المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

باب التيمم
قال أبو منصور الأزهري رحمه الله: التيمم في كلام العرب القصد، يقال: تيممت فلانا ويممته وتأممته وأممته، أي قصدته، والتيمم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو رخصة وفضيلة اختصت بها هذه الأمة، زادها الله شرفا لم يشاركها فيها غيرها من الأمم، كما صرحت به الأحاديث الصحيحة المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
وأجمعوا على أن التيمم مختص بالوجه واليدين. سواء تيمم عن الحدث الأصغر أو الأكبر، سواء تيمم عن كل الأعضاء أو بعضها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "يجوز التيمم عن الحدث الأصغر لقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: من الآية6] ويجوز عن الحدث الأكبر وهو الجنابة والحيض، لما روي عن عمار بن ياسر رضي

 

ج / 2 ص -166-       الله عنهما قال: "أجنبت فتمعكت في التراب فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: إنما كان يكفيك هكذا، وضرب يديه على الأرض ومسح وجهه وكفيه" ولأنه طهارة عن حدث فناب عنها التيمم كالوضوء، ولا يجوز ذلك عن إزالة النجاسة لأنها طهارة فلا يؤمر بها للنجاسة في غير محل النجاسة كالغسل".
الشرح: أما الآية الكريمة فتقدم تفسيرها في باب ما ينقض الوضوء، وقوله تعالى:
{صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: من الآية6] قيل: حلالا، وقيل: طاهرا، وهو الأظهر الأشهر، وهو مذهب أصحابنا.
وأما حديث عمار فمتفق على صحته رواه البخاري ومسلم، وقوله: "تمعكت" أي تدلكت وفي رواية في الصحيح تمرغت وهو بمعنى تدلكت. وراوي الحديث عمار تقدم بيان حاله في آخر السواك.
وينكر على المصنف قوله: روي بصيغة التمريض الموضوعة للعبارة عن حديث ضعيف، مع أن هذا الحديث متفق على صحته، وقد نبهت على مثله مرات وذكرته في مقدمة الكتاب، وقوله: "ولأنه طهارة عن حدث" احتراز من طهارة النجس.
أما الأحكام: فيجوز التيمم عن الحدث الأصغر بالكتاب والسنة والإجماع، ويجوز عن الحدث الأكبر، وهو الجنابة والحيض والنفاس، وكذا الولادة إذا قلنا توجب الغسل، ولا خلاف في هذا عندنا، ولا يجوز في إزالة النجاسة، ودليله ما ذكره المصنف وأما قول المصنف، هنا: يجوز التيمم، وقوله في "التنبيه": يجب فكلاهما صحيح فهو واجب في حال جائز في حال. فإذا لم يجد الماء وضاق الوقت وجب، وإذا وجد الماء بأكثر من ثمن المثل جاز التيمم ولا يجب 1، بل لو اشتراه وتوضأ كان أفضل وكذا إذا لم يجد الماء وأراد نافلة أو فريضة في أول الوقت جاز التيمم ولم يجب.
فرع: قد ذكرنا أن التيمم عن الحدث الأكبر جائز، هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي التابعي فإنهم منعوه، قال ابن الصباغ وغيره: وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا، واحتج لمن منعه بأن الآية في إباحته للمحدث فقط، واحتج أصحابنا والجمهور بقول الله تعالى:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: من الآية6] إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: من الآية6] ثم قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6] وهو عائد إلى المحدث والجنب جميعا. وقد ثبت في "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري قال: قال عبد الله بن مسعود: "لو أن جنبا لم يجد الماء شهرا لا يتيمم، قال أبو موسى له: كيف يصنع بهذه الآية {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6] فقال عبد الله: "لو رخص لهم لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا" فهذا دليل على أنهم كانوا متفقين على أن الآية تدل على جواز التيمم للجنب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  راجع بحثنا في التسعير في الجزء 12 (ط).

 

ج / 2 ص -167-       واحتجوا من السنة بحديث عمار السابق وهو في الصحيحين، وبحديث عمران بن الحصين "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ثم رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم؟ فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك، فلما حضر الماء أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل إناء من ماء فقال اغتسل به". رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي ذر رضي الله عنه؛ أنه كان يعزب في الإبل وتصيبه الجنابة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:
"الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته". رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: حديث صحيح. وفي المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرته.
ومن القياس ما ذكره المصنف، ولأن ما كان طهورا في الحدث الأصغر كان في الأكبر كالماء. وأما الآية فليس فيها منع التيمم عن الجنابة، بل فيها جوازه كما ذكرنا، ولو لم يكن فيها بيانه فقد بينته السنة.
فرع: إذا تيمم الجنب والتي انقطع حيضها ونفاسها ثم قدر على استعمال الماء لزمه الغسل. هذا مذهبنا، وبه قال العلماء كافة إلا أبا سلمة بن عبد الرحمن التابعي فقال: لا يلزمه، ودليلنا حديث عمران وحديث أبي ذر السابقان.
فرع: قال الشافعي في "الأم" والأصحاب: يجوز للمسافر والمعزب 1 في الإبل أن يجامع زوجته وإن كان عادما للماء، ويغسل فرجه ويتيمم.
واتفق أصحابنا على جواز الجماع من غير كراهة؛ قالوا: فإن قدر على غسل فرجه فغسله وتيمم وصلى صحت صلاته ولا يلزمه إعادتها، فإن لم يغسل فرجه لزمه إعادة الصلاة -إن قلنا: رطوبة فرج المرأة نجسة- وإلا فلا إعادة. هذا بيان مذهبنا. وحكى ابن المنذر جواز الجماع عن ابن عباس وجابر بن زيد والحسن البصري وقتادة والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، واختاره ابن المنذر وحكى عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر والزهري أنهم قالوا: ليس له ذلك. وعن مالك قال: لا أحب أن يصيب امرأته إلا ومعه ماء. وعن عطاء قال: إن كان بينه وبين الماء ثلاث ليال لم يصبها، وإن كان أكثر جاز، وعن أحمد في كراهته روايتان. دليلنا على الجميع ما احتج به ابن المنذر أن الجماع مباح فلا نمنعه ولا نكرهه إلا بدليل، فهذا هو المعتمد في الدلالة. وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
"قال رجل: يا رسول الله الرجل يغيب لا يقدر على الماء أيجامع أهله؟ قال: نعم". رواه أحمد في مسنده، فلا يحتج به لأنه ضعيف، فإنه من رواية الحجاج 2 بن أرطاة وهو ضعيف. والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  المعزاب والمعزابة من عزب بماشيته, وإبل عزيب: لا تروح على الحي (ط).
2  هو صدوق يدلس فإذا صرح بالتحديث كان حجة, وهو أحد الأعلام وكان قاضيا للبصرة قال: أبو حاتم إذا قال: حدثنا, فهو صالح لا يرتاب في حفظه وصدقه (ط).

 

ج / 2 ص -168-       فرع: قد ذكرنا أن مذهبنا أن التيمم عن النجاسة لا يجوز، ومعناه إذا كان على بعض بدنه نجاسة فتيمم في وجهه ويديه لا يصح، وبه قال جمهور العلماء وجوزه أحمد، واختلف أصحابه في وجوب إعادة هذه الصلاة.
قال ابن المنذر: كان الثوري والأوزاعي وأبو ثور يقولون: يمسح موضع النجاسة بتراب ويصلي. قال: وحكى أبو ثور هذا عن الشافعي، قال: والمعروف من قول الشافعي بمصر أن التيمم لا يجزئ عن نجاسة، واحتج أصحابنا بما ذكره المصنف، وقول المصنف: فلا يؤمر بها للنجاسة، احتراز من الحدث فإنه يؤمر بطهارته في غير محله. وقوله: كالغسل هو بفتح الغين، معناه كما لو كان على بدنه نجاسة فلا يؤمر بالغسل في غير محلها، ولأن التيمم رخصة، فلا يجوز إلا فيما ورد الشرع به، وهو الحدث والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والتيمم مسح الوجه واليدين مع المرفقين بضربتين أو أكثر، والدليل عليه ما روى أبو أمامة وابن عمر رضي الله عنهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال:
التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين".
وحكى بعض أصحابنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال في القديم: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للكفين، ووجهه في حديث عمار، وأنكر الشيخ أبو حامد الإسفراييني رحمه الله ذلك وقال: المنصوص في القديم والجديد هو الأول، ووجهه أنه عضو في التيمم فوجب استيعابه كالوجه، وحديث عمار يتأول على أنه مسح كفيه إلى المرفقين بدليل حديث أبي أمامة وابن عمر".
الشرح: أما حديث ابن عمر فسيأتي بيانه إن شاء الله، وأما حديث أبي أمامة فمنكر لا أصل له، واسم أبي أمامة صدي بضم الصاد وفتح الدال المهملة وتشديد الياء ابن عجلان الباهلي من بني باهلة، سكن حمص رضي الله عنه وابن عمر تقدم بيانه في الآنية، والشيخ أبو حامد في مسح الخف والعضو بكسر العين وضمها، وقوله: ولأنه عضو في التيمم احترز "بعضو" عن مسح الخف و "بالتيمم" عن مسح الرأس في الوضوء.
وأما حكم المسألة: فمذهبنا المشهور أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين مع المرفقين، فإن حصل استيعاب الوجه واليدين بالضربتين وإلا وجبت الزيادة حتى يحصل الاستيعاب. وحكى أبو ثور وغيره قولا للشافعي في القديم أنه يكفي مسح الوجه والكفين؛ وأنكر أبو حامد والماوردي وغيرهما هذا القول وقالوا: لم يذكره الشافعي في القديم، وهذا الإنكار فاسد، فإن أبا ثور من خواص أصحاب الشافعي وثقاتهم وأئمتهم فنقله عنه مقبول، وإذا لم يوجد في القديم حمل على أنه سمعه منه مشافهة وهذا القول وإن كان قديما مرجوحا عند الأصحاب فهو القوي في الدليل وهو الأقرب إلى ظاهر السنة الصحيحة. وقال كثيرون من الخراسانيين: لا يشترط ضربتان، بل الواجب إيصال التراب إلى الوجه واليدين. سواء حصل بضربتين أو ضربة، وسيأتي بيان هذا في واجبات التيمم إن شاء الله تعالى، هذا تلخيص مذهبنا.

 

ج / 2 ص -169-       وحكى ابن المنذر وجوب الضربتين عن علي بن أبي طالب وابن عمر والحسن البصري والشعبي وسالم بن عبد الله ومالك والليث والثوري وأصحاب الرأي، وعبد العزيز بن أبي سلمة، قال أصحابنا: وهو قول أكثر العلماء. وحكى الماوردي وغيره عن ابن سيرين أنه لا يجزئه إلا ثلاث ضربات: ضربة لوجهه، وضربة لكفيه، وضربة لذراعيه. وقال آخرون: الواجب ضربة للوجه والكفين، حكاه ابن المنذر عن عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحاق. قال ابن المنذر: وبه أقول وبه قال داود، وحكاه الخطابي عن عامة أصحاب الحديث.
وأما قدر الواجب من اليدين فالمشهور من مذهبنا أنه إلى المرفقين كما سبق وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر العلماء، وقال عطاء ومن بعده ممن ذكرناه: إلى الكفين، وحكى الماوردي وغيره عن الزهري أنه يجب مسحهما إلى الإبطين، وما أظن هذا يصح عنه، وقد قال الخطابي: لم يختلف العلماء في أنه لا يجب مسح ما وراء المرفقين.
واحتج من قال: ضربة للوجه والكفين بحديث عمار قال: "أجنبت فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، فنفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه". رواه البخاري ومسلم.
واحتج أصحابنا بأشياء كثيرة لا يظهر الاحتجاج بها فتركتها، وأقربها أن الله تعالى أمر بغسل اليد إلى المرفق في الوضوء، وقال في آخر الآية:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: من الآية6] وظاهره أن المراد الموصوفة أولا وهي المرفق. وهذا المطلق محمول على ذلك المقيد، لا سيما وهي آية واحدة، ذكر الشافعي رحمه الله هذا الدليل بعبارة أخرى، فقال كلاما معناه أن الله تعالى أوجب طهارة الأعضاء الأربعة في الوضوء في أول الآية ثم أسقط منها عضوين في التيمم في آخر الآية. فبقي العضوان في التيمم على ما ذكرا في الوضوء، إذ لو اختلفا لبينهما، وقد أجمع المسلمون على أن الوجه يستوعب في التيمم كالوضوء فكذا اليدان. قال البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار: قال الشافعي رحمه الله: إنما منعنا أن نأخذ رواية عمار في الوجه والكفين ثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح وجهه وذراعيه، وأن هذا أشبه بالقرآن.
والقياس أن البدل من الشيء يكون مثله، قال البيهقي: حديث عمار أثبت من مسح الذراعين، إلا أن حديث الذراعين جيد بشواهده، ورواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" وعن أبي جهيم الأنصاري قال: "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل إلى الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام". رواه البخاري هكذا مسندا وذكره مسلم تعليقا، وهو مجمل فسره ابن عمر في روايته قال: "مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى في السكة ضرب بيديه على الجدار ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل السلام وقال: إني لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر". هكذا رواه أبو داود في سننه إلا أنه من رواية محمد بن ثابت العبدي وليس هو بالقوي عند

 

ج / 2 ص -170-       أكثر أهل الحديث، وروى البيهقي في حديث أبي الجهيم فمسح وجهه وذراعيه، رواه من طرق يعضد بعضها بعضا، قال: وله شاهد من حديث ابن عمر، فذكر حديثه هذا.
قال البيهقي: وهذا الحديث رواه عن العبدي جماعة من الأئمة وذكرهم. قال: وأنكر البخاري على العبدي رفع هذا الحديث. قال البيهقي: ورفعه غير منكر، فقد صح رفعه من جهة الضحاك بن عثمان ويزيد بن عبد الله بن أسامة، وإنما انفرد العبدي فيه بذكر الذراعين. قال البيهقي: وقد صح عن ابن عمر من قوله وفعله التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقوله وفعله. يشهد لصحة رواية العبدي، فإنه لا يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه. قال الشافعي والبيهقي: أخذنا بحديث مسح الذراعين لأنه موافق لظاهر القرآن وللقياس وأحوط. قال الخطابي: الاقتصار على الكفين أصح في الرواية، ووجوب الذراعين أشبه بالأصول وأصح في القياس؛ والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يجوز التيمم إلا بالتراب لما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"فضلنا على الناس بثلاث: جعلت لنا الأرض مسجدا وجعل ترابها لنا طهورا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة". فعلق الصلاة على الأرض ثم نزل في التيمم إلى التراب، فلو جاز التيمم بجميع الأرض لما نزل عن الأرض إلى التراب: ولأنه طهارة عن حدث فاختص بجنس واحد كالوضوء".
الشرح: حديث حذيفة صحيح رواه مسلم وقال فيه: "جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وتربتها طهورا" قال الخطابي: معناه أن من كان قبلنا لم تبح لهم الصلاة إلا في البيع والكنائس. 
والتراب معروف وله خمسة عشر اسما ذكرتها مفصلة في "تهذيب الأسماء" 1، ثم الصحيح المشهور أنه اسم جنس لا يثنى ولا يجمع إلا إذا اختلفت أنواعه. ونقل أبو عمر الزاهد عن المبرد أنه جمع واحده ترابة، وقوله: لأنه طهارة عن حدث" احتراز من الدباغ.
أما حكم المسألة: فمذهبنا أنه لا يصح التيمم إلا بتراب، هذا هو المعروف في المذهب وبه قطع الأصحاب وتظاهرت عليه نصوص الشافعي وحكى الرافعي عن أبي عبد الله الحناطي "بالحاء المهملة والنون" أنه حكى في جواز التيمم بالذريرة والنورة والزرنيخ والأحجار المدقوقة والقوارير المسحوقة وأشباهها قولين للشافعي، وهذا نقل غريب ضعيف شاذ مردود، وإنما أذكره للتنبيه عليه لئلا يغتر به، والصحيح في المذهب أنه لا يجوز إلا بتراب، وبه قال أحمد وابن المنذر وداود. قال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  قال فيه: وذكر فيه أبو جعفر النحاس في كتابه صناعة الكتاب في التراب خمس عشرة لغة يقال: تراب وتورب يعني على مثال جعفر وتوراب ويترب بفتح أولهما والأثلب والأثلب الأول بفتح الهمزة واللام والثاني بكسر الهمزة واللام والثاء مثلثة فيهما ومنه قولهم بغيه الأثلب وهو الكثكث بفتح الكافين والدقعم بكسر الدال والعين والدقعاء بفتح الدال والمد والرغام بفتح الراء والغين المعجمة ومنه أرغم الله تعالى أنفه أي ألصقه بالرغام وهو البرا مقصور مفتوح الباء الموحدة كالعصا والكملخم بكسر الكاف واللام وإسكان الميم بينهما والخاء أيضا معجمة والعثير بكسر العين المهملة وإسكان الثاء المثلثة بعدها مثناة من تحت مفتوحة (ط).

 

ج / 2 ص -171-       الأزهري والقاضي أبو الطيب: هو قول أكثر الفقهاء وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز بكل أجزاء الأرض حتى بصخرة مغسولة، وقال بعض أصحاب مالك: يجوز بكل ما اتصل بالأرض كالخشب والثلج وغيرهما، وفي الملح ثلاثة أقوال لأصحاب مالك. أحدها: يجوز، والثاني: لا. والثالث: - وهو عندهم أشهرها - أنه إن كان مصنوعا لم يجز التيمم به وإلا جاز.
وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالثلج وكل ما على الأرض. واحتجوا بقول الله تعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: من الآية6] والصعيد ما على الأرض وبقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا". رواه البخاري ومسلم، وبحديث أبي الجهيم السابق في التيمم بالجدار، وبحديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما كان يكفيك هكذا، ثم ضرب بيديه ثم نفضهما ثم مسح وجهه وكفيه". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم "إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك". قالوا: فهذا يدل على أنه لا يختص بتراب ذي غبار يعلق بالعضو كما قلتم، قالوا: لأنه طهارة بجامد فلم يختص بجنس كالدباغ.
واحتج أصحابنا بقوله تعالى:
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: من الآية6] وهذا يقتضي أن يمسح بما له غبار يعلق بعضه بالعضو وبحديث حذيفة، وروى البيهقي عن ابن عباس قال: "الصعيد الحرث حرث الأرض" وبالقياس الذي ذكره المصنف. وأما قولهم: الصعيد ما صعد على وجه الأرض فلا نسلم اختصاصه به، بل هو مشترك يطلق على وجه الأرض وعلى التراب وعلى الطريق؛ كذا نقله الأزهري عن العرب وإذا كان كذلك لم يخص بأحد الأنواع إلا بدليل ومعنا حديث حذيفة وتفسير ابن عباس ترجمان القرآن بتخصيص التراب. وأما حديث: "جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا" فمختصر محمول على ما قيده في حديث حذيفة.
وأما التيمم بالجدار فمحمول على جدار عليه غبار، لأن جدرانهم من الطين، فالظاهر حصول الغبار منها، وحديث النفخ في اليدين محمول على أنه علق باليد غبار كثير فخففه، ونحن نقول باستحباب تخفيفه. ورواية مسلم ثم ينفخ محمولة على ما إذا علق بهما غبار كثير ولا يصح أن يعتقد أنه أمره بإزالة جميع الغبار، والفرق بين التيمم والدباغ أن المراد بالدباغ تنشيف فضول الجلد وذلك يحصل بأنواع، فلم يختص، والتيمم طهارة تعبدية فاختصت بما جاءت به السنة كالوضوء والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فأما الرمل فقد قال في القديم والإملاء: يجوز التيمم به، وقال في الأم: لا يجوز. فمن أصحابنا من قال: لا يجوز قولا واحدا وما قاله في القديم و"الإملاء" محمول على رمل يخالطه التراب، ومنهم من قال - على قولين.
أحدهما: يجوز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
"إنا بأرض الرمل وفينا الجنب والحائض ونبقى أربعة أشهر لا نجد الماء فقال صلى الله عليه وسلم: عليك بالأرض". والثاني: لا يجوز لأنه ليس بتراب فأشبه الجص".

 

ج / 2 ص -172-       الشرح: حديث أبي هريرة هذا ضعيف، رواه أحمد في مسنده، ورواه البيهقي من طرق ضعيفة وبين ضعفه، وجاء في بعضها "عليكم بالتراب" وصورة مسألة الكتاب التي ذكر المصنف فيها الطريقين في رمل خالص لا يخالطه تراب. وهذان الطريقان مشهوران، واتفق الأصحاب على أن الصحيح طريقة التفصيل وهو أنه إن خالطه تراب جاز وإلا فلا، وحملوا القولين على هذين الحالين وبهذا الطريق قطع جماعات من المصنفين، ونقله الشيخ أبو حامد والمحاملي وإمام الحرمين عن عامة الأصحاب قالوا: وغلط من قال: فيه قولان.
قال القاضي أبو الطيب: طريقة القولين هي قول ابن القاص، وأما قول المصنف في "التنبيه": "فإن خالطه جص أو رمل لم يجز التيمم به" فمحمول على رمل دقيق يلصق بالعضو؛ والذي ذكره الأصحاب هو في رمل خشن لا يلصق وبهذا يحصل الفرق بينه وبين ما إذا خالطه دقيق ونحوه، فإنه لا يجوز التيمم به لأنه يلصق بالعضو، وقد سبق أن الجص بكسر الجيم وفتحها وهو معرب والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن أحرق الطين وتيمم بمدقوقه ففيه وجهان. أحدهما: لا يجوز التيمم به، كما لا يجوز بالخزف المدقوق. والثاني: يجوز لأن إحراقه لم يزل اسم الطين والتراب عن مدقوقه، بخلاف الخزف. ولا يجوز إلا بتراب له غبار يعلق بالعضو، فإن تيمم بطين رطب أو تراب ند 1 لا يعلق غباره لم يجز، لقوله تعالى:
{ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: من الآية6] وهذا يقتضي أنه يمسح بجزء من الصعيد، ولأنه طهارة فوجب إيصال الطهور فيها إلى محل الطهارة كمسح الرأس، ولا يجوز بتراب نجس لأنه طهارة فلا تجوز بالنجس كالوضوء، ولا يجوز بما خالطه جص أو دقيق لأنه ربما حصل على العضو فمنع وصول التراب إليه، ولا يجوز بما استعمل في العضو، فأما ما تناثر من أعضاء المتيمم ففيه وجهان. 
أحدهما: لا يجوز التيمم به كما لا يجوز الوضوء بما تساقط من أعضاء المتوضئ.
والثاني: يجوز لأن المستعمل منه ما بقي على العضو، وما تناثر غير مستعمل فجاز التيمم به، ويخالف الماء لأنه لا يدفع بعضه بعضا والتراب يدفع بعضه بعضا فدفع -ما أدى به الغرض في العضو- ما تناثر منه".
الشرح: في هذه القطعة مسائل:
إحداها: إذا أحرق الطين وتيمم بمدقوقه فوجهان مشهوران أصحهما عند الجمهور: لا يجوز، وبه قطع الشيخ أبو حامد البغوي، والأصح عند إمام الحرمين وصاحب "البحر" والمحققين: الجواز. وهذا أظهر، قال إمام الحرمين: القول بأنه لا يجوز غلط غير معدود من المذهب، وقد ذكر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ند أصلها ندى كتعب حذفت الياء للثقل ومثل شج في قول الشارح (ط).

 

ج / 2 ص -173-       المصنف دليل الوجهين.
وقال القاضي أبو الطيب: إن احترق ظاهره وباطنه لم يجز، وإن احترق ظاهره دون باطنه ففيه وفي الطين الخراساني إذا دق وجهان، والأظهر الجواز مطلقا أما إذا أصابته نار فاسود ولم يحترق، فالمذهب القطع بجواز التيمم به، وبه قطع البغوي وغيره. وحكى الرافعي فيه وجها وهو ضعيف لأنه تراب ولا يشبه الخزف بحال، ولو احترق فصار رمادا لم يجز التيمم به بلا خلاف كالخزف، نقله الرافعي وغيره وهو ظاهر والله أعلم. الثانية: يشترط كون التراب له غبار يعلق بالعضو، وقد ذكر المصنف دليله وبه قال أبو يوسف؛ وقال مالك وأبو حنيفة: لا يشترط الغبار، وقد سبقت المسألة بدلائلها، وقوله: تراب ند هو بتنوين الدال مثل شج. الثالثة: لا يجوز التيمم بتراب نجس بلا خلاف عندنا، ونقله الشيخ أبو حامد عن العلماء كافة، قال الأوزاعي: فإنه جوزه بتراب المقابر قال: ولعله أراد إذا لم تكن منبوشة فيوافقنا. واحتج المحاملي وغيره بقوله تعالى:
{صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: من الآية6] قالوا: والمراد طاهرا وهذا هو الراجح في معنى الطيب في الآية كما قدمناه، واحتجوا أيضا بما ذكره المصنف وكان ينبغي للمصنف أن يقول: لأنه طهارة عن حدث ليحترز عن الدباغ، فإنه يجوز بالنجس على أصح الوجهين كما سبق. قال أصحابنا: وسواء كان التراب الذي خالطته النجاسة كثيرا أو قليلا لا يجوز التيمم به بلا خلاف، بخلاف الماء الكثير لأن للماء قوة تدفع النجاسة، وذكر أصحابنا هنا تراب المقابر وحكمه أنه إذا تيقن نبشها فترابها نجس؛ وإن تيقن عدم نبشها فترابها طاهر، وإن شك فطاهر أيضا على الأصح، فحيث قلنا: طاهر جاز التيمم به وإلا فلا. إلا أنها إذا لم تنبش تجوز الصلاة عليها مع الكراهة، لكونها مدفن النجاسة ولا يكره التيمم بترابها لأنه طاهر فهو كغيره صرح به الشيخ نصر في "الانتخاب" وهو واضح حسن.
قال الشافعي رحمه الله في الأم: ولو وقع المطر على المقبرة لم يصح التيمم بها لأن صديد الميت قائم فيها لا يذهبه المطر كما لا يذهب التراب، قال: وهكذا كل ما اختلط من الأنجاس بالتراب مما يصير كالتراب. وذكر الأصحاب هنا التيمم بالأرض التي أصابتها نجاسة ذائبة، فزال أثرها بالشمس والريح وفيها القولان المشهوران: الجديد أنها لا تطهر فلا يجوز التيمم بها، والقديم أنها تطهر فيجوز التيمم بها عند الجمهور. وقال القفال في "شرح التلخيص": إذا قلنا بالقديم، فهي طاهرة تجوز الصلاة عليها، وفي جواز التيمم بترابها قولان قال: وهكذا قال الشافعي في القديم: إن جلد الميتة يطهر بالدباغ وتجوز الصلاة عليه وفيه، ولا يجوز بيعه فجعله طاهرا في حكم دون حكم، هذا كلام القفال وهو شاذ، ومنع بيع المدبوغ ليس للنجاسة كما سبق في بابه والله أعلم.
الرابعة: لا يصح التيمم بتراب خالطه جص أو دقيق أو زعفران أو غيره من الطاهرات التي تعلق بالعضو، وسواء كان الخليط قليلا أو كثيرا مستهلكا، هذا هو الصحيح المشهور. قال البندنيجي.

 

ج / 2 ص -174-       وهو المنصوص، وحكى الأصحاب عن أبي إسحاق المروزي وجها أنه يجوز إذا كان الخليط مستهلكا، كما يجوز الوضوء بالماء الذي استهلك فيه مائع، قال الشيخ أبو حامد والأصحاب هذا الوجه غلط. والفرق أن الماء يجري بطبعه فإذا أصاب المائع موضعا جرى الماء بعده، وأما الخليط فربما علق بالعضو فمنع التراب من العلوق ولأن للماء قوة التطهير، ولأنه لا تضره النجاسة إذا كان كثيرا بخلاف التراب، وأما إذا اختلط بالتراب فتات الأوراق، فقال إمام الحرمين والغزالي في "البسيط": الظاهر أنه كالزعفران، يعني فيكون فيه التفصيل والخلاف، وقيل يعفى عنه كما في الماء، فإن قيل ما الفرق بين مخالطة الدقيق ونحوه ومخالطة الرمل حيث جاز في الرمل دون الدقيق؟ قلنا: الدقيق يعلق باليد كما يعلق التراب فيمنع التراب، والرمل لا يعلق، أما إذا خالط التراب مائع طاهر من طيب أو خل أو لبن أو غيره، فقال الماوردي: إن تغير به لم يجز التيمم به وإلا جاز.
وقال القاضي أبو الطيب وصاحب البحر: إن تغيرت رائحته بماء الورد ثم جف جاز التيمم به؛ لأن بالجفاف ذهب ماء الورد وبقيت رائحته المجاورة.
فرع: هذا الذي ذكره المصنف من أن الجص لا يجوز التيمم به، هو المذهب الصحيح المقطوع به في طرق الأصحاب، وشذ وأغرب القاضي أبو بكر البيضاوي فحكى في كتابه "شرح التبصرة" له في جواز التيمم بالجص ثلاثة أوجه.
أحدها: يجوز، والثاني: لا يجوز، والثالث: إن كان محرقا لم يجز وإلا جاز. وبهذا الثالث قطع صاحب "الحاوي" والبحر، وهو ضعيف جدا، نبهت عليه لئلا يغتر به.
الخامسة: التراب المستعمل فيه صور:
إحداها: أن يلصق بالعضو ثم يؤخذ منه فالمشهور في المذهب أنه لا يجوز التيمم به، وهو الصحيح الذي قطع به الجمهور كالماء المستعمل، وذكر الشيخ أبو حامد والماوردي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم فيه وجهين أحدهما: هذا والثاني: يجوز، لأن التيمم لا يرفع الحدث فلا يصير مستعملا بخلاف الماء، واختاره الماوردي، وذكر الغزالي في تدريسه أن هذا الخلاف يلتفت على أن سبب الاستعمال في الماء هو انتقال المنع أم تأدي العبادة. 
الثانية: أن يصيب العضو ثم يتناثر منه فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما، أصحهما لا يجوز التيمم به، صححه الشيخ أبو حامد والمحاملي في "المجموع" والفوراني وإمام الحرمين وابن الصباغ البغوي وصاحب "العدة" وآخرون، وقطع به المتولي وغيره، ونقله البندنيجي وابن الصباغ عن نص الشافعي، قال الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما: الوجه الآخر غلط.
الثالثة: أن يتساقط عن العضو ولم يكن لصق به ولا مسه، بل لاقى ما لصق بالعضو، فالمشهور أنه ليس بمستعمل كالباقي على الأرض، قال الروياني: وقيل فيه وجهان، قال: ولا معنى لهذا والله أعلم.

 

ج / 2 ص -175-       فرع في مسائل تتعلق بالفصل
إحداها: قال أصحابنا: يجوز التيمم بجميع أنواع التراب من الأحمر والأبيض والأسود والأعفر وغير ذلك، قال أصحابنا: وسواء في ذلك التراب المأكول وغيره، هذا هو المذهب الصحيح المشهور، وفي "البيان" وجه أنه لا يجوز بالتراب الأرمني ولا بالمأكول وليس بشيء. قال الشافعي رحمه الله في المختصر: والصعيد التراب من كل أرض سبخها ومدرها وبطحائها وغيرها. وقال في الأم: ولا يتيمم ببطحاء رقيقة كانت أو غليظة.
قال أصحابنا: السبخة التراب الذي فيه ملوحة ولا ينبت فالتيمم به جاز، وبه قال جمهور العلماء. وحكى الماوردي عن ابن عباس وإسحاق بن راهويه أنهما منعاه لقوله تعالى:
{صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: من الآية6] ودليلنا "أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم بتراب المدينة وهي سبخة". ولأنه جنس يتطهر به، فاستوى ملحه وعذبه كالماء. وأما الطيب في الآية فمعناه الطاهر، وقيل: الحلال كما سبق، وأما المدر فهو التراب الذي يصيبه الماء فيجف ويصلب، ويصح التيمم به إذا دق أو كان عليه غبار، وأما البطحاء فهو بفتح الباء وبالمد، يقال فيه الأبطح، ذكره الأزهري وغيره واختلفوا في تفسيره، فالصحيح الأوضح ما ذكره الأزهري وإمام الحرمين والغزالي وآخرون أنه التراب اللين في مسيل الماء. وقال القاضي أبو الطيب: هو مجرى السيل إذا جف واستحجر، وقال الشيخ أبو حامد والماوردي وآخرون: فيه تأويلان, أحدهما : القاع، والثاني: الأرض الصلبة. وأما قول الشافعي في الأم: لا يجوز بالبطحاء، وقوله في المختصر: يجوز، فقال الأصحاب: ليست على قولين بل على حالين، فقوله: لا يجوز أراد إذا لم يكن فيها تراب يعلق باليد. وقال صاحبا "الحاوي" والبحر وغيرهما: وأما الحمأة 1 المتغيرة إذا جفت وسحقت فيجوز التيمم بها لأنها طين خلق منتنا، فهي كالماء الذي خلق منتنا. قال أصحابنا: ولا يجوز التيمم بمدقوق الكذان، وهو حجر رخو يصير بالدق كالتراب، والله أعلم.
المسألة الثانية: قال أصحابنا يجوز أن يتيمم الجماعة من موضع واحد كما يتوضئون من إناء، ويجوز أن يتيمم الواحد من تراب يسير يستصحبه معه في خرقة ونحوها مرات، كما يتوضأ من إناء مرات.
الثالثة: قال أصحابنا: يجوز أن يتيمم من غبار تراب على مخدة أو ثوب أو حصير أو جدار أو أداة ونحوها، نص عليه في "الأم" وقطع به الجمهور. قال العبدري وغيره: "وكذا لو ضرب بيده على حنطة أو شعير فيه غبار "وحكى صاحب "البحر" وجها شاذا أنه لا يجوز، وهو مذهب أبي يوسف لأنه لم يقصد الصعيد، وهذا الوجه ليس بشيء، للحديث الصحيح الذي سبق
"أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم بالجدار". ولأنه قصد الصعيد، فلا فرق بين أن يكون على الأرض أو على غيرها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  تسكن الميم إذا أنثت وتحرك إذا حذفت الهاء قال تعالى:
{مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ}.

 

ج / 2 ص -176-       الرابعة: الأرضة بفتح الهمزة والراء، وهي دويبة تأكل الخشب والكتب ونحوها إذا استخرجت ترابا. قال القاضي حسين: إن استخرجته من مدر جاز التيمم به ولا يضر اختلاطه بلعابها، فإنه طاهر فصار كتراب عجن بخل أو ماء ورد، وإن استخرجت شيئا من الخشب لم يجز لعدم التراب.
الخامسة: لو تيمم بتراب على ظهر حيوان إن كان كلبا أو خنزيرا نظر إن علم نجاسته بأن وقع عليه التراب في حال رطوبته أو أصابه عرقه لم يجز التيمم به، وإن علم أنه طاهر لعلمه بانتفاء ذلك جاز التيمم به، وإن لم يعلم الحال فقال القاضي حسين وصاحبا "التتمة" والبحر والرافعي، "فيه القولان في تقابل الأصل والظاهر" قال صاحب البحر: "والأصح الجواز" وهذا الذي ذكروه مشكل، وينبغي أن يجوز التيمم به بلا خلاف للأصل، وليس هنا ظاهر يعارضه، وإن كان حيوانا آخر جاز بلا خلاف إلا أن يكون امرأة ففيها تفصيل وخلاف يأتي قريبا إن شاء الله تعالى والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يصح التيمم إلا بالنية لما ذكرناه في الوضوء وينوي بالتيمم استباحة الصلاة فإن نوى به رفع الحدث ففيه وجهان أحدهما لا يصح لأنه لا يرفع الحدث والثاني يصح لأن نية رفع الحدث تتضمن استباحة الصلاة".
الشرح: النية في التيمم واجبة عندنا بلا خلاف، وكذلك في الوضوء والغسل، وقد تقدم في باب نية الوضوء بيان مذاهب العلماء فيها بدلائلها وفروع كثيرة، وأما صفة نية التيمم فإن نوى استباحة الصلاة أو استباحة ما لا يباح إلا بالطهارة صح تيممه بلا خلاف، لأنه نوى مقتضاه. وإن نوى رفع الحدث بني على أن التيمم يرفع الحدث أم لا؟ وفيه وجهان الصحيح منهما أنه لا يرفع الحدث، وبه قطع جمهور الأصحاب، والثاني وهو قول أبي العباس بن سريج: يرفع في حق فريضة واحدة، ودليل المذهب حديث عمران بن حصين الذي قدمناه في تيمم الجنب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالاغتسال حين وجد الماء، وحديث أبي ذر السابق أيضا:
"الصعيد الطيب وضوء المسلم فإذا وجد الماء فليمسه بشرته". وحديث عمرو بن العاص حين تيمم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صليت بأصحابك وأنت جنب" وكلها أحاديث صحاح ظاهرة في أن الحدث ما ارتفع، إذ لو ارتفع لم يحتج إلى الاغتسال.
قال إمام الحرمين: هذا المنقول عن ابن سريج ضعيف معدود من الغلطات فإن ارتفاع الحدث لا يتبعض، فإذا نوى المتيمم رفع الحدث -إن قلنا بقول ابن سريج- صح، وإن قلنا بالمذهب فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما، أصحهما: باتفاق الأصحاب لا يصح تيممه، وبه قطع القاضي أبو الطيب وجماعات. الثاني: يصح ونقله ابن خيران قولا. وهو غريب ضعيف، ولو تيمم الجنب بنية رفع الجنابة فكمحدث نوى رفع الحدث، ولو نوى الطهارة عن الحدث لم يصح كما لو نوى رفع الحدث. ذكره القاضي أبو الطيب ومتابعوه ابن الصباغ والروياني والشيخ نصر، والله أعلم.
فرع: ذكرنا أن التيمم لا يرفع الحدث عندنا، وبه قال جماهير العلماء. وقال داود والكرخي الحنفي وبعض المالكية: يرفعه. دليلنا ما سبق.

 

ج / 2 ص -177-       قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يصح التيمم إلا بنية الفرض، فإن نوى بتيممه صلاة مطلقة أو صلاة نافلة لم يستبح الفريضة. وحكى شيخنا أبو حاتم القزويني أن أبا يعقوب الأبيوردي حكى عن "الإملاء" قولا آخر أنه لا يستبيح به الفرض، ووجهه أنه طهارة فلم يفتقر إلى نية الفرض كالوضوء. والذي يعرفه البغداديون من أصحابنا، كالشيخ أبي حامد وشيخنا القاضي أبي الطيب أنه يستبيح به الفرض لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستباح به الصلاة، فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه بخلاف الوضوء، فإنه يرفع الحدث فاستباح به الجميع، وهل يفتقر إلى تعيين الفريضة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر لأن كل موضع افتقر إلى نية الفريضة افتقر إلى تعيينها، كأداء الصلاة والثاني: لا يحتاج إلى تعيينها، ويدل عليه قوله في "البويطي".
الشرح: ينبغي للمتيمم لفريضة أن ينوي استباحة تلك الفريضة بعينها، فإن نوى استباحة الفرض مطلقا ولم يعين فوجهان مشهوران في طريقة العراقيين أصحهما: يجزئه ويستبيح أي فريضة أراد، اتفق الأصحاب على تصحيحه، وبه قطع جمهور الخراسانيين. ونقل إمام الحرمين اتفاق طرق المراوزة عليه، قال: والوجه الآخر حكاه العراقيون وهو مطرح لا التفات إليه، وصرح القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي وآخرون من الطريقتين بأن اشتراط تعيين الفريضة غلط والقائلون بالاشتراط هم أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وأبو القاسم الصيمري، واختاره أبو علي السنجي -بالسين المهملة والنون والجيم- حكاه عنهم الرافعي.
وأما قول المصنف: "وعليه يدل قوله في "البويطي" فالمذكور في "البويطي" أنه إذا نوى فريضتين كان له أن يصلي إحداهما. ووجه الدلالة منه أنه خيره بينهما فلو وجب التعيين لم يستبح واحدة منها، وللقائل الآخر أن يجيب عن هذا النص ويقول: إنما جوز له أن يصلي إحداهما لأنه نواها وعينها ونوى معها غيرها فلغي الزائد. قال أصحابنا: فإذا قلنا بالمذهب أن التعيين ليس بشرط، فنوى استباحة الظهر فله أن يصلي فريضة أخرى، وإذا نوى الحاضرة صلى الفائتة، وكذا عكسه والله أعلم.
أما إذا لم ينو الفريضة بل نوى استباحة النافلة أو نوى استباحة الصلاة ولم يقصد فرضا ولا نفلا ففيه ثلاث طرق الصحيح منها عند جمهور الأصحاب أنه لا يستبيح الفرض في الصورتين.
والثاني: في استباحته قولان، واختار الروياني في "الحلية" الاستباحة.
والثالث: إن نوى النفل ففي استباحة الفرض القولان، وإن نوى الصلاة فقط استباح الفرض قولا واحدا، وهذا الطريق اختيار إمام الحرمين والغزالي قال الإمام: لأن الصلاة اسم جنس تتناول الفرض والنفل، ويخالف ما لو نوى المصلي الصلاة فإنها لا تنعقد إلا نفلا، لأن الصلاة لا يمكن أن يجمع فيها بين فرض ونفل بنية واحدة فحمل على الأقل وهو النفل. وأما التيمم فيمكن الجمع في نيته بين فرض ونفل، فحملت الصلاة في نيته على الجنس، ثم إذا قلنا بالمذهب في الصورتين، وهو

 

ج / 2 ص -178-       قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يصح التيمم إلا بنية الفرض، فإن نوى بتيممه صلاة مطلقة أو صلاة نافلة لم يستبح الفريضة. وحكى شيخنا أبو حاتم القزويني أن أبا يعقوب الأبيوردي حكى عن "الإملاء" قولا آخر أنه لا يستبيح به الفرض، ووجهه أنه طهارة فلم يفتقر إلى نية الفرض كالوضوء. والذي يعرفه البغداديون من أصحابنا، كالشيخ أبي حامد وشيخنا القاضي أبي الطيب أنه يستبيح به الفرض لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستباح به الصلاة، فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه بخلاف الوضوء، فإنه يرفع الحدث فاستباح به الجميع، وهل يفتقر إلى تعيين الفريضة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر لأن كل موضع افتقر إلى نية الفريضة افتقر إلى تعيينها، كأداء الصلاة والثاني: لا يحتاج إلى تعيينها، ويدل عليه قوله في "البويطي".
الشرح: ينبغي للمتيمم لفريضة أن ينوي استباحة تلك الفريضة بعينها، فإن نوى استباحة الفرض مطلقا ولم يعين فوجهان مشهوران في طريقة العراقيين أصحهما: يجزئه ويستبيح أي فريضة أراد، اتفق الأصحاب على تصحيحه، وبه قطع جمهور الخراسانيين. ونقل إمام الحرمين اتفاق طرق المراوزة عليه، قال: والوجه الآخر حكاه العراقيون وهو مطرح لا التفات إليه، وصرح القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي وآخرون من الطريقتين بأن اشتراط تعيين الفريضة غلط والقائلون بالاشتراط هم أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وأبو القاسم الصيمري، واختاره أبو علي السنجي -بالسين المهملة والنون والجيم- حكاه عنهم الرافعي.
وأما قول المصنف: "وعليه يدل قوله في "البويطي" فالمذكور في "البويطي" أنه إذا نوى فريضتين كان له أن يصلي إحداهما. ووجه الدلالة منه أنه خيره بينهما فلو وجب التعيين لم يستبح واحدة منها، وللقائل الآخر أن يجيب عن هذا النص ويقول: إنما جوز له أن يصلي إحداهما لأنه نواها وعينها ونوى معها غيرها فلغي الزائد. قال أصحابنا: فإذا قلنا بالمذهب أن التعيين ليس بشرط، فنوى استباحة الظهر فله أن يصلي فريضة أخرى، وإذا نوى الحاضرة صلى الفائتة، وكذا عكسه والله أعلم.
أما إذا لم ينو الفريضة بل نوى استباحة النافلة أو نوى استباحة الصلاة ولم يقصد فرضا ولا نفلا ففيه ثلاث طرق الصحيح منها عند جمهور الأصحاب أنه لا يستبيح الفرض في الصورتين.
والثاني: في استباحته قولان، واختار الروياني في "الحلية" الاستباحة.
والثالث: إن نوى النفل ففي استباحة الفرض القولان، وإن نوى الصلاة فقط استباح الفرض قولا واحدا، وهذا الطريق اختيار إمام الحرمين والغزالي قال الإمام: لأن الصلاة اسم جنس تتناول الفرض والنفل، ويخالف ما لو نوى المصلي الصلاة فإنها لا تنعقد إلا نفلا، لأن الصلاة لا يمكن أن يجمع فيها بين فرض ونفل بنية واحدة فحمل على الأقل وهو النفل. وأما التيمم فيمكن الجمع في نيته بين فرض ونفل، فحملت الصلاة في نيته على الجنس، ثم إذا قلنا بالمذهب في الصورتين، وهو

 

ج / 2 ص -179-       المجردة، والصواب ما سبق، وهل يستبيحون صلاة النفل؟ فيه وجهان مشهوران، حكاهما الماوردي وابن الصباغ والمتولي والشاشي وآخرون.
أحدهما: يجوز كعكسه. وأصحهما: لا، لأن النافلة آكد، ولنا وجه شاذ مذكور في "التتمة" والبحر وغيرهما: أنه لا يصح التيمم لمس المصحف إلا إذا احتاج إليه بأن كان مسافرا. وليس معه من يحمله، ووجه في "التهذيب" وغيره: أنه لا يصح تيمم منقطعة الحيض بنية استباحة الوطء، وقد سبق مثله في الغسل، ووجه أنه يصح إن كان لها زوج، وإلا فلا، حكاه المتولي في باب نية الوضوء وهذه الأوجه ضعيفة. فإذا قلنا في هذه المسائل يستبيح النافلة، ففي استباحته الفرض الطريقان السابقان، المذهب أنه لا يستبيحه ولو نوى استباحة الصلاة مطلقا وقلنا -بالأصح- أنه لا يستبيح الفرض استباح النفل، وهذه الأشياء على المذهب وفيه وجه في "البحر" تفريعا على أن النفل لا يصح استباحته منفردا، قال الماوردي ولا يستبيح في هذه الصورة الطواف، وفي هذا نظر ولو تيمم للجنازة استباحها وهل هو كالتيمم للنفل أم للفرض؟ فيه وجهان في "التهذيب" وغيره أصحهما: كالنافلة. صححه الرافعي وغيره لأنها وإن تعينت فهي كالنفل فإنها تسقط بفعل غيره بخلاف المكتوبة، والله أعلم.
المسألة الثانية: إذا نوى استباحة فريضة مكتوبة استباحها ويستبيح النفل قبلها وبعدها، في الوقت وبعده، هذا هو المذهب الصحيح المشهور. وحكى الخراسانيون وجها أنه لا يستبيح في هذه الصورة النفل مطلقا، ووجها أنه يستبيحه ما دام وقت الفريضة باقيا ولا يستبيحه بعده.  ووافقهم على هذا الوجه من العراقيين المحاملي والشيخ نصر وقطع به الدارمي. وحكاه إمام الحرمين عن نقل العراقيين. ولنا -قول- أنه لا يستبيح النفل قبل الفريضة ويستبيحه بعدها، وقد ذكره المصنف في أواخر الباب والصحيح ما سبق. أما إذا نوى الفريضة والنافلة معا فيستبيحهما جميعا بلا خلاف. قال إمام الحرمين: اتفقت الطرق على هذا. وحينئذ له التنفل قبل الفرض وبعده، ووافق عليه المخالفون في التي قبلها وطرد الرافعي فيه الوجه بالمنع مع النفل بعد خروج الوقت، وليس بشيء.
قال الشيخ أبو محمد في "الفروق": لو تيمم للظهر في وقتها وصلاها، ثم دخل وقت العصر، لم يجز له فعل سنة الظهر بذلك التيمم على أحد الوجهين. ولو لم يصل الظهر في وقتها، فقضاها في وقت العصر، وقضى سنة الظهر بذلك التيمم جاز بلا خلاف تبعا للفريضة. قال: على هذا الأصل ينبغي أن يقال: من نسي العشاء فذكرها وقت الظهر قضاها وقضى الوتر قولا واحدا. وإنما القولان في قضاء الوتر إذا فعل العشاء في وقتها. وهذا الذي، قاله في الوتر فيه نظر، ولا أعلم من وافقه عليه والله أعلم.

