكور في الكتاب، ورواه مسلم في صحيحه دون قوله: لغائط ولا بول، ورواه البخاري ومسلم من رواية أبي أيوب، ووقع في المهذب لغائط باللام. وقد روي هذا الحديث لغائط وبغائط، باللام وبالباء، وكلاهما صحيح. وأما حديث عائشة فرواه أحمد بن حنبل وابن ماجه وإسناده حسن، لكن أشار البخاري في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن فيه علة وقوله صلى الله عليه وسلم "أو قد فعلوها" هو بفتح الواو، وهي واو العطف، وهو استفهام توبيخ وتقريع.
قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى
{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: من الآية170] إنما جعل الاستفهام للتوبيخ؛ لأنه يقتضي الإقرار بما الإقرار به فضيحة كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه والمقعدة بفتح الميم، وهي موضع القعود لقضاء حاجة الإنسان.

 

ج / 2 ص -67-         أما حكم المسألة: فمذهبنا أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط في الصحراء، ولا يحرم ذلك في البنيان، ودليله ما ذكره المصنف مع ما سأذكره في فروع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى.
قال أصحابنا الخراسانيون وجماعة من العراقيين منهم صاحب الشامل: إنما يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان بشرط أن يكون بينه وبين الجدار ونحوه ثلاث أذرع فما دونها، ويكون الجدار ونحوه مرتفعا قدر مؤخرة الرحل، فإن زاد ما بينهما على ثلاث أذرع أو قصر الحائل عن مؤخرة الرحل فهو حرام، إلا إذا كان في بيت بني لذلك فلا حرج فيه. قالوا: ولو كان في الصحراء وتستر بشيء على ما ذكرناه من الشرطين زال التحريم، فالاعتبار بالساتر وعدمه. فحيث وجد الساتر بالشرطين حل في البناء والصحراء وحيث فقد أحد الشرطين حرم في الصحراء والبناء. وذكر الماوردي والروياني وجهين: أحدهما: هذا والثاني: يحل في البناء مطلقا بلا شرط ويحرم في الصحراء مطلقا، وإن قرب من الساتر. والصحيح الأول.
قال أصحابنا: ولا فرق في الساتر بين الجدار والدابة والوهدة وكثيب الرمل ونحو ذلك. ولو أرخى ذيله في قبالة القبلة فهل يحصل به الستر؟ فيه وجهان، حكاهما إمام الحرمين وغيره أحدهما: لا يحصل؛ لأنه لا يعد ساترا وأصحهما: يحصل؛ لأن المقصود أن لا يستقبل ولا يستدبر بسوأته، وهذا المقصود يحصل بالذيل، وبهذا الثاني قطع الفوراني وآخرون وصححه الإمام والغزالي في "البسيط" وحيث جوزنا الاستقبال قال المتولي: يكره. وقال إمام الحرمين: إذا كان في بيت يعد مثله ساترا لم يحرم الاستقبال والاستدبار، لكن الأدب أن يتوقاهما ويهيئ مجلسه ماثلا عنهما، ولم يتعرض الجمهور للكراهة التي ذكرها المتولي، والمختار أنه لا كراهة، للأحاديث التي سنذكرها إن شاء الله تعالى، لكن الأدب والأفضل الميل عن القبلة إذا أمكن بلا مشقة، والله أعلم.
فرع: إذا تجنب استقبال القبلة واستدبارها حال خروج البول والغائط، ثم أراد استقبالها حال الاستنجاء، فمقتضى مذهبنا وإطلاق أصحابنا جوازه؛ لأن النهي ورد في استقبالها واستدبارها ببول أو غائط، وهذا لم يفعله. ونقل الروياني في "الحلية" جوازه عن أبي حنيفة قال: وهو صحيح يحتمله مذهبنا، ولا كراهة أيضا في إخراج الريح إلى القبلة لما ذكرناه والله أعلم.
فرع: قال العبدري من أصحابنا في كتابه الكفاية: يجوز عندنا الجماع مستقبل القبلة ومستدبرها في البناء والصحراء، قال: وبه قال أبو حنيفة وأحمد وداود، واختلف فيه أصحاب مالك، فجوزه ابن القاسم وكرهه ابن حبيب، ونقل غير العبدري من أصحابنا أيضا أنه لا كراهة فيه عندنا؛ لأن الشرع ورد في البول والغائط، والله أعلم.
فرع: قال أصحابنا: لا يحرم استقبال بيت المقدس ببول ولا غائط، ولا استدباره لا في البناء ولا في الصحراء قال المتولي وغيره: ولكنه يكره ونقل الروياني عن الأصحاب أيضا أنه يكره لكونه كان قبلة.

 

ج / 2 ص -68-         وأما حديث معقل بن أبي معقل الأسدي رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط". رواه أحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجه وغيرهم وإسناده جيد، ولم يضعفه أبو داود، فأجاب عنه أصحابنا بجوابين لمتقدمي أصحابنا. أحدهما: أنه نهى عن استقبال بيت المقدس حيث كان قبلة. ثم نهى عن الكعبة حين صارت قبلة فجمعهما الراوي. قال صاحب "الحاوي": هذا تأويل أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة والثاني: المراد بالنهي أهل المدينة لأن من استقبل بيت المقدس وهو في المدينة استدبر الكعبة. وإن استدبره استقبلها، والمراد بالنهي عن استقبالهما النهي عن استقبال الكعبة واستدبارها. قال صاحب "الحاوي": هذا تأويل عن بعض المتقدمين، فهذان تأويلان مشهوران للأصحاب، ولكن في كل واحد منهما ضعف، والظاهر المختار أن النهي وقع في وقت واحد، وأنه عام لكلتيهما في كل مكان، ولكنه في الكعبة نهي تحريم في بعض الأحوال على ما سبق، وفي بيت المقدس نهي تنزيه، ولا يمتنع جمعهما في النهي وإن اختلف معناه، وسبب النهي عن بيت المقدس كونه كان قبلة فبقيت له حرمة الكعبة. وقد اختار الخطابي هذا التأويل.
فإن قيل: لم حملتموه في بيت المقدس على التنزيه؟ قلنا: للإجماع فلا نعلم من يعتد به حرمه. والله أعلم.
فرع: في مذاهب العلماء في استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط. هي أربعة مذاهب:
أحدها: مذهب الشافعي أن ذلك حرام في الصحراء جائز في البنيان على ما سبق، وهذا قول العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي ومالك وإسحاق ورواية عن أحمد.
والمذهب الثاني: يحرم ذلك في الصحراء والبناء وهو قول أبي أيوب الأنصاري الصحابي ومجاهد والنخعي والثوري وأبي ثور ورواية عن أحمد.
والثالث: يجوز ذلك في البناء والصحراء وهو قول عروة بن الزبير. وربيعة وداود الظاهري.
والرابع: يحرم الاستقبال في الصحراء والبناء؛ ويحل الاستدبار فيهما وهو رواية عن أبي حنيفة وأحمد. 
واحتج لمن حرم مطلقا بحديث أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا". قال أبو أيوب: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة، فننحرف ونستغفر الله" رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا جلس أحدكم على حاجة فلا يستقبلن القبلة ولا يستدبرها". رواه مسلم.
وعن سلمان رضي الله عنه قال:
"نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة لغائط أو بول". رواه مسلم، قالوا ولأنه إنما منع لحرمة القبلة وهذا موجود في البناء كالصحراء ولأنه لو كفى الحائل لجاز

 

ج / 2 ص -69-         في الصحراء، فإن بيننا وبين الكعبة أودية وجبالا وأبنية.
واحتج أصحابنا عليهم بحديث عائشة المذكور في الكتاب وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:
"رقيت على ظهر بيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على لبنتين مستقبلا بيت المقدس مستدبرا الكعبة". رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر رضي الله عنه قال:
"نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها". حديث حسن، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وهذا لفظهما، قال الترمذي: حديث حسن.
وعن مروان الأصفر قال "رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها فقلنا يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس" رواه أبو داود والدارقطني والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على "الصحيحين" وقال: هو صحيح على شرط البخاري، ولأنه تلحقه المشقة في اجتناب القبلة في البناء دون الصحراء، فإن قالوا: خصوا الجواز بمن لحقه مشقة، قلنا: الرخصة ترد لسبب، ثم تعم كالقصر، ولأن الأحاديث تعارضت في المنع والجواز فوجب الجمع بينهما ويحصل الجمع بينهما بما قلناه فإنها جاءت على فقه ولا تكاد تحصل بغيره. 
وأما الجواب عن الأحاديث التي احتجوا بها. فهو أنها محمولة على من كان بالصحراء للجمع بين الأحاديث، وأما قول أبي أيوب رضي الله عنه فننحرف ونستغفر الله تعالى فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه شك في عموم النهي فاحتاط بالاستغفار.
والثاني: أن هذا مذهبه، ولم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا، وقد خالفه غيره من الصحابة، كما سبق، وأما قولهم: المنع لحرمة القبلة وما بعده فجوابه أن الشرع ورد بالفرق على ما قدمناه فلا يلتفت إلى قياس ومعنى يخالفه.
ومع هذا فالفرق ظاهر فإن المشقة تلحق في البناء دون الصحراء.
واحتج من أباح مطلقا بحديثي جابر وعائشة قالوا: وهما ناسخان للنهي. قالوا: ولأن الأحاديث تعارضت فرجعنا إلى الأصل.
واحتج أصحابنا بأن الأحاديث السابقة صحيحة فلا يجوز إلغاؤها بل يجب الجمع بينها فجمعنا بينها واستعملناها ولم نعطل شيئا منها.
وأما قولهم: ناسخان فخطأ لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع ولم يتعذر هنا وأما من جوز الاستدبار - دون الاستقبال - فمحجوج بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهي عنهما جميعا والله أعلم.

 

ج / 2 ص -70-         فرع: قول المصنف: "ولأن في الصحراء خلقا من الملائكة والجن يصلون" هكذا قاله أصحابنا واعتمدوه، ورواه البيهقي بإسناد ضعيف عن الشعبي التابعي من قوله وهو تعليل ضعيف فإنه لو قعد قريبا من حائط واستقبله ووراءه فضاء واسع جاز بلا شك صرح به إمام الحرمين البغوي وغيرهما ويدل عليه ما قدمناه عن ابن عمر أنه أناخ راحلته وبال إليها فهذا يبطل هذا التعليل فإنه لو كان صحيحا لم يجز في هذه الصورة، فإنه مستدبر الفضاء الذي فيه المصلون، ولكن التعليل الصحيح أن جهة القبلة معظمة، فوجب صيانتها في الصحراء، ورخص فيها في البناء للمشقة، وهذا التعليل اعتمده القاضي حسين والبغوي والروياني وغيرهم، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض". 
الشرح: حديث ابن عمر ضعيف رواه أبو داود والترمذي وضعفاه.
وهذا الأدب مستحب بالاتفاق وليس بواجب كذا صرح به الشيخ أبو حامد وابن الصباغ والمتولي وغيرهم، ومعناه إذا أراد الجلوس للحاجة لا يرفع ثوبه عن عورته -في حال قيامه- بل يصبر حتى يدنو من الأرض. ويستحب أيضا أن يسبل ثوبه إذا فرغ قبل انتصابه، صرح به الماوردي في "الإقناع" وهذا كله إذا لم يخف تنجس ثوبه، فإن خافه رفع قدر حاجته والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويرتاد موضعا للبول فإن كانت الأرض الأصلية دقها بعود أو حجر حتى لا يترشش عليه البول لما روى أبو موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله".
الشرح: حديث أبي موسى ضعيف رواه أحمد وأبو داود عن رجل عن أبي موسى، وقوله فليرتد أي يطلب موضعا لينا، وأبو موسى هو عبد الله بن قيس الأشعري منسوب إلى الأشعر جد القبيلة، توفي أبو موسى بمكة، وقيل بالكوفة سنة خمسين وقيل إحدى وخمسين وقيل أربع وأربعين وهو ابن ثلاث وستين ومناقبه مشهورة، وقد ذكرتها في "التهذيب".
وهذا الأدب متفق على استحبابه، قال أصحابنا: يطلب أرضا لينة ترابا أو رملا فإن لم يجد إلا أرضا صلبة دقها بحجر ونحوه لئلا يترشش عليه والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويكره أن يبول قائما من غير عذر، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال "ما بلت قائما منذ أسلمت" ولأنه لا يأمن أن يترشش عليه ولا يكره ذلك لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما لعلة بمأبضيه".
الشرح: أما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فذكره الترمذي في كتابه تعليقا لا مسندا، وروى ابن ماجه والبيهقي عن عمر أنه قال:
"أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما فقال: يا عمر، لا تبل قائما، فما بلت بعد قائما". لكن إسناده ضعيف

 

