المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

باب ما يوجب الغسل
يقال: غسل الجنابة، وغسل الحيض، وغسل الجمعة، وغسل الميت؛ وما أشبهها -بفتح الغين وضمها- لغتان الفتح أفصح وأشهر عند أهل اللغة؛ والضم هو الذي يستعمله الفقهاء أو أكثرهم، وزعم بعض المتأخرين أن الفقهاء غلطوا في الضم وليس كما قال، بل غلط هو في إنكاره ما لم يعرفه، وقد أوضحته 1  في "تهذيب الأسماء واللغات" وأشرت إلى بعضه في آخر صفة الوضوء من هذا الشرح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والذي يوجب الغسل إيلاج الحشفة في الفرج، وخروج المني، والحيض، والنفاس، فأما إيلاج الحشفة فإنه يوجب الغسل لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا التقى الختانان وجب الغسل". والتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، وذلك أن ختان الرجل هو الجلد الذي يبقى بعد الختان، وختان المرأة جلدة كعرف الديك فوق الفرج، فتقطع منها في الختان، فإذا غابت الحشفة في الفرج حاذى ختانه ختانها، وإذا تحاذيا فقد التقيا، ولهذا يقال: التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم يتضاما.
الشرح: حديث عائشة صحيح رواه مسلم بمعناه، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان وجب الغسل". هذا لفظ مسلم، رواه الشافعي وغيره بلفظه في المهذب وإسناده أيضا صحيح، وفي المسألة أحاديث كثيرة، سأذكرها إن شاء الله تعالى في فرع مذاهب العلماء؛ وأما قول المصنف: والتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة إلى آخره، فهو لفظ الشافعي رحمه الله، وتابعه عليه الأصحاب، وبين الشيخ أبو حامد فرج المرأة، والتقاء الختانين بيانا شافيا فقال هو وغيره: ختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه في حال الختان وهو ما دون حزة الحشفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  قال النووي رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات": "الغسل بالفتح مصدر غسل الشيء غسلا والغسل بالكسر ما يغسل به الرأس بالسدر والخطمي ونحوهما والغسل بالضم اسم للاغتسال واسم للماء الذي يغتسل به وهو أيضا جمع غسول بفتح الغين وهو ما يغسل به الثوب من أشنان ونحوه وفي "المهذب" في حديث ميمونة رضي الله عنها أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلا من الجنابة وفي حديث قيس بن سعد رضي الله عنه أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلا. والغسل في هذين الحديثين مضموم الغين والمراد به الماء الذي يغتسل به كما تقدم وهذا الذي ذكرته من ضم الغين في هذين الحديثين مجمع عليه عند أهل اللغة والحديث والفقه وغيرهم إلى أن قال: وقد جمع شيخنا إمام أهل الأدب في وقته بلا مدافعة رضي الله تعالى عنه "ابن مالك" في المثلث بين اللغتين غير مرجع إحداهما مع شدة معرفته وتحقيقه وتمكنه واطلاعه وتدقيقه ثم سألته عنه أيضا فقال: إذا أريد به الاغتسال فالمختار ضمه ويجوز فتحه كقولنا غسل الجنابة أي اغتسالها الخ".

 

ج / 2 ص -105-       وأما ختان المرأة -فاعلم- أن مدخل الذكر هو مخرج الحيض والولد والمني، وفوق مدخل الذكر ثقب مثل إحليل الرجل، هو مخرج البول، وبين هذا الثقب ومدخل الذكر جلدة رقيقة، وفوق مخرج البول جلدة رقيقة مثل ورقة بين الشفرين، والشفران تحيطان بالجميع، فتلك الجلدة الرقيقة يقطع منها في الختان وهي ختان المرأة؛ فحصل أن ختان المرأة مستعل، وتحته مخرج البول، وتحت مخرج البول مدخل الذكر. قال البندنيجي وغيره: ومخرج الحيض الذي هو مخرج الولد ومدخل الذكر هو خرق لطيف، فإذا افتضت البكر اتسع ذلك الخرق فصارت ثيبا.
قال أصحابنا: فالتقاء الختانين أن تغيب الحشفة في الفرج، فإذا غابت فقد حاذى ختانه ختانها، والمحاذاة هي التقاء الختانين، وليس المراد بالتقاء الختانين التصاقهما وضم أحدهما إلى الآخر، فإنه لو وضع موضع ختانه على موضع ختانها، ولم يدخله في مدخل الذكر لم يجب غسل بإجماع الأمة، هذا كلام الشيخ أبي حامد وغيره، زيد بعضهم على بعض. قال صاحب "الحاوي": وشبه العلماء الفرج بعقد الأصابع خمسة وثلاثين 1 ، فعقد الثلاثين هو صورة الفرج وعقد الخمسة بعدها في أسفلها هي مدخل الذكر ومخرج المني والحيض والولد، والله أعلم.
أما حكم المسألة: فالذي يوجب اغتسال الحي أربعة متفق عليها؛ وهي إيلاج حشفة الذكر في فرج، وخروج المني والحيض والنفاس، وفي خروج الولد والعلقة والمضغة خلاف نذكره إن شاء الله تعالى قريبا، ولم يذكره المصنف هنا وسنذكره قريبا. وإنما لم يذكره لأنه مندرج عنده في خروج المني؛ لأنه مني منعقد. ويجب غسل الميت وله باب معروف، وقد يجب غسل البدن بعارض بأن يصيبه كله نجاسة، أو تقع في موضع منه ويخفى مكانها. أما إيلاج الحشفة فيوجب الغسل بلا خلاف عندنا، والمراد بإيلاجها إدخالها بكمالها في فرج حيوان آدمي أو غيره، قبله أو دبره، ذكر أو أنثى، حي أو ميت، صغير أو كبير، فيجب الغسل في كل ذلك، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن أولج 2  في فرج امرأة ميتة وجب عليه الغسل، لأنه فرج آدمية، فأشبه فرج الحية، وإن أولج في دبر امرأة أو رجل أو بهيمة وجب [عليه] الغسل؛ لأنه فرج حيوان، فأشبه فرج المرأة، وإن أولج في دبر خنثى مشكل وجب عليه الغسل، وإن أولج في فرجه لم يجب، لجواز أن يكون ذلك عضوا زائدا فلا يجب الغسل بالشك".
الشرح: هذه المسائل كلها متفق عليها عندنا، كما ذكرها المصنف، ودليلها ما ذكره.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذا التصوير للرقم 35 كان عند نقل الأرقام من الهندية إلى العربية وفيها ملامح من كتابتها اليوم بعد تطويرها. (ط).
2  النسخة المطبوعة من "المهذب" "فإن أولج" وقد شطر الشارح والفصل هنا شطرين وأحيانا يسوق فصلين أو ثلاثة حيث لا علاقة له بوحدة الموضوع. (ط).

فرع في مسائل تتعلق بالفصل
إحداها: قد ذكرنا أنه إذا أولج ذكره في قبل امرأة أو دبرها أو دبر رجل أو خنثى أو صبي أو في

 

 

ج / 2 ص -106-       قبل بهيمة أو دبرها وجب الغسل بلا خلاف، وسواء كان المولج فيه حيا، أو ميتا، أو مجنونا، أو مكرها أو مباحا كالزوجة، أو محرما، ويجب على المولج والمولج فيه المكلفين وعلى الناسي والمكره.
وأما الصبي إذا أولج في فرج امرأة أو دبر رجل، أو أولج رجل في دبره؛ فيجب الغسل على المرأة والرجل، وكذا إذا استدخلت امرأة ذكر صبي فعليها الغسل، ويصير الصبي في كل هذه الصور جنبا، وكذا الصبية إذا أولج فيها رجل أو صبي، وكذا لو أولج صبي في صبي، وسواء في هذا الصبي المميز وغيره، وإذا صار جنبا لا تصح صلاته ما لم يغتسل كما إذا بال لا تصح صلاته حتى يتوضأ، ولا يقال: يجب عليه الغسل، كما لا يقال يجب عليه الوضوء؛ بل يقال: صار محدثا، ويجب على الولي أن يأمره بالغسل إن كان مميزا، كما يأمره بالوضوء. فإن لم يغتسل حتى بلغ لزمه الغسل، كما إذا بال ثم بلغ يلزمه الوضوء، وإن اغتسل وهو مميز صح غسله، فإذا بلغ لا تلزمه إعادته. كما لو توضأ ثم بلغ يصلي بذلك الوضوء، وقد سبق في آخر باب نية الوضوء وجه شاذ أنه تجب إعادة طهارته إذا بلغ، والصبية كالصبي فيما ذكرنا، ولو أولج مجنون أو أولج فيه صار جنبا، فإذا أفاق لزمه الغسل.
الثانية: لو استدخلت امرأة ذكر رجل وجب الغسل عليه وعليها، سواء أكان عالما بذلك، مختارا أم نائما أم مكرها، نص عليه الشافعي في "الأم" واتفق عليه الأصحاب ولو استدخلت ذكرا مقطوعا ففي وجوب الغسل عليها وجهان هما كالوجهين في انتقاض الوضوء بمسه، حكاهما الدارمي والمتولي والروياني وآخرون. قال الدارمي: ولا حد عليها بلا خلاف، ولا مهر لها لو أولج المقطوع فيها رجل، ولو استدخلت ذكر ميت لزمها الغسل، كما لو أولج في ميت. ولو استدخلت ذكر بهيمة لزمها الغسل، كما لو أولج في بهيمة. صرح به الشيخ أبو محمد الجويني والدارمي والمتولي وآخرون. ونقله الروياني عن الأصحاب قال إمام الحرمين: وفيه نظر من حيث إنه نادر، قال: ثم في اعتبار قدر الحشفة فيه كلام يوكل إلى فكر الفقيه.
الثالثة: وجوب الغسل وجميع الأحكام المتعلقة بالجماع يشترط فيها تغييب الحشفة بكمالها في الفرج، ولا يشترط زيادة الحشفة ولا يتعلق ببعض الحشفة وحده شيء من الأحكام، وهذا كله متفق عليه في جميع الطرق، إلا وجها حكاه الدارمي وحكاه الرافعي عن حكاية ابن كج أن بعض الحشفة كجميعها، وهذا في نهاية من الشذوذ والضعف، ويكفي في بطلانه قوله صلى الله عليه وسلم
"إذا التقى الختانان وجب الغسل". أما إذا قطع بعض الذكر فإن كان الباقي دون قدر الحشفة لم يتعلق به شيء من الأحكام باتفاق الأصحاب، وإن كان قدرها فقط تعلقت الأحكام بتغييبه كله دون بعضه، وإن كان أكثر من قدر الحشفة فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف في مواضع من المهذب، منها باب الخيار في السماح في مسألة العنين، ورجح المصنف منهما أن لا يتعلق الحكم ببعضه ولا يتعلق إلا بتغييب جميع الباقي. وكذا رجحه الشاشي ونقله الماوردي عن نص الشافعي ورجح الأكثرون تعلق الحكم

 

ج / 2 ص -107-       بقدر الحشفة منه، وقطع به الفوراني وإمام الحرمين والغزالي والبغوي وصاحب "العدة" وآخرون وصححه الرافعي وغيره.
الرابعة: إذا كان غير مختون فأولج الحشفة لزمهما الغسل بلا خلاف، ولا أثر لذلك. ولو لف على ذكره خرقة وأولجه بحيث غابت الحشفة ولم ينزل ففيه ثلاثة أوجه حكاها الماوردي والشاشي في كتابيه، والروياني وصاحب "البيان" وغيرهم الصحيح: وجوب الغسل عليهما، وبه قطع الجمهور لأن الأحكام متعلقة بالإيلاج وقد حصل والثاني: لا يجب الغسل ولا الوضوء لأنه أولج في خرقة ولم يلمس بشرة، وصححه الروياني، قال: وهو اختيار الحناطي والثالث: إن كانت الخرقة غليظة تمنع اللذة لم يجب، وإن كانت رقيقة لا تمنعها وجب، وهذا قول أبي الفياض البصري والقاضي حسين وقال الرافعي في هذا الثالث: الغليظة هي التي تمنع وصول بلل الفرج إلى الذكر، ووصول الحرارة من أحدهما إلى الآخر، والرقيقة ما لا تمنع. قال الروياني: ويجري هذا الخلاف في إفساد الحج به، وينبغي أن يجري في كل الأحكام.
الخامسة: إذا أولج ذكر أشل وجب الغسل على المذهب، وبه قطع الأكثرون. وحكى الدارمي فيه وجهين. السادسة: إذا انفتح له مخرج غير الأصلي وحكمنا بنقض الوضوء بالخارج فأولج فيه ففي وجوب الغسل وجهان سبقا في باب ما ينقض الوضوء، الصحيح: لا يجب، ولو أولج في الأصلي وجب بلا خلاف. السابعة: لو كان له ذكران، قال الماوردي في مسائل لمس الخنثى: إن كان يبول منهما وجب الغسل بإيلاج أحدهما، وإن كان يبول بأحدهما تعلق الحكم به دون الآخر، وقد ذكرنا هذا في باب ما ينقض الوضوء. وذكرت هناك إيلاج الخنثى المشكل والإيلاج فيه مبسوطا.
الثامنة: إذا أتت المرأة المرأة فلا غسل ما لم تنزل، وهذا وإن كان ظاهرا فقد ذكره الدارمي وغيره، وقد يخفى فنبهوا عليه، وقد قال الشافعي في "الأم" والأصحاب: لو أولج ذكره في فم المرأة وأذنها وإبطها وبين أليتها ولم ينزل فلا غسل ونقل فيه ابن جرير الإجماع.
التاسعة: ذكر المتولي وغيره في الموجب للغسل ثلاثة أوجه أحدها: إيلاج الحشفة، أو نزول المني لأنه حكم يتعلق بالجنابة فتعلق بسببه كقراءة القرآن ومس المصحف والصلاة وغيرها. والثاني: القيام إلى الصلاة لأنه لا يلزمه قبله والثالث: هو الصحيح: يجب بالإيلاج مع القيام إلى الصلاة أو بالإنزال مع القيام إلى الصلاة، كما أن النكاح يوجب الميراث عند الموت، والوطء يوجب "العدة" عند الطلاق، وتقدم مثل هذه الأوجه في موجب الوضوء، وبسطت الكلام في شرح هذا كله بسطا كاملا في آخر صفة الوضوء.
العاشرة: إذا وطئ امرأة ميتة فقد ذكرنا أنه يلزمه الغسل، وهل يجب إعادة غسل الميتة إن كانت غسلت؟ فيه وجهان مشهوران، أصحهما عند الجمهور لا يجب لعدم التكليف، وإنما يجب

 

ج / 2 ص -108-       غسل الميت تنظيفا وإكراما، وشذ الروياني فصحح وجوب إعادته، والصواب الأول. قال أصحابنا: ولا يجب بوطئها مهر. قال القاضي أبو الطيب وغيره: كما لا يجب بقطع يدها دية، وفي وجوب الحد على الواطئ أوجه أحدها: يجب لأنه وطء محرم بلا شبهة. والثاني: لا لخروجها عن المظنة. والثالث: - وقيل: إنه منصوص إن كانت ممن لا يحد بوطئها في الحياة وهي الزوجة، والأمة، والمشتركة، وجارية الابن ونحوهن، فلا حد وإلا فيحد، والأصح أنه لا يجب مطلقا. قال أصحابنا: وتفسد العبادات بوطء الميتة، وتجب الكفارة في الصوم والحج.
الحادية عشرة: قال صاحبا "الحاوي" والبيان في كتاب الصداق: قال أصحابنا: الأحكام المتعلقة بالوطء في قبل المرأة تتعلق بالوطء في دبرها إلا خمسة أحكام: التحليل للزوج الأول، والإحصان، والخروج من التعنين، ومن الإيلاء والخامس: لا يتغير به إذن البكر، بل يبقى إذنها بالسكوت. هكذا ذكراه، وذكره المحاملي في "اللباب" سادسا: وهو أن الوطء في الدبر لا يحل بحال بخلاف القبل وسابعا: وهو أن خروج مني الرجل بعد الاغتسال من دبرها لا يوجب غسلا ثانيا، وخروجه من قبلها يوجبه على تفصيل سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى قلت: وهذا الذي ذكروه ضابط نفيس يستفاد منه فوائد، وقد يخرج من الضابط مسائل يسيرة في بعضها وجه ضعيف، كالمصاهرة وتقرير المسمى في الصداق ونحو ذلك، ولكنها وجوه ضعيفة شاذة لا تقدح في الضابط والله أعلم. 
الثانية عشرة: في مذاهب العلماء في الإيلاج. قد ذكرنا أن مذهبنا أن الإيلاج في فرج المرأة ودبرها، ودبر الرجل، ودبر البهيمة وفرجها، يوجب الغسل وإن لم ينزل، وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال داود: لا يجب ما لم ينزل. وبه قال عثمان بن عفان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم ثم منهم من رجع عنه إلى موافقة الجمهور، ومنهم من لم يرجع. وقال أبو حنيفة: لا يجب بالإيلاج في بهيمة ولا ميتة. واحتج لمن لم يوجب مطلقا بما روى البخاري في صحيحه عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه "أنه سأل عثمان بن عفان عن الرجل يجامع امرأته ولم يمن. قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره. وقال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال زيد: "فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبي بن كعب فأمروه بذلك". وعن أبي أيوب الأنصاري أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بن كعب أنه قال:
"يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي".
قال البخاري: "الغسل أحوط وذاك الآخر. إنما بينا اختلافهم" يعني أن الغسل آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصدنا بيان اختلاف الصحابة، مع أن آخر الأمرين الغسل، هذا كله في صحيح البخاري، وبعضه في مسلم وعن أبي سعيد الخدري
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار فأرسل إليه فخرج ورأسه يقطر، فقال: لعلنا أعجلناك؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك وعليك الوضوء". رواه البخاري ومسلم. ومعنى أعجلت أو أقحطت، أي جامعت ولم تنزل. وروي أقحطت بضم الهمزة وبفتحها وعن أبي

