المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 2 ص -261-       كتاب الحيض
قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}1 [البقرة:222]. قال أهل اللغة: يقال حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا فهي حائض بحذف الهاء؛ لأنه صفة للمؤنث خاصة فلا يحتاج إلى علامة تأنيث، بخلاف قائمة ومسلمة، هذه اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى الجوهري عن الفراء: أنه يقال أيضا: حائضة، وأنشد:

كحائضة يزني بها غير طاهر 2

قال الهروي: يقال حاضت وتحيضت ودرست بفتح الدال والراء والسين المهملة وعركت بفتح العين وكسر الراء وطمثت بفتح الطاء وكسر الميم، وزاد غيره ونفست وأعصرت وأكبرت وضحكت، كله بمعنى حاضت. قال صاحب "الحاوي": للحيض ستة أسماء وردت اللغة بها أشهرها الحيض، والثاني الطمث والمرأة طامث. قال الفراء: الطمث الدم ولذلك قيل: إذا افتض البكر طمثها أي أدماها قال الله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74]. الثالث العراك والمرأة عارك والنساء عوارك. الرابع الضحك والمرأة ضاحك. قال الشاعر:

وضحك الأرانب فوق الصفا                        كمثل دم الجوف يوم اللقا

والخامس: الإكبار، والمرأة مكبر، قال الشاعر:

يأتي النساء على أطهارهن ولا                           يأتي النساء إذ أكبرن إكبارا

والسادس: الإعصار، والمرأة معصر، قال الشاعر:

جارية قد أعصرت                                  أو قد دنا إعصارها

قال أهل اللغة: وأصل الحيض السيلان، يقال: حاض الوادي أي سال يسمى حيضا لسيلانه في أوقاته، قال الأزهري: والحيض دم يرخيه رحم المرأة، بعد بلوغها في أوقات معتادة والاستحاضة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في متن المهذب المطبوع جعله بابا والطبعتان من ش وق جعلتاه كتابا وكذلك فعلنا وهو وإن كان يتدرج في كتاب الطهارة فيكون بابا منه ولكن اتساعه واستقلاله يتوجه معهما جعله كتابا.
2  هذه الشطرة لبيت أوله:
رأيت جيون العام والعام قبله

 

ج / 2 ص -262-       سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة، ودم الحيض يخرج من قعر الرحم ويكون أسود محتدما، أي حارا، كأنه محترق قال: والاستحاضة دم يسيل من العاذل، وهو عرق فمه الذي يسيل في أدنى الرحم، دون قعره، قال: وذكر ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما هذا كلام الأزهري والعاذل: بالعين المهملة، وكسر الذال المعجمة.
قال الهروي في "الغريبين" 1  وغيره من أهل اللغة: الحيض دم يخرج في أوقاته بعد بلوغها، والاستحاضة دم يخرج في غير أوقاته، قال صاحب "الحاوي": أما المحيض في قول الله تعالى:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: من الآية222] فهو دم الحيض بإجماع العلماء. وأما المحيض في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: من الآية222] فقيل: إنه دم الحيض وقيل: زمانه وقيل: مكانه وهو الفرج، قال: وهذا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور المفسرين.
وقال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب المحاملي وآخرون: مذهبنا أن المحيض هو الدم وهو الحيض وقال قوم: هو الفرج وهو اسم للموضع كالمبيت، والمقيل موضع البيتوتة والقيلولة، وقال قوم: زمان الحيض قال: وهما قولان ضعيفان.
قال صاحب "الحاوي": وسمي الحيض أذى لقبح لونه ورائحته ونجاسته وأضراره. قال الجاحظ في كتاب الحيوان والذي يحيض من الحيوان أربع: المرأة والأرنب والضبع والخفاش وحيض الأرنب والضبع مشهور في أشعار العرب. 
فرع: ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحيض:
"هذا شيء كتبه الله على بنات آدم". قال البخاري في صحيحه قال بعضهم: أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل قال البخاري: وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر، يعني أنه عام في جميع بنات آدم.
فرع: يجوز أن يقال: حاضت المرأة وطمثت ونفست بفتح النون وكسر الفاء وعركت، ولا كراهة في شيء من ذلك، وروينا في حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه كره أن يقال: طمثت، دليلنا أن هذا شائع في اللغة والاستعمال، فلا تثبت كراهته إلا بدليل صحيح. وأما ما رويناه في سنن البيهقي عن زيد بن باينوس 2  قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: "ما تقولين في العراك"؟ قالت: الحيض تعنون؟ قلنا: نعم قالت: سموه كما سماه الله تعالى" فمعناه والله أعلم أنهم قالوا: العراك ولم يقولوا الحيض تأدبا واستحياء من مخاطبتها باسمه الصريح الشائع، وهو مما يستحيي النساء منه ومن ذكره، فقالت: لا تتكلفوا معي هذا وخاطبوني باسمه الذي سماه الله تعالى، والله أعلم.
فرع: اعلم أن باب الحيض من عويص الأبواب، ومما غلط فيه كثيرون من الكبار لدقة مسائله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هو كتاب في غريب القرآن وغريب الحديث (ط).
2  زيد هذا مجهول وليس في طريقه عن عائشة أصل (ط).

 

ج / 2 ص -263-       واعتنى به المحققون وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة. وأفرد أبو الفرج الدارمي من أئمة العراقيين مسألة المتحيرة في مجلد ضخم ليس فيه إلا مسألة المتحيرة وما يتعلق بها، وأتى فيه بنفائس لم يسبق إليها، وحقق أشياء مهمة من أحكامها، وقد اختصرت أنا مقاصده في كراريس، وسأذكر في هذا "الشرح" ما يليق به منها إن شاء الله تعالى وجمع إمام الحرمين في "النهاية" في باب الحيض نحو نصف مجلد، وقال بعد مسائل الصفرة والكدرة: لا ينبغي للناظر في أحكام الاستحاضة أن يضجر من تكرير الصور وإعادتها في الأبواب. وبسط أصحابنا رحمهم الله مسائل الحيض أبلغ بسط، وأوضحوه أكمل إيضاح، واعتنوا بتفاريعه أشد اعتناء، وبالغوا في تقريب مسائله بتكثير الأمثلة وتكرير الأحكام، وكنت جمعت في الحيض في شرح المهذب مجلدا كبيرا مشتملا على نفائس، ثم رأيت الآن اختصاره والإتيان بمقاصده، ومقصودي بما نبهت عليه: ألا يضجر مطالعه بإطالته فإني أحرص إن شاء الله تعالى على ألا أطيله إلا بمهمات، وقواعد مطلوبات، وما ينشرح به قلب من له طاب 1 مليح، وقصد صحيح، ولا التفات إلى كراهة ذوي المهانة والبطالة، فإن مسائل الحيض يكثر الاحتياج إليها لعموم وقوعها.
وقد رأيت ما لا يحصى من المرات من يسأل من الرجال والنساء عن مسائل دقيقة وقعت فيه، لا يهتدي إلى الجواب الصحيح فيها إلا أفراد من الحذاق المعتنين بباب الحيض، ومعلوم أن الحيض من الأمور العامة المتكررة، ويترتب عليه ما لا يحصى من الأحكام كالطهارة والصلاة والقراءة والصوم والاعتكاف والحج والبلوغ والوطء والطلاق والخلع والإيلاء وكفارة القتل وغيرها والعدة والاستبراء وغير ذلك من الأحكام، فيجب الاعتناء بما هذه حاله.
قد قال الدارمي في كتاب المتحيرة: "الحيض كتاب ضائع لم يصنف فيه تصنيف يقوم بحقه ويشفي القلب" وأنا أرجو من فضل الله تعالى أن ما أجمعه في هذا "الشرح" يقوم بحقه أكمل قيام، وأنه لا تقع مسألة إلا وتوجد فيه نصا أو استنباطا، لكن قد يخفى موضعها على من لا تكمل مطالعته وبالله التوفيق.
فرع: قال صاحب "الحاوي": النساء أربعة أضرب طاهر، وحائض، ومستحاضة، وذات دم فاسد. فالطاهر: ذات النقاء، والحائض: من ترى دم الحيض في زمنه بشرطه، والمستحاضة: من ترى الدم على أثر الحيض على صفة لا يكون حيضا، وذات الفساد: من يبتديها دم لا يكون حيضا. هذا كلام صاحب "الحاوي" وقال أيضا قبله: قال الشافعي: لو رأت الدم قبل استكمال تسع سنين، فهو دم فاسد، ولا يقال له: استحاضة؛ لأن الاستحاضة لا تكون إلا على أثر حيض، ثم قال في فصل المميزة لو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الطاب الطيب قال كثير بن كثير النوفلي يمدح عمر بن عبد العزيز:
يا عمر ابن عمر الخطاب
مقابل الأعراق في الطاب الطاب
بن أبي العاص وآل الخطاب
إن وقوفا بقباء الأبواب
يدفعني الحاجب بعد البواب
يعدل عند الجر قلع الأبواب

 

ج / 2 ص -264-       رأت خمسة عشر يوما دما أسود ثم رأت أحمر، فالأسود حيض وفي الأحمر وجهان قال أبو إسحاق: هو استحاضة. وقال ابن سريج: هو دم فساد لا استحاضة؛ لأن الاستحاضة ما دخل على أثر الحيض في زمانه ثم جاوز خمسة عشر. ، فهذا كلام صاحب "الحاوي"، وحاصله: أن الاستحاضة لا تطلق إلا على دم متصل بالحيض، وليس بحيض، وأما ما لا يتصل بحيض فدم فساد، ولا يسمى استحاضة. وقد وافقه عليه جماعة. وقال الأكثرون: يسمى الجميع استحاضة، قالوا: والاستحاضة نوعان. نوع: يتصل بدم الحيض وقد سبق بيانه، ونوع: لا يتصل به كصغيرة لم تبلغ تسع سنين رأت الدم وكبيرة رأته وانقطع لدون يوم وليلة، فحكمه حكم الحدث، هكذا صرح بهذين النوعين أبو عبد الله الزبيري والقاضي حسين والمتولي والبغوي والسرخسي في "الأمالي" وصاحب "العدة" وآخرون، وهو الأصح الموافق لما سبق عن الأزهري وغيره من أهل اللغة: أن الاستحاضة دم يجري في غير أوانه، وقد استعمل المصنف هذا في المهذب فقال في فصل النفاس: وإن رأت قبل الولادة خمسة أيام - إلى قوله - من أصحابنا من قال: هو استحاضة، واستعمله في "التنبيه" في قوله: وفي الدم الذي تراه الحامل قولان، أصحهما: أنه حيض، والثاني: استحاضة، واستعمله أيضا الجرجاني وآخرون والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "إذا حاضت المرأة حرم عليها الطهارة؛ لأن الحيض يوجب الطهارة، وما أوجب الطهارة منع صحتها كخروج البول".
الشرح: هذه المسألة عدها جماعات من "مشكلات المهذب"؛ لكونه صرح بتحريم الطهارة، والطهارة إفاضة الماء على الأعضاء، وليس إفاضة الماء محرمة عليها مع أنها يستحب لها أنواع كثيرة من الطهارة كغسل الإحرام وغيره، وقد وافق الشاشي المصنف في العبارة فقال في "المعتمد": يحرم عليها الطهارة. والذي قاله جمهور الأصحاب: لا تصح طهارتها، وذكر صاحب "البيان" في كتابه مشكلات المهذب: أن لكلام المصنف تأويلين، أحدهما: قال: وهو الأظهر: إن معنى حرم عليها الطهارة أي لم تصح طهارتها وتعليله يقتضيه، والثاني: مراده إذا قصدت الطهارة تعبدا مع علمها بأنها لا تصح فتأثم بهذا؛ لأنها متلاعبة بالعبادة، فأما إمرار الماء عليها بغير قصد العبادة فلا تأثم به بلا خلاف. وهذا كما أن الحائض إذا أمسكت عن الطعام بقصد الصوم أثمت، وإن أمسكت بلا قصد لم تأثم. وهذا التأويل الثاني هو الصحيح، كما يحرم على المحدث فعل الصلاة وإن كانت لا تصح منه. قال إمام الحرمين وجماعة من الخراسانيين: لا يصح غسل الحائض إلا على قول بعيد: أن الحائض تقرأ القرآن، فعلى هذا لو أجنبت ثم حاضت لم يجز لها القراءة، فلو اغتسلت صح غسلها وقرأت، وقد سبق بيان هذا في باب ما يوجب الغسل.
فرع: هذا الذي ذكرناه من أنه لا تصح طهارة حائض، هو في طهارة لرفع حدث سواء كانت وضوءا أو غسلا، وأما الطهارة المسنونة للنظافة كالغسل للإحرام والوقوف ورمي الجمرة فمسنونة للحائض بلا خلاف. صرح بذلك أصحابنا وصرح به المصنف أيضا في أول باب الإحرام، ويدل عليه