ج / 2 ص -71-         وروي عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما" رواه ابن ماجه والبيهقي وضعفه البيهقي وغيره، ويغني عن هذا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا". رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم وإسناده جيد وهو حديث حسن.
وأما الحديث الآخر
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما". فصحيح رواه البخاري ومسلم من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما والذي في "الصحيحين" "أتى سباطة قوم فبال قائما" وأما قوله: "لعلة بمأبضيه" فرواه البيهقي من رواية أبي هريرة لكن قال: لا تثبت هذه الزيادة، وذكر الخطابي ثم البيهقي في سبب بوله صلى الله عليه وسلم قائما أوجها:
أحدها: قالا وهو المروي عن الشافعي رحمه الله: أن العرب كانت تستشفي بالبول قائما لوجع الصلب فنرى أنه كان به صلى الله عليه وسلم إذ ذاك وجع الصلب قال القاضي حسين في "تعليقه". وصار هذا عادة لأهل هراة يبولون قياما في كل سنة مرة إحياء لتلك السنة.
والثاني: أنه لعلة بمأبضيه.
والثالث: أنه لم يجد مكانا يصلح للقعود، فاحتاج إلى القيام إذا كان الطرف الذي يليه عاليا مرتفعا، ويجوز وجه رابع أنه لبيان الجواز.
وأما السباطة فبضم السين وهي ملقى التراب والكناسة ونحوها، تكون بفناء الدور مرفقا للقوم، قال الخطابي: ويكون ذلك في الغالب سهلا لينا منثالا يخد فيه البول، ولا يرجع على البائل، وأما المأبض. فبهمزة ساكنة بعد الميم ثم باء موحدة مكسورة ثم ضاد معجمة، ويجوز تخفيف الهمزة بقلبها ألفا كما في رأس وأشباهه، والمأبض باطن الركبة من الآدمي وغيره، وجمعه مآبض بالمد، كمسجد ومساجد، وأما بوله صلى الله عليه وسلم في سباطة القوم، فيحتمل أوجها: أظهرها: أنه علم أن أهلها يرضون ذلك ولا يكرهونه، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه.
الثاني: أنها لم تكن مختصة بهم بل كانت بفناء دورهم للناس كلهم فأضيفت إليهم لقربها منهم.
الثالث: أنهم أذنوا لمن أراد قضاء الحاجة فيها بصريح الإذن أو بمعناه، والله أعلم.
أما حكم المسألة: فقال أصحابنا: يكره البول قائما بلا عذر كراهة تنزيه ولا يكره للعذر وهذا مذهبنا، وقال ابن المنذر: اختلفوا في البول قائما فثبت عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد أنهما بالوا قياما، وروي ذلك عن علي وأنس وأبي هريرة، وفعله ابن سيرين وعروة، وكرهه ابن مسعود والشعبي وإبراهيم بن سعد وكان إبراهيم بن سعد لا يقبل شهادة من بال قائما. قال وقال مالك: إن كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فمكروه، وإن كان لا يتطاير فلا كراهة؛ قال ابن المنذر: البول جالسا أحب إلي وقائما مباح وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ج / 2 ص -72-         قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويكره أن يبول في ثقب أو سرب لما روى عبد الله بن سرجس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في جحر". ولأنه ربما خرج عليه ما يلسعه أو يرد عليه البول.
الشرح: حديث ابن سرجس صحيح رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم بالأسانيد الصحيحة وفي رواياتهم زيادة، قالوا لقتادة الراوي عن ابن سرجس: ما تكره من البول في جحر؟ فقال كان يقال إنها مساكن الجن، والثقب بفتح الثاء وضمها لغتان تقدمتا في باب صفة الوضوء في فصل غسل اليد، والفتح أفصح وأشهر، والسرب بفتح السين والراء.
فالثقب ما استدار وهو الجحر المذكور في الحديث والسرب ما كان مستطيلا وعبد الله بن سرجس وهو بصري، وأبوه سرجس بفتح السين المهملة وكسر الجيم وآخره سين أخرى، لا ينصرف.
وهذا الذي قاله المصنف من الكراهة متفق عليه، وهي كراهة تنزيه والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويكره أن يبول في الطريق والظل والموارد، لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل".
الشرح: هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي بإسناد جيد، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم". وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من سل سخيمته على طريق عامر من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". رواه البيهقي، السخيمة بفتح السين المهملة وكسر الخاء المعجمة هي الغائط، والملاعن مواضع اللعن جمع ملعنة، كمقبرة ومجزرة موضع القبر والجزر. وأما اللعانان في رواية مسلم فهما صاحبا اللعن أي الذي يلعنهما الناس كثيرا.
وفي رواية أبي داود اللاعنان، ومعناه الأمران الجالبان للعن، لأن من فعلهما لعنه الناس في العادة، فلما صارا سببا للعن أضيف الفعل إليهما.
قال الخطابي: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون، فالتقدير اتقوا الملعون فاعلهما، وأما الموارد فقال الخطابي وغيره هي طرق الماء واحدها مورد، قالوا: والمراد بالظل مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلا ومناخا ينزلونه أو يقعدون تحته، قالوا وليس كل ظل يمنع قضاء الحاجة تحته، فقد قعد النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته تحت حائش النخل. ثبت ذلك في صحيح مسلم، وللحائش ظل بلا شك.
وأما البراز، فقال الخطابي: هو هنا بفتح الباء وهو الفضاء الواسع من الأرض كنوا به عن قضاء الحاجة كما كنوا عنه بالخلاء، ويقال تبرز الرجل إذا تغوط كما يقال تخلى، قال: وأهل الحديث يروونه البراز بكسر الباء وهو غلط. هذا كلام الخطابي. وقال غيره: الصواب البراز بكسر الباء وهو الغائط نفسه، كذا ذكره أهل اللغة فإذا كان البراز بالكسر في اللغة هو الغائط، وقد اعترف الخطابي

 

ج / 2 ص -73-         بأن الرواة نقلوه بالكسر تعين المصير إليه، فحصل أن المختار كسر الباء، وقد بسطت الكلام في هذه اللفظة في "تهذيب الأسماء واللغات" .
وأما قارعة الطريق فأعلاه، قاله الأزهري والجوهري وغيرهما، وقيل صدره وقيل ما برز منه، والطريق يذكر ويؤنث لغتان مشهورتان تقدم بيانهما. وأما معاذ الراوي فهو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو الأنصاري المدني من كبار الصحابة وفقهائهم؛ ومن أعلمهم بالأحكام شهد بدرا وسائر المشاهد، وأسلم وله ثمان عشرة سنة، توفي سنة ثمان عشرة شهيدا في طاعون عمواس بفتح العين والميم وهي قرية بالأردن من الشام وقبره بغور بيسان، ومناقبه كثيرة مشهورة، رضي الله عنه.
وهذا الأدب وهو اتقاء الملاعن الثلاث، متفق عليه، وظاهر كلام المصنف والأصحاب أن فعل هذه الملاعن أو بعضها مكروه كراهة تنزيه لا تحريم، وينبغي أن يكون محرما لهذه الأحاديث، ولما فيه من إيذاء المسلمين، وفي كلام الخطابي وغيره إشارة إلى تحريمه والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويكره أن يبول في مساقط الثمار لأنه يقع عليه فينجس".
الشرح: هذا الذي ذكره متفق عليه، ولا فرق بين الشجر المباح والذي يملكه ولا بين وقت الثمر وغير وقته لأن الموضع يصير نجسا، فمتى وقع الثمر تنجس وسواء البول والغائط، وإنما اقتصر المصنف على البول اختصارا وتنبيها للأدنى على الأعلى وإنما لم يقولوا بتحريم ذلك، لأن تنجس الثمار به غير متيقن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويكره أن يتكلم لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله تبارك وتعالى يمقت على ذلك".
الشرح: هذا الحديث حسن رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بإسناد حسن، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: هو حديث صحيح، وفي رواية للحاكم قال أبو سعيد: قال النبي: صلى الله عليه وسلم "في المتغوطين أن يتحدثا فإن الله يمقت على ذلك". ومعنى يضربان الغائط يأتيانه. قال أهل اللغة: يقال ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء، وضربت في الأرض إذا سافرت. وقوله صلى الله عليه وسلم كاشفين، كذا ضبطناه في كتب الحديث وفي المهذب وهو منصوب على الحال، ووقع في كثير من نسخ المهذب كاشفان بالألف وهو صحيح أيضا، خبر مبتدأ محذوف أي وهما كاشفان والأول أصوب والمقت البغض؛ وقيل: أشد البغض، وقيل: تعيب فاعل ذلك.
وأبو سعيد الخدري سعد بن مالك، تقدم بيانه في آخر صفة الوضوء، وهذا الذي ذكره المصنف من كراهة الكلام على قضاء الحاجة متفق عليه. قال أصحابنا: ويستوي في الكراهة جميع أنواع الكلام، ويستثنى مواضع الضرورة بأن رأى ضريرا يقع في بئر، أو رأى حية أو غيرها تقصد إنسانا أو غيره من المحترمات فلا كراهة في الكلام في هذه المواضع بل يجب في أكثرها، فإن قيل: لا دلالة في الحديث المذكور لما ادعاه المصنف لأن الذم لمن جمع كل الأوصاف المذكورة في

 

ج / 2 ص -74-         الحديث. قلنا ما كان بعض موجبات المقت لا شك في كراهته، ويؤيده الرواية التي قدمناها عن الحاكم والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويكره أن يرد السلام أو يحمد الله تعالى إذا عطس، أو يقول مثل ما يقول المؤذن. لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى توضأ ثم قال:
"كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر".
الشرح: هذا الحديث صحيح لكن المصنف لم يذكره على وجهه ففوت المقصود منه، وموضع الدلالة. روى المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه قال
"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد علي حتى توضأ ثم اعتذر إلي فقال: إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر". أو قال: "على طهارة". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة. وفي رواية البيهقي "فسلمت عليه وهو يتوضأ فلم يرد علي "وهذه الرواية قريبة مما ذكره المصنف. وقوله صلى الله عليه وسلم "كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" هذه الكراهة بمعنى ترك الأولى لا كراهة تنزيه. واحتج غير المصنف بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال "مر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه". رواه مسلم وعن جابر: "أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك". رواه ابن ماجه. وهذا الذي ذكره المصنف من كراهة رد السلام وما بعده متفق عليه عندنا، وكذا التسبيح وسائر الأذكار. قال البغوي في شرح السنة: فإن عطس على الخلاء حمد الله تعالى في نفسه، قاله الحسن والشعبي والنخعي وابن المبارك. قال البغوي: يحمد الله تعالى في نفسه هنا وفي حال الجماع. ثم هذه الكراهة التي ذكرها المصنف والأصحاب كراهة تنزيه لا تحريم بالاتفاق. وحكى ابن المنذر الكراهة عن ابن عباس وعطاء ومعبد الجهني وعكرمة. وعن النخعي وابن سيرين قالا: لا بأس به قال ابن المنذر: وترك الذكر أحب إلي ولا أؤثم من ذكر. والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والمستحب أن يتكئ على رجله اليسرى لما روى سراقة بن مالك رضي الله عنه قال:
"علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى". ولأنه أسهل في قضاء الحاجة".
الشرح: هذا الحديث ضعيف رواه البيهقي عن رجل عن أبيه عن سراقة قال:
"علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى وينصب اليمنى". وسراقة هو أبو سفيان سراقة بن مالك بن جعشم بضم الجيم، وإسكان العين المهملة وضم الشين المعجمة وفتحها المدلجي توفي سنة أربع وعشرين رضي الله عنه وقوله يتكئ ويتوكأ بهمز آخرهما، وهذا الأدب مستحب عند أصحابنا، واحتجوا فيه بما ذكره المصنف، وقد بينا أن الحديث لا يحتج به فيبقى المعنى ويستأنس بالحديث والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يطيل القعود لأنه روي عن لقمان عليه السلام أنه قال :

 

ج / 2 ص -75-         "طول القعود على الحاجة تتجع منه الكبد، ويأخذ منه الباسور، فاقعد هوينى واخرج".
الشرح: هذا الأدب مستحب بالاتفاق ولقمان هو الحكيم الذي قال الله تعالى فيه { )وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: من الآية12] قال أبو إسحاق الثعلبي المفسر: اتفق العلماء على أنه كان رجلا صالحا حكيما ولم يكن نبيا، إلا عكرمة فانفرد وقال: كان نبيا وقوله تتجع أوله تاء مثناة فوق. ويجوز بالمثناة تحت، والجيم مفتوحة يقال تجعت تتجع كمرضت تمرض، والكبد بفتح الكاف وكسر الباء، ويجوز تسكين الباء مع فتح الكاف وكسرها، كما سبق في نظائره والباسور ضبطناه في المهذب بالباء والسين، وفيها ثلاث لغات ذكرهن الجوهري وغيره باسور بالباء والسين وناسور بالنون وناصور بالنون والصاد. وهي علة في مقعدة الإنسان، وقوله: هوينا هو مقصور غير منون تصغير هونى كحبلى تأنيث الأهون، والمشهور فيه الهونا كالدنيا، وقد قيل هونا كما قد قيل دنيا 1  والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإذا بال تنحنح حتى يخرج إن كان هناك شيء، ويمسح ذكره مع مجامع العروق ثم ينتره.
الشرح: قوله ينتره بفتح أوله وضم ثالثه، والنتر جذب بجفاء كذا قاله أهل اللغة واستنثر إذا جذب بقية بوله عند الاستنجاء، قال الشافعي رحمه الله في الأم. يستبرئ البائل من البول لئلا يقطر عليه قال "وأحب إلي أن يقيم ساعة قبل الوضوء وينتر ذكره "هذا لفظ نصه، وكذا قال جماعات يستحب أن يصبر ساعة يعنون لحظة لطيفة.
وقال الماوردي والروياني وغيرهما: يستحب أن ينتر ثلاثا مع التنحنح، وقال جماعة منهم الروياني: ويمشي بعده خطوة أو خطوات.
وقال إمام الحرمين ويهتم بالاستبراء فيمكث بعد انقطاع البول ويتنحنح، قال: وكل أعرف بطبعه. قال: والنتر ما ورد به الخبر وهو أن يمر أصبعا ليخرج بقية إن كانت، والمختار: أن هذا يختلف باختلاف الناس، والمقصود أن يظن أنه لم يبق في مجرى البول شيء يخاف خروجه، فمن الناس من يحصل له هذا المقصود بأدنى عصر ومنهم من يحتاج إلى تكراره ومنهم من يحتاج إلى تنحنح ومنهم من يحتاج إلى مشي خطوات، ومنهم من يحتاج إلى صبر لحظة ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا، وينبغي لكل أحد أن لا ينتهي إلى حد الوسوسة.
قال أصحابنا: وهذا الأدب وهو النتر والتنحنح ونحوهما مستحب، فلو تركه فلم ينتر ولم يعصر الذكر واستنجى عقيب انقطاع البول ثم توضأ فاستنجاؤه صحيح ووضوءه كامل؛ لأن الأصل عدم خروج شيء آخر، قالوا: والاستنجاء يقطع البول فلا يبطل استنجاؤه ووضوءه إلا أن يتيقن خروج شيء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  قلت: خبر لقمان لا أصل له, والعمل به على سبيل الأدب كما يقول الإمام النووي لا على سبيل الطب فإنه لا علاقة بين الكبد والقعود لقضاء الحاجة كما لا علاقة لذلك بالباسور والله أعلم.