 

ج / 2 ص -109-       سعيد أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء". رواه مسلم. ومعناه لا يجب الغسل بالماء إلا من إنزال الماء الدافق، وهو المني.
واحتج أصحابنا والجمهور بحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان وجب الغسل". رواه مسلم، وفي الرواية الأخرى: "إذا التقى الختانان وجب الغسل". وهو صحيح كما سبق، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "وإن لم ينزل" هو في رواية البيهقي: "أنزل أو لم ينزل" قيل: المراد بشعبها رجلاها وشفراها، وقيل: يداها ورجلاها، وقيل ساقاها وفخذاها. وعن عائشة "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل". رواه مسلم في صحيحه، وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة.
واستدل الشافعي رحمه الله بقول الله تعالى:
{وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: من الآية43] قال: والعرب تسمي الجماع -وإن لم يكن معه إنزال- جنابة.
واستدل أصحابنا من القياس بأنه حكم من أحكام الجماع فتعلق به؛ وإن لم يكن معه إنزال كالحدود، والجواب عن الأحاديث التي احتجوا بها أنها منسوخة. هكذا قاله الجمهور. وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما جواب آخر، وهو أن معنى الماء من الماء، أي لا يجب الغسل بالرؤية في النوم إلا أن ينزل. وأما الآثار التي عن الصحابة رضي الله عنهم؛ فقالوها قبل أن يبلغهم النسخ، ودليل النسخ أنهم اختلفوا في ذلك، فأرسلوا إلى عائشة رضي الله عنها فأخبرتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا جلس بين شعبها الأربع وجهدها وجب الغسل". فرجع إلى قولها من خالف. وعن سهل بن سعد الساعدي قال: حدثني أبي بن كعب "أن الفتيا التي كانوا يفتون إنما الماء من الماء. كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد". وفي رواية: "ثم أمرنا" حديث صحيح رواه الدارمي وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. 
وعن محمود بن لبيد قال: "سألت زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل قال: يغتسل، فقلت إن أبيا كان لا يرى الغسل فقال زيد: إن أبيا نزع عن ذلك قبل أن يموت" هذا صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح، قوله: نزع أي رجع، ومقصودي بذكر هذه الأدلة بيان أحاديث المسألة والجمع بينها، وإلا فالمسألة اليوم مجمع عليها، ومخالفة داود لا تقدح في الإجماع عند الجمهور والله أعلم.
واحتج أبو حنيفة في منع الغسل بإيلاجه في بهيمة وميتة بأنه لا يقصد به اللذة، فلم يجب كإيلاج أصبعه. واحتج أصحابنا: بأنه أولج ذكره في فرج فأشبه قبل المرأة الحية. فإن قالوا: ينتقض هذا بالسمك؛ فإن في "البحر" سمكة يولج فيها سفهاء الملاحين ببحر البصرة، فالجواب ما أجاب به

 

ج / 2 ص -110-       القاضي أبو الطيب، ونقله الروياني عن الأصحاب، أنه إن كان هذا هكذا وجب الغسل بالإيلاج فيها، لأنه حيوان له فرج. والجواب عن دليلهم من وجهين. أحدهما: أنه منتقض بوطء العجوز الشوهاء المتناهية في القبح العمياء الجذماء البرصاء المقطعة الأطرف، فإنه يوجب الغسل بالاتفاق مع أنه لا يقصد به لذة في العادة. والثاني: أن الأصبع ليست آلة للجماع، ولهذا لو أولجها في امرأة حية لم يجب الغسل بخلاف الذكر والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما خروج المني فإنه يوجب الغسل على الرجل والمرأة في النوم واليقظة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الماء من الماء". وروت أم سلمة رضي الله عنها قالت: "جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم إذا رأت الماء".
الشرح: حديث أبي سعيد صحيح، رواه مسلم من طريقين لفظه فيهما: "إنما الماء من الماء" ورواه البيهقي وغيره: "الماء من الماء" كما وقع في المهذب يجب الغسل بالماء من إنزال الماء الدافق وهو المني. أما حديث أم سلمة فرواه البخاري ومسلم بلفظه في المهذب، ورواه مسلم أيضا والدارمي من رواية أنس ومن رواية عائشة. ويجمع بين الروايات بأن الجميع حضروا القصة فرووها.
وأم سلمة هي أم المؤمنين واسمها هند بنت أبي أمية حذيفة المخزومية، كانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة لأبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وهاجر بها الهجرتين إلى الحبشة، ثم توفي فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أربع، وقيل: سنة ثلاث، توفيت سنة تسع وخمسين ولها أربع وثمانون سنة، ودفنت بالبقيع. وأما أم سليم فهي أم أنس بن مالك بلا خلاف بين العلماء، وقول الصيدلاني وإمام الحرمين والغزالي والروياني: هي جدة أنس غلط بلا شك بإجماع أهل النقل من الطوائف، قيل: اسمها سهلة، وقيل: رميلة، وقيل رميثة وقيل: أنيقة، وقيل غير ذلك، وهي من فاضلات الصحابيات ومشهوراتهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمها ويكرم أختها أم حرام بنت 1  ملحان ويقيل عندهما وكانتا خالتيه ومحرمين له واسم أبي طلحة زوجها زيد بن سهل شهد العقبة وبدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من النقباء ليلة العقبة، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه وقولها: "إن الله لا يستحي من الحق" روي يستحيي بياءين، وروي يستحي بياء واحدة وكلاهما صحيح، والأصل بياءين فحذفت إحداهما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  قال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب": لم أقف لها على اسم صحيح وزوجها عبادة بن الصامت خرجت مع زوجها عبادة غازية في البحر فاستشهدت في قبرص صرعتها دابة وهي تنزل من سفن الغزو وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا لها بالشهادة.

 

ج / 2 ص -111-       قال الأخفش: أستحي بواحدة لغة تميم وأستحيي بياءين لغة أهل الحجاز، وبها جاء القرآن 1  والاحتلام افتعال من الحلم -بضم الحاء وإسكان اللام- وهو ما يراه النائم من المنامات، يقال: حلم في منامه -بفتح الحاء واللام- واحتلم وحلمت كذا وحلمت بكذا، هذا أصله، ثم جعل اسما لما يراه النائم من الجماع فيحدث معه إنزال المني غالبا، فغاب لفظ الاحتلام في هذا دون غيره من أنواع المنام، لكثرة الاستعمال. 
وقوله صلى الله عليه وسلم: "نعم إذا رأت الماء" بيان لحالة وجوب الغسل بالاحتلام، وهي إذا كان معه إنزال المني، والله أعلم.
وقوله: واليقظة هي -بفتح القاف- وهي ضد النوم.

أما أحكام الفصل ففيه مسائل
إحداها: أجمع العلماء على وجوب الغسل بخروج المني، ولا فرق عندنا بين خروجه بجماع أو احتلام، أو استمناء، أو نظر، أو بغير سبب، سواء خرج بشهوة أو غيرها. وسواء تلذذ بخروجه أم لا، وسواء خرج كثيرا أو يسيرا ولو بعض قطرة، وسواء خرج في النوم أو اليقظة من الرجل والمرأة، العاقل والمجنون، فكل ذلك يوجب الغسل عندنا وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: لا يجب إلا إذا خرج بشهوة ودفق، كما لا يجب بالمذي لعدم الدفق.
دليلنا الأحاديث الصحيحة المطلقة، كحديث:
"الماء من الماء". وبالقياس على إيلاج الحشفة، فإنه لا فرق فيه، ولا يصح قياسهم على المذي؛ لأنه في مقابلة النص، ولأنه ليس كالمني وحكى صاحب "البيان" عن النخعي أنه قال: "لا يجب على المرأة الغسل بخروج المني" ولا أظن هذا يصح عنه، فإن صح عنه فهو محجوج بحديث أم سلمة. وقد نقل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري إجماع المسلمين على وجوب الغسل بإنزال المني من الرجل والمرأة، والله أعلم.
المسألة الثانية: إذا أمنى واغتسل ثم خرج منه مني -على القرب- بعد غسله لزمه الغسل ثانيا؛ سواء كان ذلك قبل أن يبول بعد المني أو بعد بوله، هذا مذهبنا نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب، وبه قال الليث وأحمد في رواية عنه.
قال مالك وسفيان الثوري وأبو يوسف وإسحاق بن راهويه: لا غسل مطلقا، وهي أشهر الروايات، وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعطاء والزهري وغيرهم رضي الله عنهم.
وقال أبو حنيفة: إن كان ما بال قبل الغسل ثم خرج المني فلا غسل عليه لأنه بقية المني الذي اغتسل عنه وإلا فيجب الغسل ثانيا، وهو رواية ثالثة عن أحمد وأبي حنيفة عكس هذا، إن كان بال لم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا}.

 

ج / 2 ص -112-       يغتسل؛ لأنه مني عن غير شهوة وإلا وجب الغسل لأنه عن شهوة. دليلنا على الجميع قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء". ولم يفرق، ولأنه نوع حدث فنقض مطلقا كالبول والجماع وسائر الأحداث. الثالثة: لو قبل امرأة فأحس بانتقال المني ونزول فأمسك ذكره فلم يخرج منه في الحال شيء، ولا علم خروجه بعد ذلك، فلا غسل عليه عندنا، وبه قال العلماء كافة إلا أحمد، فإنه قال - في أشهر الروايتين عنه - يجب الغسل، قال: ولا يتصور رجوع المني.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما الماء من الماء". ولأن العلماء مجمعون على أن من أحس بالحدث كالقرقرة والريح، ولم يخرج منه شيء لا وضوء عليه، فكذا هنا، قال صاحب "الحاوي": ولو أنزلت المرأة المني إلى فرجها فإن كانت بكرا لم يلزمها الغسل حتى يخرج من فرجها؛ لأن داخل فرجها في حكم الباطن، ولهذا لا يلزمها تطهيره في الاستنجاء والغسل، فأشبه إحليل الذكر، وإن كانت ثيبا لزمها الغسل لأنه يلزمها تطهير داخل فرجها في الاستنجاء، فأشبه العضو الظاهر. 
الرابعة: لو انكسر صلبه فخرج منه المني ولم ينزل من الذكر، ففي وجوب الغسل وجهان حكاهما الماوردي والروياني والشاشي وغيرهم قال الشاشي: أصحهما: لا يجب، وبه قطع القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، ذكره في كتاب الحجر. قال الماوردي هما مأخوذان من القولين في انتقاض الوضوء بخارج من منفتح غير السبيلين وقال المتولي: إذا خرج المني من ثقب في الذكر غير الإحليل أو من ثقب في الأنثيين أو الصلب فحيث نقضنا الوضوء بالخارج منه أوجبنا الغسل وقطع البغوي بوجوب الغسل بخروجه من غير الذكر، والصواب تفصيل المتولي. قال أصحابنا: وهذا الخلاف في المني المستحكم، فإن لم يستحكم لم يجب الغسل بلا خلاف ولو خرج المني من قبلي الخنثى المشكل لزمه الغسل فإن خرج من أحدهما ففيه طريقان حكاهما صاحب "البيان" وغيره.
أحدهما: يجب والثاني: على وجهين، وسبق بيانه في باب ما ينقض الوضوء ولو خرج المني من دبر رجل أو امرأة ففي وجوب الغسل وجهان، أشار إليهما القاضي أبو الفتوح بناء على الخروج من غير المخرج والله أعلم.
فرع: في لغات المني والودي والمذي، وتحقيق صفاتها، أما المني فمشدد، ويسمى منيا لأنه يمنى أي يصب، وسميت منيا لما يراق فيها من الدماء ويقال: أمنى ومنى بالتخفيف ومنى بالتشديد ثلاث لغات، الأولى أفصح وبها جاء القرآن قال الله تعالى
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58] وفي المذي ثلاث لغات المذي بإسكان الذال وتخفيف الياء، والمذي بكسر الذال وتشديد الياء، وهاتان مشهورتان. قال الأزهري وغيره: التخفيف أفصح وأكثر، والثالثة المذي بكسر الذال وإسكان الياء، حكاها أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن ابن الأعرابي ويقال: مذى بالتخفيف وأمذى ومذى بالتشديد، والأولى أفصح والودي -بإسكان الدال المهملة وتخفيف الياء- ولا يجوز عند جمهور أهل اللغة غير هذا. وحكى الجوهري في الصحاح عن الأموي أنه قال بتشديد الياء وحكى صاحب مطالع الأنوار لغة أنه بالذال المعجمة وهذان شاذان ويقال ودى بتخفيف الدال وودى بالتشديد، والأولى

 

ج / 2 ص -113-       أفصح، قال الأزهري: لم أسمع غيرها قال أبو عمر الزاهد: قال ابن الأعرابي: يقال مذى وأمذى ومذى بالتشديد وهو المذي مثال الرمي. والمذى مثال العمى وودى وأودى وودى. وأمنى ومنى ومنى قال: والأولى منها كلها أفصح وأما صفاتها فمما يتأكد الاعتناء به لكثرة الحاجة إليه، فمني الرجل في حال صحته أبيض ثخين يتدفق في خروجه دفعة بعد دفعة ويخرج بشهوة ويتلذذ بخروجه ثم إذا خرج يعقبه فتور ورائحته كرائحة طلع النخل قريبة من رائحة العجين وإذا يبس كانت رائحته كرائحة البيض، هذه صفاته، وقد يفقد بعضها مع أنه مني موجب للغسل، بأن يرق ويصفر لمرض أو يخرج بغير شهوة، ولا لذة لاسترخاء وعائه، أو يحمر لكثرة الجماع ويصير كماء اللحم، وربما خرج دما عبيطا، ويكون طاهرا موجبا للغسل. وفي تعليق أبي محمد الأصبهاني أنه في الشتاء أبيض ثخين وفي الصيف رقيق، ثم إن من صفاته ما يشاركه فيها غيره. كالثخانة والبياض يشاركه فيه الودي، ومنها ما لا يشاركه فيها غيره وهي خواصه التي عليها الاعتماد في معرفته، وهي ثلاث إحداها: الخروج بشهوة مع الفتور عقيبه والثانية: الرائحة التي تشبه الطلع والعجين، كما سبق والثالثة: الخروج بتزريق ودفق في دفعات، فكل واحدة من هذه الثلاثة كافية في كونه منيا ولا يشترط اجتماعها، فإن لم يوجد منها شيء لم يحكم بكونه منيا.
وأما مني المرأة فأصفر رقيق. قال المتولي: وقد يبيض لفضل قوتها، قال إمام الحرمين والغزالي: ولا خاصية له إلا التلذذ وفتور شهوتها عقيب خروجه ولا يعرف إلا بذلك، وقال الروياني: رائحته كرائحة مني الرجل، فعلى هذا له خاصيتان يعرف بإحداهما، وقال البغوي: خروج منيها بشهوة أو بغيرها يوجب الغسل كمني الرجل وذكر الرافعي أن الأكثرين قالوا تصريحا وتعريضا يطرد في منيها الخواص الثلاث، وأنكر عليه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وقال: هذا الذي ادعاه ليس كما قاله، والله أعلم.
وأما المذي فهو ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند شهوة، لا بشهوة، ولا دفق ولا يعقبه فتور وربما لا يحس بخروجه، ويشترك الرجل والمرأة فيه، قال إمام الحرمين: وإذا هاجت المرأة خرج منها المذي، قال: وهو أغلب فيهن منه في الرجال وأما الودي فماء أبيض كدر ثخين، يشبه المني في الثخانة ويخالفه في الكدورة ولا رائحة له، ويخرج عقيب البول إذا كانت الطبيعة مستمسكة وعند حمل شيء ثقيل ويخرج قطرة أو قطرتين ونحوهما.
وأجمع العلماء أنه لا يجب الغسل بخروج المذي والودي، واتفق أصحابنا على وجوب الغسل بخروج المني على أي حال، ولو كان دما عبيطا ويكون حينئذ طاهرا، صرح به الشيخ أبو حامد والأصحاب وحكى الرافعي وجها شاذا أنه إذا كان كلون الدم لم يجب الغسل، وليس بشيء والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن احتلم ولم ير المني أو شك هل خرج منه المني لم يلزمه الغسل، وإن رأى المني ولم يذكر احتلاما لزمه الغسل، لما روت عائشة رضي الله عنها "أن