 

ج / 2 ص -265-       قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي" رواه البخاري ومسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويحرم عليها الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" ويسقط فرضها لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقضي الصلاة ولا نؤمر بالقضاء"؛ ولأن الحيض يكثر فلو أوجبنا قضاء ما يفوتها لشق وضاق".
الشرح: الحديثان المذكوران رواهما البخاري ومسلم من رواية عائشة، رضي الله عنها فالأول روياه بلفظه وسبق بيانه وشرح الحيضة في باب ما يوجب الغسل، وأما الثاني فروياه بمعناه، ورواه أبو داود وغيره بلفظه هنا.
وأما حكم المسألة: فأجمعت الأمة: على أنه يحرم عليها الصلاة فرضها ونفلها وأجمعوا على أنه يسقط عنها فرض الصلاة فلا تقضي إذا طهرت. قال أبو جعفر بن جرير في كتابه "اختلاف الفقهاء": أجمعوا على أن عليها اجتناب كل الصلوات فرضها ونفلها، واجتناب جميع الصيام فرضه ونفله، واجتناب الطواف فرضه ونفله، وأنها إن صلت أو صامت أو طافت لم يجزها ذلك عن فرض كان عليها، ونقل الترمذي وابن المنذر وابن جرير وآخرون الإجماع أنها لا تقضي الصلاة وتقضي الصوم.
وفرق أصحابنا وغيرهم بين قضاء الصوم والصلاة بما ذكره المصنف: أن الصلاة تكثر فيشق قضاؤها بخلاف الصوم، وبهذا الفرق فرقوا في حق المغمى عليه، فإنه يلزمه قضاء الصوم ولا يلزمه قضاء الصلاة. وأطبق الأصحاب على هذا الفرق في الحائض وقال إمام الحرمين: المتبع في الفرق الشرع وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" وأراد إمام الحرمين أنه لا يمكن فرق من جهة المعنى، وقد نقل البخاري في صحيحه في كتاب الصوم عن أبي الزناد نحو قول إمام الحرمين فقال: قال أبو الزناد: "إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي؛ فما يجد المسلمون بدا من اتباعها، من ذلك الحائض تقضي الصوم دون الصلاة" وهذا الذي قالاه اعتراف بالعجز عن الفرق، والذي ذكره أصحابنا فرق حسن فليعتمد. واستدل الشافعي رضي الله عنه على سقوط فرض الصلاة بدليل آخر، فقال: وجدت كل مكلف مأمورا بفعل الصلاة على حسب حاله في المرض والمسايفة 1 وغير ذلك، والحائض مكلفة وهي غير مأمورة بها على حسب حالها، فعلمت أنها غير واجبة عليها.
فرع: قال أصحابنا: وفي معنى الصلاة سجود التلاوة والشكر فيحرمان على الحائض والنفساء كما تحرم صلاة الجنازة؛ ولأن الطهارة شرط.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  يعني صلاة الحرب وهي صلاة الخوف (ط). 

 

ج / 2 ص -266-       فرع: قال أبو العباس بن القاص في "التلخيص" والجرجاني في "المعاياة": كل صلاة تفوت في زمن الحيض لا تقضى إلا صلاة واحدة وهي ركعتا الطواف، فإنها لا تتكرر. وأنكر الشيخ أبو علي السنجي هذا وقال: هذا لا يسمى قضاء؛ لأن الوجوب لم يكن في زمن الحيض، ولو جاز أن يسمى هذا قضاء لجاز أن يسمى قضاء فائتة كانت قبل الحيض، وهذا الذي قاله أبو علي هو الصواب؛ لأن ركعتي الطواف لا يدخل وقتها إلا بالفراغ من الطواف فإن قدر أنها طافت، ثم حاضت عقيب الفراغ من الطواف صح ما قاله أبو العباس إن سلم لهما ثبوت ركعتي الطواف في هذه الصورة، والله أعلم.
فرع: مذهبنا ومذهب جمهور العلماء من السلف والخلف: أنه ليس على الحائض وضوء ولا تسبيح ولا ذكر في أوقات الصلوات ولا في غيرها، وممن قال بهذا الأوزاعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور حكاه عنهم ابن جرير، وعن الحسن البصري قال: تطهر وتسبح، وعن أبي جعفر قال لنا: "مر نساء الحيض أن يتوضأن في وقت الصلاة، ويجلسن ويذكرن الله عز وجل ويسبحن "وهذا الذي قالاه محمول على الاستحباب عندهما، فأما استحباب التسبيح فلا بأس به وإن كان لا أصل له على هذا الوجه المخصوص، وأما الوضوء فلا يصح عندنا وعند الجمهور، بل تأثم به إن قصدت العادة كما سبق، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويحرم الصوم لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" فدل على أنهن كن يفطرن. ولا يسقط فرضه لحديث عائشة؛ ولأن الصوم في السنة مرة؛ فلا يشق قضاؤه".
الشرح: حديث عائشة رضي الله عنها رواه مسلم وغيره، وفي رواية أبي داود والترمذي والنسائي:
"كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمرنا بقضاء الصوم ولا يأمرنا بقضاء الصلاة" فإن قيل: ليس في الحديث دليل على تحريم الصوم، وإنما فيه جواز الفطر، وقد يكون الصوم جائزا لا واجبا كالمسافر، قلنا: قد ثبت شدة اجتهاد الصحابيات رضي الله عنهن في العبادات. وحرصهن على الممكن منها، فلو جاز الصوم لفعله بعضهن، كما في القصر وغيره، ويدل أيضا على تحريم الصوم قوله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن" ثم قال: "وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين" رواه البخاري ومسلم من رواية أبي سعيد الخدري، وفي رواية للبخاري: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟".
أما حكم المسألة: فأجمعت الأمة على تحريم الصوم على الحائض والنفساء، وعلى أنه لا يصح صومها، كما قدمنا نقله عن ابن جرير، وكذا نقل الإجماع غيره، قال إمام الحرمين: وكون الصوم لا يصح منها لا يدرك معناه، فإن الطهارة ليست مشروطة فيها، وأجمعت الأمة أيضا على وجوب قضاء صوم رمضان عليها، نقل الإجماع فيه الترمذي وابن المنذر وابن جرير وأصحابنا وغيرهم. والمذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور أن القضاء يجب بأمر جديد وليست مخاطبة بالصوم في حال حيضها؛ لأنه يحرم عليها الصوم، فكيف تؤمر به؟ وهي ممنوعة منه بسبب هي معذورة فيه، ولا قدرة لها على

 

ج / 2 ص -267-       إزالته؟ وحكى القاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي في "البسيط" والمتولي والروياني وغيرهم وجها: أنه يجب عليها الصوم في حال الحيض وتعذر في تأخيره؛ لأنه لو لم يجب في الحال لم يجب القضاء كالصلاة.
قال إمام الحرمين: المحققون يأبون هذا الوجه؛ لأن الوجوب شرطه اقتران الإمكان به، قال: ومن يطلب حقيقة الفقه لا يقيم لمثل هذا الخلاف وزنا، قلت: وهذا الوجه يتخرج على قاعدة مذهبنا في الأصول، والكلام أن تكليف ما لا يطاق جائز، قال الغزالي في "البسيط": ليس لهذا الخلاف فائدة فقهية قلت: تظهر فائدة هذا وشبهه في الأيمان وتعليق الطلاق والعتق ونحو ذلك بأن يقول: متى وجب عليك صوم فأنت طالق والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:  "ويحرم عليها الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:
"اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"؛ ولأنه يفتقر إلى الطهارة ولا تصح منها الطهارة".
الشرح: حديث عائشة رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة، وقد أجمع العلماء على تحريم الطواف على الحائض والنفساء، وأجمعوا: أنه لا يصح منها طواف مفروض ولا تطوع، وأجمعوا أن الحائض والنفساء لا تمنع من شيء من مناسك الحج إلا الطواف وركعتيه. نقل الإجماع في هذا كله ابن جرير وغيره، والله أعلم.              قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويحرم عليها قراءة القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن".
الشرح: هذا الحديث رواه الترمذي والبيهقي من رواية ابن عمر، رضي الله عنهما وضعفه الترمذي والبيهقي، وروي لا يقرأ بكسر الهمزة على النهي وبضمها على الخبر الذي يراد به النهي، وقد سبق بيانه في آخر باب ما يوجب الغسل، وهذا الذي ذكره من تحريم قراءة القرآن على الحائض هو الصحيح المشهور، وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين وحكى الخراسانيون قولا قديما للشافعي: أنه يجوز لها قراءة القرآن. وأصل هذا القول: أن أبا ثور رحمه الله قال: قال أبو عبد الله: يجوز للحائض قراءة القرآن. فاختلفوا في أبي عبد الله، فقال بعض الأصحاب: أراد به مالكا، وليس للشافعي قول بالجواز، واختاره إمام الحرمين والغزالي في "البسيط". وقال جمهور الخراسانيين: أراد به الشافعي وجعلوه قولا قديما. قال الشيخ أبو محمد: وجدت أبا ثور جمعهما في موضع فقال: قال أبو عبد الله ومالك.
واحتج من أثبت قولا بالجواز اختلفوا في علته على وجهين أحدهما: أنها تخاف النسيان لطول الزمان بخلاف الجنب. والثاني: أنها قد تكون معلمة فيؤدي إلى انقطاع حرفتها؛ فإن قلنا بالأول جاز لها قراءة ما شاءت إذ ليس لما يخاف نسيانه ضابط، فعلى هذا هي كالطاهر في القراءة. وإن قلنا: بالثاني لم يحل إلا ما يتعلق بحاجة التعليم في زمان الحيض، هكذا ذكر الوجهين وتفريعهما إمام

 