 

ج / 2 ص -76-         واحتج جماعة في هذا الأدب بما روى يزداد، وقيل أزداد بن فساءة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات". رواه أحمد وأبو داود في المراسيل وابن ماجه والبيهقي واتفقوا على أنه ضعيف.
وقال الأكثرون: هو مرسل، ولا صحبة ليزداد، وممن نص على أنه لا صحبة له البخاري في تاريخه وأبو حاتم الرازي وابنه عبد الرحمن وأبو داود وأبو أحمد بن عدي الحافظ وغيره. وقال يحيى بن معين وغيره لا نعرف يزداد فالتعويل على المعنى الذي ذكره الأصحاب، ويزداد بزاي ثم دال مهملة ثم ألف ثم ذال معجمة، وفساءة بالفاء والسين المهملة المخففة وبالمد.
فرع: قال أصحابنا: يكره حشو الذكر بقطنة ونحوها، وصرح به المتولي والروياني والرافعي ونقله الروياني عن الأصحاب والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: والمستحب أن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لما روي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه". 
الشرح: هذا الحديث حسن رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد حسن، وروى حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة رضي الله عنه قال
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله". رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وإسناده صحيح.
قال الخطابي: المستحم المغتسل سمي مستحما مشتقا من الحميم وهو الماء الحار الذي يغتسل به. وعبد الله بن مغفل، بغين معجمة مفتوحة ثم فاء مشددة مفتوحة كنيته أبو سعيد، وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو زياد وهو ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة بيعة الرضوان توفي سنة ستين رضي الله عنه. واتفق أصحابنا على أن المستحب أن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لئلا يترشش عليه وهذا في غير الأخلية المتخذة لذلك.
أما المتخذ لذلك كالمرحاض فلا بأس فيه لأنه لا يترشش عليه ولأن في الخروج منه إلى غيره مشقة، وقول المصنف والأصحاب: لا يستنجي بالماء في موضعه، احتراز من الاستنجاء بالأحجار. فإن شرطه أن لا ينتقل عن موضعه كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
فرع في مسائل تتعلق بآداب قضاء الحاجة إحداها: قال أصحابنا لا بأس بالبول في إناء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت "يقولون:
إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي رضي الله عنه لقد دعا بالطست يبول فيها فانخنس فمات، وما أشعر به". هذا حديث صحيح رواه النسائي وابن ماجه والبيهقي في سننهم، والترمذي في كتاب الشمائل هكذا، ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بمعناه، قالا: قالت فدعا بالطست، ولم تقل ليبول فيها وهو محمول على الرواية الصحيحة الصريحة في

 

ج / 2 ص -77-         البول، والطست بالسين المهملة وهي مؤنثة.
وعن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت
"كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت السرير". رواه أبو داود والنسائي والبيهقي ولم يضعفوه وأميمة ورقيقة، بضم أولهما، ورقيقة بقافين.
وقولها: من عيدان هو -بفتح العين المهملة- وهي النخل الطوال المتجردة الواحدة عيدانة.
الثانية: يحرم البول في المسجد في غير إناء، وأما في الإناء ففيه احتمالان لابن الصباغ ذكرهما في باب الاعتكاف.
أحدهما: الجواز كالفصد والحجامة في إناء.
والثاني: التحريم لأن البول مستقبح فنزه المسجد منه، وهذا الثاني هو الذي اختاره الشاشي وغيره، وهو الأصح المختار وجزم به صاحب "التتمة" في باب الاعتكاف، ونقله العبدري في باب الاعتكاف عن الأكثرين.
الثالثة: يحرم البول على القبر ويكره البول بقربه.
الرابعة: قال أصحابنا: يكره البول في الماء الراكد قليلا كان أو كثيرا لحديث جابر رضي الله عنه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد". رواه مسلم. وفي "الصحيحين" نحوه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.  وأما الجاري فإن كان قليلا كره، وإن كان كثيرا لا يكره، هكذا قاله جماعة من أصحابنا وفيه نظر، وينبغي أن يحرم البول في القليل مطلقا لأنه ينجسه ويتلفه على نفسه وعلى غيره، وأما الكثير الجاري فلا يحرم لكن الأولى اجتنابه، ومما ينهى عنه التغوط بقرب الماء، صرح به الشيخ نصر في الانتخاب، والكافي وهو واضح داخل في عموم النهي عن البول في الموارد.
الخامسة: قال أصحابنا: يكره استقبال الريح بالبول لئلا يرده عليه فيتنجس بل يستدبرها، هذا هو المعتمد في كراهته، وأما الحديث المروي عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره البول في الهواء" فضعيف بل قال الحافظ أبو أحمد بن عدي: إنه موضوع، وجاء عن حسان بن عطية التابعي قال: يكره للرجل أن يبول في هواء وأن يتغوط على رأس جبل.
السادسة: قال أصحابنا يستحب أن يهيئ أحجار الاستنجاء قبل جلوسه، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار". حديث حسن رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وغيرهم.
قال الدارقطني: إسناده حسن صحيح. فهذا هو المعتمد، وأما ما احتج به جماعة من أصحابنا من حديث "اتقوا الملاعن وأعدوا النبل". فليس بثابت فلا يحتج به، والنبل -بضم النون وفتح الباء الموحدة- الأحجار الصغار.

 

ج / 2 ص -78-         السابعة: لا يجوز أن يبول على ما منع الاستنجاء به لحرمته كالعظم، وسائر المطعومات.
الثامنة: قال إمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون: يستحب أن لا يدخل الخلاء مكشوف الرأس، قال بعض أصحابنا فإن لم يجد شيئا وضع كمه على رأسه، ويستحب أن لا يدخل الخلاء حافيا، ذكره جماعة منهم أبو العباس بن سريج في كتاب الأقسام.
وروى البيهقي بإسناده حديثا مرسلا،
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء لبس حذاءه وغطى رأسه". وروى البيهقي أيضا عن عائشة "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء غطى رأسه وإذا أتى أهله غطى رأسه". لكنه ضعيف، قال البيهقي: وروي في تغطية الرأس عند دخول الخلاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو صحيح عنه، قلت: وقد اتفق العلماء على أن الحديث المرسل والضعيف والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال ويعمل بمقتضاه وهذا منها.
التاسعة: قال صاحب "البيان" وغيره: يستحب لمن هو على قضاء الحاجة أن لا ينظر إلى فرجه ولا إلى ما خرج منه ولا إلى السماء ولا يعبث بيده.
العاشرة: قال المصنف في "التنبيه" وكثيرون من أصحابنا يستحب أن لا يستقبل الشمس ولا القمر، واستأنسوا فيه بحديث ضعيف، وهو مخالف لاستقبال القبلة في أربعة أشياء.
أحدها: أن دليل القبلة صحيح مشهور، ودليل هذا ضعيف بل باطل، ولهذا لم يذكره المصنف، ولا كثيرون ولا الشافعي، وهذا هو المختار؛ لأن الحكم بالاستحباب يحتاج إلى دليل، ولا دليل في المسألة.
الثاني: يفرق في القبلة بين الصحراء والبناء كما سبق، ولا فرق هنا، صرح به المحاملي وآخرون.
الثالث: النهي في القبلة للتحريم وهنا للتنزيه.
الرابع: أنه في القبلة يستوي الاستقبال والاستدبار، وهنا لا بأس بالاستدبار وإنما كرهوا الاستقبال، هذا هو الصحيح المشهور؛ وبه قطع المصنف في "التنبيه" والجمهور وقال الصيمري وأبو العباس الجرجاني في كتابه الشافي: يكره الاستدبار أيضا والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والاستنجاء واجب من البول والغائط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"وليستنج بثلاثة أحجار". ولأنها نجاسة لا تلحق المشقة في إزالتها غالبا فلا تصح الصلاة معها كسائر النجاسات.
الشرح: حديث أبي هريرة هذا صحيح رواه الشافعي وأبو داود وغيرهما بأسانيد صحيحة، وسأذكره بكماله إن شاء الله تعالى.
قوله: "وليستنج" هو هكذا بالواو معطوف على ما قبله، كما سأذكره بكماله إن شاء الله تعالى. وقول المصنف "لا تلحقه المشقة في إزالتها "احتراز من دم البراغيث ونحوه. وقوله "فلم تصح

 

ج / 2 ص -79-         الصلاة معها" عبارة حسنة فإنه لو قال فوجب إزالتها لانتقض بنجاسة على ثوب لا يصلى فيه، والغائط معروف وتقدم في هذا الباب بيان أصله.
أما حكم المسألة: فالاستنجاء واجب عندنا من البول والغائط، وكل خارج من أحد السبيلين نجس ملوث، وهو شرط في صحة الصلاة؛ وبه قال أحمد وإسحاق وداود وجمهور العلماء ورواية عن مالك. وقال أبو حنيفة: هو سنة، وهو رواية عن مالك، وحكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والعبدري وغيرهم عن المزني وجعل أبو حنيفة هذا أصلا للنجاسات، فما كان منها قدر درهم بغلي عفي عنه وإن زاد فلا، وكذا عنده في الاستنجاء إن زاد الخارج على درهم وجب وتعين الماء ولا يجزيه الحجر ولا يجب عنده. الاستنجاء بالحجر.
واحتجوا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
"من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج". رواه الدارمي وأبو داود وابن ماجه؛ وهو حديث حسن؛ ولأنها نجاسة لا تجب إزالة أثرها فكذا عينها كدم البراغيث، ولأنه لا تجب إزالتها بالماء فلم يجب غيره، وقال المزني: ولأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم تجب إزالتها كالمني.
واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة وأن يستنجي الرجل بيمينه". حديث صحيح رواه الشافعي في مسنده وغيره بإسناد صحيح، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم بأسانيد صحيحة بمعناه؛ قال البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار: قال الشافعي في القديم: هو حديث ثابت. وعن سلمان رضي الله عنه قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار". رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزي عنه". حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني، وقال إسناده حسن صحيح. واحتج الأصحاب بحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله". وروي "لا يستبرئ" رواه البخاري ومسلم وفي الاستدلال به نظر.
واحتجوا من القياس بما ذكره المصنف، والجواب عن حديثهم أنه لا حرج في ترك الإيتار، وهو محمول على الإيتار الزائد على ثلاثة أحجار جمعا بينه وبين باقي الأحاديث الصحيحة لحديث سلمان وغيره.
والجواب عن قياسهم على دم البراغيث أن ذلك مشقة عظيمة بخلاف أصل الاستنجاء، ولهذا تظاهرت الأحاديث الصحيحة على الأمر بالاستنجاء، ولم يرد خبر في الأمر بإزالة دم البراغيث. وقياس المزني على المني لا يصح لأنه طاهر والبول نجس، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن خرجت منه حصاة أو دودة ولا رطوبة معها، ففيه قولان.

 

ج / 2 ص -80-         أحدهما: يجب الاستنجاء لأنها لا تخلو من رطوبة والثاني: لا يجب، وهو الأصح لأنه خارج من غير رطوبة، فأشبه الريح".
الشرح: هذان القولان مشهوران، وحكاهما بعض الأصحاب عن الجامع الكبير، وخالف الغزالي وشيخه وشيخ شيخه الأصحاب، فنقلوهما وجهين والصواب قولان، والصحيح منهما عند المصنف والجمهور لا يجب، واختاره المزني وقال إمام الحرمين: الأصح الوجوب، ولو خرج المعتاد يابسا كبعرة لا رطوبة معها، فهي كالحصاة لا يجب الاستنجاء على الصحيح، كذا صرح به الشيخ أبو محمد في "الفروق" والقاضي حسين وابن الصباغ والشاشي والبغوي وجماعات. وقطع به أبو العباس بن سريج في كتاب الأقسام.
وقول المصنف: فأشبه الريح. كذا قاسه الأصحاب؛ وأجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح والنوم ولمس النساء والذكر. وحكى عن قوم من الشيعة أنه يجب، والشيعة لا يعتد بخلافهم.
قال الشيخ نصر في الانتخاب: إن استنجى لشيء من هذا فهو بدعة، وقال الجرجاني: يكره الاستنجاء من الريح. والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويستنجي قبل أن يتوضأ، فإن توضأ ثم استنجى صح الوضوء، وإن تيمم ثم استنجى لم يصح التيمم. وقال الربيع: فيه قول آخر أنه يصح. قال أبو إسحاق: هذا من كيسه، والأول هو المنصوص عليه في الأم، ووجهه أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما تستباح به الصلاة من نجاسة النجو، فلا تستباح مع بقاء المانع، ويخالف الوضوء فإنه يرفع الحدث فجاز أن يرفع الحدث والمانع قائم، وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في غير موضع الاستنجاء ففيه وجهان: أحدهما: أنه كنجاسة النجو والثاني: أنه يصح التيمم لأن التيمم لا تستباح به الصلاة من هذه النجاسة، فصح فعله مع وجودها بخلاف نجاسة النجو". 
الشرح: إذا توضأ أو تيمم قبل الاستنجاء ثم استنجى بالحجر أو بالماء لافا على يده خرقة أو نحوها بحيث لا يمس فرجه، فقد نص الشافعي رحمه الله في "البويطي": أنه يصح وضوءه ولا يصح تيممه، ونقل المزني في المنثور عن الشافعي في صحة التيمم والوضوء جميعا قولين.
ونقل ابن القاص أنه يصح الوضوء وفي التيمم قولان. ونقل الربيع أنه لا يصح التيمم، قال: وفيه قول آخر أنه يصح، فحصل في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها: يصح الوضوء والتيمم والثاني: لا يصحان: والثالث: يصح الوضوء ولا يصح التيمم. وهذا الثالث هو الصحيح عند الأصحاب، وقطع به أكثر المتقدمين والمتأخرين وصححه الباقون. قال القاضي أبو الطيب: غلط من ذكر الخلاف في الوضوء. وقال إمام الحرمين: نقل الخلاف في الوضوء بعيد جدا، ولولا أن المزني نقله في المنثور عن الشافعي لما عددته من المذهب.
وقال الشيخ أبو حامد: قال أصحابنا: هذا الذي ذكره الربيع في صحة التيمم ليس بمذهب الشافعي. وقال المحاملي غلط أصحابنا الربيع في ذلك، وهذا معنى قول المصنف: قال أبو إسحاق :

 

ج / 2 ص -81-         هذا من كيس الربيع وهو بكسر الكاف، معناه: ليس هذا منصوصا للشافعي، بل الربيع خرجه من عند نفسه. وأما قول صاحب "الإبانة": الأصح صحة التيمم فغلط مخالف للأصحاب ونصوص الشافعي والدليل، أما إذا كان على موضع من بدنه نجاسة في موضع الاستنجاء فتيمم قبل إزالتها ففي صحة التيمم الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وهما مشهوران ونقل ابن الصباغ أن الشافعي نص في "الأم" على أنه لا يصح تيممه حتى يزيلها. واختلف الأصحاب في الأصح فصحح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والشيخ نصر والشاشي وآخرون من العراقيين بطلان التيمم. وصحح إمام الحرمين والبغوي صحته وبه قطع أبو علي الطبري في "الإفصاح"، ودليله ما ذكره المصنف.
وقال إمام الحرمين: ولأنه لا خلاف أنه لو تيمم وهو مكشوف العورة صح تيممه، وإن كان هذا التيمم لا يستعقب إباحة الصلاة حتى يستر عورته. وذكر القاضي أبو الطيب نحو هذا. وهذا الذي أورداه من ستر العورة إشكال قوي. ويمكن الفرق بأن ستر العورة أخف من إزالة النجاسة، ولهذا تصح الصلاة مع العري بلا إعادة بخلاف النجاسة، والله أعلم.
ثم صورة المسألة أن يكون مع هذا التيمم من الماء ما يكفيه لإزالة النجاسة من غير زيادة، كذا صورها إمام الحرمين وغيره وهو الصواب، وتتصور أيضا فيمن تيمم لجراحة أو مرض، بحيث لا يجب استعمال الماء في الحدث ويجب في النجس لقلته. وقال البغوي: الوجهان فيمن ليس معه ما يغسل به النجاسة، فأما من معه ما يكفيه للنجاسة فلا يصح تيممه قبل إزالتها، والصواب ما سبق. 
ولو تيمم وليس عليه نجاسة. ثم حدثت نجاسة وقلنا النجاسة المقارنة تمنع صحة التيمم ففي الحادثة وجهان حكاهما الروياني. قال: وهما كالوجهين فيما إذا تيمم ثم ارتد؛ لأن النجاسة تمنع الصلاة كالردة.
وقال القاضي حسين: إن تيمم عالما بالنجاسة صح تيممه لأن طلبه الماء للتيمم يكفيه له وللنجاسة، وإن تيمم وعليه نجاسة لا يعلمها أو حدثت بعد التيمم بطل التيمم لأنه يجب طلب الماء لإزالتها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإذا أراد الاستنجاء نظرت فإن كانت النجاسة بولا أو غائطا ولم تجاوز الموضع المعتاد جاز الماء والحجر، والأفضل أن يجمع بينهما لأن الله تعالى أثنى على أهل قباء، فقال سبحانه وتعالى:
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: من الآية108] فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يصنعون، فقالوا نتبع الحجارة الماء. فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل؛ لأنه أبلغ في الإنقاء، وإن أراد الاقتصار على الحجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت "بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عمر خلفه بكوز من ماء، فقال ما هذا يا عمر؟ قال ماء نتوضأ به، فقال ما أمرت، كلما بلت أن أتوضأ، ولو فعلت لكان سنة". ولأنه قد يبتلى بالخارج في مواضع لا يلحق الماء فيها، فسقط وجوبه.
الشرح: أما حديث عائشة فرواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي في سننهم، وهو حديث