 

ج / 2 ص -114-       النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام، قال: يغتسل، وعن الرجل يرى أنه احتلم ولا يجد البلل قال: لا غسل عليه".
الشرح: حديث عائشة هذا مشهور، رواه الدارمي وأبو داود والترمذي وغيرهم، لكنه من رواية عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف عند أهل العلم لا يحتج بروايته، ويغني عنه حديث أم سليم المتقدم 1 ، فإنه يدل على جميع ما يدل عليه هذا، وتقدم تفسير الاحتلام، وهذا الحكم الذي ذكره المصنف متفق عليه ونقل ابن المنذر الإجماع على أنه إذا رأى في منامه أنه احتلم أو جامع ولم يجد بللا فلا غسل عليه، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن رأى المني في فراش ينام فيه هو وغيره لم يلزمه الغسل؛ لأن الغسل لا يجب بالشك. والأولى أنه يغتسل، وإن كان لا ينام فيه غيره لزمه الغسل، وإعادة الصلاة من آخر نوم 2  نام فيه".
الشرح: هنا مسألتان إحداهما: رأى منيا في فراش ينام فيه هو وغيره ممن يمكن أن يمني، فلا غسل عليه لاحتمال أنه من صاحبه، ولا يجب على صاحبه لاحتمال أنه من الآخر، ولا يجوز أن يصلي أحدهما خلف الآخر قبل الاغتسال والمستحب لكل واحد منهما أن يغتسل.
الثانية: رأى المني في فراش ينام فيه، ولا ينام فيه غيره، أو ثوبه الذي يلبسه ولا يلبسه غيره، أو ينام فيه ويلبسه صبي لم يبلغ سن إنزال المني فيلزمه الغسل، نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم، واتفق عليه الأصحاب إلا وجها شاذا حكاه صاحب "البيان" أنه لا يجب وليس بشيء، والصواب الوجوب، فعلى هذا قال أصحابنا: يلزمه إعادة كل صلاة صلاها لا يحتمل حدوث المني بعدها، ويستحب أن يعيد كل صلاة يجوز أن المني كان موجودا فيها، ثم إن الشافعي والأصحاب أطلقوا المسألة، وقال صاحب "الحاوي": هذا إذا رأى المني في باطن الثوب فإن رآه في ظاهره فلا غسل عليه، لجواز أن يكون أصابه من غيره والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يجب الغسل من المذي، وهو الماء الذي يخرج بأدنى شهوة، والدليل عليه ما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
"كنت رجلا مذاء، فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل، إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فضخت الماء فاغتسل". ولا من الودي، وهو ماء يقطر منه عند البول، لأن الإيجاب بالشرع، ولم يرد الشرع إلا في المني".
الشرح: حديث علي رضي الله عنه صحيح، رواه أبو داود والنسائي والبيهقي بلفظه في المهذب إلا أنهم قالوا: "فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر له". ورواه البخاري ومسلم في


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الذي قالت فيه: "هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: إذا رأت الماء".
2  في نسخة الركبي: من آخر يوم نام فيه (ط).

 

ج / 2 ص -115-       صحيحيهما عن علي قال: كنت رجلا مذاء فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فسأله فقال: "توضأ واغسل ذكرك". وفي رواية لهما: "فأمرت رجلا" وفي رواية للنسائي: "فأمرت عمار بن ياسر". وفي رواية لمسلم: "توضأ وانضح فرجك" وفي رواية "منه الوضوء" ووقع في بعض نسخ المهذب: "فإذا نضحت الماء فاغتسل" بالنون والحاء المهملة، وفي بعضها "فضخت" بالفاء والخاء المعجمة ومعناهما دفقت.
وقوله: كنت مذاء فهو بفتح الميم وتشديد الذال وبالمد، ومعناه كثير المذي كضراب. وقوله: "أمرت المقداد" وفي الرواية الأخرى "عمارا" محمول على أنه أمر أحدهما ثم أمر الآخر قبل أن يخبر الأول. وقوله في رواية صاحب الكتاب ومن وافقه: "فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم" أي أمرت من ذكر، كما جاء في معظم الروايات وفي رواية لمسلم وغيره: "فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت رجلا فسأله" ومعنى "استحييت لمكان ابنته" أن المذي يكون غالبا لمداعبة الزوجة وقبلتها ونحو ذلك، والأدب أن لا يذكر الرجل مع أصهاره ما يتضمن شيئا من ذلك، والله أعلم.
وأما حكم المسألة: فأجمع المسلمون على أن المذي والودي لا يوجبان الغسل، وقد سبق بيان هذا وبيان حقيقة المذي والودي ولغتهما قريبا، وأشار المصنف بقوله: "لأن الإيجاب بالشرع" إلى مذهب أهل الحق أن الأحكام إنما تثبت بالشرع، وأن العقل لا يوجب شيئا ولا يحسنه ولا يقبحه. والله أعلم.
فرع: في حديث علي رضي الله عنه هذا فوائد:
منها: أن المذي لا يوجب الغسل، وأنه نجس، وأنه يجب غسل النجاسة، وأن الخارج من السبيل إذا كان نادرا لا يكفي في الاستنجاء منه الحجر، بل يتعين الماء، وأنه يجب الغسل من المني، وأن المذي وغيره من النادرات يوجب الوضوء، وأنه يجوز الاستنابة في الاستفتاء، وأنه يجوز العمل بالظن وهو خبر الواحد هنا، مع القدرة على اليقين بالمشافهة، وأنه يستحب مجاملة الأصهار والتأدب معهم بترك الكلام فيما يتعلق بمعاشرة النساء أو يتضمنه؛ وأنه يستحب الاحتياط في استيفاء المقصود، ولهذا أمر بغسل الذكر، والواجب منه موضع النجاسة فقط، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وعن مالك وأحمد رواية أنه يجب غسل كل الذكر، وعن أحمد رواية أنه يجب غسل الذكر والأنثيين.
دليلنا ما روى سهل بن حنيف رضي الله عنه قال:
"كنت ألقى من المذي شدة وعناء فكنت أكثر من الغسل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما يجزئك من ذلك الوضوء". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من المذي الوضوء". قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما الأمر بغسل الذكر في حديث المقداد فعلى الاستحباب. أو أن المراد بعض الذكر، وهو ما أصابه المذي. وأما حديث عبد الله بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء، فقال:
ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من

 

ج / 2 ص -116-       ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة". رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح؛ فمحمول على ما إذا أصاب الذكر والأنثيين، أو على الاستحباب لاحتمال إصابة ذلك، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإذا خرج منه ما يشبه المني والمذي ولم يتميز له فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: يجب عليه الوضوء منه، لأن وجوب غسل الأعضاء مستيقن، وما زاد على أعضاء الوضوء مشكوك في وجوبه، فلا يجب بالشك. ومنهم من قال: هو مخير بين أن يجعله منيا فيجب منه الغسل، وبين أن يجعله مذيا فيجب الوضوء وغسل الثوب منه؛ لأنه يحتمل الأمرين، احتمالا واحدا، وقال الشيخ الإمام أحسن الله توفيقه: وعندي أنه يجب أن يتوضأ مرتبا ويغسل سائر بدنه ويغسل الثوب منه، لأنا إن جعلناه منيا أوجبنا عليه غسل ما زاد على أعضاء الوضوء بالشك، والأصل عدمه، وإن جعلناه مذيا أوجبنا عليه غسل الثوب والترتيب في الوضوء بالشك، والأصل عدمه. وليس أحد الأصلين أولى من الآخر، ولا سبيل إلى إسقاط حكمهما لأن الذمة قد اشتغلت بفرض الطهارة والصلاة. والتخيير لا يجوز؛ لأنه إذا جعله مذيا لم يأمن أن يكون منيا فلم يغتسل له، وإن جعله منيا لم يأمن أن يكون مذيا ولم يغسل الثوب منه، ولم يرتب الوضوء منه، وأحب أن يجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين".
الشرح: إذا خرج منه ما يشبه المني والمذي واشتبه عليه ففيه أربعة أوجه أحدها: يجب الوضوء مرتبا ولا يجب غيره، وقد ذكر المصنف دليله. قال الرافعي وغيره: فعلى هذا لو اغتسل كان كمحدث اغتسل. والثاني: يجب غسل أعضاء الوضوء فقط ولا يجب ترتيبها، بل يغسلها كيف شاء؛ لأن المتحقق هو وجوبها، والترتيب مشكوك فيه، وهذا الوجه مشهور في طريقة الخراسانيين، وصححه الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه "الفروق"، وهذا عجب منه، بل هذا الوجه غلط صريح لا شك فيه، فإنه إذا لم يرتب فصلاته باطلة قطعا؛ لأنه لم يأت بموجب واحد منهما، وقد حكى القاضي حسين هذا الوجه في آخر صفة الوضوء عن شيخه القفال، وأنه رجع عنه فقال: قال القفال: الترتيب واجب إلا في ثلاث صور إحداها: هذه والثانية: إذا أولج الخنثى ذكره في دبر رجل فعلى المولج فيه الوضوء بلا ترتيب. والثالثة: مسألة ابن الحداد التي قدمناها في فصل ترتيب الوضوء. قال القاضي: ثم إن القفال رجع عن المسألتين الأولتين، وقال: الأصل شغل ذمته بالصلاة ولا تبرأ بهذا، فصرح القاضي برجوع القفال وأن هذا الوجه خطأ، وكأن من حكاه خفي عليه رجوع القفال عنه.
والوجه الثالث: أنه مخير بين التزام حكم المني أو المذي، وهذا هو المشهور في المذهب، وبه قال أكثر أصحابنا المتقدمين، وقطع به جمهور المصنفين وصححه الروياني والرافعي وجماعة من فضلاء المتأخرين؛ لأنه إذا أتى بمقتضى أحدهما برئ منه يقينا، والأصل براءته من الآخر ولا معارض لهذا الأصل بخلاف من نسي صلاة من صلاتين؛ لأن ذمته اشتغلت بهما جميعا، والأصل بقاء كل واحد منهما.
والوجه الرابع: يلزمه مقتضى المني والمذي جميعا؛ وهو الذي اختاره المصنف وجعله احتمالا

 

ج / 2 ص -117-       لنفسه، وهو وجه حكاه الرافعي، وهو الذي يظهر رجحانه لأن ذمته اشتغلت بطهارة، ولا يستبيح الصلاة إلا بطهارة متيقنة أو مظنونة أو مستصحبة، ولا يحصل ذلك إلا بفعل مقتضاهما جميعا. قال أصحابنا: فإن قلنا بالتخيير فتوضأ وصلى في ثوب آخر صحت صلاته، وإن صلى في الثوب الذي فيه البلل ولم يغسله لم تصح صلاته؛ لأنه إما جنب، وإما حامل نجاسة. وإن اغتسل وصلى في هذا الثوب قبل غسله صحت صلاته لاحتمال أنه مني؛ قال الرافعي: ويجري هذا الخلاف فيما لو أولج خنثى مشكل في دبر رجل فهما على تقدير ذكورة الخنثى جنبان وإلا فمحدثان، فالجنابة محتملة؛ فإذا توضأ وجب الترتيب، وفيه الوجه السابق وهو غلط، والله أعلم.
فرع: قد يعترض على المصنف في قوله: على اختياره يلزمه غسل الثوب مع الوضوء والغسل فيقال: الصواب أنه لا يجب غسل الثوب؛ لأن الأصل طهارته، فلا يجب غسله بالشك، بخلاف الجمع بين الوضوء والغسل، لأن ذمته اشتغلت بأحدهما ولا تصح الصلاة إلا به، ولا نعلم أنه أتى به إلا إذا جمع بينهما فوجب الجمع، وهذا اعتراض حسن.
فإن قيل: ما الفرق -على قول الجمهور- بين هذه المسألة وما إذا ملك إناء من ذهب وفضة مختلطين وزنه ألف: ستمائة من أحدهما وأربعمائة من الآخر، ولا يعرف أيهما أكثر، فإن المذهب وجوب الاحتياط بأن يزكي ستمائة من كل واحد، ولم يلزمه الجمهور هنا الاحتياط؛ فالجواب أن في مسألة الإناء يمكنه معرفة اليقين بسبكه ولا يمكنه اليقين بعينه، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما الحيض فإنه يوجب الغسل لقوله تعالى:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: من الآية222] قيل في التفسير هو الاغتسال، ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي". وأما دم النفاس فإنه يوجب الغسل؛ لأنه حيض مجتمع، ولأنه يحرم الصوم والوطء، ويسقط فرض الصلاة فأوجب الغسل كالحيض". 
الشرح: أما تفسير الآية فقال جمهور المفسرين: المحيض هنا هو الحيض وهو مذهبنا، نص عليه الشافعي والأصحاب، قال القاضي أبو الطيب في أول باب الحيض: اختلف الناس في المحيض فعندنا هو الدم، وقال قوم هو الفرج نفسه لأنه موضع الدم كالمبيت والمقيل موضع البيتوتة والقيلولة. وقال قوم: هو زمان الحيض. وهذان القولان غلط؛ لأن الله تعالى قال:
{قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: من الآية222] والفرج والزمان لا يوصفان بذلك، وفي حديث أم سلمة: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض". أي الدم وسنزيد في تفسير الآية وإيضاحها في أول كتاب الحيض إن شاء الله تعالى.
وأما حديث بنت أبي حبيش فصحيح رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة رضي الله عنه من طرق، وفي بعض رواياتهما
"وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" كما هو في المهذب، وفي بعضها: "فاغسلي عنك الدم وصلي" والحيضة بكسر الحاء وفتحها فالكسر اسم لحالة الحيض، والفتح بمعنى الحيض وهي المرة الواحدة منه.

 

ج / 2 ص -118-       قال الخطابي: الصواب الكسر وغلط من فتح وجوز القاضي عياض وغيره الفتح وهو أقوى، وحبيش بضم الحاء المهملة ثم باء موحدة مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم شين معجمة، واسم أبي حبيش: قيس بن المطلب بن أسد بن عبد العزى.
وأما حكم المسألة: فأجمع العلماء على وجوب الغسل بسبب الحيض وبسبب النفاس، وممن نقل الإجماع فيهما ابن المنذر وابن جرير الطبري وآخرون، وذكر المصنف دليلهما، ووجه الدلالة من الآية أنه يلزمها تمكين الزوج من الوطء، ولا يجوز ذلك إلا بالغسل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. واختلف أصحابنا في وقت وجوبه فقال القاضي أبو الطيب والمحاملي وابن الصباغ وآخرون من العراقيين والروياني: الصحيح أنه يجب بأول خروج الدم، كما قالوا: يجب الوضوء بأول قطرة من البول، قالوا: وفيه وجه أنه يجب بانقطاع الدم، وليس بشيء، وعكس الخراسانيون هذا فقالوا: الأصح أنه يجب بانقطاعه لا بخروجه، كذا صححه الفوراني وجماعات منهم. قال إمام الحرمين، قال الأكثرون: يجب بانقطاع الدم، وقال أبو بكر الإسماعيلي: يجب بخروجه وهو غلط؛ لأن الغسل مع دوام الحيض غير ممكن، وما لا يمكن لا يجب. قال الإمام: والوجه أن يقال: يجب بخروج جميع الدم، وذلك يتحقق عند الانقطاع. وقطع الشيخ أبو حامد بوجوبه بالانقطاع، والبغوي بالخروج، وكل من أوجب بالخروج قاسوه على البول والمني. وقد سبق فيهما ثلاثة أوجه عن المتولي وغيره في أن الوجوب بخروج البول والمني؟ أم بالقيام إلى الصلاة؟ أم بالمجموع؟ قال المتولي: وتلك الأوجه جارية في الحيض قال: إلا أن القائلين هناك: يجب بالخروج اختلفوا، فمنهم من قال: يجب بخروج الدم، ومنهم من قال: بانقطاعه، فحصل أربعة أوجه في وقت وجوب غسل الحيض والنفاس أحدها: بخروج الدم والثاني: بانقطاعه والثالث: بالقيام إلى الصلاة والرابع: بالخروج والانقطاع والقيام إلى الصلاة، والأصح وجوبه بالانقطاع. 
قال إمام الحرمين وغيره: وليس في هذا الخلاف فائدة فقهية، وقال صاحب العدة: فائدته أن الحائض إذا أجنبت، وقلنا: لا يجب غسل الحيض إلا بانقطاع الدم، وقلنا بالقول الضعيف أن الحائض لا تمنع قراءة القرآن، فلها أن تغتسل عن الجنابة لاستباحة قراءة القرآن، وسيأتي هذا مع زيادة إيضاح في أول كتاب الحيض إن شاء الله تعالى.
وذكر صاحب "البحر" في كتاب الجنائز له فائدة أخرى حسنة فقال: لو استشهدت الحائض في قتال الكفار قبل انقطاع حيضها، فإن قلنا: يجب بالانقطاع لم تغسل وإن قلنا بالخروج فهل تغسل؟ فيه الوجهان في غسل الجنب الشهيد، فحصل في الخلاف فائدتان إحداهما: مسألة الشهيد والثانية: مسألة الحائض إذا أجنبت، فإن قيل: الحائض على القول القديم يباح لها القراءة سواء قلنا: يجب الغسل بخروج الدم أم بانقطاعه فينبغي إذا أجنبت أن لا يختلف الحكم.
فالجواب أنا إذا قلنا: لا يجب الغسل بخروج الدم فأجنبت فهذه امرأة جنب لا غسل عليها إلا للجنابة، فإذا اغتسلت لها ارتفعت جنابتها وبقيت حائضا مجردة فتباح القراءة (على القديم): وإذا قلنا: يجب الغسل بالخروج فاغتسلت للجنابة لم يصح، ولم ترتفع جنابتها؛ لأن عليها غسلين: غسل حيض