ج / 2 ص -268-       الحرمين وآخرون. هذا حكم قراءتها باللسان؛ فأما إجراء القراءة على القلب من غير تحريك اللسان، والنظر في المصحف وإمرار ما فيه في القلب فجائز بلا خلاف، وأجمع العلماء على جواز التسبيح والتهليل وسائر الأذكار غير القرآن للحائض والنفساء، وقد تقدم إيضاح هذا مع جمل من الفروع المتعلقة به في باب ما يوجب الغسل، والله أعلم. 
فرع: في مذاهب العلماء في قراءة الحائض القرآن.
قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور: تحريمها وهو مروي عن عمر وعلي وجابر رضي الله عنهم، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء وأبو العالية والنخعي وسعيد بن جبير والزهري وإسحق وأبو ثور. وعن مالك وأبي حنيفة وأحمد روايتان إحداهما: التحريم والثانية: الجواز، وبه قال داود. واحتج لمن جوز بما روي عن عائشة رضي الله عنه "أنها كانت تقرأ القرآن وهي حائض"؛ ولأن زمنه يطول فيخاف نسيانها. واحتج أصحابنا والجمهور بحديث ابن عمر المذكور، ولكنه ضعيف وبالقياس على الجنب، فإن من خالف فيها وافق على الجنب إلا داود. والمختار عند الأصوليين أن داود لا يعتد به في الإجماع والخلاف، وفعل عائشة رضي الله عنها لا حجة فيه على تقدير صحته؛ لأن غيرها من الصحابة خالفها، وإذا اختلفت الصحابة رضي الله عنهم رجعنا إلى القياس. وأما خوف النسيان فنادر، فإن مدة الحيض غالبا ستة أيام أو سبعة، ولا ينسى غالبا في هذا القدر؛ ولأن خوف النسيان ينتفي بإمرار القرآن على القلب، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويحرم حمل المصحف ومسه لقوله تعالى:
{لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ويحرم اللبث في المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض" فأما العبور فيه، فإنها إذا استوثقت من نفسها [بالشد واللجم 1] جاز؛ لأنه حدث يمنع اللبث فلا يمنع كالجنابة".
الشرح: يحرم على الحائض والنفساء مس المصحف وحمله واللبث في المسجد وكل هذا متفق عليه عندنا، وتقدمت أدلته وفروعه الكثيرة مبسوطة في باب ما يوجب الغسل. والحديث المذكور رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما من رواية عائشة، رضي الله عنها وإسناده غير قوي، وسبق بيانه هناك.
وأما عبورها بغير لبث فقال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: أكره ممر الحائض في المسجد، قال أصحابنا: إن خافت تلويثه؛ لعدم الاستيثاق بالشد أو لغلبة الدم حرم العبور بلا خلاف. وإن أمنت ذلك فوجهان الصحيح منهما: جوازه وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي، وبه قطع المصنف والبندنيجي وكثيرون. وصححه جمهور الباقين كالجنب وكمن على بدنه نجاسة لا يخاف تلويثه، وانفرد إمام الحرمين فصحح تحريم العبور، وإن أمنت لغلظ حدثها بخلاف الجنب، والمذهب الأول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين من الركبي والمتوكلية (ط).

 

ج / 2 ص -269-       هذا حكم عبورها قبل انقطاع الحيض، فإذا انقطع ولم تغتسل فالمذهب القطع بجواز عبورها في المسجد، وطرد صاحب "الحاوي" وإمام الحرمين فيه الوجهين. والحائض الذمية كالمسلمة فتمنع من المكث في المسجد بلا خلاف، بخلاف الكافر الجنب، فإن في تمكينه من المكث فيه وجهين مشهورين. قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه "الفروق" في مسائل شروط الصلاة: والفرق أن المنع لخوف التلويث، والكافرة كالمسلمة في هذا. قال أصحابنا: والمستحاضة وسلس البول ومن به جرح سائل ونحوهم إن خافوا التلويث حرم العبور، وقد سبق هذا في آخر باب ما يوجب الغسل والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:  "ويحرم الوطء في الفرج وقوله تعالى:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: من الآية222] فإن وطئها مع العلم بالتحريم ففيه قولان. قال في القديم: إن كان في أول الدم لزمه أن يتصدق بدينار، وإن كان في آخره لزمه أن يتصدق بنصف دينار، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: "يتصدق بدينار أو بنصف دينار" وقال في الجديد: لا يجب عليه الكفارة؛ لأنه وطء محرم للأذى، فلم تتعلق به الكفارة كالوطء في الدبر". 
الشرح: أجمع المسلمون على تحريم وطء الحائض للآية الكريمة والأحاديث الصحيحة. قال المحاملي في المجموع: قال الشافعي رحمه الله: من فعل ذلك فقد أتى كبيرة. قال أصحابنا وغيرهم: من استحل وطء الحائض حكم بكفره. قالوا: ومن فعله جاهلا وجود الحيض أو تحريمه، أو ناسيا أو مكرها، فلا إثم عليه ولا كفارة، لحديث ابن عباس: رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" حديث حسن، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما. وحكى الرافعي عن بعض الأصحاب أنه يجيء على القديم قول: أنه يجب على الناسي كفارة كالعامد. وهذا ليس بشيء. ، وأما إذا وطئها عالما بالحيض وتحريمه مختارا ففيه قولان، الصحيح الجديد: لا يلزمه كفارة، بل يعزر ويستغفر الله تعالى ويتوب، ويستحب أن يكفر الكفارة التي يوجبها القديم، والثاني: وهو القديم يلزمه الكفارة. وذكر المصنف دليلهما، والكفارة الواجبة في القديم دينار إن كان الجماع في إقبال الدم، ونصف دينار إن كان في إدباره، والمراد بإقبال الدم زمن قوته واشتداده، وبإدباره ضعفه وقربه من الانقطاع، هذا هو المشهور الذي قطع به الجمهور.
وحكى الفوراني وإمام الحرمين وجها عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني: أن إقباله ما لم ينقطع وإدباره ما بعد انقطاعه وقبل اغتسالها، وبهذا قطع القاضي أبو الطيب في "تعليقه" فعلى قول الجمهور: لو وطئ بعد الانقطاع وقبل الاغتسال لزمه نصف دينار، قاله البغوي وغيره، واستدلوا لهذا القول القديم بحديث ابن عباس المذكور، وحملوا قوله بدينار أو بنصف دينار على التقسيم، وأن الدينار في الإقبال والنصف في الإدبار. وحكى المتولي والرافعي: قولا قديما شاذا أن الكفارة الواجبة عتق رقبة بكل حال؛ لأنه روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا شاذ مردود. وقال

 

ج / 2 ص -270-       صاحب "الحاوي": قال الشافعي في القديم: إن صح حديث ابن عباس قلت به. قال: فكان أبو حامد الإسفراييني وجمهور البغداديين يجعلونه قولا قديما، وكان أبو حامد المروزي وجمهور البصريين لا يجعلونه قولا قديما ولا يحكونه مذهبا للشافعي؛ لأنه علق الحكم على صحة الحديث ولم يصح، وكان ابن سريج يقول: لو صح الحديث لكان محمولا في القديم على الاستحباب لا على الإيجاب. هذا كلام صاحب "الحاوي".
وقال إمام الحرمين: من أصحابنا من أوجب الكفارة، وهو بعيد غير معدود من المذهب بل هي مستحبة. قلت: واتفق المحدثون على ضعف حديث ابن عباس هذا واضطرابه، وروي موقوفا، وروي مرسلا وألوانا كثيرة. وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ولا يجعله ذلك صحيحا، وذكره الحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين، وقال: هو حديث صحيح، وهذا الذي قاله الحاكم خلاف قول أئمة الحديث، والحاكم معروف عندهم بالتساهل في التصحيح. وقد قال الشافعي في أحكام القرآن: هذا حديث لا يثبت مثله، وقد جمع البيهقي طرقه وبين ضعفها بيانا شافيا، وهو إمام حافظ متفق على إتقانه وتحقيقه، فالصواب: أنه لا يلزمه شيء، والله أعلم.
ومن أوجب دينارا أو نصفه فهو على الزوج خاصة، وهو مثقال الإسلام المعروف من الذهب الخالص ويصرف إلى الفقراء والمساكين. قال الرافعي: ويجوز صرفه إلى فقير واحد والله أعلم. وأما قول المصنف: فإن وطئها مع العلم بالتحريم، فكان ينبغي أن يضم إليه: والعلم بالحيض والاختيار. وقوله: لأنه وطء محرم للأذى احترازا من الوطء في الإحرام ونهار رمضان.
فرع: في مذاهب العلماء فيمن وطئ في الحيض عامدا عالما. قد ذكرنا أن المشهور في مذهبنا أنه لا كفارة عليه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وأحمد في رواية، وحكاه أبو سليمان الخطابي عن أكثر العلماء، وحكاه ابن المنذر عن عطاء وابن أبي مليكة والشعبي والنخعي ومكحول والزهري وأيوب السختياني وأبي الزناد وربيعة وحماد بن أبي سليمان وسفيان الثوري والليث بن سعد. . وقالت طائفة من العلماء: يجب الدينار ونصفه على التفصيل المتقدم، واختلاف منهم في اعتبار الحال حكاه ابن المنذر عن ابن عباس وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وعن سعيد بن جبير أن عليه عتق رقبة، وعن الحسن البصري عليه ما على المجامع في نهار رمضان، هذا هو المشهور عن الحسن، وحكى ابن جرير عنه قال: يعتق رقبة أو يهدي بدنة أو يطعم عشرين صاعا، ومعتمدهم حديث ابن عباس، وهو ضعيف باتفاق المحدثين فالصواب: أن لا كفارة عليه والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويحرم الاستمتاع فيما بين السرة والركبة، وقال أبو بكر إسحاق: لا يحرم غير الوطء في الفرج لقوله صلى الله عليه وسلم:
"اصنعوا كل شيء غير النكاح"؛ ولأنه وطء حرم للأذى، فاختص به الفرج كالوطء في الدبر، والمذهب الأول لما روى عمر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال: ما فوق الإزار".
الشرح: أما الحديث الأول فبعض حديث، روى أنس رضي الله عنه: "أن اليهود كانت إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيت، فسأل أصحاب

 