 

ج / 2 ص -82-         ضعيف، والمراد بالوضوء هنا الاستنجاء بالماء. وقوله: لكان سنة أي واجبا لازما. ومعناه: لو واظبت على الاستنجاء بالماء لصار طريقة لي يجب اتباعها.
وأما حديث أهل قباء فروي فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"نزلت هذه الآية في أهل قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: من الآية108] وكانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم ولم يضعفه أبو داود لكن إسناده ضعيف فيه يونس بن الحارث قد ضعفه الأكثرون وإبراهيم بن أبي ميمونة. وفيه جهالة. 
وعن عويم بن ساعدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال
"إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ قالوا والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود يغسلون أدبارهم فغسلنا كما غسلوا". رواه أحمد بن حنبل في مسنده وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في صحيحه. وعن جابر وأبي أيوب وأنس رضي الله عنهم قالوا: "نزلت هذه الآية {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: من الآية108] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار قد أثنى الله عليكم في الطهور فما طهوركم؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء. فقال هو ذلك فعليكموه". رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي رواية للبيهقي "فما طهوركم؟ قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل مع ذلك غيره؟ قالوا لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء قال: هو ذاك فعليكموه" وإسناد هذه الرواية ورواية ابن ماجه وغيره إسناد صحيح إلا أن فيه عتبة بن أبي حكيم وقد اختلفوا في توثيقه فوثقه الجمهور، ولم يبين من ضعفه سبب ضعفه، والجرح لا يقبل إلا مفسرا، فيظهر الاحتجاج بهذه الرواية، فهذا الذي ذكرته من طرق الحديث هو المعروف في كتب الحديث أنهم كانوا يستنجون بالماء، وليس فيها ذكر الجمع بين الماء والأحجار.
وأما قول المصنف: قالوا نتبع الحجارة الماء، فكذا يقوله أصحابنا وغيرهم في كتب الفقه والتفسير. وليس له أصل في كتب الحديث، وكذا قال الشيخ أبو حامد في التعليق: إن أصحابنا رووه. قال: ولا أعرفه. فإذا علم أنه ليس له أصل من جهة الرواية فيمكن تصحيحه من جهة الاستنباط، لأن الاستنجاء بالحجر كان معلوما عندهم يفعله جميعهم، وأما الاستنجاء بالماء فهو الذي انفردوا به فلهذا ذكر ولم يذكر الحجر لأنه مشترك بينهم وبين غيرهم ولكونه معلوما. فإن المقصود بيان فضلهم الذي أثنى الله تعالى عليهم بسببه، ويؤيد هذا قولهم: إذا خرج أحدنا من الغائط أحب أن يستنجي بالماء، فهذا يدل على أن استنجاءهم بالماء كان بعد خروجهم من الخلاء، والعادة جارية بأنه لا يخرج من الخلاء إلا بعد التمسح بماء أو حجر، وهكذا المستحب أن يستنجي بالحجر في موضع قضاء الحاجة ويؤخر الماء إلى أن ينتقل إلى موضع آخر والله أعلم.
وقباء - بضم القاف: يذكر ويؤنث وفيه لغتان المد والقصر. قال الخليل: مقصور، وقال الأكثرون: ممدود، ويجوز فيها أيضا الصرف وتركه، والأفصح الأشهر مده وتذكيره وصرفه وهو قرية على ثلاثة أميال من المدينة وقيل أصله اسم بئر هناك، وثبت في الصحيح
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان

 

ج / 2 ص -83-         يزور قباء كل سبت راكبا وماشيا ويصلي فيه" والله أعلم.
وأما حكم المسألة: فقال أصحابنا: يجوز الاقتصار في الاستنجاء على الماء ويجوز الاقتصار على الأحجار؛ والأفضل أن يجمع بينهما فيستعمل الأحجار ثم يستعمل الماء فتقديم الأحجار لتقل مباشرة النجاسة واستعمال الماء، ثم يستعمل الماء ليطهر المحل طهارة كاملة فلو استنجى أولا بالماء لم يستعمل الأحجار بعده لأنه لا فائدة فيه، صرح به الماوردي وآخرون وهو واضح، وإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لأنه يطهر المحل، ولا فرق في جواز الاقتصار على الأحجار بين وجود الماء وعدمه، ولا بين الحاضر والمسافر، والصحيح والمريض. هذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
وحكى ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وحذيفة وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يرون الاستنجاء بالماء، وعن سعيد بن المسيب قال ما يفعل ذلك إلا النساء وقال عطاء: غسل الدبر محدث. قال القاضي أبو الطيب وغيره قالت الزيدية والقاسمية من الشيعة: لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء.
فأما سعيد وموافقوه فكلامهم محمول على أن الاستنجاء بالماء لا يجب، أو أن الأحجار عندهم أفضل؛ وأما الشيعة فلا يعتد بخلافهم ومع هذا فهم محجوجون بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار وأذن فيه وفعله، وقد سبقت جملة من الأحاديث وسنذكر الباقي في مواضعها إن شاء الله تعالى. 
وأما الدليل على جوازه بالماء فأحاديث كثيرة صحيحة مشهورة منها حديث أنس
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الخلاء فأتبعه أنا وغلام بإداوة من ماء فيستنجي بها". رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة أنها قالت لنسوة
"مرن أزواجكن أن يستنجوا بالماء فإني أستحييهم وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله". حديث صحيح رواه أحمد والترمذي والنسائي وآخرون، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى ثم مسح يده على الأرض ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي، ولم يضعفه أبو داود ولا غيره وإسناده صحيح إلا أن فيه شريك بن عبد الله القاضي وقد اختلفوا في الاحتجاج به وفي المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرنا.
قال الخطابي: وزعم بعض المتأخرين أن الماء مطعوم فلهذا كره الاستنجاء به سعد وموافقوه، وهذا قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن أراد الاقتصار على الحجر لزمه أمران: أحدهما: أن يزيل العين حتى لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء والثاني: أن يستوفي ثلاث مسحات لما روي

 

ج / 2 ص -84-         أن رجلا قال لسلمان رضي الله عنه "أنه علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل نهانا أن نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار" فإن استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه لأن القصد عدد المسحات وقد وجد ذلك".
الشرح: حديث سلمان رواه مسلم في صحيحه ووقع في المهذب
"نهانا أن نجتزئ" والذي في مسلم نستنجي بدل "نجتزئ "وفي رواية لمسلم قال: "ولا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار". وقوله الخراءة - هي بكسر الخاء وبالمد.
قال الخطابي: هي أدب التخلي والقعود عند الحاجة وسلمان الراوي هو أبو عبد الله سلمان الفارسي الأصبهاني، من فضلاء الصحابة وفقهائهم وزهادهم وعبادهم ومناقبه أكثر من أن تحصر وهو مولى النبي صلى الله عليه وسلم توفي بالمدائن سنة ست وثلاثين، وقيل سبع، وعمر عمرا طويلا جدا، واتفقوا على أنه عاش مائتين وخمسين سنة. واختلفوا في الزيادة عليها فقيل ثلثمائة وخمسين. وقيل غير ذلك والله أعلم.
وأما حكم المسألة: فمن اقتصر على الحجر لزمه أمران:
أحدهما: أن يزيل العين حتى لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء، هكذا نص عليه الشافعي في "الأم" و"مختصر المزني" بهذا اللفظ، وكذا قاله الأصحاب في كل الطرق إلا الصيمري وصاحبه صاحب "الحاوي" فقال: إذا بقي ما لا يزول بالحجر ويزول بصغار الخزف والخرق ففيه وجهان.
أحدهما: وهو ظاهر مذهب الشافعي. وقول أكثر الأصحاب تجب إزالته لأنها ممكنة بغير الماء.
والثاني: وهو قول بعض المتقدمين لا يجب لأن الواجب الإزالة بالأحجار وقد أزال ما يزول بالأحجار، ورجح الروياني هذا الثاني وهو الصواب، لأن الشرع لم يكلفه غير الأحجار، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة المصرحة بإجزاء الأحجار.
الثاني: أنه يلزمه ثلاث مسحات وإن حصل الإنقاء بمسحة واحدة، نص عليه الشافعي في الأم، واتفق عليه جماهير الأصحاب في كل الطرق.
وحكى الحناطي -بالحاء المهملة والنون- وصاحب "البيان" والرافعي وجها أنه إذا حصل الإنقاء بحجر كفاه وهذا شاذ ضعيف، والصواب وجوب ثلاث مسحات مطلقا، ثم هو مخير بين المسح بثلاثة أحجار أو بحجر له ثلاثة أحرف، هكذا نص عليه الشافعي في "الأم" وغيره، واتفق عليه الأصحاب وفرقوا بينه وبين من رمى الجمار في الحج، بحجر له ثلاثة أحرف فإنه لا يحسب له إلا حجر واحد لأن المقصود هناك عدد الرمي، والمقصود هنا عدد المسحات.
قال الشافعي والأصحاب: والمسح بثلاثة أحجار أفضل من أحرف حجر، للحديث "وليستنج بثلاثة أحجار".

 

ج / 2 ص -85-         وقال المحاملي وغيره: ولو بال وتغوط فالمستحب أن يمسح بستة أحجار فإن مسحهما بحجر له ستة أحرف ست مسحات أجزأه لحصول المسحات.
قال ابن الصباغ وغيره: وكذا الخرقة الغليظة التي إذا مسح بأحد وجهيها لا يصل البلل إلى الجانب الآخر يجوز أن يمسح بوجهيها، ويحسب مسحتين.
وحكى الدارمي في "الاستذكار" عن ابن جابر أنه لا يجزئه حجر له ثلاثة أحرف وأظنه أراد بابن جابر: إبراهيم بن جابر من أصحابنا، وحينئذ يكون وجها شاذا في المذهب وهو رواية عن أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر للحديث.
قال أصحابنا: وإذا حصل الإنقاء بثلاثة أحجار بلا زيادة، فإن لم يحصل بثلاثة وجب رابع. فإن حصل به استحب خامس ولا يجب، فإن لم يحصل وجب خامس. فإن حصل به فلا زيادة وإلا وجب سادس. فإن حصل به استحب سابع ولا يجب وإلا وجب، وهكذا أبدا متى حصل بثلاثة فما فوقها لم تجب زيادة.
وأما الاستحباب فإن كان حصول الإنقاء بوتر لم يستحب الزيادة وإلا استحب الإيتار لقوله صلى الله عليه وسلم
"من استجمر فليوتر". رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة، وحكى صاحب "البيان" وجها أن الإيتار بخامس واجب لعموم الأمر بالإيتار، وهذا الوجه شاذ، فإن الأمر بالإيتار بعد الثلاث للاستحباب والله أعلم.
فرع: في مذاهب العلماء في عدد الأحجار، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب ثلاث مسحات، وإن حصل الإنقاء بدونها، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك وداود: الواجب الإنقاء، فإن حصل بحجر أجزأه وهو وجه لنا كما سبق، وحكاه العبدري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال أبو حنيفة حيث أوجب الاستنجاء. واحتجوا بحديث أبي هريرة السابق "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج". قالوا: ولأن المقصود الإنقاء لأنه لو استنجى بالماء لم يشترط عدد فكذا الحجر. 
واحتج أصحابنا بحديث سلمان. وهو صريح في وجوب الثلاث، وبحديث أبي هريرة: "وليستنج بثلاثة أحجار". وهما صحيحان، سبق بيانهما، وبحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه". وهو صحيح -سبق بيانه في مسألة وجوب الاستنجاء. وبحديث أبي هريرة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة. "الرمة" 1  بكسر الراء: العظم البالي- وبحديث خزيمة "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال: بثلاثة أحجار". رواه أحمد وأبو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  رم العظم يرم من باب ضرب فهو رميم, إذا بلي قال تعالى:
{يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} والرمة: العظام البالية وتجمع على رمم. أما الرمة بالضمة فهي قطعة الجبل بها كنى ذو الرمة الشاعر (ط).

 

ج / 2 ص -86-         داود وابن ماجه والبيهقي ولم يضعفه أبو داود ولا غيره. وبحديث ابن مسعود "أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال إنها ركس". رواه البخاري هكذا، ورواه أحمد والدارقطني والبيهقي، في بعض رواياته زيادة "فألقى الروثة وقال ائتني بحجر، يعني ثالثا" وفي بعضها "ائتني بغيرها" وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استجمر فليوتر". رواه مسلم، وفي رواية لأحمد والبيهقي: "وإذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا". قال البيهقي: هذه الرواية تبين أن المراد بالإيتار في الرواية الأولى ما زاد على الواحد. واحتجوا من القياس بأشياء كثيرة، منها قياس القاضيين أبي الطيب وحسين في تعليقيهما: عبادة تتعلق بالأحجار، يستوي فيها الثيب والأبكار، فكان للعدد فيها اعتبار، قياسا على رمي الجمار.
قال أبو الطيب: قولنا يستوي فيها الثيب والأبكار احتراز من الرجم، ولا حاجة إلى الأقيسة مع هذه الأحاديث الصحيحة، قال الخطابي في حديث سلمان: "أمرنا أن نستنجي بثلاثة أحجار". 
في هذا البيان الواضح أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز؛ وإن حصل الإنقاء بدونها. ولو كفى الإنقاء لم يكن لاشتراط العدد معنى، فإنا نعلم أن الإنقاء قد يحصل بواحد، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى، لأنه يزيل العين والأثر، فدلالته قطعية، فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد. وأما الحجر فلا يزيل الأثر، وإنما يفيد الطهارة ظاهرا لا قطعا، فاشترط فيه العدد كالعدة بالأقراء، لما كانت دلالتها ظنا اشترط فيها العدد، وإن كان قد تحصل براءة الرحم بقرء. ولهذا اكتفي بقرء في استبراء الأمة، ولو كانت "العدة" بالولادة لم يشترط العدد، لأن دلالتها قطعية. هذا مختصر كلام الخطابي.
فإن قيل: التقييد بثلاثة أحجار، إنما كان لأن الإنقاء لا يحصل بدونها غالبا، فخرج مخرج الغالب، قلنا: لا يجوز حمل الحديث على هذا؛ لأن الإنقاء شرط بالاتفاق، فكيف يحل به ويذكر ما ليس بشرط مع كونه موهما للاشتراط. فإن قيل: فقد ترك ذكر الإنقاء، قلنا ذلك من المعلوم الذي يستغنى بظهوره عن ذكره بخلاف العدد، فإنه لا يعرف إلا بتوقيف. فنص على ما يخفى وترك ما لا يخفى، ولو حمل على ما قالوه لكان إخلالا بالشرطين معا، وتعرضا لما لا فائدة فيه، بل فيه إبهام.
والجواب عن الحديث الذي احتجوا به أن الوتر الذي لا حرج في تركه هو الزائد على ثلاثة جمعا بين الأحاديث. والجواب عن الدليلين الآخرين سبق في كلام الخطابي، والله أعلم
فرع: قال أصحابنا: لو مسح ذكره مرتين أو ثلاثة ثم خرجت منه قطرة، وجب استئناف الثلاث.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وفي كيفية الاستنجاء بالحجر وجهان. قال أبو علي بن أبي هريرة: يضع حجرا مقدم صفحته اليمنى، ويمره إلى آخرها، ثم يدير الحجر إلى الصفحة اليسرى، فيمره عليها إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي بدأ منه، ويأخذ الثاني فيمره على الصفحة