 

ج / 2 ص -119-       وغسل جنابة، وغسل الحيض لا يمكن صحته مع جريان الدم، وإذا لم يصح غسل الحيض لم يصح غسل الجنابة؛ لأن من عليه حدثان لا يمكن أن يرتفع أحدهما ويبقى الآخر كمن أحدث بنوم مثلا، ثم شرع في البول وتوضأ في حال بوله عن النوم فإنه لا يصح بلا شك، والله أعلم.
فرع: قال صاحب "البيان" وغيره: لو خرج الدم من قبلي الخنثى المشكل أو من أحدهما فلا غسل عليه وإن كان بصفة دم الحيض وفي وقته، لجواز أنه رجل.
فرع: قال الشافعي رحمه الله في المختصر: وتغتسل الحائض إذا طهرت، والنفساء إذا انقطع دمها. قال القاضي حسين وصاحب البحر: قيل لا معنى لتغيير العبارة في الحائض والنفساء إلا تحسين اللفظ وقيل هي إشارة إلى أن دم النفاس لا يتقدر أقله، فمتى ارتفع بعد الولادة وإن قل وجب الغسل. ودم الحائض لو ارتفع قبل يوم وليلة لا يكون حيضا ولا غسل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما إذا ولدت المرأة ولدا ولم تر دما، ففيه وجهان أحدهما: يجب عليها الغسل لأن الولد مني منعقد والثاني: لا يجب لأنه لا يسمى منيا".
الشرح: هذان الوجهان مشهوران، والأصح منهما - عند الأصحاب في الطريقتين - وجوب الغسل، وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات، وشذ الشاشي فصحح عدم الوجوب.
ثم من الأصحاب من ذكر المسألة هنا ومنهم من ذكرها في كتاب الحيض، ومنهم من ذكرها في الموضعين، قال الماوردي في كتاب الحيض: القول بالوجوب هو قول ابن سريج ومذهب مالك، وبعدمه قول أبي علي بن أبي هريرة ومذهب أبي حنيفة. وعن أحمد روايتان كالوجهين، وهذا التعليل الذي ذكره المصنف للوجوب وهو كون الولد منيا منعقدا؛ هو التعليل المشهور في الطريقتين، وذكر القاضي حسين هذا التعليل وعلة أخرى وهي أن الولد لا يخلو عن رطوبة وإن خفيت. قال الماوردي: وتوجد الولادة بلا دم في نساء الأكراد كثيرا.
قال أصحابنا: فإذا قلنا: لا غسل عليها فعليها الوضوء، ولو خرج منها ولد بعد ولد وقلنا: يجب الغسل فاغتسلت للأول قبل خروج الثاني وجب الغسل للثاني. اتفق عليه أصحابنا. ولو ألقت علقة أو مضغة ففي وجوب الغسل الوجهان الأصح الوجوب، ذكره المتولي وآخرون، وقطع القاضي حسين والبغوي بالوجوب في المضغة، وخص الوجهين بالعلقة، قال الماوردي: وهل يصح غسلها بمجرد وضعها أم لا يصح حتى تمضي ساعة؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في أن أقل النفاس محدود بساعة أم لا؟ والصحيح الذي يقتضيه إطلاق الجمهور صحة الغسل بمجرد الوضع، والصحيح أن النفاس غير محدود والله أعلم.
فرع: إذا ولدت في نهار رمضان ولم تر دما ففي بطلان صومها طريقان:
أحدهما: لا يبطل سواء أوجبنا الغسل أم لا، وبه قطع الفوراني في كتاب الحيض.
والثاني: فيه وجهان بناء على الغسل إن أوجبناه بطل الصوم، وإلا فلا وبهذا الطريق قطع

 

ج / 2 ص -120-       الماوردي والبغوي وغيرهما، وأنكره صاحب البحر؛ وقال: عندي أنه لا يبطل لأنها مغلوبة كالاحتلام وهذا -الذي قاله- قوي في المعنى، ضعيف التعليل، أما ضعف تعليله فلأنه ينتقض بالحيض فإنه يبطل الصوم وإن كانت مغلوبة، وأما قوته في المعنى فلأن الذي اعتمده الأصحاب في تعليل وجوب الغسل أن الولد مني منعقد وهذا يصلح لوجوب الغسل لا لبطلان الصوم، فإن خروج المني من غير مباشرة ولا استمناء لا يبطل الصوم والله أعلم.
فرع: إذا حاضت ثم أجنبت أو أجنبت ثم حاضت لم يصح غسلها عن الجنابة في حال الحيض؛ لأنه لا فائدة فيه، وفيه وجه ضعيف ذكره الخراسانيون أنه يصح غسلها من الجنابة ويفيدها قراءة القرآن إذا قلنا بالقول الضعيف: إن للحائض قراءة القرآن، وقد تقدم هذا قريبا عن صاحب العدة.
فرع: قال أصحابنا وغيرهم: أعضاء الجنب والحائض والنفساء وعرقهم طاهر وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، ونقل ابن المنذر الإجماع فيه، وحكى أصحابنا عن أبي يوسف أن بدن الحائض نجس فلو أصابت ماء قليلا نجسته، وهذا النقل لا أظنه يصح عنه، فإن صح فهو محجوج بالإجماع، وبقوله صلى الله عليه وسلم:
"حيضتك ليست في يدك". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم لا ينجس". رواهما البخاري ومسلم، وسنبسط المسألة في آخر كتاب الحيض إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن استدخلت المرأة المني ثم خرج منها لم يلزمها الغسل".
الشرح: إذا استدخلت المرأة المني في فرجها أو دبرها ثم خرج منها لم يلزمها الغسل، هذا هو الصواب الذي قطع به الجمهور في الطريقتين، وحكى القفال والمتولي والبغوي وغيرهم من الخراسانيين وجها شاذا أنه يلزمها الغسل وهو قول الشيخ أبي زيد المروزي. قال البغوي والرافعي: وعلى هذا لا فرق بين إدخالها قبلها أو دبرها، كتغييب الحشفة وحكوا مثل هذا الوجه عن الحسن البصري، وحكاه ابن المنذر عن عطاء والزهري وعمرو بن شعيب، وهو غلط وإن كثر قائلوه وناقلوه، ثم إنه وإن كان له أدنى خيال إذا استدخلته في قبلها لاحتمال أنها تلذذت فأنزلت منيها، فاختلط به فإذا خرج المني الأجنبي صحبه منيها، لكن إيجابه بخروجه من الدبر لا وجه له ولا خيال وممن قال من السلف: لا يجب، قتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق، ودليله النصوص في أن الغسل إنما يلزمه بمنيه، واتفق الأصحاب على أنها لو أدخلت في فرجها دم الحيض أو أدخل الرجل في دبره أو قبله المني وخرجا فلا غسل. نقله القاضي أبو الطيب وغيره.
وقال أصحابنا: ويلزمها الوضوء بخروجه، كما سبق في باب ما ينقض الوضوء أما إذا جومعت فاغتسلت ثم خرج منها مني الرجل، فقال الأصحاب: لا غسل عليها أيضا وعليها الوضوء. قال المتولي: كان القاضي حسين يقول: مراد الأصحاب إذا كانت الموطوءة صغيرة لا تنزل أو كبيرة، لكن أنزل الزوج عقيب الإيلاج، بحيث لم تنزل هي في العادة، فأما إذا امتد الزمان قبل إنزاله فالغالب أنها تنزل ويختلط المنيان فعليها الغسل ثانيا. وذكر الروياني عن الأصحاب أنه لا غسل عليها. ثم ذكر

 

ج / 2 ص -121-       كلام القاضي بحروفه وحكى إمام الحرمين عن بعض الأصحاب وجوب الغسل، ثم قال: وعندي في هذا تفصيل، فذكر نحو كلام القاضي والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإذا أسلم الكافر ولم يجب عليه غسل في حال الكفر فالمستحب أن يغتسل، لما روي:
"أنه أسلم قيس بن عاصم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل" ولا يجب ذلك لأنه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وإن وجب عليه غسل في حال الكفر ولم يغتسل لزمه أن يغتسل، وإن كان قد اغتسل في حال الكفر، فهل يجب عليه إعادته؟ فيه وجهان أحدهما: لا تجب إعادته لأنه غسل صحيح، بدليل أنه تعلق به إباحة الوطء في حق الحائض إذا طهرت، فلم تجب إعادته كغسل المسلم والثاني: تجب إعادته وهو الأصح لأنه عبادة محضة، فلم تصح من الكافر في حق الله تعالى، كالصوم والصلاة".
الشرح: حديث قيس بن عاصم حديث حسن رواه أبو داود والترمذي والنسائي من رواية قيس بن عاصم هذا. قال الترمذي: حديث حسن، وقيس هذا من سادات العرب كنيته أبو علي. وقيل: أبو قبيصة، وقيل: أبو طلحة، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم سنة تسع من الهجرة فأسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"هذا سيد أهل الوبر". وكان حليما عاقلا، قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم رضي الله عنه وقول المصنف: "لأنه عبادة محضة" احترز بعبادة عن البيع وغيره من المعاملات، وبمحضة عن "العدة" والكفارة، وقوله: "فلم تصح من الكافر في حق الله" احتراز من غسل الكافرة التي طهرت من الحيض، فإنه عبادة محضة ويصح من الكافر لكن في حق الآدمي.

أما أحكام الفصل ففيه ثلاث مسائل:
إحداها: إذا أجنب الكافر ثم أسلم قبل الاغتسال لزمه الغسل، نص عليه الشافعي واتفق عليه جماهير الأصحاب. وحكى الماوردي عن أبي سعيد الإصطخري وجها أنه لا يلزمه، وهو مذهب أبي حنيفة لقول الله تعالى:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: من الآية38] ولحديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام يهدم ما قبله". رواه مسلم، ولأنه أسلم خلق كثير لهم الزوجات والأولاد، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وجوبا ولو وجب لأمرهم به، وهذا الوجه ليس بشيء لأنه لا خلاف أنه يلزمه الوضوء، فلا فرق بين أن يبول ثم يسلم، أو يجنب ثم يسلم. وأما الآية الكريمة والحديث فالمراد بهما غفران الذنوب، فقد أجمعوا على أن الذمي لو كان عليه دين أو قصاص لا يسقط بإسلامه، ولأن إيجاب الغسل ليس مؤاخذة وتكليفا بما وجب في الكفر، بل هو إلزام شرط من شروط الصلاة في الإسلام فإنه جنب، والصلاة لا تصح من الجنب، ولا يخرج بإسلامه عن كونه جنبا. والجواب عن كونهم لم يؤمروا بالغسل بعد الإسلام أنه كان معلوما عندهم، كما أنهم لم يؤمروا بالوضوء لكونه معلوما لهم، والفرق بين وجوب الغسل ومنع قضاء الصوم والصلاة من وجهين. أحدهما: ما سبق أن الغسل مؤاخذة بما هو حاصل في الإسلام وهو كونه جنبا بخلاف الصلاة. والثاني: أن الصلاة والصوم يكثران فيشق قضاؤهما وينفر عن الإسلام. وأما الغسل

 

ج / 2 ص -122-       فلا يلزمه إلا غسل واحد ولو أجنب ألف مرة وأكثر فلا مشقة فيه.
المسألة الثانية: إذا أجنب واغتسل في الكفر ثم أسلم ففي وجوب إعادة الغسل وجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما، أصحهما عند الأصحاب وجوب الإعادة، ونص عليه الشافعي وقطع به القاضي أبو الطيب وآخرون، وأجابوا عن احتجاج القائل الآخر بالحائض، فقالوا: لا يلزم من صحته في حق الزوج للضرورة صحته بلا ضرورة، قاسوه على المجنونة إذا طهرت من الحيض فغسلها زوجها ليستبيحها، فإنها إذا أفاقت يلزمها الغسل، وهذا على المذهب المشهور، وفيها خلاف ضعيف سبق في آخر باب نية الوضوء؛ ولا فرق في هذا بين الكافر المغتسل في الكفر والكافرة المغتسلة لحلها لزوجها المسلم. فالأصح في الجميع وجوب الإعادة، وخالف إمام الحرمين الجمهور، فصحح في الحائض عدم الإعادة، وقد سبق هذا في آخر باب نية الوضوء.
الثالثة: إذا أسلم ولم يجنب في الكفر استحب أن يغتسل، ولا يجب عليه الغسل بلا خلاف عندنا، وسواء في هذا الكافر الأصلي والمرتد والذمي والحربي. قال الخطابي وغيره: وبهذا قال أبو حنيفة وأكثر العلماء. وقال مالك وأحمد وأبو ثور: يلزمه الغسل. واختاره ابن المنذر والخطابي.
واحتجوا بحديث قيس بن عاصم، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد وذكر الحديث وفي آخره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". رواه البخاري وفي رواية للبيهقي وغيره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه فأسلم فأطلقه وبعث به إلى حائط أبي طلحة، وأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين".
قال البيهقي: يحتمل أن يكون أسلم عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم اغتسل ودخل المسجد فأظهر الشهادة ثانيا جمعا بين الروايتين.
واحتج أصحابنا بما ذكره المصنف وهو أنه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال، ولأنه ترك معصية فلم يجب معه غسل كالتوبة من سائر المعاصي، والجواب عن حديثيهما من وجهين أحدهما: حملهما على الاستحباب جمعا بين الأدلة، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أمر قيسا أن يغتسل بماء وسدر واتفقنا على أن السدر غير واجب الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم علم أنهما أجنبا لكونهما كانت لهما أولاد، فأمرهما الغسل لذلك لا للإسلام والله أعلم.
فرع: يستحب للكافر إذا أسلم أن يحلق شعر رأسه، نص عليه الشافعي في "الأم" والشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وابن الصباغ والروياني والشيخ نصر وآخرون. احتجوا له بحديث عثيم، بضم العين المهملة وفتح المثلثة، عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أسلمت،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ألق عنك شعر الكفر" يقول: احلق، رواه أبو داود والبيهقي وإسناده ليس بقوي، لأن عثيما وكليبا ليسا بمشهورين ولا وثقا، لكن أبا داود رواه لم يضعفه، وقد

 

ج / 2 ص -123-       قال: إنه إذا ذكر حديثا ولم يضعفه فهو عنده صالح، أي صحيح أو حسن، فهذا الحديث عنده حسن. ويستحب أن يغتسل بماء وسدر، لما ذكرناه من حديث قيس. والله أعلم.
فرع: إذا أراد الكافر الإسلام فليبادر به ولا يؤخره للاغتسال، بل تجب المبادرة بالإسلام، ويحرم تحريما شديدا تأخيره للاغتسال وغيره، وكذا إذا استشار مسلما في ذلك حرم على المستشار تحريما غليظا أن يقول له أخره إلى الاغتسال، بل يلزمه أن يحثه على المبادرة بالإسلام. هذا هو الحق والصواب. وبه قال الجمهور. وحكى الغزالي رحمه الله في باب الجمعة وجها أنه يقدم الغسل على الإسلام ليسلم مغتسلا. قال: وهو بعيد، وهذا الوجه غلط ظاهر لا شك في بطلانه وخطأ فاحش، بل هو من الفواحش المنكرات، وكيف يجوز البقاء على أعظم المعاصي وأفحش الكبائر ورأس الموبقات وأقبح المهلكات لتحصيل غسل لا يحسب عبادة لعدم أهلية فاعله. وقد قال صاحب "التتمة" في باب الردة: لو رضي مسلم بكفر كافر، بأن طلب كافر منه أن يلقنه الإسلام فلم يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم أو أخر عرض الإسلام عليه بلا عذر، صار مرتدا في جميع ذلك، لأنه اختار الكفر على الإسلام. وهذا الذي قاله إفراط أيضا، بل الصواب أن يقال: ارتكب معصية عظيمة. وأما قول النسائي في سننه: باب تقديم غسل الكافر إذا أراد أن يسلم، واحتج بحديث أبي هريرة أن ثمامة انطلق فاغتسل ثم جاء فأسلم فليس بصحيح ولا دلالة فيما ذكره لما ادعاه. والله أعلم.
ويتعلق بهذا الفصل مسائل نفيسة تقدمت في أواخر باب نية الوضوء. وبالله التوفيق
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومن أجنب حرم عليه الصلاة والطواف ومس المصحف وحمله، لأنا دللنا على أن ذلك يحرم على المحدث، فلأن يحرم على الجنب أولى، ويحرم عليه قراءة القرآن، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن". [ويحرم 1 عليه اللبث في المسجد] ولا يحرم عليه العبور لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: من الآية43] وأراد موضع الصلاة. وقال في "البويطي": ويكره له أن ينام حتى يتوضأ، لما روي أن عمر رضي الله عنه قال: "يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد". قال أبو علي الطبري: وإذا أراد أن يطأ أو يأكل أو يشرب توضأ، ولا يستحب ذلك للحائض لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها ويؤثر في حدث الجنابة، لأنه يخففه ويزيله من أعضاء الوضوء".
الشرح: هذا الفصل مشتمل على جمل ويتعلق به فروع كثيرة منتشرة، فالوجه أن نشرح كلام المصنف مختصرا ثم نعطف عليه مذاهب العلماء ثم الفروع والمتعلقات، أما الآية الكريمة فسيأتي تفسيرها والمراد بها في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى. وأما حديث ابن عمر: "لا يقرأ الجنب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين من المتوكلية والركبي (ط).