ج / 2 ص -271-       رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: من الآية222] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" رواه مسلم.
وأما حديث عمر رضي الله عنه فرواه ابن ماجه والبيهقي بمعناه، وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تتزر ثم يباشرها، قالت: وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه" وعن ميمونة رضي الله عنها نحوه رواه البخاري ومسلم، وفي رواية: "كان يباشر نساءه فوق الإزار" يعني في الحيض، والمراد بالمباشرة: هنا التقاء البشرتين على أي وجه كان.
أما حكم المسألة: ففي مباشرة الحائض بين السرة والركبة ثلاثة أوجه. أصحها عند جمهور الأصحاب: أنها حرام، وهو المنصوص للشافعي رحمه الله في "الأم" و"البويطي" وأحكام القرآن، قال صاحب "الحاوي": وهو قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة، وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات. واحتجوا له بقوله تعالى: { )
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: من الآية222] وبالحديث المذكور؛ ولأن ذلك تحريم للفرج، ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى وأجاب القائلون بهذا عن حديث أنس المذكور: بأنه محمول على القبلة ولمس الوجه واليد ونحو ذلك مما هو معتاد في غالب الناس، فإن غالبهم إذا لم يستمتعوا بالجماع استمتعوا بما ذكرناه لا بما تحت الإزار.
والوجه الثاني: أنه ليس بحرام، وهو قول أبي إسحاق المروزي حكاه صاحب "الحاوي" عن أبي علي بن خيران، ورأيته أنا مقطوعا به في كتاب اللطيف لأبي الحسن بن خيران من أصحابنا، وهو غير أبي علي بن خيران، واختاره صاحب "الحاوي" في كتابه "الإقناع" والروياني في الحلية، وهو الأقوى من حيث الدليل لحديث أنس رضي الله عنه فإنه صريح في الإباحة. وأما مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار فمحمولة على الاستحباب جمعا بين قوله صلى الله عليه وسلم وفعله، وتأول هؤلاء الإزار في حديث عمر على أن المراد به الفرج بعينه ونقلوه عن اللغة، وأنشدوا فيه شعرا، وليست مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار تفسيرا للإزار في حديث عمر رضي الله عنه بل هي محمولة على الاستحباب كما سبق.
والوجه الثالث: إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عن الفرج لضعف شهوة أو شدة ورع جاز، وإلا فلا، حكاه صاحب "الحاوي" ومتابعوه عن أبي الفياض البصري، وهو حسن، ونقل أبو علي السنجي والقاضي حسين والمتولي في المسألة قولين بدل الوجهين الأولين.
قال القاضي: الجديد التحريم والقديم الجواز ثم على قول من لا يحرمه هو مكروه، وصرح به المتولي وغيره. هذا حكم الاستمتاع بما بين السرة والركبة. أما ما سواه فمباشرتها فيه حلال بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي في "المجموع" وابن الصباغ والعبدري وآخرون، وأما ما حكاه صاحب "الحاوي" عن عبيدة السلماني الإمام التابعي -وهو بفتح العين وكسر الباء- من أنه لا يباشر شيء من بدنه شيئا من بدنها فلا أظنه يصح عنه، ولو صح فهو شاذ مردود بالأحاديث الصحيحة المشهورة في مباشرته صلى الله عليه وسلم فوق الإزار، وإذنه في ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
"اصنعوا

 

ج / 2 ص -272-       كل شيء إلا النكاح" وبإجماع من قبله ومن بعده والله أعلم.
ثم لا فرق بين أن يكون على الموضع الذي يستمتع به فوق الإزار شيء من دم الحيض أو لا، وحكى المحاملي في "التجريد" وجماعة من المتأخرين وجها: أنه إن كان عليه شيء من دم الحيض حرم؛ لأنه أذى، وهذا الوجه شاذ وغلط، والصواب الأول، وبه قطع الأصحاب في جميع الطرق لعموم الأحاديث؛ ولأن الأصل الإباحة حتى يثبت دليل ظاهر في التحريم وقياسا على ما لو كان عليها نجاسة أخرى. وأما الاستمتاع بنفس السرة والركبة وما حاذاهما فلم أر فيه نصا لأصحابنا، والمختار الجزم بجوازه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:
"اصنعوا كل شيء إلا النكاح" ويحتمل أن يخرج على الخلاف في كونهما عورة، إن قلنا عورة كانتا كما بينهما، وإن قلنا - بالمذهب: إنهما ليستا عورة أبيحا قطعا كما وراءهما والله أعلم.
فرع: في مذاهب العلماء في المباشرة فيما بين السرة والركبة بغير وطء، وقد ذكرنا الخلاف في مذهبنا ودلائله، وممن قال بتحريمها أبو حنيفة ومالك، وحكاه ابن المنذر عن سعيد بن المسيب وطاوس وشريح وعطاء وسليمان بن يسار وقتادة، وحكاه البغوي عن أكثر أهل العلم، وممن قال بالجواز عكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والحكم والثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن وأحمد وأصبغ المالكي وأبو ثور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر وداود، ونقله عنهم العبدري وغيره، وتقدم دليل الجميع والله أعلم.
فرع: إذا قلنا: تحرم المباشرة بين السرة والركبة ففعله متعمدا مختارا عالما بالتحريم أثم ولا كفارة عليه بلا خلاف، صرح به الماوردي وغيره وهو ظاهر، فإن إيجاب الكفارة على القديم إنما كان لذلك الحديث الضعيف وليس هنا حديث ولا هو في معناه، فإن الوطء حرام بالإجماع ويكفر مستحله وهذا بخلافه، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:  "وإذا طهرت من الحيض حل لها الصوم؛ لأن تحريمه بالحيض، وقد زال. ولا تحل الصلاة والطواف وقراءة القرآن وحمل المصحف؛ لأن المنع منها للحدث والحدث باق، ولا يحل الاستمتاع بها حتى تغتسل لقوله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: من الآية222]. قال مجاهد: حتى يغتسلن، فإن لم تجد الماء فتيممت حل لها ما يحل بالغسل؛ لأن التيمم قائم مقام الغسل فاستبيح به ما يستباح بالغسل، فإن تيممت وصلت فريضة لم يحرم وطؤها، ومن أصحابنا من قال: يحرم وطؤها بفعل الفريضة، كما يحرم فعل الفريضة بعدها، والأول أصح؛ لأن الوطء ليس بفرض فلم يحرم بفعل الفريضة كصلاة النفل".
الشرح: قال أصحابنا: يتعلق بالحيض أحكام:
أحدها: يمنع صحة الطهارة إلا أغسال الحج ونحوها مما لا يفتقر إلى الطهارة الثاني: تحرم الطهارة بنية العبادة إلا ما استثنينا من أغسال الحج ونحوها، الثالث: يمنع وجوب الصلاة الرابع: يحرمها الخامس: يمنع صحتها السادس: يمنع وجوب الصوم السابع: يحرمه الثامن: يمنع صحته

 

ج / 2 ص -273-       التاسع: يحرم مس المصحف وحمله وقراءة القرآن والمكث في المسجد، وكذا العبور على أحد الوجهين العاشر: يحرم سجود التلاوة والشكر ويمنع صحته الحادي عشر: يحرم الاعتكاف ويمنع صحته. الثالث عشر 1: يمنع وجوب طواف الوداع الرابع عشر : يحرم الوطء، وكذا المباشرة بين السرة والركبة على أحد الأوجه الخامس عشر: يحرم الطلاق السادس عشر: تبلغ به الصبية السابع عشر: تتعلق به "العدة" والاستبراء الثامن عشر: يوجب الغسل، وهل يجب بخروجه أم بانقطاعه أم بهما؟ فيه أوجه سبقت في باب ما يوجب الغسل. ومعظم هذه الأحكام مجمع عليه. قال أصحابنا: فإذا طهرت من الحيض ارتفع من هذه الأمور المحرمة تحريم الصوم والطلاق والظهار، وارتفع أيضا تحريم العبور في المسجد على الأصح، إذا قلنا بتحريمه في زمن الحيض، وقد سبق حكاية وجه عن حكاية صاحب "الحاوي" وإمام الحرمين أن العبور يبقى تحريمه حتى تغتسل وليس بشيء، ولا يرتفع ما حرم للحدث كالصلاة والطواف، والسجود والقراءة، والاعتكاف ومس المصحف والمكث في المسجد، ولا يرتفع أيضا تحريم الجماع والمباشرة بين السرة والركبة، فإن لم تجد الماء فتيممت استباحت جميع ذلك؛ لأن التيمم كالغسل. 
قال أصحابنا: : إذا تيممت ثم أحدثت لم يحرم وطؤها بلا خلاف، وممن نقل اتفاق الأصحاب على هذا القاضي أبو الطيب؛ لأنها استباحت الوطء بالتيمم، والحدث لا يحرم الوطء كما لو اغتسلت ثم أحدثت. قال القاضي: ولأنا لو قلنا: يحرم الوطء بعد الحدث لأدى إلى تحريمه ابتداء بعد التيمم؛ لأنه ينتقض الوضوء بالتقاء البشرتين قبل الوطء. وأما إذا تيممت ثم رأت الماء فيحرم الوطء على المذهب، وبه قطع الأصحاب في الطريقتين؛ لأن طهارتها بطلت برؤية الماء وعادت إلى حدث الحيض. وحكى الدارمي وجها شاذا أنه يحل الوطء بعد رؤية الماء، والصواب الأول.
قال القاضي أبو الطيب: فلو رأت الماء في خلال الجماع نزع في الحال واغتسلت، وأما إذا تيممت وصلت فريضة فهل يصح الوطء بعد الفريضة بذلك التيمم؟ أم لا يحل إلا بتيمم جديد؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف، وقد ذكر دليلهما، الصحيح: جوازه. ولو تيممت فوطئها ثم أراد الوطء ثانيا بذلك التيمم ففي جوازه وجهان حكاهما صاحب "الحاوي" وغيره، الصحيح: جوازه لارتفاع حدث الحيض بالتيمم، وبهذا قطع الجمهور، والثاني: لا يجوز إلا بتيمم جديد كما لا يجمع بين فريضتين بتيمم، وهذا ليس بشيء. ولو تيممت وصلت فريضة وقلنا: يجوز الوطء بعدها فلم يطأ حتى خرج وقت تلك الفريضة فهل يحل الوطء بذلك التيمم؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد المحاملي في كتابيه والفوراني وغيرهم في آخر باب التيمم، وحكاهما أيضا صاحب "الحاوي" وآخرون. الصحيح جوازه؛ لأن خروج الوقت لا يزيد على الحدث. والثاني: لا يجوز الوطء إلا بتيمم جديد قال صاحب "الحاوي": وبه قال ابن سريج واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأن دخول الوقت رفع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هكذا بالأصل ولعل فيه سقطا (ش) وهو الثاني عشر ولعله "يحرم به الظهار" لأنه لم يذكر فيما يتعلق بأحكامه والله أعلم (ط).