 

ج / 2 ص -87-         اليسرى ويمره إلى آخرها، ثم يديره إلى صفحته اليمنى فيمره عليها من أولها إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي بدأ منه، ويأخذ الثالث فيمره على المسربة لقوله صلى الله عليه وسلم: "يقبل بواحد ويدبر بآخر ويحلق بالثالث". وقال أبو إسحاق: يمر حجرا على الصفحة اليمنى، وحجرا على الصفحة اليسرى، وحجرا على المسربة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار، حجران للصفحتين وحجر للمسربة". والأول أصح لأنه يمر كل حجر على المواضع الثلاثة".
الشرح: أما الحديث الأول فضعيف منكر لا أصل له 1  وينكر على المصنف قوله فيه: "لقوله صلى الله عليه وسلم" فعبر عنه بصيغة الجزم مع أنه حديث منكر. أما الثاني فحديث حسن، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال:
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار، حجرين للصفحتين، وحجرا للمسربة". رواه الدارقطني والبيهقي وقالا: إسناده حسن.
وأما قول الرافعي: الحديثان ثابتان؛ فغلط منه في الحديث الأول، ووقع في الحديث حجرين وحجرا بالنصب. وفي المهذب حجران وحجر بالرفع، وكلاهما صحيح، فالأول على البدل من "ثلاثة" والثاني على الابتداء. وقد جاء القرآن بالوجهين، فالبدل في مواضع كثيرة كقوله تعالى:
{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى, صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ} [الأعلى: 19,18] وابتداء قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: من الآية13] وقوله: "ويحلق" هو بضم الياء وكسر اللام المشددة، أي يديره كالحلقة، والمسربة هنا مجرى الغائط وهي بضم الراء، وقيل: يجوز فتحها، وللمسربة معنى آخر في اللغة وهي الشعر المستدق من السرة إلى العانة، وجاء ذكرها في الحديث وليست مرادة هنا.
وأما حكم المسألة: ففي كيفية الاستنجاء ثلاثة أوجه:
أحدها: يمر حجرا من مقدم الصفحة اليمنى ويديره عليها ثم على اليسرى حتى يصل الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الحجر الثاني من أول الصفحة اليسرى إلى آخرها. ثم على اليمنى حتى يصل موضع ابتدائه، ثم يمر بالثالث على المسربة، وهذا قول ابن أبي هريرة.
الثاني: أن يمسح بحجر الصفحة اليمنى وحدها، ثم بحجر اليسرى وحدها، وبالثالث المسربة. وهذا قول أبي إسحاق المروزي.
والثالث: يضع حجرا على مقدم المسربة ويمره إلى آخرها، ثم حجرا على مؤخرة المسربة ويمره إلى أولها، ثم يحلق بالثالث، حكاه البغوي وهو غريب. واتفق الأصحاب على أن الصحيح هو الوجه الأول؛ لأنه يعم المحل بكل حجر. ونقل القاضي أبو الطيب وصاحبا "الشامل" و"التتمة" عن الأصحاب أنهم غلطوا أبا إسحاق المروزي في الوجه الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  قول الإمام النووي: منكر لا أصل غير متجه إذ المنكر له أصل وهو روايته على سبيل النكارة, وعندي أن ما لا أصل له ما ليس بحديث إلا أن يكون المراد: لا أصل له صحيح فيتوجه. ط.

 

ج / 2 ص -88-         ونقل القاضي حسين في "تعليقه": أن الشافعي نص في الكبير على قول أبي إسحاق لكن الأصحاب تأولوه، وعلى هذا الجواب عن الحديث الذي احتج به أن قوله صلى الله عليه وسلم حجرين للصفحتين معناه كل حجر للصفحتين. ثم اختلفوا في هذا الخلاف. فالصحيح أنه خلاف في الأفضل وأن الجميع جائز. وبهذا قطع العراقيون والبغوي وآخرون من الخراسانيين، وحكاه الرافعي عن معظم الأصحاب وحكى الخراسانيون وجها أنه خلاف في الوجوب، فصاحب الوجه الأول لا يجيز الكيفية الثانية وصاحب الثاني لا يجيز الأولى، وهذا قول الشيخ أبي محمد الجويني، وقال الغزالي في درسه: ينبغي أن يقال من قال بالأول لا يجيز الثاني، ومن قال بالثاني لا يجيز الأول. قال المتولي: فإن احتاج إلى استعمال حجر رابع وخامس فصفة استعماله كصفة الثالث لأنا أمرناه في الثالث بمسح الجميع لأن عين النجاسة زالت بالحجرين الأولين؛ وليس في المحل إلا أثر فلا يخشى انبساطه.
فرع: قال أصحابنا الخراسانيون: ينبغي أن يضع الحجر على موضع طاهر بقرب النجاسة، ولا يضعه على نفس النجاسة؛ لأنه إذا وضعه عليها أبقى شيئا منها ونشرها؛ وحينئذ يتعين الماء، ثم إذا انتهى إلى النجاسة أدار الحجر قليلا قليلا حتى يرفع كل جزء من الحجر جزءا من النجاسة، فلو أمر الحجر من غير إدارة ونقل النجاسة من موضع إلى موضع تعين الماء، وإن أمر ولم ينقل فهل يجزئه؟ فيه وجهان الصحيح يجزئه. هكذا ذكره إمام الحرمين والغزالي والرافعي وغيرهم ولم يشترط العراقيون شيئا من ذلك وهو الصحيح؛ فإن اشتراط ذلك تضييق للرخصة غير ممكن إلا في نادر من الناس مع عسر شديد. وليس لهذا الاشتراط أصل في السنة؛ والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يجوز أن يستنجي بيمينه، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت
"كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى". فإن كان يستنجي بغير الماء أخذ ذكره بيساره ومسحه على ما يستنجي به من أرض أو حجر، فإن كان الحجر صغيرا غمز عقبه عليه وأمسكه بين إبهامي رجليه ومسح ذكره عليه بيساره، وإن كان يستنجي بالماء صب الماء بيمينه ومسحه بيساره، فإن خالف واستنجى بيمينه أجزأه لأن الاستنجاء يقع بما في اليد لا باليد فلم تمنع صحته". 
الشرح: حديث عائشة صحيح. رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، وروى جماعة من الصحابة في النهي عن الاستنجاء باليمين فروى أبو قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أتى أحدكم الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه". رواه البخاري ومسلم. وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي باليمين". رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه. وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة". حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة، وهذا لفظ أبي داود وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد" فيه تفسيران ذكرهما صاحب "الحاوي" وآخرون، أظهرهما-

 

ج / 2 ص -89-         ولم يذكر الخطابي وغيره - أنه كلام بسط وتأنيس للمخاطبين، لئلا يستحيوا عن مسألته فيما يحتاجون إليه من أمر دينهم، لا سيما ما يتعلق بالعورات ونحوها، فقال: أنا كالوالد فلا تستحيوا مني في شيء من ذلك كما لا تستحيون من الوالد. والثاني: معناه يلزمني تأديبكم وتعليمكم أمر دينكم، كما يلزم الوالد ذلك، ويجوز أن يكون المراد كالوالد في الأمرين جميعا. وفي ثالث أيضا وهو الحرص على مصلحتكم والشفقة عليكم والله أعلم.
وأما حكم المسألة: فقال الأصحاب: يكره الاستنجاء باليمين كراهة تنزيه ولا يحرم، هكذا صرح به الجمهور، قال الشيخ أبو حامد في "تعليقه": يستحب أن يستنجي بيساره، وهو منهي عن الاستنجاء بيمينه نهي تنزيه لا تحريم. وقال إمام الحرمين: الاستنجاء باليمين مكروه غير محرم، قال: وحرمه أهل الظاهر وقال ابن الصباغ وآخرون: الاستنجاء باليسار أدب، وليس اليمين معصية، وقال القاضي أبو الطيب وآخرون: يستحب أن يستنجي بيساره، وقال المحاملي والفوراني والغزالي في "البسيط"، والبغوي والروياني وصاحب "العدة" وآخرون: يكره باليمين وقال أبو محمد الجويني في "الفروق" والبغوي في شرح السنة: النهي عن اليمين نهي تأديب، وعبارات الجمهور ممن لم أذكرهم نحو هذه العبارات. وقال الخطابي: النهي عن الاستنجاء باليمين عند أكثر العلماء نهي تأديب وتنزيه، وقال بعض أهل الظاهر: لا يجزئه.
وأما قول المصنف لا يجوز الاستنجاء باليمين، فكذلك قاله سليم الرازي في الكفاية والمتولي والشيخ نصر في كتبه "التهذيب" والانتخاب والكافي، وكذا رأيته في موضع من تعليق أبي حامد، وظاهر هذه العبارة تحريم الاستنجاء باليمين، ولكن الذي عليه جمهور الأصحاب أنه مكروه كراهة تنزيه كما ذكرنا، ويؤيده قول الشافعي في "مختصر المزني": النهي عن اليمين أدب، ويمكن أن يحمل كلام المصنف وموافقيه على أن قولهم: لا يجوز، معناه ليس مباحا مستوي الطرفين في الفعل والترك، بل هو مكروه راجح الترك، وهذا أحد المذهبين المشهورين في أصول الفقه، وقد استعمل المصنف لا يجوز في مواضع ليست محرمة وهي تتخرج على هذا الجواب.
فإن قيل: هذا غير معتاد في كتب المذهب، قلنا: هو موجود فيها وإن كان قليلا، ولا يمتنع استعماله على اصطلاح الأصول، وقد حكي أن المصنف ضرب في نسخة أصله بالمهذب على لفظة: "يجوز أن "وبقي قوله لا يستنجي باليمين، وهذا يصحح ما قلناه والله أعلم. 
قال أصحابنا: ويستحب أن لا يستعين بيمينه في شيء من أمور الاستنجاء إلا لعذر، وقول المصنف: إن كان الحجر صغيرا غمز عقبه عليه أو أمسكه بين إبهامي رجليه، كذا قاله أصحابنا، لئلا يستنجي بيمينه ولا يمس ذكره بيمينه، فإن لم يمكنه ذلك واحتاج إلى الاستعانة باليمين فالصحيح الذي قاله الجمهور أنه يأخذ الحجر بيمينه، والذكر بيساره، ويحرك اليسار دون اليمين، فإن حرك اليمين أو حركهما كان مستنجيا باليمين مرتكبا لكراهة التنزيه. ومن أصحابنا من قال: يأخذ الذكر بيمينه والحجر بيساره ويحرك اليسار، لئلا يستنجي باليمين، حكاه صاحب "الحاوي" وغيره وهو غلط، فإنه منهي عن مس الذكر بيمينه.

 

ج / 2 ص -90-         وذكر الرافعي وجها أنه لا طريق إلى الاحتراز من هذه الكراهة إلا بالإمساك بين العقبين أو الإبهامين، وكيف استعمل اليمين بإمساك الحجر أو غيره فمكروه، وهذا الوجه غلط أيضا، قال أصحابنا: فلو كان بيده اليسرى مانع كقطع وغيره فلا كراهة في اليمين للضرورة والله أعلم.

فرع في مسائل تتعلق بالفصل1
إحداها: السنة أن يستنجي قبل الوضوء ليخرج من الخلاف وليأمن انتقاض طهره؛ قال أصحابنا: ويستحب أن يبدأ في الاستنجاء بالماء بقبله.
الثانية: إذا أراد الرجل الاستنجاء من البول مسح ذكره على ثلاثة مواضع من الحجر طاهرة فلو مسحه ثلاثا على موضع واحد لم يجزئه وتعين الماء.
قال القاضي حسين: ولو وضع رأس الذكر على جدار ومسحه من أسفل إلى أعلى لم يجزئه، وإن مسحه من أعلى إلى أسفل أجزأه وفي هذا التفصيل نظر.
الثالثة: إذا أراد الاستنجاء في الدبر بالماء استحب أن يعتمد على أصبعه الوسطى لأنه أمكن، ذكره الماوردي وغيره ويستعمل من الماء ما يظن زوال النجاسة به فإن فعل ذلك ثم شم من يده رائحة النجاسة فوجهان حكاهما الماوردي وغيره أحدهما: يدل ذلك على بقاء النجاسة فتجب إزالتها بزيادة الغسل وعلى هذا يستحب شم الأصبع. قال الماوردي: وهذا مستبعد، وإن كان مقولا والثاني: لا يدل على بقاء النجاسة في محل الاستنجاء، ويدل على بقائها في الأصبع، فعلى هذا لا يستحب شم الأصبع. وهذان الوجهان مأخوذان من القولين فيما إذا غسلت النجاسة وبقيت رائحتها هل يحكم بطهارة المحل؟ وقد ذكرهما المصنف في باب إزالة النجاسة وهناك نشرحهما ونبسط الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
قال الغزالي في الإحياء: يدلك دبره مع الماء حتى لا يبقى أثر تدركه الكف بالمس قال: ولا يستقصي فيه بالتعرض للباطن فإن ذلك منبع الوسواس؛ قال: وليعلم أن كل ما لا يصل الماء إليه فهو باطن ولا يثبت للفضلات الباطنة حكم النجاسة حتى تبرز وما ظهر ثبت له حكم النجاسة وحد ظهوره أن يصله الماء، وقوله: لا يثبت للفضلات الباطنة حكم النجاسة، يحتمل أنه أراد في وجوب إزالتها، ويحتمل أنها لا يحكم بكونها نجاسة مطلقا. وفي المسألة خلاف سبق مبسوطا في أول باب ما ينقض الوضوء.
الرابعة: قال أصحابنا: الرجل والمرأة والخنثى المشكل في استنجاء الدبر سواء، وأما القبل فأمر الرجل فيه ظاهر، وأما المرأة فنص الشافعي رحمه الله على أن البكر والثيب سواء، فيجوز اقتصارهما على الحجر، وبهذا قطع جماهير الأصحاب في الطريقتين وقطع الماوردي بأن الثيب لا يجزئها الحجر، حكاه المتولي والشاشي وصاحب "البيان" وجها وهو شاذ والصواب الأول.
قال الأصحاب: لأن موضع الثيابة والبكارة في أسفل الفرج والبول يخرج من ثقب في أعلى

 