 

ج / 2 ص -124-       ولا الحائض شيئا من القرآن". فرواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم وهو حديث ضعيف ضعفه البخاري والبيهقي وغيرهما، والضعف فيه بين، وسنذكر في فرع مذاهب العلماء غيره مما يغني عنه وأما حديث عمر رضي الله عنه فصحيح رواه البخاري ومسلم.
وقوله: فلأن يحرم على الجنب هو بفتح اللام، وقد سبق إيضاحه في باب الآنية ثم في مواضع. وقوله: لا يقرأ الجنب، بكسر الهمزة، وروي بضمها على الخبر، الذي يراد به النهي وهما صحيحان، وممن ذكرها القاضي أبو الطيب في هذا الموضع من "تعليقه" ونظائرهما كثيرة مشهورة، واللبث هو الإقامة. قال أهل اللغة: يقال لبث بالمكان وتلبث أي أقام قال الأزهري وصاحب المحكم وغيرهما: يقال لبث يلبث لبثا ولبثا بإسكان الباء وفتحها زاد في المحكم ولباثة ولبيثة، يعني بفتح اللام فيهما.
وأما الجنابة فأصلها في اللغة البعد وتطلق في الشرع على من أنزل المني، وعلى من جامع وسمي جنبا، لأنه يجتنب الصلاة والمسجد والقراءة ويتباعد عنها، ويقال: أجنب الرجل، يجنب وجنب بضم الجيم وكسر النون، يجنب بضم الياء وفتح النون لغتان مشهورتان، الأولى أفصح وأشهر، يقال رجل جنب ورجلان ورجال وامرأة وامرأتان ونسوة جنب بلفظ واحد، قال الله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: من الآية6] قال أهل اللغة: ويقال: جنبان وأجناب فيثنى ويجمع والأول أفصح وأشهر.
وأما حكم المسألة: فيحرم على الجنب ستة أشياء الصلاة والطواف ومس المصحف وحمله واللبث في المسجد وقراءة القرآن، فأما الأربعة الأولى فتقدم شرحها وما يتعلق بها في باب ما ينقض الوضوء، وأما قراءة القرآن فيحرم كثيرها وقليلها حتى بعض آية، وكذا يحرم اللبث في جزء من المسجد ولو لحظة.
وأما العبور فلا يحرم، وقد ذكر المصنف دليل الجميع، قال أصحابنا: ويكره للجنب أن ينام حتى يتوضأ، ويستحب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو يطأ من وطئها أولا أو غيرها أن يتوضأ وضوءه للصلاة ويغسل فرجه في كل هذه الأحوال ولا يستحب هذا الوضوء للحائض والنفساء، نص عليه الشافعي في "البويطي" واتفق عليه الأصحاب، ودليله ما ذكره المصنف أن الوضوء لا يؤثر في حدثها لأنه مستمر، فلا تصح الطهارة مع استمراره، وهذا ما دامت حائضا، فأما إذا انقطع حيضها فتصير كالجنب يستحب لها الوضوء في هذه المواضع، لأنه يؤثر في حدثها كالجنب. وهذا الذي قلناه وقاله المصنف والأصحاب إن الوضوء يؤثر في حدث الجنب ويزيله عن أعضاء الوضوء هو الصحيح الذي قطع به الجمهور وخالف فيه إمام الحرمين، فقال: لا يرتفع شيء من الحدث حتى تكمل الطهارة.
وقد سبق بيان هذه المسائل في المسائل الزوائد في آخر صفة الوضوء ودليل استحباب الوضوء وغسل الفرج في هذه الأحوال أحاديث صحيحة منها حديث عمر رضي الله عنه قال: "يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ فقال:
نعم إذا توضأ". رواه البخاري ومسلم.

 

ج / 2 ص -125-       وفي "الصحيحين" عن ابن عمر قال: "ذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ واغسل ذكرك ثم نم". وعن عائشة "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام، وهو جنب غسل فرجه وتوضأ للصلاة". رواه البخاري ومسلم هذا لفظ البخاري. وفي رواية مسلم: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام". وفي رواية له "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه". وعن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم "رخص للجنب إذا أكل أو شرب أو نام أن يتوضأ". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ومعناه إذا أراد أن يأكل. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود، فليتوضأ بينهما وضوءا". رواه مسلم. زاد البيهقي في رواية "فإنه أنشط للعود".
وأما حديث ابن عباس في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
"قام من الليل فقضى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام". فالمراد بحاجته الحدث الأصغر. وأما حديث أبي إسحاق السبيعي -بفتح السين المهملة- عن الأسود عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب ولا يمس ماء". رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، فقال أبو داود عن يزيد بن هارون: وهم السبيعي في هذا. يعني قوله: ولا يمس ماء. وقال الترمذي: يرون أن هذا غلط من السبيعي.
وقال البيهقي: طعن الحفاظ في هذه اللفظة وتوهموها مأخوذة عن غير الأسود وأن السبيعي دلس، قال البيهقي: وحديث السبيعي بهذه الزيادة صحيح من جهة الرواية لأنه بين سماعه من الأسود والمدلس إذا بين سماعه ممن روى عنه وكان ثقة فلا وجه لرده.
قلت: قالت طائفة من أهل الحديث والأصول: إن المدلس لا يحتج بروايته وإن بين السماع، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه إذا بين السماع احتج به، فعلى الأول لا يكون الحديث صحيحا، ولا يحتاج إلى جواب، وعلى الثاني جوابه من وجهين. أحدهما: ما رواه البيهقي عن ابن سريج رحمه الله واستحسنه البيهقي أن معناه: لا يمس ماء للغسل، لنجمع بينه وبين حديث الآخر، وحديث عمر الثابتين في الصحيحين. والثاني: أن المراد أنه كان يترك الوضوء في بعض الأحوال ليبين الجواز إذ لو واظب عليه لاعتقدوا وجوبه، وهذا عندي حسن أو أحسن، وثبت في "الصحيحين
" عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه بغسل واحد، وهن تسع نسوة". فيحتمل أنه كان يتوضأ بينها، ويحتمل ترك الوضوء لبيان الجواز، وفي رواية لأبي داود "أنه طاف على نسائه ذات ليلة يغتسل عند هذه وعند هذه فقيل يا رسول الله ألا تجعله غسلا واحدا فقال: هذا أزكى وأطيب وأطهر". قال أبو داود: والحديث الأول أصح.
قلت: وإن صح هذا الثاني حمل على أنه كان في وقت وذاك في وقت، والحديثان محمولان على أنه كان برضاهن إن قلنا بالأصح، وقول الأكثرين أن القسم كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم في الدوام، فإن القسم لا يجوز أقل من ليلة ليلة برضاهن والله أعلم.

 

ج / 2 ص -126-       فرع: روى أبو داود والنسائي بإسناد جيد عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة 1  ولا جنب ولا كلب". قال الخطابي المراد الملائكة الذين ينزلون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نظر كثير من الناس إلى أحاديث النهي عن التصوير واتخاذ الصور إلى تعميمها على كل صورة ولو كانت مباحة لا يتناولها التحريم من حيث العلة التي قام عليها التحريم ولا من حيث المفسدة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" روى أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود, فهم أشد عذابا من جميع الناس كافرهم ومسلمهم, ولما كان الذي يعذب هذا العذاب ويذوق هذا النكال يجب أن يتكافأ الجزاء مع الذنب, واستحقاق المصورين للعذاب الذي يفوق عذاب الناس أجمعين يجعلنا ننظر في طبيعة التصويري الذي أوبقهم إلى هذا النكال العظيم ذلك أن عملهم في التصوير هو تصوير المعبودات من الأوثان والصور المعظمة ولو لم تكن صورا على الحقيقة بل يصدق على ذلك لو صنع خطا مستطيلا وفي وسطه أو في جزء منه خط مستعرض فإن ذلك وغيره يعبد, وصانعه أشد عذابا من عابديه والصور المجردة من المعاني والقاصرة على مجرد الزينة كانت موجودة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم في شكل قرام أو ستارة أو تمثال مجسم على باب بيته منحوت من الحجارة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها يوما: "أميطي عني قرامك فإنه لا تزال تصاويره تعرض على في صلاتي" فأمره له بإماطته لم يكن سببه منع الملائكة وإنما كان سببه شغله صلى الله عليه وسلم في الصلاة, وكان مقتضى أن تميط هذا القرام أن تنحيه بعيدا عن البيت إذا كان مثل هذه الصور مما يمنع الملائكة بيد أن الذي فعلته عائشة رضي الله عنها وأقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مزقت القرام قطعتين وصنعتهما وسادتين يجلس عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤخذ من هذا جواز اتخاذ الصور في أثاث البيت كالكرسي والسرير و البسط وجدران المنزل إذا لم يؤد ذلك إلى التشويش على المصلي.
وكان خاتم عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه منقوشا عليه طائر وكان التمثال الذي كان أمام بيت النبي صلى الله عليه وسلم وامتنع عن جبريل دخول البيت بسبه قد أمر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر رأس هذا التمثال حتى لا تخلص إليه صورة حية, فأخذنا من هذا الحديث جواز في السيريال وبالجملة فإن الصور الفوتوغرافية لا حرمة فيها وإنما عملها مباح, ومثالها في الإباحة أن يقف الإنسان أمام المرآة ليرى صورته فيها بل يراها حية متحركة بحركته فإذا كانت هذه الصورة مباحة فلو أنه أطال الوقوف أمام المرآة لرغبته في الوقوف لما اعترض عليه أحد ولو توصل إلى اختراع زر يضغط عليه فيثبت صورته في المرآة ويتركه وينصرف لما كان في هذا محظور لو كان محظورا لكان النظر في المرآة محظورا أيضا لأنه إحداث صورة منفصلة عن صاحبها على مسطح آخر بعيد عنه, ولقالوا ينبغي ألا يقترب أحد من المرايا حتى لا تقع هذه الجريمة جريمة وجود صورة المرء في مسطح مصقول هذا وإن التصوير اليوم أصبح جزءا من الجهاد و الإعداد فالجيوش الحديثة لكي توفر دماء أبنائها ووقتهم تصطنع طائرات بغير قائد وأقمارا صناعية تعلو في الفضاء وليس لها وظيفة إلا تصوير المواقع والإحاطة بكل كبيرة وصغيرة حتى ما يختزن في باطن الأرض من مواد جيولوجية كالمعادن التي في باطن الأرض والمياه الجوفية والنفط الذي هو عصب الطاقة اليوم في الدنيا, فأي تصوير في هذا حرام. سبحانك اللهم تنزهت عن هذه الصغائر فأنقذ أمة محمد من التعلق بسفساف الأمر وتافه الرأي. وإلى أن يقتنع المتنطعون بحل التصوير بل بوجوبه على "الكفاية" بل بالتمكن منه والأخذ بناصيته و التسابق فيه مع الأمم الأخرى يكون المسلمون في مؤخرة الأمم ويكون غيرهم قد سبقهم إلى أن يصنع آلة التصوير كزر القميص بل آلة التصوير مع التسجيل للصوت بأحجام بالغة الدقة في الصغر, وما ذلك إلا لأنهم لم تقف في وجوههم عقبات من آراء الجاهلين بأحكام الدين والخابطين فيه خبط العشواء في الليلة الظلماء فيوبقون أمتهم في التخلف,ويقيدونها بأغلال المعوقات التي تتجمع من المماحكات اللفظية والتصورات الوهمية والسذاجة في الدين إذا كان صاحب الرأي محل إحسان الظن به وليس متآمرا على دينه وقومه,فإذا أحسنا الظن بهؤلاء=

 

ج / 2 ص -127-       بالرحمة والبركة لا الحفظة لأنهم لا يفارقون الجنب ولا غيره قال: وقيل لم يرد بالجنب من أصابته جنابة فأخر الاغتسال إلى حضور الصلاة ولكنه الجنب الذي يتهاون بالغسل ويتخذ تركه عادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم "كان ينام وهو جنب ويطوف على نسائه بغسل واحد". قال: وأما الكلب فهو أن يقتني كلبا لغير الصيد والزرع والماشية وحراسة الدار، قال: وأما الصورة فهي كل مصور من ذوات الأرواح، سواء كان على جدار أو سقف أو ثوب. هذا كلام الخطابي وفي تخصيصه الجنب بالمتهاون والكلب بالذي يحرم اقتناؤه نظر وهو محتمل.
فرع: هذا الذي ذكرناه من كراهة النوم قبل الوضوء للجنب هو مذهبنا وبه قال أكثر السلف أو كثير منهم، حكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد الخدري وشداد بن أوس وعائشة والحسن البصري وعطاء والنخعي ومالك وأحمد وإسحاق واختاره ابن المنذر قال: وقال سعيد بن المسيب وأصحاب الرأي: هو بالخيار، دليلنا الأحاديث السابقة والله أعلم
فرع: في مذاهب العلماء في قراءة الجنب والحائض، مذهبنا أنه يحرم على الجنب والحائض قراءة القرآن قليلها وكثيرها حتى بعض آية؛ وبهذا قال أكثر العلماء كذا حكاه الخطابي وغيره عن الأكثرين، وحكاه أصحابنا عن عمر بن الخطاب وعلي وجابر رضي الله عنهم والحسن والزهري والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق.
وقال داود: يجوز للجنب والحائض قراءة كل القرآن، وروي هذا عن ابن عباس وابن المسيب، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: واختاره ابن المنذر، وقال مالك: يقرأ الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ، وفي الحائض روايتان عنه إحداهما: تقرأ والثانية: لا تقرأ، وقال أبو حنيفة: يقرأ الجنب بعض آية ولا يقرأ آية وله رواية كمذهبنا.
واحتج من جوز مطلقا بحديث عائشة رضي الله عنها
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه". رواه مسلم؛ قالوا: والقرآن ذكر ولأن الأصل عدم التحريم.
واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر المذكور في الكتاب لكنه ضعيف كما سبق وعن عبد الله بن سلمة، بكسر اللام. عن علي رضي الله عنه قال
: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فيقرأ القرآن ولم يكن يحجبه، وربما قال: يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة". رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=حكمنا بسذاجتهم وتعاطيهم الدين بطريقة بلهاء, أما إذا أقمناهم مقام من يساء الظن برأيهم وحكمنا بذكائهم فقد وضعناهم في مواضع المتهمين المأجورين لإضعاف كيان المسلمين وتمكين أعدائهم منهم كل التمكين, وإنما كان مقتضى نهيه صلى الله عليه وسلم عن التصوير ألا تنتقل عادات الوثنيين إلينا خصوصا وقد جاء الفيء للمسلمين بكل ما في بيوت المشركين من صور معبوداتهم وأوثانهم فنهاهم عن هذه الصور حتى لا تنعكس بيوت المشركين في حياة المسلمين وهذا هو غاية الحفظ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من الذوبان والضياع, بذلك حفظت لنا مساجدنا من هذه الصور ومن آلات العزف. وصفت عبادتنا من كدورات المادة وأوحال اللهو
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

 