فرع في مسائل تتعلق بنية التيمم
إحداها: في ضبط ما تقدم مختصرا، فإذا نوى رفع الحدث لم يصح تيممه على المذهب وفيه وجه، وإن نوى استباحة نافلة استباحها وما يتبعها من مس المصحف وسجود تلاوة وغيره مما سبق

 

ج / 2 ص -180-       دون الفرض، هذا هو المذهب، وفي وجه لا يصح تيممه وفي قول: يباح الفرض أيضا.
ولو نوى الفرض بلا تعيين فالمذهب أنه يباح أي فرض أراد، وفي وجه لا يصح تيممه حتى يعين الفرض، ولو نوى الصلاة فله النفل وحده على الأصح وقيل: الفرض أيضا، وقيل: تيممه باطل. ولو نوى الفرض وحده استباحه والنفل قبله وبعده، في الوقت وبعده، وفي وجه لا يباح النفل، وفي وجه يباح في الوقت فقط، وفي قول يباح بعد الفرض لا قبله، ولو نواهما أبيحا كيف شاء، وفي وجه لا يباح النفل بعد الوقت.
الثانية: نوى استباحة فريضتين فوجهان مشهوران عند الخراسانيين وذكرهما من العراقيين الدارمي أصحهما: يصح تيممه وبه قطع جمهور العراقيين. وهو نصه في "البويطي" كما سبق لأنه نواها وغيرها، فلغا الزائد 1 والثاني: لا يصح لأنه نوى ما لا يباح فلغت نيته فعلى الأول قال الجمهور: يصلي أيتهما شاء، وهو نصه في "البويطي" وشذ الدارمي فقال: يصلي الأولى، فخصه بالأولى وليس بشيء.
الثالثة: لو نوى فرض التيمم فوجهان مشهوران للخراسانيين أحدها: يصح كما لو نوى المتوضئ فرض الوضوء. قال الروياني: فعلى هذا هو كالتيمم للنفل وأصحهما: لا يصح. قال إمام الحرمين: والفرق أن الوضوء مقصود في نفسه، ولهذا استحب تجديده بخلاف التيمم، قال الرافعي: ولو نوى إقامة التيمم المفروض فهو كنية فرض التيمم، فلا يصح في الأصح. قال البغوي: ولو نوى فرض الطهارة ففيه الوجهان الأصح لا يصح. وقال الماوردي: لو نوى التيمم وحده أو الطهارة وحدها لم يصح، وقد سبق عن القاضي أبي الطيب أنه لو نوى الطهارة عن الحدث لم يصح والله أعلم.
الرابعة: لو تيمم عن الحدث الأصغر غالطا ظانا أن حدثه الأصغر فكان جنبا أو عكسه صح تيممه بلا خلاف عندنا. وحكى القاضي أبو الطيب وغيره عن مالك وأحمد أنه لا يصح، واحتج المزني والأصحاب بأن مقتضاهما واحد فلا أثر للغلط، وأنكر الشيخ أبو محمد هذا في كتابه "الفروق" وقال: هذه العلة منتقضة بمن عليه فائتة ظنها الظهر فقضاها ثم بان أنها العصر فلا تجزئه بالاتفاق وإن كان مقتضاهما واحدا، قال: والعلة الصحيحة أن الجنب ينوي بتيممه ما ينويه المحدث وهو استباحة الصلاة فلا فرق.
وأما الصلاة فيجب تعيينها فإذا نوى الظهر فقد نوى غير ما عليه، والمتيمم نوى ما عليه، وذكر القاضي حسين عن الأصحاب أنهم أنكروا على المزني هذه العلة وقالوا: الصواب التعليل بنحو ما ذكره الشيخ أبو محمد، وهذا الإنكار على المزني فيه نظر. والأظهر أن كلامه صحيح، والفرق بينه وبين الصلاة ظاهر. هذا كله إذا كان غالطا، فإن تعمد فنوى الأكبر وعليه الأصغر أو عكسه مع علمه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  لغا يلغو وبابه قال أي بطل, ولغا الرجل تكلم باللغو أما المتعدي منه فمهموز (ط).

 

ج / 2 ص -181-       ففي صحته وجهان حكاهما المتولي سبق مثلهما في باب نية الوضوء، والأصح البطلان لتلاعبه. ولو أجنب في سفره ونسي جنابته وكان يتوضأ عند وجود الماء ويتيمم عند عدمه ثم ذكر جنابته لزمه إعادة صلوات الوضوء دون صلوات التيمم. ذكره صاحب العدة، وهو ظاهر على ما سبق.
الخامسة: تيمم لفائتة ظنها عليه فبان أن لا فائتة عليه لم يصح تيممه بخلاف ما لو توضأ لفائتة ظنها فبان أن لا فائتة. فإنه يصح وضوءه، ولو تيمم لفائتة ظنها الظهر فبانت العصر لم يصح، ولو توضأ لفائتة ظنها الظهر فبانت العصر صح، والفرق ما فرق به البغوي وغيره بأن التيمم يبيح ولا يرفع الحدث ونيته صادفت استباحة ما لا يستباح، والوضوء يرفع الحدث وإذا ارتفع استباح ما شاء. قال البغوي والمتولي والروياني: لو ظن أن عليه فائتة، ولم يتحققها فتيمم لها ثم تذكرها لم يجز أن يصليها بذلك التيمم لأن وقت الفائتة بالتذكر. قال المتولي: ولأن المقصود من التيمم استباحة الصلاة وما لم يتحققها لا يباح له فعلها. وهذا التعليل فاسد، فإن فعلها مباح، بل مستحب، وقد أنكر عليهم الشاشي هذا فحكاه ثم قال: وعندي في هذا نظر لأنه أمر بالتيمم لها لتوهم بقائها عليه فإذا تحقق بقاؤها عليه كان أولى بالإجزاء. هذا كلامه، وينبغي أن يكون في صحته وجهان كما سبق فيمن شك هل أحدث؟ فتوضأ محتاطا، ثم بان أنه كان محدثا هل يصح وضوءه؟ وقد يفرق بضعف التيمم والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإذا أراد التيمم فالمستحب له أن يسمي الله عز وجل لأنه طهارة عن حدث فاستحب اسم الله تعالى عليه كالوضوء ثم ينوي ويضرب بيديه على التراب ويفرق أصابعه، فإن كان التراب ناعما فترك الضرب ووضع اليدين جاز ويمسح بهما وجهه ويوصل التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه، وإلى ما ظهر من الشعور، ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الحاجبين والشاربين والعذارين والعنفقة. ومن أصحابنا من قال: يجب ذلك كما يجب إيصال الماء إليه في الوضوء. والمذهب الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف التيمم واقتصر على ضربتين ومسح وجهه بإحداهما ومسح اليدين بالأخرى، وبذلك لا يصل التراب إلى باطن هذه الشعور، ويخالف الوضوء لأنه لا مشقة في إيصال الماء إلى ما تحت هذه الشعور، وعليه مشقة في إيصال التراب فسقط وجوبه، ثم يضرب ضربة أخرى فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى ويمرها على ظهر الكف فإذا بلغ الكوع جعل أطراف أصابعه على حرف الذراع ثم يمر ذلك إلى المرفق ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمره عليه ويرفع إبهامه، فإذا بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى، ثم يمسح بكفه اليمنى يده اليسرى مثل ذلك، ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل بين أصابعهما لما روى أسلع رضي الله عنه قال:
"قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا جنب فنزلت آية التيمم فقال يكفيك هكذا فضرب بكفيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما وجهه ثم أمرهما على لحيته ثم أعادهما إلى الأرض فمسح بهما الأرض ثم دلك إحداهما بالأخرى ثم مسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما". والفرض مما ذكرناه: النية ومسح الوجه ومسح اليدين بضربتين أو أكثر، وتقديم الوجه على اليد. وسننه: التسمية، وتقديم اليمنى على اليسرى".

 

ج / 2 ص -182-       الشرح: هذه القطعة يجمع شرحها مسائل:
إحداها: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف التيمم بضربتين صحيح تقدم بيانه، وحديث أسلع غريب ضعيف رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف وفيه مخالفة لما في المهذب في اللفظ وبعض المعنى وهو أسلع بفتح الهمزة وبالسين والعين المهملتين على وزن أحمد وهو الأسلع بن شريك بن عوف التميمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب راحلته.
والكف مؤنثة، سميت بذالك لأنها تكف عن البدن أي تمنع ما يقصده من ضربة ونحوها. والكوع - بضم الكاف - وهو طرف العظم الذي يلي الإبهام والرسغ هو مفصل الكف وله طرفان وهما عظمات، الذي يلي الإبهام كوع، والذي يلي الخنصر كرسوع ويقال في الكوع كاع كبوع وباع، والذراع تؤنث وتذكر والتأنيث أفصح والإبهام مؤنثة، وقد تذكر وسبق بيانها في صفة الوضوء والراحة معروفة وجمعها راح. والمسألة الثانية: يستحب التسمية في أول التيمم لما ذكره المصنف، وقوله لأنه طهارة عن حدث احتراز من الدباغ وغيره من إزالات النجاسات وليس مراده بالقياس على الوضوء أن أحدا خالف في التيمم ووافق في الوضوء فألزمه ما يوافق عليه، بل مراده أن النص ورد في الوضوء فألحقنا التيمم به، وتقدمت صفة التسمية وفروعها في باب صفة الوضوء، وظاهر إطلاق المصنف والأصحاب: أنه يستحب التسمية لكل متيمم، سواء كان حدثه أصغر أم أكبر كما سبق في الغسل.
الثالثة: قوله: ثم ينوي ويضرب يديه على التراب ويمسح وجهه، هكذا عبارة أكثر الأصحاب، وقال الماوردي في "الإقناع" والغزالي في "الخلاصة" والشيخ نصر في "الانتخاب" والشاشي في "العمدة": ينوي عند مسح وجهه، واقتصروا على هذه العبارة، وظاهرها أنه لا تجب النية قبله كما في الوضوء 1. قال البغوي والرافعي: يجب أن ينوي مع ضرب اليد على التراب ويستديم النية إلى مسح جزء من الوجه، قالا: فلو ابتدأ النية بعد أخذ التراب أو نوى مع الضرب ثم عزبت نيته قبل مسح شيء من الوجه لم يصح لأن القصد إلى التراب. وإن كان واجبا فليس بركن مقصود، وإنما المقصود منه نقل التراب، فمسح الوجه هو المقصود فتجب النية عنده. وحكى الرافعي -فيما إذا قارنت النية نقل التراب وعزبت قبل مسح شيء من الوجه وجها- غريبا أنه يجزئه والله أعلم.
وأما قوله: ويضرب يديه على التراب، فإن كان ناعما فترك الضرب ووضع اليدين جاز فمتفق عليه، كذا صرح به أصحابنا، ونص الشافعي على الضرب. قال أصحابنا: أراد إذا لم يعلق الغبار إلا بالضرب أو أراد التمثيل لا الاشتراط قال أصحابنا: ولا يشترط اليد، بل المطلوب نقل التراب، سواء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الشاشي من تسمى بهذا الاسم كثير من الشافعية أولهم القفال محمد بن علي الشاشي الكبير ويليه ولده القاسم الشاشي الصغير أما صاحب كتاب "العمدة" أو المعتمد فهو محمد بن أحمد بن الحسين فخر الإسلام أبو بكر الشاشي ولد سنة 429 بميافارقين وتوفي يوم السبت 25 من شوال سنة 507 ودفن مع شيخه الشيخ أبي إسحاق الشيرازي صاحب "المهذب" رحمها الله تعالى (ط).

 

ج / 2 ص -183-       حصل بيد أو خرقة أو خشبة أو نحوها، ونص عليه الشافعي في الأم، قال في الأم: واستحب أن يضرب بيديه جميعا والله أعلم. 
وأما قوله: ويفرق أصابعه في ضربة مسح الوجه فكذا نص عليه الشافعي في "مختصر المزني"، وفي "البويطي". وكذا قاله جميع أصحابنا العراقيين، وأطبقوا عليه في كتبهم المشهورة، وجعلوه مستحبا. وكذا نقله عن جميع العراقيين جماعات، منهم صاحب البيان، وكذا قاله جماعة من أصحابنا الخراسانيين، قالوا: وفائدة استحباب التفريق زيادة تأثير الضرب في إثارة الغبار، وليكون أسهل وأمكن في تعميم الوجه بضربة واحدة. وقال أكثر الخراسانيين: لا يفرق في ضربة الوجه، فإن فرق ففي صحة تيممه وجهان وجه البطلان أنه يصير ناقلا لتراب اليد قبل مسح الوجه، فإن التراب الذي يحصل بين الأصابع لا يزول في مسح الوجه فيمنع انتقال تراب آخر وأحسن البغوي من الخراسانيين في بيان المسألة فقال: نص الشافعي أنه يفرق في الضربتين فقال بعض أصحابنا: لا يفرق في الأولى، فإن فرق فيها دون الثانية لم يصح مسح ما بين الأصابع لأنه مسح بتراب أخذ قبل مسح الوجه، وإن فرق في الضربتين فوجهان أحدهما: يجوز لأنه أخذ لليدين ترابا جديدا.
والثاني: لا يجوز لأن بعض المأخوذ أولا بقي بين أصابعه فيصير كما لو كان على وجهه تراب فنقل إليه ترابا آخر من غير أن ينفض الأول فإنه لا يجوز، قال: والمذهب عندي أنه إذا فرق في الضربتين صح كما نص عليه ولا بأس بأخذ تراب اليد قبل مسح الوجه حتى لو ضرب يديه على تراب، فمسح بيمينه جميع وجهه، وبيساره يمينه جاز، والترتيب واجب في المسح دون أخذ التراب، هذا كلام البغوي، والقائل بأنه لا يجوز التفريق في الأولى مطلقا هو القفال، واستبعد إمام الحرمين والغزالي قوله. وقالا: هذا تضييق للرخصة. قال الإمام: هذا الذي قاله القفال غلو ومجاوزة حد وليس بالمرضي اتباع شعب الفكر ودقائق النظر في الرخص، وقد تحقق من فعل الشارع ما يشعر بالتسامح فيه، قال: ولم يوجب أحد من أئمتنا على من يريد التيمم أن ينفض، الغبار عن وجهه ويديه أولا، ثم يبتدئ بنقل التراب إليها مع العلم بأن المسافر في تقلباته لا يخلو عن غبار يغشاه فليقتصر على أن ترك التفريق في الأولى ليس؛ بشرط. هذا كلام الإمام. وقطع صاحب "العدة" بأنه لو فرق في الأولى دون الثانية جاز، وقال الروياني: قال القفال: نقل المزني تفريق الأصابع في الأولى، قال القفال: فصوبه جميع أصحابنا وعندي أنه غلط في النقل، ولم يذكر الشافعي ذلك في الأولى إنما ذكره في الثانية. قلت: هذا اعتراف من القفال بمخالفته جميع الأصحاب، ودعواه غلط المزني باطلة من وجهين: أحدهما: أن التغليط لا يصار إليه، وللكلام وجه ممكن، وهذا النقل له وجه كما سبق بيان فائدته. والثاني: أن المزني لم ينفرد بهذا، بل قد وافقه في نقله "البويطي" كما قدمته، كذلك رأيته صريحا في كتاب "البويطي" رحمه الله وجمع الرافعي متفرق كلام الأصحاب وأنا أنقله مختصرا قال: روى المزني التفريق في الأولى، فمن الأصحاب من غلطه منهم القفال وصوبه الآخرون وهو الأصح ثم القائلون بالأول اختلفوا في أنه هل يجوز التفريق في الأولى؟ فجوزه الأكثرون، قالوا: وإن لم

 

ج / 2 ص -184-       يفرق في الثانية أجزأه ذلك التراب الذي بين الأصابع لما بينها. وقال قائلون منهم القفال: لا يصح تيممه، ثم قال الرافعي بعد هذا: صحح الأصحاب رواية المزني وهي المذهب هذا كلام الرافعي.
وإنما بسطت هذه المسألة وأطنبت فيها هذا الإطناب، وإن كان ما ذكرته مختصرا بالنسبة إليها لأني رأيت كثيرا من أكابر عصرنا ينتقضون صاحب المهذب والتنبيه بقوله: "يفرق في الضربة الأولى" وينسبونه إلى الشذوذ ومخالفة المذهب والأصحاب والدليل. وهذه أعجوبة من العجائب، وحاصلها اعتراف صاحبها بعظيم من الجهالة ونهاية من عدم الاطلاع وتسفيهه للأصحاب وكذبه عليهم، بل على الشافعي، فقد صح التفريق في الأولى عن الشافعي بنقل إمامين هما أجل أصحابه وأتقنهم باتفاق العلماء وهما "البويطي" والمزني، وصح التفريق أيضا عن جمهور الأصحاب، والله يرحمنا أجمعين.
وأما قول المصنف: "ويمسح بهما وجهه" فكذا عبارة الجمهور، وظاهرها أنه لا استحباب في البداءة بشيء من الوجه دون شيء. وقد صرح جماعة من أصحابنا باستحباب البداءة بأعلى الوجه. منهم المحاملي في "اللباب" والرافعي، وقال صاحب "الحاوي": مذهب الشافعي أنه يبتدئ بأعلى وجهه كالوضوء، قال: ومن أصحابنا من قال: يبدأ بأسفل وجهه ثم يستعلي لأن الماء في الوضوء إذا استعلي به انحدر بطبعه فعم جميع الوجه، والتراب لا يجري إلا بإمرار اليد فيبدأ بأسفله ليقل ما يصير على أعلاه من الغبار ليكون أجمل لوجهه وأسلم لعينه، والله أعلم.
وأما قوله: "ويوصل التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه وإلى ما ظهر من الشعر" فأراد بالبشرة الظاهرة ما لا شعر عليه، واحترز به عن البشرة المستترة بالشعور. وقوله: وإلى ما ظهر من الشعر يعني الشعر الذي يجب غسله في الوضوء، كذا قاله أصحابنا، قالوا: وفي إيصال التراب إلى ظاهر ما خرج من اللحية عن الوجه القولان كالوضوء.
وأما قوله: "لا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الحاجبين والشاربين والعذارين ومن أصحابنا من قال: يجب، والمذهب الأول" فكذا قاله أصحابنا، واتفقوا على أن الصحيح أنه لا يجب، وقطع به القاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي والمتولي البغوي وآخرون، وادعى إمام الحرمين أنه لا خلاف فيه، ودليل الوجهين مذكور في الكتاب وقوله: الحاجبين والشاربين والعذارين تمثيل، والمراد الشعور التي يجب إيصال الماء إليها في الوضوء، وهي الثلاثة المذكورة والعنفقة ولحية المرأة والخنثى وأهداب العين وشعر الخدين سواء خفت أو كثفت، وكذا اللحية الخفيفة للرجل صرح به أصحابنا، وحكم الشعر على الذراع حكم شعر الوجه، حكي الخلاف فيه في فتاوى القاضي حسين وجزم القاضي البغوي بأنه لا يجب إيصال التراب إلى ما تحته، كما قالا في الوجه؛ قال القاضي: ولا يستحب إيصال التراب إلى البشرة التي تحت الشعر الكثيف التي يستحب إيصال الماء إليها والله أعلم.
وأما قوله: ثم يضرب ضربة أخرى فيضع بطون أصابع يده إلخ. فهذه الكيفية ذكرها الشافعي

 

ج / 2 ص -185-       رحمه الله في "مختصر المزني"؛ واتفق الأصحاب على استحبابها، وأشار الرافعي إلى حكاية وجه أنها لا تستحب، بل هي وغيرها سواء، وليس هذا بشيء، وإنما استحبها الشافعي والأصحاب لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد في مسح اليدين على ضربة واحدة، وثبت بالأدلة وجوب استيعاب اليدين فذكروا هذه الكيفية ليبينوا صورة حصول الاستيعاب بضربة، وذكر جماعات من الأصحاب أنهم أرادوا الجواب عن اعتراض من قال: الواجب مسح الكف فقط، وأنه لا يتصور استيعاب الذراعين مع الكفين بضربة فبينوا تصوره، ولم يثبت في هذه الكيفية حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث الذي ذكره المصنف ليس فيه دلالة لها ولا هو ثابت كما سبق بيانه. وذكر الغزالي أنها سنة، ومراده أن السنة لا يزيد على ضربتين ولا يتمكن من ذلك إلا بهذه الكيفية، فكانت سنة لكونها محصلة لسنة الاقتصار على ضربة مع الاستيعاب.
قال الرافعي: وزعم بعضهم أن هذه الكيفية منقولة عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هذا بشيء، قال أصحابنا: وكيف أوصل التراب إلى الوجه واليدين بضربتين فأكثر بيده أو خرقة أو خشبة جاز، ونص عليه في "الأم" كما سبق وأما قوله: ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى. ويخلل بين أصابعهما "فاتفق جمهور العراقيين على أنه سنة ليس بواجب. ونقله ابن الصباغ عن الأصحاب مطلقا. هذا إذا كان فرق أصابعه في الضربتين أو في الثانية أما إذا فرق في الأولى فقط، وقلنا: يجزيه فيجب التخليل، وقال الخراسانيون والماوردي: في وجوب التخليل ومسح إحدى الراحتين بالأخرى وجهان.
وقال البغوي: إن قصد بإمرار الراحتين على الذراعين مسحهما حصل وإلا فلا والصحيح طريقة العراقيين، قال العراقيون: ويسقط فرض الراحتين، وما بين الأصابع حين يضرب اليدين على التراب، قالوا: فإن قيل: إذا سقط فرض الراحتين صار التراب الذي عليهما مستعملا فكيف يجوز مسح الذراعين به؟ ولا يجوز نقل الماء الذي غسلت به إحدى اليدين إلى الأخرى؟ فالجواب من وجهين. أحدهما: أن اليدين كعضو واحد، ولهذا جاز تقديم اليسار على اليمين، ولا يصير التراب مستعملا إلا بانفصاله، والماء ينفصل عن اليد المغسولة فيصير مستعملا. الثاني: أنه يحتاج إلى هذا هاهنا فإنه لا يمكنه أن يتم الذراع بكفها، بل يفتقر إلى الكف الأخرى، فصار كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه وهذان الجوابان ذكرهما ابن الصباغ وغيره وهما مشهوران في كتب العراقيين، ونقل صاحب "البيان" وجها أنه يجوز نقل الماء من يد إلى أخرى لأنهما كيد، فعلى هذا يسقط السؤال. 
فرع: إذا كان يجري إحدى اليدين على الأخرى فرفعها قبل استيعاب العضو ثم أراد أن يعيدها للاستيعاب فوجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره أحدهما: لا يجوز لأن الباقي على الماسحة صار بالفصل مستعملا. والثاني: يجوز قال وهو الأصح لأن المستعمل هو الباقي على الممسوح، وأما الباقي على الماسحة فهو في حكم التراب الذي يضرب عليه اليد مرتين.
فرع: وأما قول المصنف: الواجب من ذلك النية ومسح الوجه واليدين بضربتين فصاعدا، وترتيب اليد على الوجه. وسننه: التسمية، وتقديم اليمنى على اليسرى ففيه نقص. قال أصحابنا :

 

ج / 2 ص -186-       أركان التيمم ستة متفق عليها وهي: النية، ومسح الوجه، واليدين، وتقديم الوجه على اليدين، والقصد إلى الصعيد، ونقله. وثلاثة مختلف فيها أحدها: الموالاة وفيها ثلاث طرق 1:
المذهب: أنها سنة ليست بواجبة، وتقدم بيانها في صفة الوضوء والثاني: الترتيب في نقل التراب للوجه واليدين وفيه وجهان حكاهما الرافعي وغيره أصحهما: لا يجب فله أن يأخذ التراب بيديه جميعا ويمسح بيمينه وجهه وبيساره يمينه، هذا هو الذي اختاره البغوي كما سبق والثاني: يجب تقديم النقل للوجه قبل النقل لليد. والثالث: استيفاء ضربتين، قطع المصنف وسائر العراقيين وجماعة من الخراسانيين بأنه واجب، وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي، ولم يذكر أكثر الخراسانيين ذلك في الواجبات ولا تعرضوا له.
وقال الرافعي: قد تكرر لفظ الضربتين في الأحاديث، فجرت طائفة من الأصحاب على الظاهر، فقالوا: لا يجوز أن ينقص منهما، وقال آخرون: الواجب إيصال التراب إلى الوجه واليدين سواء كان بضربة أو أكثر، قال: وهذا أصح لكن يستحب أن لا يزيد على ضربتين ولا ينقص، وفيه وجه أنه يستحب ضربة للوجه وضربة لليد اليمنى وثالثة لليسرى. والأول هو المشهور. هذا كلام الرافعي في "الشرح" ، وقطع في كتابه "المحرر" بأن الضربتين سنة، والمعروف ما قدمته. فهذه الواجبات المتفق عليها المختلف فيها، وقد استوفى المصنف المتفق عليه فإن قيل: فلم يذكر القصد إلى الصعيد وهو أحد الأركان الستة، قلنا: بل ذكره في الفصل الذي بعد هذا، ولم يستوعب بهذه العبارة جميع الفروض، بل قال: الفرض مما ذكرناه، والقصد ليس مما ذكره والله أعلم.
وأما السنن فكثيرة إحداها: التسمية.
الثانية: تقديم اليد اليمنى على اليسرى. الثالثة: الموالاة على المذهب. الرابعة: أن يبدأ بأعلى وجهه على الأصح، وقيل بأسفله كما سبق.
الخامسة: أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل الأصابع على الصحيح وقيل يجبان كما سبق. السادسة: أن لا يزيد على ضربتين، قال المحاملي في "اللباب" والروياني: الزيادة على مسحة للوجه ومسحة لليدين مكروهة، وحكى الرافعي وجها أنه يستحب تكرار المسح كالوضوء وليس بشيء لأن السنة فرقت بينهما ولأن في تكرار الغسل زيادة تنظيف بخلاف التيمم. السابعة: أن يخفف التراب المأخوذ وينفخه إذا كان كثيرا بحيث يبقي قدر الحاجة وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الطرق أن يكون للشافعي رحمه الله أكثر من قول فيذهب أصحابه إلى الاختلاف فيها فبعضهم يقول إنها على قولين أو على ثلاثة وبعضهم يقول: ليست على اختلاف أقوال وإنما هي على اختلاف أحوال ثم يتبين من خلال الاختلاف الراجح فيقال له المذهب فالمذهب هو الراجح من الطرق والأظهر هو الراجح من الأقوال والأصح هو الراجح من الأوجه, والأقوال والقول ما كان للشافعي واختلاف أصحابه في المسائل اسمه الأوجه وترى هذا التنويع فيما يلي في قوله بعد قليل (على المذهب) و(على الأصح) و(على الصحيح) (ط).

 

ج / 2 ص -187-       نفخ في يديه بعد أخذ التراب، ونص عليه الشافعي والأصحاب، وقال صاحب "الحاوي": نص في القديم أنه يستحب ولم يستحبه في الجديد، فقال بعض أصحابنا فيه قولان: القديم يستحب والجديد لا يستحب، وقال آخرون على حالين، إن كان كثيرا نفخ وإلا فلا والثامنة: أن يديم يده على العضو لا يرفعها حتى يفرغ من مسحه، وفي هذا وجه أنه واجب وقد سبق. التاسعة: أن يستقبل القبلة كالوضوء. العاشرة: إمرار التراب على العضو تطويلا للتحجيل كما سبق في الوضوء، وليخرج من خلاف من أوجبه. وممن صرح باستحبابه المتولي البغوي، ونقله صاحب "البحر" عن الأصحاب، وحكى الرافعي وجها ضعيفا أنه لا يستحب. الحادية عشرة: ينبغي أن يستحب بعده النطق بالشهادتين كما سبق في الوضوء والغسل، وربما دخل في السنن بعض ما سأذكره إن شاء الله تعالى في فرع المسائل الزائدة.
فرع: يجب الترتيب في تيمم الجنابة كما يجب في تيمم الحدث الأصغر فيمسح وجهه ثم يديه، وإن كان لا يجب الترتيب في غسل الجنابة، قال الشيخ أبو محمد: والفرق أن الترتيب إنما يظهر في المحلين المختلفين ولا يظهر في المحل الواحد، فالبدن في الغسل شيء واحد، فصار كعضو من أعضاء الوضوء، وأما الوجه واليدان في التيمم فمحلان مختلفان والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "قال في الأم: فإن أمر غيره حتى يممه ونوى هو جاز كما يجوز في الوضوء وقال ابن القاص: "لا يجوز قلته تخريجا". وقال في الأم: وإن سفت عليه الريح ترابا عمه فأمر يديه على وجهه لم يجزه لأنه لم يقصد الصعيد، وقال القاضي أبو حامد: هذا محمول عليه إذا لم يقصد، فأما إذا صمد للريح فسفت عليه التراب أجزأه وهذا خلاف المنصوص".
الشرح: في الفصل مسألتان:
إحداهما: إذا يممه غيره بإذنه، ونوى الآمر إن كان معذورا، كأقطع ومريض وغيرهما جاز بلا خلاف، وإن كان قادرا فوجهان الصحيح والمنصوص جوازه كالوضوء وبهذا قال جمهور الأصحاب. والثاني: لا يجوز وهو قول ابن القاص، وقوله قلته تخريجا هو من كلام ابن القاص، وإنما قال هذا لأن عادته في كتابه "التلخيص" أن يذكر المسائل التي نص عليها الشافعي، ويقول عقبه قاله نصا، وإذا قال شيئا غير منصوص وقد خرجه هو قال: قلته تخريجا، وهذه المسألة خرجها من التي بعدها وهي مسألة الريح.
وابن القاج / 2 ص -بتشديد الصاد المهملة- هو أبو العباس وقد ذكرت  في أبواب المياه، أما إذا يممه غيره بغير أمره وهو مختار ونوى، فهو كما لو صمد في الريح. قاله إمام الحرمين والغزالي وغيرهما وهو واضح.
المسألة الثانية: إذا ألقت عليه الريح ترابا استوعب وجهه ثم يديه، فإن لم يقصدها لم يجزه بلا خلاف، وإن قصدها وصمد لها ففيه خلاف مشهور حكاه الأصحاب وجهين وحقيقته قولان.

 

ج / 2 ص -188-       أحدهما: لا يصح وهو الصحيح نص عليه في "الأم" وهو قول أكثر أصحابنا المتقدمين، وقطع به جماعات من المتأخرين وصححه جمهور الباقين ونقله إمام الحرمين عن الأئمة مطلقا، قال: والوجه الآخر ليس معدودا من المذهب. والثاني: يصح، وهو قول القاضي أبي حامد، واختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني، قال الروياني في كتابيه "البحر" والحلية: واختاره الحليمي والقاضي أبو الطيب وجماعة قال: وهو الاختيار والأصح، وحكاه صاحب "التتمة" قولا قديما، والمذهب الأول، وصورة المسألة إذا قصد ثم وقع عليه التراب فلو وقع عليه ثم قصد لم يجزه بلا خلاف، وهذا - وإن كان ظاهرا يفهم من كلام المصنف - فلا يضر إيضاحه.
وقوله: "ترابا عمه" هو بالعين المهملة، أي استوعبه هذا هو المشهور المعروف، وذكره أبو القاسم بن البزري وغيره -بالغين المعجمة- أي غطاه وهو صحيح أيضا وبمعنى الأول لكن الأول أجود، وقوله: صمد "هو بالصاد والميم على وزن قصد وبمعناه والله أعلم.
فرع: إذا كان على بعض أعضائه تراب فتيمم به نظر إن أخذه من غير أعضاء التيمم ومسحها به جاز بلا خلاف، نص عليه الشافعي والأصحاب، كما لو أخذه من الأرض، وإن كان على وجهه فرده عليه ومسحه به لم يجزه بلا خلاف لعدم النقل، وإن أخذه من الوجه ومسح به أو أخذه من اليد ومسح به الوجه فوجهان، أصحهما هو نصه في "الأم" جوازه لوجود النقل، ولو أخذه من الوجه ففصله ثم رده إليه، أو أخذه من اليد ففصله ثم رده إليها فطريقان حكاهما صاحب "التهذيب" وغيره، أصحهما على الوجهين، والثاني: لا يجوز وجها واحدا، لأنه ليس بنقل حقيقي، ولو تمعك في التراب فوصل وجهه ويديه، إن كان لعذر كالأقطع وغيره جاز بلا خلاف وإلا فوجهان الصحيح جوازه، صححه الأصحاب ونقله الروياني عن نصه في الأم. قال إمام الحرمين: الوجه القطع بالجواز. قال: ولا أرى للخلاف وجها لأن الأصل قصد التراب وقد حصل، ولو مد يده فصب غيره فيها ترابا، أو ألقت الريح ترابا على كمه فمسح به وجهه أو أخذه من الهواء فمسح به فوجهان الأصح جوازه، صححه الروياني والرافعي وغيرهما.
 

فرع في مسائل تتعلق بما سبق
إحداها: ينبغي أن يمسح وجهه بالتراب ولا يقتصر على وضعه عليه، فإن ضرب يده على التراب ثم وضعها على وجهه ولم يمرها، فقد قال البغوي والرافعي: يجوز على أصح الوجهين كما قلنا في مسح الرأس، وقطع الشيخ أبو محمد في "الفروق" والمتولي بأنه لا يجزيه، قال المتولي: بخلاف الوضوء فإن الماء إذا وضع على العضو يحس به ويسيل والتراب لا يتعدى، فيتحقق وصول الماء إلى جميع العضو، ولا يتحقق في التراب إلا بإمرار اليد. قال: حتى لو لم يتحقق وصول الماء وجب الإمرار، ولو تحقق وصول التراب بأن كان كثيرا صح تيممه.
الثانية: قال القاضي حسين البغوي: إذا أحدث المتيمم بعد أخذه التراب وقبل المسح بطل ذلك الأخذ وعليه الأخذ ثانيا، بخلاف ما لو أحدث بعد أخذ الماء بل غسل الوجه فإنه لا يضره لأن

 

ج / 2 ص -189-       المطلوب في الوضوء الغسل لا نقل الماء وهنا المطلوب نقل التراب، وأما إذا يممه غيره، فقال القاضي: يجب أن ينوي الآمر عند ضرب المأمور يده على الأرض، فلو أحدث أحدهما بعد النية والضرب لم يضر، بل يجوز أن يمسح بعد ذلك، بخلاف ما لو أخذ التراب بنفسه ثم أحدث فإنه يبطل الأخذ لأن هناك وجد هيئة القصد الحقيقي فصار كما لو استأجر رجلا ليحج عنه، ثم جامع المستأجر في مدة إحرام الأجير فإنه لا يفسد الحج. قال الرافعي: هذا الذي قاله القاضي مشكل وينبغي أن يبطل بحدث الآمر.
الثالثة: إذا ضرب يده على تراب على بشرة امرأة أجنبية -فإن كان التراب كثيرا يمنع التقاء البشرتين- صح تيممه وإلا فلا. كذا قاله القاضي حسين، ونحوه في "التهذيب" وغيره، لأن الملامسة حدث قارن النقل وهو ركن فصار كمقارنته مسح الوجه. وقال المتولي: أخذه لوجهه صحيح ولا يضر اللمس معه، لأن العبادة هي المسح لا الأخذ. فإن أخذ بعد ذلك ليديه بطل مسح وجهه لأنه أحدث قال الرافعي: قول القاضي هو الوجه.
الرابعة: إذا كانت يده نجسة فضربها على تراب طاهر ومسح بها وجهه جاز على أصح الوجهين، وبه قطع البغوي والروياني، وقد تقدمت المسألة في باب الاستطابة. ولا يصح مسح اليد النجسة بلا خلاف، كما لا يصح غسلها في الوضوء مع بقائها نجسة. ولو تيمم ثم وقعت عليه نجاسة فقال إمام الحرمين: لا يبطل تيممه قطعا وقال المتولي: فيه وجهان كما لو تيمم ثم ارتد لأنها تمنع إباحة الصلاة. والصواب قول الإمام. ولو تيمم قبل الاجتهاد في القبلة ففي صحته وجهان، كما لو تيمم وعليه نجاسة، ذكره في البحر، ولو تيمم مكشوف العورة صح بالاتفاق، وقد ذكرناه في باب الاستطابة.
الخامسة: قال أصحابنا: إذا قطعت يده من بعض الساعد، وجب مسح ما بقي من محل الفرض، فإن قطع من فوق المرفق فلا فرض عليه، ويستحب أن يمس الموضع ترابا كما سبق في الوضوء. حتى قال البندنيجي والمحاملي: لو قطع من المنكب استحب أن يمسح المنكب كما قلنا في الوضوء وبهذا اللفظ نص عليه الشافعي في الأم، قال العبدري: هذا الذي ذكرناه من استحباب غسل موضع القطع فوق المرفق في الوضوء ومسحه بالتراب في التيمم هو مذهبنا ومذهب مالك وزفر وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: يجب غسله في الوضوء، ومسحه في التيمم. دليلنا أنه فات محل الوجوب، قال أصحابنا: وكل ما ذكرناه في الوضوء من الفروع في قطع اليد وزيادة الكف والأصبع وتدلي الجلدة يجيء مثله في التيمم، قال الدارمي: لو انقطعت أصابعه وبقيت متعلقة باليد فهل ييممها؟ فيه وجهان قلت: قياس المذهب القطع بوجوب التيمم، ولو لم يخلق له مرفق استظهر حتى يعلم. قال أصحابنا: ولو كان في أصبعه خاتم فلينزعه في ضربة اليدين ليدخل التراب تحته، قال صاحب "العدة" وغيره: ولا يكفيه تحريكه بخلاف الوضوء لأن الماء يدخل تحته بخلاف التراب.
السادسة : يتصور تجديد التيمم في حق المريض والجريح ونحوهما ممن يتيمم مع وجود الماء إذا تيمم وصلى
فرضا ثم أراد نافلة، ويتصور في حق من لا يتيمم إلا مع عدم الماء إذا تيمم وصلى

 

ج / 2 ص -190-       فرضا ولم يفارق موضعه وقلنا لا يجب الطلب ثانيا، وهل يستحب التجديد في هذين الموضعين؟ فيه وجهان حكاهما الشاشي المشهور: لا يستحب، وبه قطع القفال والقاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي والروياني وآخرون لأنه لم ينقل فيه سنة ولا فيه تنظيف، واختار الشاشي استحبابه كالوضوء. السابعة: اتفق أصحابنا أنه يشترط إيصال الغبار إلى جميع بشرة اليد من أولها إلى المرفق، فإن بقي شيء من هذا لم يمسه غبار لم يصح تيممه. وزاد الشافعي هذا بيانا فقال في الأم: لو ترك من وجهه أو يديه قدرا يدركه الطرف أو لا يدركه لم يمر عليه التراب، لم يصح تيممه وعليه إعادة كل صلاة صلاها كذلك. ونقل إمام الحرمين هذا عن الأصحاب ثم قال: وهذا مشكل فإن الضربة الثانية التي لليدين إذا ألصقت ترابا بالكفين فالظاهر أنه يصل ما لصق بالكف إلى مثل سعتها من الساعدين، ولست أظن ذلك الغبار ينبسط على الساعدين ظهرا وبطنا ثم على ظهور الكفين، وقد ورد الشرع بالاقتصار على ضربتين، وهذا مشكل جدا فلا يتجه إلا مسلكان أحدهما: المصير إلى القول القديم وهو الاكتفاء بمسح الكفين والثاني: أن نوجب إثارة الغبار، ثم نكتفي بإيصال جرم اليد مسحا إلى الساعدين من غير تكليف بسط التراب في عينه، والذي ذكره الأصحاب أنه يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقينا. فإن شك وجب إيصال التراب إلى موضع الشك حتى يتيقن انبساط التراب على جميع المحل ونحن نقطع بأن هذا ينافي الاقتصار على ضربة واحدة لليدين، فالذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط الفكر بانبساط الغبار، وهذا شيء أظهرته ولم أر بدا منه وما عندي أن أحدا من الأصحاب يسمح بأنه لا يجب بسط التراب على الساعدين. هذا كلام إمام الحرمين، وهذا الذي اختاره ظاهر والله أعلم.
فرع: مذهبنا أنه يجب إيصال التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه والشعر الظاهر عليه قال العبدري: وبه قال أكثر العلماء. وعن أبي حنيفة روايات إحداها: كمذهبنا وهي التي ذكرها الكرخي في مختصره والثانية: إن ترك قدر درهم منه لم يجزه ودونه يجزيه والثالثة: إن ترك دون ربع الوجه أجزأه وإلا فلا.  و الرابعة: إن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه وإلا فلا. حكاه الطحاوي عنه وعن أبي يوسف وزفر. وحكى ابن المنذر عن سليمان بن داود أنه جعله كمسح الرأس دليلنا بيان النبي صلى الله عليه وسلم وقد استوعب الوجه، والقياس على الوضوء والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يجوز التيمم للمكتوبة إلا بعد دخول وقتها، لأنه قبل دخول الوقت مستغن عن التيمم، كما لو تيمم مع وجود الماء فإن تيمم قبل دخول الوقت لفائتة فلم يصلها حتى دخل الوقت ففيه وجهان قال أبو بكر بن الحداد: يجوز أن يصلي به الحاضرة لأنه تيمم وهو غير مستغن عن التيمم فأشبه إذا تيمم للحاضرة بعد دخول وقتها، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأنها فريضة تقدم التيمم على وقتها فأشبه إذا تيمم لها قبل دخول الوقت".

