المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

قال المصنف رحمه الله تعالى:

"باب في صفة الغسل
إذا أراد الرجل أن يغتسل من الجنابة فإنه يسمي الله تعالى وينوي الغسل من الجنابة أو الغسل لاستباحة أمر لا يستباح إلا بالغسل، كقراءة القرآن والجلوس في المسجد، ويغسل كفيه ثلاثا قبل أن يدخلهما في الإناء، ثم يغسل ما على فرجه من الأذى ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يدخل أصابعه العشر في الماء فيغرف غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات ثم يفيض الماء على سائر جسده ويمر يديه على ما قدر عليه من بدنه، ثم يتحول من مكانه ثم يغسل قدميه، لأن عائشة وميمونة رضي الله عنهما وصفتا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك.
والواجب من ذلك ثلاثة أشياء: النية، وإزالة النجاسة -إن كانت- وإفاضة الماء على البشرة الظاهرة وما عليها من الشعر حتى يصل الماء إلى ما تحته، وما زاد على ذلك سنة لما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "تذاكرنا الغسل من الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
أما أنا فيكفيني أن أصب على رأسي ثلاثا ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي".
الشرح: حديثا عائشة وميمونة صحيحان رواهما البخاري ومسلم في صحيحيهما مفرقين، وفيهما مخالفة يسيرة في الألفاظ، وحديث جبير بن مطعم رواه أحمد بن حنبل في مسنده بإسناده الصحيح كما ذكره المصنف، ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما مختصرا، ولفظه فيهما: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث مرات" فعلى هذا لا دلالة فيه لمسألة الكتاب، وعلى رواية أحمد وجه الدلالة ظاهر، وقد جاء في "الصحيحين" في حديثي عائشة وميمونة الاقتصار على إفاضة الماء، وقوله: يحثي ثلاث حثيات صحيح، يقال: حثيت أحثي حثيا وحثيات وحثوت أحثو حثوا وحثوات 1 لغتان فصحيحتان، وسائر جسده أي باقيه وجبير بن مطعم بضم الميم وكسر العين وهذا لا خلاف فيه، وإنما نبهت على كسر العين مع أنه ظاهر لأني رأيت بعض من جمع في ألفاظ الفقه قال يقال: بفتح العين وهذا غلط لا شك فيه ولا خلاف وكنية جبير أبو محمد، أسلم سنة سبع وقيل ثمان، وكان من سادات قريش وحلمائهم، توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين رضي الله عنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  حثى التراب كالثرى إذا حثى. "ط".

 

ج / 2 ص -146-       أما أحكام الفصل: فإذا أراد الرجل الغسل من الجنابة سمى الله تعالى، وصفة التسمية كما تقدم في الوضوء: بسم الله، فإذا زاد الرحمن الرحيم جاز ولا يقصد بها القرآن، وهذا الذي ذكرناه من استحباب التسمية هو المذهب الصحيح؛ وبه قطع الجمهور وفيه وجه حكاه القاضي حسين والمتولي وغيرهما أنه لا يستحب التسمية للجنب، وهذا ضعيف لأن التسمية ذكر ولا يكون قرآنا إلا بالقصد كما سبق في الباب الماضي ولم يذكر الشافعي في المختصر و"الأم" و"البويطي" التسمية، وكذا لم يذكرها المصنف في "التنبيه" والغزالي في كتبه، فيحتمل أنهم استغنوا بقولهم: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، لأن وضوء الصلاة يسمى في أوله.
وينوي الغسل من الجنابة أو الغسل لاستباحة ما لا يستباح إلا بالغسل كالصلاة والقراءة والمكث في المسجد، فإن نوى لما يباح بلا غسل فإن كان مما لا يندب له الغسل، كلبس ثوب ونحوه لم يصح غسله عن الجنابة، وإن كان مما يستحب له الغسل كالمرور في المسجد والوقوف بعرفة ونحوه ففيه الوجهان في نظيره في الوضوء، أصحهما: لا يجزئه، وقد تقدم في باب نية الوضوء بيان صفة النية ومحلها وهو القلب، ووقتها وهو أن واجبه عند أول إفاضة الماء على جزء من بدنه ويستحب استدامتها إلى الفراغ ويستحب أن يبتدئ بالنية مع التسمية. فإن لم ينو إلا عند إفاضة الماء أجزأه ولا يثاب على ما قبلها من التسمية وغيرها على المذهب. وقال الماوردي: في ثوابه وجهان، وقد سبق مثله في الوضوء. ولو نوت المغتسلة من انقطاع الحيض استباحة وطء الزوج ففي صحة غسلها ثلاثة أوجه سبقت في باب نية الوضوء. وأما صفة الغسل فهي كما ذكرها المصنف باتفاق الأصحاب، ودليلها الحديث، إلا أن أصحابنا الخراسانيين نقلوا للشافعي قولين في هذا الوضوء:
أحدهما: أنه يكمله كله بغسل الرجلين، وهذا هو الأصح وبه قطع العراقيون.
والثاني: أنه يؤخر غسل الرجلين، ونقله بعضهم عن نصه في "البويطي"، وكذا رأيته أنا في "البويطي" صريحا، وهذان القولان إنما هما في الأفضل، وإلا فكيف فعل حصل الوضوء. وقد ثبت الأمران في الصحيح من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي روايات عائشة
"أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء عليه". وظاهر هذا أنه أكمل الوضوء بغسل الرجلين. وفي أكثر روايات ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم "توضأ ثم أفاض الماء عليه، ثم تنحى، فغسل رجليه". وفي رواية لها للبخاري: "توضأ وضوءه للصلاة غير قدميه ثم أفاض عليه الماء ثم نحى قدميه فغسلهما".
وهذه الرواية صريحة في تأخير القدمين، فعلى القول الضعيف تتأول روايات عائشة وأكثر روايات ميمونة، على أن المراد بوضوء الصلاة أكثره، وهو ما سوى الرجلين كما بينته ميمونة، فهذه الرواية صريحة والباقي محتمل للتأويل فيجمع بينهما بما ذكرناه، وعلى القول الصحيح المشهور يجمع بينهما بأن الغالب من أحواله، والعادة المعروفة له صلى الله عليه وسلم إكمال الوضوء، وبين الجواز في بعض الأوقات بتأخير القدمين كما توضأ ثلاثا ثلاثا في معظم الأوقات وبين الجواز بمرة مرة في بعضها. وعلى هذا إنما غسل القدمين بعد الفراغ للتنظيف.

 

ج / 2 ص -147-       قال أصحابنا: وسواء قدم الوضوء كله أو بعضه، أو أخره أو فعله في أثناء الغسل فهو محصل سنة الغسل، ولكن الأفضل تقديمه، ولم يذكر الجمهور ماذا ينوي بهذا الوضوء قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: لم أجد في مختصر ولا مبسوط تعرضا لكيفية نية هذا الوضوء إلا لمحمد بن عقيل الشهرزوري فقال: يتوضأ بنية الغسل، قال: إن كان جنبا من غير حدث أصغر فهو كما قال، وإن كان جنبا محدثا كما هو الغالب فينبغي أن ينوي بوضوئه هذا رفع الحدث الأصغر، لأنا إن أوجبنا الجمع بين الوضوء والغسل فظاهر لأنه لا يشرع وضوءان، فيكون هذا هو الواجب، وإن قلنا بالتداخل كان فيه خروج من الخلاف. 
وقال الرافعي رحمه الله في مسألة من أحدث وأجنب: وإن قلنا يجب الوضوء وجب إفراده بالنية لأنه عبادة مستقلة. وإن قلنا لا يجب لم يحتج إلى إفراده بالنية، وذكر صاحب "البيان" هذا الذي ذكره الرافعي احتمالا ولا خلاف أنه لا يشرع وضوءان، سواء كان جنبا محدثا أم جنبا فقط وسيأتي إيضاحه بدليله في مسألة من أحدث وأجنب إن شاء الله تعالى.
وأما قول المصنف: يغسل ما على فرجه من الأذى، فكذا قاله الشافعي والأصحاب ومرادهم ما على القبل والدبر من نجاسة، كأثر الاستنجاء وغيره وما على القبل من مني ورطوبة فرج وغير ذلك، فالقذر يتناول الطاهر والنجس. ونقل الرافعي عن ابن كج وغيره وجهين في أن المراد بالأذى النجاسة أم المستقذر كالمني؟  والصحيح إرادتهما جميعا.
وأما قول المصنف: الواجب منه ثلاثة أشياء أحدها إزالة النجاسة، فكذا قاله شيخه القاضي أبو الطيب والماوردي في "الإقناع" والمحاملي في المقنع وابن الصباغ والجرجاني في التحرير والشاشي والشيخ نصر وآخرون، ولم يعد الأكثرون إزالة النجاسة من واجبات الغسل، وأنكر الرافعي وغيره جعلها من واجب الغسل. قالوا: لأن الوضوء والغسل سواء، ولم يعد أحد إزالة النجاسة من أركان الوضوء، لكن يقال إزالة النجاسة شرط لصحة الوضوء والغسل، وشرط الشيء لا يعد منه كالطهارة وستر العورة لا يعدان من أركان الصلاة.
قلت: وكلام المصنف وموافقيه صحيح، ومرادهم لا يصح الغسل، وتباح الصلاة به إلا بهذه الثلاثة، وهكذا يقال في الوضوء. وأما النية وإفاضة الماء على جميع البدن شعره وبشره فواجبان بلا خلاف، وسواء كان الشعر الذي على البشرة خفيفا أو كثيفا يجب إيصال الماء إلى جميعه وجميع البشرة تحته بلا خلاف، بخلاف الكثير في الوضوء، لأن الوضوء متكرر فيشق غسل بشرة الكثيف، ولهذا وجب غسل جميع البدن في الجنابة دون الحدث الأصغر، ودليل وجوب إيصال الماء إلى الشعر والبشرة جميعا ما سبق من حديث جبير بن مطعم وغيره في صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بيان للطهارة المأمور بها في قوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: من الآية6].
وأما حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
"تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة" فرواه أبو داود، ولكنه ضعيف ضعفه الشافعي ويحيى بن معين والبخاري وأبو داود وغيرهم. ويروى عن