ج / 2 ص -128-       ماجه والبيهقي وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال غيره من الحفاظ المحققين: هو حديث ضعيف ورواه الشافعي في سنن حرملة ثم قال: إن كان ثابتا ففيه دلالة على تحريم القراءة على الجنب.
قال البيهقي: ورواه الشافعي في كتاب جماع الطهور، وقال: وإن لم يكن أهل الحديث يثبتونه. قال البيهقي: وإنما توقف الشافعي في ثبوته لأن مداره على عبد الله بن سلمة وكان قد كبر وأنكر من حديثه وعقله بعض النكرة وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة، ثم روى البيهقي عن الأئمة تحقيق ما قال، ثم قال البيهقي: وصح عن عمر رضي الله عنه أنه كره القراءة للجنب، ثم رواه بإسناده عنه. وروي عن علي لا يقرأ الجنب القرآن ولا حرفا واحدا، وروى البيهقي عن عبد الله بن مالك الغافقي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا توضأت وأنا جنب أكلت وشربت ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل". وإسناده أيضا ضعيف.
واحتج أصحابنا أيضا بقصة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه المشهورة:
"أن امرأته رأته يواقع جارية له، فذهبت فأخذت سكينا وجاءت تريد قتله، فأنكر أنه واقع الجارية وقال: "أليس قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنب أن يقرأ القرآن؟ قالت: بلى فأنشدها الأبيات المشهورة فتوهمتها قرآنا فكفت عنه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فضحك ولم ينكر عليه".
والدلالة فيه من وجهين أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه قوله: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن والثاني: أن هذا كان مشهورا عندهم يعرفه رجالهم ونساؤهم، ولكن إسناد هذه القصة ضعيف ومنقطع. وأجاب أصحابنا عن احتجاج داود بحديث عائشة بأن المراد بالذكر غير القرآن، فإنه المفهوم عند الإطلاق. وأما المذاهب الباقية فقد سلموا تحريم القراءة في الجملة، ثم ادعوا تخصيصا لا مستند له. فإن قالوا: جوزنا للحائض خوف النسيان، قلنا: يحصل المقصود بتفكرها بقلبها. والله أعلم
فرع: في مذاهب العلماء في مكث الجنب في المسجد وعبوره فيه بلا مكث، مذهبنا أنه يحرم عليه المكث في المسجد جالسا أو قائما أو مترددا أو على أي حال كان، متوضئا كان أو غيره، ويجوز له العبور من غير لبث، سواء كان له حاجة أم لا، وحكى ابن المنذر مثل هذا عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير وعمرو بن دينار ومالك. وحكي عن سفيان الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه أنه لا يجوز له العبور إلا أن لا يجد بدا منه فيتوضأ ثم يمر.
وقال أحمد: يحرم المكث ويباح العبور لحاجة ولا يباح لغير حاجة. قال: ولو توضأ استباح المكث.
وجمهور العلماء على أن الوضوء لا أثر له في هذا. وقال المزني وداود وابن المنذر: يجوز للجنب المكث في المسجد مطلقا. وحكاه الشيخ أبو حامد عن زيد بن أسلم.
واحتج من أباح المكث مطلقا، بما ذكره ابن المنذر في "الإشراف"، وذكره غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم

 

ج / 2 ص -129-       قال: "المسلم لا ينجس". رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة، وبما احتج به المزني في المختصر واحتج به غيره أن المشرك يمكث في المسجد، فالمسلم الجنب أولى، وأحسن ما يوجه به هذا المذهب أن الأصل عدم التحريم، وليس لمن حرم دليل صحيح صريح.
واحتج أصحابنا بقول الله تعالى:
{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: من الآية43] قال الشافعي رحمه الله في الأم: قال بعض العلماء بالقرآن: معناها لا تقربوا مواضع الصلاة. قال الشافعي: وما أشبه ما قال بما قال: لأنه ليس في الصلاة عبور سبيل، إنما عبور السبيل في موضعها وهو المسجد، قال الخطابي وعلى ما تأولها الشافعي تأولها أبو عبيدة معمر بن المثنى. قال البيهقي في معرفة السنن والآثار: وروينا هذا التفسير عن ابن عباس قال وروينا عن جابر قال: "كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب" وعن أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت "جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب". رواه أبو داود وغيره. قال البيهقي: "ليس هو بقوي" قال: قال البخاري "عند جسرة عجائب" وقد خالفها غيرها في سد الأبواب. وقال الخطابي "ضعف هذا الحديث "وقالوا: أفلت مجهول، وقال الحافظ عبد الحق: "هذا الحديث لا يثبت". 
قلت: وخالفهم غيرهم، فقال أحمد بن حنبل "لا أرى بأفلت بأسا" وقال الدارقطني "هو كوفي صالح" وقال أحمد بن عبد الله العجلي "جسرة تابعية ثقة" وقد روى أبو داود هذا الحديث ولم يضعفه، وقد قدمنا أن مذهبه أن ما رواه ولم يضعفه ولم يجد لغيره فيه تضعيفا فهو عنده صالح، ولكن هذا الحديث ضعفه من ذكرنا، وجسرة بفتح الجيم وإسكان السين المهملة، وأفلت بالفاء. قال الخطابي: وجوه البيوت أبوابها، وقال ومعنى وجهوها عن المسجد: اصرفوا وجوهها عن المسجد.
وأجاب أصحابنا عن احتجاجهم بحديث "المسلم لا ينجس". بأنه لا يلزم من عدم نجاسته جواز لبثه في المسجد.
وأما القياس على المشرك فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الشرع فرق بينهما، فقام دليل تحريم مكث الجنب. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس بعض المشركين في المسجد، فإذا فرق الشرع لم يجز التسوية.
والثاني: أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد فلا يكلف بها، بخلاف المسلم وهذا كما أن الحربي لو أتلف على المسلم شيئا لم يلزمه ضمانه لأنه لم يلتزم الضمان بخلاف المسلم والذمي إذا أتلفا. واحتج من حرم المكث والعبور بحديث:
"لا أحل المسجد لحائض ولا جنب". وبحديث سالم بن أبي حفصة عن عطية بن سعد العوفي المفسر عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك" رواه الترمذي في جامعه في مناقب علي وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال أبو نعيم

 

ج / 2 ص -130-       ضرار بن صرد: معناه لا يحل لأحد يستطرقه جنبا غيري وغيرك. قال الترمذي: سمع البخاري مني هذا الحديث واستغربه، قالوا: ولأنه موضع لا يجوز المكث فيه، فكذا العبور، كالدار المغصوبة وقياسا على الحائض ومن في رجله نجاسة.
واحتج أصحابنا بما احتج به الشافعي وغيره وهو قول الله تعالى
: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: من الآية43] وتقدم ذكر الدلالة منها. قال أصحاب أبي حنيفة: المراد بالآية أن المسافر إذا أجنب وعدم الماء جاز له التيمم والصلاة وإن كانت الجنابة باقية، لأن هذه حقيقة الصلاة. والجواب أن هذا الذي ذكروه ليس مختصا بالمسافر بل يجوز للحاضر فلا تحمل الآية عليه، وأما ما ذكرناه فهو الظاهر، وقد جاء الحديث وأقوال الصحابة وتفسيرهم على وفقه فكان أولى.
واحتجوا بحديث جابر: "كنا نمشي في المسجد جنبا لا نرى به بأسا". رواه الدارمي بإسناد ضعيف، ولأنه مكلف أمن تلويث المسجد فجاز عبوره كالمحدث.
وأما الجواب عن حديثهم الأول فهو أنه إن صح حمل على المكث جمعا بين الأدلة. وأما الثاني فضعيف لأن مداره على سالم بن أبي حفصة وعطية وهما ضعيفان جدا شيعيان متهمان في رواية هذا الحديث، وقد أجمع العلماء على تضعيف سالم وغلوه في التشيع، ويكفي في رده بعض ما ذكرنا، لا سيما وقد استغربه البخاري إمام الفن، على أنه لو صح لم يكن معناه ما ذكره أبو نعيم لأنه خلاف ظاهره، بل معناه إباحة المكث في المسجد مع الجنابة، وقد ذكر أبو العباس بن القاص هذا في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قياسهم على الدار المغصوبة، فمنتقض بمواضع الخمور والملاهي والطرق الضيقة. وأما قياسهم على من على رجله نجاسة فإنما يمنع عبوره إذا كانت النجاسة جارية أو متعرضة للجريان، وهذا يمنع صيانة للمسجد من تلويثه، والجنب بخلافه فنظير الجنب من على رجله نجاسة يابسة فله العبور. وبهذا يجاب عن قياسهم على الحائض إن حرمنا عبورها، وإلا فالأصح جواز عبورها إذا أمنت التلويث. والله أعلم.

فصل يتعلق بقراءة الجنب والحائض والمحدث وأذكارهم ومواضع القراءة وأحوالها ونحو ذلك
وهذا الفصل من المهمات التي يتأكد لطالب الآخرة معرفتها، وقد جمعت في هذا كتابا لطيفا، وهو (التبيان في آداب حملة القرآن) وأنا أشير هنا إلى جمل من مقاصده إن شاء الله تعالى، وفيه مسائل:
إحداها: قد ذكرنا أنه يحرم على الجنب والحائض والنفساء قراءة شيء من القرآن وإن قل حتى بعض آية، ولو كان يكرر في كتاب فقه أو غيره فيه احتجاج بآية حرم عليه قراءتها. ذكره القاضي

 

ج / 2 ص -131-       حسين في الفتاوى، لأنه يقصد القرآن للاحتجاج. قال أصحابنا: ولو قال لإنسان: خذ الكتاب بقوة، ولم يقصد به القرآن جاز، وكذا ما أشبهه، ويجوز للجنب والحائض والنفساء في معناه أن تقول عند المصيبة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: من الآية156] إذا لم تقصد القرآن.
قال أصحابنا الخراسانيون: ويجوز عند ركوب الدابة أن يقول:
{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: من الآية13] لا بقصد القرآن. وممن صرح به الفوراني والبغوي والرافعي وآخرون. وأشار العراقيون إلى منعه، والمختار الصحيح الأول.
قال القاضي حسين وغيره: ويجوز أن يقول في الدعاء
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: من الآية201] قال إمام الحرمين ووالده الشيخ أبو محمد والغزالي في "البسيط": إذا قال الجنب باسم الله أو الحمد لله، فإن قصد القرآن عصى وإن قصد الذكر لم يعص وإن لم يقصد واحدا منهما لم يعص أيضا قطعا، لأن القصد مرعي في الأبواب.
المسألة الثانية: تجوز للجنب قراءة ما نسخت تلاوته ك "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما" وما أشبه، صرح به القاضي حسين والبغوي وآخرون.
الثالثة: يجوز للجنب والحائض النظر في المصحف وقراءته بالقلب دون حركة اللسان. وهذا لا خلاف فيه.
الرابعة: قال أصحابنا: إذا لم يجد الجنب ماء ولا ترابا يصلي الفريضة وحدها لحرمة الوقت ولا يقرأ زيادة على الفاتحة، وفي الفاتحة وجهان حكاهما الخراسانيون أحدهما: ورجحه القاضي حسين والرافعي: لا تجوز قراءة الفاتحة أيضا لأنه عاجز عنها شرعا فيأتي بالأذكار التي يأتي بها من لا يحسن الفاتحة.
والثاني: وهو الصحيح وبه قطع الشيخ أبو حامد وسائر العراقيين والروياني في "الحلية" وآخرون من الخراسانيين: أنه تجب قراءة الفاتحة، لأنه قادر وقراءته كركوعه وسجوده، وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى مبسوطة في باب التيمم.
الخامسة: غير الجنب والحائض لو كان فمه نجسا كره له قراءة القرآن. قال الروياني: وفي تحريمه وجهان خرجهما والدي أحدهما: يحرم كمس المصحف بيده النجسة والثاني: لا يحرم كقراءة المحدث، كذا أطلق الوجهين، والصحيح أنه لا يحرم، وهو مقتضى كلام الجمهور وإطلاقهم أن غير الجنب والحائض والنفساء لا يحرم عليه القراءة.
السادسة: أجمع المسلمون على جواز قراءة القرآن للمحدث الحدث الأصغر والأفضل أن يتوضأ لها. قال إمام الحرمين وغيره: ولا يقال قراءة المحدث مكروهة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يقرأ مع الحدث". والمستحاضة في الزمن المحكوم بأنه طهر كالمحدث.
السابعة: لا يكره للمحدث قراءة القرآن في الحمام، نقله صاحبا "العدة" والبيان وغيرهما من

 

ج / 2 ص -132-       أصحابنا، وبه قال محمد بن الحسن ونقله ابن المنذر عن إبراهيم النخعي ومالك. ونقل عن أبي وائل شقيق بن سلمة التابعي الجليل والشعبي ومكحول، والحسن وقبيصة بن ذؤيب كراهته، وحكاه أصحابنا عن أبي حنيفة، ورويناه في مسند الدارمي عن إبراهيم النخعي، فيكون عنه خلاف. دليلنا أنه لم يرد الشرع بكراهته فلم يكره كسائر المواضع.
الثامنة: لا تكره القراءة في الطريق مارا إذا لم يلته 1 ، وروي نحو هذا عن أبي الدرداء وعمر بن عبد العزيز. وعن مالك كراهتها. قال الشعبي: تكره القراءة في الحش 2  وبيت الرحا وهي تدور، وهذا الذي ذكره مقتضى مذهبنا.
التاسعة: إذا كان يقرأ فعرضت له ريح أمسك عن القراءة حال خروجها.
العاشرة: أجمع المسلمون على جواز التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأذكار وما سوى القرآن للجنب والحائض، ودلائله مع الإجماع في الأحاديث الصحيحة مشهورة.
الحادية عشرة: قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وسائر الأذكار إلا في المواضع التي ورد الشرع بهذه الأذكار فيها، وستأتي دلائله إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف في أذكار الطواف. 
الثانية عشرة: يستحب أن ينظف فمه قبل الشروع في القراءة بسواك ونحوه ويستقبل القبلة ويجلس متخشعا بسكينة ووقار، ولو قرأ قائما أو مضطجعا أو ماشيا أو على فراشه جاز، ودلائله في الكتاب والسنة مشهورة، وإذا أراد القراءة تعوذ وجهر به. والتعوذ سنة ليس بواجب ويحافظ على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أوائل السور غير براءة، فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر والخضوع فهو المطلوب والمقصود، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب. قال الله تعالى:
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}  [صّ: من الآية29] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد: من الآية24] والأحاديث فيه كثيرة، وقد بات جماعة من السلف يردد أحدهم الآية جميع ليلته أو معظمها، وصعق جماعات من السلف عند القراءة، ومات جماعات منهم بسبب القراءة، وقد ذكرت في التبيان جملة من أخبار هؤلاء رضي الله عنهم.
ويسن تحسين الصوت بالقرآن للأحاديث الصحيحة المشهورة فيه. وقد أوضحتها في التبيان وسأبسطها إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب حيث ذكر المصنف المسألة في كتاب الشهادات. قالوا: فإن لم يكن حسن الصوت حسنه ما استطاع، ولا يخرج بتحسينه عن حد القراءة إلى التمطيط المخرج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  يفتعل من اللهو "ط".
2  الحش البستان والفتح أكثر من الضم و الجمع حشان بضم الحاء وكسرها وهنا مستعمل مجازا, لأن العرب كانوا يقضون الحاجة في البساتين فلما اتخذوا الكنف وجعلوها خلفا عنها أطلقوا عليها ذلك الاسم, وفي "مختصر العين" المحش الدبر والمحش المخرج "ط".