ج / 2 ص -91-         الفرج فلا تعلق لأحدهما بالآخر، فاستوت البكر والثيب إلا أن الثيب إذا جلست انفرج أسفل فرجها، فربما نزل البول إلى موضع الثيابة والبكارة وهو مدخل الذكر ومخرج الحيض والمني والولد، فإن تحققت نزول البول إليه وجب غسله بالماء، وإن لم تتحقق استحب غسله ولا يجب. نص الشافعي على استحبابه إذا لم تتحقق، واتفق الأصحاب عليه، واتفقوا على وجوب غسله إذا تحققت نزوله، قال صاحب "البيان" وغيره: يستحب للبكر أن تدخل أصبعها في الثقب الذي في الفرج فتغسله ولا يلزمها ذلك بالاتفاق.
قال الشافعي والأصحاب: ويلزم الثيب أن توصل الحجر إلى الموضع الذي يجب إيصال الماء إليه في غسل الجنابة ويجب إيصال الماء إلى ما يظهر عند جلوسها على قدميها، وإن لم يظهر في حال قيامها، نص عليه الشافعي والأصحاب وشبهه الشافعي بما بين الأصابع ولا يبطل صومها بهذا، قال الروياني: قال أصحابنا: ما وراء هذا في حكم الباطن، فلا تكلف إيصال الماء والحجر إليه، ويبطل الصوم بالواصل إليه، ولنا وجه ضعيف، أنه لا يجب إيصال الماء إلى داخل فرج الثيب.
وأما الخنثى المشكل فقطع الأكثرون بأنه يتعين الماء في قبليه، ممن قطع به الماوردي والقاضي حسين والفوراني والغزالي في "البسيط"، والبغوي والروياني وصاحب "العدة" وقال المتولي والشاشي وصاحب البيان: هل يتعين الماء في قبليه؟ أم يجزئ الحجر؟ فيه وجهان كمن انفتح له مخرج دون المعدة مع انفتاح الأصلي. وقلنا ينقض الخارج منه، الأصح يتعين الماء وهذه الطريقة أصح، ولعل مراد الأكثرين التفريع على الأصح، فإن قلنا: يجزئه الحجر وجب لكل فرج ثلاثة أحجار والله أعلم.
الخامسة: السنة أن يدلك يده بالأرض بعد غسل الدبر، ذكره البغوي والروياني وآخرون لحديث ميمونة رضي الله عنها قالت:
"وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءا للجنابة فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثا، ثم غسل فرجه ثم ضرب بيده الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا". رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري وفي رواية مسلم: "ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا" وعن أبي هريرة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء فاستنجى ثم مسح يده على الأرض ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم وهو حديث حسن وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الغيضة فقضى حاجته، ثم استنجى من إداوة ومسح يده بالتراب". رواه النسائي وابن ماجه بإسناد جيد.
السادسة: يستحب أن يأخذ حفنة من ماء فينضح بها فرجه وداخل سراويله أو إزاره بعد الاستنجاء دفعا للوسواس، ذكره الروياني وغيره. وجاء به الحديث الصحيح في خصال الفطرة وهو الانتضاح، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويجوز الاستنجاء بالحجر وما يقوم مقامه، قال أصحابنا: ويقوم مقامه كل جامد طاهر مزيل للعين وليس له حرمة، ولا هو جزء من حيوان". 
الشرح: اتفق أصحابنا على جواز الاستنجاء بالحجر وما يقوم مقامه، وضبطوه بما ضبطه به

 

ج / 2 ص -92-         المصنف قالوا: وسواء في ذلك الأحجار والأخشاب والخرق والخزف والآجر الذي لا سرجين فيه وما أشبه هذا. ولا يشترط اتحاد جنسه؛ بل يجوز في القبل جنس وفي الدبر جنس آخر، ويجوز أن يكون الثلاثة حجرا، وخشبة، وخرقة. نص عليه الشافعي واتفق الأصحاب عليه، هذا مذهبنا. قال الشيخ أبو حامد: وبه قال العلماء كافة إلا داود فلم يجوز غير الحجر، وكذا نقل أكثر أصحابنا عن داود، قال القاضي أبو الطيب: هذا ليس بصحيح عن داود بل مذهبه الجواز.
واحتج الأصحاب بحديث أبي هريرة قال: "اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج لحاجته فقال:
ابغني أحجارا أستنفض بها، أو نحوه ولا تأتني بعظم ولا روث". رواه البخاري، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الآخر: "ليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة".
قال أصحابنا: فنهيه صلى الله عليه وسلم عن الروث والعظم دليل على أن غير الحجر يقوم مقامه وإلا لم يكن لتخصيصها بالنهي معنى. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
"أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس". رواه البخاري قال أصحابنا: موضع الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم علل منع الاستنجاء بها بكونها ركسا ولم يعلل بكونها غير حجر.
واحتج الأصحاب أيضا بحديث رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الاستنجاء بثلاثة أحجار أو ثلاثة أعواد، قيل فإن لم يجد؟ قال: ثلاث حفنات من تراب". وهذا ليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: الصحيح أنه من كلام طاوس. وروي من حديث سراقة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف أيضا. قال البيهقي: وأصح ما روي في هذا ما رواه يسار بن نمير قال: كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئا أستنجي به، فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطا يتمسح به أو يمسه الأرض، ولم يكن يغسله.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
"وليستنج بثلاثة أحجار" وشبهه. فإنما نص على الأحجار لكونها غالب الموجود للمستنجي بالفضاء، مع أنه لا مشقة فيها ولا كلفة في تحصيلها. وهذا نحو قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: من الآية151] وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: من الآية101] ونظائر ذلك، فكل هذا مما ليس له مفهوم يعمل به لخروجه على الغالب، والله أعلم.
فرع: ورد الشرع باستعمال الحجر في الاستنجاء ورمي جمار الحج، وباستعمال الماء في طهارة الحدث والنجس، وباستعمال التراب في التيمم وغسل ولوغ الكلب، وباستعمال القرظ في الدباغ. فأما الحجر فمتعين في الرمي دون الاستنجاء، لأن الرمي لا يعقل معناه بخلاف الاستنجاء، وأما الماء في الطهارة والتراب في التيمم فمتعينان، وفي التراب في الولوغ قولان، وفي الدباغ طريقان تقدما، المذهب أنه لا يتعين القرظ، والثاني: قولان كالولوغ، والفرق أن الولوغ دخله التعبد والفرق بين الدباغ والاستنجاء أن الاستنجاء مما تعم به البلوى ويضطر كل أحد إليه في كل وقت وكل مكان ولا

 

ج / 2 ص -93-         يمكن تأخيره، فلو كلف نوعا معينا شق، وتعذر في كثير من الأوقات ووقع الحرج، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: من الآية78] والدباغ بخلافه في كل هذا، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فأما غير الماء من المائعات فلا يجوز الاستنجاء به لأنه ينجس بملاقاة النجاسة فيزيد في النجاسة، وما ليس بطاهر كالروث والحجر النجس لا يجوز الاستنجاء به
[1 لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الاستنجاء بالروث] ولأنه نجس فلا يجوز الاستنجاء به كالماء النجس، فإن استنجى بذلك لزمه بعد ذلك أن يستنجي بالماء لأن الموضع قد صار نجسا بنجاسة نادرة فوجب غسله بالماء. ومن أصحابنا من قال: يجزئه 2  الحجر؛ لأنها نجاسة على نجاسة فلم تؤثر".
الشرح: إذا استنجى بمائع غير الماء لم يصح، ويتعين بعده الاستنجاء بالماء ولا يجزئه الأحجار بلا خلاف، لما ذكر المصنف. وأما قول صاحب البيان: "إذا استنجى بمائع فهل يجزئه بعده الحجر؟ فيه وجهان" فغلط بلا شك، كأنه اشتبه عليه كلام صاحب المهذب فتوهم أن قوله: ومن أصحابنا من قال: يجزئه الحجر، عائد إلى المسألتين وهما الاستنجاء بالماء وبالنجس كالروث، وهذا وهم باطل؛ لأن مراد صاحب المهذب الخلاف في المسألة الثانية وحدها، وأما مسألة المائع فمتفق فيها على أن الماء يتعين، لأن المائع ينشر النجاسة، وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله: فيزيد في النجاسة. والله أعلم.
وأما النجس وهو الروث والحجر النجس وجلد الميتة والثوب النجس وغيرها فلا يجوز الاستنجاء به، فإن خالف واستنجى به لم يصح بلا خلاف، وهل يتعين بعده الاستنجاء بالماء أم يجوز بالأحجار؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما، الصحيح عند الجمهور يتعين الماء، وبه قطع إمام الحرمين والغزالي في "البسيط" والبغوي وغيرهم، وصححه الجمهور وخالفهم المحاملي فقال في "التجريد"، قال أصحابنا: إذا استنجى بنجس لزمه أن يستنجي بثلاثة أحجار طاهرة. قال: حتى لو استنجى بجلد كلب أجزأه الحجر بعد ذلك؛ لأن النجاسة الطارئة تابعة لنجاسة النجو.
قال: وقال الشيخ أبو حامد: الذي يجيء على المذهب أنه لا يجزئه إلا الماء، هذا كلام المحاملي، ورأيت أنا في تعليق الشيخ أبي حامد خلاف ما نقله عنه فقطع بأنه إذا استنجى بجامد نجس كفاه بعده الأحجار. قال: فلو استنجى بكلب فالذي يجيء على تعليل الأصحاب أنه يجزئه الحجر، ولا يحتاج إلى سبع مرات إحداهن بالتراب، هذا كلامه، ولكن نسخ التعليق تختلف وقد قدمت نظائر هذا، والصواب في مسألة الاستنجاء بجلد كلب أنه يجب سبع غسلات إحداهن بتراب، والصحيح في سائر النجاسات أنه يتعين الماء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين من نسخة الركبي والمتوكلية (ط).
2  في الركبي: يجزي فيه الحجر. (ط).

 

ج / 2 ص -94-         فرع: قد ذكرنا أنه لا يجوز الاستنجاء بنجس، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وجوزه أبو حنيفة بالروث.
دليلنا حديث أبي هريرة المتقدم في الفصل قبله. وقوله صلى الله عليه وسلم:
"ولا تأتني بعظم ولا روث". وحديثه الآخر: "ونهى عن الروث والرمة" وحديث ابن مسعود: "فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس" وهذه أحاديث صحاح تقدمت قريبا. وعن سلمان: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروث والعظام". رواه مسلم. وعن جابر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتمسح بعظم أو بعر". رواه مسلم. وعن أبي هريرة "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران". فرواه الدارقطني وقال إسناد صحيح. وعن رويفع بن ثابت قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا رويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا منه بريء". رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وما لا يزيل العين لا يجوز الاستنجاء به كالزجاج والحممة، لما روى ابن مسعود رضي الله عنه:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالحممة". ولأن ذلك لا يزيل النجو.
الشرح: هذا الحديث ضعيف ولفظه:
"قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة، فإن الله عز وجل جعل لنا فيها رزقا، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم". رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي ولم يضعفه أبو داود، وضعفه الدارقطني والبيهقي. 
والحممة 1  بضم الحاء وفتح الميمين مخففتين وهي الفحم، كذا قاله أصحابنا في كتب الفقه، وكذا قاله أهل اللغة وغريب الحديث. وقال الخطابي: الحمم الفحم وما أحرق من الخشب والعظام ونحوهما، قال: والاستنجاء به منهي عنه لأنه جعل رزقا للجن فلا يجوز إفساده عليهم، قال البغوي: قيل: المراد بالحممة الفحم الرخو الذي يتناثر إذا غمز فلا يقلع النجاسة. والزجاج معروف وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها ثلاث لغات، حكاهن ابن السكيت والجوهري وغيرهما.
وأما راوي الحديث فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل بالغين المعجمة والفاء ابن حبيب الهذلي، وهو من كبار الصحابة وساداتهم وكبار فقهائهم وملازمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدامه، ومناقبه كثيرة مشهورة، أسلم في أول الإسلام سادس ستة، وأسلمت أمه، وسكن الكوفة ثم عاد إلى المدينة وتوفي بها سنة ثنتين وثلاثين، وهو ابن بضع وستين سنة 2  وقد ذكرت قطعة من أحواله في "التهذيب" رضي الله عنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذه المادة أخذ منها حروف الحميم والحمام الذي يستحم فيه الناس, وحمة القرب, ومحام عن هذا الأمر ثابت عليه وحامة الرجل أقرباؤه وحمة السنان حدته, وحم الظهيرة قال الشاعر:
ولقد ربأت إذا الصحاب تواكلوا
حم الظهيرة في النخاع الأطول
2  ودفن بالبقيع وصلى عليه الزبير أو عثمان على خلاف في الروايات.

 

ج / 2 ص -95-         وأما حكم المسألة: فاتفق الأصحاب على أن شرط المستنجى به كونه قالعا لعين النجاسة، واتفقوا على أن الزجاج والقصب الأملس وشبههما لا يجزئ، وأما الفحم فقطع العراقيون بأنه لا يجزئ، وقال الخراسانيون: اختلف نص الشافعي فيه. قالوا: وفيه طريقان الصحيح منهما أنه على حالتين، فإن كان صلبا لا يتفتت أجزأ الاستنجاء به. وإن كان رخوا يتفتت لم يجزئ. وقيل: فيه قولان مطلقا، حكاهما القفال والقاضي حسين والمتولي وغيره من الخراسانيين، وحكاهما الدارمي من العراقيين. قال إمام الحرمين: هذا الطريق غلط والصواب التفصيل، فإنه لم يصح الحديث بالنهي، فتعين التفصيل بين الرخو والصلب.
قال أصحابنا: فإذا استنجى بزجاج ونحوه لزمه الاستنجاء ثانيا، فإن كان حين استنجى بالزجاج بسط النجاسة بحيث تعدت محلها تعين الماء، وإلا فتكفيه الأحجار. هكذا صرح به الفوراني وإمام الحرمين والغزالي والمتولي وصاحب "العدة" وآخرون. وقال القفال والقاضي حسين والبغوي: يتعين الماء لأنه يبسط النجاسة، ومرادهم إذا بسط، وقد قال الغزالي في "البسيط": لا خلاف أنه إذا لم يبسط النجاسة يكفيه الأحجار، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وما له حرمة من المطعومات كالخبز والعظم لا يجوز الاستنجاء به.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالعظم، وقال: "هو زاد إخوانكم من الجن" فإن خالف واستنجى به لم يجزئه، ولأن الاستنجاء بغير الماء رخصة، والرخص لا تتعلق بالمعاصي".
الشرح: أما حديث النهي عن الاستنجاء بالعظم فصحيح، رواه جماعة من الصحابة، منهم سلمان وجابر وأبو هريرة ورويفع، وأحاديثهم صحيحة تقدمت قريبا في الفرع. وأما قوله: وقال: "هو زاد إخوانكم من الجن" فقد رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل، قال في آخره وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تستنجوا بالعظم والبعرة فإنهما طعام إخوانكم". يعني الجن، ورواه مسلم من طريق آخر ولم يذكر هذه الزيادة فيه، ورواه من طريق ثالث عن داود بن أبي هند عن الشعبي ولم يذكر هذه الزيادة، ثم قال: قال الشعبي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تستنجوا بالعظم والبعر". قال الترمذي: كأن هذه الرواية أصح. يعني فيكون مرسلا قلت: لا يوافق الترمذي، بل المختار أن هذه الزيادة متصلة.
وأما حكم المسألة: فلا يجوز الاستنجاء بعظم ولا خبز ولا غيرهما من المطعوم لما سبق، فإن خالف واستنجى به عصى ولا يجزئه هكذا نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور وفيه وجه أنه يجزئه إن كان العظم طاهرا لا زهومة عليه، حكاه الخراسانيون لحصول المقصود والصحيح الأول لأنه رخصة فلا تحصل بحرام، وقد اتفقوا على تحريمه وإذا لم يجزئه المطعوم كفاه بعده الحجر بلا خلاف، إن لم ينشر النجاسة ولم يكن على العظم زهومة.
قال الماوردي ولو أحرق عظم طاهر بالنار وخرج عن حال العظم فوجهان أحدهما يجوز الاستنجاء به لأن النار أحالته، والثاني: لا يجوز لعموم الحديث في النهي عن الرمة وهي العظم