 

ج / 2 ص -148-       الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ويروى موقوفا على أبي هريرة، وكذا المروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النار". قال علي: "فمن ثم عاديت رأسي، وكان يجز شعره"، فهو ضعيف أيضا والله أعلم.
وأما قوله: "وما زاد على ذلك سنة" صحيح، وقد ترك من السنن أشياء. منها استصحاب النية إلى آخر الغسل، والابتداء بالأيامن، فيغسل شقه الأيمن ثم الأيسر. وهذا متفق على استحبابه، وكذا الابتداء بأعلى البدن، وأن يقول بعد فراغه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صرح به المحاملي في "اللباب" والجرجاني والروياني في "الحلية" وآخرون، واستقبال القبلة وتكرار الغسل ثلاثا ثلاثا، وتقدم في الوضوء مستحبات كثيرة أكثرها يدخل هنا، كترك الاستعانة والتنشيف وغير ذلك. وأما موالاة الغسل فالمذهب أنها سنة؛ وقد تقدم بيانها في باب صفة الوضوء. وأما تجديد الغسل ففيه وجهان الصحيح: لا يستحب. والثاني: يستحب، وسبق بيانه واضحا في الزوائد في آخر صفة الوضوء.
فرع: المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه يستحب إفاضة الماء على جميع البدن ثلاث مرات، وممن صرح به المحاملي في المقنع واللباب، وسليم الرازي في الكفاية، والقاضي حسين والفوراني وإمام الحرمين والمصنف في "التنبيه" والغزالي في "البسيط" و"الوسيط" والوجيز والمتولي والشيخ نصر في كتبه الانتخاب، والتهذيب، والكافي والروياني في الحلية، والشاشي في "العمدة"، والرافعي في كتابيه، وآخرون يطول ذكرهم، وقد سبق في باب صفة الوضوء في مسألة تكرار مسح الرأس أن الشيخ أبا حامد نقل أن مذهب الشافعي أن تكرار الغسل مسنون.
وقال إمام الحرمين: فحوى كلام الأصحاب استحباب إيصال الماء إلى كل موضع ثلاثا، فإنا إذا رأينا ذلك في الوضوء ومبناه على التخفيف فالغسل أولى. وكذا قال الغزالي في "البسيط" والمتولي وآخرون: إذا استحب التكرار في الوضوء فالغسل أولى.
قال المتولي والرافعي وآخرون: فإن كان ينغمس في نهر انغمس ثلاث مرات، وشذ الماوردي عن الأصحاب فقال في باب المياه: لا يستحب تكرار الغسل ثلاثا، وهذا الذي انفرد به ضعيف متروك، وإنما بسطت هذا الكلام لأني رأيت جماعة من أهل زماننا ينكرون على صاحبي "التنبيه" و"الوسيط" استحبابهما التكرار في الغسل، ويعدونه شذوذا منهما، وهذا من الغباوة الظاهرة، ومكابرة الحس، والنقول المتظاهرة.
فرع: مذهبنا أن دلك الأعضاء في الغسل وفي الوضوء سنة ليس بواجب فلو أفاض الماء عليه فوصل به ولم يمسه بيديه أو انغمس في ماء كثير أو وقف تحت ميزاب أو تحت المطر ناويا فوصل شعره وبشره أجزأه وضوءه وغسله، وبه قال العلماء كافة إلا مالكا والمزني فإنهما شرطاه في صحة الغسل والوضوء. واحتج لهما بأن الغسل هو إمرار اليد، ولا يقال لواقف في المطر اغتسل. قال

 

ج / 2 ص -149-       المزني: ولأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذا هنا.
واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه:
"فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك". ولم يأمره بزيادة، وهو حديث صحيح سبق ذكره وسنوضحه في موضعه في التيمم إن شاء الله تعالى، وله نظائر كثيرة من الحديث، ولأنه غسل فلا يجب إمرار اليد فيه كغسل الإناء من ولوغ الكلب.
وقولهم: "لا تسمى الإفاضة غسلا" ممنوع، وقول المزني ممنوع أيضا، فإن المذهب الصحيح أن إمرار اليد لا يشترط في التيمم، كما سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى
فرع: الوضوء سنة في الغسل وليس بشرط ولا واجب، هذا مذهبنا، وبه قال العلماء كافة إلا ما حكي عن أبي ثور وداود أنهما شرطاه، كذا حكاه أصحابنا عنهما. ونقل ابن جرير الإجماع على أنه لا يجب، ودليله أن الله تعالى أمر بالغسل ولم يذكر وضوءا. وقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة:
"يكفيك أن تفيضي عليك الماء". وحديث جبير بن مطعم السابق في الكتاب. وقوله صلى الله عليه وسلم للذي تأخر عن الصلاة معه في السفر في قضية المزادتين، واعتذر بأنه جنب فأعطاه إناء وقال: "اذهب فأفرغه عليك" وحديث أبي ذر: "فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك". وكل هذه الأحاديث صحيحة معروفة، وغير ذلك من الأحاديث. وأما وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في غسله فمحمول على الاستحباب جمعا بين الأدلة، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كانت امرأة تغتسل من الجنابة كان غسلها كغسل الرجل".
الشرح: هذا الذي قاله متفق عليه. قال أصحابنا: فإن كانت بكرا لم يلزمها إيصال الماء إلى داخل فرجها، وإن كانت ثيبا وجب إيصاله إلى ما يظهر في حال قعودها لقضاء الحاجة لأنه صار في حكم الظاهر، هكذا نص عليه الشافعي وجمهور الأصحاب، وحكى القاضي حسين والبغوي وجها ضعيفا أنه يجب على الثيب إيصاله إلى داخل فرجها بناء على نجاسته، ووجها أنه يجب في غسل الحيض والنفاس لإزالة النجاسة ولا يجب في الجنابة، وقطع إمام الحرمين بأنه لا يجب على الثيب إيصاله إلى ما وراء ملتقى الشفرين. قال: لأنا إذا لم نوجب إيصال الماء إلى داخل الفم فهذا أولى. والصواب ما سبق عن الشافعي والأصحاب، وقد تقدمت المسألة في باب الاستطابة، وهناك ذكرها الأكثرون، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن كان لها ضفائر فإن كان يصل الماء إليها من غير نقض لم يلزمها نقضها، لأن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنفضه للغسل من الجنابة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك الماء، فإذا أنت قد طهرت". وإن لم يصل الماء إليها إلا بنقضها لزمها نقضها، لأن إيصال الماء إلى الشعر والبشرة واجب".
الشرح: حديث أم سلمة رواه مسلم بهذا اللفظ، وتقدم بيان اسمها وحالها في الباب السابق

 