 

ج / 2 ص -133-       له عن حدوده، ويستحب البكاء عند القراءة، وهي صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين، قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الاسراء:109] والأحاديث والآثار فيه كثيرة. وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه "أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: حسبك قال: فرأيت عينيه تذرفان"، وطريقه في تحصيل البكاء أن يتأمل ما يقرؤه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود، ثم يفكر في تقصيره فيها، فإن لم يحضره عند ذلك حزن وبكاء، فليبك على فقد ذلك، فإنه من المصائب.
ويسن ترتيل القراءة. قال الله تعالى:
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: من الآية4] وثبت في الأحاديث الصحيحة أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مرتلة، واتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع ويسمى الهذ. قالوا: وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراءة جزأين -في قدر ذلك الزمن- بلا ترتيل. قال العلماء: والترتيل مستحب للتدبر، ولأنه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشد تأثيرا في القلب، ولهذا يستحب الترتيل للأعجمي الذي لا يفهم معناه، ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ من العذاب أو من الشر ونحو ذلك، وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزه، فقال: تبارك الله أو جلت عظمة ربنا ونحو ذلك. وهذا مستحب لكل قارئ، سواء في الصلاة وخارجها، وسواء الإمام والمأموم والمنفرد. وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنبسط ذلك بدلائله إن شاء الله تعالى، حيث ذكره المصنف في آخر باب سجود التلاوة.
ولا تجوز القراءة بالأعجمية سواء أحسن العربية أم لا، وسواء كان في الصلاة أم خارجها، وتجوز بالقراءات السبع ولا تجوز بالشواذ، وسنوضح ذلك بدلائله في صفة الصلاة حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى، والأولى أن يقرأ على ترتيب المصحف، سواء قرأ في الصلاة أم خارجها، وإذا قرأ سورة قرأ بعدها التي تليها، لأن ترتيب المصحف لحكمة فلا يتركها إلا فيما ورد الشرع فيه بالتفريق كصلاة الصبح يوم الجمعة ب (الم) و (هل أتى) وصلاة العيد ب (ق) (واقتربت) ونظائر ذلك، فلو فرق أو عكس جاز وترك الأفضل. وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها؛ فمتفق على منعه وذمه؛ لأنه يذهب بعض أنواع الإعجاز ويزيل حكمة الترتيب، وأما تعليم الصبيان من آخر الختمة إلى أولها فلا بأس به لأنه يقع في أيام
فرع: القراءة في المصحف أفضل من القراءة عن ظهر القلب، لأنها تجمع القراءة والنظر في المصحف وهو عبادة أخرى، كذا قاله القاضي حسين وغيره من أصحابنا. ونص عليه جماعات من السلف ولم أر فيه خلافا، ولعلهم أرادوا بذلك في حق من يستوي خشوعه وحضور قلبه في الحالين، فأما من يزيد خشوعه وحضور قلبه وتدبره في القراءة عن ظهر القلب فهي أفضل في حقه.
فرع: لا كراهة في قراءة الجماعة مجتمعين بل هي مستحبة، وكذا الإدارة وهي أن يقرأ بعضهم جزءا أو سورة مثلا ويسكت بعضهم، ثم يقرأ الساكتون ويسكت القارئون، وقد ذكرت دلائله في التبيان، وللقارئين مجتمعين آداب كثيرة منها ما سبق في آداب القارئ وحده. ومنها أشياء يتساهل

 

ج / 2 ص -134-       فيها في العادة، فمن ذلك أنهم مأمورون باجتناب الضحك واللغط والحديث في حال القراءة إلا كلاما يسيرا للضرورة، وباجتناب العبث باليد وغيرها، والنظر إلى ما يلهي أو يبدد الذهن. وأقبح من ذلك النظر إلى من يحرم النظر إليه كالأمرد وغيره، سواء كان بشهوة أم بغيرها ويجب على الحاضر في ذلك المجلس أن ينكر ما يراه من هذه المنكرات وغيرها، فينكر بيده ثم لسانه على حسب الإمكان، فإن لم يستطع فليكرهه بقلبه. فرع: جاءت في الصحيح أحاديث تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة وأحاديث تقتضي أن الإسرار والإخفاء أفضل. قال العلماء: وطريق الجمع بينها أن الإخفاء أبعد من الرياء، فهو أفضل في حق من يخاف الرياء، وكذا من يتأذى المصلون وغيرهم بجهره فالإخفاء أفضل في حقه، فإن لم يخف الرياء ولم يتأذ أحد بجهره فالجهر أفضل؛ لأن العمل فيه أكثر؛ ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط، وقد أوضحت جملة من الأحاديث والآثار الواردة من ذلك في التبيان.
فرع: يسن تحسين الصوت بالقراءة، للأحاديث الصحيحة المشهورة فيه، وسنبسطه إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف في كتاب الشهادات 1 ويسن طلب القراءة من حسن الصوت والإصغاء إليها؛ وهذا متفق على استحبابه، وهو عادة الأخيار والمتعبدين وعباد الله الصالحين. وفي "الصحيحين"
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود، اقرأ علي القرآن فإني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عليه من سورة النساء حتى بلغ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] والآثار فيه كثيرة مشهورة، وقد مات جماعة من الصالحين بقراءة من سألوه القراءة، واستحب العلماء افتتاح مجلس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة قارئ حسن الصوت ما تيسر من القرآن
فرع: ينبغي للقارئ أن يبتدئ من أول السورة أو من أول الكلام المرتبط ويقف على آخرها، أو آخر الكلام المرتبط بعضه ببعض، ولا يتقيد بالأجزاء والأعشار. فإنها قد تكون في وسط كلام مرتبط كالجزء في قوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ} [النساء: من الآية24]، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: من الآية53]، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75]، {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: من الآية31]، {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} [يّـس: من الآية28]، {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت: من الآية47]، {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} [الحجر: من الآية57] فكل هذا وشبهه لا يبتدأ به، ولا يوقف عليه، ولا يغتر بكثرة الفاعلين له، ولهذا قال العلماء: قراءة سورة قصيرة بكمالها أفضل من قدرها من طويلة لأنه قد يخفى الارتباط
فرع: تكره القراءة في أحوال، منها حال الركوع والسجود والتشهد وغيرها من أحوال الصلاة سوى القيام. وتكره في حال القعود على الخلاء، وفي حال النعاس وحال الخطبة لمن يسمعها. ويكره للمأموم قراءة ما زاد على الفاتحة في صلاة جهرية إذا سمع قراءة الإمام ولا يكره في الطواف، وتقدم بيان القراءة في الحمام والطريق وقراءة من فمه نجس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  شاء الله أن نتولى بسطه على منهجه الذي سنه وذلك في الجزء التاسع عشر "ط".

 

ج / 2 ص -135-       فرع: إذا مر القارئ على قوم سلم عليهم وعاد إلى القراءة، فإن أعاد التعوذ كان حسنا، ويستحب لمن مر على القارئ أن يسلم عليه، ويلزم القارئ رد السلام باللفظ. وقال الواحدي 1  من أصحابنا: لا يسلم المار؛ فإن سلم رد عليه القارئ بالإشارة، وهذا ضعيف، ولو عطس القارئ في الصلاة أو خارجها فليحمد الله تعالى، ولو عطس غيره شمته القارئ، ولو سمع المؤذن أو المقيم قطع القراءة وتابعه، وقد ذكر المصنف المسألة في باب الأذان، ولو طلبت منه حاجة وأمكنه الجواب بإشارة مفهمة وعلم أنه لا يشق ذلك على الطالب أجابه إشارة
فرع: إذا قرأ:
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]؛ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] استحب أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. وإذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: سبحان ربي الأعلى، وإذا قرأ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الاسراء: من الآية111] قال: الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا. وقد بسطت ذلك في التبيان وسأذكره في صفة الصلاة من هذا الكتاب مبسوطا إن شاء الله تعالى.
فرع: جاء عن إبراهيم النخعي أنه إذا قرأ:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة} [المائدة: من الآية64]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: من الآية30] ونحوهما خفض صوته قليلا.
وقال غيره: إذا قرأ
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: من الآية56] الآية، استحب أن يقول: صلى الله عليه وسلم تسليما
فرع: في الأوقات المختارة للقراءة أفضلها ما كان في الصلاة، ومذهبنا أن تطويل القيام في الصلاة أفضل من تطويل السجود وغيره، وسنبسط المسألة بأدلتها ومذاهب العلماء فيها في صفة الصلاة إن شاء الله تعالى. وقد ذكرها المصنف في باب صلاة الخوف. وأفضل الأوقات الليل ونصفه الآخر أفضل، والقراءة بين المغرب والعشاء محبوبة، وأفضل النهار بعد الصبح، ولا كراهة في شيء من الأوقات. ونقل عن بعض السلف كراهة القراءة بعد العصر، وليس بشيء ولا أصل له، ويختار من الأيام يوم عرفة، ثم يوم الجمعة، ثم الاثنين والخميس، ومن الأعشار العشر الأواخر من شهر رمضان، والأول من ذي الحجة، ومن الشهور رمضان.
فرع: (في آداب ختم القرآن) يستحب كونه في أول الليل أو أول النهار وإن قرأ وحده فالختم في الصلاة أفضل واستحب السلف صيام يوم الختم وحضور مجلسه. وقالوا: يستجاب الدعاء عند الختم وتنزل الرحمة، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا أراد الختم جمع أهله وختم ودعا، واستحبوا الدعاء بعد الختم استحبابا متأكدا وجاء فيه آثار كثيرة، ويلح في الدعاء ويدعو بالمهمات ويكثر من ذلك في صلاح المسلمين وصلاح ولاة أمورهم؛ ويختار الدعوات الجامعة، وقد جمعت في التبيان منها جملة، واستحبوا إذا ختم أن يشرع في ختمة أخرى
فرع: (في آداب حامل القرآن) ليكن على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل، ويرفع نفسه عن كل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري توفي في جمادى الآخرة 468هـ وكتابه في التفسير وكتابه في أسباب نزول القرآن. "ط".

 

ج / 2 ص -136-       ما نهى القرآن عنه، ويتصون عن دنيء الاكتساب، وليكن شريف النفس عفيفا، متواضعا للصالحين وضعفة المسلمين، متخشعا ذا سكينة ووقار. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون. وقال الحسن البصري رحمه الله: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار، وقال الفضيل رحمه الله: حامل القرآن حامل راية الإسلام، ينبغي أن لا يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، تعظيما لحق القرآن، وليحذر أن يتخذ القرآن معيشة يكتسب بها.
ولا بأس بالاستئجار لقراءة القرآن عندنا، وسنبسط المسألة 1 بأدلتها إن شاء الله تعالى في كتاب الإجارة. وليحافظ على تلاوته، ويكثر منها بحسب حاله، وقد بسطت الكلام في بيان هذا، وعادات السلف فيه في التبيان، ويكون اعتناؤه بتلاوته في الليل أكثر، لأنه أجمع للقلب، وأبعد من الشاغلات، والملهيات، والتصرف في الحاجات، وأصون في تطرق الرياء، وغيره من المحبطات، مع ما جاء في الشرع من بيان ما فيه الخيرات، كالإسراء، وحديث النزول، وحديث: "في الليل ساعة يستجاب فيها الدعاء وذلك كل ليلة". وسنبسط الكلام، والأحاديث في هذه المسألة حيث ذكرها المصنف في باب صلاة التطوع، إن شاء الله تعالى، وليحذر كل الحذر من نسيانه، أو نسيان شيء منه، أو تعريضه للنسيان، ففي "الصحيحين" عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها". وفي سنن أبي داود، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل، ثم نسيها". وفيه، عن سعد بن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله عز وجل يوم القيامة أجذم". والله أعلم.
فرع: في آداب الناس كلهم مع القرآن، قال الله تعالى:
{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: من الآية32] وفي صحيح مسلم عن تميم الداري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقد أوضحت شرحه في أول شرح صحيح مسلم، وبينت الدلائل في أن مدار الإسلام عليه، وأقوال العلماء في شرحه.
ومختصر ما يحتاج إليه هنا أن العلماء قالوا: نصيحة كتاب الله تعالى هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ولا يقدر الخلق على مثل سورة منه، وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها وتدبرها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  وكما عرفت فإن الله تعالى شاء أن نبسطها نحن في كتاب الإجارة ملتزمين منهجه وذلك في الجزء الرابع عشر.

 

ج / 2 ص -137-       وتعرض الملحدين، والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ومجمله ومبينه وغير ذلك من أقسامه، ونشر علومه والدعاء إليه وإلى جميع ما ذكرنا من نصيحته.
وأجمعت الأمة على وجوب تعظيم القرآن على الإطلاق وتنزيهه وصيانته. وأجمعوا على أن من جحد منه حرفا مجمعا عليه، أو زاد حرفا لم يقرأ به أحد وهو عالم بذلك فهو كافر. وأجمعوا على أن من استخف بالقرآن أو بشيء منه أو بالمصحف أو ألقاه في قاذورة أو كذب بشيء مما جاء به من حكم أو خبر، أو نفى ما أثبته أو أثبت ما نفاه أو شك في شيء من ذلك وهو عالم به كفر. 
ويحرم تفسيره بغير علم، والكلام في معانيه لمن ليس من أهله. وهذا مجمع عليه وأما تفسير العلماء فحسن بالإجماع ويحرم المراء فيه والجدال بغير حق، ويكره أن يقول نسيت آية كذا. بل يقول: أنسيتها أو أسقطتها. ويجوز أن يقول: سورة البقرة وسورة النساء وسورة العنكبوت وغيرها، ولا كراهة في شيء من هذا، والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة، وكره بعض السلف هذا وقال: إنما يقال السورة التي يذكر فيها البقرة ونحوها، والصواب أنه لا كراهة فقد تظاهرت فيه الأحاديث الصحيحة وأقاويل الصحابة فمن بعدهم، ولا يكره أن يقال: قراءة أبي عمرو وابن كثير وغيرهما وكرهه بعض السلف، والصواب أن لا كراهة وعليه عمل السلف والخلف، ولا يكره أن يقول: الله تعالى يقول، وكرهه مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي. وقال: إنما يقال قال الله تعالى بصيغة الماضي، والصواب الأول، قال الله تعالى:
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب: من الآية4] والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة مشهورة وقد جمعت منها جملة في أول شرح صحيح مسلم وفي أواخر كتاب الأذكار ,ولا يكره النفث مع القراءة للرقية، وهو نفخ لطيف بلا ريق، وكرهه أبو جحيفة الصحابي والحسن البصري والنخعي رضي الله عنهم والصحيح أنه لا كراهة، فقد ثبت في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وقد أوضحت ذلك في التبيان ولو كتب القرآن في إناء ثم غسله وسقاه المريض، فقال الحسن البصري ومجاهد وأبو قلابة والأوزاعي: لا بأس به، وكرهه النخعي، ومقتضى مذهبنا أنه لا بأس به، فقد قدمنا في مسائل مس المصحف أنه لو كتب القرآن على حلوى أو غيرها من الطعام فلا بأس بأكله.
فرع: في الآيات والسور المستحبة في أوقات وأحوال مخصوصة.
هذا الباب غير منحصر لكثرة ما جاء فيه، ومعظمه يأتي إن شاء الله تعالى في هذا "الشرح" في مواطنه كالسور المستحبة في الصلوات الخاصة، كالجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة، و (قاف) و (اقتربت) في العيد و (سبح) و (هل أتاك) في الجمعة والعيد فكلاهما سنة في صحيح مسلم وغيره، و (الم تنزيل) و (هل أتى) في صبح الجمعة وغير ذلك مما سنوضحه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
ويحافظ على (يس) و (الواقعة) و (تبارك: الملك) و (قل هو الله أحد) و (المعوذتين) و (آية

 

ج / 2 ص -138-       الكرسي) كل وقت، و (الكهف) يوم الجمعة وليلتها، ويقرأ (آية الكرسي) كل ليلة إذا أوى إلى فراشه، ويقرأ كل ليلة الآيتين من آخر البقرة {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: من الآية285] إلى آخرها، والمعوذتين عقيب كل صلاة، ويقرأ إذا استيقظ من النوم ونظر في السماء آخر آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: من الآية190]   إلى آخرها.
ويقرأ عند المريض الفاتحة وقل هو الله أحد والمعوذتين مع النفخ في اليدين ويمسحه بهما. ثبت ذلك في "الصحيحين" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما ذكرته في هذا الفصل فيه أحاديث صحاح مشهورة. ويقرأ عند الميت (يس) لحديث فيه في سنن أبي داود وغيره.
واعلم أن آداب القراءة والقارئ وما يتعلق بهما لا تنحصر فنقتصر على هذه الأحرف منها لئلا نخرج عن حد "الشرح" الذي نحن فيه، وبالله التوفيق.
فرع: قال إمام الحرمين، روي
"أن رجلا سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب صلى الله عليه وسلم يده على حائط وتيمم ثم أجاب". وقيل: كان التيمم في الإقامة وموضع الماء، ولكن أتى به النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما للسلام وإن لم يفد التيمم إباحة محظور، قال: فلو تيمم المحدث وقرأ عن ظهر القلب كان جائزا على مقتضى الحديث، هذا كلام إمام الحرمين. وذكر الغزالي مثله ولا نعرف أحدا وافقهما. وهذا الحديث في "الصحيحين" من رواية أبي الجهيم بن الحارث إلا أنه ليس فيه أنه في المدينة. بل في "الصحيحين" أنه أقبل من نحو بئر جمل فتيمم، وهذا ظاهر في أنه كان خارج المدينة وعادما للماء، وسنعيد الحديث والكلام عليه في باب التيمم إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.