 

ج / 2 ص -96-         البالي، ولا فرق بين البالي بنار أو مرور الزمان، وهذا الثاني أصح والله أعلم.
فرع: اتفق أصحابنا على تحريم الاستنجاء بجميع المطعومات كالخبز واللحم والعظم وغيرها، وأما الثمار والفواكه فقسمها الماوردي تقسيما حسنا فقال: منها ما يؤكل رطبا لا يابسا، كاليقطين فلا يجوز الاستنجاء به رطبا ويجوز يابسا إذا كان مزيلا، ومنها ما يؤكل رطبا ويابسا وهو أقسام.
أحدها: مأكول الظاهر والباطن كالتين والتفاح والسفرجل وغيرها، فلا يجوز الاستنجاء بشيء منه رطبا ولا يابسا.
والثاني: ما يؤكل ظاهره دون باطنه كالخوخ والمشمش وكل ذي نوى فلا يجوز بظاهره، ويجوز بنواه المنفصل.
والثالث: ما له قشر ومأكوله في جوفه كالرمان، فلا يجوز الاستنجاء بلبه، وأما قشره فله أحوال:
أحدها: لا يؤكل رطبا ولا يابسا كالرمان فيجوز الاستنجاء بالقشر، وكذا لو استنجى برمانة فيها حبها جاز إذا كانت مزيلة.
والثاني: يؤكل قشره رطبا ويابسا كالبطيخ فلا يجوز رطبا ولا يابسا.
والثالث: يؤكل رطبا لا يابسا كاللوز والباقلاء، فيجوز بقشره يابسا لا رطبا، وأما ما يأكله الآدميون والبهائم، فإن كان أكل البهائم له أكثر جاز، وإن كان أكل الآدميين له أكثر لم يجز، وإن استويا فوجهان، من اختلاف أصحابنا في ثبوت الربا فيه، هذا كلام الماوردي، وذكر الروياني نحوه، قال البغوي: إن استنجى بما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز اليابس كره وأجزأه، فإن انفصل القشر جاز الاستنجاء به بلا كراهة، والله أعلم.
فرع: قال أصحابنا: ومن الأشياء المحتمة التي يحرم الاستنجاء بها الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع، فإن استنجى بشيء عالما أثم. وفي سقوط الفرض الوجهان: الصحيح لا يجزئه، فعلى هذا تجزئه الأحجار بعده، ولو استنجى بشيء من أوراق المصحف والعياذ بالله عالما صار كافرا مرتدا، نقله القاضي حسين والروياني وغيرهما، والله أعلم.
فرع: لو استنجى بقطعة ذهب أو فضة، ففي سقوط الفرض به وجهان، حكاهما الماوردي وآخرون، قال الماوردي والرافعي: الصحيح سقوطه ولو استنجى بقطعة ديباج سقط الفرض على المشهور، وطرد الماوردي فيه الوجهين، وطردهما أيضا في الاستنجاء بحجارة الحرم، قال: وظاهر المذهب سقوط الفرض بكل ذلك؛ لأن لماء زمزم حرمة تمنع الاستنجاء به، ثم لو استنجى به أجزأه بالإجماع.
فرع: قال الشافعي في "البويطي": ولا يستنجي بعظم ذكي ولا ميت للنهي عن العظم مطلقا، وقال في الأم: ولا يستنجي بعظم للخبر، فإنه - وإن كان غير نجس - فليس هو بنظيف، وإنما

 

ج / 2 ص -97-         الطهارة بنظيف طاهر، ولا أعلم شيئا في معنى عظم إلا جلد ذكي غير مدبوغ، فإنه ليس بنظيف، وإن كان طاهرا، وأما الجلد المدبوغ، فنظيف طاهر. هذا نصه في "الأم" وقال في "مختصر المزني": والفرق بين أن يستطيب بيمينه فيجزئه، وبالعظم فلا يجزئ أن اليمين أداة، والنهي عنها أدب، والاستطابة طهارة، والعظم ليس بطاهر. هذا نصه في المختصر، واعترض على قوله: والعظم ليس بطاهر، فإن العظم لا يصح الاستنجاء به طاهرا كان أو نجسا، واختلف أصحابنا في هذا الكلام على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذا غلط من المزني، وإنما قال الشافعي: والعظم ليس بنظيف، كما سبق عن الأم، وأراد بقوله: ليس بنظيف أن عليه سهوكة، قال الماوردي: وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وبه قطع القاضي أبو الطيب.  والثاني: أن نقل المزني صحيح، وقوله: ليس بطاهر، أي ليس بمطهر، قال الماوردي: وهذا تأويل أبي علي بن أبي هريرة.
والثالث: أنه ذكر إحدى العلتين في العظم النجس؛ لأن العظم النجس يمتنع الاستنجاء به لعلتين:
إحداهما: كونه نجسا، والأخرى كونه مطعوما والعظم الطاهر يمتنع لكونه مطعوما فقط، قال الماوردي هذا تأويل أبي حامد الإسفراييني، واختار الأزهري الوجه الأول، وهو تغليط المزني وبسط الكلام فيه، وفي الفرق بين النظيف والطاهر، قال: فما فيه زهومة أو رائحة كريهة فهو طاهر ليس بنظيف، وذلك كالعظم وجلد المذكى قبل الدباغ، هذا تفصيل مذهبنا وقال أبو حنيفة ومالك: يصح الاستنجاء بالعظم، وممن قال: لا يجوز، أحمد وداود.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وما هو جزء من حيوان كذنب حمار لا يجوز الاستنجاء به، ومن أصحابنا من قال: يجوز، والأول أصح لأنه جزء من حيوان فلم يجز الاستنجاء به كما لو استنجى بيده ولأن له حرمة فهو كالطعام".
الشرح: الصحيح عند الأصحاب تحريم الاستنجاء بأجزاء الحيوان في حال اتصاله كالذنب والأذن والعقب والصوف والوبر والشعر وغيرها، وخالفهم الماوردي والشاشي فقالا: الأصح صحة الاستنجاء لأن حرمة الحيوان في منع إيلامه لا منع ابتذاله بخلاف المطعوم، والصواب ما صححه الجمهور، وهو التحريم وعدم إجزائه، وقيل: يحرم ويجزئ، فإذا قلنا بالصحيح وهو أنه لا يجزئ كفاه الأحجار بعده. وأما الاستنجاء بيد آدمي ففيه كلام منتشر حاصله أربعة أوجه:
الصحيح لا يجزئه لا بيده ولا بيد غيره، وبه قطع المتولي وآخرون؛ لأنه محترم والثاني: يجزئه بيده ويد غيره، حكاه الماوردي عن ابن خيران وليس بشيء والثالث: يجوز بيده ولا يجوز بيد غيره، وبه قطع إمام الحرمين وغيره والرابع: يجزئه بيد غيره دون يده، كما يسجد على يد غيره دون يده، وهذا اختيار الماوردي، وحكاه الفوراني عن الشيخ أبي حامد وهو ضعيف أو غلط، والله أعلم

 

ج / 2 ص -98-         قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن استنجى بجلد مدبوغ ففيه قولان، قال في حرملة: لا يجوز لأنه كالرمة، وقال في الأم: يجوز لأنه إن كان لينا فهو كالخرق، وإن كان خشنا فهو كالخزف وإن استنجى بجلد حيوان مأكول اللحم مذكى غير مدبوغ ففيه قولان، قال في "الأم" وحرملة: لا يجوز؛ لأنه لا يقلع النجو للزوجته، وقال في "البويطي": والأول هو الصحيح المشهور".
الشرح: حاصل ما ذكره ثلاثة أقوال.
أصحها: عند الأصحاب يجوز بالمدبوغ دون غيره، وهو نصه في الأم.
والثاني: يجوز بهما قاله في "البويطي".
والثالث: لا يجوز بواحد منهما، قاله في حرملة، وحكى إمام الحرمين طريقا آخر وهو القطع بنصه في الأم، وتأويل الآخرين، ودليل الجمع ذكره المصنف، ثم لا فرق في المدبوغ بين المذكى والميتة، لأنهما طاهران قالعان، هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، وفيه وجه أنه لا يجوز بجلد الميتة المدبوغ وإن جاز بالمدبوغ المذكى تفريعا على قولنا: لا يجوز بيعه، حكاه جماعة منهم الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة وليس بشيء. هذه طريقة الأصحاب كلهم إلا المتولي فإنه انفرد بطريقة غريبة فقال: إن كان جلد مذكى واستنجى بالجانب الذي يلي اللحم فهو كما لو استنجى بمطعوم؛ لأنه مما يؤكل في الجملة، وإن استنجى بالجانب الذي عليه الشعر - وشعره كثير - جاز، وإن كان الجلد مدبوغا، وهو جلد مذكى جاز، وإن كان جلد ميتة فقولان بناء على أن الدباغ هل يطهر باطن الجلد أم لا، والله أعلم.
فإن قيل: الجلد مأكول، فكيف جوزتم الاستنجاء به؟ فالجواب ما أجاب به الأصحاب أنه غير مأكول عادة ولا مقصود بالأكل، ولهذا جاز بيع جلدين بجلد، والله أعلم. 
وقول المصنف: كالرمة هي - بكسر الراء وتشديد الميم - وهو العظم البالي، كذا قاله الشافعي في "الأم" وأصحابنا وغيرهم، قال الخطابي: سميت العظام رمة؛ لأن الإبل ترمها أي تأكلها، وإنما قاس المصنف عليها لأن النص ثبت فيها، كما سبق في الأحاديث، والله أعلم.

فرع في مسائل تتعلق بالفصل2
إحداها: قال الشافعي رحمه الله في "الأم" والمختصر: "ولا يستنجي بحجر قد استنجى به مرة إلا أن يكون طهر بالماء" واتفق الأصحاب على أنه إذا استنجى بحجر ثم غسل ويبس جاز الاستنجاء به ثانية، فإن غسل ويبس جاز ثالثة، وهكذا أبدا، ولا يكره ذلك كما لا يكره أن يصلي في الثوب مرات، بخلاف رمي الجمار في الحج، فإنه يكره أن يرمي بحصاة قد رمى بها هو أو غيره؛ لأنه جاء أن ما تقبل منها رفع، وما لم يتقبل ترك، ولأن المطلوب تعدد المرمي به، ولو غسله ثم استنجى به -والماء باق عليه- لم يصح، فإن انبسطت النجاسة تعين الاستنجاء بالماء وإلا فقد قال إمام الحرمين: كان شيخي يقول: يتعين الماء أيضا لأن ذلك البلل ينجس بملاقاة النجاسة فيصير في حكم

 

ج / 2 ص -99-         نجاسة أجنبية فيتعين الماء. قال إمام الحرمين: ولي في هذا نظر؛ لأن عين الماء لا تنقلب نجسا، وإنما تجاور النجاسة أو تخالطها، هذا كلام الإمام، والمختار قول شيخه، وهو مقتضى كلام غيره، وإن غسله ولم يبق عليه ماء وبقيت رطوبة فوجهان حكاهما ابن كج والدارمي وصاحبا "الحاوي" والبحر وغيرهم. أصحهما: لا يصح الاستنجاء به، وبه قطع القاضي أبو الطيب والشيخ أبو محمد والقاضي حسين وصاحبا "التتمة" والتهذيب وآخرون. وحكى صاحب "البيان" عن الصيمري وجها ثالثا: إن كانت الرطوبة يسيرة صح وإلا فلا.
فرع: إذا استنجى بحجر فحصل به الإنقاء ثم استعمل حجرا ثانيا وثالثا ولم يتلوثا ففي جواز استعمالهما مرة أخرى من غير غسلهما وجهان، حكاهما القاضي حسين وصاحبا "التتمة" والبحر، أصحهما: يجوز لأنهما طاهران، صححه الشاشي والرافعي، وقطع به البغوي، والثاني: لا يجوز لأنه تبعد سلامته من نجاسة خفيفة، وقياسا على الماء المستعمل.
فرع: لو رأى حجرا شك في استعماله جاز استعماله؛ لأن الأصل طهارته، والمستحب تركه أو غسله، ولو علم أنه مستعمل، وشك في غسله لم يجز استعماله لأن الأصل بقاء النجاسة عليه.
فرع: قال الماوردي: إذا جف ورق الشجر ظاهره وباطنه أو ظاهره، جاز الاستنجاء به إن كان مزيلا، وإن كان ندي الظاهر ففيه الوجهان في الحجر الندي.
المسألة الثانية: ورق الشجر الذي يكتب عليه والحشيش اليابسات. قال الماوردي وغيره: إن كان خشنا مزيلا جاز الاستنجاء به وإلا فلا.
الثالثة: نص الشافعي رحمه الله في "البويطي" ومختصر الربيع جواز الاستنجاء بالتراب. قال أصحابنا: أراد إذا كان مستحجرا تمكن الإزالة به، فإن كان دقيقا لا تمكن الإزالة به لم يجزئ؛ لأنه تعلق بالمحل. هكذا ذكره الجمهور منهم الماوردي والفوراني وإمام الحرمين، ونقله الروياني عن أصحابنا، وذكر المتولي والروياني وجها أنه يجوز بالتراب وإن كان رخوا، للحديث السابق في الاستنجاء بثلاث حثيات من تراب، وهذا الوجه غلط والحديث باطل، فقد قدمنا أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر بالحجر فلا يجزئ إلا الحجر وما في معناه، وليس التراب الرخو في معناه، قال القاضي حسين: فعلى هذا الوجه الضعيف يجب أربع مسحات ويستحب خامسة للإيتار، وهذا كله ليس بشيء.
الرابعة قال المحاملي وصاحبا "البحر" والبيان وغيرهم: قال الشافعي رحمه الله في حرملة: إذا نتف الصوف من الغنم واستنجى به كرهته وأجزأه. قالوا: وإنما كرهه لأن فيه تعذيب الحيوان، فأما الاستنجاء بالصوف فليس بمكروه، فإن أخذه من شاة بعد ذكاتها أو جزه في حياتها فلا كراهة.
الخامسة: نص الشافعي رحمه الله على جواز الاستنجاء بالآجر. قال أصحابنا: قاله على عادة أهل عصره بالحجاز ومصر، أنهم لا يخلطون بترابه السرجين، فأما ما خلط به فلا يجوز، وقيل: بل

 