 

ج / 2 ص -191-       الشرح: شروط صحة التيمم أربعة:
أحدها: كون المتيمم أهلا للطهارة وقد سبق بيانه في باب نية الوضوء الثاني: كون التراب مطلقا وقد سبق بيانه الثالث: أن يكون المتيمم معذورا بفقد الماء أو العجز عن استعماله وسيأتي بيانه في الفصول بعده الرابع: أن يكون التيمم بعد دخول الوقت واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن التيمم للمكتوبة لا يصح إلا بعد دخول وقتها. قال أصحابنا: سواء كان التيمم للعجز عن استعمال الماء بسبب عدمه أو لمرض أو جراحة وغير ذلك.
ولو أخذ التراب على يديه قبل الوقت ومسح بهما وجهه في الوقت لم يصح، بل يشترط الأخذ في الوقت كما يشترط المسح فيه لأنه أحد أركان التيمم فأشبه المسح. صرح به البغوي وغيره. قال أصحابنا: فلو خالف وتيمم لفريضة قبل وقتها لم يصح لها بلا خلاف ولا يصح أيضا للنافلة على الصحيح المشهور المنصوص في "البويطي"، وقال صاحب "التتمة" وغيره في صحة تيممه للنفل وجهان بناء على القولين فيمن أحرم بالظهر قبل الزوال هل تنعقد صلاته نفلا؟ ونقل الشاشي هذا الخلاف عن بعض الأصحاب، ثم قال: هذا خلاف نصه في "البويطي" ويخالف الصلاة فإنه أحرم بها معتقدا دخول وقتها فانعقدت نفلا، وهنا تيمم عالما بعدم دخول الوقت فلم يصح.
واعلم أن قولهم: لا يصح التيمم قبل الوقت معناه قبل الوقت الذي تصح فيه تلك الصلاة، فلو جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر وتيمم للعصر بعد سلامه من الظهر صح. لأن هذا وقت فعلها. هذا إذا قلنا بالمذهب الصحيح المشهور أنه يجوز الجمع بين الصلاتين للمتيمم، ولا يضر الفصل بالتيمم. وفيه وجه لأبي إسحاق المروزي أنه لا يصح الجمع بسبب الفصل، وليس بشيء. ولو تيمم وصلى الظهر ثم تيمم ليضم إليها العصر فدخل وقت العصر قبل أن يشرع فيها فقد حكى صاحب "البحر" عن والده أنه قال اجتهادا لنفسه: بطل الجمع ولا يصح هذا التيمم للعصر، لوقوعه قبل وقتها مع بطلان الجمع، وقطع الرافعي بهذا وفيه احتمال ظاهر، ويجوز أن يخرج جواز فعلها بهذا التيمم على الوجهين في التيمم لفائتة قبل وقت الحاضرة هل تباح به الحاضرة؟ ويمكن الفرق بأنه في مسألة الفائتة صح تيممه لما نوى واستباحه فاستباح غيره بدلا، وهنا لم يستبح ما نوى على الصفة التي نوى فلم يستبح غيره، أما إذا أراد الجمع في وقت العصر، فتيمم للظهر في وقت الظهر، فإنه يصح لأنه وقتها. ولو تيمم فيه للعصر لم يصح لأنه لم يدخل وقتها. ذكره الروياني، وهو ظاهر، قال أصحابنا: والفائتة وقتها بتذكرها فلا يصح التيمم لها، إلا إذا تذكرها، فلو شك هل عليه فائتة؟ فتيمم لها، ثم بان أن عليه فائتة فقد سبق في آخر فصل نية التيمم أن المشهور أنه لا يصح تيممه، والله أعلم. أما إذا تيمم لمكتوبة في أول وقتها، وأخر الصلاة إلى أواخر الوقت فصلاها بذلك التيمم، فإنه يصح على المذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي، وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق كلها، قالوا: وكذا يجوز أن يصليها بذلك التيمم بعد خروج الوقت، وهذا بشرط ألا يفارق موضعه، ولا يتجدد ما يتوهم بسببه حصول ماء. وحكى الماوردي والروياني والشاشي فيه وجهين,

 

ج / 2 ص -192-       الأصح المنصوص هذا. والثاني: قول ابن سريج والإصطخري أنه يلزمه تعجيل الصلاة عقب التيمم، ولا يؤخر إلا قدر الأذان والإقامة والتنفل بما هو من مسنونات فرضه. فإن أخر عن هذا بطل تيممه لأنها طهارة ضرورة فلزم تعجيلها كطهارة المستحاضة، والمذهب الأول، لأن حدث المستحاضة يتجدد بعد الطهارة، بخلاف المتيمم. أما إذا تيمم شاكا في دخول الوقت فبان أنه كان قد دخل فلا يصح تيممه لعدم شرطه وهو العلم بالوقت حال التيمم، صرح به الماوردي وآخرون وقد سبقت هذه القاعدة وأمثلتها في باب مسح الخف.
أما إذا تيمم لفائتة فلم يصلها حتى دخل وقت فريضة حاضرة، فهل له أن يصلي بذلك التيمم تلك الحاضرة؟ فيه وجهان مشهوران في الطريقتين، وقد ذكر المصنف دليلهما، قال ابن الحداد: يجوز وهو الصحيح عند الأصحاب. والثاني: لا يجوز قاله الشيخ أبو زيد المروزي، وأبو عبد الله الخضري -بكسر الخاء وإسكان الضاد المعجمتين- ولو تيمم للظهر في وقتها، ثم تذكر فائتة، فهل له أن يصلي به الفائتة؟ فيه طريقان مشهوران. أحدهما: أنه على الوجهين والثاني: القطع بالجواز، والفرق أن الفائتة واجبة في نفس الأمر حال التيمم، بخلاف الحاضرة في المسألة الأولى.
ووافق أبو زيد والخضري على الجواز هنا، ونقل القاضي أبو الطيب في "شرح الفروع" اتفاق الأصحاب على الجواز هنا، ولو تيمم لفائتة ثم تذكر قبل قضائها فائتة أخرى فقال القفال في "شرح التلخيص": اتفق الأصحاب على أن له أن يصلي بهذا التيمم الفائتة التي تذكرها، ونقل البغوي فيه الخلاف فقال: يجوز على ظاهر المذهب، وعلى الوجه الآخر لا يجوز. وهذا الذي نقله البغوي متعين. ولو تيمم لفريضة في وقتها ثم نذر صلاة فهل له أن يصلي بهذا التيمم المنذورة بدل المكتوبة؟ فيه الوجهان حكاهما الروياني وغيره. هذا كله تفريع على المذهب، وهو أن تعيين الفريضة لا يشترط في صحة التيمم، فإن شرطناه لم يصح التيمم لغير ما عينه. هذا كله في التيمم للمكتوبة.
أما النافلة فضربان، مؤقتة وغيرها، فغيرها يتيمم لها متى شاء إلا في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، فإنه لا يتيمم فيها لنافلة لا سبب لها، فإن خالف وتيمم لها فقد نص الشافعي رحمه الله في "البويطي" أنه لا يصح تيممه ولا يستبيح به النافلة بعد خروج وقت النهي. وبهذا قطع أكثر الأصحاب لأنه تيمم قبل الوقت. وقال القاضي حسين والمتولي: في صحة تيممه وجهان بناء على انعقاد هذه الصلاة في وقت النهي. وحكى هذا الخلاف الروياني والشاشي وضعفاه، ولو تيمم قبل وقت الكراهة ثم دخل لم يبطل تيممه بلا خلاف، فإذا زال وقت الكراهة صلى به.
وأما النافلة المؤقتة فعبارة المصنف هنا وفي "التنبيه" تشعر بأنه لا يشترط في التيمم لها دخول الوقت، وصرح جمهور الخراسانيين بأنه لا يصح التيمم لها إلا بعد دخول وقتها. قال الرافعي: وهذا هو المشهور في المذهب. وحكى إمام الحرمين والغزالي وجهين، أحدهما: هذا، والثاني: يجوز قبل وقتها لأن أمرها أوسع من الفرائض؛ ولهذا أجيز نوافل بتيمم واحد، فإذا قلنا بالمشهور احتجنا إلى بيان أوقات النوافل، فوقت سنن المكتوبات والوتر والضحى والعيد معروف في مواضعها ووقت الكسوف بحصول الكسوف، والاستسقاء باجتماع الناس لها في الصحراء، وتحية المسجد بدخوله,

 

ج / 2 ص -193-       والخلاف جار في جميع النوافل المؤقتة من الرواتب وغيرها، وفي عبارة الغزالي إيهام اختصاصه بالرواتب فلا يغتر به، والله أعلم. وفي وقت التيمم لصلاة الجنازة وجهان مشهوران أصحهما وأشهرهما أنه يدخل بغسل الميت لأنها في ذلك الوقت تباح وتجزئ، وبهذا قطع إمام الحرمين والغزالي في كتبه والبغوي وصاحب العدة. والثاني بالموت لأنه السبب، وبهذا قطع الغزالي في "الفتاوى" وصححه الشاشي قال القاضي حسين: والمستحب أن يتيمم بعد التكفين لأن الصلاة قبل التكفين تكره وإن كانت جائزة، ولو لم يجد ماء يغسل به الميت وقلنا بالأصح أنه لا يصح التيمم لها إلا بعد غسله وجب أن ييمم الميت أولا ثم يتيمم هو للصلاة عليه، وهذا مما يسأل عنه فيقال شخص لا يصح تيممه حتى ييمم غيره، والله أعلم.
فرع: إذا تيمم لنافلة في وقتها استباحها وما شاء من النوافل ولا يستبيح به الفرض على المذهب، والمنصوص في الأم، وفيه القول الضعيف الذي سبق أن الفرض يباح بنية النفل، فعلى هذا الضعيف يصلي به الفريضة إن تيمم في وقتها، وإن كان قبله فعلى الوجهين فيمن تيمم لفائتة ثم دخل وقت حاضرة فأرادها به. هكذا نقله إمام الحرمين عن حكاية الشيخ أبي علي السنجي. قال الإمام: وهذا بعيد جدا فإن تيممه للفائتة استعقب جواز فعل الفائتة به ثم دام إمكان أداء فرض به حتى دخل وقت الفريضة، وهنا لم يستعقب تيممه إمكان أداء فرض، أما إذا تيمم لنفل قبل الزوال وهو ذاكر فائتة فتيممه يصلح للفائتة على القول الضعيف، فلو زالت الشمس فأراد الظهر به بدلا عن الفائتة ففيه الوجهان.
فرع: هذا الذي ذكرناه من أن التيمم لمكتوبة لا يصح إلا بعد دخول وقتها هو مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وداود وجمهور العلماء.
وقال أبو حنيفة: يجوز قبل الوقت، واحتجوا بالقياس على الوضوء ومسح الخف وإزالة النجاسة، ولأنه وقت يصلح للمبدل فصلح للبدل، كما بعد دخول الوقت، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: من الآية6] إلى قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6] فاقتضت الآية أنه يتوضأ ويتيمم عند القيام، خرج جواز تقديم الوضوء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع، بقي التيمم على مقتضاه لأنه تيمم وهو مستغن عن التيمم، فلم يصح، كما لو تيمم ومعه ماء. فإن قالوا ينتقض بالتيمم في أول الوقت فإنه مستغن، وإنما يحتاج في أواخر الوقت قلنا: بل هو محتاج إلى براءة ذمته من الصلاة وإحراز فضيلة أول الوقت، ولأنها طهارة ضرورة فلم تصح قبل الوقت كطهارة المستحاضة فقد وافقوا عليها.
قال إمام الحرمين في "الاساليب": ثبت جواز التيمم بعد الوقت، فمن جوزه قبله فقد حاول إثبات التيمم المستثنى عن القاعدة بالقياس، وليس ما قبل الوقت في معنى ما بعده. والجواب عن قياسهم على الوضوء أنه قربة مقصودة في نفسها ترفع الحدث بخلاف التيمم فإنه ضرورة فاختص بحال الضرورة كأكل الميتة، ولأن التيمم لإباحة الصلاة ولا تباح الصلاة قبل الوقت. والجواب عن مسح الخف أنه رخصة وتخفيف فلا يضيق باشتراط الوقت، يدل على أنه رخصة للتخفيف جوازه مع

 

ج / 2 ص -194-       القدرة على غسل الرجل، والتيمم ضرورة ولهذا لا يجوز مع القدرة على استعمال الماء. والجواب عن إزالة النجاسة أنها طهارة رفاهية فالتحقت بالوضوء بخلاف التيمم. 
وقولهم: "يصلح للمبدل فصلح للبدل" ينتقض بالليل فإنه يصلح لعتق الكفارة دون بدلها وهو الصوم، وينتقض بيوم العيد، فإنه يصلح لنحر هدي التمتع دون بدله وهو الصوم، قال الدارمي: قال أبو سعيد الإصطخري: لا نناظر الحنفية في هذه المسألة لأنهم خرقوا الإجماع فيها، والله أعلم.
فرع: ذكر المصنف أبا بكر بن الحداد، وهذا أول موضع ذكره 1، وهو محمد بن أحمد القاضي صاحب الفروع من نظار أصحابنا ومتقدميهم في العصر والمرتبة والتدقيق، تفقه على أبي إسحاق المروزي وكان عارفا بالعربية والمذهب وانتهت إليه إمامة أهل مصر في زمنه، توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة رحمه الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يجوز التيمم بعد دخول الوقت إلا لعادم الماء أو الخائف من استعماله، فأما الواجد فلا يجوز له التيمم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ما لم يجد الماء" فإن وجد الماء وهو محتاج إليه للعطش فهو كالعادم لأنه ممنوع من استعماله، فأشبه إذا وجد ماء و[حال] بينهما سبع".
الشرح: هذا الحديث صحيح سبق بيانه في أول الباب من رواية أبي ذر رضي الله عنه، ومذهبنا ومذهب مالك والجمهور أنه لا يجوز التيمم مع وجود ماء يقدر على استعماله ولا يحتاج إليه لعطش ونحوه، سواء خاف خروج الوقت لو توضأ أم لا؟ وسواء صلاة العيد والجنازة وغيرهما، وحكى البغوي وجها أنه إذا كان معه ماء وخاف فوات وقت الصلاة لو اشتغل بالوضوء صلى بالتيمم لحرمة الوقت ثم يتوضأ ويعيد الصلاة، وهذا الوجه شاذ ليس بشيء، وحكى العبدري مثله عن الأوزاعي والثوري ورواية عن مالك، وقال أبو حنيفة: يجوز التيمم لصلاة العيد والجنازة مع وجود الماء إذا خاف فوتهما، وحكي هذا عن الزهري والأوزاعي والثوري وإسحاق ورواية عن أحمد، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم "أقبل من نحو بئر جمل فسلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام حتى تيمم بالجدار ثم رد عليه" وهو صحيح سبق بيانه. 
وروى البيهقي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه تيمم وصلى على جنازة وعن ابن عباس رضي الله عنهما في رجل تفجؤه جنازة، قال: "يتيمم ويصلي عليها"، قالوا: ولأنها يخاف فوتها فأشبه العادم، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6]  وبالحديث المذكور في الكتاب وبأحاديث كثيرة مصرحة بأن التيمم لا يجوز مع وجود الماء، وبالقياس على غيرهما من الصلوات، وبالقياس على الجمعة إذا خاف فوتها، وهذا قياس الشافعي.
فإن قالوا: الجمعة تنتقل إلى بدل فلا تفوت من أصلها، قلنا: لا نسلم بل تفوت الجمعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذا بالإضافة إلى "المهذب" أما نحن فقد ترجمناه في حاشية الجزء الأول "ط".

 

ج / 2 ص -195-       بخروج وقتها، وقد نقل الشيخ أبو حامد وغيره الإجماع على أنها تفوت بخروجه، والجنازة لا تفوت بل يصليها على القبر إلى ثلاثة أيام بالإجماع، ويجوز بعدها عندنا، وبالقياس على من هو عار وفي بيته ثوب لو ذهب إليه فاتته، وبالقياس على إزالة النجاسة. والجواب عن الحديث من وجهين أحدهما: أنه يحتمل أنه تيمم لعدم الماء والثاني: جواب القاضي أبي الطيب وصاحب "الحاوي" والشيخ نصر وغيرهم أن الطهارة للسلام ليست بشرط فخف أمرها بخلاف الصلاة، وأما الأثران عن ابن عمر وابن عباس فضعيفان، وقولهم: "يخاف فوتهما "ينتقض بالجمعة والله أعلم.
هذا حكم واجد الماء الذي لا يخاف من استعماله ولا يحتاج إليه لعطش، فأما الخائف فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى، وأما من يحتاج إليه للعطش فهو كالعادم فيتيمم مع وجوده، وهذا لا خلاف فيه، نقل ابن المنذر وغيره الإجماع عليه، واتفق أصحابنا على أنه إذا احتاج إليه لعطش نفسه أو رفيقه أو حيوان محترم من مسلم أو ذمي أو مستأمن أو بهيمة جاز التيمم بلا إعادة. قال أصحابنا: ويحرم عليه الوضوء في هذه الحالة، وقد نبه المصنف على هذا بقوله: "لأنه ممنوع من استعماله" يعني أنه ممنوع من استعماله شرعا منع تحريم، ولا فرق بين أن يدفعه إلى المحتاج هبة أو بعوض، صرح به الغزالي في "الخلاصة" وصاحبا "التتمة" والتهذيب وآخرون، ولو كان محتاجا إليه لعطشه فآثر به محتاجا لعطشه وتيمم جاز ولا إعادة، بخلاف ما لو آثره لوضوئه، فإنه يعصي ويعيد على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى.
والفرق أن الحق في الطهارة متمحض لله تعالى، فلا يجوز تفويته، وأما الشرب فمعظم المطلوب منه حق نفسه، والإيثار في حظوظ النفوس من عادة الصالحين، وقد صرح الأصحاب بالمسألة في كتاب الأطعمة، وسنزيدها إيضاحا هناك إن شاء الله تعالى، وممن ذكرها هنا الشيخ أبو محمد والغزالي في "البسيط" أما إذا كان الحيوان غير محترم كالحربي والمرتد والخنزير والكلب، وسائر الفواسق الخمس المذكورة في الحديث وما في معناها، فلا يجوز صرف الماء إلى سقيها بالاتفاق، بل يجب الوضوء به، فإن سقاها وتيمم أثم ولزمه الإعادة إن تيمم مع بقاء الماء، وإن كان بعد السقي فهو كإراقة الماء سفها؛ وسيأتي حكمها حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى، وأما العطش المبيح للتيمم فقال إمام الحرمين والغزالي في "البسيط": القول فيه كالقول في الخوف المعتبر في المرض، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
ثم اتفق أصحابنا على أنه لا فرق بين عطشه في الحال، وثاني 1 الحال فله تزود الماء إذا احتاج إليه للعطش قدمه بلا خلاف، قال الجمهور: وكذا لو خشي عطش رفيقه أو حيوان محترم فليتزود ويتيمم ولا إعادة عليه، وحكى إمام الحرمين عن والده أنه كان يقول يتزود لعطش رفيقه كما ذكرنا. قال الإمام: وفي هذا نظر. قال الرافعي: الظاهر الذي اتفق عليه الجمهور أنه يتزود لرفيقه كنفسه فلا فرق بين الروحين. قال المتولي: لو كان يرجو وجود الماء في غده ولا يتحققه فهل له

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  كذا في ش وق لعلها "تأنى" الاسم الأناة أو تالي باللام (ط).

 

ج / 2 ص -196-       التزود؟ فيه وجهان، قلت: الأصح الجواز لحرمة الروح، قال المتولي: ولا نأمر العطشان أن يتوضأ بالماء ثم يجمعه ويشربه لأن النفس تعافه. قال الرافعي: كان والدي يقول: ينبغي أن يلزمه ذلك إذا أمكن ولا يجوز التيمم، قال: ما ذكره والدي يجيء وجها في المذهب، لأن أبا علي الزجاجي والماوردي وآخرين ذكروا في كتبهم أن من معه ماء طاهر وآخر نجس - وهو عطشان - يشرب النجس ويتوضأ بالطاهر، فإذا أمروا بشرب النجس ليتوضأ بالطاهر فأولى أن يؤمر بالوضوء ويشرب المستعمل.
قلت: هذا الذي حكاه الرافعي عن هؤلاء مشكل، وقد حكاه الشاشي في كتابيه عن الماوردي ثم ضعفه، واختار أنه يشرب الطاهر ويتيمم، وهذا هو الصواب، فيشرب الطاهر ويكون وجود النجس كالعدم فإنه لا يحل شربه إلا إذا عدم الطاهر، وقولهم: إنه بدخول الوقت صار مستحقا للطهارة لا يسلم، فإنما يستحق للطهارة إذا لم يحتج إليه وهذه المسألة مفروضة فيما إذا عطش بعد دخول الوقت، أما إذا عطش قبله فيشرب الطاهر، ويحرم شرب النجس بلا خلاف، صرح به الماوردي وهو واضح.
فرع: قال أصحابنا لو كان معه ماء لا يحتاج إليه للعطش، لكن يحتاج إلى ثمنه في نفقته ومؤنة سفره جاز التيمم، صرح به القاضي حسين والمحاملي في "اللباب" والمتولي والروياني.
فرع: إذا ازدحم جمع على بئر لا يمكن الاستقاء منها إلا بالمناوبة لضيق الموقف أو لاتحاد آلة الاستقاء ونحو ذلك - فإن كان يتوقع وصول النوبة إليه قبل خروج الوقت لم يجز التيمم، وإن علم أنها لا تصل إليه إلا بعد خروج الوقت، فقد حكى جمهور الخراسانيين عن الشافعي رحمه الله أنه نص على أنه يصبر ليتوضأ بعد الوقت وأنه نص فيما لو حضر جمع من العراة وليس معهما إلا ثوب يتناوبونه وعلم أن النوبة لا تصل إليه إلا بعد الوقت أنه يصبر ولا يصلي عاريا، ولو اجتمعوا في سفينة أو بيت ضيق، وهناك موضع يسع قائما فقط، نص أنه يصلي في الحال قاعدا، واختلفوا في هذه النصوص على طريقين. أظهرهما: وهي التي قال بها الشيخ أبو زيد المروزي وقطع بها صاحب "الإبانة" ونقلها عن الأصحاب مطلقا، أن المسائل كلها على قولين. أظهرهما: يصلي في الوقت بالتيمم وعاريا وقاعدا لأنه عاجز في الحال، والقدرة بعد الوقت لا تؤثر كما لو كان مريضا عاجزا عن القيام واستعمال الماء في الوقت ويغلب على ظنه القدرة بعده، فإنه يصلي في الوقت قاعدا وبالتيمم، فعلى هذا القول لا إعادة عليه في المسائل كلها كالمريض. 
وذكر إمام الحرمين احتمالا في وجوب الإعادة على المصلي قاعدا لندوره، وذكر البغوي في وجوب الإعادة عليهم كلهم قولين، وقال: أصحهما 1 تجب، كالعاجز الذي معه ماء لا يجد من


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  يلاحظ أن الشارح رحمه الله لم يتحر بدقة ما سبق أن نوهنا به في التزام اصطلاحات المذهب ولعل الحرص على هذا من الأظهر والأصح والطريق والمذهب والقول والوجه والصحيح والغريب والشاذ فإن المتأخرين أكثر دقة في التزام هذه الاصطلاحات من المتقدمين (ط).

 

ج / 2 ص -197-       يوضئه، فإنه يتيمم ويصلي ويعيد، والمذهب الصحيح المشهور ما قدمته أنه لا إعادة عليهم لأنهم عاجزون في الحال وجنس عذرهم غير نادر بخلاف ما قاس عليه البغوي.
والقول الثاني من أصل المسألة: يصبر إلى ما بعد الوقت، لأنه ليس عاجزا مطلقا، والطريق الثاني: تقرير النصوص، والفرق بأن أمر القيام أسهل من الوضوء والستر، ولهذا جاز تركه في النافلة مع القدرة ولم يجز فيها العري والتيمم مع القدرة على الستر والماء، وهذا الفرق مشهور قاله القفال والأصحاب وضعفه إمام الحرمين بأن القيام ركن في الفريضة فلا ينفع تخفيف أمره في النفل.
قال الرافعي: وللفارق أن يقول: ما كان واجبا في الفرض والنفل، أهم مما وجب في أحدهما، هذا هو المشهور في حكاية النصوص، وقال جماعة كثيرة من الأصحاب: لا نص للشافعي في مسألة البئر، ونص في الأخريين على ما سبق، فمنهم من نقل وخرج قولين في المسألتين ومنهم من قرر النصين وفرق بوجهين أحدهما: ما سبق والثاني: أن للقيام بدلا وهو القعود بخلاف الستر، وبهذا الطريق قطع المصنف في آخر باب ستر العورة، والشيخ أبو حامد والشيخ أبو محمد في "الفروق" والقاضي حسين والبغوي. قال الرافعي: وهؤلاء ألحقوا مسألة البئر بمسألة السفينة، وقالوا يتيمم في الحال، واعلم أن إمام الحرمين والغزالي رحمهما الله أجريا الخلاف الذي في هذه المسألة فيما إذا لاح للمسافر الماء ولا عائق عنه، لكن ضاق الوقت، وعلم أنه لو اشتغل به لخرج الوقت والله أعلم.
ونقل القاضي أبو الطيب اتفاق الأصحاب على أنه لو كان معه ثوب نجس، ومعه ماء يغسله به، ولكن لو اشتغل بغسله لخرج الوقت لزمه غسله وإن خرج الوقت، ولا يصلي عاريا، كما لو كان معه ماء يتوضأ به أو يغترفه من بئر ولا مزاحم له لكن ضاق الوقت بحيث لو اشتغل بالوضوء خرج الوقت، وصارت صلاته قضاء فإنه لا يصلي بالتيمم بل يشتغل بالوضوء.
فرع: قال الشافعي في "الأم" والأصحاب رحمهم الله: لو كان في سفينة في البحر، ولا يقدر على الماء ولا على الاستقاء تيمم وصلى، ولا إعادة عليه لأنه عادم.
فرع: قال أصحابنا: لو عدم الماء ووجد بئرا فيها ماء لا يمكنه النزول إليه إلا بمشقة شديدة وليس معه ما يدليه إلا ثوبه أو عمامته لزمه إدلاؤه ثم يعصره إن لم تنقص قيمة الثوب أكثر من ثمن الماء، فإن زاد النقص على ثمن الماء تيمم ولا إعادة وإن قدر على استئجار من ينزل إليها بأجرة المثل لزمه ولم يجز التيمم وإلا جاز بلا إعادة، ولو كان معه ثوب إن شقه نصفين وصل الماء وإلا لم يصل، فإن كان نقصه بالشق لا يزيد على الأكثر من ثمن الماء، وثمن آلة الاستقاء لزمه شقه، ولم يجز التيمم وإلا جاز بلا إعادة.
فرع: قال الماوردي: لو عدم الماء وعلم أنه لو حفر موضعه وصل الماء فإن كان يحصل بحفر قريب لا مشقة فيه وجب الحفر ولم يجز التيمم وإلا جاز بلا إعادة.
فرع: لو وجد المسافر خابية ماء مسبل على الطريق لم يجز أن يتوضأ منه، بل يتيمم ويصلي

 

ج / 2 ص -198-       ولا إعادة، لأن المالك وضعه للشرب لا للوضوء ذكره أبو عاصم العبادي صاحب التتمة، ونقله صاحب "البحر" عن الأصحاب قال أبو عاصم وغيره: ويجوز الشرب منه للغني والفقير، والله أعلم.
فرع: في مسائل ذكرها القاضي حسين هنا في "تعليقه" ولها تعلق بمسألة خوف العطش قال: إذا كان معه دابة من حمار وغيره، لزمه أن يحصل لها الماء لعطشها وكذا إذا كان معه كلب محترم، ككلب صيد وغيره فإن وجد من يبيعه الماء له بثمن مثله لزمه شراؤه وإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله لزمه أيضا شراؤه، وهل تلزمه الزيادة على ثمن المثل؟ فيه وجهان.
أحدهما: تلزمه لأنه عقد صدر من أهله فهو كما لو باعه غير الماء بأضعاف ثمنه.
والثاني: لا تلزمه لأنه كالمكره على هذه الزيادة لوجوب الشراء عليه، فإن لم يبعه صاحبه ولم يكن محتاجا إليه جاز لصاحب الكلب أن يكابره عليه، ويأخذه منه قهرا لكلبه ودابته، كما يأخذه لنفسه فإن كابره فأتى الدفع على نفس صاحب الماء كان دمه هدرا، وإن أتى على صاحب الكلب كان مضمونا. قال: ولو احتاج كلبه إلى طعام، ومع غيره شاة فهل له أن يكابره عليها لكلبه، فيه وجهان، أحدهما: نعم كالماء.
والثاني: لا؛ لأن للشاة حرمة أيضا، لأنها ذات روح، ومتى كان صاحبه محتاجا إليه لا يجوز مكابرته بحال، فلو كان صاحبه يحتاج إليه في المنزل الثاني، وهناك من يحتاج إليه في المنزل الأول فوجهان أحدهما: صاحبه أولى لأنه مالكه والثاني: المحتاج أولى لتحقق حاجته في الحال، ولو كان معه ثوب لا يحتاج إليه، وغيره محتاج، فهو كالماء على ما سبق. فإن كان الأجنبي يحتاج إليه لستر العورة للصلاة، لزمه شراؤه بثمن المثل، ولا يلزمه بالزيادة، وإن كان يحتاج إليه للبرد فباعه بأكثر من ثمن المثل ففي لزوم الزيادة الوجهان، وإن لم يبعه فحكم مكابرته حكم الماء. هذا كلام القاضي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يجوز لعادم الماء أن يتيمم إلا بعد الطلب، لقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6]. ولا يقال لم يجد إلا بعد الطلب، ولأنه بدل أجيز عند عدم المبدل فلا يجوز فعله إلا بعد ثبوت العدم كالصوم في الكفارة لا يفعله حتى يطلب الرقبة، ولا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت، لأنه إنما يطلب ليثبت شرط التيمم وهو عدم الماء، فلم يجز في وقت لا يجوز فيه فعل التيمم، والطلب أن ينظر عن يمينه وشماله، وأمامه ووراءه، فإن كان بين يديه حائل من جبل أو غيره صعده ونظر حواليه، وإن كان معه رفيق سأله عن الماء".
الشرح: في الفصل مسائل إحداها: لا يجوز لعادم الماء التيمم إلا بعد طلبه، هذا مذهبنا وبه قال مالك وداود وهو رواية عن أحمد. قال أبو حنيفة: إن ظن بقربه ماء لزمه طلبه وإلا فلا. واحتج له بأنه عادم للأصل فانتقل إلى بدله، كما لو عدم الرقبة في الكفارة، ينتقل إلى الصوم، واحتج أصحابنا بقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا} [المائدة: من الآية6] قال الشافعي والأصحاب: لا يقال لم يجد إلا لمن طلب فلم

 

ج / 2 ص -199-       يصب. فأما من لم يطلب فلا يقال: لم يجد. ونقلوا هذا عن أهل اللغة قالوا: ولهذا لو قال لوكيله: اشتر لي رطبا فإن لم تجد فعنبا لا يجوز أن يشتري العنب قبل طلب الرطب، وبالقياس على الرقبة في الكفارة والهدي في التمتع فإنه لا ينتقل إلى بدلهما إلا بعد طلبهما في مظانهما. وبالقياس على الحاكم فإنه لا ينتقل إلى القياس إلا بعد طلب النص في مظانه، ولأنه شرط من شروط الصلاة قد يصادف بالطلب، فوجب طلبه كالقبلة. وأما قياسهم على الرقبة فرده أصحابنا وقالوا: لا ينتقل إلى الصوم إلا بعد طلب الرقبة في مظانها، والله أعلم. المسألة الثانية: هذا الذي أطلقه المصنف من القطع بوجوب الطلب بكل حال هو الذي أطلقه العراقيون وبعض الخراسانيين، وقال جماعات من الخراسانيين: إن تحقق عدم الماء حواليه لم يلزمه الطلب، وبهذا قطع إمام الحرمين والغزالي وغيرهما واختاره الروياني. ومنهم من ذكر فيه وجهين، قال الرافعي: أصح الوجهين في هذه الصورة أنه لا يجب الطلب. قال إمام الحرمين: إنما يجب الطلب إذا توقع وجود الماء توقعا قريبا أو مستبعدا، فإن ` قطع بأن لا ماء هناك بأن يكون في بعض رمال البوادي فيعلم بالضرورة استحالة وجود ماء لم نكلفه التردد لطلبه لأن طلب ما يعلم استحالة وجوده محال، ثم هذا الذي ذكره هؤلاء هو فيما إذا تيقن أن لا ماء هناك، فأما إذا ظن العدم ولم يتيقنه فيجب الطلب بلا خلاف عند جميعهم، وصرحوا كلهم به إلا صاحب "الإبانة" فإنه حكى فيه وجهين وأنكرهما إمام الحرمين عليه وقال: لست أثق بهذا النقل وإنما الوجهان في التيمم الثاني، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
الثالثة: قال أصحابنا: لا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت ودليله ما ذكره المصنف، فإن طلب وهو شاك في دخول الوقت ثم بان أنه وافق الوقت لم يصح طلبه. صرح به الماوردي وآخرون كما قلنا في التيمم نفسه، وكما لو صلى شاكا في الوقت أو إلى جهة بغير اجتهاد فوافق، فإنه لا يصح. وقد سبقت هذه القاعدة في فرع - في باب مسح الخف - فإن قيل: إذا طلب قبل الوقت فدخل الوقت ولم يفارق موضعه، ولا تجدد ما يحتمل وجود ماء، كان طلبه ثانيا عبثا. فالجواب ما أجاب به صاحب "الشامل" وغيره أنه إنما يتحقق عدم وجود ماء إذا كان ناظرا إلى مواضع الطلب ولم يتجدد فيها شيء، وهذا يكفيه في الطلب بعد دخول الوقت والله أعلم.
فرع: لو طلب في أول الوقت وأخر التيمم فتيمم في آخر الوقت جاز ما لم يحدث ما يوجب تجديد الطلب، صرح به البغوي والروياني والشاشي وصاحب "البيان" وآخرون.
الرابعة: في صفة الطلب، قال أصحابنا أول الطلب أن يفتش رحله ثم ينظر حواليه يمينا وشمالا وقداما وخلفا، ولا يلزمه المشي أصلا بل يكفيه نظره في هذه الجهات وهو في مكانه هذا إن كان الذي حواليه لا يستتر عنه، فإن كان بقربه جبل صغير ونحوه صعده ونظر حواليه، إن لم يخف ضررا على نفسه أو ماله الذي معه أو المخلف في رحله فإن خاف لم يلزمه المشي إليه قال الشافعي في "البويطي": "وليس عليه أن يدور في الطلب، لأن ذلك أكثر ضررا عليه من إتيان الماء في الموضع البعيد وليس ذلك عليه عند أحد" هذا نصه بحروفه وهكذا ذكر الطلب الأصحاب في الطريقتين، كما

 

ج / 2 ص -200-       ذكرته. وحكى إمام الحرمين هذا عن صاحب التقريب، ثم حكى عن شيخه أنه يتردد قليلا، قال الإمام: وليس بينهما اختلاف عندي. بل ذلك يختلف باختلاف الأرض فنضبطه ونقول: لا يلزمه أن يبعد عن منزل الرفقة نصف فرسخ، ولا نقول: لا يفارق الخيام بل يطلب من موضع لو انتهى إليه واستغاث بالرفقة لم يبعد عنه غوثهم مع ما هم عليه من تشاغلهم بأقوالهم وأفعالهم. ويختلف باختلاف الأرض واستوائها فإن وصله نظره كفى وإلا تردد قليلا، وتابع الغزالي وغيره الإمام في هذا الضبط. قال الرافعي بعد حكايته كلام الإمام: هذا الضبط لا يوجد لغير الإمام لكن الأئمة بعده تابعوه عليه وليس في الطريق ما يخالفه قلت: بل قد خالفه الأصحاب فإن ضبطهم الذي حكيته أولا يخالف ضبطه والله أعلم.
هذا كله إذا لم يكن معه رفقة. فإن كان وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم أو يضيق الوقت فلا يبقى إلا ما يسع تلك الصلاة، هذا هو المذهب الصحيح المشهور وبه قطع البغوي وغيره، وفي وجه إلى أن يبقى من الوقت ما يسع ركعة، حكاه صاحبا "التتمة" والبحر، وفي وجه ثالث: يستوعبهم وإن خرج الوقت، حكاه الرافعي وهو والذي قبله ضعيفان. قال أصحابنا: وله أن يطلب بنفسه، وله أن يوكل ثقة عنده يطلب له، سواء فيه الطلب بالنظر في الأرض والطلب من الرفقة. قال أصحابنا: ولا يجب أن يطلب من كل واحد بعينه بل ينادي فيهم: من معه ماء؟ من يجود بالماء؟ أو نحو هذه العبارة.
قال البغوي وغيره: لو قلت الرفقة لم يلزم الطلب من كل واحد بعينه، قال أصحابنا: ولو بعث النازلون واحدا يطلب لهم أجزأ عنهم كلهم ولا فرق في جواز التوكيل في الطلب بين المعذور وغيره، هذا هو المذهب الصحيح المشهور. وحكى الخراسانيون وجها، أنه لا يجوز التوكيل في الطلب إلا لمعذور، قال المتولي: هذا الوجه مبني على الوجه السابق أنه إذا يممه غيره بلا عذر لم يصح، وهذا الوجه شاذ ضعيف، وكذا المبني عليه. ولو طلب له غيره بغير إذنه لم يجزه بلا خلاف. قال صاحب "الحاوي": والطلب من الرفقة معتبر لمنزل الذي فيه رفقته، وليس عليه طلبه في غير المنزل المنسوب إلى منزله، فيسأله من فيه من أهله وغير أهله بنفسه أو بمن يصدقه عن الماء معهم أو في منزلهم، فمن أخبره عن الماء بالمنزل لم يعتمده إلا أن يكون ثقة، ومن أخبره أن لا ماء بيده عمل بقوله وإن كان فاسقا؛ لأنه إن لم يكن صادقا فهو مانع.
قال أصحابنا: فإذا علم أن مع أحد الرفقة ماء وجب استيهابه، فإن وهب له وجب قبوله، هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، ونقله المحاملي والبغوي وغيرهما، عن نص الشافعي، وفيه وجه أنه لا يلزمه قبول الهبة حكاه المتولي وآخرون من الخراسانيين وصاحب "البيان" وهو شاذ مردود إذ لا منة فيه. ووجه ثالث: أنه يجب قبول الهبة لكن لا يجب الاستيهاب. حكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي وغيرهم لصعوبة السؤال على أهل المروءة، كما لا يجب استيهاب ثمن الرقبة في الكفارة، والمذهب الأول لأنه لا منة بالماء في العادة بخلاف الرقبة، ولهذا لو وهبت الرقبة ابتداء لم يجب قبولها بخلاف الماء، هذا كله فيمن أراد التيمم

 

 

ج / 2 ص -201-       ولم يسبق له طلب، فإن كان سبق له طلب وتيمم، وأراد تيمما آخر لبطلان الأول بحدث أو غيره أو لفريضة أخرى أو لغير ذلك، فهل يحتاج إلى إعادة الطلب؟ ينظر فإن احتمل ولو على ندور حصول الماء بأن انتقل من موضع التيمم أو طلع ركب أو سحابة أو نحو ذلك وجب الطلب بلا خلاف حسب ما تقدم، فكل موضع تيقن بالطلب الأول أن لا ماء فيه ولم يحتمل حدوث ماء فيه لهذا السبب لا يجب الطلب منه على أصح الوجهين عند الخراسانيين، والذي ظن أن لا ماء فيه يجب الطلب منه بلا خلاف على الوجه الشاذ الذي قدمناه عن صاحب "الإبانة".
وأما إذا لم يحتمل حدوث ماء ولم يفارق موضعه فإن كان تيقن بالطلب الأول أن لا ماء فحكمه ما سبق أنه لا يلزمه الطلب على الأصح عند الخراسانيين، وإن لم يتيقنه، بل ظن العدم فإنه يكفي ذلك في الأول، فهل يحتاج في الثاني إلى إعادة الطلب؟ فيه وجهان مشهوران للخراسانيين. أصحهما عند إمام الحرمين وغيره: يحتاج، وبه قطع البغوي، وهو مقتضى إطلاق العراقيين، بل صرح به جماعة منهم كالشيخ أبي حامد والماوردي لأنه قد يحصل ماء من بئر خفيت أو بدلالة شخص. فعلى هذا قال إمام الحرمين والبغوي وغيرهما: يكون الطلب الثاني أخف من الأول ولا يجب أن يطلب ثانيا من رحله لأنه علم أن لا ماء فيه علم إحاطة، قال الشيخ أبو حامد: وإذا طلب ثانيا وصلى ثم حضرت صلاة أخرى وجب الطلب لها ثالثا وهكذا كلما حضرت صلاة، قال: ولو كان عليه فوائت تيمم للأولى، ولا يجوز التيمم للثانية إلا بعد طلب ثان، وكذا يجب أن يطلب للثالثة وما بعدها قال: وكذا إذا أراد الجمع بين الصلاتين طلب للثانية وهذا الذي قاله فيه نظر.
فرع: يجوز الجمع بين الصلاتين للمتيمم، وإذا أوجبنا الطلب ثانيا لا يضر التفريق به بين الصلاتين لأنه خفيف وفيه وجه مشهور عن أبي إسحاق المروزي: أنه لا يجوز الجمع للمتيمم لحصول الفصل بالطلب وهو ضعيف في المذهب والدليل، قال القاضي أبو الطيب وغيره: لأنه إذا جاز الفصل بينهما بالإقامة - وليست بشرط - فالتيمم الذي هو شرط أولى، قالوا: ولأنا لا نكلفه في الطلب إلا أن يقف موضعه ويلتفت عن جوانبه، وهذا لا يؤثر في الجمع والله أعلم.
فرع: في مذاهب العلماء في طلب الماء، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الطلب إذا عدم الماء سواء رجاه أو توهمه، وبه قال مالك وداود وهو رواية عن أحمد وقال أبو حنيفة: إن ظن وجوده بقربه لزمه وإلا فلا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن بذله له لزمه قبوله لأنه لا منة عليه في قبوله، وإن باعه منه بثمن المثل وهو واجد للثمن غير محتاج إليه لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة والطعام للمجاعة، فإن لم يبذله له وهو غير محتاج إليه لنفسه لم يجز أن يكابره على أخذه كما يكابره على طعام يحتاج إليه للمجاعة وصاحبه غير محتاج إليه؛ لأن الطعام ليس له بدل وللماء بدل". 
الشرح: قوله: "باعه منه" صحيح، وقد عده بعض الناس في لحن الفقهاء وقال: لا يقال باع منه إنما يقال باعه وليس كما قال بل هما جائزان، وقد أوضحته في تهذيب الأسماء بدلائله وشواهده,

 