ج / 2 ص -150-       وقولها: "أشد ضفر رأسي" هو بفتح الضاد وإسكان الفاء، هكذا ضبطه الأئمة المحققون، قال الخطابي وصاحب "المطالع" معناه أشد فتل شعري، وأدخل بعضه في بعض وأضمه ضما شديدا، يقال ضفرته إذا فعلت به ذلك وذكر الإمام ابن بري - في جزء له في لحن الفقهاء - أن هذا الضبط لحن وأن صوابه ضفر بضم الضاد والفاء جمع ضفيرة كسفينة وسفن، وهذا الذي قاله خلاف ما قاله المحققون والمتقدمون ورأيت لابن بري في هذا الجزء أشياء كثيرة يعدها من لحن الفقهاء وتصحيفهم وليست كما قال، وقد أوضحت كثيرا من ذلك في "تهذيب الأسماء واللغات" . قال الأزهري: الضفائر والضمائر والغدائر بالغين المعجمة هي الذوائب، إذا أدخل بعضها في بعض نسجا، واحدتها ضفيرة وضميرة وغديرة، فإذا لويت فهي عقائص واحدتها عقيصة. أما حكم المسألة: فهذا الذي ذكره المصنف من الفرق بين وصول الماء بغير نقض وعدم وصوله متفق عليه عندنا، وبه قال جمهور العلماء وحملوا حديث أم سلمة على أنه كان يصل بغير نقض، ودليله ما ذكره المصنف أن الواجب إيصال الماء فكان الاعتبار به، وكذا المغتسلة من حيض ونفاس وللجمعة وغيرها من الأغسال المشروعة، وحكى أصحابنا عن النخعي وجوب نقضها مطلقا، وحكى ابن المنذر عن الحسن وطاوس أنه لا تنقضها في الجنابة وتنقض في الحيض، وبه قال أحمد لكن اختلف أصحابه هل النقض واجب؟ أم مستحب؟ دليلنا ما سبق.
قال الشافعي: وأستحب أن تغلغل الماء في أصول الشعر وأن تغمر ضفائرها.
قال أصحابنا: ولو كان لرجل شعر مضفور فهو كالمرأة في هذا والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كانت تغتسل من الحيض فالمستحب لها أن تأخذ فرصة من المسك فتتبع بها أثر الدم، لما روت عائشة رضي الله عنها أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن الغسل من الحيض فقال:
"خذي فرصة من مسك فتطهري بها فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: سبحان الله تطهري بها قالت عائشة رضي الله عنها: قلت تتبعي بها أثر الدم". فإن لم تجد مسكا فطيبا غيره، لأن القصد تطيب الموضع فإن لم تجد فالماء كاف".
الشرح: حديث عائشة هذا رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم، أن المرأة السائلة أسماء بنت شكل بفتح الشين والكاف، وقيل: بإسكان الكاف وذكر جماعة منهم الخطيب الحافظ أبو بكر البغدادي في كتابه المبهمات أنها أسماء بنت يزيد بن السكن خطيبة النساء، والفرصة بكسر الفاء وإسكان الراء وبالصاد المهملة وهي القطعة، والمسك بكسر الميم وهو الطيب المعروف، وقيل: بفتح الميم وهي الجلد أي قطعة من جلد، والصواب الأول، ويوضحه أنه ثبت في رواية في "الصحيحين" فرصة ممسكة - بفتح السين المشددة - أي قطعة صوف أو قطن أو نحوهما مطيبة بالمسك، وهذا التطيب متفق على استحبابه. قال البغوي وآخرون: تأخذ مسكا في خرقة أو صوفة أو قطنة ونحوها وتدخلها فرجها. والنفساء كالحائض في هذا. نص عليه الشافعي والأصحاب.

 

ج / 2 ص -151-       قال المحاملي في المقنع: يستحب للمغتسلة من حيض أو نفاس أن تطيب بالمسك أو غيره المواضع التي أصابها الدم من بدنها وتعميمه البدن غريب 1 قال أصحابنا: فإن لم تجد مسكا فطيبا غيره فإن لم تجد شيئا من الطيب استحب طين أو نحوه لقطع الرائحة الكريهة وممن ذكر الطين بعد فقد الطيب البندنيجي وابن الصباغ والمتولي والروياني في "الحلية" والرافعي، ثم الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور من أصحابنا وغيرهم من العلماء أن المقصود بالمسك تطيب المحل ودفع الرائحة الكريهة، وحكى صاحب "الحاوي" فيه -وجهين- أحدهما: تطييب المحل ليكمل استمتاع الزوج بإثارة الشهوة وكمال اللذة والثاني: لكونه أسرع إلى علوق الولد، قال: فإن فقدت المسك وقلنا بالأول أتت بما يقوم مقامه في دفع الرائحة، وإن قلنا بالثاني فيما يسرع إلى العلوق كالقسط والأظفار ونحوهما، قال: واختلف الأصحاب في وقت استعماله فمن قال بالأول قال بعد الغسل ومن قال بالثاني فقبله هذا كلام صاحب "الحاوي" وهذا الوجه الثاني ليس بشيء، وما تفرع عليه أيضا ليس بشيء، وهو خلاف الصواب وما عليه الجمهور، والصواب أن المقصود به تطييب المحل، وأنها تستعمله بعد الغسل لحديث عائشة أن أسماء بنت شكل سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض: "فقال تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه ثم تصب عليها الماء ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها". رواه مسلم بهذا اللفظ وقد اتفقوا على استحبابه للمزوجة وغيرها والبكر والثيب والله أعلم.
وأما قول المصنف: "فإن لم تجد فالماء كاف" فكذا عبارة إمام الحرمين وجماعة، وقد يقال الماء كاف وجدت الطيب أم لا، وعبارة الشافعي في "الأم" والمختصر أحسن من هذه قال: "فإن لم تفعل فالماء كاف" وكذا قاله البندنيجي وغيره وعبارة المصنف وموافقيه أيضا صحيحة ومرادهم أن هذه سنة متأكدة يكره تركها بلا عذر، فإذا عدمت الطيب فهي معذورة في تركها ولا كراهة في حقها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  وقال النووي في "شرح صحيح مسلم": "وذكر المحاملي من أصحابنا في كتابه"المقنع" أنه يستحب للمغتسلة من الحيض والنفاس أن تطيب جميع المواضع التي أصابها الدم من بدنها, وهذا الذي ذكره من تعميم مواضع الدم من البدن غريب لا أعرفه لغيره بعد البحث عنه اهـ".
ثم قال النووي بعد ذلك في شرح حديث "تتبعي بها آثار الدم": قال جمهور العلماء: يعني الفرج وقد قدمنا عن المحاملي أنه قال: تطيب كل موضع أصابه الدم من بدنها وفي ظاهر الحديث حجة له اهـ. قلت: وهذا تأييد للنص من السنة ويطرح قول ابن السبكي في "الطبقات" في ترجمة المحاملي قوله "إلا أن للمحاملي أن يقول: هو ظاهر اللفظ في قولها "الدم" وتقييده بالفرج لا بد له عليه من دليل, والمعنى يساعد المحاملي, لأن المقصود دفع الرائحة الكريهة, وهي لا تختص. ثم قال: هذا أقصى ما يتحيل به في مساعدة المحاملي والحق عند الإنصاف مع الأصحاب اهـ.
قلت: وهذه كما ترى غفلة من ابن السبكي لعدم استظهاره من السنة ما استظهره النووي, بل إنه لم يطلع على قول النووي نسه في رده على نفسه وإقراره بأن الحجة من الحديث للمحاملي بقوله: "وفي ظاهر الحديث حجة له" ولم يذكر النووي هناك في "شرح مسلم" بل أصر على حكمه على المحاملي وهكذا فعل ابن السبكي والحق مع المحاملي وليس مع الأصحاب والله أعلم. (ط).

 

ج / 2 ص -152-       ولا عتب، وهذا كما قال الأصحاب: يعذر المريض وشبهه في ترك الجماعة وإن قلنا: هي سنة لأنها سنة متأكدة يكره تركها كما سنوضحه في بابه إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويستحب أن لا ينقص في الغسل من صاع ولا في الوضوء من مد لأن النبي صلى الله عليه وسلم:
"كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد". فإن أسبغ بما دونه أجزأه لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بما لا يبل الثرى". قال الشافعي رحمه الله: "وقد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير فلا يكفي".
الشرح: الثرى مقصور وهو ما تحت وجه الأرض من التراب الندي، والصاع أربعة أمداد بلا خلاف والصحيح أن الصاع هنا خمسة أرطال وثلث بالبغدادي كما هو في زكاة الفطر خمسة وثلث بالاتفاق، وذكر الماوردي والقاضي حسين والروياني فيه وجهين: أحدهما: هذا والثاني: أنه ثمانية أرطال بالبغدادي، والمشهور الأول. وقد سبق بيان رطل بغدادي في مسألة القلتين وقوله: أسبغ أي عمم الأعضاء ومنه ثوب سابغ أي كامل.
أما حكم المسألة: فأجمعت الأمة على أن ماء الوضوء والغسل لا يشترط فيه قدر معين، بل إذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان، وممن نقل الإجماع فيه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وقد سبق في باب صفة الوضوء أن شرط غسل العضو جريان الماء عليه قال الشافعي والأصحاب: ويستحب أن لا ينقص في الغسل من صاع ولا في الوضوء من مد. قال الرافعي: والصاع والمد تقريب لا تحديد، وفي صحيح مسلم عن سفينة رضي الله عنه
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد". وفي مسلم أيضا عن أنس "بالصاع إلى خمسة أمداد" وفي البخاري اغتساله صلى الله عليه وسلم بالصاع من رواية جابر وعائشة، ويدل على جواز النقصان عن صاع ومد مع الإجماع حديث عائشة: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد وقريب من ذلك". رواه مسلم.
ويدل على أن ماء الطهارة غير مقدر بقدر للوجوب. حديث عائشة
"كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة". رواه البخاري ومسلم وعن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد". وعن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد". رواهما البخاري وفي صحيح مسلم نحوه عن أم سلمة وميمونة، وفي سنن أبي داود والنسائي بإسناد حسن عن أم عمارة الأنصارية "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بإناء فيه قدر ثلثي مد". وأما الحديث الذي ذكره المصنف: "توضأ بما لا يبل الثرى" فلا أعلم له أصلا والله أعلم. فرع: اتفق أصحابنا وغيرهم على ذم الإسراف في الماء في الوضوء والغسل، وقال البخاري في صحيحه: كره أهل العلم الإسراف فيه. والمشهور أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال البغوي والمتولي: حرام ومما يدل على ذمه حديث عبد الله بن مغفل بالغين المعجمة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء" رواه أبو داود بإسناد صحيح