 

ج / 2 ص -274-       حكم التيمم، ولهذا تجب إعادته للصلاة الأخرى، وهذا الاستدلال ضعيف أو باطل؛ لأن التيمم لا يبطل بخروج الوقت، ولهذا له أن يصلي به ما شاء من النوافل على المذهب كما سبق، ولو عدمت الماء والتراب صلت الفريضة لحرمة الوقت كما سبق، ولا يجوز الوطء حتى تجد أحد الطهورين. هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور، وحكى الجرجاني في "المعاياة" وصاحب "البيان" والرافعي وجها شاذا أنه يجوز الوطء كالصلاة، وهذا ليس بشيء. 
قال أصحابنا: والمقيمة في هذا كالمسافرة، فإذا عدمت المقيمة الماء أو كانت مريضة أو جريحة فتيممت على الوطء، وإن كان صلاتها يجب قضاؤها؛ لأن طهارتها صحيحة والله أعلم
فرع: في مذاهب العلماء في وطء الحائض إذا طهرت قبل الغسل قد ذكرنا أن مذهبنا تحريمه حتى تغتسل أو تتيمم، حيث يصح التيمم وبه قال جمهور العلماء. كذا حكاه الماوردي عن الجمهور، وحكاه ابن المنذر عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار والزهري وربيعة ومالك والثوري والليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور، ثم قال ابن المنذر: وروينا بإسناد فيه مقال عن طاوس وعطاء ومجاهد أنهم قالوا: إن أدرك الزوج الشبق أمرها أن تتوضأ ثم أصابها إن شاء.
قال ابن المنذر: وأصح من هذا عن عطاء ومجاهد موافقة القول الأول، قال: ولا يثبت عن طاوس خلاف قول سالم، قال: فإذا بطل أن يصح عن هؤلاء قول ثان كان القول الأول كالإجماع. هذا كلام ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: إن انقطع دمها لأكثر الحيض - وهو عشرة أيام عنده - حل الوطء في الحال - وإن انقطع لأقله لم يحل حتى تغتسل أو تتيمم، فإن تيممت ولم تصل لم يحل الوطء حتى يمضي وقت صلاة. وقال داود الظاهري: إذا غسلت فرجها حل الوطء. وحكي عن مالك تحريم الوطء إذا تيممت عند فقد الماء. هكذا نقل أصحابنا وغيرهم هذا الخلاف مطلقا كما ذكرته، وقال ابن جرير: أجمعوا على تحريم الوطء حتى تغسل فرجها، وإنما الخلاف بعد غسله، واحتج لأبي حنيفة بأنه يجوز الصوم والطلاق وكذا الوطء؛ ولأن تحريم الوطء هو للحيض وقد زال وصارت كالجنب، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: من الآية222] وقد روي حتى يطهرن بالتخفيف والتشديد، والقراءتان في السبع، فقراءة التشديد صريحة في اشتراط الغسل، وقراءة التخفيف يستدل بها من وجهين أحدهما: معناها أيضا يغتسلن، وهذا شائع في اللغة فيصار إليه جمعا بين القراءتين والثاني: أن الإباحة معلقة بشرطين أحدهما: انقطاع دمهن. والثاني: تطهرهن وهو اغتسالهن، وما علق بشرطين لا يباح بأحدهما، كما قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: من الآية6] فإن قيل: ليستا شرطين بل شرط واحد، ومعناه حتى ينقطع دمهن، فإذا انقطع فأتوهن، كما يقال: لا تكلم زيدا حتى يدخل الدار، فإذا دخل فكلمه، فالجواب من أوجه أحدها: أن ابن عباس والمفسرين وأهل اللسان فسروه فقالوا: معناه فإذا اغتسلن. فوجب المصير إليه والثاني: أن ما قاله المعترض فاسد من جهة اللسان، فإنه لو كان كما قال لقيل: فإذا طهرن، فأعيد الكلام، كما يقال: لا تكلم زيدا حتى يدخل، فإذا دخل فكلمه، فلما أعيد بلفظ آخر دل على أنهما

 

ج / 2 ص -275-       شرطان، كما يقال: لا تكلم زيدا حتى يأكل، فإذا أكل فكلمه. الثالث: أن فيما قلنا جمعا بين القراءتين فتعين، واحتج أصحابنا بأقيسة كثيرة ومناسبات، أحسنها ما ذكره إمام الحرمين في "الاساليب"، فقال: أولى متمسك من طريق المعنى اعتبار صورة الاتفاق، فنقول: اتفقنا على التحريم إذا طهرت لدون العشرة فاستمرار التحريم بعد انقطاع الدم إن علل بوجوب غسل الحيض لزم التحريم إذا طهرت لأكثر الحيض، وإن علل بإمكان عود الدم فهو منتقض بما إذا اغتسلت أو تيممت أو خرج وقت الصلاة، ثم ذكر معاني أخر، ثم قال: فالوجه: اعتماد ما ناقضوا فيه، وكل ما ذكروه منتقض بما سلموه فإن قيل: تحريم الوطء بالحيض غير معلل، قلنا: وجوب الغسل بالانقطاع غير معلل، ولا يمكن أن يقال: عادت إلى ما كانت فإن الغسل واجب، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن؛ لانسداد طريق النظر، فظاهر القرآن تحريم الوطء حتى تغتسل، وأما الجواب عن جواز الصوم: أن الشرع ورد بتحريم الصوم على الحائض، وهذه ليست بحائض وهنا حرم الوطء حتى تغتسل. وعن الطلاق أن تحريمه لتطويل العدة، وذلك يزول بمجرد الانقطاع. وعن قولهم: التحريم للحيض من أوجه. أحدها: لا نسلم، بل هو لحدث الحيض، وهو باق الثاني: أنه ينتقض بالانقطاع لدى أكثر الحيض الثالث: أن الجنابة لا تمنع الوطء، وكذا غسلها بخلاف الحيض، والله أعلم
فرع: قال أبو العباس الجرجاني في "المعاياة": ليست امرأة تمنع من الصلاة بحكم الحيض إلا ويحرم وطؤها إلا واحدة، وهي من انقطع دمها وعدمت الماء فتيممت ثم أحدثت، فإنها تمنع من الصلاة دون الوطء هذا كلامه. وقد ينازع فيه ويقال: المنع من الصلاة هنا للحدث قال: وانقطاع الدم إذا أباح الصلاة أباح الوطء إلا في حق من عدمت الماء والتراب فتصلي، ولا يحل وطؤها على الصحيح.
فرع: لو أراد الزوج أو السيد الوطء فقالت: أنا حائض، فإن لم يمكن صدقها لم يلتفت إليها وجاز الوطء. وإن أمكن صدقها، ولم يتهمها بالكذب حرم الوطء، وإن أمكن الصدق، ولكن كذبها، فقال القاضي حسين في "تعليقه" وفتاويه وصاحب التتمة: يحل الوطء؛ لأنها ربما عاندته ومنعت حقه؛ ولأن الأصل عدم التحريم ولم يثبت سببه. وقال الشاشي: ينبغي أن يحرم وإن كانت فاسقة، كما لو علق طلاقها على حيضها فيقبل قولها، والمذهب الأول، وفرق القاضي بينه وبين تعليق الطلاق: بأن الزوج مقصر في "تعليقه" بما لا يعرف إلا من جهتها. قال القاضي وغيره: ولو اتفقا على الحيض وادعى انقطاعه وادعت بقاءه في مدة الإمكان فالقول قولها، بلا خلاف للأصل.
فرع: لو طهرت زوجته أو أمته المجنونة من الحيض حرمت عليه حتى يغسلها، فإذا صب الماء عليها ونوى غسلها عن الحيض حلت، وإن لم ينو فوجهان سبقا في باب نية الوضوء. ولو شك هل حاضت المجنونة أو العاقلة أم لا؟ لم يحرم؛ لأن الأصل عدم التحريم وعدم الحيض.
فرع: إذا ارتكبت المرأة من المحرمات المذكورة أثمت وتعزر وعليها التوبة، ولا كفارة عليها بالاتفاق. صرح به الماوردي وغيره؛ لأن الأصل البراءة.
فرع: يجوز عندنا وطء المستحاضة في الزمن المحكوم بأنه طهر، وإن كان الدم جاريا، وهذا لا

 

ج / 2 ص -276-       خلاف فيه عندنا، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والعبدري: وهو قول أكثر العلماء، ونقله ابن المنذر في "الإشراف" عن ابن عباس وابن المسيب والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وقتادة وحماد بن أبي سليمان وبكر بن عبد الله المزني والأوزاعي ومالك والثوري وإسحاق وأبي ثور. قال ابن المنذر: وبه أقول. وحكي عن عائشة والنخعي والحكم وابن سيرين منع ذلك، وذكر البيهقي وغيره: أن نقل المنع عن عائشة ليس بصحيح عنها، بل هو قول الشعبي أدرجه بعض الرواة في حديثها.
وقال أحمد: لا يجوز الوطء إلا أن يخاف زوجها العنت، واحتج للمانعين بأن دمها يجري فأشبهت الحائض، واحتج أصحابنا بما احتج به الشافعي في الأم، وهو قول الله تعالى:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: من الآية222] وهذه قد تطهرت من الحيض. واحتجوا أيضا: بما رواه عكرمة عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها "أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها". رواه أبو داود وغيره بهذا اللفظ بإسناد حسن، وفي صحيح البخاري قال: قال ابن عباس: "المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم"؛ ولأن المستحاضة كالطاهر في الصلاة والصوم والاعتكاف والقراءة وغيرها، فكذا في الوطء؛ ولأنه دم عرق، فلم يمنع الوطء كالناسور؛ ولأن التحريم بالشرع ولم يرد بتحريم، بل ورد بإباحة الصلاة التي هي أعظم كما قال ابن عباس. والجواب عن قياسهم على الحائض: أنه قياس يخالف ما سبق من دلالة الكتاب والسنة فلم يقبل؛ ولأن المستحاضة لها حكم الطاهرات في غير محل النزاع فوجب إلحاقه بنظائره لا بالحيض الذي لا يشاركه في شيء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، قال الشافعي رحمه الله: أعجل من سمعت من النساء تحيض، نساء تهامة يحضن لتسع سنين، فإذا رأت الدم لدون ذلك فهو دم فساد، ولا تتعلق به أحكام الحيض".
الشرح: تهامة -بكسر التاء- وهو: اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز، ومكة من تهامة، قال ابن فارس: سميت تهامة من التهم يعني بفتح التاء والهاء- وهو شدة الحر وركود الريح، وقال صاحب "المطالع": سميت بذلك لتغير هوائها، يقال: تهم الدهن إذا تغير.
أما حكم المسألة: ففي أقل سن يمكن فيه الحيض؟ ثلاثة أوجه الصحيح استكمال تسع سنين، وبه قطع العراقيون وغيرهم. والثاني: بالشروع في التاسعة. والثالث: بمضي نصف التاسعة، والمراد بالسنين القمرية. والمذهب الذي عليه التفريع استكمال تسع وهل هي تحديد أم تقريب؟ وجهان حكاهما صاحب "الحاوي" والدارمي في كتاب المتحيرة والمتولي والشاشي وغيرهم. أحدهما: تحديد، فلو نقص عن التسع ما نقص فليس بحيض وهذا مقتضى إطلاق كثيرين وأصحهما: تقريب صححه الروياني والرافعي وغيرهما، فعلى هذا قال صاحب "الحاوي": لا يؤثر نقص اليوم واليومين، قال الدارمي: لا يؤثر الشهر والشهران.