ج / 2 ص -202-       والشرى والشراء: لغتان مقصور بالياء وممدود بالألف، والمجاعة -بفتح الميم- هي المخمصة، وهي شدة الجوع، وهذه القطعة تشتمل على ثلاث مسائل:
إحداها: إذا وهب له الماء لزمه قبوله، هذا هو الصحيح المنصوص، وبه قطع الأصحاب في الطرق، وحكى صاحب "التتمة" والبيان وغيرهما وجها أنه لا يلزمه، كما لا يلزمه قبول الرقبة للكفارة، وهذا ليس بشيء لأن الماء لا يمن به في العادة بخلاف الرقبة، ولو وهب له ثمن الماء لم يلزمه قبوله بالاتفاق، ونقل إمام الحرمين الإجماع فيه، ثم الصحيح المشهور أنه لا فرق بين هبة الأجنبي والقريب، وذكر الدارمي وجماعة أن هبة الأب لابنه ثمن الماء وعكسه في وجوب قبولها وجهان كقبول المال ليحج به. وأما هبة آلة الاستقاء فكهبة ثمن الماء، ذكره القاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي وآخرون. وأما إعارتها فقطع الجمهور بوجوب قبولها مطلقا وهو الصحيح فعلى هذا هل يلزمه طلب العارية؟ فيه الوجهان السابقان في استيهاب الماء ذكره الإمام والغزالي وغيرهما. أصحهما: يجب وانفرد الماوردي فقال: يلزمه الاستعارة إن كان ثمن الآلة قدر ثمن الماء فإن كان أكثر فوجهان أحدهما: لا يلزم لأنها قد تتلف فيضمن والثاني: يلزم لأن الظاهر سلامتها والله أعلم.
المسألة الثانية: إذا وجد الماء يباع بثمن مثله وهو واجد للثمن غير محتاج إليه لزمه شراؤه بلا خلاف، ودليله ما ذكره المصنف. وفي ثمن المثل ثلاثة أوجه مشهورة عند الخراسانيين. أحدها: أنه أجرة نقله إلى الموضع الذي هذا المشتري فيه، ويختلف ذلك ببعد المسافة وقربها، وعلى هذا قال الرافعي: يجوز أن يعتبر الوسط المقتصد. ويجوز أن يعتبر الحد الذي يسعى إليه المسافر عند تيقن الماء، فإن ذلك الحد لو لم يقدر على السعي إليه بنفسه وقدر على بذل أجرة لمن ينقل له الماء منه لزمه.
والوجه الثاني: يعتبر ثمن مثله في ذلك الموضع في غالب الأوقات فإن الشربة الواحدة في وقت عزة الماء يرغب فيها بدنانير، فلو كلفناه شراءه بقيمته في الحال لحقه المشقة والحرج، وبهذا الوجه قطع الشيخ أبو حامد والبندنيجي والماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وصاحب "الشامل" وحكوه عن أبي إسحاق المروزي، واختاره الروياني.
والوجه الثالث: يعتبر ثمن مثله في ذلك الموضع في تلك الحالة فإن ثمن المثل يعتبر حالة التقويم، وهذا الثالث هو الصحيح عند جمهور الأصحاب، وبه قطع الدارمي وجماعة من العراقيين، ونقله صاحب "البيان" عن الشيخ أبي حامد، ونقله إمام الحرمين عن الأكثرين قال: والوجه الأول بناه قائلوه على أن الماء لا يملك، وهو وجه سخيف قال: والوجه الثاني أيضا ليس بشيء.
قال: وعلى طريقة الأكثرين الأقرب أن يقال لا يعتبر ثمن الماء عند الحاجة إلى سد الرمق فإن ذلك لا ينضبط، وربما رغب في الشربة حينئذ بدنانير، ويبعد في الرخص والتخفيفات أن نوجب ذلك على المسافر، ولكن يعتبر الزمان والمكان من غير انتهاء الأمر إلى سد الرمق، وأما الغزالي رحمه الله

 

ج / 2 ص -203-       فانفرد عن الأصحاب، فاختار الوجه الأول قال الرافعي: ولم نر أحدا اختاره غيره وغير من تابعه والله أعلم. أما إذا لم يبع الماء إلا بأكثر من ثمن المثل فلا يلزمه شراء بلا خلاف لكن الأفضل أن يشتريه، صرح به جماعة منهم أبو عبد الله الزبيري في كتابه الكافي، قال أصحابنا: وسواء كثرت الزيادة على ثمن المثل أو قلت لا يلزمه الشراء، هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور في كل الطرق ونص عليه الشافعي رحمه الله في الأم، وفيه وجه أنه يجب شراؤه بزيادة يتغابن الناس بها، وبه قطع البغوي، وحكاه المتولي عن القاضي حسين بعد حكايته عن الأصحاب أنه لا فرق، والمذهب ما سبق عن الجمهور لأن هذا القدر من المال محترم ولهذا لو خاف تلف شيء يسير من ماله لو ذهب إلى الماء لم يلزمه الذهاب، وبهذا الذي ذكرناه عن جمهور أصحابنا، قال جماهير علماء السلف والخلف وقال الثوري وأبو حنيفة: يلزمه شراؤه بالغبن اليسير، وقال الحسن البصري يلزمه شراؤه بكل ماله والله أعلم.
هذا إذا وجد ثمن الماء وهو غير محتاج إليه، فإن وجده ولكنه يحتاج إليه لدين مستغرق أو نفقته، أو نفقة من تلزمه نفقته من عياله أو مملوكه أو حيوانه المحترم أو غير ذلك من مؤن السفر في ذهابه ورجوعه من مأكوله ومشروبه، وملبوسه ومركوبه لم يجب صرفه في الماء، فإن فضل عن هذه الحاجات لزمه صرفه في الماء من أي نوع كان ماله ولو لم يكن معه ماء ولا ثمنه ووجد من يقرضه الماء وجب قبوله على المذهب، وفيه وجه أنه لا يجب حكاه البغوي. ولو أقرضه ثمن الماء - فإن لم يكن له مال غائب لم يلزمه قبوله بلا خلاف وإن كان فوجهان مشهوران، قطع إمام الحرمين والغزالي بالوجوب، والأصح أنه لا يجب، صححه الرافعي وغيره؛ لأنه لا يؤمن أن يطالبه قبل وصوله إلى ماله، ولو وجد من يبيعه الماء بثمن مؤجل - فإن لم يكن له مال غائب - لم يلزمه شراؤه بلا خلاف، وإن كان فوجهان، الصحيح يلزمه شراؤه، وهو المنصوص في "البويطي" وبه قطع الجمهور. ممن قطع به القاضي أبو الطيب والبندنيجي والمحاملي في "المجموع" والفوراني وابن الصباغ والمتولي والشيخ نصر والبغوي وآخرون؛ لأن الأجل لازم فلا مطالبة قبل حلوله بخلاف القرض.
وشذ الماوردي فقطع بأنه لا يلزمه الشراء بمؤجل وإن كان مالكا للثمن في بلده؛ لأنه يجوز أن يتلف ماله فيبقى الدين عليه وفي ذلك ضرر، واختاره الشاشي، والمختار الأول. وصورة المسألة أن يكون الأجل ممتدا إلى أن يصل بلد ماله، ولا فرق بين أن يزاد في الثمن بسبب الأجل ما يليق به أو لا يزاد، هذا هو الصحيح المشهور وفيه وجه أنه لا يلزمه إذا زاد على ثمن النقد وبه قطع القاضي حسين وهو شاذ ضعيف، فإن قيل: لم قطعتم هنا بأنه لا يلزمه الشراء بمؤجل إذا لم يكن له مال غائب وقلتم فيمن لا يجد طول 1 حرة، ووجد حرة ترضى بمهر مؤجل لا يباح له نكاح الأمة في


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الطول كالقول القدرة على الصداق والكلفة والمؤنة قال تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} (ط).

 

ج / 2 ص -204-       وجه، فالجواب ما أجاب به المتولي وغيره أنه في النكاح تعلق به حق ثالث وهو الولد، فإن ولد الأمة يكون رقيقا فراعينا حقه، وهنا الحق لله تعالى، وهو مبني على المسامحة مع أنه أتى ببدل. ولو وجد آلة الاستقاء بالثمن أو الأجرة لزمه تحصيلها بثمن المثل أو أجرة المثل، فإن زاد لم يجب، كذا قاله الأصحاب.
قال الرافعي: ولو قيل: يجب ما لم تجاوز الزيادة ثمن مثل الماء لكان حسنا، وكذا العريان إذا وجد ثوبا يباع أو يؤجر يلزمه تحصيله بثمن المثل أو أجرة المثل إذا وجد. قال أصحابنا: وإذا لم يفعل ما أوجبناه عليه في هذه الصور كلها وصلى بالتيمم أثم ولزمه الإعادة إلا إذا وهب له الماء فلم يقبله فإنه يأثم، وفي الإعادة تفصيل، فإن كان الماء حال التيمم باقيا في يد الواهب وهو باق على هبته لم يصح تيممه، وإن لم يكن الماء باقيا أو رجع عن هبته ففي الإعادة الوجهان فيمن أراق الماء سفها، وسيأتي إيضاحهما حيث ذكرهما المصنف إن شاء الله تعالى. ولو وجد العريان ماء وثوبا يباعان ومعه ثمن أحدهما فقط لزمه شراء الثوب لأنه لا بدل له. قال البغوي: ولهذا يلزمه أن يشتري لعبده ساتر عورته، ولا يلزمه شراء الماء لطهارته في السفر، والله أعلم.
المسألة الثالثة: إذا احتاج إلى ماء الطهارة دون العطش ووجد الماء مع من لا يحتاج إليه فطلبه منه بيعا أو هبة أو قرضا فامتنع من ذلك لم يجز أن يقهره على أخذه بلا خلاف، بخلاف ما لو احتاج إليه لشدة العطش وصاحبه غير محتاج إليه فإنه يقهره على أخذه؛ لأن لماء الطهارة بدلا فيتيمم ويصلي ولا إعادة.
قال أصحابنا ولا يجب على صاحب الماء بذله لطهارة هذا المحتاج، هذا هو الصحيح المشهور. وحكى صاحب "البيان" عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا أنه قال: يلزمه. وحكى الدارمي عن أبي عبيد أنه حكاه عن بعض المتقدمين والمذهب الأول، ولا يجوز للعاري أن يقهر صاحب الثوب على أخذه لستر العورة للصلاة فإن خاف من حر أو برد فله قهره إذا لم يضطر صاحبه إليه، هكذا ذكره البغوي وغيره، وهو كما ذكره.
قال أصحابنا: وحيث قلنا يجوز أن يقهره ويكابره، فإن قهره فأدى إلى هلاك المالك كان هدرا لأنه ظالم بمنعه، وإن أدى إلى هلاك المضطر كان مضمونا لأنه مظلوم.
قال أصحابنا: ولو كان مع المحتاج إلى ماء الطهارة ماء مغصوب أو مرهون أو وديعة تيمم وصلى ولا إعادة عليه، ويحرم عليه أن يتوضأ به، وهذا وإن كان ظاهرا فذكرته لأن بعض الناس قد يتساهل فيه، فإن خالف وتوضأ به صح -وإن كان عاصيا- وأجزأته صلاته والله أعلم.
وأما قول المصنف رحمه الله: "لا يجوز أن يكابره على الماء للطهارة كما يكابره على طعام يحتاج إليه للمجاعة لأن الطعام لا بدل له وللماء بدل" فهذا التعليل ينتقض بالعاري فإنه لا يجوز أن يكابر صاحب الثوب، وإن كان لا بدل للثوب وإنما التعليل الصحيح أن المكابرة في الطعام جازت

 

ج / 2 ص -205-       لحرمة الروح، ولهذا حلت الميتة للمضطر وأما الطهارة بالماء فإنما تجب على من وجده، وهذا لم يجده والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن 1 دل على ماء ولم يخف فوت الوقت ولا انقطاعا عن رفق ولا ضررا في نفسه وماله لزمه طلبه".
الشرح: الرفقة 2 بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان وقوله رفق 3 هو بالتنكير من غير تاء بعد القاف، وهو يتناول رفقة كان معهم ورفقة يصادفهم الآن. وهذا الذي ذكره المصنف هو المذهب الصحيح المشهور، وبه قطع العراقيون وكثير من الخراسانيين أو أكثرهم، وعبروا بعبارة المصنف. وسلك إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما طريقة أخرى اختصرها الرافعي وهذبها فقال: إذا تيقن وجود الماء حواليه فله ثلاث مراتب.
إحداها: أن يكون على مسافة ينتشر إليها النازلون في الاحتطاب والاحتشاش والبهائم في الرعي فيجب السعي إليه، وهذا فوق حد الغوث الذي يسعى إليه عند التوهم، قال الإمام محمد بن يحيى: ولعله يقرب من نصف فرسخ.
المرتبة الثانية: أن يكون بعيدا بحيث لو سعى إليه لفاته وقت الصلاة فيتيمم ولا يسعى إليه لأنه فاقد في الحال، ولو وجب انتظار الماء بعد الوقت لما جاز التيمم أصلا بخلاف واجد الماء فإنه لا يتيمم وإن خرج الوقت. قال الرافعي: والأشبه بكلام الأئمة أن الاعتبار من أول وقت للصلاة لو كان نازلا في ذلك المنزل، ولا بأس باختلاف المواقيت والمسافات، وعلى هذا لو انتهى إلى المنزل في آخر الوقت والماء في حد القرب وجب السعي إليه وإن فات الوقت كما لو كان الماء في رحله، والأشبه أن يجعل وقت الحاضرة معيارا للفوائت والنوافل فإنها الأصل والمقصود بالتيمم غالبا. 
قلت: هذا الذي نقله الرافعي عن الأشبه بكلام الأئمة ليس بمقبول، بل ظاهر عباراتهم أن الاعتبار بوقت طلب الماء. هذا هو الموجود في كتبهم وهو ظاهر نص الشافعي في "الأم" وغيره، فإن عبارة الشافعي وعبارة الأصحاب كلهم كعبارة المصنف وهي صريحة فيما قلته، والله أعلم.
المرتبة الثالثة: أن يكون بين المرتبتين. فيزيد على ما يتردد إليه للحاجات. ولا ينتهي إلى حد خروج وقت الصلاة. فنص الشافعي فيما إذا كان الماء عن يمين المنزل أو يساره أنه يلزمه تحصيله ولا يجوز التيمم، ونص فيما إذا كان في صوب مقصده أنه لا يجب السعي إليه، واختلف الأصحاب


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذا الفصل ساقط من النسخة المتداولة من متن المهذب والمطبوعة في جزءين والصادرة عن مطبعة عيسى الحلبي وكذلك الفصول التي بعد هذا الفصل (ط).
2  هو بضم الراء في لغة تميم وبكسرها في لغة قيس والجمع رفق كسدر (ط).
3  في الطبعتين السابقتين ش و ق "رفقة" مع ضبط الشارح لها وكذلك نسخة المهذب المطبوعة وهو تحريف لعبارة المصنف وغفلة عن تحقيق النووي رضي الله عنه. والذي أغراهم به ابتداء الشارح بمفرد الكلمة في قوله: الرفقة بضم الراء الخ فتأمل (محققه المطيعي).

 

ج / 2 ص -206-       فيه على طريقين أحدهما: تقرير النصين، والفرق بأن المسافر قد يتيامن ويتياسر في حوائجه، ولا يمضي في صوب مقصده ثم يرجع قهقرى، وجوانب المنزل منسوبة إليه دون ما بين يديه والطريق الثاني فيهما قولان بالنقل والتخريج، وهو أظهر؛ لأن المسافر ما دام سائرا لا يعتاد المضي يمينا وشمالا كما لا يرجع قهقرى، وإذا كان نازلا ينتشر من الجوانب كلها ويعود ودليل الجواز أنه فاقد والمنع أنه قادر على تحصيله.
قال الرافعي: وما ذكرناه من الطريقين هو نقل إمام الحرمين والغزالي في آخرين وقال صاحب "التهذيب": إن كان الماء في طريقه وتيقن وصوله إليه قبل خروج الوقت، وصلى في الوقت بالتيمم جاز على المذهب. وقال في الإملاء: لا يجوز بل يؤخر حتى يصل إلى الماء، وإن كان الماء على يمينه أو يساره أو وراءه لم يلزمه إتيانه وإن أمكن في الوقت؛ لأن في زيادة الطريق مشقة عليه، كما لو وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل. وقيل: لا فرق، بل متى أمكنه أن يأتي الماء في الوقت من غير خوف فلا فرق بين أن يكون عن يمينه أو يساره أو أمامه ففي جواز التيمم قولان.
قال الرافعي: وبين هذا المذكور في "التهذيب" وبين الأول بعض المخالفة توجيها وحكما، أما التوجيه فظاهر، وأما الحكم فلأن هذا الكلام إنما يستمر في حق السائر، ومقتضاه نفي الفرق بين الجوانب في حق النازل في المنزل لأنه يحتاج إلى الرجوع إلى المنزل من أي جانب مضى إليه، وفي زيادة الطريق مشقة. 
وأما الكلام الأول فمقتضاه الفرق بين الجوانب في حق النازل أيضا إلا أن ذلك الفرق ممنوع كما سبق. وأيضا فإن مقتضى الأول أن السعي إلى ما عن اليمين واليسار أولى بالإيجاب، ومقتضى كلام "التهذيب" أن الإيجاب فيما على صوب المقصد أولى.
قال الرافعي: واعلم أن المذهب جواز التيمم وإن علم وصوله إلى الماء في آخر الوقت. وإذا جاز التيمم لمن يعلم الوصول إلى الماء في صوب مقصده فأولى أن يجوز للنازل في بعض المراحل إذا كان الماء عن يمينه أو يساره لزيادة مشقة السعي إليه، وإذا جاز للنازل فالسائر أولى بالجواز. هذا كله في حق المسافر. وأما المقيم فذمته مشغولة بالقضاء لو صلى بالتيمم فليس له أن يصلي بالتيمم وإن خاف فوت الوقت لو سعى إلى الماء. هذا آخر كلام الرافعي والله أعلم.
قال أصحابنا: والاعتبار في الدلالة على الماء بدلالة ثقة، وهو من يقبل خبره من رجل أو امرأة أو عبد أو أعمى، ولا أثر لقول فاسق ومغفل وغيرهما ممن لا يقبل خبره والله أعلم.
وأما قول المصنف: "ولم يخف ضررا في نفسه وماله" فكذا قاله أصحابنا، قالوا: إذا كان بقربه ماء يخاف لو سعى إليه ضررا على نفسه من سبع أو عدو أو غيرهما، أو على ماله الذي معه أو الذي في منزله من غاصب أو سارق أو غيرهما فله التيمم، وهذا الماء كالمعدوم.
قال أصحابنا: وهكذا لو كان في سفينة ولا ماء معه وخاف الضرر لو استقى من "البحر" فله التيمم ولا إعادة عليه. قال أصحابنا: والخوف على بعض أعضائه كالخوف على نفسه. قالوا: ولا فرق في المال

 

ج / 2 ص -207-       الذي يخاف عليه بين الكثير والقليل، إلا أن يكون قدرا يجب احتماله في تحصيل الماء ثمنا أو أجرة، وأما إذا خاف الانقطاع عن رفقة، فقد أطلق المصنف أنه لا يلزمه الذهاب إلى الماء، وهكذا أطلقه الجمهور. وقال جماعة: إن كان عليه ضرر في الانقطاع عن الرفقة فله التيمم، وإلا فوجهان أصحهما له التيمم أيضا، وهما قريبان من الوجهين في نفقة الرجوع في الحج لمن لا أهل له هل تشترط أم لا؟ مأخذهما في الموضعين أنه ضرر عليه ولكنه تفوته الألفة والمؤانسة والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن 1 طلب فلم يجد فتيمم -ثم طلع عليه ركب قبل أن يدخل في الصلاة لزمه أن يسألهم عن الماء فإن لم يجد معهم الماء أعاد التيمم لأنه لما توجه الطلب بطل التيمم".
الشرح: قال أهل اللغة: الركب هم ركبان الإبل العشرة ونحوهم، وهو مختص بركبان الإبل، هذا أصله. ومراد أصحابنا بالركب جماعة يجوز أن يكون معهم ماء، سواء كانوا على دواب أو رجالة. قال أصحابنا: فإذا تيمم بعد الطلب ثم حدث ما يحتمل القدرة على الماء بسببه بطل تيممه، وإن بان أنه لا قدرة له على الماء، وذلك بأن رأى جماعة أقبلت أو سحابة أظلت بقربه أو سرابا ظنه ماء أو ماء توهمه طاهرا فكان نجسا، أو بئرا توهم أن فيها ماء فلم يكن، أو أنه يمكن نزولها فلم يمكن وما أشبه هذا لأن التيمم يراد لإباحة الصلاة، فإذا رأى هذه الأشياء توجه الطلب، وإذا توجه بطل التيمم لأنه خرج عن الإباحة. هذا إذا لم يكن هناك مانع يمنع وجوب الوضوء على تقدير كونه ماء، فإن كان لم يبطل تيممه؛ لأن التيمم يجوز في هذه الحالة ابتداء. قال إمام الحرمين وغيره: ضابط المذهب أن التمكن من استعمال الماء أو توهم التمكن يبطل تيممه، فلو رأى بئرا فيها ماء ولا يمكنه النزول فيها ولا دلو أو لا حبل معه فإن علم أول ما رآها أنه لا يقدر عليها لم يبطل تيممه وإلا بطل، ولو طلع عليه جماعة عراة لم يبطل تيممه، ولو رأى ماء وسبعا أو عدوا يمنعه منه فإن رأى الماء أولا ثم رأى المانع بطل تيممه وإن رأى المانع أولا أو رآهما معا لم يبطل:
قال أصحابنا: ولو سمع بعد التيمم رجلا يقول: معي ماء، بطل تيممه وإن بان كاذبا، ولو سمعه يقول: أودعني فلان ماء أو غصبت من فلان ماء لم يبطل تيممه إن كان فلان غائبا، فإن كان حاضرا بطل لإمكان طلبه منه، ولو قال. معي ماء أودعنيه فلان أو غصبته من فلان بطل تيممه على المذهب، وبه قطع الجمهور، ونقله المتولي عن الأصحاب لأنه أطمعه في الماء بتقديم ذكره، وفيه احتمال للقاضي حسين أنه لا يبطل على قولنا: لا يتبعض الإقرار، وضعفه البغوي والشاشي وغيرهما. قال الشاشي في "المعتمد": لأنه لا فرق في الإقرار بين قوله: له علي ألف ثمن خمر، وقوله: له علي من ثمن خمر ألف، في أن الجميع على قولين لأنه وصل إقراره بما يبطله، سواء تقدم ذكر الخمر أو تأخر. وهنا المؤثر في التيمم توجه الطلب، ثم إن جاز أن يخرج قولا إلى التيمم من الإقرار لم لا يجوز أن يخرج في قوله: عندي ماء أودعنيه فلان قولا أنه لا يبطل؟ لأنه لما وصله بآخر


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذا الفصل ساقط من النسخة المتداولة من المهذب كما نوهنا آنفا (ط).

 

ج / 2 ص -208-       كلامه بان أنه لا يقدر عليه، وقد وافق القاضي في بطلان تيممه في هذه الصورة والله أعلم. وأما قول المصنف: "فإن لم يجد معهم الماء أعاد الطلب "فقد سبق بيان الخلاف فيه، وأنه إذا قلنا بوجوب الطلب كان أخف من الطلب الأول والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن 1 طلب ولم يجد جاز له التيمم لقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6] وهل الأفضل أن يقدم التيمم أو الصلاة أم لا؟ ينظر فإن كان على ثقة من وجود الماء في آخر الوقت فالأفضل أن يؤخر التيمم فإن الصلاة في أول الوقت فضيلة، والطهارة بالماء فريضة فكان انتظار الفريضة أولى، وإن كان على إياس من وجوده فالأفضل أن يتيمم ويصلي لأن الظاهر أنه لا يجد الماء، فلا يضيع فضيلة أول الوقت لأمر لا يرجوه وإن كان يشك في وجوده ففيه قولان أحدهما: أن تأخيرها أفضل لأن الطهارة بالماء فريضة والصلاة في أول الوقت فضيلة فكان تقديم الفريضة أولى. والثاني: أن تقديم الصلاة بالتيمم أفضل وهو الأصح لأن فعلها في أول الوقت فضيلة متيقنة والطهارة بالماء مشكوك فيها فكان تقديم الفضيلة المتيقنة أولى".
الشرح: إذا عدم الماء بعد طلبه المعتبر جاز له التيمم للآية والأحاديث الصحيحة والإجماع، ولا فرق في الجواز بين أن يتيقن وجود الماء في آخر الوقت أو لا يتيقنه. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة. ونقل المحاملي في "المجموع" الإجماع عليه، وكذا نقل الشيخ أبو حامد وغيره: أنه لا خلاف فيه، وحكى صاحبا "التتمة" والتهذيب قولا للشافعي نص عليه في الإملاء: أنه لا يجوز التيمم إذا علم وصوله إلى الماء قبل خروج الوقت، وهو شاذ ضعيف لا تفريع عليه، وإنما التفريع على المذهب وهو الجواز، ثم إن الجمهور أطلقوا الجواز، وقال الماوردي: هذا إذا تيقن وجود الماء في غير منزله، أما إذا تيقن أنه يجده في آخر الوقت في منزله الذي هو فيه أول الوقت فيجب التأخير، قال: ولا وجه لقول من أطلق من أصحابنا استحباب التأخير، فإذا قلنا بالمذهب فللعادم ثلاثة أحوال. أحدها: أن يتيقن وجود الماء في آخر الوقت، بحيث يمكنه الطهارة والصلاة في الوقت، فالأفضل أن يؤخر الصلاة ليأتي بها بالوضوء؛ لأنه الأصل والأكمل، هذا هو المذهب الصحيح المقطوع به في جميع الطرق. وانفرد صاحب "التتمة" بحكاية وجه أن تقديم الصلاة في أول الوقت بالتيمم أفضل، وحكاه الشيخ أبو محمد، والصواب الأول. واحتج له الشيخ أبو حامد الإسفراييني والمحاملي وغيرهما بأن الوضوء أكمل من التيمم، فكان راجحا على فضيلة أول الوقت، ويؤيد هذا أن التيمم لا يجوز مع القدرة على الماء، ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت مع القدرة على الصلاة في أوله؛ ولأن الوضوء هو الأصل ولهذا يصلى به صلوات. وأما تعليل المصنف بأن الوضوء فريضة فمشكل؛ لأن التيمم إذا فعله وقع أيضا فريضة


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذا الفصل ساقط من النسخة المتداولة من المهذب كما نوهنا آنفا (ط).

 

ج / 2 ص -209-       فالصحيح ما سبق من التعليل، ونضم إليه أن فيه خروجا من الخلاف فإن نصه في الإملاء: أن هذا التيمم باطل. وهو أيضا مذهب الزهري، فإنه لا يجوز التيمم حتى يخاف فوت الوقت.
الحال الثاني: أن يكون على يأس من وجود الماء في آخر الوقت، فالأفضل تقديم التيمم والصلاة في أول الوقت بلا خلاف؛ لحيازة فضيلة أول الوقت، وليس هنا ما يعارضها.
الحال الثالث: أن لا يتيقن وجود الماء، ولا عدمه وله صورتان. 
إحداهما: أن يكون راجيا ظانا الوجود ففيه قولان مشهوران في كتب الأصحاب، ونص عليهما في "مختصر المزني" أصحها -باتفاق الأصحاب- أن تقديم الصلاة بالتيمم في أول الوقت أفضل، وهو نصه في "الأم" والثاني: التأخير أفضل وهو نصه في الإملاء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وأكثر العلماء، ودليلهما يعرف مما سبق.
الصورة الثانية: أن يشك، فلا يترجح الوجود على العدم ولا عكسه، فطريقان، قطع جمهور العراقيين بأنه على القولين، كما في الرجاء والظن. ممن صرح بذلك المصنف هنا، والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي وآخرون. والطريق الثاني: الجزم بأن التقديم أفضل صرح به القاضي حسين وصاحب "العدة" وغيرهما من الخراسانيين وأشار إليه البغوي وغيره. وعبارة إمام الحرمين والغزالي والمتولي وآخرين: إن كان يظن، وبعضهم يقول: يرجو، ففيه قولان، ولم يتعرضوا للشك، وأما الرافعي فجزم في صورة الشك بالتقديم قولا واحدا، قال: وإنما القولان إذا كان يظن، قال: وربما وقع في كلام بعضهم ذكر القولين فيما إذا لم يظن الوجود ولا العدم ولا وثوق به. ولعل ذاك القائل أراد بالظن اليقين، وهذا الذي أنكره الرافعي من نقل القولين في حال الشك المستوي الطرفين مردود، فقد صرح بالقولين في حالة الشك الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي في "التجريد"، فقالوا: لو كان لا يعلم وجود الماء في آخر الوقت ولا عدمه، ولم يكن أحد الاحتمالين -في وجوده وعدمه- أقوى من الآخر، ففيه القولان. هذا لفظ هؤلاء الثلاثة، وهم شيوخ المذهب وصرح به غيرهم، وهو مقتضى عبارة المصنف وآخرين في قولهم: وإن كان يشك ففيه قولان والله أعلم.
قال إمام الحرمين وغيره: هذا الخلاف فيمن أراد أن يقتصر على صلاة واحدة، فأما من تيمم وصلى في أول الوقت ثم صلى بالوضوء عند وجود الماء في آخره، فهو النهاية في تحصيل الفضيلة والله أعلم.
فرع: اختلف كلام الأصحاب في تأخير الصلاة عن أول الوقت إلى أثنائه لانتظار الجماعة، فقطع أبو القاسم الداركي، وأبو علي الطبري، وصاحب "الحاوي" وآخرون من كبار العراقيين باستحباب التأخير وتفضيله على فضيلة أول الوقت، وقطع أكثر الخراسانيين بأن تقديم الصلاة منفردا أفضل، ونقل إمام الحرمين والغزالي في "البسيط" أنه لا خلاف فيه، ونقل جماعات من الأصحاب أنه إن رجا الجماعة في آخر الوقت ولم يتحققها ففي استحباب التأخير وجهان بناء على القولين في 

 

ج / 2 ص -210-       التيمم. وحكى صاحبا "الشامل" والبيان هذا عن الأصحاب مطلقا، ونقل الروياني عن القاضي أبي علي البندنيجي أنه قال: قال الشافعي في الأم: التقديم أول الوقت منفردا أفضل، وقال في الإملاء: التأخير للجماعة أفضل، وقال القاضي أبو الطيب: حكم الجماعة حكم التيمم، إن تيقن الجماعة آخر الوقت فالتأخير أفضل، وإن تيقن عدمها فالتقديم أفضل، وإن رجا الأمرين فعلى القولين. وهذا الذي حكاه عن القاضي أبي الطيب هو الذي ذكره أبو علي البندنيجي في جامعه، كذا رأيته في نسخة معتمدة منه، فهذا كلام الأصحاب في المسألة.
وقد ثبت في صحيح مسلم:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيجيء أئمة يؤخرون الصلاة عن أول وقتها، قال: فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة" فالذي نختاره أنه يفعل ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي مرتين مرة في أول الوقت منفردا لتحصيل فضيلة أول الوقت، ومرة في آخره مع الجماعة لتحصيل فضيلتها، وقد صرح أصحابنا باستحباب الصلاة مرتين على ما ذكرناه في باب صلاة الجماعة، وسنبسطه هناك إن شاء الله تعالى.
فإن أراد الاقتصار على صلاة واحدة -فإن تيقن حصول الجماعة آخر الوقت- فالتأخير أفضل لتحصيل شعارها الظاهر؛ ولأنها فرض كفاية على الصحيح في مذهبنا وفرض عين على وجه لنا، وهو قول ابن خزيمة من أصحابنا، وهو مذهب أحمد بن حنبل وطائفة، ففي تحصيلها خروج من الخلاف، ولم يقل أحد يأثم بتأخيرها، ويحتمل أن يقال: إن فحش التأخير فالتقديم أفضل، وإن خف فالانتظار أفضل والله أعلم.
فرع: قال صاحب البيان: هذان القولان فيمن ظن وجود الماء في آخر الوقت يجريان في المريض العاجز عن القيام، إذا رجا القدرة على القيام في آخر الوقت، وفي العاري إذا رجا السترة في آخر الوقت. والمنفرد إذا رجا الجماعة في آخر الوقت هل الأفضل لهم تقديم الصلاة في أول الوقت على حالهم؟ أم تأخيرها لما يرجونه؟ قال: ولا يترك الترخص بالقصر في السفر، وإن علم إقامته في آخر الوقت بلا خلاف، وقال: قال صاحب الفروع: إن خاف فوت الجماعة لو أسبغ الوضوء وأكمله، فإدراك الجماعة أولى من الانحباس على إكمال الوضوء وفي هذا نظر.
فرع: لو دخل المسجد والإمام في الصلاة وعلم أنه إن مشى إلى الصف الأول فاتته ركعة وإن صلى في أواخر الصفوف لم تفته -فهذا لم أر فيه لأصحابنا ولا لغيرهم شيئا- والظاهر أنه إن خاف فوت الركعة الأخيرة حافظ عليها، وإن خاف فوت غيرها مشى إلى الصف الأول، للأحاديث الصحيحة في الأمر بإتمام الصف الأول وفي فضله والازدحام عليه والاستهام، وخير صفوف الرجال أولها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن 1 تيمم وصلى ثم علم أنه كان في رحله ماء نسيه لم


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذا الفصل ساقط من النسخة المتداولة من المهذب كما نوهنا آنفا (ط).

 

ج / 2 ص -211-       تصح صلاته وعليه الإعادة على المنصوص؛ لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالنسيان، كما لو نسي عضوا من أعضائه فلم يغسله. وروى أبو ثور عن الشافعي رحمهما الله أنه قال: تصح صلاته ولا إعادة عليه؛ لأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء فسقط الفرض بالتيمم كما لو حال بينهما سبع. وإن كان في رحله ماء وأخطأ رحله فطلبه فلم يجده فتيمم وصلى، ففيه وجهان، قال أبو علي الطبري: لا تلزمه الإعادة؛ لأنه غير مفرط في الطلب، ومن أصحابنا من قال: تلزمه لأنه فرط في حفظ الرحل".
الشرح: الرحل: منزل الرجل من حجر أو مدر أو شعر أو وبر. كذا نقله الأزهري وسائر أهل اللغة، قالوا: ويقع أيضا اسم الرحل على متاعه وأثاثه ومنه البيت المشهور:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله
وكلام المصنف والفقهاء في هذا الباب يتناول الرحل بالمعنيين، وقد غلط وجهل من أنكر على الفقهاء إطلاقه بمعنى المتاع، والله أعلم.
ثم في الفصل خمس مسائل ذكر المصنف منها مسألتين:
إحداها: إذا تيمم بعد الطلب الواجب من رحله وغيره، وصلى ثم علم أنه كان في رحله ماء يجب استعماله، وكان علمه قبل التيمم ثم نسيه فالمنصوص في "مختصر المزني" وجامعه الكبير و"الأم" وجميع كتب الشافعي أنه يلزمه إعادة الصلاة. وقال أبو ثور: سألت أبا عبد الله فقال: لا إعادة عليه هكذا حكاه الجمهور عن أبي ثور. وقال ابن المنذر في "الإشراف"، والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمصنف وآخرون: قال أبو ثور قال الشافعي: لا إعادة، واختلف الأصحاب في المسألة على طرق. أصحها وأشهرها: أن فيها قولين أصحهما وجوب الإعادة وهو الجديد، والثاني: لا إعادة وهو القديم، وقد ذكر المصنف دليلهما وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي. وقد قدمنا في فصل ترتيب الوضوء فرعا في مسائل من هذا القبيل في كل مسألة قولان.
والطريق الثاني: القطع بوجوب الإعادة كما نص عليه الشافعي في كتبه، وهؤلاء اختلفوا في الجواب عن رواية أبي ثور، فقال كثيرون: لعله أراد بأبي عبد الله مالكا أو أحمد، وضعف المحققون هذا بأن أبا ثور لم يلق مالكا، وليس معروفا بالرواية عن أحمد، وإنما هو صاحب الشافعي وأحد رواة كتبه القديمة كما قدمناه في مقدمة الكتاب، ولأن مذهب أحمد وجوب الإعادة، وتأول هؤلاء روايته على أن غيره أدرج الماء في رحله وهو لا يعلم، فالصحيح في هذه الصورة أنه لا إعادة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وممن قال بهذا التأويل أبو الفياض البصري حكاه عنه الماوردي. الطريق الثالث: أن المسألة على حالين فنصه على وجوب الإعادة إذا كان الرحل صغيرا تمكن الإحاطة به، ورواية أبي ثور إذا كان كبيرا لا تمكن الإحاطة به. حكاه الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة، وحكاه الشاشي عن أبي الفياض.
المسألة الثانية: إذا علم في موضع نزوله بئرا ثم نسيها وتيمم وصلى ثم ذكرها فهو كنسيان

 

ج / 2 ص -212-       الماء، ففيه الطريقان الأولان، فأما إذا لم يعلم البئر أصلا، ثم علمها بعد صلاته بالتيمم، فقال صاحب "الشامل" والشيخ نصر وغيرهما: قال الشافعي في الأم: لا إعادة، وقال في "البويطي": تجب الإعادة، قالوا: وأراد بالأول إذا كانت البئر خفية. وبالثاني إذا كانت ظاهرة، وذكر صاحب "الحاوي" فيها ثلاثة أوجه.
أحدها: تجب الإعادة، وهو قول ابن خيران.
والثاني: لا تجب، وهو قول ابن سريج.
والثالث: إن كانت ظاهرة الأعلام بينة الآثار وجبت الإعادة لتقصيره، وإن كانت خفية لم تجب لعدم تقصيره، قال: وبهذا قال الشيخ أبو حامد وأبو الفياض وجمهور أصحابنا البغداديين والبصريين، وهذا الثالث هو الصحيح، ولو كان الماء يباع فنسي أن معه ثمنه فصلى بالتيمم ثم ذكر، فالمذهب الصحيح الذي قطع به الدارمي والشيخ نصر في كتابيه "الانتخاب" والكافي أنه كنسيان الماء في رحله، وفيه احتمال لابن كج حكاه الرافعي.
المسألة الثالثة: إذا أدرج غيره الماء في رحله ولم يعلم صاحب الرحل إلا بعد صلاته بالتيمم، فطريقان مشهوران حكاهما الصيدلاني وإمام الحرمين والغزالي وصاحب "العدة" وآخرون. أحدهما: أنه على القولين في نسيان الماء في رحله لكن أصحهما هنا أنه لا إعادة وهناك وجوب الإعادة. والطريق الثاني: القطع بعدم الإعادة؛ لعدم تقصيره وهذا الطريق صححه إمام الحرمين والغزالي في "البسيط"، ثم الجمهور أطلقوا المسألة كما ذكرنا. وقال البغوي: إن طلب في رحله فلم يجد فذهب للطلب من موضع آخر فأدرج في غيبته فلا إعادة، وإن لم يطلب من رحله لعلمه أن لا ماء فيه، وكان قد أدرج ولم يعلم فالأصح وجوب الإعادة لتقصيره. الرابعة: لو كان في رحله ماء فطلب الماء في رحله، فلم يجده فتيمم وصلى ثم وجده، فإن لم يمعن في الطلب وجبت الإعادة، وإن أمعن حتى ظن العدم فوجهان، وقيل قولان، وهما مخرجان من القولين في الخطأ في القبلة، أصحهما: وجوب الإعادة وبه قطع الفوراني لندوره. والثاني: لا؛ لعدم تقصيره.
الخامسة: إذا كان في رحله ماء فأخطأ رحله بين الرحال لظلمة أو غيرها فطلبه فلم يجده فصلى بالتيمم ثم وجده، فإن لم يمعن في الطلب وجبت الإعادة، وإن أمعن فثلاثة طرق. أصحها وأشهرها: أن فيه وجهين أصحهما لا إعادة. والثاني: تجب وبهذا الطريق قطع المصنف وكثيرون، ودليلهما في الكتاب. 
والطريق الثاني: القطع بعدم الإعادة، وبه قطع الماوردي والفوراني والبغوي. والثالث: إن وجده قريبا وجبت الإعادة، وإن كان بعيدا فلا إعادة حكاه الرافعي عن الحليمي، قال الرافعي: والمذهب أنه لا إعادة مطلقا، وقال الروياني في الحلية: إن أضل رحله فلا إعادة، وإن أضله بين الرحال لزمه الإعادة، والمشهور أنه لا فرق والله أعلم.

 

ج / 2 ص -213-       فرع: لو غصب رحله الذي به الماء وحيل بينه وبينه تيمم ولا إعادة بلا خلاف، كما لو حال دونه سبع؛ ولأنه غير مفرط بخلاف الناسي. ولو ضل عن القافلة أو عن الماء صلى بالتيمم ولا إعادة بالاتفاق، وممن صرح به الروياني وصاحب "العدة" والشاشي وصاحب "البيان" وآخرون وهو واضح والله أعلم.
فرع: قال أبو العباس الجرجاني في كتابه "المعاياة": لو نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم لزمه الإعادة على الأصح، ولو عجز عن استعمال الماء فتيمم وصلى لم تلزمه الإعادة، ولو صلى بنجاسة نسيها أو عجز عن إزالتها لزمه الإعادة، فسوينا بين العجز والنسيان في النجاسة، وفرقنا بينهما في التيمم، والفرق: أنه أتى في التيمم ببدل بخلاف النجاسة.
فرع: قد ذكر المصنف هنا أبا ثور وأبا علي الطبري وتقدم ذكر أبي علي في باب الشك في نجاسة الماء، وهناك بينا اسمه وحاله، وتقدم بيان حال أبي ثور في آخر الفصول التي في مقدمة الكتاب، وأما قول الغزالي في ""الوسيط"" في نسيان الماء في رحله، وفيه قول قديم كما في نسيان الفاتحة وترتيب الوضوء ناسيا، فكذا وقع في النسخ وصوابه: حذف لفظة ناسيا.
فرع: في مذاهب العلماء فيمن نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم ثم علمه فالصحيح في مذهبنا: وجوب الإعادة، وبه قال أبو يوسف وأحمد ورواية عن مالك، وقال أبو حنيفة وأبو ثور وداود: لا إعادة وهي رواية عن مالك وحكاه محمد بن جرير عن سفيان الثوري. واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي بإسناد حسن؛ ولأنه صلى على الوجه الذي يلزمه ذلك الوقت فلم تلزمه إعادة؛ ولأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء فأشبه السبع؛ ولأنه صلى ولا يعلم معه ماء فلم تلزمه إعادة كمن صلى ثم رأى بقربه بئرا.
واحتج أصحابنا بأن التيمم لا يكفي واجد الماء بالاتفاق إذا لم يكن مريضا ونحوه، وهذا واجد والنسيان لا ينافي الوجود فهو واجد غير ذاكر؛ ولأنه شرط للصلاة فلم يسقط بالنسيان كستر العورة، وغسل بعض الأعضاء، وكمريض صلى قاعدا متوهما عجزه عن القيام وكان قادرا، وكحاكم نسي النص فحكم بالقياس، وكمن نسي الرقبة في الكفارة فصام، وكمن كان الماء في إناء على كتفه فنسيه فتيمم وصلى فإنه يعيد بالاتفاق، ذكره القاضي أبو الطيب. والجواب عن الحديث الذي احتجوا به: أن أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول اختلفوا فيه هل هو مجمل أم عام؟ فإن قلنا: مجمل توقف الاحتجاج به على بيان المراد فلا حجة لهم فيه، وإن قلنا عام وهو الأصح فقد خص منه غرامات المتلفات، ومن صلى محدثا ناسيا، ومن نسي بعض أعضاء طهارته، ومن نسي ساتر العورة وغير ذلك مما ذكرناه في دليلنا وغيره مما هو معروف، فكذا يخص منه نسيان الماء في رحله قياسا على نسيان بعض الأعضاء وغيره مما ذكرناه، فإن التخصيص بالقياس
 جائز ,

 

ج / 2 ص -214-       فهذا هو الجواب الذي نعتقده ونعتمده، وأما أصحابنا في كتب المذهب فيقولون: المراد رفع الإثم بدليل وجوب غرامة الإتلاف ناسيا والقتل خطأ، وهذا ضعيف؛ لأنه إن كان الحديث عاما فليس تخصيصه منحصرا في رفع الإثم، فإن أكل الناسي في الصوم وكلام الناسي في الصلاة وغير ذلك لا يضر، وإن كان مجملا فيتوقف فيه إلى البيان.
والجواب عن قولهم: صلى على الوجه الذي يلزمه: أنه إن أرادوا يلزمه في نفس الأمر فلا نسلمه، وإن أرادوا في الظاهر وبالنسبة إلى اعتقاده فينتقض بمن نسي بعض الأعضاء، وعن القياس على السبع أنه لا تقصير فيه بخلاف مسألتنا، ولهذا اتفقنا على أن السبع لو حال بينه وبين ساتر العورة صحت صلاته عاريا، ولو تركها ناسيا أعاد. وأما قياسهم على البئر، فإن كانت ظاهرة لزمه الإعادة كما سبق فلا نسلم حكمها، وإن كانت خفية فالفرق أنه لا ينسب فيها إلى تفريط بخلاف النسيان والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن وجد بعض ما يكفيه ففيه قولان، قال في الأم: يلزمه أن يستعمل ما معه ثم يتيمم لقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6] وهذا واجد للماء فيجب ألا يتيمم وهو واجد له؛ ولأنه مسح أبيح للضرورة فلا ينوب إلا في موضع الضرورة كالمسح على الجبيرة، وقال في القديم والإملاء: يقتصر على التيمم؛ لأن عدم بعض الأصل بمنزلة عدم الجميع في جواز الاقتصار على البدل، كما نقول فيمن وجد بعض الرقبة في الكفارة".
الشرح: قوله: "مسح أبيح للضرورة" احتراز من مسح الخف، وإذا وجد المحدث حدثا أصغر أو أكبر بعض ما يكفيه من الماء لطهارته ففي وجوب استعماله القولان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما، واتفق الأصحاب على أن الأصح وجوب استعماله، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وداود، وحكاه ابن الصباغ عن عطاء والحسن بن صالح ومعمر بن راشد. والقول الآخر هو مذهب مالك وأبي حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي والمزني وابن المنذر. قال البغوي: وهو قول أكثر العلماء، والمختار الوجوب، ودليله مع ما ذكر المصنف حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم" رواه البخاري ومسلم. . والفرق بينه وبين بعض الرقبة في الكفارة بالنص والمعنى، أما النص فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}] [المجادلة: من الآية3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} 1 [المجادلة: من الآية4] معناه لم يجد رقبة، وهذا لم يجدها، وقال تعالى في التيمم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: من الآية6] وهذا واجد ماء. وأما المعنى؛ فلأن إيجاب بعض الرقبة مع الشهرين جمع بين البدل والمبدل، وذلك غير لازم. وفي مسألتنا التيمم يقع عن العضو الذي لم يغسله لا عن المغسول؛ ولأن عتق بعضها لا يفيد شيئا لا يفيده الصوم، وغسل بعض الأعضاء يفيد ما لا يفيده وهو رفع الحدث عن ذلك العضو.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  وما بين المعقوفين كان ساقطا من ش و ق والوحيدة (ط).