 

ج / 2 ص -153-       قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويجوز أن يتوضأ الرجل والمرأة من إناء واحد، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد". ويجوز أن يتوضأ أحدهما بفضل وضوء الآخر، لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت: "أجنبت فاغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منه فقلت إني قد اغتسلت منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الماء ليس عليه جنابة واغتسل منه".
الشرح: حديث ابن عمر رواه البخاري قال:
"كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا". وحديث ميمونة صحيح أيضا رواه الدارقطني بلفظه هنا، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بمعناه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسموا ميمونة. قال الترمذي حديث حسن صحيح والجفنة -بفتح الجيم- وهي القصعة بفتح القاف، وقوله: ففضلت -هو بفتح الضاد وكسرها -لغتان مشهورتان- أي بقيت، واتفق العلماء على جواز وضوء الرجل والمرأة واغتسالهما جميعا من إناء واحد لهذه الأحاديث السابقة واتفقوا على جواز وضوء الرجل والمرأة بفضل الرجل.
وأما فضل المرأة فيجوز عندنا الوضوء به أيضا للرجل سواء خلت به أم لا، قال البغوي وغيره: ولا كراهة فيه للأحاديث الصحيحة فيه، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وجمهور العلماء، وقال أحمد وداود: لا يجوز إذا خلت به، وروي هذا عن عبد الله بن سرجس والحسن البصري، وروي عن أحمد كمذهبنا، وعن ابن المسيب والحسن كراهة فضلها مطلقا. واحتج لهم بحديث الحكم بن عمرو رضي الله عنه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة". رواه أبو داود والترمذي والنسائي وروي مثله عن عبد الله بن سرجس، قال الترمذي: حديث الحكم حسن.
واحتج أصحابنا بحديث ميمونة المذكور في الكتاب، وهو صحيح صريح في الدلالة على الطائفتين، وقد سبق في الفصل الماضي أحاديث كثيرة صحيحة يستدل بها للمسألة، وإذا ثبت اغتسالهما معا، فكل واحد مستعمل فضل الآخر، ولا تأثير للخلوة. وأما حديث الحكم بن عمرو، فأجاب أصحابنا عنه بأجوبة أحدها: جواب البيهقي وغيره أنه ضعيف، قال البيهقي، قال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال ليس هو بصحيح، قال البخاري: وحديث ابن سرجس الصحيح أنه موقوف عليه ومن رفعه فقد أخطأ، وكذا قال الدارقطني: وقفه أولى بالصواب من رفعه وروي حديث الحكم أيضا موقوفا عليه، قال البيهقي في كتاب المعرفة: الأحاديث السابقة في الرخصة أصح فالمصير إليها أولى.
الجواب الثاني جواب الخطابي وأصحابنا أن النهي عن فضل أعضائها وهو ما سال عنها، ويؤيد هذا أن رواية داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم
"أنه نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة". رواه أبو داود والنسائي والبيهقي بإسناد صحيح وداود وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في رواية، وضعفه يحيى في رواية، قال البيهقي: هذا الحديث رواته ثقات إلا أن حميدا لم يسم الصحابي فهو

 

ج / 2 ص -154-       كالمرسل إلا أنه مرسل جيد، لولا مخالفته للأحاديث الثابتة الموصولة، وداود لم يحتج به البخاري ومسلم. قلت: جهالة عين الصحابي لا تضر لأنهم كلهم عدول، وليس هو مخالفا للأحاديث الصحيحة، بل يحمل على أن المراد ما سقط من أعضائها، ويؤيده أنا لا نعلم أحدا من العلماء منعها فضل الرجل، فينبغي تأويله على ما ذكرته، إلا أن في رواية صحيحة لأبي داود والبيهقي: "وليغترفا جميعا "وهذه الرواية تضعف هذا التأويل، ويمكن تتميمه مع صحتها ويحملنا على ذلك أن الحديث لم يقل أحد بظاهره ومحال أن يصح وتعمل الأمة كلها بخلاف المراد منه.
الجواب الثالث: ذكره الخطابي وأصحابنا أن النهي للتنزيه جمعا بين الأحاديث والله أعلم.
فرع: قال الغزالي في "الوسيط": وفضل ماء الجنب طاهر وهو الذي مسه الجنب والحائض والمحدث خلافا لأحمد، فأنكر عليه في هذا أربعة أشياء أحدها قوله خلافا لأحمد، فمقتضاه أن أحمد يقول بنجاسته وهو عند أحمد طاهر قطعا، لكن إذا خلت به المرأة لا يجوز للرجل أن يتوضأ به على رواية عنه.
الثاني: أنه فسر فضل الجنب بفضل الجنب والحائض والمحدث.
الثالث: قوله فضل الجنب طاهر فيه نقص والأجود مطهر.
الرابع: قوله: "وهو الذي مسه" فيه نقص وصوابه وهو الذي فضل من طهارته، أما ما مسه في شربه أو أدخل يده فيه بلا نية فليس هو فضل جنب. وما أفضله من طهارته وإن لم يمسه فهو فضل جنب، فأوهم إدخال ما لا يدخل، وإخراج ما هو داخل، ويمكن أن يجاب عن الأول بأنه أراد فضل الجنب مطهر مطلقا، وخالفنا أحمد في بعض الصور، وعن الثاني بجوابين أحدهما: أن المراد بالجنب الممنوع من الصلاة ثم فسره بالثلاثة. والثاني: أنه أراد فضل الجنب وغيره فحذف قوله: "وغيره" لدلالة التفسير عليه واقتصر على الجنب اقتداء بالشافعي والمزني والأصحاب فإنهم ترجموا هذا بباب فضل الجنب ثم ذكروا فيه الجنب وغيره.
ويجاب عن الثالث: بأنه لم ينف كونه مطهرا، وقد علم أن الماء الطاهر مطهر إلا أن يتغير أو يستعمل، وهذا لم يثبت فيه تغير ولا استعمال، وعن الرابع: أن المراد مسه في الطهارة واكتفى بقرينة الحال والمراد مسه في استعماله والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن أحدث وأجنب ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجب الغسل ويدخل فيه الوضوء وهو المنصوص في "الأم" لأنهما طهارتان فتداخلتا كغسل الجنابة وغسل الحيض.
والثاني: أنه يجب عليه الوضوء والغسل لأنهما حقان مختلفان، يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر كحد الزنا والسرقة.
والثالث: أنه يجب أن يتوضأ مرتبا ويغسل سائر البدن لأنهما متفقان في الغسل,

 