 

ج / 2 ص -277-       قال المتولي والرافعي: إن كان بين رؤية الدم واستكمال التسع ما لا يسع حيضا وطهرا كان ذلك الدم حيضا وإلا فلا. قال المتولي: وإذا قلنا: تحديد فرأته قبل التسع متصلا باستكمالها نظر إن رأت قبل التسع أقل من يوم وليلة وبعد التسع يوما وليلة جعل الجميع حيضا وإذا رأت قبل التسع يوما وليلة وبعدها دون يوم وليلة فليس لها حيض وإن كان الجميع يوما وليلة بعضه قبل التسع وبعضه بعدها فهل يجعل حيضا؟ فيه وجهان، قال الدارمي بعد أن ذكر الاختلافات: كل هذا عندي خطأ؛ لأن المرجع في جميع ذلك إلى الوجود، فأي قدر وجد في أي حال وسن كان، وجب جعله حيضا والله أعلم.
ثم إن الجمهور لم يفرقوا في هذا بين البلاد الحارة والباردة وفيه وجه حكاه إمام الحرمين عن حكاية والده أنه إذا وجد الدم لتسع سنين في البلاد الباردة التي لا يعهد في أمثالها مثل ذلك فليس بحيض والمذهب الأول. قال أصحابنا: قال الشافعي رحمه الله: رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة وقيل: إنه رآها بصنعاء اليمن قالوا: هذا رآه واقعا ويتصور جدة بنت تسع عشرة سنة ولحظة فتحمل لتسع وتضع لستة أشهر بنتا، وتحمل تلك البنت لتسع سنين، وتضع لستة أشهر، هذا ما يتعلق بأقل سن الحيض، وأما آخره فليس له حد بل هو ممكن حتى تموت كذا قاله صاحب "الحاوي" وغيره وهو ظاهر.
قال أصحابنا: فالمعتمد في هذا الوجود، وقد وجد من تحيض لتسع سنين، فوجب المصير إليه كما يرجع إلى العادة في أقل مدة الحمل وأكثرها. وفي القبض في المبيع وإحياء الموات والحرز في السرقة وغيرها، أما إذا رأت الدم لدون أقل سن الحيض المذكور فليس بحيض، بل هو حدث ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل ولا يمنع الصوم ولا يتعلق به شيء من أحكام الحيض ويسمى دم فساد. وهل يسمى استحاضة؟ فيه خلاف قدمناه في أول الباب. وإذا ادعت المرأة الحيض في سن الإمكان قبل قولها بغير يمين كما يقبل قول الغلام في إنزال المني لسن الإمكان والله أعلم.
فرع: قال أصحابنا: أقل سن يجوز أن تنزل المرأة فيه المني هو سن الحيض وفيه الأوجه الثلاثة السابقة، الصحيح استكمال تسع سنين، قال إمام الحرمين: وعلى الجملة هي أسرع بلوغا من الغلام، وأما الغلام فاختلفوا فيه وحاصل المنقول فيه ثلاثة أوجه، أصحها: عند العراقيين: استكمال تسع سنين، وبهذا قطع جماعة منهم هنا في باب الحيض كالشيخ أبي حامد والبندنيجي والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ. والثاني: مضي تسع سنين ونصف، وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله في كتاب اللعان. والثالث: استكمال عشر سنين، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في باب الحجر وما يلحق من النسب والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأقل الحيض يوم وليلة، وقال في موضع [آخر 1]: يوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين من نسخة المهذب المطبوعة.

 

ج / 2 ص -278-       فمن أصحابنا من قال: هما قولان، ومنهم من قال: [هو] يوم وليلة قولا واحدا، وقوله: يوم أراد بليلته، ومنهم من قال: يوم قولا واحدا، وإنما قال: يوم وليلة قبل أن يثبت عنده اليوم فلما ثبت عنده [اليوم] رجع إليه، والدليل على ذلك أن المرجع في ذلك إلى الوجود، وقد ثبت الوجود في هذا القدر. قال الشافعي رحمه الله: رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوما لا تزيد عليه. وقال الأوزاعي رحمه الله: عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية. وقال عطاء رحمه الله: رأيت من النساء من تحيض يوما وتحيض خمسة عشر يوما وقال أبو عبد الله الزبيري رحمه الله كان في نسائنا من تحيض يوما وتحيض خمسة عشر يوما وأكثره خمسة عشر يوما، لما رويناه عن عطاء وأبي عبد الله الزبيري وغالبه ست أو سبع لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: "وتحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء ويطهرن ميقات حيضهن وطهرهن". وأقل طهر فاصل بين الدمين خمسة عشر يوما لا أعرف فيه خلافا، فإن صح ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في النساء نقصان دينهن إن إحداهن تمكث شطر دهرها لا تصلي". دل ذلك على أن أقل الطهر خمسة عشر يوما، لكني لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه".
الشرح: في الفصل مسائل:
إحداها: في أقل الحيض، نص الشافعي رحمه الله في العدد أن أقله يوم، ونص في باب الحيض من "مختصر المزني" وفي عامة كتبه أقله يوم وليلة، واختلف الأصحاب فيه على ثلاث طرق ذكرها المصنف بدليلها. أحدها: يوم بلا ليلة، والثاني: قولان أحدهما: يوم بلا ليلة والثاني: يوم وليلة. والطريق الثالث: وهو أصحها باتفاق الأصحاب أن أقله يوم وليلة قولا واحدا وهذا الطريق قول المزني وأبي العباس بن سريج وجماهير أصحابنا المتقدمين وقطع به كثيرون من المتأخرين ونقله المحاملي وابن الصباغ عن الأكثرين.
قال الشيخ أبو حامد وآخرون: ولا يصح قول من قال: فيه قولان؛ لأن الاعتبار بالوجود، فإن صح الوجود في يوم تعين، قالوا: ولأنه إذا أمكن حمل كلاميه على حالين كان أولى من الحمل على قولين، كذا كل مجتهد، كما إذا أمكن حمل حديثي النبي صلى الله عليه وسلم على حالين، والجمع بينهما كان مقدما على النسخ والتعارض، وضعف الشيخ أبو حامد وإمام الحرمين وغيرهما طريقة القطع بيوم؛ لأن الشافعي رحمه الله إنما قال: يوم في مسائل العدد اختصارا أو حين أراد تحديد أقل الحيض في بابه، والرد على من قال أقله ثلاثة أيام، قال الشافعي: أقله يوم وليلة، فوجب اعتماد ما حققه في موضع التحديد، هذا هو المشهور في مذهبنا، والموجود في كتب أصحابنا.
وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه "اختلاف الفقهاء": حدثني الربيع عن الشافعي أن الحيض يكون يوما وأقل وأكثر، قال: وحدثني الربيع أن آخر قول الشافعي أن أقل الحيض يوم وليلة، وهذا النص الذي نقله ابن جرير عن الشافعي غريب جدا، ولكن تأويله على ما سأذكره في الفرع بعد هذا إن شاء الله تعالى، والصواب عند الأصحاب أن أقل الحيض يوم وليلة

 

ج / 2 ص -279-       وعليه التفريع والعمل وما سواه متأول عليه ودليله من نص الشافعي رحمه الله شيئان، أحدهما: أنه ذكره في معظم كتبه وفي مظنته، والثاني: أنه آخر قوله كما نقله الثقة ابن جرير.
المسألة الثانية: أكثر الحيض خمسة عشر باتفاق أصحابنا، وذكر المصنف دليله.
المسألة الثالثة: غالب الحيض ست أو سبع بالاتفاق.
المسألة الرابعة: أقل طهر فاصل بين حيضتين خمسة عشر يوما باتفاق أصحابنا؛ لأنه أقل ما ثبت وجوده ولا حد لأكثره بالإجماع. قال أصحابنا: وقد تبقى المرأة جميع عمرها لا تحيض وحكى القاضي أبو الطيب أن امرأة كانت في زمنه تحيض في كل سنة يوما وليلة وهي صحيحة تحبل وتلد وكان نفاسها أربعين يوما. وأما غالب الطهر، فقال أصحابنا: هو ثلاثة وعشرون يوما أو أربعة وعشرون، بناء على أن غالب الحيض ماذا؟ فالغالب أن في كل شهر حيضا وطهرا فغالب الحيض ستة أو سبعة وباقيه طهر. هذا ما يتعلق بإيضاح أصل المذهب.
وأما قوله: "طهر فاصل بين الدمين خمسة عشر يوما" فاحترز به عن شيئين: أحدهما: الطهر الذي بين الحيض والنفاس إذا قلنا بالأصح: إن الحامل تحيض فإنه يجوز أن يكون دون خمسة عشر ولو يوما على المذهب الصحيح، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الثاني: أيام النقاء المتخللة، بين أيام الحيض في حق ذات التلفيق إذا قلنا بالتلفيق، وأراد المصنف بقوله: بين الدمين: بين الحيضتين، ولو قال: بين الحيضتين كما قال في "التنبيه" لكان أحسن ليحترز عن الشيئين المذكورين والله أعلم.
وأما قوله: "لا أعرف فيه خلافا"، فمحمول على نفي الخلاف في مذهبنا، وإلا فالخلاف فيه للعلماء مشهور، سنذكره في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى. وأما قول المحاملي في كتابيه: أقل الطهر خمسة عشر يوما بالإجماع، ونحوه في "التهذيب" وقول القاضي أبي الطيب في مسألة التلفيق: أجمع الناس أن أقل الطهر خمسة عشر يوما فمردود غير مقبول، فلا يحمل كلام المصنف عليه، وإن كان لو حمل عليه لم يكن غلطا في اللفظ فإنه قد قال: لا أعرف فيه خلافا ولا يلزم من عدم معرفته عدم الخلاف والله أعلم.
وأما حديث: "تمكث شطر دهرها". فحديث باطل لا يعرف، وإنما ثبت في الصحيح
"تمكث الليالي ما تصلي". كما سبق بيانه في مسألة تحريم الصوم، وأما حديث حمنة فصحيح، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية حمنة، قال الترمذي: هو حديث حسن قال: وسألت البخاري عنه فقال: هو حديث حسن، قال: وكذا قال أحمد بن حنبل: هو حديث حسن صحيح، فقال الخطابي: وقد ترك بعض العلماء الاحتجاج بهذا الحديث؛ لأن راويه عبد الله بن محمد بن عقيل ليس بذاك.
قلت: هذا الذي قاله هذا القائل لا يقبل فإن أئمة الحديث صححوه كما سبق، وهذا الراوي وإن كان مختلفا في توثيقه وجرحه فقد صحح الحفاظ حديثه هذا، وهم أهل هذا الفن، وقد علم من قاعدتهم في حد الحديث الصحيح والحسن، أنه إذا كان في الراوي بعض الضعف أجيز حديثه

 