 

ج / 2 ص -215-       قال الفوراني والمتولي والروياني وصاحبا "العدة" والبيان: اختلف أصحابنا في أصل هذين القولين، فقيل: مأخوذان من تفريق الوضوء إن جوزناه وجب استعماله وإلا فلا. قالوا: والصحيح أنهما قولان مستقلان غير مأخوذين من شيء. قال أصحابنا: وإذا قلنا: لا يجب استعماله، فهو مستحب. قالوا: وإذا أوجبناه وجب تقديمه على التيمم؛ لأن التيمم لعدم الماء لا يصح مع وجوده بخلاف ما سنذكره في تيمم الجريح إن شاء الله تعالى. قالوا: فيستعمله المحدث في وجهه وما بعده على الترتيب ثم يتيمم لما بقي، ويستعمله الجنب أولا في أي بدنه شاء.
قال أصحابنا: ويستحب أن يبدأ بمواضع الوضوء ورأسه وأعالي بدنه، وأيهما أولى؟ فيه خلاف. نقل صاحبا "البحر" والبيان عن الأصحاب أنه يستحب أن يبدأ برأسه وأعاليه. قال صاحب البيان: ولو قيل: يستحب أن يبدأ بأعضاء الوضوء كان محتملا. وقطع البغوي وغيره باستحباب تقديم أعضاء الوضوء والرأس، والمختار تقديم أعضاء الوضوء ثم الرأس ثم الشق الأيمن، كما يفعل من يغسل جميع البدن، هذا إذا كان جنبا غير محدث، فإن كان جنبا محدثا، فإن قلنا بالمذهب: إن الحدث يندرج في الجنابة - فالحكم كما لو كان جنبا فقط، وإن قلنا: لا يندرج وكان الماء يكفي للوضوء وحده لزمه أن يتوضأ عن الحدث ويتيمم عن الجنابة، وهو مخير في تقديم الوضوء على تيمم الجنابة وتأخيره، إذ لا يجب الترتيب بين الطهارتين لكن يستحب تقديم الوضوء. هذا كله إذا وجد ترابا تيمم به، فإن لم يجده فطريقان في "التهذيب" وغيره. أحدهما: أن استعماله هذا الماء الناقص على القولين، وأصحهما: القطع بوجوب استعماله، وبه قطع المتولي، ونقله الروياني عن الأصحاب؛ لأنه لا بدل هنا فوجب استعماله بلا خلاف كبعض ما يستر العورة، بخلاف بعض الرقبة في الكفارة فإنه لا يعتقه العاجز عن الصوم؛ لأن الكفارة على التراخي. والله أعلم.
فرع: لو لم يجد ماء ووجد ثلجا وبردا لا يقدر على إذابته، فإن كان جنبا أو حائضا فوجوده كعدمه فيتيمم ويصلي ولا إعادة عليه -على المذهب- وبه قطع الجمهور. وحكى الدارمي وجها أن الإعادة تجب، ذكره في أول باب المياه، وقد ذكرته أنا هناك، وإن كان محدثا ففي وجوب استعماله في الرأس طريقان في "التهذيب" وغيره، قالوا: أصحهما لا يلزمه قولا واحدا؛ لأن الترتيب واجب فلا يمكن استعماله في الرأس قبل التيمم عن الوجه واليدين، ولا يمكن التيمم مع وجود ما يحكم بوجوب استعماله.
والطريق الثاني: أنه على القولين وبه قطع الجرجاني في "المعاياة". قال الجرجاني والروياني والرافعي وآخرون: فإذا قلنا يجب استعماله تيمم على الوجه واليدين تيمما واحدا، ثم مسح به الرأس ثم تيمم على الرجلين للترتيب، ولا يؤثر هذا الماء في صحة التيمم للوجه واليدين؛ لأنه لا يجب استعماله فيها، فوجوده بالنسبة إليهما كالعدم، وهذا الطريق أقوى في الدليل؛ لأنه واحد، والمحذور الذي قاله الأول يزول بما ذكرناه.
فرع: إذا لم يجد ماء ووجد ما يشتري به بعض ما يكفيه ففي وجوب شراه القولان في وجوب استعماله إذا كان معه.

 

ج / 2 ص -216-       فرع: إذا لم يجد شيئا من الماء ووجد ترابا لا يكفيه للوجه واليدين، بل لأحدهما فطريقان. أحدهما: 1 للبغوي والشاشي وغيرهما، أصحهما: القطع بوجوب استعماله، وبه قطع القاضي حسين، وكما لو وجد بعض ما يستر العورة أو أحسن بعض الفاتحة. والثاني: على القولين واختاره الشاشي في "المعتمد"، وضعف الطريق الأول، وقال: لو قيل لا يجب استعماله قولا واحدا لكان أولى، ووجهه بما ليس بتوجيه، فالصواب القطع بوجوب استعماله.
فرع: لو كان عليه نجاسات فوجد ما يغسل بعضها دون بعض فالمذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور: القطع بوجوب غسل ما أمكن كبعض الفاتحة والسترة، وحكى القاضي حسين في "تعليقه" وجها: أنه لا يجب؛ لأنه لا يسقط فرض الصلاة بخلافهما.
فرع: قال أصحابنا: لو تيمم لعدم الماء ثم رأى ماء، فإن احتمل عنده أنه يكفيه لطهارته بطل تيممه، وإن علم بمجرد رؤيته أنه لا يكفيه فهو على القولين في وجوب استعماله ابتداء إن أوجبناه بطل تيممه وإلا فلا. فرع: لو منع المتطهر من الوضوء إلا منكوسا فهل له التيمم؟ أم يلزمه غسل الوجه لتمكنه منه؟ فيه القولان فيمن وجد بعض ما يكفيه، حكاه صاحب "البحر" عن والده قال: ولا تلزمه إعادة الصلاة إذا امتثل المأمور به على القولين". 
قلت: في وجوب الإعادة احتمال، إلا أن الأظهر أنها لا تجب كما ذكره؛ لأنه في معنى من غصب ماؤه، ولا إعادة عليه قطعا.
فرع: قال صاحبا "الحاوي" والبحر: لو مات رجل معه ماء لنفسه لا يكفيه لغسل جميع بدنه، فإن قلنا: يجب استعمال الناقص وجب على رفيقه غسله به وتيممه للباقي. وإن قلنا: لا يجب اقتصر به على التيمم قالا: فعلى هذا لو غسله به ضمن قيمته لورثته؛ لأنه أتلفه من غير حاجة، وفيما قالاه نظر؛ لأن أصحابنا اتفقوا على استحباب استعمال الناقص فينبغي أن لا يضمن، ويمكن أن يقال: استحبابه يتوقف على رضاء المالك ولم يوجد.
فرع: لو كان محدثا أو جنبا أو حائضا وعلى بدنه نجاسة ومعه ماء لا يكفي إلا لأحدهما تعين عليه غسل النجاسة به؛ لأنه لا بدل لها بخلاف الحدث، وهذا متفق عليه عند أصحابنا، وحكاه العبدري عن أبي حنيفة ومحمد وأحمد وداود. ورواية عن أبي يوسف، وبه قال ابن المنذر. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو يوسف في الرواية الأخرى عنه: يتوضأ ولا يغسل النجاسة، وهو الظاهر من مذهب مالك، ودليلنا ما سبق.
قال أصحابنا: وينبغي أن يستعمل هذا الماء أولا في إزالة النجاسة، ثم يتيمم للحدث، فإن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  كذا في ش وق ولعله: فطريقان أحدهما قال البغوي والشاشي وغيرهما هو أصحهما أو بحذف أحدهما, لأنها زائدة (ط).

 

ج / 2 ص -217-       خالف فتيمم ثم غسلها ففي صحة تيممه وجهان سبقا في باب الاستطابة، وفي هذا الباب أحدهما: لا يصح؛ لأن التيمم يراد لإباحة الصلاة وهذا لا يبيحها لبقاء النجاسة عليه، وأصحهما: يصح، كما أن الجريح يجوز أن يتيمم ثم يغسل الصحيح، وإن كان تيممه لا تباح الصلاة عقبه، هكذا أطلق الأصحاب المسألة. وقال القاضي أبو الطيب في "تعليقه": هذا الذي ذكرناه من وجوب استعمال الماء في إزالة النجاسة دون الحدث هو فيما إذا كان مسافرا، فإن كان حاضرا فغسل النجاسة به أولى، يعني ولا يجب؛ لأنه لا بد من إعادة الصلاة، سواء غسل النجاسة أو توضأ.
فرع: قال أصحابنا: لو كان محرما وعلى بدنه طيب وهو محدث ومعه ما يكفي أحدهما فقط وجب غسل الطيب ويتيمم للحدث إن لم يمكن الوضوء به، وجمعه لغسل الطيب فإن أمكن وجب فعله، ولو كان عليه نجاسة وطيب غسل النجاسة، وقد ذكر المصنف هاتين المسألتين في الحج.
فرع: لو عدم ماء الطهارة وساتر العورة ووجدهما يباعان ومعه ثمن أحدهما، وجب شرى السترة؛ لأنه لا بدل لها؛ ولأن النفع بها يدوم؛ ولأنها تجب للصلاة والصيانة عن العيون، والماء يخالفها في كل هذا.
فرع: قال أصحابنا العراقيون: إذا أجنب فلم يجد الماء فتيمم وصلى فريضة ثم أحدث ووجد ما يكفيه لأعضاء وضوئه فقط فإن قلنا: يجب استعماله للجنابة بطل تيممه ولزمه استعماله، وإن قلنا: لا يجب قال ابن سريج رحمه الله: إن توضأ به ارتفع حدثه وجاز أن يصلي به النفل دون الفرض؛ لأن التيمم الذي ناب عن غسل الجنابة أباح فريضة وما شاء من النوافل، فلما أحدث حرمت النوافل، فإذا توضأ ارتفع تحريم النوافل ولا يستبيح الفرض؛ لأن هذا الوضوء لم ينب عن الجنابة، فإن لم يتوضأ به وتيمم للفريضة جاز واستباح الفريضة والنافلة جميعا، فإن تيمم للنافلة وحدها فوجهان.
أحدهما: يستبيحها كما يستبيحها إذا نوى الفريضة تبعا، وأصحهما: لا يستبيحها وهو قول القاضي أبي الطيب؛ لأنه يقدر على الوضوء لها فلا يستبيحها بالتيمم، بخلاف التيمم للفريضة فإنه ينوب عن غسل الجنابة. قالوا: وهذه المسألة مما يمتحن به، فيقال: وضوء يستباح به النافلة دون الفريضة ولا نظير لها. ويقال: وضوء يصح بنية استباحة النفل ولا يصح بنية استباحة الفرض، ويقال: محدث ممنوع من الصلاة لحدثه، فإن تيمم للفرض استباحه واستباح النفل، وإن تيمم للنفل لم يصح له ولا لغيره. وهذا السؤال الثالث يجيء على الوجه الثاني، وهذا كله تفريع على قولنا: لا يجب استعمال الناقص، هكذا ذكر هذه المسألة العراقيون والمتولي.
وحكى إمام الحرمين هذا عن العراقيين ثم قال: وهذا فيه نظر قال: والوجه أن يقال: الوضوء مع الجنابة لا أثر له، ولا يتضمن رفع الحدث ووجوده بمثابة ما إذا طرأ الحدث ثم وجد ماء قليلا فيخرج على وجوب استعماله، وسواء قلنا: يجب أو لا يجب، فلا بد من التيمم للنافلة، قال: وفي المسألة احتمال على الجملة. هذا كلام الإمام والمشهور ما سبق.

 

ج / 2 ص -218-       أما إذا اغتسل الجنب وبقي عضو من بدنه لم يجد له ماء فتيمم له، ثم أحدث فتيمم ثانيا، ثم وجد ماء يكفي ذاك العضو دون وضوئه، فقد قال القاضي حسين والمتولي والبغوي والروياني: إن قلنا فيمن وجد بعض ما يكفيه: لا يلزمه استعماله وجب استعمال هذا الماء في ذلك العضو، ولا يبطل تيممه؛ لأن التيمم الثاني وقع عن الحدث ولم يقدر بعده على ما يزيل الحدث.
وإن قلنا: يجب استعماله فقد تعارض فرضان أحدهما: الباقي من الجنابة والثاني: المقدور عليه من أعضاء الوضوء، وليس أحدهما أولى من الآخر. هذا كلام هؤلاء ونقله إمام الحرمين عن ابن سريج قال: ونقله الصيدلاني عنه ولم يعترض عليه.
قال الإمام: وفرقه بين قولنا: يجب استعماله أو لا يجب غير صحيح، وكذا أنكره الغزالي في "البسيط"، والشاشي. قال الشاشي: هذا بناء فاسد وتفريع باطل، بل يلزمه استعماله في العضو الباقي، من الجنابة -قولا واحدا- ولا يبطل تيممه على القولين؛ لأن الماء تعين استعماله عن الجنابة، والتيمم وقع عن الحدث، فلم يؤثر فيه ما لا يجب استعماله فيه. وهذا الذي قاله الشاشي هو الأظهر، وقد قطع صاحب "الحاوي" في باب صفة الغسل بأنه إذا أجنب فوجد ما يكفيه إلا موضعا يسيرا فاغتسل وبقي ذلك الموضع فتيمم وصلى، ثم وجد ما يكفيه لبدنه للباقي من الجنابة لزمه استعماله في هذا الباقي من الجنابة، ولا يستعمله في أعضاء الوضوء، فإذا استعمله في الباقي تيمم وصلى فرضا ونفلا. قال: وإن تيمم قبل استعماله جاز؛ لأن التيمم للحدث الطارئ، واستعمال الماء للجنابة فجاز تقديم أحدهما على الآخر. قال: فلو أراق هذا الماء بعد التيمم لم يكن له أن يصلي بهذا التيمم، بل يجدد تيمما بعد الإراقة؛ لأن تيممه لم يقع عن العضو الباقي من الجنابة والله أعلم.
قال المصنفرحمه الله تعالى: "وإن اجتمع ميت وجنب أو ميت وحائض انقطع دمها، وهناك ماء يكفي أحدهما، فإن كان لأحدهما كان صاحبه أحق به؛ لأنه محتاج إليه لنفسه، فلا يجوز له بذله لغيره، فإن بذله للآخر وتيمم لم يصح تيممه، وإن كان الماء لهما كانا فيه سواء. وإن كان الماء مباحا أو لغيرهما وأراد أن يجود به على أحدهما فالميت أولى؛ لأنه خاتمة طهارته، والجنب والحائض يرجعان إلى الماء فيغتسلان. وإن اجتمع ميت وحي على بدنه نجاسة والماء يكفي أحدهما، ففيه وجهان. أحدهما: صاحب النجاسة أولى؛ لأنه ليس لطهارته بدل ولطهارة الميت بدل، وهو التيمم [فكان 1 صاحب النجاسة أحق بالماء]. والثاني: الميت أولى وهو ظاهر المذهب؛ لأنه خاتمة طهارته، وإن اجتمع حائض وجنب والماء يكفي أحدهما، ففيه وجهان. قال أبو إسحاق رحمه الله: الجنب أولى؛ لأن غسله منصوص عليه في القرآن ومن أصحابنا من قال: الحائض أولى؛ لأنها تستبيح بالغسل ما يستبيح الجنب وزيادة وهو الوطء فكانت أولى، وإن اجتمع جنب ومحدث وهناك ماء يكفي المحدث ولا يكفي الجنب فالمحدث

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين من المتوكلية والركبي (ط).

 

ج / 2 ص -219-       أولى؛ لأن حدثه يرتفع به ولا يرتفع به حدث الجنب، وإن كان الماء يكفي الجنب ولا يفضل عنه شيء، ويكفي المحدث ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض بدنه ففيه ثلاثة أوجه. أحدها: الجنب أولى؛ لأنه يستعمل جميع الماء بالإجماع، وإذا دفعناه إلى المحدث بقي ماء مختلف في وجوب استعماله في الجنابة. والثاني: المحدث أولى؛ لأن فيه تشريكا بينهم في الماء. والثالث: أنهما سواء، فيدفع الماء إلى من شاء منهما، لأنه يرفع حدث كل واحد منهما، ويستعمله كل واحد منهما بالإجماع".
الشرح: في الفصل مسائل:
إحداها: إذا اجتمع ميت، وجنب، وحائض، ومحدث، ومن على بدنه نجاسة، وهناك ما يكفي أحدهم فإن كان لأحدهم فهو أحق به، ولا يجوز له أن يبذله لطهارة غيره. قال إمام الحرمين وغيره: لأن الإيثار إنما يشرع في حظوظ النفوس لا فيما يتعلق بالقرب والعبادات، قال أصحابنا: ويستوون كلهم في تحريم البذل، لما ذكرناه. هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع الجمهور. وحكى الدارمي وابن الصباغ وغيرهما عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: من أصحابنا من قال: فيه قول آخر أنه إن كان الماء للجنب أو الحائض أو المحدث لزمه أن يقدم الميت به على نفسه ويأخذ ثمنه من مال الميت. قال ابن الصباغ: وهذا لا يعرف للشافعي، والصواب الأول، وعليه التفريع، فلو خالف صاحب الماء وبذله لغيره قال المحاملي في "المجموع" والصيدلاني: لا تصح هبته، ولا يزول ملكه فيه، كأنه محجور عليه فيه، وذكر جماعات في صحة هبته وجهين، وسنشرحهما مع ما يتعلق بهما في مسألة من أراق الماء سفها، حيث ذكرها المصنف بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أصحابنا: فإذا صلى بالتيمم فإن كان الماء باقيا في يد الموهوب له لم يصح تيمم الباذل، وعليه إعادة الصلاة. وإن كان الماء قد تلف ففي وجوب الإعادة الوجهان فيمن أراق الماء بعد دخول الوقت سفها أصحهما: لا تجب وسنشرحهما في موضعهما إن شاء الله تعالى مع فروعهما، فهذا الذي ذكرته من التفصيل هو الذي قاله الأصحاب في الطريقين، ولم يوضح المصنف المسألة بتفصيلها، بل أطلق وجوب الإعادة. . وكلامه محمول على ما إذا تيمم والماء باق في يد الموهوب، وقد أنكر بعضه عليه إطلاقه ولا يصح إنكاره؛ لأن مراده ما ذكرته، هذا كله فيمن وهب بعد دخول الوقت، أما من وهب قبل الوقت فلا تحرم هبته وتصح صلاته بالتيمم، ولا إعادة كما لو أراقه قبل الوقت. وإذا أوجبنا الإعادة مع بقاء الماء أو مع عدمه على أحد الوجهين ففي قدر ما تجب إعادته ثلاثة أوجه، ستأتي هناك إن شاء الله تعالى، ومعنى قول الأصحاب في هذا: صاحب الماء أحق به أي لا حق لغيره فيه.
قال الأزهري: "أحق" في كلام العرب له معنيان. أحدهما: استيعاب الحق كله كقولك: فلان أحق بماله أي لا حق لأحد فيه غيره، والثاني: على ترجيح الحق وإن كان للآخر فيه نصيب، كقولك: فلان أحسن وجها من فلان، لا تريد نفي الحسن عن الآخر، بل تريد الترجيح، قال: وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها" أي: لا يفتات عليها فيزوجها بغير إذنها، ولم ينف حق

 

ج / 2 ص -220-       الولي، فإنه هو الذي يعقد عليها وينظر لها والله أعلم.
المسألة الثانية: إذا كان الماء لهم فهم فيه سواء، ولا يجوز لأحدهم أن يبذل نصيبه لطهارة غيره إن كان نصيب الباذل يكفيه، وإن كان لا يكفيه وقلنا: يجب استعماله لم يجز بذله وإلا فيجوز.
الثالثة: إذا كان الماء لأجنبي فأراد أن يجود به على أحوجهم أو أوصى بماء لأحوج الناس في الموضع الفلاني أو وكل من يصرفه إلى أحوجهم فأيهم أحق؟ فيه التفصيل الذي ذكره المصنف وسنشرحه إن شاء الله تعالى، هكذا صورها إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما، وصورها المصنف وجمهور الأصحاب في الطريقتين فيما إذا وصل هؤلاء المحتاجون إلى ماء مباح، وذكروا فيها التفاصيل المذكورة، وأنكر إمام الحرمين هذا عليهم وقال: هذا عندي غلط ظاهر، فإن الماء المباح إذا ازدحم عليه قوم وجب أن يستووا في تملكه، ولا يتوقف المالك على الحاجة، بل يجب القطع باستوائهم ويقسم الماء بينهم بالسوية، ولا ينظر إلى أحداثهم وأحوالهم قال: ولا خفاء بما نبهنا عليه من هذا الزلل.
قال الرافعي: "لا منافاة بين كلام إمام الحرمين وكلام الأصحاب؛ لأنهم أرادوا التقديم على سبيل الاستحباب وكأنهم يقولون: مجرد الوصول إلى الماء المباح لا يقتضي الملك، وإنما يثبت الملك بالاستيلاء والإحراز فيستحب لغير الأحوج ترك الاستيلاء والإحراز إيثارا للأحوج، والأصحاب يسلمون أنهم لو لم يفعلوا ذلك، واستولوا عليه وازدحموا كان الأمر كما ذكره إمام الحرمين، لكن يمكن أن ينازعهم فيما ذكروه من الاستحباب ويقول: هو متمكن من الطهارة بالماء فلا يجوز العدول إلى التيمم، كما لو ملك الماء".  هذا كلام الرافعي، فإذا ثبت دفعه إلى الأحوج ففيه صور. إحداها: إذا حضر ميت مع جنب أو حائض أو محدث، فهو أحق منهم لعلتين.
إحداهما: التي ذكرها الشافعي والمصنف والأصحاب أنه خاتمة أمره فخص بأكمل الطهارتين والأحياء سيجدون الماء. والثانية: أن القصد من غسل الميت تنظيفه، ولا يحصل بالتراب، والقصد من طهارة "الإحياء" استباحة الصلاة وذلك يحصل بالتيمم. وقال أبو يوسف: الحي أحق من الميت، وهو رواية عن مالك وأحمد قال أصحابنا: ولا يفتقر استحقاق الميت وتخصيصه إلى قبول وارث ونحوه، كما لو تطوع إنسان بتكفين ميت، فإنه لا يفتقر إلى قبول، وحكى الدارمي والرافعي وجها في اشتراط قبول هبة الماء للميت وليس بشيء.
الثانية: إذا حضر ميت ومن عليه نجاسة، فإن كان على الميت نجاسة، فهو أحق بلا خلاف، وإلا فوجهان مشهوران. الصحيح منهما عند الأصحاب: أن الميت أحق. قال أصحابنا: هما مبنيان على العلتين في الميت إن قلنا بالأولى فهو أحق، وإن قلنا بالثانية فالنجس أحق؛ لأنه لا يسقط فرضه بالتيمم وتحصل طهارة الميت بالتيمم، ولو حضر ميتان، والماء يكفي أحدهما فإن كان الماء موجودا قبل موتهما فالأول أحق، وإن وجد بعد موتهما أو ماتا معا فأفضلهما أحق به، فإن استويا أقرع بينهما، نقله الرافعي.

 

ج / 2 ص -221-       الثالثة: لو حضر من عليه نجاسة مع جنب وحائض ومحدث فهو أحق منهم بلا خلاف؛ لأنه لا بدل لطهارته.
الرابعة: حضر جنب وحائض فثلاثة أوجه مشهورة أصحها: عند الأصحاب: الحائض أحق لغلظ حدثها. وقول القائل الآخر: إن غسل الجنب منصوص عليه في القرآن لا حجة فيه، فإن غسلها ثابت بالأحاديث الصحيحة والإجماع. والوجه الثاني: الجنب أحق؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في صحة تيمم الجنب دون الحائض، فقدم لتصح طهارتهما بالإجماع، هكذا احتج له القاضي حسين والصيدلاني، قال إمام الحرمين: هذا ضعيف جدا، ولم يصح عن الصحابة في تيمم الحائض شيء. والثالث: يستويان حكاه الدارمي عن ابن القطان؛ فعلى هذا قال الأكثرون يقرع بينهما، وممن صرح بهذا القفال والقاضي حسين والمتولي والبغوي والروياني وآخرون، وقال إمام الحرمين وغيره: فيه تفصيل اختصره الرافعي فقال: إن طلب أحدهما القرعة والآخر القسمة فالقرعة أولى في أصح الوجهين والقسمة في الثاني. هذا إن أوجبنا استعمال الماء الناقص عن الكفاية وإلا تعينت القرعة، وإن اتفقا على القسمة جاز إن أوجبنا استعمال الناقص وإلا فلا؛ لأنه تضييع.
الخامسة: حضر جنب ومحدث، فإن كان الماء يكفي الوضوء دون الغسل، فالمحدث أحق إن لم نوجب استعمال الناقص، وإن أوجبناه فثلاثة أوجه. أصحها: المحدث أحق؛ لأنه يرتفع به حدثه بكماله. والثاني: الجنب أحق لغلظ حدثه. والثالث: يستويان ويجيء فيه ما سبق من الإقراع والقسمة، وقول المصنف: "فيدفع إلى من شاء منهما "المراد به إذا كان صاحب الماء يجود به على المحتاج، وأما الوكيل والوصي والحاكم في المباح فيقرعون بينهما على الأصح، ويقسمون على الوجه الآخر ولا تخيير، وإن لم يكن الماء كافيا لواحد منهما فالجنب أولى إن أوجبنا استعمال الناقص، وإلا فكالمعدوم، وإن كان كافيا لكل واحد منهما نظر إن فضل عن الوضوء منه شيء ولم يفضل عن الغسل، فالجنب أولى إن لم نوجب استعمال الناقص؛ لأنه إذا استعمله المحدث يضيع الباقي، وإن أوجبنا استعمال الناقص ففيه الأوجه الثلاثة المذكورة في الكتاب، أصحها: الجنب أحق. والثاني: المحدث. والثالث: هما سواء.
وإن لم يفضل من واحد منهما شيء، أو فضل عن كل واحد منهما شيء فالجنب أحق، وفي "الحاوي" - وجه - أنه إذا كان لا يفضل عن واحد منهما شيء فهما سواء، والصحيح الأول، وإن كان يكفي الغسل ولا يكفي الوضوء إن تصور ذلك فالجنب أحق. قال الرافعي: "ويتصور ذلك بأن يكون المغتسل نضو الخلق فاقد الأعضاء، والمتوضئ ضخم الأعضاء" وإذا استعمل الماء -في هذه المسائل- غير من قلنا: إنه أحق فقد أساء، وطهارته صحيحة والله أعلم.
فرع: قال الشافعي في "مختصر المزني" رحمهما الله: لو كان مع الميت ماء، فخافت رفقته العطش شربوه ويمموه وأدوا ثمنه في ميراثه، واتفق أصحابنا على أنه يحل لهم شربه وعليهم ضمانه بقيمته يوم الشرب، كما قلنا في غيره من المتلفات. قال القاضي أبو الطيب وغيره: وسمى الشافعي القيمة هنا ثمنا مجازا، وإلا فحقيقة الثمن ما كان في عقد، ولكن قد سمت العرب القيمة ثمنا.

 

ج / 2 ص -222-       قلت: قد قال أهل اللغة مثل هذا، فقال الأزهري في تهذيب اللغة: قال الليث: ثمن كل شيء قيمته، وقال الهروي في "الغريبين": الثمن قيمة الشيء.
قال أصحابنا: وإنما أوجبنا القيمة ولم نوجب المثل، وإن كان الماء مثليا؛ لأن المسألة مفروضة فيما إذا كانوا في برية للماء فيها قيمة، ثم رجعوا إلى بلدهم، ولا قيمة للماء فيه، وأراد الوارث تغريمهم في البلد فلو ردوا الماء لكان إسقاطا للضمان. هذا هو المذهب الصحيح المقطوع به في طرق الأصحاب، وحكى صاحب "البحر" والرافعي وجها: أن مراد الشافعي بالثمن المثل، وأنه يرد مثل الماء لا قيمته وهذا شاذ والصواب الأول. وأما إذا غرموا في موضع الشرب فإنهم يغرمون مثل الماء بلا خلاف، قال صاحبا "العدة" والبحر: وكذا لو غرموا في موضع آخر للماء فيه قيمة فلهم أداء مثل الماء، وإن كان أقل من قيمته يوم الإتلاف كمن أتلف حنطة غرم مثلها، وإن كانت قيمتها يوم الغرم أقل. ولو غرموا القيمة ثم اجتمعوا هم والوارث في موضع للماء فيه قيمة، فهل له رد القيمة والمطالبة بمثل الماء؟ وجهان، كالوجهين فيمن أتلف مثليا فتعذر المثل فغرم القيمة ثم وجد المثل، هل للمالك أن يرد القيمة ويطالب بالمثل؟ هكذا قاله القاضي حسين والفوراني وصاحب "العدة" وآخرون وسنوضح المسألة في كتاب الغصب 1 إن شاء الله تعالى.
هذا كله إذا احتاج "الإحياء" إلى ماء الميت للعطش، فأما إذا لم يحتاجوا إليه للعطش بل للطهارة، فإنهم يغسلونه منه بقدر حاجته، وما بقي حفظوه للورثة، ويحرم عليهم الوضوء به بل يتيممون، فإن توضئوا به أثموا وضمنوه على ما سبق والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن لم يجد ماء ولا ترابا صلى على حسب حاله [وأعاد 2 الصلاة]؛ لأن الطهارة شرط من شروط الصلاة فالعجز عنها لا يبيح ترك الصلاة كستر العورة وإزالة النجاسة واستقبال القبلة والقيام والقراءة".
فرع: قوله: "على حسب حاله" هو بفتح السين أي قدر حاله، ولو حذف لفظة حسب صح الكلام أيضا، وقوله: "شرط من شروط الصلاة" احتراز من العقل فإنه شرط، ولكن من شروط التكليف، وقوله: "والقيام والقراءة" مما ينكر عليه؛ لأنه جعلهما من الشروط، ومعلوم عنده وعند غيره أنهما ليسا من الشرط، بل من الفرائض والأركان، وكان ينبغي أن يحذفهما فقد حصل الغرض بما قبلهما، أو يقول: لأن الطهارة لازم من لوازم الصلاة؛ ليتناول كل المذكورات وكأنه أراد بالشرط ما لا تصح الصلاة إلا بوجوده لا حقيقته.
وأما حكم المسألة: فإذا لم يجد المكلف ماء ولا ترابا بأن حبس في موضع نجس أو كان في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  وضحناه نحن بقدر ما استطعنا وله الحمد والمنة على نعمة إكماله (ط).
2  ما بين المعقوفين من المتوكلية (ط).

 

ج / 2 ص -223-       أرض ذات وحل ولم يجد ماء يجففه به أو ما أشبه ذلك، ففيه أربعة أقوال حكاها أصحابنا الخراسانيون: أحدها: يجب عليه أن يصلي في الحال على حسب حاله، ويجب عليه الإعادة إذا وجد ماء أو ترابا في موضع يسقط الفرض فيه بالتيمم. وهذا القول هو الصحيح الذي قطع به كثيرون من الأصحاب أو أكثرهم وصححه الباقون، وهو المنصوص في الكتب الجديدة. والثاني: لا تجب الصلاة بل تستحب ويجب القضاء، سواء صلى أم لم يصل حكوه عن القديم، وحكاه الشيخ أبو حامد وغيره من العراقيين. والثالث: يحرم عليه الصلاة ويجب القضاء، حكاه إمام الحرمين وجماعة من الخراسانيين عن القديم والرابع: تجب الصلاة في الحال على حسب حاله ولا تجب الإعادة، حكوه عن القديم أيضا، وستأتي أدلة هذه الأقوال في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى.
قال إمام الحرمين: وإذا قلنا تجب الصلاة في الوقت ويجب القضاء فالمذهب الظاهر: أن ما يأتي به في الوقت صلاة ولكن يجب تدارك النقص، ولا يمكن إلا بفعل صلاة كاملة. قال: ومن أصحابنا من قال: الذي يأتي به تشبه كالإمساك في رمضان لمن أفطر عمدا. قال الإمام: وهذا بعيد جدا.
قال أصحابنا: فإذا قلنا بالمذهب وهو وجوب الصلاة في الحال ووجوب القضاء صلى الفرض وحده ولا يجوز النفل ولا مس المصحف وحمله، فإن كان جنبا لم يجز له المكث في المسجد ولا قراءة القرآن في غير الصلاة، وإن كانت امرأة انقطع حيضها لم يجز وطؤها؛ لأن هذه الأشياء إنما تباح بالطهارة ولم تأت بها، وإنما صلى الفريضة للضرورة محافظة على حرمتها.
وحكى الجرجاني في "المعاياة" وصاحب "البيان" وجها: أنه يباح وطؤها وليس بشيء وإذا صلى الفرض وكان جنبا، أو منقطعة الحيض، لم يقرأ في الصلاة ما زاد على الفاتحة بلا خلاف، وفي الفاتحة وجهان سبق بيانهما وشرحهما في آخر باب ما يوجب الغسل، أصحهما: تجب. والثاني: تحرم، بل يأتي بالأذكار التي يأتي بها من لا يحسن الفاتحة، قال أصحابنا: وإذا شرع في الصلاة على حسب حاله فرأى الماء أو التراب في أثنائها بطلت صلاته. هذا هو الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور.
وحكى القاضي حسين وجها أنها لا تبطل كالوجه المحكي في طريقة خراسان: أن المتيمم في الحضر إذا رأى الماء في أثناء الصلاة لا تبطل، وهذا الوجه ليس بشيء. قال أصحابنا: ولو أحدث في هذه الصلاة أو تكلم بطلت بلا خلاف.
فرع: قال أبو العباس الجرجاني في "المعاياة": ليس أحد يصح إحرامه بصلاة الفرض ولا يصح بالنفل إلا من عدم الماء والتراب أو السترة الطاهرة، أو كان على بدنه نجاسة لا يقدر على إزالتها والله أعلم.
فرع: قال أصحابنا: إذا عدم الماء والتراب فصلى على حسب حاله وأوجبنا الإعادة أعاد، إذا وجد الماء أو وجد التراب في موضع يسقط الفرض فيه بالتيمم. أما إذا قدر على التيمم في حالة لا

 

ج / 2 ص -224-       يسقط الفرض فيها بالتيمم كالحضر فإنه لا يعيدها بالتيمم؛ لأنه لا فائدة في الإعادة حينئذ، وكيف يصلي محدثا صلاة لا تنفعه من غير ضرورة ولا حرمة وقت؟ وإنما جازت صلاة الوقت في هذا الحال؛ لحرمة الوقت، وقد زال.
قال الروياني: قال والدي: إذا كان عليه صلاة فائتة بغير عذر وقلنا: يجب قضاؤها على الفور فعدم الماء والتراب، فعندي أنه لا يلزمه القضاء في هذه الحالة؛ لأنا لو ألزمناه ذلك احتاج إلى الإعادة ثانيا وثالثا، وما لا يتناهى بخلاف المؤداة، فإنه يجب فعلها لحرمة الوقت، ولا يؤدي إلى التسلسل. قال: وهل له أن يقضي في هذه الحالة؟ فيه وجهان، يعني يقضي في الحال ثم يقضي إذا وجد الطهور.
قلت: والصواب منهما أنه لا يجوز لما ذكرناه، والله أعلم.
فرع: إذا ربط على خشبة أو شد وثاقه أو منع الأسير أو غيره من الصلاة، وجب عليهم أن يصلوا على حسب حالهم بالإيماء، ويكون إيماؤه بالسجود أخفض من الركوع ويجب الإعادة. أما وجوب الصلاة فلحرمة الوقت، وأما الإعادة؛ فلأنه عذر نادر غير متصل. هذا هو المذهب الصحيح المشهور.
وحكى القاضي أبو الطيب وصاحب "الحاوي" وجماعة من العراقيين والخراسانيين فيهم قولا قديما: أنه لا إعادة عليهم كالمريض، والفرق على المذهب أن المرض يعم. وقال الصيدلاني في هذا وفي الغريق يتعلق بعود ويصلي بالإيماء: إن استقبل القبلة فلا إعادة، كالمريض يصلي بالإيماء وإلا وجبت الإعادة. وقال البغوي في الغريق يصلي بالإيماء: لا يعيد ما يصلي إلى القبلة ويعيد غيره في أصح القولين. وأما المريض إذا لم يجد من يحوله إلى القبلة فيجب أن يصلي على حسب حاله وتجب الإعادة على الصحيح المشهور لندوره. قال الروياني: ومن أصحابنا من قال: في الإعادة قولان، وهذا شاذ والله أعلم.
فرع: إذا أوجبنا الإعادة في هذه المسائل السابقة ومسألة من لم يجد ماء ولا ترابا، ومسألة من صلى بنجاسة لا يقدر على إزالتها فأعاد ففي الفرض من صلاته أربعة أقوال حكاها الشيخ أبو حامد والأصحاب في الطريقتين. وذكر صاحب "الحاوي" أن المزني وأبا علي بن أبي هريرة نقلاها، وقد ذكرها المصنف في مسألة النجاسة في باب طهارة البدن. قال إمام الحرمين وغيره: كل صلاة صلاها في الوقت عالما باختلالها مع بذل الإمكان ثم أمرناه بالقضاء فقضاها، ففي الواجب من الصلاتين أربعة أقوال. أصحها عند الأصحاب: أنها الثانية، وهو نصه في الأم. والثاني: الأولى. والثالث: إحداهما لا بعينها. والرابع: كلاهما واجب، وهو نصه في الإملاء، واختاره القفال والفوراني وابن الصباغ، وهو قوي؛ لأنه مكلف بهما، ويظهر فائدة الخلاف في مسائل:
منها إذا أراد أن يصلي الثانية بتيمم الأولى، وسيأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى، وسيأتي في بيان هذه الأقوال وما يشبهها من الصلوات المفعولات على نوع خلل زيادات في آخر الباب في فرع مستقل بذلك إن شاء الله تعالى.

 

ج / 2 ص -225-       فرع: في مذاهب العلماء فيمن لم يجد ماء ولا ترابا، قد قدمنا أن في مذهبنا أربعة أقوال، وقال بكل واحد منها طائفة من العلماء، فحكى ابن المنذر عن الأوزاعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي أنه لا يصلي في الحال، بل يصبر حتى يجد الماء أو التراب، وهو قول أبي يوسف ورواية عن أبي ثور، والرواية الأخرى عنه: أنه لا يصلي ولا يعيد، وحكاها أصحابنا عن داود، وعن مالك رواية أنه يصلي ويعيد، ورواية أنه يصلي ولا يعيد، ورواية لا يصلي، وفي الإعادة عندهم خلاف.
وقال أحمد: يصلي، وفي الإعادة روايتان. وقال المزني: يصلي ولا يعيد، وكذا عنده كل صلاة صلاها على حسب حاله لا تجب إعادتها، صرح بذلك في مختصره ونقله عنه الأصحاب، واحتج من منع الصلاة في الحال بقول الله تعالى:
{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً} [النساء: من الآية43] وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" رواه مسلم. وبحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الصلاة الطهور" رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وبالقياس على الحائض قبل انقطاع حيضها.
واحتج من لم يوجبها في الحال ولم يوجب القضاء بأنه عاجز عن الطهارة كالحائض، واحتج لمن قال: يصلي ولا يعيد بحديث عائشة رضي الله عنها
"أنها استعارت قلادة من أسماء فهلكت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم" رواه البخاري ومسلم. ووجه الدلالة: أنهم صلوا بغير طهارة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة، قالوا: ولأن إيجاب الإعادة يؤدي إلى إيجاب ظهرين عن يوم، وقياسا على المستحاضة والعريان والمصلي بالإيماء لشدة الخوف أو للمرض. 
واحتج أصحابنا لوجوب الصلاة في الحال بحديث عائشة المذكور، فإن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم صلوا على حسب حالهم حين عدموا المطهر معتقدين وجوب ذلك، وأخبروا به النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم ولا قال: ليست الصلاة واجبة في هذا الحال، ولو كانت غير واجبة لبين ذلك لهم، كما قال لعمار رضي الله عنه: "إنما كان يكفيك كذا وكذا" وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" رواه البخاري ومسلم. وهو مأمور بالصلاة بشروطها، فإذا عجز عن بعضها أتى بالباقي، كما لو عجز عن ستر العورة أو القبلة أو ركن كالقيام.
واحتجوا لوجوب الإعادة بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يقبل الله صلاة بغير طهور" ولأنه عذر نادر غير متصل فلم تسقط الإعادة، كمن صلى محدثا ناسيا أو جاهلا حدثه، وكمن صلى إلى القبلة فحول إنسان وجهه عنها مكرها أو منعه من إتمام الركوع، فإنه يلزمه الإعادة بالاتفاق. كذا نقل الاتفاق فيه الشيخ أبو محمد الجويني، قال: وهذا مما وافق عليه المزني.
وأما الجواب عن احتجاج الأولين بالآية فمن وجهين.
أحدهما: أن المراد لا تقربوا موضع الصلاة وهو المسجد.