فصل في المساجد وأحكامها وما يتعلق بها وما يندب فيها وما تنزه منه ونحو ذلك، وفيه مسائل:
إحداها: قد سبق أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد ولا يحرم العبور من غير مكث ولا كراهة في العبور، سواء كان لحاجة أم لغيرها، لكن الأولى أن لا يعبر إلا لحاجة ليخرج من خلاف أبي حنيفة وغيره. هذا مقتضى كلام الأصحاب تصريحا وإشارة. وقال المتولي والرافعي: إن عبر لغير غرض كره وإن كان لغرض فلا. وحكى الرافعي وجها أنه لا يجوز العبور إلا لمن لم يجد طريقا غيره، وقطع الجرجاني في التحرير بأنه لا يجوز العبور إلا لحاجة، وهذان شاذان، والصواب جوازه لحاجة ولغيرها ولمن وجد طريقا ولغيره، وبه قطع الأصحاب.
الثانية: لو احتلم في المسجد وجب عليه الخروج منه إلا أن يعجز عن الخروج لإغلاق المسجد ونحوه، أو خاف على نفسه أو ماله، فإن عجز أو خاف جاز أن يقيم للضرورة. قال المتولي والبغوي والرافعي وآخرون: فإن وجد ترابا غير تراب المسجد تيمم ولا يتيمم بتراب المسجد، كما لو لم يجد إلا ترابا مملوكا فإنه لا يتيمم به، فإن خالف وتيمم به صح، ولو أجنب وهو خارج المسجد والماء في المسجد لم يجز أن يدخل ويغتسل في المسجد لأنه يلبث لحظة مع الجنابة. قال البغوي: فإن كان معه إناء تيمم ثم دخل وأخرج فيه الماء للغسل، وإن لم يكن إناء صلى بالتيمم ثم يعيد وهذا الذي قال فيه نظر وينبغي أن يجوز الغسل فيه إذا لم يجد غيره ولم يجد إناء ولا يكفي التيمم حينئذ

 

ج / 2 ص -139-       لأنا جوزنا المرور في المسجد الطويل لغير حاجة، فكيف يمتنع مكث لحظة لطيفة لضرورة لا مندوحة عنها. وإذا دخل للاستقاء لا يجوز أن يقف إلا قدر حاجة الاستقاء.
فرع: لو احتلم في مسجد له بابان أحدهما أقرب فالأولى أن يخرج من الأقرب، فإن خرج من الأبعد لغرض بأن كانت داره في تلك الجهة ونحو ذلك لم يكره، وإلا ففي الكراهة وجهان حكاهما المتولي بناء على المسافر إذا كان له طريقان يقصر أحدهما دون الآخر، فسلك الأبعد لغير غرض، هل يقصر؟ فيه قولان.
المسألة الثالثة: يجوز للمحدث الجلوس في المسجد بإجماع المسلمين. وسواء قعد لغرض شرعي كانتظار صلاة أو اعتكاف أو سماع قرآن أو علم آخر أو وعظ أم لغير غرض، ولا كراهة في ذلك. وقال المتولي: إن كان لغير غرض كره. ولا أعلم أحدا وافقه على الكراهة ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم كرهوا ذلك أو منعوا منه، والأصل عدم الكراهة حتى يثبت نهي.
الرابعة: يجوز النوم في المسجد ولا كراهة فيه عندنا، نص عليه الشافعي رحمه الله في "الأم" واتفق عليه الأصحاب، قال ابن المنذر في "الإشراف": رخص في النوم في المسجد ابن المسيب وعطاء والحسن والشافعي. وقال ابن عباس: لا تتخذوه مرقدا: وروي عنه: إن كنت تنام للصلاة فلا بأس. وقال الأوزاعي: يكره النوم في المسجد. وقال مالك: لا بأس بذلك للغرباء ولا أرى ذلك للحاضر. وقال أحمد وإسحاق: إن كان مسافرا أو شبهه فلا بأس، وإن اتخذه مقيلا ومبيتا فلا، قال البيهقي في السنن الكبير: روينا عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ما يدل على كراهيتهم النوم في المسجد. قال: فكأنهم استحبوا لمن وجد مسكنا أن لا يقصد النوم في المسجد. واحتج الشافعي ثم أصحابنا لعدم الكراهة بما ثبت في "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنت أنام في المسجد وأنا شاب عزب" وثبت أن أصحاب الصفة كانوا ينامون في المسجد وأن العرنيين كانوا ينامون في المسجد. وثبت في الصحيحين: "أن عليا رضي الله عنه نام فيه" "وأن صفوان بن أمية نام فيه" وأن المرأة صاحبة الوشاح كانت تنام فيه" وجماعات آخرين من الصحابة. وأن ثمامة بن أثال كان يبيت فيه قبل إسلامه؛ وكل هذا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي في الأم: وإذا بات المشرك في المسجد فكذا المسلم، واحتج بنوم ابن عمر وأصحاب الصفة. وروى البيهقي عن ابن المسيب عن النوم في المسجد فقال: أين كان أصحاب الصفة ينامون؟ يعني لا كراهة، فإنهم كانوا ينامون فيه.
قال الشافعي في المختصر: ولا بأس أن يبيت المشرك في كل مسجد إلا المسجد الحرام، قال أصحابنا: لا يمكن كافر من دخول حرم مكة، وأما غيره فيجوز أن يدخل كل مسجد ويبيت به بإذن المسلمين ويمنع منه بغير إذن، ولو كان الكافر جنبا فهل يمكن من اللبث في المسجد؟ فيه وجهان مشهوران أصحهما: يمكن، وستأتي المسألة مبسوطة حيث ذكرها المصنف في كتاب الجزية إن شاء الله تعالى.

 

ج / 2 ص -140-       الخامسة: يجوز الوضوء في المسجد إذا لم يؤذ بمائه، وممن صرح بجواز الوضوء في المسجد ويسقط الماء على ترابه صاحبا "الشامل" و"التتمة"، فقالا في باب الاعتكاف: يجوز الوضوء في المسجد. والأولى أن يكون في إناء. وكذا صرح به غيرهما. قال البغوي في باب الاعتكاف: ويجوز نضح المسجد بالماء المطلق ولا يجوز بالمستعمل لأن النفس تعافه، وهذا الذي قاله ضعيف، والمختار الجواز بالمستعمل أيضا، وسنوضحه في باب الاعتكاف إن شاء الله تعالى.
قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم الوضوء في المسجد إلا أن يبله ويتأذى به الناس فإنه يكره، هذا كلام ابن المنذر. ونقل أبو الحسن بن بطال المالكي الترخيص في الوضوء في المسجد عن ابن عمر وابن عباس وطاوس وعطاء والنخعي وابن القاسم المالكي وأكثر أهل العلم. وعن ابن سيرين ومالك وسحنون كراهته تنزيها للمسجد.
السادسة: لا بأس بالأكل والشرب في المسجد، ووضع المائدة فيه، وغسل اليد فيه، وسيأتي بسط هذه المسائل بدلائلها، وفروعها إن شاء الله تعالى، حيث ذكرها المصنف في كتاب الاعتكاف.
السابعة: يكره لمن أكل ثوما، أو بصلا، أو كراثا، أو غيرها مما له رائحة كريهة، وبقيت رائحته، أن يدخل المسجد من غير ضرورة، للأحاديث الصحيحة في ذلك، منها حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا". رواه البخاري، ومسلم، وفي رواية مسلم: "مساجدنا" وعن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلين معنا". رواه البخاري ومسلم، وعن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل ثوما، أو بصلا فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا". رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم". وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "أنه خطب يوم جمعة، فقال في خطبته: ثم إنكم -أيها الناس- تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخا". رواه مسلم
فرع: لا يحرم إخراج الريح من الدبر في المسجد لكن الأولى اجتنابه لقوله صلى الله عليه وسلم:
"فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم". والله أعلم.
الثامنة: ثبت في "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها". وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى بفروعها حيث ذكرها المصنف في آخر باب ما يفسد الصلاة.
التاسعة: يحرم البول والفصد والحجامة في المسجد في غير إناء، ويكره الفصد والحجامة فيه في إناء ولا يحرم. وفي تحريم البول في إناء المسجد وجهان: أصحهما: يحرم، وقد سبقت المسألة في باب الاستطابة. قال صاحب "التتمة" وغيره: ويحرم إدخال النجاسة إلى المسجد. فأما

 

ج / 2 ص -141-       من على بدنه نجاسة أو به جرح فإن خاف تلويث المسجد حرم عليه دخوله، وإن أمن لم يحرم، قال المتولي: هو كالمحدث ودليل هذه المسائل حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن". أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
العاشرة: قال الصيمري وصاحب البيان: يكره غرس الشجر في المسجد، ويكره حفر البئر فيه قالوا: لأنه بناء في مال غيره وللإمام قلع ما غرس فيه.
الحادية عشرة: تكره الخصومة في المسجد ورفع الصوت فيه ونشد الضالة وكذا البيع والشراء والإجارة ونحوه من العقود هذا هو الصحيح المشهور. وللشافعي قول ضعيف أنه لا يكره البيع والشراء. وسأذكر المسألة مبسوطة في آخر كتاب الاعتكاف حيث ذكرها المصنف والشافعي والأصحاب إن شاء الله تعالى. ودليل هذه المسائل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا". رواه مسلم. وفي رواية الترمذي: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا لا رد الله عليك ضالتك". قال الترمذي: حديث حسن. وعن بريدة رضي الله عنه "أن رجلا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له". رواه مسلم وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد فيه شعر". رواه أبو داود والترمذي والنسائي، قال الترمذي: حديث حسن. وعن السائب بن يزيد قال: "كنت في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما فقال: من أين أنتما؟ فقالا من أهل الطائف فقال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري والله أعلم.
فرع: لا بأس بأن يعطي السائل في المسجد شيئا لحديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه". رواه أبو داود بإسناد جيد.
الثانية عشرة: قال المتولي وغيره: يكره إدخال البهائم والمجانين والصبيان الذين لا يميزون المسجد لأنه لا يؤمن تلويثهم إياه. ولا يحرم ذلك لأنه ثبت في "الصحيحين" "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى حاملا أمامة بنت زينب رضي الله عنهما وطاف على بعيره" ولا ينفي هذا الكراهة لأنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز فيكون حينئذ أفضل في حقه فإن البيان واجب وقد سبق نظير هذا في الوضوء مرة مرة.

 

ج / 2 ص -142-       الثالثة عشرة: يكره أن يجعل المسجد مقعدا لحرفة كالخياطة ونحوها لحديث أنس السابق في المسألة التاسعة، فأما من ينسخ فيه شيئا من العلم أو اتفق قعوده فيه فخاط ثوبا ولم يجعله مقعدا للخياطة فلا بأس به.
الرابعة عشرة: يجوز الاستلقاء في المسجد على القفا ووضع إحدى الرجلين على الأخرى وتشبيك الأصابع ونحو ذلك. ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك كله.
الخامسة عشرة: يستحب عقد حلق العلم في المساجد وذكر المواعظ والرقائق ونحوها والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة مشهورة
فرع: يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات وإن حصل فيه ضحك ونحوه ما دام مباحا لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، قال: وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم". رواه مسلم.
السادسة عشرة: لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان مدحا للنبوة أو الإسلام أو كان حكمة أو في مكارم الأخلاق أو الزهد ونحو ذلك من أنواع الخير، فأما ما فيه شيء مذموم كهجو مسلم أو صفة الخمر أو ذكر النساء أو المرد أو مدح ظالم أو افتخار منهي عنه. أو غير ذلك فحرام لحديث أنس السابق في المسألة التاسعة. فمما يحتج به للنوع الأول حديث سعيد بن المسيب قال: "مر عمر بن الخطاب في المسجد وحسان ينشد الشعر فلحظ إليه فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
: أجب عني اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم". رواه البخاري ومسلم، ومما يحتج به للنوع الثاني حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد". حديث حسن رواه النسائي بإسناد حسن.
السابعة عشرة: يسن كنس المسجد وتنظيفه وإزالة ما يرى فيه من نخامة أو بصاق أو نحو ذلك، ثبت في "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بصاقا في المسجد فحكه بيده"، وفي الصحيح أحاديث كثيرة في هذا وهو مجمع عليه.
الثامنة عشرة: من البدع المنكرة ما يفعل في كثير من البلدان من إيقاد القناديل الكثيرة العظيمة السرف في ليال معروفة من السنة كليلة نصف شعبان، فيحصل بسبب ذلك مفاسد كثيرة منها مضاهاة المجوس في الاعتناء بالنار والإكثار منها، ومنها إضاعة المال في غير وجهه، ومنها ما يترتب على ذلك في كثير من المساجد من اجتماع الصبيان وأهل البطالة ولعبهم، ورفع أصواتهم، وامتهانهم المساجد وانتهاك حرمتها وحصول أوساخ فيها وغير ذلك من المفاسد التي يجب صيانة المسجد من أفرادها.
التاسعة عشرة: السنة لمن دخل المسجد ومعه سلاح أن يمسك على حده كنصل السهم وسنان

 

ج / 2 ص -143-       الرمح ونحوه لحديث جابر رضي الله عنه "أن رجلا مر بسهام في المسجد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك بنصالها" رواه البخاري ومسلم. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء" رواه البخاري ومسلم.
العشرون: السنة للقادم من سفر أن يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين". رواه البخاري ومسلم.
الحادية والعشرون: ينبغي للجالس في المسجد لانتظار صلاة أو اشتغال بعلم أو لشغل آخر أو لغير ذلك من طاعة ومباح أن ينوي الاعتكاف فإنه يصح عندنا، وإن قل زمانه.
الثانية والعشرون: قال الصيمري وغيره من أصحابنا: لا بأس بإغلاق المسجد في غير وقت الصلاة لصيانته أو لحفظ آلاته هكذا قالوه وهذا إذا خيف امتهانها، وضياع ما فيها، ولم يدع إلى فتحها حاجة، فأما إذا لم يخف من فتحها مفسدة ولا انتهاك حرمتها، وكان في فتحها رفق بالناس فالسنة فتحها. كما لم يغلق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنه ولا بعده.
الثالثة والعشرون: يكره لداخل المسجد أن يجلس فيه حتى يصلي ركعتين، وستأتي المسألة بفروعها في باب صلاة التطوع إن شاء الله تعالى.
الرابعة والعشرون: ينبغي للقاضي أن لا يتخذ المسجد مجلسا للقضاء، فإن جلس فيه لصلاة أو غيرها فاتفقت حكومة، فلا بأس بالقضاء فيها فيه؛ وستأتي المسألة مبسوطة في كتاب الأقضية إن شاء الله تعالى 1.
الخامسة والعشرون: يكره أن يتخذ على القبر مسجد للأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك، وأما حفر القبر في المسجد، فحرام شديد التحريم، وستأتي المسألة بفروعها الكثيرة إن شاء الله تعالى حيث ذكرها المصنف في آخر الجنائز.
السادسة والعشرون: حائط المسجد من داخله وخارجه له حكم المسجد في وجوب صيانته وتعظيم حرماته، وكذا سطحه، والبئر التي فيه، وكذا رحبته، وقد نص الشافعي والأصحاب رحمهم الله على صحة الاعتكاف في رحبته وسطحه وصحة صلاة المأموم فيهما مقتديا بمن في المسجد.
السابعة والعشرون: السنة لمن أراد دخول المسجد أن يتفقد نعليه ويمسح ما فيهما من أذى قبل دخوله، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا جاء أحدكم إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الجزء التاسع عشر وهو من شرحنا "ط".

 

ج / 2 ص -144-       المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما". حديث حسن رواه أبو داود بإسناد صحيح.
الثامنة والعشرون: يكره الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي إلا لعذر لحديث أبي الشعثاء قال: "كنا قعودا مع أبي هريرة رضي الله عنه في المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" رواه مسلم،.
التاسعة والعشرون: يستحب أن يقول عند دخوله المسجد: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، باسم الله والحمد لله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج من المسجد قال مثله إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك، ويقدم برجله اليمنى في الدخول، واليسرى في الخروج، فأما تقديم اليمنى واليسرى فتقدم دليله في صفة الوضوء في فضل غسل اليدين. وأما هذه الأذكار فقد جاءت بها أحاديث متفرقة. جمعتها في كتاب الأذكار بعضها في صحيح مسلم، ومعظمها في سنن أبي داود والنسائي، وقد أوضحتها في الأذكار، فإن طال عليه هذا كله فليقتصر على ما في مسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليقل
: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".
الثلاثون: لا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحجر وحصاة وتراب وغيره. وقد سبق في هذه المسألة تحريم التيمم بتراب المسجد ومثله الزيت والشمع الذي يسرج فيه، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة. قال بعض الرواة: أراه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد".
الحادية والثلاثون: يسن بناء المساجد وعمارتها وتعهدها وإصلاح ما تشعث منها لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
: "من بنى لله تعالى مسجدا بنى الله له مثله في الجنة". رواه البخاري ومسلم، ويجوز بناء المسجد في موضع كان كنيسة وبيعة أو مقبرة درست إذا أصلح ترابها، فقد ثبت في "الصحيحين" عن أنس: "أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيه قبور المشركين فنبشت". وجاء في الكنيسة والبيعة أحاديث منها حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد أهل الطائف حيث كانت طواغيتهم". رواه أبو داود بإسناد جيد.
فرع: يكره زخرفة المسجد ونقشه وتزيينه للأحاديث المشهورة، ولئلا تشغل قلب المصلي، وفي سنن البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"ابنوا المساجد واتخذوها جما". وعن ابن عمر "نهانا أو نهينا أن يصلى في مسجد مشرف". قال أبو عبيد: الجم التي لا شرف لها.
الثانية والثلاثون: في فضل المساجد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

ج / 2 ص -145-       قال: "أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها, وأبغض البلاد إلى الله أسواقها". والأحاديث في فضلها كثيرة ولا بأس أن يقال مسجد فلان ومسجد بني فلان على سبيل التعريف.
الثالثة والثلاثون: المصلى المتخذ للعيد وغيره، الذي ليس بمسجد لا يحرم المكث فيه على الجنب والحائض على المذهب. وبه قطع الجمهور، وذكر الدارمي فيه وجهين وأجراهما في منع الكافر من دخوله بغير إذن ذكره في باب صلاة العيد وقد يحتج له بحديث أم عطية في "الصحيحين"
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحيض أن يحضرن يوم العيد ويعتزلن المصلى" ويجاب عنه: بأنهن أمرن باعتزاله ليتسع على غيرهن وليتميزن والله أعلم.