ج / 2 ص -280-       بشواهد له أو متابعة وهذا من ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: "تحيضي في علم الله". أي: التزمي الحيض وأحكامه فيما أعلمك الله من عادة النساء، هكذا قاله أصحابنا في كتب الفقه، والعلم هنا بمعنى المعلوم. وقال الخطابي: معناه فيما علم الله من أمرك من ستة أو سبعة وقوله صلى الله عليه وسلم: "كما تحيض النساء". المراد غالب النساء لاستحالة إرادة كلهن لاختلافهن وقوله صلى الله عليه وسلم: "ميقات حيضهن" وهو بنصب التاء على الظرف أي: في وقت حيضهن، واختلفوا في حال حمنة فقيل: كانت مبتدأة فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غالب عادة النساء، وقيل: كانت معتادة ستة أو سبعة فردها إليها، ذكر هذا الخلاف فيها الخطابي وجمهور أصحابنا في كتب المذهب وذكرهما الشافعي رحمه الله في "الأم" احتمالين. واختار المصنف بعد هذا أنها كانت مبتدأة وكذا اختار إمام الحرمين وابن الصباغ والشاشي وآخرون ورجحه الخطابي قال: ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "كما تحيض النساء ويطهرن".
واختار الشافعي رحمه الله في "الأم" أنها كانت معتادة وأوضح دليله وقال: هذا أشبه معانيه. قال صاحب التتمة: من قال كانت معتادة ذكروا في ردها إلى الستة أو السبعة ثلاث تأويلات: أحدها معناه ستة إن كانت عادتك ستة أو سبعة إن كانت عادتك سبعة. الثاني: لعلها شكت هل عادتها ستة أو سبعة؟ فقال: تحيضي ستة إن لم تذكري عادتك، أو سبعة إن ذكرت أنها عادتك. الثالث: لعل عادتها كانت تختلف، ففي بعض الشهور ستة وفي بعضها سبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"ستة في شهر الستة وسبعة في شهر السبعة". فتكون لفظة (أو) للتقسيم، وبسطت الكلام في هذا الحديث؛ لأنه من الأحاديث التي عليها مدار كتاب الحيض وتدخل في كل مصنفات الحيض، والله أعلم.
فرع: ذكر المصنف في هذا الفصل حمنة بنت جحش وعطاء والأوزاعي، والزبيري، فأما حمنة فبحاء مهملة مفتوحة ثم ميم ساكنة ثم نون ثم هاء وأبوها جحش بجيم مفتوحة ثم حاء مهملة ساكنة ثم شين معجمة وهي أخت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأما عطاء فهو أبو محمد عطاء بن أبي رباح، واسم أبي رباح أسلم وعطاء من كبار أئمة التابعين في الفقه والزهد والورع وغير ذلك وهو أحد شيوخنا في سلسلة التفقه، فهو شيخ ابن جريج الذي هو شيخ مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي كما سبق بيانه في مقدمة الكتاب. توفي عطاء رحمه الله سنة أربع عشرة ومائة وقيل: خمس عشرة وقيل سبع عشرة. وأما الأوزاعي فهو أبو عمر من كبار تابعي التابعين وأئمتهم البارعين كان إمام أهل الشام في زمنه، أفتى في سبعين ألف مسألة وقيل: ثمانين ألفا توفي في خلوته في حمام 1 بيروت مستقبل القبلة متوسدا بيمينه سنة سبع وخمسين ومائة قيل: هو منسوب إلى الأوزاع قرية كانت بخارج باب الفراديس من دمشق، وقيل: قبيلة من اليمن وقيل: غير ذلك. وأما الزبيري، فهو من أصحابنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  كان الأوزاعي يقسم حياته بعض العام لطلب العلم وتدريسه وبعضه للحج وبعضه للرباط وكان مرابطا في ثغر بيروت حتى أدركته منيته وهو مرابط في سبيل الله, وله نظراء في عهده مثل عبد الرحمن بن هرمز الأعرج وهو مدني ولكنه كان يرابط في ثغر الإسكندرية ووافته منيته وهو مرابط ولا يزال قبره وزاويته قرب ساحل البحر من الإسكندرية بحي زاوية الأعرج من شمال الإسكندرية فرضي الله عنهم أجمعين (ط).

 

ج / 2 ص -281-       أصحاب الوجوه منسوب إلى الزبير بن العوام أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنه وهو أبو عبد الله الزبيري بن أحمد بن سليمان بن عبد الله بن عاصم بن الزبير بن العوام وللزبيري كتب نفيسة وأحوال شريفة فهذه أحرف في تعريف هذه الأسماء وقد بسطت أحوال أصحابها ومناقبهم في تهذيب الأسماء وبالله التوفيق. فرع: قد ذكرنا أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما وكذا أقل الطهر والمراد خمسة عشر بلياليها وهذا القيد لا بد منه لتدخل الليلة الأولى.
فرع: لو وجدنا امرأة تحيض أقل من يوم وليلة أو أكثر من خمسة عشر أو تطهر أقل من خمسة عشر، واشتهرت عادتها كذلك متكررة ففيها ثلاثة أوجه حكاها إمام الحرمين والغزالي وغيرهما، أحدها: لا يعتبر حال هذه بل الحكم على ما عهد؛ لأن بحث الأولين أوفى والثاني: يعتبر ليكون هذا حيضها وطهرها؛ لأن الاعتماد على الوجود وقد حصل قال إمام الحرمين: هذا قول طوائف من المحققين منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني والقاضي حسين.
قلت: واختاره الدارمي في "الاستذكار" وصاحب التتمة. والثالث: إن كان قدرا يوافق مذهب السلف الذين يقولون باعتماد الوجود اعتمدناه وعملنا به، وإن لم يوافق مذهب أحد لم يعتمد. قال إمام الحرمين: والذي أختاره ولا أرى العدول عنه الاكتفاء بما استقرت عليه مذاهب الماضين من أئمتنا في الأقل والأكثر، فإنا لو فتحنا باب اتباع الوجود في كل ما يحدث وأخذنا في تغيير ما يمهد تقليلا وتكثيرا لاختلطت الأبواب وظهر الاضطراب، والوجه اتباع ما تقرر للعلماء الباحثين قبلنا. وذكر الرافعي نحو ما ذكره إمام الحرمين ثم قال: فالأظهر أنه لا اعتبار بحال هذه المرأة. بل الاعتبار بما تقرر؛ لأن احتمال عروض دم الفساد لهذه المرأة أقرب من انخرام العادة المستمرة.
قال: ويدل عليه الإجماع على أنها لو كانت تحيض يوما وتطهر يوما على الاستمرار لا يجعل كل نقاء طهرا مستقلا كاملا. قال: فهذا الوجه هو المذهب المعتمد وعليه تفريع الباب، واختار الشيخ أبو عمرو بن الصلاح قول الأستاذ أبي إسحاق فقال: الصحيح اتباع ذلك فإنه نص الشافعي، نقله عنه صاحب التقريب فيه، وناهيك إتقانا وتحقيقا واطلاعا، وكأن الأصحاب لم يطلعوا على النص. قال: وفي المحيط للشيخ أبي محمد الجويني عن الأستاذ أبي إسحاق قال: كانت امرأة تستفتيني بإسفرايين. وتقول: إن عادتها في الطهر مستمرة على أربعة عشر يوما على الدوام فجعلت ذلك طهرها على الدوام.
قلت: : وهذا النص الذي نقله أبو عمرو واختاره موافق لما قدمته عن ابن جرير عن الربيع عن الشافعي، فإن ذلك النص وإن كان مطلقا فهو محمول على هذه الصورة والله أعلم.

فرع في مذاهب العلماء في أقل الحيض والطهر وأكثرهما
أجمع العلماء على أن أكثر الطهر لا حد له، قال ابن جرير: وأجمعوا على أنها لو رأت الدم ساعة وانقطع لا يكون حيضا. وهذا الإجماع الذي ادعاه غير صحيح فإن مذهب مالك أن أقل

 

ج / 2 ص -282-       الحيض يكون دفعة فقط، واختلفوا فيما سوى ذلك، فمذهبنا المشهور أن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر. قال ابن المنذر: وبه قال عطاء وأحمد وأبو ثور. وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: أكثر الحيض عشرة أيام وأقله ثلاثة أيام. قال: وبلغني عن نساء الماجشون أنهن كن يحضن سبع عشرة. قال أحمد: أكثر ما سمعناه سبع عشرة. قال ابن المنذر وقال طائفة: ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام، بل الحيض إقبال الدم المنفصل عن دم الاستحاضة. والطهر إدباره، وقال الثوري: أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما، قال أبو ثور: وذلك مما لا يختلفون فيه فيما نعلم، وأنكر أحمد وإسحاق التحديد في الطهر. قال أحمد: الطهر ما بين الحيضتين على ما يكون، وقال إسحاق: توفيتهم الطهر بخمسة عشر باطل، هذا نقل ابن المنذر، وحكى أصحابنا عن أبي يوسف أقل الحيض يومان وأكثره الثالث، وعن مالك لا حد لأقله وقد يكون دفعة واحدة. وحكى الماوردي عن مالك ثلاث روايات في أكثر الحيض إحداها: خمسة عشر، والثانية: سبعة عشر، والثالثة: غير محدود، وعن مكحول أكثره سبعة أيام، قال العبدري: واختلف أصحاب مالك في أقل الطهر، فروى ابن القاسم أنه غير محدود وأنه ما يكون مثله طهرا في العادة، وروى عبد الملك بن الماجشون أنه خمسة أيام وقال سحنون: ثمانية أيام، وقال غيره: عشرة أيام، وقال محمد بن سلمة 1: خمسة عشر وهو الذي يعتمده أصحابه البغداديون، وقال أحمد في رواية الأثرم وأبي طالب: أقل الطهر ثلاثة عشر يوما، وقال الماوردي: قال أكثر العلماء: أقل الطهر خمسة عشر. وقال مالك: أقله عشرة، وحكى ابن الصباغ عن يحيى بن أكثم بالثاء المثلثة أن أقل الطهر تسعة عشر يوما.
فأما أدلة هذه المذاهب فمنها مسألة الإجماع أن أكثر الطهر لا حد له ودليلها في الإجماع، ومن الاستقراء أن ذلك موجود مشاهد، ومن أظرفه ما نقله القاضي أبو الطيب في "تعليقه" قال: أخبرتني امرأة عن أختها أنها تحيض في كل سنة يوما وليلة، وهي صحيحة تحبل وتلد ونفاسها أربعون يوما.
وأما أقل الحيض فاحتج لمن قال: أقله ثلاثة أيام بحديث أم سلمة رضي الله عنها
"أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنه، فقالت: إني أستحاض فقال: ليس ذلك الحيض إنما هو عرق، لتقعد أيام أقرائها ثم لتغتسل ولتصل". رواه أحمد بن حنبل قالوا: وأقل الأيام ثلاثة، وبحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام" رواه الدارقطني، وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكون الحيض أكثر من عشرة أيام ولا أقل من ثلاثة أيام".
وعن أنس رضي الله عنه قال: "الحيض ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع، ثمان، تسع، عشر" قالوا: وأنس لا يقول هذا إلا توقيفا. قالوا :؛ ولأن هذا تقدير، والتقدير لا يصح إلا بتوقيف أو

 