 

ج / 2 ص -226-       والثاني: أنها محمولة على واجد المطهر، وهذا الثاني هو الجواب عن الحديث أيضا؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب" معناه إذا قدر عليها، وهذا هو الجواب أيضا عن الحديث الآخر. والجواب عن قياسهم على الحائض: أن الحائض مكلفة بترك الصلاة لا طريق لها إلى فعلها ولو وجدت الطهور، وهذا بخلافها.
والجواب عن حديث عائشة: أن تأخير "البيان" إلى وقت الحاجة جائز والقضاء على التراخي. والجواب عن قولهم يؤدي إلى إيجاب ظهرين: أنه لا امتناع في ذلك إذا اقتضاه الدليل، كما إذا اشتبه عليه وقت الصلاة أو الصوم فصلى وصام بالاجتهاد، ثم تحقق أنه فعله قبل الوقت وأدرك الوقت، فإنه يلزمه الإعادة، فقد أوجبنا عليه ظهرين. والجواب عن المستحاضة: أن عذرها إذا وقع دام، وعمن بعدها أن أعذارهم عامة، فلو أوجبنا الإعادة شق وحصل الحرج بخلاف مسألتنا والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما الخائف من استعمال الماء، فهو أن يكون به مرض أو قروح يخاف معها من استعمال الماء، أو في برد شديد يخاف التلف من استعمال الماء، فينظر فيه، فإن خاف التلف من استعمال الماء جاز له التيمم لقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6] قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا كانت بالرجل جراحة في سبيل الله عز وجل أو قروح أو جدري فيجنب فيخاف أن يغتسل فيموت فإنه يتيمم بالصعيد".
وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا عمرو: وصليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: من الآية29] ولم ينكر عليه". وإن خاف الزيادة في المرض وإبطاء البرء قال في الأم: لا يتيمم، وقال في القديم و"البويطي" والإملاء: يتيمم إذا خاف الزيادة، فمن أصحابنا من قال: هما قولان. أحدهما: يتيمم؛ لأنه يخاف الضرر من استعمال الماء فأشبه إذا خاف التلف والثاني: لا يجوز؛ لأنه واجد للماء لا يخاف التلف من استعماله، فأشبه إذا خاف أنه يجد البرد، ومنهم من قال: لا يجوز قولا واحدا وما قاله في القديم و"البويطي" و"الإملاء" محمول عليه إذا خاف زيادة مخوفة، وحكى أبو علي في "الإفصاح" طريقا آخر أنه يتيمم قولا واحدا، وإن خاف من استعمال الماء شيئا فاحشا في جسمه فهو كما لو خاف الزيادة في المرض؛ لأنه يتألم قلبه بالشين الفاحش كما يتألم بزيادة المرض".
الشرح: أما قول ابن عباس رضي الله عنهما فرواه البيهقي موقوفا على ابن عباس، ورواه مرفوعا أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما حديث عمرو بن العاص فرواه أبو داود والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على "الصحيحين" والبيهقي، ولكن رووه من طريقين مختلفتي الإسناد والمتن، متن إحداهما كما ذكره في المهذب، ومتن الثانية أن عمرا احتلم فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم "وذكر الباقي بمعنى ما سبق ولم يذكر التيمم، قال الحاكم في الرواية الثانية: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم قال: والذي عندي أنهما عللاه بالرواية الأولى يعني لاختلافهما,

 

ج / 2 ص -227-       وهي قضية واحدة. قال الحاكم: ولا تعلل رواية التيمم رواية الوضوء، فإن أهل مصر أعرف بحديثهم من أهل البصرة، يعني: أن رواية الوضوء يرويها مصري عن مصري، ورواية التيمم بصري عن مضري. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون فعل ما نقل في الروايتين جميعا، فغسل ما أمكنه وتيمم الباقي، وهذا الذي قاله البيهقي متعين؛ لأنه إذا أمكن الجمع بين الروايتين تعين.
وقوله: مغابنه بفتح الميم وبغين معجمة، وبعد الألف باء موحدة مكسورة، والمراد بها هنا الفرج وما قاربه، والقروح الجروح ونحوها، واحدها قرح بفتح القاف وضمها، والجدري بضم الجيم وفتحها لغتان فصيحتان، والدال مفتوحة فيهما، وإبطاء البرء هو بضم الباء وإسكان الراء، وبعدها همزة، يقال: برئ من المرض برءا بضم الباء، وبرأ برءا بفتحها، وبرأ برءا ثلاث لغات أفصحهن الثانية، وهو مهموز فيهن. ومنهم من ترك الهمز تخفيفا، وقوله أشفقت أي خفت، وقوله: أهلك هو بكسر اللام هذه اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن، وحكى أبو البقاء فتحها وأنه قرئ به في الشواذ، وهذا شاذ إن ثبت، وذات السلاسل بفتح السين الأولى وكسر الثانية وهي من غزوات الشام، وكان في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة وأميرها عمرو بن العاص قيل: سميت بذلك باسم ماء بأرض جذام يقال له المسلسل، كذا ذكره ابن هشام في كتابه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره غيره، وهذا يؤيد ما ذكرناه أنها بفتح السين الأولى وهذا هو المشهور، وقد حكي فيها الضم، وقد أوضحته في "تهذيب الأسماء واللغات". وعمرو بن العاص يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا محمد وأسلم قبل الفتح بأشهر 1، وقيل: أسلم بين الحديبية وخيبر. مات بمصر عاملا عليها سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وأربعين، وقيل: إحدى وخمسين يوم الفطر وهو ابن سبعين سنة، ويقال: ابن العاصي، والعاص بإثبات الياء وحذفها، وإثباتها هو الصحيح الفصيح وفي حديثه هذا فوائد.
إحداها: جواز التيمم لخوف التلف مع وجود الماء.
الثانية: جواز التيمم للجنب.
الثالثة: أن التيمم لشدة البرد في السفر يسقط الإعادة.
الرابعة: التيمم لا يرفع الحدث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جنبا.
الخامسة: جواز صلاة المتوضئ خلف المتيمم.
السادسة: استحباب الجماعة للمسافرين.
السابعة: أن صاحب الولاية أحق بالإمامة في الصلاة، وإن كان غيره أكمل طهارة أو حالا منه.
الثامنة: جواز قول الإنسان: سمعت الله يقول أو: الله يقول: كذا، وقد كره هذه الصيغة مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي، وقال: إنما يقال: قال الله بصيغة الماضي وهذا الذي قاله شاذ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  على ما حققناه في كتابنا (خالد بن الوليد) أنه أسلم مع خالد في صغر في السنة الثامنة (ط).

 

ج / 2 ص -228-       باطل، ويرده الكتاب والسنة واستعمال الأمة، وقد ذكرت دليله مبسوطا في كتاب أدب القراء وكتاب الأذكار. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب: من الآية4]. وفيه فضيلة لعمرو لحسن استنباطه من القرآن، وفيه غير ذلك من الفوائد والله أعلم.
أما حكم المسألة: فالمرض ثلاثة أضرب:
أحدها: مرض يسير لا يخاف من استعمال الماء معه تلفا ولا مرضا مخوفا ولا إبطاء برء ولا زيادة ألم ولا شيئا فاحشا، وذلك كصداع ووجع ضرس وحمى وشبهها، فهذا لا يجوز له التيمم بلا خلاف عندنا، وبه قال العلماء كافة إلا ما حكاه أصحابنا عن أهل الظاهر وبعض أصحاب مالك: أنهم جوزوه للآية، دليلنا: أن التيمم رخصة أبيحت للضرورة فلا يباح بلا ضرورة ولا ضرورة هنا، ولأن واجد الماء لا يخاف ضررا فلا يباح التيمم كما لو خاف ألم البرد دون تعقب ضرر. قال أصحابنا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر وغيره، فندب إلى الماء للحمى فلا تكون سببا لتركه والانتقال إلى التيمم، والجواب عن الآية من وجهين. أحدهما: أن ابن عباس رضي الله عنهما فسرها بالجراحة ونحوها كما سبق، وروى هذا التفسير مرفوعا كما سبق، والجراحة ونحوها يخاف معها الضرر من الماء فلا يلحق بها غيرها. والثاني: أنها لو كانت عامة لخصصناها بما سبق. الضرب الثاني: مرض يخاف معه من استعمال الماء تلف النفس أو عضو أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس أو عضو أو فوات منفعة عضو، فهذا يجوز له التيمم مع وجود الماء بلا خلاف بين أصحابنا إلا صاحب "الحاوي"، فإنه حكى في خوف الشلل طريقين أحدهما: فيه قولان كما في خوف زيادة المرض، وأصحهما: القطع بالجواز، كما قاله الجمهور وإلا ما حكاه إمام الحرمين عن العراقيين أنهم نقلوا في جواز التيمم لمن خاف مرضا مخوفا قولين، وهذا النقل عنهم مشكل، فإن الموجود في كتبهم كلهم القطع بجواز التيمم لخوف حدوث مرض مخوف، وقد أشار الرافعي أيضا إلى الإنكار على إمام الحرمين في هذا النقل هذا بيان مذهبنا. وحكى أصحابنا عن عطاء بن أبي رباح والحسن البصري أنهما قالا: لا يجوز التيمم للمريض إلا عند عدم الماء لظاهر الآية. دليلنا ما سبق من تفسير ابن عباس وحديث عمرو بن العاص، وحديث الرجل الذي أصابته الشجة وغيره من الأدلة الظاهرة، وأما الآية فحجة لنا وتقديرها والله أعلم وإن كنتم مرضى فعجزتم أو خفتم من استعمال الماء أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا.
الضرب الثالث: أن يخاف إبطاء البرء، أو زيادة المرض وهي كثرة الألم وإن لم تطل مدته أو شدة الضنى، وهو الداء الذي يخامر صاحبه، وكلما ظن أنه برئ نكس، وقيل: هو النحافة والضعف أو خاف حصول شين فاحش على عضو ظاهر وهو الذي يبدو في حال المهنة غالبا، ففي هذه الصور النصوص، والخلاف الذي ذكره المصنف وحاصله ثلاث طرق، الصحيح منها: أن في المسألة قولين أصحهما: جواز التيمم ولا إعادة عليه، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود وأكثر العلماء لظاهر الآية وعموم البلوى؛ ولأنه لا يجب شراء الماء بزيادة يسيرة لدفع الضرر، والضرر هنا أشد,

 

ج / 2 ص -229-       ولأنه يجوز الفطر في ترك القيام في الصلاة بهذا النوع ودونه فههنا أولى. والقول الثاني: لا يجوز التيمم وبه قال عطاء والحسن وأحمد. والطريق الثاني: القطع بالجواز. والثالث: القطع بالمنع، وحكى أصحابنا عن أبي إسحاق المروزي أنه لا يجوز التيمم للشين الفاحش قطعا، وإنما الخلاف في زيادة المرض وغيره مما سبق، وحكى الماوردي عنه أنه على الخلاف، وهذا هو الصحيح ودليله ما ذكره المصنف ثم الخلاف في شين فاحش على عضو ظاهر كما ذكرنا؛ فأما "شين يسير على عضو ظاهر" كسواد قليل، وشين كثير على عضو غير ظاهر فلا يبيح التيمم؛ لأنه ليس فيه ضرر كثير فأشبه الصداع ونحوه والله أعلم.
فرع: إذا كانت العلة المرخصة في التيمم مانعة من استعمال الماء في جميع أعضاء الطهارة تيمم عن الجميع، فإن منعت بعضا دون بعض غسل الممكن وتيمم عن الباقي، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في فصل تيمم الجريح.
فرع: قال أصحابنا: يجوز أن يعتمد في كون المرض مرخصا في التيمم وأنه على الصفة المعتبرة على معرفة نفسه إن كان عارفا وإلا فله الاعتماد على قول طبيب واحد حاذق مسلم بالغ عدل، فإن لم يمكن بهذه الصفة لم يجز اعتماده، وفيه وجه ضعيف أنه يجوز اعتماد قول صبي مراهق وبالغ فاسق، لعدم التهمة، حكاه صاحبا "التتمة" والتهذيب وغيرهما، واتفقوا على أنه لا يعتمد الكافر ويقبل قول المرأة وحدها والعبد وحده، هذا هو الصحيح المشهور. ، ورأيت في نسخة من تعليق القاضي حسين فيهما وجهين، ويقبل قول واحد على المذهب، وبه قطع القاضي حسين والمتولي والبغوي وغيرهم، وحكى الرافعي عن أبي عاصم أنه حكى في اشتراط العدد وجها، والصحيح الأول؛ لأنه من باب الأخبار، وإذا لم يجد طيبا بالصفة المشروطة فقد قال صاحب البحر، قال أبو علي السنجي: لا يتيمم، ولم يزد على هذا ولم أر لغيره موافقة له ولا مخالفة.
فرع: قال أصحابنا: لا فرق في هذه المسائل في تيمم المريض بين المسافر والحاضر ولا بين الحدث الأصغر والأكبر، ولا إعادة في شيء من هذه الصورة الجائزة بلا خلاف، سواء فيه المسافر والحاضر لعمومه.
فرع: إذا تيمم للمرض ثم برأ في أثناء صلاته، فهو كالمسافر يجد الماء في صلاته، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، قاله الدارمي والمحاملي في "اللباب" وغيرهما وهو ظاهر.
فرع: الأقطع والمريض الذي لا يخاف ضررا من استعمال الماء إذا وجد ماء ولم يقدر على استعماله فقد قدمنا في باب صفة الوضوء أنه يلزمه تحصيل من يوضئه بأجرة أو غيرها. فإن لم يجد وقدر على التيمم وجب عليه أن يتيمم ويصلي ثم يعيد، كذا نص عليه الشافعي، ونقله الشيخ عن نص الشافعي ولم يذكر غيره، وكذا حكاه آخرون عن النص وصرح به أيضا جماعات من الأصحاب وكذا قال صاحب "التهذيب" في الزمن، عندما لا يجد من يناوله يتيمم ويصلي ويعيد الصلاة، وشذ صاحب "البيان" عن الأصحاب، فقال: يصلي على حسب حاله ويعيد، ولا يتيمم؛ لأنه واجد للماء.

 

ج / 2 ص -230-       وهذا الذي قاله غلط فاحش مخالف لنص الشافعي والأصحاب، والدليل: لأنه عاجز عن استعماله فهو كما لو حال بينهما سبع، وإنما وجبت الإعادة لندوره والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كان في بعض بدنه قرح يخاف استعمال الماء فيه التلف غسل الصحيح وتيمم عن الجريح، وقال أبو إسحاق: يحتمل قولا آخر أن يقتصر على التيمم، كما لو عجز عن الماء في بعض بدنه للإعواز، والأول أصح؛ ; لأن العجز هناك ببعض الأصل، وهاهنا العجز ببعض البدن، وحكم الأمرين مختلف، ألا ترى أن الحر إذا عجز عن بعض الأصل في الكفارة جعل كالعاجز عن جميعه في جواز الاقتصار على البدل، ولو كان نصفه حرا ونصفه عبدا لم يكن العجز بالرق في البعض كالعجز بالجميع، بل إذا ملك بنصفه الحر مالا لزمه أن يكفر بالمال".
الشرح: قال أصحابنا: إذا كان في بعض أعضاء طهارة المحدث أو الجنب والحائض والنفساء قرح ونحوه، وخاف من استعمال الماء الخوف المجوز للتيمم لزمه غسل الصحيح والتيمم عن الجريح، هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقاله جمهور أصحابنا المتقدمين. وقال أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة والقاضي أبو حامد المروزي: فيه قولان: كمن وجد بعض ما يكفيه من الماء أحدهما: يجب غسل الصحيح والتيمم والثاني: يكفيه التيمم، والمذهب الأول، وأبطل الأصحاب هذا التخريج بما ذكره المصنف. قال أصحابنا: فإن كان الجريح جنبا أو حائضا أو نفساء، فهو مخير إن شاء غسل الصحيح ثم تيمم عن الجريح، وإن شاء تيمم ثم غسل إذ لا ترتيب في طهارته. قال أصحابنا: وهذا بخلاف المسافر إذا وجد بعض ما يكفيه، وأوجبنا استعماله فإنه يجب استعماله أولا ثم يتيمم؛ لأنه هناك أبيح له التيمم لعدم الماء، فلا يجوز مع وجوده، وهنا أبيح للجراحة وهي موجودة. هذا هو الصحيح المشهور، وحكى القاضي حسين وإمام الحرمين والمتولي وغيرهم -وجها- أنه يجب تقديم الغسل هنا وهو شاذ ضعيف.
قال أصحابنا: فإن كانت الجراحة على وجهه فخاف إن غسل رأسه نزول الماء إليها لم يسقط غسل الرأس، بل يلزمه أن يستلقي على قفاه أو يخفض رأسه، فإن خاف انتشار الماء وضع بقرب الجراحة خرقة مبلولة، وتحامل عليها، ليقطر منها ما يغسل الصحيح الملاصق للجريح. قال صاحبا "التهذيب" والبحر: فإن لم يمكنه ذلك أمس ما حوالي الجريح الماء من غير إفاضة وأجزأه، وقد رأيت نص الشافعي رحمه الله في "الأم" نحو هذا، فإنه قال: إن خاف لو أفاض الماء إصابة الجريح أمس الماء الصحيح إمساسا لا يفيض وأجزأه ذلك إذا أمس الشعر والبشرة، هذا نصه بحروفه، قال أصحابنا: فإن كان الجرح في ظهره استعان بمن يغسله ويمنع وصول الماء إلى الجراحة، وكذا الأعمى يستعين، فإن لم يجد متبرعا لزمه تحصيله بأجرة المثل، فإن لم يجد غسل ما يقدر عليه وتيمم للباقي وأعاد لندوره، نص عليه الشافعي، واتفق الأصحاب عليه.
قال أصحابنا: ولا يجب مسح موضع الجراحة بالماء، وإن كان لا يخاف منه ضررا، ونقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا؛ لأن الواجب الغسل، فإذا تعذر فلا فائدة في المسح بخلاف

 

ج / 2 ص -231-       مسح الجبيرة، فإنه مسح على حائل كالخف قال أصحابنا: ولا يلزمه أن يضع عليها عصابة لتمسح عليها، هذا هو الصحيح المشهور، وحكى إمام الحرمين عن والده أنه أوجب وضع شيء عليها إذا أمكنه ليمسح عليه. قال الإمام: ولم أر هذا لأحد من الأصحاب وفيه بعد من حيث إنه لا يوجد له نظير في الرخص، وليس للقياس مجال في الرخص، ولو اتبع لكان أولى شيء، وأقربه أن يمسح الجرح عند الإمكان، فإذا كان ذلك لا يجب بالاتفاق، فوضع العصابة أولى بأن لا يجب. قال الإمام: ولو كان متطهرا فأرهقه حدث ووجد من الماء ما يكفيه لوجهه ويديه ورأسه دون رجليه، ولو لبس الخف أمكنه المسح عليه، فهل يلزمه لبس الخف ليمسح عليه بعد الحدث؟ قياس ما ذكره شيخي إيجاب ذلك، وهو بعيد عندي، ولشيخي أن يفرق بأن مسح الخف رخصة محضة فلا يليق بها إيجابها، وما نحن فيه ضرورة فيجب فيه الممكن، هذا كلام الإمام وحكى الغزالي في هاتين الصورتين ترددا، ومراده به ما ذكره الإمام.
قال أصحابنا: فإن احتاج إلى العصابة لإمساك الدواء أو لخوف انبعاث الدم عصبها على طهر على موضع الجراحة، وما لا يمكن عصبها إلا بعصبة من الصحيح، فإن خاف من نزعها لما يجب المسح عليها بدلا عما تحتها من الصحيح كالجبيرة لا عن موضع الجراحة. قال أصحابنا: فإن كانت الجراحة على موضع التيمم، وجب إمرار التراب على موضعها؛ لأنه لا ضرر ولا خوف عليه في ذلك بخلاف غسله بالماء، قال الشافعي والأصحاب: حتى لو كان للجراحة أفواه مفتحة وأمكن إمرار التراب عليها لزمه ذلك؛ لأنها صارت ظاهرة. قال أصحابنا: واستحب الشافعي رحمه الله هنا أن يقدم التيمم ثم يغسل صحيح الوجه واليدين ليكون الغسل بعده مزيلا آثار الغبار عن الوجه واليدين، هذا حكم الجنب والحائض والنفساء، أما المحدث إذا كانت جراحته في أعضاء الوضوء، ففيه ثلاثة أوجه مشهورة عند الخراسانيين أحدها: أنه كالجنب فيتخير بين تقديم التيمم على غسل الصحيح وتأخيره وتوسيطه، وهذا اختيار الشيخ أبي علي السنجي -بكسر السين المهملة وبالجيم- وبه قطع صاحب "الحاوي" قال: والأفضل تقديم الغسل، والثاني: يجب تقديم غسل جميع الصحيح والثالث: يجب الترتيب، فلا ينتقل من عضو حتى يكمل طهارته محافظة على الترتيب فإنه واجب، وهذا هو الأصح عند الأصحاب صححه المتولي والروياني وصاحب "العدة" وآخرون من الخراسانيين، وقطع به جمهور العراقيين منهم القاضي أبو الطيب والمحاملي في "المجموع" وابن الصباغ والشيخ نصر في كتابيه، والشاشي في "المعتمد" وآخرون، ونقله الروياني عن جمهور الأصحاب.
فعلى هذا قال أصحابنا: إن كانت الجراحة في وجهه وجب تكميل طهارة الوجه أولا، فإن شاء غسل صحيحه ثم تيمم عن جريحه، وإن شاء تيمم ثم غسل، والأولى تقديم التيمم قاله الشيخ نصر. وذكر المتولي وجها أنه يجب تقديم الغسل وهو الشاذ الذي حكيناه في الجنب، وليس بشيء ولا يخفى تفريعه فيما بعد، ولكن لا يفرع عليه، فإذا فرغ من طهارة الوجه على ما ذكرنا؛ غسل اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين، وإن كانت الجراحة في يديه أو إحداهما غسل وجهه ثم إن شاء غسل صحيح يديه ثم تيمم عن جريحهما، وإن شاء تيمم ثم غسل، ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه، وإن

 

ج / 2 ص -232-       كانت الجراحة في جميع رأسه غسل الوجه واليدين ثم تيمم عن الرأس ثم غسل الرجلين، وإن كانت الجراحة في الرجلين طهر الأعضاء قبلهما ثم تخير فيهما بين تقديم الغسل والتيمم.
قال صاحب البيان: إذا كانت الجراحة في يديه استحب أن يجعل كل يد كعضو مستقل فيغسل وجهه ثم صحيح اليمنى، ثم يتيمم عن جريحهما أو يقدم التيمم على غسل صحيحها ثم يغسل صحيح اليسرى ثم يتيمم عن جريحهما أو يعكس. قال: وكذا الرجلان. وهذا الذي قاله حسن، فإن الترتيب بين اليمين واليسار سنة، فإذا اقتصر على تيمم واحد فقد طهرهما في حالة واحدة. هذا كله إذا كانت الجراحة في عضو، فإن كانت في عضوين وجب تيممان، وإن كانت في ثلاثة وجب ثلاثة، فإن كانت في الوجه واليدين غسل صحيح الوجه ثم تيمم عن جريحه أو عكس ثم غسل صحيح اليدين ثم تيمم عن جريحهما أو عكس ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين، وإن كانت في اليدين والرجلين غسل الوجه ثم طهر اليدين غسلا وتيمما ثم مسح الرأس ثم طهر الرجلين غسلا وتيمما. 
فإن قيل: إذا كانت الجراحة في وجهه ويده فينبغي أن يجزئه تيمم واحد، فيغسل صحيح الوجه ثم يتيمم عن جريحه وجريح اليد ثم يغسل صحيح اليد، فإنه يجوز أن يوالي بين تيممهما فيغسل صحيح الوجه ثم يتيمم عن جريحه ثم يتيمم عن جريح اليد ثم يغسل صحيحهما، وإذا جاز تيمماهما في وقت فينبغي أن يكفي تيمم واحد لهما، كما لو تيمم للمرض أو لعدم الماء، فإنه يكفيه تيمم واحد لكل الأعضاء، فالجواب: أن التيمم هنا وقع عن بعض الأعضاء في طهارة وجب فيها الترتيب، فلو جوزنا تيمما واحدا لحصل تطهير الوجه واليد في وقت واحد وهذا لا يجوز، بخلاف التيمم عن الأعضاء كلها، فإنه لا ترتيب هناك، وإن كانت الجراحة في الوجه واليد والرجل غسل صحيح الوجه، وتيمم عن جريحه، ثم اليدين كذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل الرجلين وتيمم لجريحهما. أما إذا عمت الجراحات الأعضاء الأربعة، فقال القاضي أبو الطيب وغيره: يكفيه تيمم واحد؛ لأنه سقط الترتيب لكونه لا يجب غسل شيء من الأعضاء، قالوا: ولو عمت الرأس وكانت في بعض من كل واحد من الأعضاء الثلاثة وجب غسل صحيح الأعضاء الثلاثة وأربعة تيممات على ما ذكرنا من الترتيب، والفرق بين الصورتين: أن في الأولى سقط حكم الوضوء وبقي الحكم للتيمم، وفي الثانية: ترتيب الوضوء باق. قال صاحب البحر: فإذا تيمم في هذه الصورة أربعة تيممات وصلى ثم حضرت فريضة أخرى أعاد التيممات الأربعة، ولا يلزمه غسل صحيح الوجه ويعيد ما بعده، وهذا الذي قاله في إعادة غسل ما بعد الوجه هو اختياره، وسيأتي فيه خلاف للأصحاب إن شاء الله تعالى والله أعلم. فرع: المتيمم للجراحة لا يلزمه إعادة الصلاة بالاتفاق؛ لأنه مما تعم به البلوى ويكثر كالمرض والله أعلم. فرع: إذا كان في بدنه حبات الجدري إن لم يلحقه ضرر من غسل ما بينها وجب غسله، وإن لحقه ضرر لم يجب، ذكره القاضي أبو الطيب وغيره ويكون كالجريح والله أعلم.
فرع: إذا غسل الصحيح وتيمم عن العليل بسبب مرض أو جراحة أو كسر أو نحوها استباح

 

ج / 2 ص -233-       بتيممه فريضة وما شاء من النوافل، فإذا أراد فريضة أخرى قبل أن يحدث، فإن كان جنبا أعاد التيمم دون الغسل بالاتفاق كذا قاله الأصحاب في كل الطرق.
وقال الرافعي: في إعادة الغسل خلاف كما في المحدث وهذا ضعيف متروك. وإن كان محدثا أعاد التيمم ولا يجب على المذهب الصحيح الذي قاله الأكثرون غسل صحيح الأعضاء؛ وممن صرح بهذا وقطع به ابن الحداد وصاحب "الحاوي" وإمام الحرمين والغزالي وصاحب "العدة" وآخرون، قال إمام الحرمين: أجمع الأصحاب أنه لا يجب إعادة غسل صحيح الأعضاء؛ قال: وهذا وإن كان يتطرق إليه احتمال فهو متفق عليه، وقال ابن الصباغ: قول ابن الحداد يحتاج إلى تفصيل، فإن كانت الجراحة في الرجلين أجزأه التيمم، وإن كانت في الوجه أو اليد فينبغي أن يعيد التيمم وغسل ما بعد موضع الجراحة؛ ليحصل الترتيب. قال الشاشي: قول ابن الحداد أصح وبسط الاستدلال له في "المعتمد" فقال: لأن ما غسله من صحيح أعضائه ارتفع حدثه، وناب التيمم عما سواه وسقط فرضه، فالأمر بإعادة غسله -من غير تجدد حدث- غلط وليس الأمر بالتيمم لكل فريضة؛ لبطلان الأول، بل لأنه طهارة ضرورة، فأمر به لكل فرض لا لتغير صفة الطهارة، ولهذا أمرنا المستحاضة بالطهارة لكل فرض، وإن كان حالها بعد الفرض كحالها قبله، وقد حصل الترتيب في الغسل وسقط الفرض في الأعضاء مرتبا. هذا كلام الشاشي. وقال القاضي حسين وصاحبا "التتمة" والتهذيب: إذا أوجبنا الترتيب وجب إعادة غسل ما بعد العليل، وفي غسل صحيح العليل وما قبله طريقان أصحهما: لا يجب. والثاني فيه قولان قيل بناء على تفريق الوضوء وقيل على ماسح الخف إذا خلعه. وقال الرافعي: أصح الوجهين وجوب إعادة غسل ما بعد العليل. والصحيح المختار: ما قدمته عن الجمهور والله أعلم.
فرع: قال البغوي وغيره: إذا كان جنبا والجراحة في غير أعضاء الوضوء فغسل الصحيح وتيمم للجريح ثم أحدث قبل أن يصلي فريضة لزمه الوضوء ولا يلزمه إعادة التيمم؛ لأن تيممه عن غير أعضاء الوضوء فلا يؤثر فيه الحدث. ولو صلى فريضة ثم أحدث توضأ للنافلة ولا يتيمم، وكذا حكم الفرائض والله أعلم.  فرع: إذا اندملت الجراحة وهو على طهارة فأراد الصلاة فإن كان محدثا، فعليه غسل محل الجراحة وما بعده بلا خلاف، وفيما قبله طريقان، أصحهما وأشهرهما: أنه على القولين في نازع الخف، أصحهما: لا يجب. والطريق الثاني: القطع بأنه لا يجب، وإن كان جنبا لزمه غسل محل الجراحة وفي الباقي الطريقان.
فرع: قال أصحابنا: إذا غسل الصحيح وتيمم عن الجريح، ثم توهم اندمال الجراحة، فرآها لم تندمل فوجهان.
أحدهما: يبطل تيممه كتوهم وجود الماء بعد التيمم وأصحهما -باتفاقهم- لا يبطل لأن طلب الاندمال ليس بواجب، فلم يبطل بالتوهم بخلاف الماء. هكذا علله الأصحاب قال إمام الحرمين :

 

ج / 2 ص -234-       قولهم لا يجب البحث عن الاندمال عند إمكانه وتعلق الظن به ليس نفيا عن الاحتمال، أما إذا اندمل الجرح فصلى بعد اندماله صلوات وهو لا يعلم اندماله، فإنه يلزمه إعادتهن بلا خلاف لتفريطه. كذا صرح بأنه لا خلاف فيه صاحب "التتمة" وغيره.
فرع: قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور أن الجريح يلزمه غسل الصحيح والتيمم عن الجريح. وهو الصحيح في مذهب أحمد. وعن أبي حنيفة ومالك أنه إن كان أكثر بدنه صحيحا، اقتصر على غسله ولا يلزمه تيمم، وإن كان أكثره جريحا كفاه التيمم ولم يلزمه غسل شيء والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:  "ولا يجوز أن يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة، وقال المزني: يجوز، وهذا خطأ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من السنة ألا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للصلاة الأخرى" وهذا مقتضى سنة رسول الله ولأنها طهارة ضرورة، فلا يصلي بها فريضتين من فرائض الأعيان، كطهارة المستحاضة".
الشرح: مذهبنا أنه لا يجوز الجمع بين فريضتين بتيمم سواء كانتا في وقت أو وقتين قضاء أو أداء، ولا بين طوافين مفروضين ولا طواف وصلاة مفروضين، ويتصور هذا في الجريح والمريض، وسواء في هذا الصحيح والمريض والصبي والبالغ، وهذا كله متفق عليه إلا وجها حكاه الرافعي عن حكاية الحناطي: أنه يجوز الجمع بين فوائت بتيمم وبين فائتة ومؤداة، وإلا وجها حكاه الدارمي أن للمريض جمع فريضتين بتيمم، وإلا وجها حكاه صاحب "البحر" والرافعي أنه يصح جمع الصبي فريضتين بتيمم، وهذه الأوجه شاذة ضعيفة والمشهور ما سبق. ولو جمع منذورتين، أو منذورات بتيمم أو منذورة ومكتوبة أو منذورات. قال القاضي أبو الطيب والمحاملي وابن الصباغ وآخرون من العراقيين: لا يجوز قطعا؛ لأن المنذورة واجبة متعينة فأشبهت المكتوبة، وقال الخراسانيون والماوردي والدارمي من العراقيين: في جوازه وجهان أصحهما عند الجميع: لا يجوز. وبعضهم يقول: قولان.
قال الخراسانيون: هما مبنيان على أن النذر يسلك به مسلك أقل واجب الشرع؟ أم أقل ما يتقرب به؟ وفيه قولان. فإن قلنا بالثاني جاز كالنافلة وإلا فلا كالمكتوبة، وأما ركعتا الطواف، فإن قلنا بالصحيح: إنهما سنة فلهما حكم النوافل، فيجوز الجمع بينهما وبين مكتوبة بتيمم، وإن قلنا: إنهما واجبتان لم يجز الجمع بينهما وبين فريضة أخرى، وهل يجوز بينهما وبين الطواف؟ فيه طريقان. أحدهما: لا؛ لأنهما فرضان، يفتقر كل واحد منهما إلى نية والطريق الثاني وبه قطع إمام الحرمين البغوي والرافعي: أنهما على وجهين أصحهما: لا يجوز، والثاني: يجوز، وهو قول ابن سريج وبه قطع صاحبا "الحاوي" و"التتمة"؛ لأنها تابعة للطواف، فهي كجزء منه وهذا ضعيف؛ لأنها لو كانت كالجزء لم يجز الفصل بينها وبين الطواف وقد اتفقوا على أنه لو أخر ركعتي الطواف عنه سنين، ثم صلاهما جاز والله أعلم.
ولو صلى فريضة بتيمم ثم طاف به تطوعا جاز، فلو أراد أن يصلي به ركعتي هذا الطواف فهو على الطريقتين إن قلنا بالوجه الضعيف: إن ركعتي طواف التطوع واجبة لم يجز، وإن قلنا بالمذهب: إنها

 

ج / 2 ص -235-       سنة جاز قطعا. قال البغوي وغيره: وفي جواز الجمع بين خطبة الجمعة وصلاتها وجهان كالطواف؛ لأنها تابعة للصلاة، هذا إذا شرطنا الطهارة في خطبة الجمعة، وهو الأصح والله أعلم. 
فرع: في مذاهب العلماء فيما يباح بالتيمم الواحد من فرائض الأعيان.
مذهبنا: أنه لا يباح إلا فريضة واحدة، وبه قال أكثر العلماء. وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن العباس وابن عمر والشعبي والنخعي وقتادة وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك والليث وأحمد وإسحاق. وحكي عن ابن المسيب والحسن والزهري وأبي حنيفة ويزيد بن هارون أنه يصلي به فرائض ما لم يحدث، قال: وروي هذا أيضا عن ابن عباس وأبي جعفر، وقال أبو ثور: يجوز أن يجمع فوائت بتيمم ولا يصلي به بعد خروج الوقت فريضة أخرى هذا ما حكاه ابن المنذر. وقال المزني وداود: يجوز فرائض بتيمم واحد كما قال أبو حنيفة وموافقوه، قال الروياني في الحلية: وهو الاختيار وهو الأشهر من مذهب أحمد خلاف ما نقله عنه ابن المنذر، واحتج لمن جوز فرائض بتيمم واحد، بقوله صلى الله عليه وسلم:
"الصعيد الطيب وضوء المسلم ما لم يجد الماء" وهو حديث صحيح سبق بيانه، وبالقياس على الوضوء وعلى الجمع بين نوافل بتيمم وعلى مسح الخف؛ ولأن الحدث الواحد لا يجب له طهران.
واحتج أصحابنا بقوله تعالى:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: من الآية6] إلى قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6] فاقتضى وجوب الطهارة عند كل صلاة، فدلت السنة على جواز صلوات بوضوء فبقي التيمم على مقتضاه، واحتجوا بحديث ابن عباس المذكور في الكتاب، ولكنه ضعيف رواه الدارقطني والبيهقي وضعفاه؛ فإنه من رواية الحسن بن عمارة، وهو ضعيف، واحتج البيهقي بما رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث ". قال البيهقي: إسناده صحيح قال: وروي عن علي وابن عباس وعمرو بن العاص، ولأنهما مكتوبتان فلا تباحان بطهارة ضرورة كصلاتي وقتين في حق المستحاضة؛ ولأنها طهارة ضرورة فلا يباح بها إلا قدر الضرورة.
والجواب عن احتجاجهم بالحديث: أن معناه يستبيح بالتيمم صلاة بعد صلاة بتيممات، وإن استمر ذلك عشر سنين حتى يجد الماء. هذا معناه عند جميع العلماء، وعن قياسهم على الوضوء: أنه طهارة رفاهية يرفع الحدث، والتيمم طهارة ضرورة فقصرت على الضرورة. وعن النوافل أنها تكثر ويلحق المشقة الشديدة في إعادة التيمم لها فخفف أمرها لذلك، كما خفف بترك القيام فيها مع القدرة وبترك القبلة في السفر، ولا مشقة في الفرائض، ولهذا المعنى فرق الشرع بين قضاء الصوم والصلاة في الحائض، وعن مسح الخف بأنه طهارة قوية، يرفع الحدث عن معظم الأعضاء بالاتفاق، وكذا عن الرجل على الأصح، والتيمم بخلافه، ولأن مسح الخف تخفيف ولهذا يجوز مع إمكان غسل الرجل، والتيمم ضرورة لا يباح إلا عند العجز، فقصر على الضرورة، وعن قولهم: الحدث الواحد لا يوجب طهارتين أن الطهارة هنا ليست للحدث بل لإباحة الصلاة، فالتيمم الأول أباح الصلاة الأولى والثاني الثانية والله أعلم.

 

ج / 2 ص -236-       قال المصنف رحمه الله تعالى: "إن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة، ولا يعرف عينها، قضى خمس صلوات، وفي التيمم وجهان. أحدهما: يكفيه تيمم واحد؛ لأن المنسية واحدة وما سواها ليس بفرض، والثاني: يجب لكل واحدة تيمم؛ لأنه صار كل واحدة منها فرضا.
وإن نسي صلاتين من صلوات اليوم والليلة لزمه خمس صلوات. قال ابن القاص: يجب أن يتيمم لكل واحدة منها؛ لأنه أي صلاة بدأ بها يجوز أن تكون هي المنسية فزال بفعلها حكم التيمم، ويجوز أن تكون الفائتة هي التي تليها، فلا يجوز أداؤها بتيمم مشكوك فيه. ومن أصحابنا من قال: يجوز أن يصلي ثماني صلوات بتيممين، فيزيد ثلاث صلوات وينقص ثلاث تيممات فيتيمم ويصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيكون قد صلى إحداهما بالتيمم الأول، والثانية بالثاني. وإن نسي صلاتين من يومين، فإن كانتا مختلفتين فهما بمنزلة الصلاتين من يوم وليلة، وإن كانتا متفقتين لزمه أن يصلي عشر صلوات فيصلي خمس صلوات بتيمم، ثم يتيمم ويصلي خمس صلوات، وإن شك هل هما متفقتان؟ أو مختلفتان؟ لزمه أن يأخذ بالأشد وهو أنهما متفقتان".
الشرح: إذا نسي صلاة من صلوات يوم وليلة لا يعرف عينها لزمه أن يصلي الخمس، فإن أراد أن يصليها بالتيمم فوجهان مشهوران، وقد ذكرهما المصنف بدليلهما. أحدهما: يجب لكل واحدة تيمم وهو قول ابن سريج والخضري، واختاره القفال، فعلى هذا قال البندنيجي: يجب لكل واحدة طلب الماء ثم التيمم، والثاني: يكفيه تيمم واحد لكلهن وهو الصحيح، وبه قال ابن القاص وابن الحداد وجمهور أصحابنا المتقدمين، وصححه المصنفون، ونقله الغزالي في "البسيط" عن عامة أصحابنا، ثم قال أبو الحسن بن المرزبان والشيخ أبو علي السنجي: هذا الخلاف مفرع على المذهب وهو أنه لا يشترط تعيين الفريضة في نية التيمم.
فإن قلنا بالوجه الضعيف: إنه يشترط تعيين الفريضة وجب لكل صلاة تيمم بلا خلاف، واختار الدارمي أن الخلاف جار هنا، سواء شرطنا التعيين أم لا، وأشار الرافعي إلى ترجيح هذا وهو الأصح، أما إذا نسي صلاتين من يوم وليلة فإن قلنا في الواحدة: يلزمه خمس تيممات فهنا أولى، وإن قلنا بالمذهب: إنه يكفيه تيمم فهو هنا مخير إن شاء عمل بطريقة ابن القاص صاحب "التلخيص" وهي: أن يتيمم لكل صلاة من الخمس، وإن شاء عمل بطريقة ابن الحداد وهي: أن يصلي ثماني صلوات بتيممين فيصلي بالأول الصبح والظهر والعصر والمغرب، وبالثاني الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيخرج عما عليه بيقين؛ لأنه صلى الظهر والعصر والمغرب مرتين، فإن كانت الفائتتان في هذه الثلاث فقد تأدت كل واحدة بتيمم، وإن كانتا الصبح والعشاء حصلت الصبح بالأول والعشاء بالثاني، وإن كانت إحداهما في الثلاث والأخرى صبحا أو عشاء فكذلك. هكذا صرح الأصحاب بأنه مخير بين طريقتي ابن القاص وابن الحداد، وحكى الرافعي وجها شاذا: أنه يتيمم مرتين يصلي بكل تيمم الخمس، وهذا ليس بشيء، ثم المشهور والمستحسن عند الأصحاب طريقة ابن الحداد، وعليها يفرعون ولها ضابطان.