ج / 2 ص -155-       ومختلفان في الترتيب، فما اتفقا فيه تداخلا، وما اختلفا فيه لم يتداخلا، [قال الشيخ الإمام رحمه الله وأحسن توفيقه 1:] وسمعت شيخنا أبا حاتم القزويني يحكي فيه وجها رابعا: أنه يقتصر على الغسل إلا أنه يحتاج أن ينويهما، ووجهه لأنهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية كالحج والعمرة". 
الشرح: للجنب ثلاثة أحوال: حال يكون جنبا لم يحدث الحدث الأصغر وحال يحدث ثم يجنب، وحال يجنب ثم يحدث.
فالحال الأول: يجنب بلا حدث فيكفيه غسل البدن ولا يلزمه الوضوء بلا خلاف عندنا -كما سبق بيانه ودليله- وله أن يصلي بذلك الغسل من غير وضوء، ويكون الوضوء سنة في الغسل كما سبق. 
قال أصحابنا: ويتصور أن يكون جنبا غير محدث في صور، أشهرها أن ينزل المتطهر المني من غير مباشرة تنقض الوضوء بنظر أو استمناء أو مباشرة فوق حائل أو في النوم قاعدا، فهذا جنب بلا خلاف وليس محدثا على المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، وأطبقوا على تصوير انفراد الجنابة عن الحدث به، وفيه وجه للقاضي أبي الطيب أنه جنب محدث، وقد سبقت المسألة في باب ما ينقض الوضوء.
الصورة الثانية: أن يلف على ذكره خرقة ويولجه في امرأة فلا وضوء عليه، ويجب الغسل على المذهب، وفيه خلاف سبق في الباب قبله.
الصورة الثالثة: أن يولج في فرج بهيمة أو دبر رجل فيكون جنبا ولا يكون محدثا لأنه لم يمس فرج آدمي بباطن كفه، وهذه الصورة ذكرها أبو الفرج الدارمي وإمام الحرمين والرافعي وغيرهم وهي أوضح من غيرها، هذه الصور الثلاث هي المشهورة قال الرافعي: وألحق بها المسعودي الجماع مطلقا، وقال: إنه يوجب الجنابة لا غير قال: واللمس الذي يتقدمه يصير مغمورا به كما أن خروج الخارج بالإنزال ينغمر، ولأنه لو جامع المحرم بالحج لزمه بدنة، وإن كان يتضمن اللمس، ومجرد اللمس يوجب شاة قال الرافعي: وعند الأكثرين يحصل بالجماع الحدثان ولا يندفع أثر اللمس بخلاف اندفاع أثر خروج الخارج لأن اللمس يسبق حقيقة الجماع، فيجب ترتيب حكمه عليه، فإذا تمت حقيقة الجماع وجب أيضا حكمها، وفي الإنزال لا يسبق خروج الخارج الإنزال، بل إذا أنزل حصل خروج الخارج وخروج المني معا، وخروج المني أعظم الحدثين، فيدفع حلوله حلول الأصغر مقترنا به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين في المتوكلية والركبية وليس في نسخة النووي ولا في بقية النسخ (ط).
أبو حاتم القزويني همام محمود بن الحسن بن محمد بن يوسف بن الحسن بن محمد بن عكرمة بن أنس بن مالك الأنصاري الطبري المتوفى سنة 440 والإمام الراوي عنه هنا هو إمام الحرمين عبد الملك الجويني أبو المعالي (ط).

 

ج / 2 ص -156-       وأما مسألة المحرم فممنوعة على وجه وإن سلمنا ففي الفدية معنى الزجر والمؤاخذة، وسبيل الجنايات اندراج المقدمات في المقاصد ولهذا لو انفردت مقدمات الزنا أوجب تعزيرا فإذا انضمت إليه لم يجب التعزير مع الحد، وأما هنا فالحكم منوط بصورة اللمس؛ ولهذا استوى عمده وسهوه والله أعلم.
الحال الثاني: أن يحدث ثم يجنب، كما هو الغالب، ففيه الأوجه الأربعة التي ذكرها المصنف، الصحيح عند الأصحاب وهو المنصوص في "الأم" أنه يكفيه إفاضة الماء على البدن ويصلي به بلا وضوء والثاني: يجب الوضوء مرتبا، وغسل جميع البدن، فتكون أعضاء الوضوء مغسولة مرتين، وعلى هذا له أن يقدم الوضوء وله أن يؤخره إلى ما بعد فراغه من الغسل وله أن يواسطه في أثناء الغسل، والأفضل تقديمه والثالث: يجب الوضوء مرتبا وغسل باقي البدن ولا يجب إعادة غسل أعضاء الوضوء وله تقديم الوضوء وتأخيره كما ذكرناهوالرابع: يكفيه غسل جميع البدن بلا وضوء بشرط أن ينوي الوضوء والغسل، فإن اقتصر على نية الغسل لزمه الوضوء أيضا، وقد ذكر المصنف أدلة الأوجه.
الحال الثالث: أن يجنب من غير حدث ثم يحدث فهل يؤثر الحدث؟ فيه وجهان أحدهما: لا يؤثر فيكون جنبا غير محدث، حكاه الدارمي عن ابن القطان، وحكاه الماوردي عن جمهور الأصحاب، فعلى هذا يجزيه الغسل بلا وضوء قطعا. والثاني: يؤثر فيكون جنبا محدثا وتجري فيه الأوجه الأربعة، وبه قطع القاضي أبو الطيب والمحاملي وابن الصباغ والشيخ نصر في كتابيه "الانتخاب" والتهذيب والبغوي وآخرون، وفيه وجه ثالث حكاه القاضي حسين أنه لا يدخل هنا الوضوء في الغسل قطعا؛ بل لا بد منهما، وفرق بينه وبين ما إذا تقدم الحدث فإن فيه الأوجه الأربعة بأن هناك وردت الجنابة على أضعف منها فرفعته، وهنا عكسه فأشبه الحج والعمرة يدخل الأقوى على الأضعف ولا ينعكس على المذهب، وهذا الوجه غلط وخيال عجيب الأصح أنه كتقدم الحدث فتجيء فيه الأوجه الأربعة، وحيث أوجبنا الوضوء فقد ذكرنا أنه يجوز تقديمه وتأخيره، والأفضل تقديمه وإذا قدمه فهل يقدم غسل الرجلين معه؟ أم يؤخرهما؟ فيه الخلاف السابق في أول الباب، وكذا الكلام في نية هذا الوضوء تقدم في أول الباب. وعلى الأوجه كلها لا يشرع وضوءان في جميع الأحوال بلا خلاف. وقد نقل الرافعي وآخرون الاتفاق على أنه لا يشرع وضوءان، ولعله مجمع عليه ويحتج له بحديث عائشة
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة". رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 
وأما قول المصنف لأنهما حقا مختلفان فاحتراز من غسل الحيض والجنابة. وقوله "يجبان بسببين "احتراز من الحج والعمرة. وقوله "مختلفين" احتراز ممن زنى وهو بكر فلم يحد حتى زنى وهو محصن، فإنه يقتصر على رجمه على أحد القولين، وكذا المحرم إذا لبس ثم لبس في مجالس قبل أن يكفر عن الأول فإنه تجب كفارة واحدة في أحد القولين.
وقوله في تعليل الوجه الرابع: عبادتان احتراز عن حقين لآدمي، وقوله متجانسان احتراز من

 

ج / 2 ص -157-       كفارة ظهار وكفارة يمين وقوله صغرى وكبرى احتراز ممن دخل في الجمعة فخرج الوقت في أثنائها، فإنه يتم ظهرا على المذهب ولا يلزمه تجديد نية الظهر، ويحتمل أنه احتراز عن الصبح والظهر، فإن إحداهما لا تدخل في الأخرى، لا في الأفعال ولا في النية. وقد يفرق بين مسألة الغسل ومسألة الحج والعمرة بأن الحج يشمل كل أفعال العمرة فدخلت فيه، والغسل لا يشمل ترتيب الوضوء. والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن توضأ من الحدث ثم ذكر أنه كان جنبا أو اغتسل من الحدث ثم ذكر أنه كان جنبا أجزأه ما غسل من الحدث عن الجنابة، لأن فرض الغسل في أعضاء الوضوء من الجنابة والحدث واحد".
الشرح: هنا مسألتان إحداهما: توضأ بنية الحدث ثم ذكر أنه كان جنبا فيجزيه المغسول، وهو وجهه ويداه ورجلاه ودليله ما ذكره المصنف.
الثاني: غسل جميع بدنه بنية رفع الحدث الأصغر غالطا، فقطع المصنف بارتفاع الحدث عن أعضاء الوضوء دون غيرها، وظاهر كلامه ارتفاعه عن جميع أعضاء الوضوء والرأس وغيره، وكذا أطلقه جماعة بارتفاعه عن الرأس، وآخرون بأنه لا يرتفع عنه وهذا هو الأصح لأن فرض الرأس في الوضوء المسح، فالذي نواه إنما هو المسح فلا يجزيه عن غسل الجنابة. ولنا وجه أنه لا يجزئه ما غسله بنية الحدث عن شيء من الجنابة، حكاه الرافعي، وقد سبقت المسألة واضحة في باب نية الوضوء والله أعلم.