ج / 2 ص -100-       علم بخلطه بالسرجين وجوزه؛ لأن النار تحرق السرجين، فإذا غسل طهر ظاهره، وهذا الوجه ضعيف، وسنذكر المسألة مبسوطة في آخر باب إزالة النجاسة حيث ذكرها المصنف إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن جاوز الخارج الموضع المعتاد فإن كان غائطا فخرج إلى ظاهر الألية لم يجز فيه إلا الماء؛ لأن ذلك نادر فهو كسائر النجاسات، وإن خرج إلى باطن الألية ولم يخرج إلى ظاهرها ففيه قولان أحدهما: أنه لا يجزئ فيه إلا الماء لأنه نادر فهو كما لو خرج إلى ظاهرة الألية والثاني: يجزئ فيه الحجر؛ لأن المهاجرين رضي الله عنهم هاجروا إلى المدينة فأكلوا التمر، ولم يكن من عادتهم، ولا شك أنه رقت بذلك أجوافهم ولم يؤمروا بالاستنجاء بالماء، ولأن ما يزيد على المعتاد لا يمكن ضبطه فجعل الباطن كله حدا، ووجب الماء فيما زاد، وإن كان بولا ففيه طريقان. قال أبو إسحاق: إذا جاوز مخرجه حتى رجع على الذكر أعلاه أو أسفله لم يجز فيه إلا الماء؛ لأن ما يخرج من البول لا ينتشر إلا نادرا بخلاف ما يخرج من الدبر، فإنه لا بد من أن ينتشر. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان أحدهما: لا يجوز فيه إلا الماء، نص عليه في "البويطي"، ووجهه ما قال أبو إسحاق والثاني: يجوز فيه الحجر ما لم يجاوز الحشفة، نص عليه في الأم؛ لأنه لما جاز الحجر في الغائط - ما لم يجاوز باطن الألية لتعذر الضبط - وجب أن يجوز في البول ما لم يجاوز الحشفة لتعذر الضبط".
الشرح: قال أصحابنا: إذا خرج الغائط فله أربعة أحوال:
أحدها: أن لا يجاوز نفس المخرج فيجزئه الأحجار بلا خلاف.
الثاني: أن يجاوزه، ولا يجاوز القدر المعتاد من أكثر الناس، فيجزئه الحجر أيضا، لأنه يتعذر الاحتراز من هذا القدر، ونقل المزني أنه إذا جاوز المخرج تعين الماء، ونقل "البويطي" نحوه، فمن الأصحاب من جعله قولا آخر، وقطع الجمهور بأنه ليس على ظاهره، بل يكفيه الحجر قولا واحدا، ثم منهم من غلط المزني في النقل، وهذا قول العراقيين وجماعة من الخراسانيين ونقل البندنيجي والمحاملي اتفاق الأصحاب على تغليطه، ومنهم من تأوله على أنه سقط من الكلام شيء، وصوابه إذا جاوز المخرج وما حوله، وهذا - وإن سموه تأويلا فهو - بمعنى التغليظ، ثم إن جمهور الأصحاب قالوا: الاعتبار بعادة غالب الناس وذكر الدارمي وجهين في أن الاعتبار بعادة الناس أم بعادته.
الحال الثالث: أن ينتشر ويخرج عن المعتاد، ولا يجاوز باطن الألية، فهل يتعين الماء أم يجزئه الحجر؟ فيه قولان أصحهما: يجزئه الحجر، وهو نصه في "الأم" وحرملة والإملاء، كذا قاله البندنيجي وغيره وصححه الأصحاب والثاني: يتعين الماء نص عليه في المختصر والقديم. وقد ذكر المصنف دليلهما. وهذا الذي استدل به من قصة المهاجرين صحيح مشهور، واستدل به الشافعي في "الأم" والأصحاب.

 

 

ج / 2 ص -101-       الرابع: أن ينتشر إلى ظاهر الأليتين، فإن كان متصلا تعين الماء في جميعه كسائر النجاسات لندوره، وتعذر فصل بعضه عن بعض، وإن انفصل بعضه عن بعض تعين الماء في الذي على ظاهر الألية، وأما الذي لم يظهر ولم يتصل فهو على الخلاف والتفصيل السابق إن لم يجاوز العادة أجزأ الحجر، وإن جاوزه فقولان أصحهما: يجزئه أيضا. هكذا ذكر هذا التفصيل الشيخ أبو محمد في "الفروق" والقاضي حسين والمتولي وآخرون. ونقله الروياني عن الأصحاب. وفي "الحاوي" وغيره وجه مخالف لهذا وليس بشيء. ولو انتشر الخارج انتشارا معتادا وترشش منه شيء إلى محل متصل قريب من الخارج بحيث يكفي فيه الحجر لو اتصل؛ تعين الماء في المترشش. صرح به الصيدلاني ونقله عنه إمام الحرمين ولم يذكر غيره والله أعلم.
وأما البول فإن انتشر وخرج عن الحشفة متصلا تعين فيه الماء، وإن لم يخرج عنها فطريقان ذكرهما المصنف والأصحاب، اختلف في الراجح منهما، فقطع الشيخ أبو حامد والماوردي بأنه يتعين الماء لندوره وقال الجمهور: الصحيح أنه على القولين في انتشار الغائط إلى باطن الألية، وقطع المحاملي في المقنع بإجزاء الحجر ما لم يجاوز الحشفة، وصححه الرافعي. قال البندنيجي: "وهو ظاهر نصه في حرملة "وهذا هو الأصح لأن البول ينتشر أيضا في العادة، ويشق ضبط ما تدعو الحاجة إليه، فجعلت الحشفة فاصلا، فعلى هذا حكمه حكم الغائط إذا لم يخرج عن باطن الألية على التفصيل والخلاف السابق والله أعلم. 
وقول المصنف. قال أبو إسحاق إذا جاوز مخرجه حتى رجع على الذكر أعلاه وأسفله، كذا قاله أبو إسحاق وكذا نقله الأصحاب عنه.
أما اللغات وقوله: "أعلاه وأسفله" مجروران على البدل من الذكر. تقديره حتى رجع على أعلا الذكر وأسفله؟ ويقال الأليان والأليتان بحذف التاء وإثباتها، وحذفها أفصح وأشهر، والله أعلم. والمراد بباطن الألية ما يستتر في حال القيام وبظاهرها ما لا يستتر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كان الخارج نادرا كالدم والمذي والودي أو دودا أو حصاة -وقلنا: يجب الاستنجاء منه فهل يجزئ فيه الحجر [أم لا]؟ فيه قولان أحدهما: أنه كالبول والغائط، وقد بيناهما والثاني: لا يجزئ إلا بالماء؛ لأنه نادر فهو كسائر النجاسات".
الشرح: إذا كان الخارج نادرا كالدم والقيح والودي والمذي وشبهها فهل يجزئه الحجر؟ فيه طريقان: الصحيح منهما وبه قطع العراقيون أنه على قولين، أصحهما: يجزئه الحجر، نص عليه في المختصر وحرملة؛ لأن الحاجة تدعو إليه والاستنجاء رخصة والرخص تأتي لمعنى ثم لا يلزم وجود ذلك المعنى في جميع صورها كالقصر وأشباهه والقول الثاني: يتعين الماء، قاله في الأم، ويحتج له مع ما ذكره المصنف بالحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
"أمر بغسل الذكر من المذي". وسنذكره واضحا في باب الغسل إن شاء الله تعالى. والجواب الصحيح عن هذا الحديث: أنه محمول على الندب، والطريق الثاني: ذكره الخراسانيون أنه يجزئه الحجر قولا واحدا، وتأولوا قوله في "الأم"

 

ج / 2 ص -102-       على ما إذا كان الخارج لا من داخل الفرج بل من قرح أو باسور وشبهه خارج الدبر، وهو تأويل بعيد، والله أعلم.
ثم المذهب الصحيح أن القولين جاريان، سواء خرج النادر وحده أو مع المعتاد، وحكى الفوراني وغيره عن القفال أن القولين فيما إذا خرج النادر مع المعتاد، فإن تمحض النادر تعين الماء قطعا. والصحيح طرد القولين في الحالين. كذا صرح به المتولي وغيره، وهو مقتضى إطلاق الجمهور. قال الماوردي: ودم الاستحاضة نادر فيكون على القولين، قال هو وغيره: ودم الباسور الذي في داخل الدبر نادر. واتفقوا على أن المذي من النادر كما ذكره المصنف. وفي كلام الغزالي ما يوهم خلافا في كونه نادرا، ولا خلاف فيه، فليحمل كلامه على موافقة الأصحاب.
قال الماوردي: ودم الحيض معتاد فيكفي فيه الحجر قولا واحدا، وهذا الذي قاله قد يستشكل من حيث إن الأصحاب في الطريقتين قالوا: لا يمكن الاستنجاء بالحجر من دم الحيض في حق المغتسلة، لأنه يلزمها غسل محل الاستنجاء في غسل الحيض، فيقال: صورته فيما إذا انقطع دم الحائض ولم تجد ما تغتسل به. أو كان بها مرض ونحوه مما يبيح لها التيمم؛ فإنها تستنجي بالحجر عن الدم، ثم تتيمم للصلاة بدلا عن غسل الحيض وتصلي، ولا إعادة بخلاف المستحاضة.
ومن خرج منه مذي أو دم أو غير ذلك من النادر فإنه إذا استنجى بالحجر وتيمم لعدم الماء وصلى تلزمه الإعادة على أحد القولين، وهو قولنا: لا يصح استنجاؤه، وأما قول إمام الحرمين والغزالي: قال العراقيون: لا يكفي الحجر في دم الحيض الموجب للغسل؛ فمحمول على ما إذا وجدت الماء واستنجت بالحجر وغسلت باقي البدن ولم تغسل موضع الاستنجاء، فهنا لا يصح استنجاؤها بلا خلاف؛ لأنه يجب غسل ذلك الموضع عن غسل الحيض، ولم يريدا بقولهما: قال العراقيون أن غيرهم يخالفهم بل أرادا أنهم هم الذين ابتدءوا بذكر ذلك وشهروه في كتبهم، فقد ذكره الخراسانيون أيضا ولكنهم أخذوه من كتب العراقي والله أعلم.
وأما قول المصنف في الدود 1 أو الحصى إذا أوجبنا الاستنجاء منه فهل يجزئ الحجر؟ فيه القولان كالنادر، فكذا قاله الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي وابن الصباغ والبغوي والجمهور، قال القاضي أبو الطيب: وهذا غلط لأن الاستنجاء هنا إنما يجب لتلك البلة، وهي معتادة، فيكفي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  يذهب المالكية إلى عدم نقض الوضوء بالدود والحصى لو خرج مبتلا ببلل كثير, وإذا عرض في الصلاة قطعها واستنجى وعاد يصلي بغير أن يعيد الوضوء ويلغزون لهذه المسألة نظما كما في حاشية الصفطي على الجواهر الزكية:
قل للفقيه ولا تخجلك هيبته           
شيء من المخرج المعتاد قد عرضا
فأوجب القطع واستنجى المصلى له  
لكن به الطهر يا مولاي ما انتقضا
ثم ينظمون الجواب على القافية والروي وفيه:
جواب هذا الحصى والدود إن خرجا  
 مع بلة كثرت قد زالت ما غمضا

 

ج / 2 ص -103-       الحجر قولا واحدا، وحكى الروياني عن القفال مثله، وهذا هو الصحيح المعتمد.
قال ابن الصباغ وغيره: والمني طاهر لا يجب الاستنجاء منه وهو محمول على من خرج منه مني، ولم يخرج غيره وصلى بالتيمم لمرض، أو فقد الماء، فإنه تصح صلاته ولا إعادة، كما ذكرنا في دم الحيض، أما إذا اغتسل من الجنابة فلا بد من غسل رأس الذكر والله أعلم.

فرع في مسائل تتعلق بالباب
إحداها: قال أصحابنا: شرط جواز الاستنجاء بالحجر من الغائط أن لا يقوم من موضع قضاء الحاجة حتى يستنجي فإن قام تعين الماء؛ لأن بالقيام تنطبق الأليان فتنتقل النجاسة من محلها إلى محل أجنبي، فإن لم يكن معه أحجار وكانت بقربه، ولم يجد من يناوله إياها فطريقه أن يزحف على رجليه من غير أن تنطبق ألياه حتى يصل إلى الحجر قال الشيخ أبو محمد: ولو قام متفاحجا 1  بحيث لا تنطبق الأليان، أو استيقن النجاسة لم يجاوز محلها أجزأه الحجر قال أصحابنا: ولو وقع الخارج منه على الأرض ثم ترشش منه بشيء فارتفع وعلق بالمحل أو تعلقت بالمحل نجاسة أجنبية تعين الماء، فإن تميز المرتفع وأمكن غسله وحده غسله وكفاه الأحجار في نجاسة المحل.
الثانية: لا يجب الاستنجاء على الفور، بل يجوز تأخيره حتى يريد الطهارة أو الصلاة.
الثالثة: الاستنجاء طهارة مستقلة، ليست من الوضوء، هذا هو الصحيح المشهور الذي قاله الجمهور، وحكى المتولي -وجها- أنه من واجبات الوضوء، واستنبطه من القول الشاذ الذي قدمناه أن الوضوء لا يصح قبل الاستنجاء، قال المتولي: وهذا ليس بصحيح.
الرابعة: إذا استنجى بالأحجار فعرق محله وسال العرق منه وجاوزه وجب غسل ما سال إليه، وإن لم يجاوزه فوجهان أحدهما: غسله والصحيح لا يلزمه شيء لعموم البلوى بذلك، ولو انغمس هذا المستجمر في مائع أو فيما دون قلتين نجسه بلا خلاف.
الخامسة: قال الشافعي رحمه الله في "الأم" والأصحاب: إنما يجزئ الاستجمار -المتوضئ والمتيمم- أما المغتسل من جنابة وغيرهما فلا يجزئه، بل لا بد من تطهير محله بالماء، وهذا متفق عليه وهو -كما قلنا- لا يكفي مسح الخف في حق المغتسل بخلاف المتوضئ، والفرق أن الاستجمار ومسح الخف رخصتان دعت الحاجة إليهما لتكرار الوضوء، وأما الغسل فنادر فلا تدعو الحاجة إليهما فيه، والله أعلم.
فرع: له تعلق بالباب، روى أبو داود بإسناد فيه ضعف عن امرأة من بني غفار
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفها على حقيبة فحاضت، فأمرها أن تغسل الدم بماء وملح". الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في الأصل بتأخير الحاء وصوابه بالجيم والتفاجج فتح ما بين الرجلين كأنه يحدث فجا بينهما والفحج بتقديم المهلة هو تباعد العقبين وعلى هذا تتوجه عبارة الشيخ أبي محمد الجويني إذا قيل متفاحجا أو متفاجا بالمعجمة المشددة.

 

ج / 2 ص -104-       قال الخطابي: الملح مطعوم؛ فقياسه جواز غسل الثوب بالعسل، كثوب الإبريسم الذي يفسده الصابون، وبالخل إذا أصابه حبر ونحوه، قال: ويجوز على هذا التدلك بالنخالة، وغسل الأيدي بدقيق الباقلا والبطيخ ونحوه، مما له قوة الجلاء. قال: وحدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت الحمام بمصر فرأيت الشافعي يتدلك بالنخالة، هذا كلام الخطابي.