 

ج / 2 ص -237-       أحدهما: وهو الذي نقله صاحب "البيان" أن يضرب عدد المنسي في عدد المنسي منه ثم يزيد المنسى على ما حصل من الضرب ويحفظ مبلغ المجتمع ثم يضرب المنسى في نفسه، فما بلغ نزعه من الجملة المحفوظة، فما بقي فهو عدد ما يصلي. وأما عدد التيمم فيقدر المنسى، مثاله في مسألتنا: تضرب اثنتين في خمسة، ثم تزيد عدد المنسية فيجتمع اثنا عشر، ثم تضرب اثنتين في اثنتين، فذلك أربعة، فتنزعها من الاثني عشر تبقى ثمانية. وهو عدد ما يصلي. ويكون بتيممين على عدد المنسيتين.
الضابط الثاني: وهو الذي نقله الرافعي تزيد عدد المنسي منه عددا لا ينقص عما بقي من المنسي منه بعد إسقاط المنسي، وتقسم "المجموع" صحيحا على المنسي، مثاله في مسألتنا: المنسى صلاتان، والمنسي منه خمس تزيد عليه ثلاثة؛ لأنها لا تنقص عما بقي من الخمسة بعد إسقاط الاثنين، والمجموع وهو ثمانية تنقسم على الاثنين صحيحا.
وأما كيفية أداء الصلوات فابتدئ من المنسي منه بأي صلاة شاء، ويصلي بكل تيمم مما تقتضيه القسمة، لكن شرط براءة ذمته بالعدد المذكور أن يترك في المرة ما بدأ به في المرة التي قبلها، ويأتي بالعدد الذي تقتضيه القسمة. مثاله ما سبق، فإنه ترك في المرة الثانية الصبح التي بدأ بها في الأولى، ولو صلى بالتيمم الأول الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبالثاني الصبح والظهر والعصر والمغرب لم يجزه، لاحتمال أن المنسيتين العشاء مع الظهر أو مع العصر أو مع المغرب، فبالتيمم الأول حصلت تلك ولم تحصل العشاء، وبالتيمم الثاني لم يصل العشاء، فإن صلى العشاء بعد هذا بالتيمم الثاني أو غيره أجزأه. ولو بدأ فصلى بالتيمم الأول العشاء والمغرب والعصر والظهر وبالثاني المغرب والعصر والظهر والصبح أجزأه؛ لأنه وفى بالشرط، ولو صلى بالأول المغرب والعصر والظهر والصبح، وبالثاني العشاء والمغرب والعصر والظهر، لم يجزئه إلا أن يصلي الصبح أيضا بالتيمم الثاني أو بغيره، ولو خالف الترتيب ووفى بالشرط فصلى بالأول الصبح ثم المغرب ثم العصر ثم الظهر، وبالثاني العشاء ثم الظهر ثم المغرب ثم العصر أجزأه لحصول المقصود. هذا كله إذا كان المنسى صلاتين، أما إذا نسي ثلاث صلوات من يوم وليلة ولا يعرف عينهن، فعلى طريقة ابن القاص يصلي خمس صلوات كل صلاة بتيمم وعلى الوجه الشاذ الذي حكاه الرافعي: يتيمم ثلاث مرات يصلي بكل تيمم الخمس، وعلى طريقة ابن الحداد يقتصر على ثلاث تيممات ويصلي تسع صلوات، فعلى عبارة "البيان" يضرب ثلاثة في خمسة فذلك خمسة عشر، ثم يزيد عليه ثلاثة تكون ثمانية عشر، ثم تضرب ثلاثة في ثلاثة تكون تسعة، فتنزعها من ثمانية عشر تبقي تسعة، وهو عدد ما يصلي بثلاثة تيممات، فيصلي بالتيمم الأول الصبح والظهر والعصر، وبالثاني الظهر والعصر والمغرب، وبالثالث العصر والمغرب والعشاء.
وعلى عبارة الرافعي يضم إلى الخمس أربعا؛ لأن الأربعة لا تنقص عما بقي من الخمسة بعد إسقاط الثلاثة، بل يزيد عليه، وينقسم "المجموع" وهو تسعة صحيحا على الثلاثة، ولو ضممنا إلى الخمسة اثنين أو ثلاثة لم ينقسم فيصلي بكل تيمم ثلاثا على ما ذكرنا، وله أن يرتبها على غير الترتيب

 

ج / 2 ص -238-       المذكور إذا وفى بالشرط السابق، فإن أخل به بأن صلى بالتيمم الأول العصر ثم الظهر ثم الصبح، وبالثاني المغرب ثم العصر وبالثالث العشاء ثم المغرب ثم العصر، لم يجزئه؛ لاحتمال أن التي عليه الصبح والعشاء، وثالثتهما الظهر أو العصر، فيحصل بالتيمم الأول الظهر أو العصر وبالثالث العشاء، ويبقى الصبح عليه فيحتاج إلى تيمم رابع يصليها به. وأما إذا نسي أربع صلوات فيضرب أربعة في خمسة ثم يزيد عليه أربعة تبلغ أربعة وعشرين، ثم يضرب أربعة في أربعة تبلغ ستة عشر ينزعها من أربعة وعشرين تبقى ثمانية، وهو عدد ما يصلي بأربعة تيممات، فيصلي بالتيمم الأول الصبح والظهر وبالثاني الظهر والعصر وبالثالث العصر والمغرب وبالرابع المغرب والعشاء، ولا يخفى بعد ما سبق حكم تقديم بعض الصلوات على بعض وما يجوز منه وما لا يجوز. وعلى هذه التنزيلات ينزل ما زاد من عدد المنسي والمنسى منه.
هذا كله إذا كانت الصلاتان أو الصلوات مختلفات، سواء كانت من يوم أو يومين بأن قال: نسيت صلاتين مختلفتين من يومين لا أدرى صبح وظهر أم ظهر وعصر أم عصر وعشاء، وشبه ذلك. أما إذا نسي صلاتين متفقتين بأن قال: هما صبحان أو ظهران أو عصران أو مغربان أو عشاءان فيلزمه عشر صلوات، هن صلوات يومين، وفي التيمم الوجهان في أصل المسألة. قول ابن سريج والخضري: يلزمه لكل صلاة تيمم، وقول الجمهور يكفيه تيممان يصلي بكل واحد الخمس ولا يكفيه ثمان صلوات بالاتفاق لاحتمال أن الذي عليه صبحان أو عشاءان، وما أتى بهما إلا مرة، أما إذا شك هل فائتتاه متفقتان أم مختلفتان؟ فعليه الأغلظ الأحوط، وهو أنهما متفقتان. 
فرع: لو تيقن أنه ترك أحد أمرين: إما طواف فرض وإما صلاة فرض لزمه أن يأتي بالطواف وبالصلوات الخمس، فعلى قول الجمهور يكفيه تيمم واحد للجميع، وعلى قول ابن سريج والخضري يجب ستة تيممات.
فرع: إذا صلى فريضة منفردا بتيمم ثم أدرك جماعة يصلونها فأراد إعادتها بذلك التيمم فيبني على أن الفرض منهما ماذا؟ وفيه أربعة أوجه. الأصح: الفرض الأولى، والثاني: الثانية، والثالث: كلاهما فرض، والرابع: إحداهما لا بعينها. فإن قلنا بالأولين جاز، وإن قلنا بالثالث لم يجز. قاله القاضي حسين وغيره، وإن قلنا بالرابع فهو على الوجهين في المنسية، هكذا قال الأصحاب. قال إمام الحرمين: والاكتفاء هنا بتيمم واحد أولى؛ فإنه لا يجب الشروع في الثانية بخلاف المنسية.
فرع: إذا صلى الفرض بالتيمم على وجه يجب قضاؤه، كالمربوط على خشبة والمحبوس في موضع نجس ونحوه فأراد القضاء على وجه كامل بذلك التيمم، فيبني على أن الفرض ماذا؟ وفيه أربعة أقوال تقدمت قريبا، أصحها: الفرض الثانية، والثاني: الأولى، والثالث: كلاهما، والرابع: إحداهما لا بعينها. فإن قلنا: الفرض الأولى جاز، وإن قلنا: كلاهما فرض لم يجز، وإن قلنا: إحداهما لا بعينها فعلى الوجهين في المنسية، وإن قلنا: الثانية فقال الرافعي وغيره لا يجوز وهذا ضعيف، والمختار: أنه يجوز كما سبق في مثله في الفرع قبله، ولا فرق بين تقدم نفل على فرض وعكسه، والله أعلم.

 

ج / 2 ص -239-       قال المصنف رحمه الله تعالى:  "ويجوز أن يصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل؛ لأنها غير محصورة فخف أمرها، ولهذا أجيز ترك القيام فيها، فإن نوى بالتيمم الفريضة والنافلة جاز أن يصلي النافلة قبل الفريضة وبعدها؛ لأنه نواهما بالتيمم، وإن نوى بالتيمم الفريضة ولم ينو النافلة جاز أن يصلي النافلة بعدها. وهل يجوز أن يصليها قبلها؟ فيه قولان. قال في الأم: له ذلك؛ لأن كل طهارة جاز أن يتنفل بها بعد الفريضة جاز قبلها كالوضوء، وقال في "البويطي": ليس له ذلك؛ لأنه يصليها على وجه التبع للفريضة، فلا يجوز أن يتقدم على متبوعها، ويجوز أن يصلي على جنائز بتيمم واحد إذا لم يتعين؛ لأنه يجوز تركها فهي كالنوافل، وإن تعينت عليه ففيه وجهان. أحدهما: لا يجوز أن يصلي بتيمم أكثر من صلاة؛ لأنها فريضة تعينت عليه فهي كالمكتوبة، والثاني: يجوز وهو ظاهر المذهب؛ لأنها ليست من جنس فرائض الأعيان".
الشرح: هذا الفصل فيه ثلاث مسائل:
إحداها: يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من النوافل سواء تيمم للنفل فقط أم له وللفرض أم للفرض واستباح النفل تبعا، وهذا متفق عليه إلا إذا قلنا - بوجه شاذ سبق في أوائل الباب - أن النفل لا يباح بالتيمم.
المسألة الثانية: إذا تيمم للفرض والنفل أو للفرض وحده استباح الفرض واستباح النفل أيضا قبل الفريضة وبعدها في الوقت وبعد خروج الوقت، وفي قول: لا يستبيح النفل قبل الفريضة إذا اقتصر على نية الفرض، وفي وجه لا يستبيح النفل بعد خروج الوقت، وقد سبق بيان هذا كله مشروحا مع ما يتعلق به في فصل نية التيمم.
الثالثة: قال أصحابنا العراقيون: إذا لم يتعين عليه صلاة الجنازة فلها في التيمم حكم النوافل فيجمع بالتيمم الواحد بين صلوات جنائز كثيرة صلاة بعد صلاة، وإن شاء صلى عليهن دفعة وله أن يجمع بين فريضة وجنائز، وإن تعينت عليه فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما. أصحهما باتفاقهم: أنها كالنوافل وهو المنصوص للشافعي في كتبه المشهورة، والثاني: كالفريضة فلا يجمع بينها وبين مكتوبة، ولا بين صلاتي جنازة، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأبي سعيد الإصطخري. وذكر الدارمي أن الكرابيسي نقله عن الشافعي فيكون قولا قديما ويصير في المسألة قولان، قال العراقيون: ولا تصح صلاة الجنازة قاعدا مع القدرة على القيام، سواء تعينت أم لا.
وقال أصحابنا الخراسانيون: نص الشافعي رحمه الله أنه يجمع بين فريضة وجنائز بتيمم، ونص أنها لا تصح على الراحلة ولا قاعدا، واختلفوا على ثلاث طرق. أحدها: قولان أحدهما: يلحق بالفرائض في التيمم والقيام، والثاني: يلحق بالنوافل فيهما. والطريق الثاني: إن تعينت فكالفرائض في التيمم والقيام وإلا فكالنوافل فيهما، والثالث: تقرير النصين، فلها حكم النفل في التيمم، وإن تعينت ولا يجوز القعود فيها وإن لم يتعين؛ لأنه معظم أركانها، وهذا الثالث هو الصحيح عندهم، وهو نحو طريقة العراقيين. وجمع إمام الحرمين وغيره هذا بعبارة مختصرة فقالوا: فيها أوجه أحدها: يجوز الجمع بتيمم، والقعود، والثاني: لا، والثالث: يجوز إن لم يتعين. وإن تعينت فلا، والرابع وهو

 

ج / 2 ص -240-       الأصح: يجوز الجمع بتيمم مطلقا، ولا يجوز القعود مطلقا.
ولو أراد أن يصلي على جنازتين أو جنائز صلاة واحدة بتيمم وقلنا: لا يجوز صلاتان فوجهان أشهرهما: لا يجوز، وبه قطع ابن الصباغ والمتولي والروياني، والثاني: يجوز، واختاره الشاشي. قال صاحب "البحر" وغيره: فعلى الأول لو تيمم بتيممين وصلى على الجنائز صلاتين أو صلاة واحدة لم يجز؛ لأن التيمم على التيمم لا تأثير له، بل هو في حكم تيمم واحد، والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: "إذا تيمم عن الحدث استباح ما يستباح بالوضوء، فإن أحدث بطل تيممه كما يبطل وضوءه، ويمنع مما كان يمنع منه قبل التيمم، وإن تيمم عن الجنابة استباح ما يستباح بالغسل من الصلاة وقراءة القرآن، فإن أحدث منع من الصلاة ولم يمنع من قراءة القرآن؛ لأن تيممه قام مقام الغسل، ولو اغتسل ثم أحدث لم يمنع من القراءة، فكذا إذا تيمم ثم أحدث، وإن تيمم ثم ارتد بطل تيممه؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما تستباح به الصلاة والمرتد ليس من أهل الاستباحة".
الشرح: في الفصل ثلاث مسائل:
إحداها: إذا تيمم أو توضأ ثم ارتد والعياذ بالله فهل يبطلان؟ فيه ثلاثة أوجه سبق بيانها في أول باب ما ينقض الوضوء، أصحها: يبطل التيمم دون الوضوء. الثاني: يبطلان والثالث: لا يبطلان.
الثانية: إذا تيمم عن الحدث الأصغر استباح ما يستبيح بالوضوء من الصلاة وغيرها إلا الجمع بين فرضين ونحوه مما سبق، فإذا أحدث بطل تيممه ومنع ما كان يمنعه قبل التيمم كما لو توضأ ثم أحدث.
الثالثة: إذا تيمم عن الحدث الأكبر كجنابة وحيض استباح الصلاة والقراءة والمكث في المسجد وغيرها مما يباح بالغسل فإذا أحدث منع من الصلاة والطواف ومس المصحف وحمله. ولا يمنع من قراءة القرآن والمكث في المسجد، ويستمر جواز القراءة والمكث وإن أراد تيمما جديدا. وهذا كله باتفاق الأصحاب في كل الطريق إلا ما انفرد به الدارمي، فقال: إذا تيمم الجنب فصلى ثم أراد التيمم لحدث أو غيره هل يقرأ القرآن قبل تيممه؟ فيه وجهان، قال أبو حامد: لا يجوز وقال ابن المرزبان: يجوز، وهذا النقل شاذ متروك ثم إن الجمهور أطلقوا الجزم باستباحته ولم يفرقوا بين الحاضر والمسافر، وقال البغوي: إذا تيمم الجنب في الحضر وصلى هل له قراءة القرآن؟ وهل له مس المصحف جنبا كان أو محدثا؟ فيه وجهان الأصح: الجواز والمشهور: ما سبق وهو أن الحاضر كالمسافر، فيباح له كل ذلك، أما إذا تيمم جنب ثم رأى الماء فيحرم عليه جميع ما حرم عليه قبل التيمم حتى يغتسل. ولو تيمم جنب ثم أحدث ثم وجد ماء لا يكفيه للوضوء قال البغوي وغيره: إن قلنا: يجب استعمال الناقص بطل تيممه في كل شيء فيستعمله ثم يتيمم، وإن قلنا: لا يجب استعمال الناقص، فتيممه باق على الصحة في جواز القراءة والاعتكاف، وبطل في حق الصلاة، فإذا تيمم استباحها والله أعلم.

 

ج / 2 ص -241-       فرع: لا يعرف جنب يباح له القراءة والمكث في المسجد دون الصلاة أو مس المصحف إلا من تيمم عن الجنابة ثم أحدث، والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: "إذا تيمم لعدم الماء ثم رأى الماء، فإن كان قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه؛ لأنه لم يحصل في المقصود، فصار كما لو رأى الماء في أثناء التيمم".
الشرح: إذا تيمم لحدث أصغر أو أكبر ثم رأى ماء يلزمه استعماله بطل تيممه بلا خلاف عندنا، سواء رآه في أثناء التيمم أو بعد الفراغ منه. وقولنا: تيمم لعدم الماء احتراز ممن تيمم لمرض أو جراحة ونحوهما مما لا يشترط فيه عدم الماء، فإن هذا لا يؤثر فيه وجود الماء. وقولنا: ماء يلزمه استعماله احتراز مما إذا رآه ولم يتمكن من استعماله بأن كان دونه حائل أو كان محتاجا إليه لعطش ونحوه، فإنه لا يبطل تيممه؛ لأن وجود هذا الماء كالعدم، ولا فرق عندنا بين أن يجد الماء وقد ضاق وقت الصلاة بحيث لو اشتغل بالوضوء خرج وقت الصلاة، ولو صلى بالتيمم أدرك وبين ألا يضيق، هذا مذهبنا. ونقل ابن المنذر في كتابيه كتاب "الإجماع" وكتاب "الإشراف" إجماع العلماء عليه. ونقل أصحابنا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن التابعي والشعبي أنهما قالا: إن رأى الماء بعد الفراغ من التيمم لا يبطل، وإن رآه في أثنائه بطل، ونقل القاضي أبو الطيب وغيره الإجماع على أن رؤيته في الثانية يبطل، واحتج لأبي سلمة بأن وجود المبدل بعد فراغه من البدل لا يبطل البدل كما لو وجد المكفر الرقبة بعد فراغه من الصوم، وكما لو فرغت من "العدة" بالأشهر ثم حاضت. واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم:
"الصعيد الطيب وضوء المسلم، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" وهو صحيح سبق بيانه، وبالقياس على رؤيته في أثناء التيمم، وبأن التيمم لا يراد لنفسه بل للصلاة، فإذا وجد الأصل قبل الشروع في المقصود لزم الأخذ بالأصل، كالحاكم إذا سمع شهود الفرع، ثم حضر شهود الأصل قبل الحكم، والجواب عن الصوم والأشهر 1: أنهما مقصودان. وذكر القاضي عبد الوهاب المالكي أن مذهبهم: أنه يتوضأ إلا أن يخشى فوت الوقت، ومذهبنا ومذهب الجمهور: أنه لا فرق؛ لأنه واجد للماء، والله أعلم.
قال أصحابنا: ولو توهم القدرة على ما يجب استعماله، بطل تيممه كما لو تيقنه، وذلك بأن يرى سرابا ونحوه أو جماعة يجوز أن معهم ماء، وإنما يبطل في جميع هذه الصور، إذا لم يقارن ذلك ما يمنع وجوب استعماله، بأن يحول دونه سبع ونحوه، أو يحتاج إليه للعطش، وقد سبقت المسألة بنظائرها والله أعلم
فرع: إذا ظن المتيمم العاري القدرة على الثوب فلم يكن لم يبطل تيممه بلا خلاف؛ وعلله الغزالي بأن طلبه ليس من شرط التيمم، والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  يريد صوم المكفر ثم وجد أنه الرقبة بعد فراغه منه والمعتدة بالأشهر إذا حاضت بعد فراغها (ط).

 

ج / 2 ص -242-       قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة نظر، فإن كان في الحضر أعاد الصلاة؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل، فلم يسقط معه الفرض 1، كما لو صلى بنجاسة نسيها، [وإن 2 كان في السفر نظرت] فإن كان في سفر طويل لم يلزمه الإعادة؛ لأن عدم الماء في السفر عذر عام، فسقط معه فرض الإعادة، كالصلاة مع سلس البول، وإن كان في سفر قصير ففيه قولان أشهرهما: أنه لا يلزمه الإعادة؛ لأنه موضع يعدم فيه الماء غالبا، فأشبه السفر الطويل.
وقال في "البويطي": لا يسقط الفرض عنه؛ لأنه لا يجوز له القصر فلا يسقط الفرض عنه بالتيمم كما لو كان في الحضر، وإن كان في سفر معصية ففيه وجهان. أحدهما: تجب عليه الإعادة؛ لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تتعلق بالسفر، والسفر معصية، فلم تتعلق به رخصة، والثاني: لا تجب؛ لأنا لما أوجبنا عليه ذلك، صار عزيمة فلم يلزمه الإعادة".
الشرح: في هذه القطعة مسائل:
إحداها: إذا عدم الحاضر الماء في الحضر، فحاصل المنقول فيه ثلاثة أقوال. الصحيح المشهور المقطوع به في أكثر كتب الشافعي وطرق الأصحاب: أنه يتيمم ويصلي الفريضة وتجب إعادتها إذا وجد الماء. أما وجوب الصلاة بالتيمم فقياسا على المسافر والمريض لاشتراكهما في العجز، وأما الإعادة؛ فلأنه عذر نادر غير متصل، احترازنا بالنادر عن المسافر والمريض، وبغير المتصل عن الاستحاضة. والقول الثاني: تجب الصلاة بالتيمم ولا إعادة، كالمسافر والمريض، حكاه الخراسانيون، وهو مشهور عندهم. والثالث: لا تجب الصلاة في الحال بالتيمم، بل يصبر حتى يجد الماء. حكاه صاحب "البيان" وجماعة من الخراسانيين وليس بشيء.
المسألة الثانية: إذا صلى بالتيمم في سفر طويل، ثم وجد الماء بعد الفراغ لا يلزمه الإعادة لظواهر الأحاديث؛ ولأن عدم الماء في السفر عذر عام فسقط الفرض بالتيمم بسببه، كالصلاة قاعدا لعذر المرض، ولا فرق بين وجود الماء في الوقت وبعده. قال صاحب البحر: قال أصحابنا: ولا تستحب الإعادة في هذه المسألة، ثم المذهب الصحيح المشهور أنه لا فرق بين أن يكون السفر مسافة القصر أو دونها وإن قل، وهذا هو المنصوص في كتب الشافعي. وقال الشافعي في "البويطي": وقد قيل: لا يتيمم إلا في سفر يقصر فيه الصلاة فمن أصحابنا من جعل هذا قولا للشافعي، فقال: في قصير السفر قولان، وممن سلك هذه الطريقة المصنف، وقال الأكثر: القصير كالطويل بلا خلاف، وإنما حكى الشافعي مذهب غيره، وهذا هو المذهب، والدليل عليه إطلاق السفر في القرآن. قال الشافعي رحمه الله: ولم تحده الصحابة رضي الله عنهم بشيء، وحدوا سفر القصر، ولما روى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في نسخة الركبي (فرض الإعادة) (ط).
2  زيادة في المتوكلية (ط).

 

ج / 2 ص -243-       الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما "أقبل من الجرف حتى كان بالمربد تيمم وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة "هذا إسناد صحيح، والجرف: بضم الجيم والراء وبعدهما فاء، موضع بينه وبين المدينة ثلاثة أميال، والمربد: بكسر الميم، موضع بقرب المدينة.
المسألة الثالثة: العاصي بسفره كالآبق وقاطع الطريق وشبههما إذا عدم الماء في سفره ثلاثة أوجه. والصحيح: أنه يلزمه أن يصلي بالتيمم ويلزمه الإعادة، والثاني: يلزمه التيمم ولا تجب الإعادة، والثالث: لا يجوز التيمم، وهذا الثالث غريب حكاه الحناطي وصاحب "البيان" والرافعي، فعلى هذا يقال له: ما دمت على قصدك المعصية لا يحل لك التيمم، , فإن ثبت استبحت التيمم وغيره، كما أنه لا يحل له الميتة عند الضرورة، بل يقال: تب وكل، والصواب الأول؛ لأنه يلزمه أمران: التوبة والصلاة، فإذا أخل بأحدهما لا يباح له الإخلال بالآخر، وليس التيمم في هذا الحال تخفيفا بل عزيمة، فلا تكون المعصية سببا لإسقاطه، فعلى هذا لو رأى الماء في صلاته بطلت ويلزمه الخروج منها، كما إذا رأى الماء في أثناء صلاة الحضر بالتيمم، وقد تقدم ذكر هذه الأوجه في باب المسح على الخف، وذكرنا هناك ضابطا فيما يستبيحه العاصي بسفره وما لا يستبيحه، وبالله التوفيق.
فرع: إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام فأكثر في بلد وعدم الماء فيه وصلى بالتيمم، فحكمه حكم الحاضر بلا خلاف، فيلزمه إعادة ما صلى بالتيمم على المذهب. ولو نوى هذه الإقامة في موضع من البادية يعم فيه عدم الماء فلا إعادة فيه بلا خلاف، هكذا صرح بالصورتين صاحب "الحاوي" وإمام الحرمين، ونقله الروياني عن القفال، وقاله آخرون ولا نعلم فيه خلافا. ولو دخل المسافر في طريقه قرية فعدم الماء فيها وصلى بالتيمم فوجهان، حكاهما المتولي والروياني وآخرون. أحدهما: لا إعادة؛ لأنه مسافر ولهذا يباح له القصر والفطر، وأصحهما: وجوب الإعادة، صححه الروياني والرافعي، وهو قول القفال، وقطع به البغوي وغيره؛ لأن عدم الماء في القرية نادر، فالضابط الأصلي ما قاله الرافعي، وأشار إليه إمام الحرمين وصاحب "الشامل" وآخرون: أن الإعادة تجب إذا تيمم في موضع يندر فيه عدم الماء، ولا يجب إذا كان العدم يغلب فيه، بدليل ما ذكرنا من هاتين الصورتين.
قال الرافعي: اعلم أن وجوب الإعادة على المقيم ليس لعلة الإقامة، بل لأن فقد الماء في موضع الإقامة نادر. وكذا عدم الإعادة في السفر ليس لكونه مسافرا، بل لأن فقد الماء في السفر مما يعم حتى لو أقام في مفازة أو موضع يعدم فيه الماء غالبا وطالت إقامته وصلى بالتيمم فلا إعادة، وفي مثله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه وكان يقيم بالربذة ويفقد الماء أياما:
"التراب كافيك ولو لم تجد الماء عشر حجج" قال: ولو دخل المسافر في طريقه قرية وعدم الماء، تيمم وأعاد على الأصح، وإن كان حكم السفر باقيا عليه لندور العدم.
وإذا عرفت هذا علمت أن قول الأصحاب أن المقيم يقضي والمسافر لا يقضي جار على الغالب

 

ج / 2 ص -244-       في حال السفر والإقامة، وإلا فالحقيقة ما بيناه. هذا كلام الرافعي وذكر معناه إمام الحرمين وصاحب "الشامل" وآخرون والله أعلم.
فرع: قال صاحب البيان: قال الشيخ أبو حامد: إذا خرج الرجل إلى ضيعته وبستانه فعدم الماء كان له أن يتيمم ويتنفل على الراحلة، قال: فمقتضى قوله: أنه سفر قصير ففي إعادة ما صلى فيه بالتيمم القولان: المشهور، ونص "البويطي" والله أعلم.
فرع: في مذاهب العلماء فيمن عدم الماء في الحضر. 
قد ذكرنا: أن مذهبنا المشهور أنه يصلي بالتيمم وعليه الإعادة، وبه قال جمهور العلماء، وهو رواية عن أبي حنيفة وعنه رواية أنه لا يصلي بالتيمم. وعن مالك والثوري والأوزاعي والمزني والطحاوي: يصلي بالتيمم ولا يعيد، وهو رواية عن أحمد وقول لنا كما سبق. واحتج لمن لم يوجب الصلاة وقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6] فأباحه للمريض وللمسافر، فلم يجز لغيرهما، وبأن إيجابها مع إيجاب الإعادة يؤدي إلى إيجاب ظهرين عن يوم؛ ولأن الصلاة تفعل لتجزئ، وهذه غير مجزئة، واحتج لمن أوجب الصلاة بلا إعادة بالقياس على المسافر. واحتج أصحابنا لوجوب الصلاة وقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: من الآية6] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: من الآية6] وهذا عام. وفي الاستدلال بالآية نظر؛ ولأنه مكلف عدم الماء فلزمه التيمم للفريضة كالمسافر؛ ولأنه عاجز عن استعمال الماء فلزمه التيمم كالمريض وقياسا على صلاة الجنازة. وقد وافقوا عليها وأجاب أصحابنا عن احتجاجهم بالآية بجوابين. أحدهما: أن السفر ذكر فيها لكونه الغالب لا للاشتراط، كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: من الآية151] والثاني: أنها محمولة على تيمم لا إعادة معه، وعن قولهم يؤدي إلى إيجاب ظهرين أن المقصود الثانية، وإنما وجبت الأولى لحرمة الوقت، كإمساك يوم الشك إذا ثبت أنه من رمضان، وفي هذا جواب عن قولهم: الصلاة تفعل لتجزئ فيقال: وقد تفعل حرمة للوقت كما ذكرنا، واحتج أصحابنا للإعادة بأنه عذر نادر غير متصل، فأشبه من نسي بعض أعضاء الطهارة، وفي هذا جواب عن احتجاجهم، والله أعلم.
فرع: في مذاهب العلماء فيمن صلى بالتيمم في السفر ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة قد ذكرنا: أن مذهبنا أنه لا إعادة سواء وجد الماء في الوقت أو بعده، حتى لو وجده عقب السلام فلا إعادة، وبه قال الشعبي والنخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق والمزني وابن المنذر وجمهور السلف والخلف. وحكى ابن المنذر وغيره عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة أنهم قالوا: إذا وجد الماء في الوقت لزمه الإعادة، واستحبه الأوزاعي ولم يوجبه، قال ابن المنذر: وأجمعوا أنه إذا وجده بعد الوقت لا إعادة، واحتج لهؤلاء بأن الماء هو الأصل فوجوده بعد التيمم كوجود النص بعد الحكم بالاجتهاد.

 

ج / 2 ص -245-       واحتج أصحابنا بحديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا وصليا، ثم وجد الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين" رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم. قال أبو داود: ذكر أبي سعيد في هذا الحديث وهم وليس بمحفوظ، بل هو مرسل قلت: ومثل هذا المرسل يحتج به الشافعي وغيره كما قدمنا بيانه في مقدمة هذا الكتاب أن الشافعي يحتج بمرسل كبار التابعين إذا أسند من جهة أخرى أو يرسل من جهة أخرى، أو يقول به بعض الصحابة أو عوام العلماء، وقد وجد في هذا الحديث شيئان من ذلك أحدهما: ما قدمناه قريبا، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة"، وهذا صحيح عن ابن عمر كما سبق، الثاني: روى البيهقي بإسناده عن أبي الزناد قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم منهم سعيد بن المسيب، وذكر تمام فقهاء المدينة السبعة، يقولون: "من تيمم وصلى ثم وجد الماء وهو في الوقت أو بعده لا إعادة عليه،" واحتج أصحابنا أيضا بالقياس على المريض يصلي بالتيمم أو قاعدا، والجواب عن احتجاجهم: أن ما ذكروه ليس نظير مسألتنا، بل نظيره من صلى بالتيمم ومعه ماء نسيه، ونظير مسألتنا ما عمله الصحابي باجتهاد ثم نزل النص بإثبات الحكم بخلاف اجتهاده، فإنه لا يبطل ما عمله والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كان معه في السفر ماء فدخل عليه وقت الصلاة فأراقه أو شربه من غير حاجة وتيمم وصلى ففيه وجهان. أحدهما: يلزمه إعادة؛ لأنه مفرط في إتلافه والثاني: لا يلزمه؛ لأنه تيمم وهو عادم للماء، فصار كما لو أتلفه قبل دخول الوقت".
الشرح: قال أصحابنا: إذا كان معه ماء صالح لطهارته فأخرجه عن كونه مطهرا بإراقته أو شربه أو سقي دابة أو غيرها أو تنجيسه أو صب الزعفران ونحوه فيه أو غير ذلك، ثم احتاج إلى التيمم تيمم بلا خلاف؛ لأنه فاقد للماء، ثم ينظر فإن كان تفويت الماء قبل دخول الوقت فلا إعادة عليه بلا خلاف وإن فوته سفها؛ لأنه لا فرض عليه قبل الوقت. وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله: "كما لو أتلفه قبل دخول الوقت" وإن فوته في الوقت، فإن كان لغرض كشربه لحاجة أو سقيه دابة محترمة لحاجتها أو غسل ثوبه لنجاسة أو تنظفا، فلا إعادة بلا خلاف؛ لأنه معذور، وكذا لو اشتبه إناءان فعجز عن معرفة الطاهر فأراقهما، فلا إعادة قطعا؛ لأنه معذور، وإن كان التفويت في الوقت لغير غرض فهو حرام بلا خلاف، وفي وجوب الإعادة وجهان مشهوران، وقد ذكر المصنف دليلهما، أصحهما عند الأصحاب: لا إعادة. قال صاحب الشامل: وهذا كمن قطع رجله فإنه عاص وإذا صلى جالسا أجزأه، قال القاضي حسين والمتولي: الوجهان هنا كالقولين فيمن فر، فطلق امرأته بائنا في مرض الموت هل ينقطع إرثها؟ لأن بدخول الوقت تعلق حق الطهارة بالماء كما أن بالمرض تعلق حقها بالإرث، أما إذا مر بماء في الوقت فلم يتوضأ، فلما بعد منه تيمم وصلى ففي الإعادة طريقان. أصحهما وأشهرهما,

 

ج / 2 ص -246-       والذي قطع به الغزالي والبغوي والأكثرون: القطع بأن لا إعادة؛ لأنه تيمم وهو عادم للماء ولم يفرط في إتلافه، والثاني: حكاه الرافعي عن الشيخ أبي محمد أنه على الوجهين؛ لأنه يعد مقصرا والله أعلم.
فرع: لو وهب الماء الصالح لطهارته في الوقت لغير محتاج إليه لعطش ونحوه أو باعه لغير حاجته إلى ثمنه، ففي صحة البيع والهبة وجهان مشهوران في الطريقتين، حكاهما الدارمي وجماعات من العراقيين وإمام الحرمين وجماعة من الخراسانيين. قال البغوي والرافعي وغيرهما: أصحهما لا يصح البيع ولا الهبة؛ لأن التسليم حرام فهو عاجز عن تسليمه شرعا، فهو كالعاجز حسا، وبهذا قطع المحاملي والصيدلاني، والثاني: يصحان. قال الإمام: وهو الأقيس؛ لأنه ملكه والمنع لا يرجع إلى معنى في العقد، واختار الشاشي هذا، وقال: الأول ليس بشيء؛ لأن توجه الفرض لا يمنع صحة الهبة، كما لو وجب عليه عتق رقبة في كفارة فأعتقها لا عن الكفارة أو وهبها، فإنه يصح، وكما لو وجب عليه ديون فطولب بها فوهب ماله وسلمه، فإنه يصح والأظهر ما قدمنا تصحيحه. قال إمام الحرمين والغزالي في "البسيط": هذان الوجهان يشبهان ما لو وهب رجل للوالي شيئا تطوعا على طريق الرشوة هل يملكه؟ منهم من منع الملك للمعصية ومنهم من لم يمنع وقال: هو أهل للتصرف، فإن قلنا: يصح بيع الماء وهبته في مسألتنا فحكم الإعادة ما سبق في الإراقة لغير غرض، كذا قاله الجمهور. وقطع البغوي بأنه لا إعادة، والمذهب الأول.
وإن قلنا: لا يصح البيع والهبة لم يصح تيممه ما دام الماء باقيا في يد الموهوب له والمشتري، وعليه استرجاعه إن قدر، فإن لم يقدر تيمم وصلى وعليه الإعادة على الصحيح، وبه قطع الأصحاب، ونقل إمام الحرمين فيه اتفاق الأصحاب. وشذ الدارمي فحكى في الإعادة الوجهين في الإراقة سفها وليس بشيء؛ لأن الماء باق على ملكه وليس كالمغصوب؛ لأن هذا مقصر بتسليمه، فإن تلف في يد المشتري والموهوب له قبل التيمم ففي الإعادة الوجهان في الإراقة، وإذا أوجبنا الإعادة في مسألة الإراقة وبيع الماء وهبته ففي قدر ما يعيده ثلاثة أوجه الصحيح المشهور: تجب إعادة الصلاة التي فوت الماء في وقتها، ولا يجب غيرها؛ لأن ما سواها فوت الماء قبل دخول وقتها فلم تجب إعادتها. والثاني: يجب إعادة ما يؤديه غالبا بوضوئه، قال إمام الحرمين: هذا الوجه عندي في حكم الغفلة والغلط. والثالث: تجب إعادة كل ما صلاه بالتيمم إلى أن أحدث، حكاه البغوي وغيره. وهذا الوجه والذي قبله ليسا بشيء فإنه يلزم قائلهما أن يقول: من توضأ ثم أحدث من غير ضرورة وتيمم أعاد. قال المتولي وغيره: وإذا أراد الإعادة لم يصح في الوقت بالتيمم، بل يؤخر حتى يجد الماء أو يصبر إلى حالة يصح فيها التيمم بلا إعادة.
فرع: قال القاضي حسين: ولو كان له ثوب فحرقه وصلى عريانا فحكمه ما ذكرناه في إراقة الماء من أوله إلى آخره.
فرع: قال أصحابنا: إذا قلنا: لا يصح هبة هذا الماء استرده الواهب، فإن تلف في يد الموهوب له فلا ضمان عليه؛ لأن الهبة ليست من عقود الضمان، وما لا ضمان في صحيحه لا ضمان في فاسده، كذا قطع به إمام الحرمين وأصحاب "البحر" والعدة والبيان وغيرهم. وانفرد القاضي

 

ج / 2 ص -247-       حسين فقال: إن أتلفه الموهوب له ضمنه، وإن تلف عنده فوجهان، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن رأى الماء في أثناء الصلاة نظرت فإن كان ذلك في الحضر بطل تيممه وصلاته؛ لأنه يلزمه الإعادة بوجود الماء، وقد وجد الماء فوجب أن يشتغل بالإعادة، وإن كان في السفر لم يبطل [تيممه] [وقال المزني: يبطل والمذهب 1 الأول]؛ لأنه وجد الأصل بعد الشروع في المقصود فلا يلزمه الانتقال إليه، كما لو حكم بشهادة شهود الفرع ثم وجد شهود الأصل، وهل يجوز الخروج منها؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يجوز، وإليه أشار في "البويطي"؛ لأن ما لا يبطل [الطهارة] الصلاة لم يبح الخروج منها كسائر الأشياء. وقال أكثر أصحابنا: يستحب الخروج منها، كما قال الشافعي رحمه الله فيمن دخل في صوم الكفارة. ثم وجد الرقبة: إن الأفضل أن يعتق، وإن رأى الماء في الصلاة في السفر ثم نوى الإقامة بطل تيممه وصلاته؛ لأنه اجتمع حكم الحضر والسفر في الصلاة فوجب أن يغلب حكم الحضر فيصير كأنه تيمم وصلى وهو حاضر ثم وجد الماء، وإن رأى الماء في أثناء الصلاة في السفر فأتمها وقد فني الماء لم يجز أن يتنفل حتى يجدد التيمم؛ لأن برؤية الماء حرم عليه افتتاح الصلاة، وإن رأى الماء في صلاة نافلة. فإن كان قد نوى عددا أتمها كالفريضة، وإن لم ينو عددا سلم من ركعتين ولم يزد عليهما".
الشرح: إذا تيمم لعدم الماء ثم رأى في أثناء صلاته ماء يلزم استعماله نظرت فإن كان ممن يلزمه الإعادة بطل تيممه وصلاته على المذهب الصحيح، وفيه وجه ضعيف عند الخراسانيين أنها لا تبطل، بل يتمها محافظة على حرمتها ثم يعيدها والمشهور الأول؛ لأنه لا بد من إعادتها فلا وجه للبقاء فيها. ويدخل في هذا القسم المصلي بالتيمم في الحضر أو موضع يندر فيه عدم الماء.
ومن صلى بنجاسة عجز عن غسلها إذا قلنا بالمذهب: إن عليهما الإعادة، ويدخل فيه المسافر سفرا قصيرا إذا قلنا بالقول الضعيف المنقول عن "البويطي": إنه يعيد، ويدخل فيه العاصي بسفره على أصح الوجهين، أما إذا رأى الماء في أثناء الصلاة بالتيمم من لا إعادة عليه، كالمسافر سفرا طويلا أو قصيرا على المذهب، أو المقيم في موضع يعدم فيه الماء غالبا، فالصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله وقطع به العراقيون وبعض الخراسانيين: أنه لا تبطل صلاته.
وقال جمهور الخراسانيين: نص هنا أنه لا تبطل صلاته، ونص في المستحاضة إذا انقطع دمها في أثناء الصلاة أنها تبطل، فجعلهما ابن سريج على قولين أحدهما: يبطلان لزوال الضرورة، والثاني: لا يبطلان للتلبس بالمقصود. قالوا: والمذهب تقرير النصين، والفرق: أن حدثها متجدد بعد الطهارة؛ ولأنها مستصحبة للنجاسة وهو بخلافها فيهما، والتفريع بعد هذا على المذهب، وهو أنه لا تبطل صلاة المتيمم برؤية الماء في أثنائها، ثم الأصحاب أطلقوا في طريقتي العراق وخراسان أن رؤية الماء في أثنائها لا يبطلها، وقال صاحب البحر: إن رآه بعد فراغه من تكبيرة الإحرام لم تبطل صلاته,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  زيادة من المتوكلية والركبي (ط).