فرع في مسائل تتعلق بالباب
إحداها: قال الشافعي رحمه الله في "البويطي": أكره للجنب أن يغتسل في البئر معينة كانت أو دائمة، وفي الماء الراكد الذي لا يجري. قال وسواء قليل الماء وكثيره أكره الاغتسال فيه والبول فيه. هذا نصه بحروفه. واتفق أصحابنا على كراهته كما ذكر. قال في البيان: والوضوء فيه كالغسل ويحتج للمسألة بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم" وهو جنب فقيل كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: "يتناوله تناولا". رواه مسلم.
الثانية: يجوز الغسل من إنزال المني قبل البول وبعده، والأولى أن تكون بعد البول خوفا من خروج مني بعد الغسل. حكى الدارمي عن قوم أنه لا يجوز قبل البول.
الثالثة: السنة إذا غسل ما على فرجه من أذى أن يدلك يده بالأرض ثم يغسلها ثبت ذلك في "الصحيحين" عن ميمونة عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبق بيانه في باب الاستطابة.
الرابعة: لا يجوز الغسل بحضرة الناس إلا مستور العورة، فإن كان خاليا جاز الغسل مكشوف العورة، والستر أفضل.
واحتج البخاري والبيهقي لجواز الغسل عريانا في الخلوة بحديثي أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
"أن

 

ج / 2 ص -158-       موسى اغتسل عريانا فذهب الحجر بثوبه" و"أن أيوب كان يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب". رواهما البخاري. وروى مسلم أيضا قصة موسى صلى الله عليه وسلم والاحتجاج به تفريع على الاحتجاج بشرع من قبلنا.
واحتجوا لفضل الستر بحديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال:
"قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت: أرأيت إذا كان أحدنا خاليا؟ قال الله أحق أن يستحيا من الناس". رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. قال الترمذي: حديث حسن هذا مذهبنا، ونقل القاضي عياض جواز الاغتسال عريانا في الخلوة عن جماهير العلماء. قال: ونهى عنه ابن أبي ليلى لأن للماء ساكنا. واحتج فيه بحديث ضعفه العلماء.
الخامسة: الوضوء والمضمضة والاستنشاق سنن في الغسل، فإن ترك الثلاثة صح غسله. قال الشافعي في المختصر: فإن ترك الوضوء والمضمضة والاستنشاق فقد أساء ويستأنف المضمضة والاستنشاق.
قال القاضي حسين وغيره: سماه مسيئا لترك هذه السنن، فإنها مؤكدة فتاركها مسيء لا محالة. قالوا: وهذه إساءة بمعنى الكراهة لا بمعنى التحريم. قال القاضي والمتولي والروياني وآخرون: وأمره باستئناف المضمضة والاستنشاق دون الوضوء لمعنيين: أحدهما: أن الخلاف في المضمضة والاستنشاق كان موجودا في زمانه، فإن أبا حنيفة وغيره ممن تقدم يوجبونهما، فأحب الخروج من الخلاف والوضوء لم يكن أوجبه أحد، وإنما حدث خلاف أبي ثور وداود بعده. والثاني: أن الماء قد وصل إلى موضع الوضوء دون موضعهما فأمره بإيصاله إليهما. قال أصحابنا: ويستحب استئناف الوضوء، لكن استحباب المضمضة والاستنشاق آكد، وقد تقدمت مذاهب العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل، والوضوء في باب صفة الوضوء بدلائلها. ومذهبنا ومذهب الجمهور أنهما سنتان في الوضوء والغسل.
السادسة: لا يجب الترتيب في أعضاء المغتسل لكن تستحب البداءة بالرأس ثم بأعالي البدن وبالشق الأيمن.
السابعة: يجب إيصال الماء إلى غضون البدن من الرجل والمرأة وداخل السرة وباطن الأذنين والإبطين وما بين الأليين وأصابع الرجلين وغيرها مما له حكم الظاهر وحمرة الشفة. وهذا كله متفق عليه. ولو التصقت الأصابع والتحمت لم يجب شقها، وقد سبق إيضاح هذا وبسطه في صفة الوضوء، ومما قد يغفل عنه باطن الأليين والإبط والعكن والسرة فليتعهد كل ذلك ويتعهد إزالة الوسخ الذي يكون في الصماخ، قال الشافعي في "الأم" والأصحاب: يجب غسل ما ظهر من صماخ الأذن

 

ج / 2 ص -159-       دون ما بطن، ولو كان تحت أظفاره وسخ لا يمنع وصول الماء إلى البشرة لم يضر وإن منع ففي صحة غسله خلاف سبق بيانه في بابي السواك وصفة الوضوء.
الثامنة: إذا كان ما على بعض أعضائه أو شعره حناء أو عجين أو طيب أو شمع أو نحوه فمنع وصول الماء إلى البشرة أو إلى نفس الشعر لم يصح غسله، وقد تقدم، بيان هذا فروع حسنة تتعلق به في آخر صفة الوضوء، ولو كان شعره متلبدا بحيث لا يصل الماء إلى باطن الشعر لم يصح غسله إلا بنفشه حتى يصل الماء إلى جميع أجزائه؛ هكذا نص عليه الشافعي في "الأم" وقطع به الأصحاب.
ولو انعقدت في رأسه شعرة أو شعرات فهل يعفى عنها؟ ويصح الغسل وهي معقودة؟ وإن كان الماء لا يصل باطن محل العقد. فيه وجهان حكاهما الروياني والرافعي وغيرهما، أحدهما: يعفى عنه وهو قول الشيخ أبي محمد الجويني وصححه الروياني والرافعي لأنها في معنى الأصبع الملتحمة، ولأن الماء يبل محلها، والثاني: لا يعفى عنه كالملبد، وقطع هذه الشعرات ممكن بلا ضرر بخلاف الأصبع الملتحمة.
التاسعة: لو ترك من رأسه شعرة لم يصبها الماء لم يصح غسله. وعن أبي حنيفة أنه يصح: فلو نتف تلك الشعرة، قال الماوردي: إن كان الماء وصل أصلها أجزأه وإلا لزمه إيصاله أصلها، قال: وكذا لو أوصل الماء إلى أصول شعره دون الشعر ثم حلقه أجزأه، وذكر صاحب "البيان" فيه وجهين: أحدهما: هذا، والثاني: يلزمه غسل مقطع الشعرة والشعرات، وبه قطع ابن الصباغ في "الفتاوى" المنقولة عنه.
العاشرة: إذا انشق جلده بجراحة وانفتح فمها وانقطع دمها وأمكن إيصال الماء إلى باطنها الذي يشاهد بلا ضرر وجب إيصاله في الغسل والوضوء، قطع به الأصحاب، وقد سبق بيانه في صفة الوضوء، قال الشيخ أبو محمد الجويني: والفرق بينه وبين الفم والأنف أنهما باقيان على الاستبطان، وإنما يفتح فمه لحاجة ومحل الجراحة صار ظاهرا فأشبه مكان الافتضاض من المرأة الثيب، وقد سبق نص الشافعي على أنه يلزمها إيصال الماء إلى ما برز بالافتضاض.
قال أبو محمد: فإن كان للجراحة غور في اللحم لم يلزمه مجاوزة ما ظهر منها، كما لا يلزم المرأة مجاوزة ما ظهر بالافتضاض. ولو اندملت الجراحة والتأمت سقط الفرض في ذلك الموضع، كما لو عادت البكارة بعد افتضاض فإنه يسقط غسل ما كان ظهر بالافتضاض وكما لو التحمت أصابع رجليه فإنه لا يجوز له شقها، بل يكفيه غسل ما ظهر، وقد سبق هذا في صفة الوضوء. قال أبو محمد: ولو كان في باطن الجراحة دم وتعذرت إزالته وخشى زيادة سرايتها إلى العضو لم يلزمه إيصال الماء إلى باطنها ولزمه قضاء الصلوات عند الشافعي إذا اندملت. ولا يلزمه القضاء عند المزني رضي الله عنهما.
الحادية عشرة: لو قطعت شفته أو أنفه فهل يلزمه غسل ما ظهر بالقطع في الوضوء والغسل؟ فيه

 

ج / 2 ص -160-       وجهان سبق إيضاحهما في صفة الوضوء. أصحهما يجب لأنه صار ظاهرا، ولو كان غير مختون فهل يلزمه في غسل الجنابة غسل ما تحت الجلدة التي تقطع في الختان، فيها وجهان حكاهما المتولي والروياني وآخرون أصحهما: يجب صححه الروياني والرافعي، لأن تلك الجلدة مستحقة الإزالة، ولهذا لو أزالها إنسان لم يضمن، وإذا كانت مستحقة الإزالة فما تحتها كالظاهر. والثاني: لا يجب، وبه جزم الشيخ أبو عاصم العبادي في الفتاوى، لأنه يجب غسل تلك الجلدة ولا يكفي غسل ما تحتها، فلو كانت كالمعدومة لم يجب غسلها، فبقي ما تحتها باطنا.
الثانية عشرة: لا يجب غسل داخل عينيه، وحكم استحبابه كما سبق في صفة الوضوء، ولو نبت في عينه شعر لم يلزمه غسله
الثالثة عشرة: لو كان على بعض بدن الجنب نجاسة فغسل ذلك الموضع غسلة واحدة بنية الجنابة ارتفعت النجاسة، وهل يجزئه عن الجنابة؟ فيه وجهان سبقا في مواضع بسطتها في باب نية الوضوء، أصحهما يجزئه، ولو صب الجنب على رأسه الماء وكان على ظهره نجاسة فنزل عليها فأزالها فإن قلنا الماء المستعمل في الحدث يصلح لإزالة النجاسة طهر المحل عن النجاسة وهل يطهر عن الجنابة؟ قال الروياني فيه الوجهان. وإن قلنا: المستعمل في الحدث لا يصلح للنجس. قال الروياني: ففي طهارته عن النجس هنا وجهان:
أحدهما: يطهر لأن الماء قائم على المحل وإنما يصير مستعملا بالانفصال.
والثاني: لا يطهر لأنا لا نجعل الماء في حالة تردده على العضو مستعملا للحاجة إلى ذلك في الطهارة الواحدة، وهذه طهارة أخرى، فعلى هذا يجب تطهير هذا المحل عن النجاسة، وهل يكفيه الغسلة الواحدة فيه عن النجس والجنابة إذا نواها؟ فيه الوجهان.
الرابعة عشرة: لو أحدث المغتسل في أثناء غسله لم يؤثر ذلك في غسله بل يتمه ويجزيه، فإن أراد الصلاة لزمه الوضوء، نص على هذا كله الشافعي في "الأم" والأصحاب ولا خلاف فيه عندنا، وحكاه ابن المنذر عن عطاء وعمرو بن دينار وسفيان الثوري واختاره ابن المنذر، وعن الحسن البصري أنه يستأنف الغسل، دليلنا أن الحدث لا يبطل الغسل بعد فراغه فلا يبطله في أثنائه كالأكل والشراب.
الخامسة عشرة: هل يجب على السيد أن يشتري لمملوكه ماء الوضوء والغسل من الحيض والجنابة؟ فيه وجهان حكاهما المتولي والروياني هنا وآخرون في النفقات أحدهما: يجب كزكاة فطره، والثاني: لا لأن للطهارة بدلا وهو التيمم فينتقل إليه كما لو أذن لعبده في الحج متمتعا، فإنه لا يلزم السيد الهدي، بل ينتقل العبد إلى الصوم، ويخالف الفطرة فلا بدل لها، ولم يرجحها واحد من الوجهين. والأول عندي أصح لأنه من مؤن العبد وهي على سيده، وهل يلزم الزوج شراء ماء الطهارة لزوجته؟ فيه خلاف ذكره المصنف في باب ما يجب بمحظورات الإحرام، وذكره المتولي والروياني وآخرون هنا. وذكره البغوي وآخرون في النفقات والأظهر تفصيل ذكره البغوي وتابعه

 

ج / 2 ص -161-       عليه الرافعي، قال: إن كان الغسل لاحتلامها لم يلزمه، وإن كان لجماعه أو نفاس لزمه في أصح الوجهين لأنه بسببه، وإن كان حيضا لم يلزمه في أصح الوجهين لأنه من مؤن التمكين وهو واجب عليها.
قال الرافعي؛ وينظر على هذا القياس في ماء الوضوء إلى أن السبب منه كاللمس أم لا؟ وفي أجرة الحمام وجهان مشهوران في "كتاب النفقات" أحدهما: لا يجب إلا إذا عسر الغسل إلا في الحمام لشدة برد وغيره، واختاره الغزالي وأصحهما: وبه قطع المصنف والبغوي والروياني وآخرون في "كتاب النفقات" الوجوب إلا أن يكون من قوم لا يعتادون دخوله، فإن أوجبناها قال الماوردي: إنما تجب في كل شهر مرة.
السادسة عشرة: قال أبو الليث الحنفي في نوازله: لو كان في الإنسان قرحة فبرأت، وارتفع قشرها، وأطراف القرحة متصلة بالجلد إلا الطرف الذي كان يخرج منه القيح فإنه مرتفع، ولا يصل الماء إلى ما تحت القشر أجزأه وضوءه وفي معناه الغسل.

فصل في الأغسال المسنونة
لم يذكر لها المصنف رحمه الله بابا مستقلا، بل ذكرها مفرقة في أبوابها وقد ذكرها هو في "التنبيه" والأصحاب مجموعة في باب اقتداء بالمزني رحمه الله، فأحببت موافقة الجمهور في ذكرها مجموعة في موضع؛ فإنه أحسن وأحوط وأنفع وأضبط فأذكرها إن شاء الله تعالى في هذا الفصل في غاية الاختصار بالنسبة إلى عادة هذا الشرح. لكوني أبسطها إن شاء الله تعالى بفروعها وأداتها وما يتعلق بها في مواضعها.
فمنها غسل الجمعة وهو سنة عندنا وعند الجمهور وأوجبه بعض السلف، وفيمن يستحب له أربعة أوجه: الصحيح: أنه يستحب لكل من حضر الجمعة سواء الرجل والمرأة ومن تجب عليه، ومن لا تجب، ولا يستحب لغيره. 
والثاني: يستحب لكل من تجب عليه، سواء حضر أم انقطع لعذر، حكاه الماوردي والروياني، ورجحه الروياني وادعى أنه قول جمهور أصحابنا، وليس كما قال.
والثالث: يستحب لمن حضر ممن تلزمه الجمعة دون من لا تلزمه حكاه الشاشي وغيره، وهذا ضعيف أو غلط.
الرابع: يستحب لكل أحد سواء حضر أو لم يحضر. ومن تلزمه ومن لا تلزمه، ومن انقطع عنها لعذر، أو لغيره كغسل العيد. حكاه المتولي وغيره.
قال الشافعي، والأصحاب: ويدخل وقت غسل الجمعة بطلوع الفجر، ويبقى إلى صلاة الجمعة، والأفضل أن يكون عند الرواح إليها. فلو اغتسل قبل الفجر لم يحسب. هكذا قطع به

 

ج / 2 ص -162-       الأصحاب في جميع الطرق إلا إمام الحرمين فحكى -وجها- أنه يحسب، وليس بشيء، ولو اغتسل بعد الفجر، ثم أجنب لم يبطل غسل الجمعة عندنا، قال الماوردي: وبه قال العلماء كافة إلا الأوزاعي فإنه أبطله. دليلنا أن غسل الجمعة يراد للتنظيف فإذا تعقبه غسل الجنابة لم يبطله، بل هو أبلغ في النظافة. قال الروياني وغيره: ويستحب أن يستأنف غسل الجمعة ليخرج من الخلاف، قال القفال وصاحبه الصيدلاني والأصحاب: إن لم يجد الماء تيمم، قالوا: ويتصور ذلك في قوم توضئوا وفرغ ماؤهم، وفي "الجريح" في غير أعضاء الوضوء، واستبعد الغزالي وغيره التيمم لأن المراد قطع الرائحة، والصواب الأول لأنها طهارة شرعية فناب عنها التيمم كغيرها. ولغسل الجمعة فروع، وتتمات، نبسطها في بابها إن شاء الله تعالى.
ومن الغسل المسنون غسل العيدين وهو سنة لكل أحد بالاتفاق، سواء الرجال والنساء والصبيان، لأنه يراد للزينة وكلهم من أهلها بخلاف الجمعة، فإنه لقطع الرائحة، فاختص بحاضرها على الصحيح.
ويجوز بعد الفجر وهل يجوز قبله؟ قولان أحدهما: لا، كالجمعة. وأصحهما: نعم لأن العيد يفعل أول النهار فيبقى أثره ولأن الحاجة تدعو إلى تقديمه لأن الناس يقصدونه من بعيد فعلى هذا فيه أوجه أحدها: يجوز في جميع الليل والثاني: لا يجوز إلا عند السحر، وأصحها: يجوز في النصف الثاني لا قبله، هذا مختصر ما يتعلق بغسل العيد، وسيأتي إيضاحه مبسوطا بأدلته حيث ذكره المصنف في صلاة العيد إن شاء الله تعالى.
ومن المسنون غسل الكسوفين وغسل الاستسقاء. ومنه غسل الكافر إذا أسلم ولم يكن أجنب، وقد سبق إيضاحه في باب ما يوجب الغسل. ومنه غسل المجنون والمغمى عليه إذا أفاق وقد سبق بيانهما في باب ما ينقض الوضوء.
ومنه أغسال الحج، وهي الغسل للإحرام ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة وللوقوف بالمشعر الحرام، وثلاثة أغسال لرمي الجمار في أيام التشريق الثلاثة، نص الشافعي على هذه السبعة في "الأم" قال: ولا يغتسل لجمرة العقبة. قال أصحابنا: إنما لم يغتسل لها لأن وقتها يدخل من نصف الليل، ويبقى إلى آخر النهار، فلا يجتمع لها الناس، ولأنه اغتسل للوقوف بالمشعر الحرام، وهو يرمي جمرة العقبة بعده بساعة، فأثر الغسل باق فلا حاجة إلى إعادته، وأضاف الشافعي -في القديم- إلى هذه السبعة الغسل لطوافي الزيارة والوداع. قال القاضي أبو الطيب: وللحلق. قال البغوي وغيره: ويسن للحائض والنفساء جميع أغسال الحج إلا غسل الطواف، لكونها لا تطوف.
ومن المستحب الغسل من غسل الميت، وللشافعي -قول- أنه يجب إن صح الحديث فيه. ولم يصح فيه حديث، ولا فرق في هذا بين مس الميت المسلم والكافر، فيسن الغسل من غسلهما، ويسن الوضوء من مس الميت نص عليه الشافعي في "مختصر المزني" رحمهما الله وقاله