 

ج / 2 ص -248-       وإن رآه بعد شروعه في التكبيرة وقبل فراغ التكبيرة بطل تيممه وصلاته. وهذا الذي قاله لم أجد لغيره تصريحا بموافقته ولا مخالفته، وهو حسن، فإنه لا يصير في الصلاة إلا بفراغه من التكبيرة، لكن بعض التكبيرة جزء من الصلاة ففيه احتمال لهذا المعنى. ثم ذكر صاحب "البحر" أن والده قال: إذا رأى الماء في أثناء الصلاة فاستمر اقتصر على تسليمة واحدة؛ لأنه عاد إلى حكم الحدث بالتسليمة الأولى. ولو أحدث بعد التسليمة الأولى لم يأت بالثانية، فكذا هنا قال: وليس على أصلنا مسألة يقتصر فيها على تسليمة واحدة إلا هذه. قال: ولو كان عليه سجود سهو فنسيه وسلم لا يسجد، وإن قرب الفصل. قال صاحب البحر: وهذا الذي قاله والدي حسن عندي، قال: ولكن يمكن أن يقال: لا بأس بأن يسلم الثانية؛ لأنها من تتمة الصلاة، وقطع في كتابه "الحلية" بما قاله والده، وفيه نظر. وينبغي أن يقطع بأنه يسلم الثانية، والله أعلم.
إذا ثبت أنه لا تبطل صلاته برؤية الماء في أثنائها فهل يباح الخروج منها؟ أم يستحب؟ أم يحرم؟ فيه أوجه؛ الصحيح الأشهر وقول أكثر الأصحاب: أنه يستحب الخروج منها والوضوء للخروج من خلاف العلماء في بطلانها، وكما نص الشافعي على استحباب الخروج من صلاة من أحرم بها منفردا للدخول في الجماعة، وكما نص على استحباب الخروج من صوم الكفارة لمن وجد الرقبة في أثنائه، والوجه الثاني: يجوز الخروج منها، لكن الأفضل الاستمرار فيها لقول الله تعالى
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: من الآية33] والثالث: يحرم الخروج منها للآية، وهذا ضعيف.
قال إمام الحرمين: لست أراه من المذهب ثم إن الأصحاب أطلقوا الأوجه، وقال إمام الحرمين: الذي أراه أن المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة في آخر الوقت وقد ضاق الوقت لا يجوز له الخروج أصلا، وهذا الذي قاله الإمام متعين ولا أعلم أحدا يخالفه، وقال القاضي حسين والشيخ أبو محمد الجويني: الخلاف في هذه المسألة إنما هو في أن الأفضل أن يقلب فرضه نفلا ويسلم من ركعتين، أم الأفضل أن يتمها فريضة؟ قالا: فأما الخروج المطلق فليس بأفضل بلا شك. وزاد القاضي حسين، فقال: الخروج عندي مكروه وجها واحدا، وهذا الذي ذكره خلاف المذهب الصحيح المعروف في جميع الطرق. قال الشاشي: ولا معنى لقولهما يجعلها نافلة، فإن تأثير رؤية الماء في النفل كتأثيرها في الفرض، أما إذا رأي الماء في أثناء الصلاة في السفر، ثم نوى الإقامة وهو في الصلاة، فإنه يبطل تيممه وصلاته على المذهب، وبه قطع المصنف والعراقيون، وفيه وجه للخراسانيين: أنها لا تبطل وهو المذكور في رؤية الحاضر الماء في الصلاة، والصحيح: الأول ووجهه ما ذكره المصنف. 
ولو شرع في صلاة مقصورة، فوجد الماء فيها ثم نوى إتمامها بطلت صلاته في أصح الوجهين؛ لأن تيممه صح لركعتين فريضة، وقد التزم الآن ركعتين فريضة لم يتيمم لها. هكذا ذكر جمهور الأصحاب هاتين المسألتين، وخالفهم الماوردي، فقال: إذا رأى الماء في أثنائها ثم نوى الإقامة أو الإتمام، قال ابن القاص: تبطل صلاته. وقال سائر أصحابنا: لا تبطل بل يتمها؛ واختار الدارمي أيضا: أنها لا تبطل وأطلق إمام الحرمين والغزالي وجهين، ولو شرع في صلاة مقصورة، ثم نوى الإقامة ولم ير ماء أتمها، وهل تجب الإعادة؟ وجهان. أحدهما: تجب، ونقله صاحب "الشامل" عن ابن القاص؛

 

ج / 2 ص -249-       لأنه صار مقيما، والمقيم تلزمه الإعادة. والثاني: لا تجب، وبه قطع الروياني وادعى أنه لا خلاف فيه، واختاره صاحب "الشامل" بعد حكايته قول ابن القاص، فإن قلنا بالأول فرأى الماء فيها بعد نية الإقامة بطلت كصلاة الحاضر، ولو نوى الإتمام في أثناء المقصورة ثم وجد الماء نقل صاحب "البحر" الاتفاق على أنه يمضي فيها ولا تبطل، وهذا ظاهر، قال البغوي: ولو اتصلت السفينة التي يصلي فيها بدار الإقامة في أثناء صلاته بالتيمم لم تبطل، ولا تجب الإعادة في أصح الوجهين، كما لو وجد الماء في الصلاة، والله أعلم.
أما إذا رأى الماء في أثنائها في السفر ففرغ منها ثم أراد إنشاء نافلة بذلك التيمم، فإن كان الماء باقيا أو تلف ولم يعلم بتلفه قبل سلامه لم يجز بلا خلاف، وإن علم تلفه قبل سلامه ففيه وجهان، قطع المصنف وسائر العراقيين وجماعة من الخراسانيين بأنه لا يجوز، وقطع أكثر الخراسانيين بالجواز حتى قال صاحب العدة: لو كانت الصلاة التي هو فيها نافلة جاز له بعد السلام منها أن يصلي به فريضة إن كان نواها؛ لأنه عند الفراغ من الصلاة ليس بواجد للماء ولا متوهم، واختار صاحب "الشامل" هذا الثاني فقال: هذا الذي قاله الأصحاب من بطلان التيمم فيه نظر؛ لأن هذا الماء لا يجب استعماله لهذه الصلاة ولا قدر على استعماله لغيرها فينبغي ألا يبطل تيممه. قال: ويلزم من قال: لا يصلي النافلة أن يقول: إذا مر به ركب وهو في الصلاة ففرغ منها، وقد ذهب الركب لا يجوز التنفل؛ لأن توجه الطلب يمنع ابتداء الصلاة بالتيمم، واختاره الروياني أيضا وأورد إيراد صاحب "الشامل" هذا قال: فإن منعه الأولون فهو بعيد. 
قلت: الأصح ما قاله العراقيون؛ لأن التيمم ضعف برؤية الماء وكان مقتضى الدليل بطلان الصلاة التي هو فيها في الحال خالفناه لحرمتها، وهذا ليس بموجود في غيرها والله أعلم.
أما إذا رأى الماء في أثناء نافلة فستة أوجه مفرقة في كتب الأصحاب، وحكاها مجموعة صاحب "البيان" وغيره، أصحها وأشهرها: أنه إن كان نوى عددا أتمه وإلا اقتصر على ركعتين ولم تجز الزيادة، وبهذا قطع المصنف والأكثرون، ونص عليه الشافعي رحمه الله في الأم، ونقله الشيخ أبو حامد عن أصحابنا مطلقا؛ لأنه إن نوى عددا، فهو كالفريضة لدخوله في صريح نيته، وإن لم ينو عددا فعرف الشرع في النافلة ركعتان فصار كالمنوي. والثاني: لا يزيد على ركعتين، وإن كان نواه، وهو قول الشيخ أبي زيد وأبي علي السنجي؛ لأن السنة النافلة ركعتان فالزائد كنافلة مستأنفة. والثالث: يقتصر على ما صلى منها مطلقا، ولا تجوز الزيادة، وإن كان نواها، حكوه عن ابن سريج؛ لأن مقتضى رؤية الماء بطلان الصلاة، خالفنا هذا في الفريضة؛ لأنه لو اقتصر على بعضها بطلت. والنافلة يجوز الاقتصار على بعضها. والرابع: يجوز له أن يزيد بعد رؤية الماء ما شاء من الركعات، وإن زاد على ما نوى. قاله القفال؛ لأنه صح دخوله فيها وهي صلاة واحدة، فجاز الزيادة فيها كما لو طول الركعات. والخامس: وبه قطع البندنيجي إن نوى عددا أتمه وإلا بنى على القولين فيمن نذر صلاة مطلقة إن قلنا يلزمه ركعتان صلى ركعتين، وإن قلنا: ركعة لم يزد عليها. والسادس: يبطل مطلقا؛ لأن مقتضى الدليل بطلان الصلاة بالتيمم مع وجود الماء خالفناه في الفريضة للضرورة ولحرمتها، ولهذا يحرم قطعها كما

 

ج / 2 ص -250-       سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى بخلاف النافلة، ولو دخل في نافلة بنية مطلقة، فصلى ركعتين ثم قام ثالثة ثم رأى الماء، قال صاحب البحر: قال القاضي أبو الطيب: يتم هذه الركعة ويسلم؛ لأنها لا تتبعض قال: وهذا كما قال.
قلت: ولا يخفى أن هذا لا يجيء على كل الأوجه والله أعلم.
فرع: إذا تيمم للمرض فبرأ في أثناء صلاته فهو كما لو تيمم لعدم الماء فوجده في أثنائها. 
فرع: إذا دخل في صلاة مفروضة في أول وقتها حرم عليه قطعها من غير عذر، وإن كان الوقت واسعا. هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع الأصحاب. وقال إمام الحرمين: الذي أراه أن هذا جائز قال: وكذا المقضية التي على التراخي يجوز قطعها بغير عذر؛ لأن الوقت موسع قبل الشروع فيها، فكذا بعد الشروع كما لو أصبح المسافر صائما ثم أراد الفطر فإنه يجوز، قال: والذي أراه أن من شرع في صلاة الجنازة فله قطعها إذا كانت لا تتعطل بقطعه قال: ومصداق ما ذكرته نص الشافعي رحمه الله: أن من تحرم بالصلاة منفردا ثم وجد جماعة فله الخروج منها ليدرك الجماعة، قال: وهذه فصول رأيتها فأبديتها، وعندي أن الأصحاب لا يسمحون بها، ولا يجوزون للشارع في فائتة الخروج منها بغير عذر وإن كان القضاء على التراخي، , ولكن القياس ما ذكرته، هذا كلام إمام الحرمين وجزم الغزالي في "الوسيط" بجواز قطع الفريضة في أول وقتها، ولم يذكر فيها خلافا؛ ولأن الأصحاب لا يسمحون به كما ذكره إمام الحرمين، فأوهم الغزالي بعبارته أن هذا مذهب الشافعي والأصحاب، وليس كذلك، وإنما هو احتمال لإمام الحرمين كما ذكرته، ولم يتابع الغزالي في "البسيط" الإمام بل حكى كلام الإمام ثم قال: وليس في الأصحاب من يسمح بذلك في القضاء وصلاة الوقت وإن كان في أول الوقت، وهذا الذي ذكره في "البسيط" هو الصواب وليته قال في "الوسيط" مثله.
واعلم أن الصواب أنه لا يجوز قطع المكتوبة من غير عذر وإن كان الوقت واسعا ولا المقضية. هذا نص الشافعي رحمه الله وهو متفق عليه عند الأصحاب، قال الشافعي رحمه الله في "الأم" في أول باب تفريق الصوم والصلاة وهو آخر أبواب الصلاة: "من دخل في صوم واجب عليه من شهر رمضان أو قضاء، أو صوم نذر أو كفارة من وجه من الوجوه أو صلى مكتوبة في وقتها أو قضاها أو صلاة نذر لم يكن له أن يخرج من صوم أو صلاة ما كان مطيقا للصوم والصلاة على طهارة، فإن خرج من واحد منهما بلا عذر عامدا، كان مفسدا آثما عندنا"، هذا نصه في "الأم" بحروفه ومن "الأم" نقلته. وكذا نقله عن نصه في "الأم" جماعات.
وأما اتفاق الأصحاب على تحريم قطعها بلا عذر، فقد اعترف به إمام الحرمين كما سبق ونقله الغزالي في "البسيط" كما قدمته، وقال صاحب "التتمة" في باب التيمم وباب صلاة الجماعة: من شرع في الصلاة منفردا، ثم أراد قطعها لا يجوز له ذلك بلا خلاف يعني بلا عذر، وكذا قاله جماعات غيره ومنهم المصنف هنا في المهذب، فقد صح بذلك في قوله؛ لأن ما لا يبطل الصلاة لا يبيح الخروج منها، وكذا صرح به الباقون، وهو أشهر من أن أطنب في نقل كلامهم فيه، وقد نقله من

 

ج / 2 ص -251-       المتأخرين عن المذهب وعن الأصحاب الرافعي وأبو عمرو بن الصلاح وأنكرا على إمام الحرمين والغزالي انفرادهما عن الأصحاب بتجويز قطعها. ودليل تحريم القطع قول الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: من الآية33] وهو على عمومه إلا ما خرج بدليل. وأما مسألتا الصوم والصلاة اللتان احتج بهما إمام الحرمين فالجواب عنهما: أن العذر فيهما موجود والله أعلم.
وقال الرافعي في أول باب صوم التطوع: لو شرع في صوم قضاء رمضان فإن كان القضاء على الفور لم يجز الخروج منه، وإن كان على التراخي فوجهان، أحدهما: يجوز، قاله القفال وقطع به الغزالي والبغوي وطائفة وأصحهما: لا يجوز وهو المنصوص في "الأم" وبه قطع الروياني في الحلية، وهو مقتضى كلام الأكثرين؛ لأنه تلبس بالفرض، ولا عذر قطعه فلزمه إتمامه، كما لو شرع في الصلاة في أول الوقت قال: وأما صوم الكفارة فما لزم بسبب محرم، فهو كالقضاء الذي على الفور وما لزم بسبب غير محرم كقتل الخطأ فكالقضاء الذي على التراخي، وكذا النذر المطلق. قال: وهذا كله مبني على المذهب وهو انقسام القضاء إلى واجب على الفور، وهو ما عصى بتأخيره وإلى واجب على التراخي وهو ما لم يعص بتأخيره، ولنا وجه: أن القضاء على التراخي مطلقا. هذا آخر كلام الرافعي.
فرع: قال أصحابنا: قال الشافعي في الأم: لو تيمم ودخل في مكتوبة ثم رعف انصرف، فإن لم يجد من الماء إلا ما يغسل به الدم غسله واستأنف التيمم والصلاة؛ لأنه لما لزمه طلب الماء بطل تيممه، قالوا: وإن وجد الماء لزمه الوضوء واستئناف الصلاة بلا خلاف، ولا يجيء فيه القول القديم فيمن سبقه الحدث أو رعف أنه يبني؛ لأنه لا تجوز صلاة واحدة بتيمم ووضوء كما لا تجوز عدة واحدة بأقراء وأشهر، ولا كفارة بعضها عتق وبعضها صوم والله أعلم
فرع: في مذاهب العلماء فيمن وجد الماء أثناء صلاة السفر.
قد سبق أن مذهبنا المشهور أنه لا تبطل صلاته بل يتمها ولا إعادة عليه، وبه قال مالك وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وداود، وهو رواية عن أحمد، وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة والمزني: تبطل وهو أصح الروايتين عن أحمد، ونقله البغوي عن أكثر العلماء. قال أبو حنيفة: إلا أن يكون صلاة العيدين أو الجنازة أو كان الذي رآه سؤر حمار، فلا تبطل. قال القاضي أبو الطيب والماوردي: قال ابن سريج: الذي أختاره هنا قول المزني، واحتج من قال: يبطل بقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: من الآية6] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك"؛ ولأن ما أبطل الطهارة خارج الصلاة أبطلها فيها كالحدث، ولأنها طهارة ضرورة فبطلت بزوال الضرورة كطهارة المستحاضة؛ ولأن ما منع ابتداء الصلاة منع استدامتها كالحدث؛ ولأنه مسح أقيم مقام غيره فبطل بظهور أصله في الصلاة وغيرها، كماسح الخف إذا ظهرت رجله؛ ولأنها صلاة جاز ترك الأصل فيها للعذر، فإذا زال العذر فيها بالقدرة على الأصل، وجب الرجوع إلى الأصل، كالمريض إذا صلى قاعدا فبرأ في الصلاة والأمي إذا تعلم الفاتحة في أثناء الصلاة، والعريان إذا وجد السترة؛ ولأن الصبية إذا شرعت في "العدة" بالأشهر فحاضت في أثنائها انتقلت إلى الأقراء، فكذا هنا.

 

ج / 2 ص -252-       واحتج أصحابنا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنصرف حتى تسمع صوتا أو تجد ريحا" وهو حديث صحيح كما سبق، وهذا الحديث وإن ورد على سبب فالتمسك بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على المختار عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول؛ ولأن رؤية الماء ليس حدثا لكن وجوده مانع من ابتداء التيمم، وذكر أصحابنا أدلة كثيرة لا يظهر الاستدلال بأكثرها فحذفتها. وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية الكريمة والحديث فهو أنهما محمولان على واجد الماء قبل الدخول في الصلاة. 
والجواب عن القياس على الحدث: أنه مناف للصلاة بكل حال، بخلاف التيمم وعن المستحاضة: بأن حدثها متجدد؛ ولأنها مستصحبة للنجاسة، والمتيمم بخلافها، وعن القياس الآخر على الحدث: أنه مناف بكل حال؛ ولأنه يحتمل في الدوام ما لا يحتمل في الابتداء، كطرآن "العدة" بالشبهة والإحرام على النكاح، وعن الخف أنه ينسب إلى تفريط لعدم تعهده وإصلاحه أو لمضايقته المدة، فنظير الماسح من نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم فيعيد على الصحيح لتقصيره، وعن القياس على المريض والأمي والعريان أن هذه أحوال تغير صفة الصلاة ولا تبطلها. وعن المعتدة أنها رأت الأصل قبل الفراغ من البدل، والمتيمم رأى الماء بعد الفراغ من البدل وهو التيمم فليس نظيرها، وإنما نظير المتيمم من "العدة" أن تحيض بعد أن تنقضي الأشهر وتتزوج، وحينئذ لا أثر للحيض وعدتها صحيحة، ونظير "العدة" من التيمم أن ترى الماء في أثناء التيمم والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن تيمم للمرض وصلى ثم برأ لم يلزمه الإعادة؛ لأن المرض من الأعذار العامة فهو كعدم الماء في السفر".
الشرح: إذا تيمم للمرض حيث جوزناه وصلى ثم برأ، لا يلزمه الإعادة بلا خلاف سواء كان في سفر أو حضر؛ لأنه عذر عام، فلو وجبت الإعادة حصل الحرج، وقد قال الله تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: من الآية78] ويقال: برأ وبرئ وبرؤ، ثلاث لغات سبق بيانهن قريبا، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن تيمم لشدة البرد وصلى ثم زال البرد، فإن كان في الحضر لزمه الإعادة؛ لأن ذلك من الأعذار النادرة، وإن كان في السفر ففيه قولان أحدهما: لا يجب؛ لأن عمرو بن العاص رضي الله عنه تيمم وصلى لشدة البرد، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بالإعادة. والثاني: يجب؛ لأن البرد الذي يخاف منه الهلاك، ولا يجد ما يدفع ضرره عذر نادر غير متصل فهو كعدم الماء في الحضر".
الشرح: حديث عمرو وحاله تقدم بيانه في فصل تيمم المريض. وقوله: عذر نادر، احتراز من المرض وعدم الماء في السفر، وقوله: غير متصل، احتراز من الاستحاضة.
أما حكم المسألة: فقال أصحابنا: إذا وجد المحدث أو الجنب الماء وخاف من استعماله لشدة البرد، لا لمرض ونحوه وخوف، يجوز للمريض التيمم، فإن قدر على أن يغسل عضوا عضوا ويدثره، أو قدر على تسخين الماء بأجرة مثله أو على ماء مسخن بثمن مثله لزمه ذلك، ولم يجز له التيمم لا في الحضر ولا في السفر؛ لأنه واجد للماء قادر على استعماله. ، فإن خالف وتيمم لم يصح

 

ج / 2 ص -253-       تيممه، ويلزمه إعادة ما صلى به، وإن لم يقدر على شيء من ذلك وقدر على غسل بعض الأعضاء الظاهرة من غير ضرر لزمه ذلك ثم يتيمم للباقي، وإن لم يقدر على شيء من ذلك تيمم وصلى لحديث عمرو بن العاص، فإنه تيمم للبرد واستدل بالآية وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك كله، وهل تجب إعادة هذه الصلاة؟ قال أصحابنا: إن كان التيمم في السفر ففيه قولان مشهوران، نص عليهما في "البويطي"، رجح الشافعي رحمه الله منهما وجوب الإعادة، وكذا رجحه جمهور الأصحاب، وصحح المتولي والروياني في "الحلية" أنه لا إعادة لحديث عمرو.
وأجاب الجمهور عن حديث عمرو: بأن الإعادة على التراخي وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح، ويحتمل أنه كان يعلم وجوب الإعادة أو أنه كان قد قضى، وإن كان في الحضر فطريقان قطع الجمهور في كل الطرق بوجوب الإعادة لندوره. وحكى الدارمي في "الاستذكار" وغيره من الأصحاب عن أبي الحسين بن القطان من أصحابنا أنه قال: إن قلنا: يعيد المسافر فالحاضر أولى، وإلا فقولان، ونقل العبدري في الكفارة عن أبي حاتم القزويني أنه قال: فيهما ثلاثة أقوال؛ أحدها: يعيد الحاضر والمسافر، والثاني: لا يعيدان، والثالث: يعيد الحاضر دون المسافر. والصحيح: وجوب الإعادة عليهما، هذا تفصيل مذهبنا. وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن الحسن البصري وعطاء أنه لا يجوز له التيمم، بل يستعمل الماء وإن مات. وحكوا عن مالك وأبي حنيفة والثوري أنه يتيمم ويصلي ولا يعيد، لا المسافر ولا الحاضر، واختاره ابن المنذر. وقال أحمد: لا يعيد المسافر، وفي الحاضر روايتان، ودليل الجميع يعرف مما سبق، ولو كان معه ثوب نجس فخاف الهلاك من شدة حر أو برد لو نزعه صلى فيه وأعاد، وقد ذكر المصنف المسألة في باب طهارة البدن والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ومن صلى بغير طهارة لعدم الماء والتراب لزمه الإعادة؛ لأن ذلك عذر نادر غير متصل، فصار كما لو نسي الطهارة وصلى مع القدرة على الطهارة".
الشرح: قد سبق بيان حكم من لم يجد ماء ولا ترابا، وأن فيه أربعة أقوال أصحها: تجب الصلاة في الحال وتجب الإعادة، وبسطنا أدلته وفروعه. وقوله: عذر نادر غير متصل، سبق الاحتراز منها قريبا، وقاسه على ما لو نسي الطهارة؛ لأنه مجمع عليه والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:  "إذا كان على بعض أعضائه كسر يحتاج إلى وضع الجبائر وضع الجبائر على طهر، فإن وضعها على طهر ثم أحدث وخاف من نزعها، أو وضعها على غير طهر وخاف من نزعها مسح على الجبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا رضي الله عنه أن يمسح على الجبائر؛ ولأنه تلحقه المشقة في نزعها فجاز المسح عليها كالخف، وهل يلزمه مسح الجميع أم لا؟ فيه وجهان أحدهما: يلزمه مسح الجميع؛ لأنه [مسح 1] أجيز للضرورة فوجب فيه الاستيعاب كالمسح في التيمم. والثاني: يجزيه ما يقع عليه الاسم؛ لأنه مسح على حائل منفصل، فهو كمسح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين من المتوكلية (ط).

 

ج / 2 ص -254-       الخف. وهل يجب التيمم مع المسح؟ فيه قولان. قال في القديم: لا يتيمم، كما لا يتيمم مع المسح على الخف. وقال في الأم: يتيمم، لحديث جابر رضي الله عنه "أن رجلا أصابه حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على رأسه خرقة يمسح عليها ويغسل سائر جسده"؛ ولأنه يشبه الجريح؛ لأنه يترك غسل العضو لخوف الضرر، ويشبه لابس الخف؛ لأنه لا يخاف الضرر من غسل العضو، وإنما يخاف المشقة من نزع الحائل كلابس الخف، فلما أشبههما وجب عليه الجمع بين المسح والتيمم، فإن برأ وقدر على الغسل، فإن كان قد وضع الجبائر على غير طهر لزمه إعادة الصلاة، وإن كان وضعها على طهر ففيه قولان. أحدهما: لا يلزم الإعادة، كما لا يلزم ماسح الخف والثاني: يلزمه؛ لأنه ترك غسل العضو لعذر نادر غير متصل فصار كما لو ترك غسل العضو ناسيا".
الشرح: قال الأزهري وأصحابنا: الجبائر: هي الخشب التي تسوى فتوضع على موضع الكسر وتشد عليه حتى ينجبر على استوائها، واحدتها جبارة بكسر الجيم، وجبيرة بفتحها. قال صاحب "الحاوي": الجبيرة ما كان على كسر، واللصوق بفتح اللام ما كان على قرح، وقد أنكر جماعة ممن صنف في ألفاظ المهذب على المصنف قوله: وإن كان على عضوه كسر. وقالوا: هذا غلط وإنما يقال: عضو مكسور ولا يقال: عليه كسر، وهذا الإنكار باطل، بل يقال: عضو مكسور وفيه كسر وعليه كسر، كله بمعنى واحد.
وأما حديث جابر فرواه أبو داود والبيهقي وضعفه البيهقي، وأما حديث علي رضي الله عنه فضعيف رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما واتفقوا على ضعفه؛ لأنه من رواية عمرو بن خالد الواسطي، واتفق الحفاظ على ضعفه، قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون: هو كذاب، قال البيهقي: هو معروف بوضع الحديث، ونسبه إلى الوضع وكيع، قال البيهقي: ولا يثبت في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قال: وأقرب شيء فيه حديث جابر الذي سبق وليس بالقوي قال: وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم مع ما رويناه عن ابن عمر. فذكر بإسناده أن ابن عمر رضي الله عنهما توضأ وكفه معصوبة فمسح عليها وعلى العصابة وغسل ما سوى ذلك. قال: وهذا عن ابن عمر صحيح ثم روى البيهقي جواز المسح على الجبائر وعصائب الجراحات بأسانيده عن أئمة التابعين. وينكر على المصنف قوله: "لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا" فأتى بصيغة الجزم في حديث متفق على ضعفه وتوهينه، وقد سبق التنبيه على هذه العبارة والقاعدة في الفصول المذكورة في مقدمة الكتاب. وقوله: لأنه مسح أجيز للضرورة، احتراز من مسح الخف، فإنه تخفيف ورخصة، وقوله مسح على حائل منفصل فيه احتراز من مسح اللحية في التيمم. 
أما حكم المسألة: فقال أصحابنا: إذا احتاج إلى وضع الجبيرة وضمها، فإن كان لا يخاف ضررا من نزعها وجب نزعها وغسل ما تحتها إن لم يخف ضررا من غسله، قال العبدري: وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وداود: لا يلزمه نزعها وإن لم يخف ضررا، قال أصحابنا: وإن خاف الضرر من نزعها لم يجب نزعها، والخوف المعتبر ما سبق في المرض المجوز للتيمم على التفصيل السابق اتفاقا

 

ج / 2 ص -255-       واختلافا، هكذا قاله الأصحاب. قال أصحابنا: ولا يجوز أن يضع الجبيرة على شيء من الصحيح إلا القدر الذي لا يتمكن من ستر الكسر إلا به، قالوا: ويجب أن يضعها على طهر.
وحكى إمام الحرمين وجها عن والده أنه لا يجب وضعها على طهر إذا لم نوجب الإعادة على من وضعها على غير طهر، وهذا شاذ، والصحيح المشهور: أنه يجب وضعها على طهر مطلقا، وبه قطع الشيخ أبو جامد والقاضي أبو الطيب والروياني في "الحلية" وآخرون، وهو مراد المصنف بقوله: وضع الجبائر على طهر، أي يجب عليه الطهارة لوضع الجبيرة على عضوه، وهو مراد الشافعي رحمه الله بقوله في المختصر: (ولا يضعها إلا على وضوء) فإن خالف ووضعها على غير طهر، فإن لم يخف ضررا من نزعها وجب نزعها ثم يلبسها على طهارة، وإن خاف لم يلزمه نزعها، بل يصح مسحه ويكون آثما، هكذا صح به المحاملي والأصحاب، وإذا أراد لابس الجبيرة الطهارة فليفعل ثلاثة أمور: غسل الصحيح من باقي أعضائه والمسح على الجبيرة والتيمم، أما غسل الصحيح فيجب غسل الأعضاء الصحيحة، وكل ما يقدر عليه من أطراف الجبيرة على التفصيل المتقدم في فصل الجريح، هذا هو الصواب المقطوع به في معظم طرق الأصحاب. وحكى بعض الخراسانيين والرافعي طريقا آخر أن في غسل الصحيح القولين فيمن وجد بعض ما يكفيه من الماء، وقد سبق مثل هذا الطريق في الجريح وعلى هذا الطريق يتعين التيمم، والمذهب: القطع بوجوب غسل الصحيح؛ لأن كسر العضو لا يزيد على فقده، ولو فقده وجب غسل الباقي قطعا.
وأما مسح الجبيرة بالماء فواجب باتفاق الأصحاب في كل الطرق، وممن نقل اتفاقهم عليه إمام الحرمين إلا قولا حكاه الرافعي عن حكاية الحناطي أنه يكفيه التيمم، ولا يمسح الجبيرة بالماء، ونقله صاحب "العدة" أيضا، واختاره القاضي أبو الطيب والمذهب الأول، وهل يجب استيعاب الجبيرة بالمسح كالوجه في التيمم؟ أم يكفي مسح ما ينطلق عليه الاسم كالرأس والخف؟ فيه وجهان مشهوران. ذكرهما المصنف بدليلهما، أصحهما عند الأصحاب: يجب الاستيعاب صححه الشيخ أبو محمد في "الفروق"، والبغوي والروياني في الحلية، والرافعي وغيرهم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد.
وأما التيمم مع غسل الصحيح ومسح الجبيرة بالماء، ففيه طريقان، أصحهما وأشهرهما والتي قطع الجمهور بها: أن فيه قولين أصحهما عند الجمهور: وجوبه وهو نصه في "الأم" و"البويطي" والكبير. والثاني: لا يجب وهو نصه في القديم، وظاهر نصه في المختصر، وصححه الشيخ أبو حامد والجرجاني والروياني في الحلية، قال العبدري: وبهذا قال أحمد وسائر الفقهاء. والطريق الثاني حكاه الخراسانيون وصححه المتولي منهم أنه إن كان ما تحت الجبيرة عليلا لا يمكن غسله لو كان ظاهرا وجب التيمم كالجريح، وإن أمكن غسله لو ظهر لم يجب التيمم كلابس الخف، وقد ذكر المصنف دليل القولين، والمذهب الوجوب: فإذا أوجبنا التيمم، فلو كانت الجبيرة على موضع التيمم ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو محمد وولده إمام الحرمين والغزالي وآخرون. أحدهما: يجب مسحها بالتراب كما يجب مسحها بالماء. وأصحهما: عند الأصحاب وبه قطع الماوردي والبغوي وآخرون :

 

ج / 2 ص -256-       لا يجب مسحها بالتراب، بل يمسح ما سواها؛ لأن التراب ضعيف، فلا يؤثر فوق حائل بخلاف المسح بالماء، فإن تأثيره فوق الحائل معهود في الخف، فعلى هذا يستحب قاله الدارمي وغيره؛ لأن فيه خروجا من الخلاف.
وأما وقت مسح الجبيرة بالماء فإن كان جنبا مسح متى شاء إذ لا ترتيب عليه. وإن كان محدثا مسح إذا وصل غسل عضوها، وأما وقت التيمم فعلى ما سبق في تيمم الجريح سواء اتفاقا واختلافا وتفريعا، ومختصره: أنه إن كان جنبا فوجهان. أحدهما: يجب تقديم الغسل ثم يتيمم، والصحيح المشهور: إن شاء قدم التيمم على الغسل، وإن شاء أخره، وإن شاء وسطه، وإن كان محدثا فثلاثة أوجه مشهورة. أحدها: يجب تقديم غسل جميع المقدور عليه. والثاني: يتخير كالجنب، والثالث: وهو الصحيح عند جمهور الأصحاب: لا ينتقل من عضو حتى يكمل طهارته، هكذا صححه الأصحاب في طرقهم. ونقل الرافعي تصحيحه عنهم فعلى هذا يجيء التفصيل السابق في تيمم الجريح بين أن يكون عليه جبيرة في الوجه أو اليد أو الرجل أو جبيرتان أو جبائر، والحكم ما سبق هناك، فعلى الثالث يتعدد التيمم بحسب الجبائر، كما سبق هناك، وعلى الوجهين الأولين يكفي تيمم واحد عن الجبائر كلها، وهل يجب على صاحب الجبيرة إعادة الوضوء لكل فريضة؟ وإن لم يحدث كما يجب إعادة التيمم؟ أم يكفي غسل ما بعد الجبيرة؟ أم لا يجب غسل شيء ما لم يحدث؟ فيه ثلاثة أوجه كما سبق في الجريح. والصحيح أنه لا يجب غسل شيء، ونقل الاتفاق عليه هنا إمام الحرمين وآخرون، وصرح به الماوردي والغزالي وغيرهما. وممن ذكر الخلاف فيه القاضي حسين والبغوي، وقطع الشيخ أبو حامد بوجوب إعادة الوضوء كالمستحاضة، والمذهب: أنه لا يجب، ويفارق المستحاضة، فإن حدثها متجدد، وحكم إعادة مسح الجبيرة حكم إعادة الغسل. وقطع الغزالي بأنه لا يجب، وهو المذهب، وإذا شفي صاحب الجبيرة لزمه غسل موضعها، وحكم وجوب استئناف الوضوء أو الغسل إن كان جنبا وعدم وجوبه على ما سبق في الجريح. والله أعلم.
هذا كله إذا كان الكسر محوجا إلى الجبيرة فوضعها، أما إذا لم يحتج إلى وضعها لكن خاف من إيصال الماء إلى العضو، فحكمه حكم الجريح، فيجب غسل الصحيح بقدر الإمكان على التفصيل السابق هناك ويجب التيمم مع غسل الصحيح، ولا يجب مسح موضع الكسر بالماء، وإن لم يخف منه ضررا؛ لأن المسح بالماء لا تأثير له من غير حائل كما قدمناه في الجريح، بخلاف الجبيرة، فإنه مسح على حائل كالخف، كذا قطع به الأصحاب في الطرق، ونقله الرافعي عن الأئمة، ثم قال: وللشافعي سياق يقتضي وجوب المسح، ووجوب التيمم في هذه الصورة متفق عليه، بلا خلاف، لئلا يبقى موضع الكسر بلا طهارة، فإذا تيمم وكان الكسر في محل التيمم وجب مسحه بالتراب، كما سبق في الجريح؛ لأنه لا ضرر فيه ولا حائل دونه والله أعلم.  وأما إعادة الصلاة التي يفعلها الكسير، فإن لم يكن عليه ساتر من جبيرة أو لصوق فلا إعادة بالاتفاق؛ لأن التيمم إذا تجرد للمرض والجراحة ونحوهما لا يجب معه إعادة، فمع غسل بعض الأعضاء أولى أن لا يجب، وإن كان عليه ساتر من جبيرة أو لصوق أو نحوهما، فإن كان وضعه على

 

ج / 2 ص -257-       طهر، ففي وجوب الإعادة قولان ذكرهما المصنف بدليلهما الصحيح منهما عند جمهور الأصحاب: لا يجب الإعادة، وقطع به جماعات وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وانفرد البغوي بترجيح الوجوب. وإن كان وضعه على غير طهر فطريقان، أصحهما: القطع بوجوب الإعادة لندوره وتقصيره، وبهذا الطريق قطع المصنف والجمهور في الطرق كلها، وصححه الباقون، والثاني: أن في الإعادة قولين حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي والدارمي وصاحب "الشامل" والمتولي والروياني وآخرون من العراق والخراسانيين قال المتولي: في المسألة ثلاثة أقوال، أصحها: إن وضع على طهر لم تجب الإعادة، وإن وضع على غير طهر وجبت، والثاني: يجب مطلقا، والثالث: لا يجب مطلقا. وقال القاضي حسين وإمام الحرمين: إن وضع على طهر لم يعد في القديم، وفي الجديد قولان: وإن وضع على غير طهر أعاد في الجديد، وفي القديم قولان، ثم المشهور: أنه لا فرق في الإعادة بين أن نوجب التيمم ويفعله أو لا نوجبه، وقال أبو حفص بن الوكيل من أصحابنا: الخلاف إذا لم نوجب التيمم أما إذا أوجبناه فتيمم فلا يعيد - قولا واحدا - والمذهب الأول، وبه قطع الجمهور، ثم الجمهور أطلقوا الخلاف في الإعادة.
قال القاضي أبو الطيب وأصحاب "الشامل" و"التتمة" والبحر والرافعي: هذا الخلاف إذا كانت الجبيرة أو اللصوق على غير محل التيمم، فإن كان عليه -وقلنا: لا يجب التيمم- فكذلك وإن قلنا: يجب وجبت الإعادة -قولا واحدا- لنقصان البدل والمبدل ولم أر للجمهور تصريحا بمخالفة هذه الجماعة ولا بموافقتها، لكن إطلاقهم يقتضي أن لا فرق. هذا تفصيل مذهبنا، وحكى ابن المنذر عن جمهور العلماء أنه لا إعادة عليه، وحكى العبدري عن أحمد بن حنبل وسائر الفقهاء أنه لا يجب التيمم على صاحب الجبيرة والله أعلم
فرع: قطع الشيخ أبو حامد والماوردي والدارمي وابن الصباغ وسائر العراقيين وصاحب "التتمة" وغيره من الخراسانيين بأن المسح على الجبيرة غير مؤقت بل يمسح من غير نزع، وإن تطاولت الأزمان إلى أن يبرأ، وذكر الفوراني وإمام الحرمين والغزالي وآخرون من الخراسانيين وجها أنه مؤقت كالخف كذا أطلقوه.
قال الرافعي: فعلى هذا الوجه يختلف بالحضر والسفر، فينزع المقيم الجبيرة بعد يوم وليلة، والمسافر بعد ثلاث، وأنكره عليه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وقال: الصواب أنه يختص بيوم وليلة حضرا وسفرا. والأظهر ما ذكره الرافعي، وهو مقتضى إطلاق من حكى هذا الوجه، وهذا الوجه في أصله ضعيف، والصواب: أنه غير مؤقت؛ لأن الرخصة وردت غير مقيدة بخلاف الخف، ولأن الحاجة تدعو إلى استدامة الجبيرة. قال القاضي أبو الطيب: ولأن الخف ينزعه للجنابة بخلاف الجبيرة. قال إمام الحرمين: هذا الخلاف إنما يثبت إذا أمكن نزع الجبيرة ووضعها بغير ضرر العضو، فإن أضر به لم يجب بلا خلاف. قال: وصورة الخلاف إذا لم يمكن النزع بغير خلل يعود إلى العضو إلا بعد كل يوم وليلة، فإن أمكن في كل وقت لم يجز المسح عليها، وهذا الذي قاله الإمام حاصله رفع الخلاف من أصله؛ فإنا قدمنا اتفاق الأصحاب على أنه إذا لم يكن في النزع ضرر لا يجوز المسح بلا خلاف، والله أعلم.

 

ج / 2 ص -258-       فرع: قال أصحابنا: حكم اللصوق وغيره من الجرح حكم الجبيرة في جميع ما سبق، فإن قدر على حل عصابته وغسله من غير ضرر لزمه، وإلا فهو كالجبيرة على ما سبق. قال القاضي حسين وغيره: وكذا لو وضع قشر الباقلا ونحوه على خدشه فهو كالجبيرة. قال صاحب "التهذيب": وكذا لو طلى على خدشه شيئا، قال: وكذا الشقوق على الرجل إذا احتاج فيها إلى تقطير شيء يجمد فيها.
فرع: قال أصحابنا: إذا أجنب صاحب الجبيرة ونحوها لم يلزمه نزعها، بل يغسل الصحيح ويمسح عليها ويتيمم كالمحدث، بخلاف لابس الخف يلزمه النزع للجنابة؛ لعدم المشقة هناك.
فرع: لو كان على عضويه جبيرتان فرفع إحداهما لا يلزمه رفع الأخرى، بخلاف الخفين؛ لأن لبسهما جميعا شرط بخلاف الجبيرتين، ولو سقطت جبيرته عن عضوه في الصلاة بطلت صلاته، سواء كان برأ أم لا، كانخلاع الخف، هذا مذهبنا. وحكى صاحب "العدة" عن أبي حنيفة أنه إن سقطت قبل البرء لم تبطل، دليلنا القياس على الخف وعلى ما بعد البرء، ولو اندمل ما تحت الجبيرة وبرأ وهو لا يعلم فصلى بعده صلوات وجب قضاؤهن بلا خلاف، كذا نقل الاتفاق فيه صاحب "التتمة" وغيره، ولو توهم اندماله بعد التيمم فبان أنه لم يندمل، ففي بطلان تيممه الوجهان في تيمم الجريح، أصحهما: لا يبطل، وقد سبقت المسألة هناك مستوفاة وبالله التوفيق.

فصل في مسائل تتعلق بباب التيمم
إحداها: إذا تيمم وعليه خفان أو عمامة لبسهما على طهر ثم خلع ذلك، لم يبطل تيممه عندنا وبه قال مالك وأبو حنيفة والجمهور، وحكى العبدري عن أحمد أنه يبطل.
الثانية: قال الروياني: قال والدي: لو عدم الجنب الماء فتيمم لقراءة القرآن فشرع فيها ثم رأى الماء، فإن لم ينو عند الشروع في القراءة قراءة قدر معلوم لزمه قطع القراءة بمجرد رؤية الماء، وإن نوى قدرا احتمل وجهين. أحدهما: له الإتمام كما لو نوى نافلة محصورة له إتمامها على المذهب. والثاني: يلزمه القطع؛ لأن القراءة لا يرتبط بعضها ببعض. قال الروياني: وهذا الثاني أصح، ولا وجه للأول. قال: ولو كان في وسط الآية لزمه قطعها.
الثالثة: قال الروياني: قال والدي: لو تيمم عادم الماء قبل الاجتهاد في القبلة ففي صحة تيممه وجهان، بناء على من تيمم وعليه نجاسة.
الرابعة: إذا تيمم وعليه عمامة أو خفان لبسهما على طهارة ثم نزعهما، لم يبطل تيممه عندنا وعند مالك وأبي حنيفة وداود والعلماء كافة إلا رواية حكاها العبدري عن أحمد: أنه يبطل.
فرع: قال المحاملي في اللباب: التيمم يشتمل على فرض وسنة وأدب وكراهة وشرط، فالفرض سبعة: طلب الماء، والقصد إلى الصعيد، والنية، ومسح الوجه واليدين، والترتيب، والتتابع على قول. والسنة خمسة: التسمية، والاقتصار على ضربتين، ونفض الغبار الكثير، وتقديم اليمنى. والأدب ثلاثة: استقبال القبلة، والابتداء بأعلى الوجه وبالكفين في اليدين. والكراهة استعمال التراب

 

ج / 2 ص -259-       الكثير، والزيادة على الضربتين، والشرط واحد وهو كون التراب مطلقا. قال: وينقض التيمم ما ينقض الوضوء، وخمسة أشياء أيضا: وجود الماء أو ثمنه وتوهمه، وارتفاع المرض، والإقامة قال: ويفارق التيمم الوضوء في خمسة أشياء: كون التيمم في عضوين، ولا يجب إيصال التراب إلى أصول الشعر مطلقا، ولا يصلي فرضين بتيمم ولا يتيمم إلا لعذر، وبعد دخول الوقت. وهذا آخر كلام المحاملي، وقد ترك من الشروط العذر ودخول الوقت. وقد شذ عن ضبطه مسائل وتفاصيل ووجوه سبقت في مواضعها والله أعلم.

فصل في حكم الصلوات المأمور بهن
في الوقت مع خلل للضرورة

 قال أصحابنا: العذر ضربان، عام ونادر، فالعام لا قضاء معه للمشقة، ومن هذا الضرب المريض يصلي قاعدا أو موميا، أو بالتيمم خوفا من استعمال الماء، ومنه المصلي بالإيماء في شدة الخوف، والمسافر يصلي بالتيمم لعجزه عما يجب عليه أن يستعمله. وأما النادر فقسمان، قسم يدوم غالبا وقسم لا يدوم، فالأول كالمستحاضة وسلس البول والمذي ومن به جرح سائل أو رعاف دائم أو استرخت مقعدته فدام خروج الحدث منه ومن أشبههم، فكلهم يصلون مع الحدث والنجس ولا يعيدون للمشقة والضرورة. وأما الذي لا يدوم غالبا فنوعان، نوع: يأتي معه ببدل للخلل ونوع: لا يأتي، فمن الثاني من لم يجد ماء ولا ترابا، والمريض والزمن ونحوهما ممن لا يخاف من استعمال الماء، لكن لا يجد من يوضئه، ومن لا يقدر على التحول إلى القبلة، والأعمى وغيره ممن لا يقدر على معرفة القبلة ولا يجد من يعرفه إياها، ومن على بدنه أو جرحه نجاسة لا يعفى عنها ولا يقدر على إزالتها، والمربوط على خشبة ومن شد وثاقه، والغريق ومن حول عن القبلة أو أكره على الصلاة إلى غيرها أو على ترك القيام، فكل هؤلاء يجب عليهم الصلاة على حسب الحال، وتجب الإعادة لندور هذه الأعذار، وفي بعض هؤلاء خلاف ضعيف تقدم في هذا الباب.
وأما المصلي عريانا لعدم السترة ففي كيفية صلاته قولان، أصحهما وأشهرهما: تجنب الصلاة قائما بإتمام الركوع والسجود. والثاني: يصلي قاعدا، فعلى هذا هل يتم الركوع والسجود؟ أم يقتصر على إدناء الجبهة من الأرض؟ فيه قولان. وحكى إمام الحرمين والغزالي وجها أنه يتخير بين القيام والقعود، ويجري هذا الخلاف في المحبوس في موضع نجس بحيث لو سجد لسجد على النجاسة، هل يتم السجود أم يقتصر على الإيماء؟ أم يتخير؟ ويجزي فيمن وجد ثوبا طاهرا لو فرشه بقي عريانا، وإن لبسه صلى على النجاسة، ويجري في العاري إذا لم يجد إلا ثوبا نجسا، والأصح في هاتين الصورتين أنه يصلي عاريا. فإذا قلنا في العريان: لا يتم الركوع والسجود لزمه الإعادة على المذهب، وفي قول ضعيف لا يعيد، وقد سبق نظيره فيمن صلى بغير ماء ولا تراب ونظائره. وإن قلنا: يتم الأركان، فإن كان من قوم عادتهم العري لم تجب الإعادة بلا خلاف، وإن كانوا لا يعتادونه فالمذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون وجماعة من الخراسانيين: أنه لا إعادة أيضا. وفيه وجه حكاه الخراسانيون أنها تجب وهو شاذ ضعيف.

 

ج / 2 ص -260-       وقد قال الشيخ أبو حامد في "تعليقه" في باب ستر العورة: لا يجب عليه الإعادة، ولا أعلم فيه خلافا - يعني بين المسلمين - فأشار إلى الإجماع عليه، ثم لا فرق في سقوط الإعادة بين الحضر والسفر؛ لأن الثوب يعز في الحضر ولا يبذل بخلاف الماء. وأما الثاني وهو ما يأتي معه ببدل ففيه صور، منها من يتيمم في الحضر لعدم الماء أو لشدة البرد في الحضر أو السفر، أو لنسيان الماء في رحله، ونحوه في السفر، أو تيمم مع الجبيرة الموضوعة على غير طهر، والصحيح عند الأصحاب: أنه تجب الإعادة على جميعهم، وتقدمت تفاصيل الخلاف فيهم، ومنها المتيمم مع الجبيرة الموضوعة على طهر، فلا إعادة عليه في أصح القولين، ومن الأصحاب من جعل مسألة الجبيرة من العذر العام، وهو حسن والله أعلم.
ونقل إمام الحرمين والغزالي أن أبا حنيفة رحمه الله قال: كل صلاة تفتقر إلى القضاء لا يجب فعلها في الوقت، وأن المزني رحمه الله قال: كل صلاة وجبت في الوقت وإن كانت مع خلل لم يجب قضاؤها، قالا: وهما قولان منقولان عن الشافعي رحمه الله. وهذا الذي قاله المزني هو المختار؛ لأنه أدى وظيفة الوقت، وإنما يجب القضاء بأمر جديد، ولم يثبت فيه شيء، بل ثبت خلافه والله أعلم.
قال إمام الحرمين وغيره: ثم ما حكمنا من الأعذار بأنه دائم وأسقطنا الفرض به، فلو اتفق زواله بسرعة فهو كالدائم المتمادي نظرا إلى جنسه، وما حكمنا بأنه لا يدوم فاتفق دوامه لم يلحق بالدائم، بل حكمه حكم ما ينقطع على قرب إلحاقا لما يشذ من الجنس بالجنس، ثم كل صلاة أوجبناها في الحال مع خلل وأوجبنا قضاءها فقضاها، ففي الفرض من صلاتيه أربعة أقوال مشهورة في الطريقتين، وقد سبق بيانها، أصحها عند الجمهور: أن الفرض الثانية. والثاني الأولى، والثالث إحداهما لا بعينها، والرابع كلاهما فرض، واختاره القفال والفوراني وصاحب "الشامل" وهو قوي، فإنه مكلف بهما.
قال إمام الحرمين: وإذا أوجبنا الصلاة في الوقت وأوجبنا القضاء فالمذهب: أن ما يأتي به في الوقت صلاة، ولكن يجب قضاؤها للنقص، قال: ومن أصحابنا من قال: ليست صلاة بل تشبه الصلاة كالإمساك في رمضان لمن أفطر عمدا، قال: وهذا بعيد. قال فإن قيل: هلا قلتم: الصلاة المفعولة في الوقت مع الخلل فاسدة كالحجة الفاسدة التي يجب المضي فيها؟ قلنا: إيجاب الإقدام على الفاسد محال، وأما التشبه فلا يبعد إيجابه، والله أعلم بالصواب، وله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.