 

ج / 2 ص -163-       الأصحاب، ونقله إمام الحرمين عن أصحابنا المراوزة وسنبسط الكلام فيه في الجنائز إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف.
ومن المستحب الغسل من الحجامة ودخول الحمام، نص عليهما الشافعي - في القديم - وحكاه عن القديم ابن القاص والقفال وقطعا به، وكذا قطع به المحاملي في "اللباب" والغزالي في "الخلاصة" والبغوي وآخرون، ونقله الغزالي في "الوسيط" عن ابن القاص ثم قال: وأنكر معظم الأصحاب استحبابهما، قال البغوي: أما الحجامة فورد فيها أثر، وأما الحمام فقيل: أراد به إذا تنور 1 يغتسل وإلا فلا. وقيل: استحبه لاختلاف الأيدي في ماء الحمام. قال: وعندي أن معنى الغسل أنه إذا دخله فعرق استحب ألا يخرج حتى يغتسل.
هذا كلام البغوي وروى البيهقي بإسناد -ضعفه- عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغسل من خمسة من الجنابة، والحجامة، وغسل يوم الجمعة، والغسل من ماء الحمام". وبإسناده عن ابن عمرو بن العاص قال: "كنا نغتسل من خمس من الحجامة، والحمام، ونتف الإبط، ومن الجنابة، ويوم الجمعة". والله أعلم.
ومن المستحب الغسل لمن أراد حضور مجمع الناس صرح به أصحابنا ونقله الروياني في "البحر" عن نص الشافعي، ورأيت في "الأم" ما يدل عليه صريحا أو إشارة ظاهرة، قال أبو عبد الله الزبيري في الكافي: يستحب في كل أمر اجتمع الناس له أن يغتسل المرء له، ويقطع الرائحة المغيرة من جسده ويمس من طيب أهله، هذه هي السنة. وقال البغوي: يستحب لمن أراد الاجتماع بالناس أن يغتسل ويتنظف ويتطيب. قال المحاملي في اللباب: يستحب الغسل عند كل حال تغير فيه البدن قال أصحابنا: وآكد هذه الأغسال غسل الجمعة والغسل من غسل الميت وأيهما آكد؟ فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف في الجنائز، أصحهما عند المصنف وسائر العراقيين الغسل من غسل الميت وهو نصه في الجديد.
والثاني: غسل الجمعة وهو قوله القديم وصححه البغوي والروياني وغيرهما. قال الرافعي: وصححه الأكثرون. وهذا هو الصحيح أو الصواب لأن أحاديث غسل الجمعة صحيحة، وليس في الغسل من غسل الميت شيء صحيح. 
وفائدة القولين فيما لو أوصى بماء لأولى الناس أو وكل من يدفعه إلى أولاهم أو آكدهم حاجة فوجد رجلان، أحدهما: قد غسل ميتا، والآخر: يريد حضور الجمعة فأيهما أولى به؟ فيه القولان، وستأتي دلائل كل ما ذكرته في مواضعه إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1  لعله يريد إذا أصابه غبار النورة يغتسل لإزالته (ط).

 

ج / 2 ص -164-       فصل في دخول الحمام
 روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها في الميازر". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم. قال الترمذي ليس إسناده بذاك القائم. وعن أبي المليح -بفتح الميم- قال: "دخل نسوة من أهل الشام على عائشة فقالت: من أنتن؟ فقلن: من أهل الشام فقالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم، قالت: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه قال الترمذي: حديث حسن.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إنها ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها: الحمامات، فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء". رواه أبو داود وابن ماجه وفي إسناده من يضعف، وجاء في دخول الحمام، عن السلف آثار متعارضة في الإباحة والكراهة. فعن أبي الدرداء رضي الله عنه: "نعم البيت الحمام يذهب الدرن ويذكر النار". وعن علي وابن عمر رضي الله عنهما: "بئس البيت الحمام يبدي العورة ويذهب الحياء".
وأما أصحابنا فكلامهم فيه قليل، وممن تكلم فيه من أصحابنا الإمام الفقيه الحافظ أبو بكر السمعاني المروزي رحمه الله، فقال: جملة القول في دخول الحمام أنه مباح للرجال بشرط التستر وغض البصر، ومكروه للنساء إلا لعذر من نفاس أو مرض قال: وإنما كره للنساء لأن أمرهن مبني على المبالغة في التستر، ولما في وضع ثيابهن في غير بيوتهن من الهتك؛ ولما في خروجهن واجتماعهن من الفتنة والشر وأنشد:

دهتك بعلة الحمام نعم                       ومال بها الطريق إلى يزيد

قال: وللداخل آداب منها أن يتذكر بحره حر النار، ويستعيذ بالله تعالى من حرها ويسأله الجنة، وأن يكون قصده التنظيف والتطهر دون التنعيم والترفه، وألا يدخله إذا رأى فيه عاريا، بل يرجع، وألا يصلي فيه، ولا يقرأ القرآن ولا يسلم، ويستغفر الله تعالى إذا خرج ويصلي ركعتين، فقد كانوا يقولون: يوم الحمام يوم إثم وروى لكل أدب منها خبرا أو أثرا وذكر آدابا أخر.
وذكر الإمام الغزالي رحمه الله في "الإحياء" فيه كلاما حسنا طويلا مختصره أنه لا بأس بدخول الحمام، دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمامات الشام، قال: وعلى داخله واجبات وسنن، فعليه واجبان في عورته: صونها عن نظر غيره ومسه، فلا يتعاطى أمرها، وإزالة وسخها إلا بيده، وواجبان في عورة غيره أن يغض بصره عنها، وأن ينهاه عن كشفها لأن النهي عن المنكر واجب، فعليه ذلك وليس عليه القبول. قال: ولا يسقط الإنكار إلا لخوف ضرر أو شتم أو نحوه، ولا يسقط عنه بظنه أنه لا يفيد قال: ولهذا صار الحزم في هذه الأزمان ترك دخول الحمام، إذ لا يخلو عن عورات مكشوفة، لا سيما ما فوق العانة وتحت السرة ولهذا استحب إخلاء الحمام. قال: والسنن عشر، النية بأن لا يدخل عبثا ولا لغرض الدنيا، بل يقصد التنظف المحبوب، وأن يعطي الحمامي الأجرة قبل دخوله، ويقدم رجله

ج / 2 ص -165-       اليسرى في دخوله قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم. وأن يدخل وقت الخلوة أو يتكلف إخلاء الحمام فإنه -وإن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين والمحتاطون في العورات- فالنظر إلى الأبدان مكشوفة فيه شوب من قلة الحياء. وهو مذكر للفكر في العورات، ثم لا يخلو الناس في الحركات عن انكشاف العورات فيقع عليها البصر. وأن لا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول، وألا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فهو المأذون فيه، وأن يذكر بحرارته حرارة نار جهنم لشبهه بها، وألا يكثر الكلام، ويكره دخوله بين المغرب والعشاء وقريبا من الغروب، وأن يشكر الله تعالى إذا فرغ على هذه النعمة وهي النظافة، ويكره من جهة الطب 1 صب الماء البارد على الرأس عند الخروج من الحمام وشربه. ولا بأس بقوله لغيره عافاك الله ولا بالمصافحة ولا بأن يدلكه غيره يعني في غير العورة.
هذا كلام الغزالي، ثم ذكر في النساء كلاما حذفته لكون كلام السمعاني أصوب منه، قال: وإذا دخلت المرأة لضرورة فلا تدخل إلا بمئزر سابغ، قال ولا يقرأ القرآن إلا سرا ولا يسلم إذا دخل، فقد اتفق هو والسمعاني على ترك القراءة والسلام، فأما القراءة فتقدم في آخر باب ما يوجب الغسل أنها لا تكره ولعل مرادهما الأول تركها لأنها مكروهة. وأما ترك السلام فقد وافقهما عليه صاحب التتمة، فقال: لا يستحب السلام لداخله على من فيه لأنه بيت الشيطان، ولأن الناس يكونون مشتغلين بالتنظف، وكذا قاله غيرهم.
والحمام مذكر لا مؤنث، كذا نقله الأزهري في "تهذيب اللغة" عن العرب ونقله غيره وجمعه حمامات، مشتق من الحميم وهو الماء الحار. والله أعلم وبه التوفيق.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  يتوجه كلامه فيما لو كان البدن دافئا أو عرقا وصب الماء باردا فجأة بكثرة شديدة فإن ذلك يورث الشلل وأقله شلل الوجه وقد يشل بلفحة الهواء والله أعلم. (ط).