ج / 2 ص -283-       اتفاق، وإنما حصل الاتفاق على ثلاث، واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذاك فأمسكي عن الصلاة". رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة. قال أصحابنا: وهذه الصفة موجودة في اليوم والليلة؛ ولأن أقل الحيض غير محدود شرعا فوجب الرجوع فيه إلى الوجود، وقد ثبت الوجود في يوم وليلة كما ذكره المصنف عن عطاء والأوزاعي والشافعي والزبيري. وروينا بالإسناد الصحيح في سنن البيهقي عن الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال: كانت امرأة يقال لها أم العلا قالت: حيضتي منذ أيام الدهر يومان قال إسحاق بن راهويه: وصح لنا عن غير امرأة في زماننا أنها قالت: حيضتي يومان وعن يزيد بن هارون قال: عندي امرأة تحيض يومين، وروي في هذا المعنى غير ما ذكرنا. قال أصحابنا ولا مجال للقياس في هذه، وأما الجواب عن حديث أيام أقرائها لو ثبت فمن وجهين: أحدهما: ليس المراد بالأيام هنا الجمع بل الوقت، الثاني: أنها مستحاضة معتادة ردها إلى الأيام التي اعتادتها، ولا يلزم من هذا أن كل حيض لا ينقص عن ثلاثة أيام، وأما حديث واثلة وأبي أمامة وأنس فكلها ضعيفة متفق على ضعفها عند المحدثين، وقد أوضح ضعفها الدارقطني ثم البيهقي في كتاب الخلافيات ثم السنن الكبيرة. وقولهم: التقدير لا يصح إلا بتوقيف، جوابه أن التوقيف ثبت فيما ذكرناه؛ لأن مداره على الوجود، وقد ثبت ذلك على ما قدمناه. وأما من قال: أقل الحيض ساعة، فاعتمدوا ظواهر النصوص المطلقة، والقياس على النفاس، واحتج أصحابنا بأن الاعتماد على الوجود، ولم يثبت دون ما قلناه.
والجواب عن النصوص أنها مطلقة فتحمل على الوجود، وعن النفاس أنه وجد لحظة، فعملنا بالوجود فيهما، وأما من قال: أكثر الحيض عشرة، فاحتجوا بحديث واثلة وأبي أمامة وأنس وكلها ضعيفة واهية كما سبق، وليس لهم حديث ولا أثر يجوز الاحتجاج به. واحتج أصحابنا بما ثبت مستفيضا عن السلف من التابعين فمن بعدهم أن أكثر الحيض خمسة عشر، وأنهم وجدوه كذلك عيانا، وقد جمع البيهقي أكثر ذلك في كتابه في الخلافيات وفي السنن الكبير، فممن رواه عنه عطاء والحسن وعبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد وربيعة وشريك والحسن بن صالح وعبد الرحمن بن مهدي رحمهم الله.
وأما قول يحيى بن أكثم: أقل الطهر تسعة عشر، فاستدل له ابن الصباغ قال: أكثر الحيض عنده عشرة، والشهر يشتمل على حيض وطهر، وقد يكون الشهر تسعة وعشرين منها عشرة للحيض والباقي طهر، ودليلنا بثبوت الوجود في خمسة عشر. وأما قوله: فبناه على أن أكثر الحيض عشر وقد بينا بطلانه - فإن قيل روى إسحاق بن راهويه عن بعضهم أن امرأة من نساء الماجشون حاضت عشرين يوما وعن ميمون بن مهران أن بنت سعيد بن جبير كانت تحته وكانت تحيض من السنة شهرين فجوابه بما أجاب به المصنف في كتابه "النكت"  أن هذين النقلين ضعيفان، فالأول: عن بعضهم، وهو مجهول، وقد أنكره بعضهم، وقد أنكره الإمام مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة، والثاني: رواه الوليد بن مسلم عن رجل عن ميمون، والرجل مجهول والله أعلم.

 

ج / 2 ص -284-       قال المصنف رحمه الله تعالى: "وفي الدم الذي تراه الحامل قولان, أحدهما: أنه حيض؛ لأنه دم لا يمنعه الرضاع فلا يمنعه الحمل كالنفاس، والثاني: أنه دم فساد؛ لأنه لو كان ذلك حيضا لحرم الطلاق وتعلق به انقضاء العدة".
الشرح: يقال: الرضاع والرضاع بفتح الراء وكسرها فيهما، وامرأة حامل وحاملة، والأول أشهر وأفصح، فإن حملت على رأسها أو ظهرها فحاملة لا غير، والدم مخفف الميم على اللغة المشهورة، وفيه لغة شاذة بتشديدها.
أما حكم المسألة: فإذا رأت الحامل دما يصلح أن يكون حيضا فقولان مشهوران قال صاحب "الحاوي" والمتولي والبغوي وغيرهم: الجديد أنه حيض، والقديم: ليس بحيض، واتفق الأصحاب على أن الصحيح أنه حيض، فإن قلنا: ليس بحيض فهو دم فساد كما ذكر المصنف، وهل يسمى استحاضة؟ فيه خلاف سبق، وسواء قلنا استحاضة أو دم فساد هو حدث ينقض الوضوء، فإن لم يستمر فهو كالبول، فلها أن تصلي بالوضوء الواحد صلوات، وإن استمر فلها حكم الاستحاضة المستمرة وسيأتي بيانها في آخر الباب إن شاء الله تعالى.
قال الدارمي في "الاستذكار": اختلف أصحابنا في محل القولين فمنهم من قال: هما إذا رأت الدم في أيام عادتها وعلى صفة دم الحيض، فإن رأته في غير أيام الحيض أو رأت صفرة أو كدرة فليس بحيض قولا واحدا، ومنهم من قال: لا فرق، بل الخلاف جار في كل ما يجوز أن يكون حيضا لغير الحامل، وقال أبو علي بن أبي هريرة: القولان إذا قلنا للحمل حكم، فإن قلنا: لا حكم له فهو حيض قولا واحدا، وقال أبو إسحاق: القولان جاريان سواء قلنا له حكم أم لا، قال: واختلفوا أيضا فمنهم من قال: القولان إذا مضى للحمل أربعون يوما وما رأته قبل ذلك حيض قولا واحدا، ومنهم من قال: القولان في الجميع، هذا آخر كلام الدارمي وقال الشاشي: إذا قلنا: الحامل لا تحيض فمن متى ينقطع حيضها؟ وجهان: الصحيح بنفس العلوق، والثاني: من وقت حركة الحمل.
قلت: الصحيح المشهور جريان القولين بنفس العلوق، وفي جميع الأحوال التي ذكرها الدارمي وأما قول المصنف: أحدهما أنه حيض؛ لأنه دم لا يمنعه الرضاع ولا يمنعه الحمل كالنفاس فمعناه أن المرضع لا تحيض غالبا وكذا الحامل، فلو اتفق رؤية الدم في حال الرضاع كان حيضا بالاتفاق فكذا في حال الحمل فهما سواء في الندور. فينبغي أن يكونا سواء في الحكم بأنهما حيض. وأما قوله: كالنفاس فمراده إذا ولدت ولدين بينهما دون ستة أشهر ورأت الدم بينهما وقلنا: إنه نفاس فهذه حامل ومرضع ودمها نفاس، ومعناه أن النفاس لا يمنعه الرضاع والحمل، والحيض لا يمنعه الرضاع، فينبغي أن لا يمنعه الحمل كما قلنا في النفاس، قال صاحب "البيان" في مشكلات المهذب: مراده الاستدلال على أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يقول: دم الحامل ليس بحيض والدم بين الولدين نفاس، فقاس على ما وافق عليه، قال القلعي: وقوله: لا يمنعه الرضاع ليس باحتراز بل للدلالة على الحكم والتقريب من الأصل والله أعلم.

 

ج / 2 ص -285-       فرع: إذا قلنا: دم الحامل حيض فقد ذكر المصنف أنه لا تنقضي به "العدة" وكذا قاله أصحابنا في هذا الباب، ونقل الغزالي والمتولي وغيرهما الاتفاق على هذا، ومرادهم أن الحامل إذا كان عليها عدة واحدة وحملها لصاحب "العدة" وحاضت أدوارا فلا تنقضي بها "العدة" ولا يحسب شيء من الأطهار المعجلة قرءا، أما إذا كان الحمل بحيث لا تنقضي به "العدة" بأن لا يكون لصاحب "العدة" مثل إن مات صبي عن زوجته أو فسخ نكاحه بعينه أو غيره بعد دخوله وامرأته حامل من الزنا أو تزوج الرجل حاملا من الزنا وطلقها بعد الدخول وهي ترى الدم على الأدوار -فإن قلنا: الحامل تحيض- ففي انقضاء عدتها بهذه الأطهار المتخللة في مدة الحمل وجهان مشهوران سيأتي إيضاحهما في كتاب 1 العدد إن شاء الله تعالى.
ولو كان عليها عدتان بأن طلقها وهي حامل ثم وطئها بشبهة فوجبت "العدة" الثانية فهل تتداخل العدتان؟ فيه خلاف معروف. فإن قلنا: لا تتداخل كانت معتدة عن الطلاق فلو حاضت على الحمل فهل يحسب أطهارها في الحمل عن عدة الشبهة؟ فيه وجهان، أصحهما: يحسب، فعلى هذا يكون حيض الحامل مؤثرا في انقضاء "العدة" ولا يحسن إطلاق القول بأنه لا تنقضي به "العدة" إلا أن يقيد بما قيدناه به أولا والله أعلم. 
فرع: إذا قلنا: دم الحامل حيض فانقطع ثم ولدت بعد انقطاعه بخمسة عشر يوما فصاعدا فلا شك في كونه حيضا، وإن ولدت قبل مضي خمسة عشر ففي كونه حيضا وجهان مشهوران، وقد ذكرهما المصنف في فصل النفاس، أصحهما: بالاتفاق أنه حيض،؛ لأنه دم بصفة الحيض، وإنما يشترط أن يكون بين الدمين خمسة عشر إذا كانا دمي حيض، ولهذا قال المصنف والأصحاب: أقل طهر فاصل بين الحيضتين خمسة عشر. قال المتولي: وعلى هذا لو رأت النفاس ستين يوما ثم انقطع ثم عاد الدم، فإن عاد بعد خمسة عشر فهو حيض، وإن عاد قبلها فهل يجعل الثاني حيضا؟ فيه هذان الوجهان، أحدهما: لا؛ لنقصان ما بينهما عن طهر كامل، وأصحهما: نعم لاختلافهما.
فرع: إذا قيل: إذا جعلتم دم الحامل حيضا لم يبق وثوق بانقضاء العدة، والاستبراء بالحيض لاحتمال الحيض على الحمل، فالجواب أن الغالب أنها لا تحيض، فإذا حاضت حصل ظن براءة الرحم، وذلك كاف في "العدة" والاستبراء، فإن بان خلافه على الندور عملنا بما بان والله أعلم.
فرع: في مذاهب السلف في حيض الحامل، وقد ذكرنا أن الأصح عندنا أن الدم الذي تراه حيض. وبه قال قتادة ومالك والليث وقال ابن المسيب والحسن وعطاء ومحمد بن المنكدر وعكرمة وجابر بن زيد والشعبي ومكحول والزهري والحكم وحماد والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر: ليس بحيض، ودليل المذهبين في الكتاب، ومما يستدل به للصحيح في كونه حيضا أنه دم بصفات دم الحيض وفي زمن إمكانه؛ ولأنه متردد بين كونه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  غني عن البيان أن العدد حصتنا في "شرح المهذب" (ط).

 

ج / 2 ص -286-       فسادا لعلة أو حيضا، والأصل السلامة من العلة. وأما قول القائل الآخر: لو كان حيضا لانقضت "العدة" به ففاسد؛ لأن "العدة" لطلب براءة الرحم، ولا تحصل البراءة بالأقراء مع وجود الحمل؛ ولأن "العدة" تنقضي به في بعض الصور كما سبق بيانه، وأما قوله: لو كان حيضا لحرم الطلاق، فجوابه أن تحريم طلاق الحائض إنما كان لتطويل "العدة" ولا تطويل هنا؛ لأن عدتها بالحمل والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن رأت يوما دما 1 ويوما نقاء ولم يعبر الخمسة عشر [يوما] ففيه قولان أحدهما: لا يلفق [الدم] بل يجعل الجمع حيضا؛ لأنه لو كان ما رأته من النقاء طهرا لانقضت "العدة" بثلاثة منها والثاني: يلفق الطهر إلى الطهر، والدم إلى الدم فيكون أيام النقاء طهرا وأيام الدم حيضا؛ لأنه لو جاز أن يجعل أيام النقاء حيضا لجاز أن يجعل أيام الدم طهرا، ولما لم يجز أن تجعل أيام الدم طهرا لم يجز أن تجعل أيام النقاء حيضا، فوجب أن يجرى كل واحد منهما على حكمه".
الشرح: النقاء بالمد، وقوله: يوما دما ويوما نقاء أحسن من قوله في "التنبيه" يوما طهرا ويوما دما، فكيف يسمى طهرا مع أنه حيض في أحد القولين بل هو الأصح؟ وقوله يوما أراد بليلته؛ ليكون أقل الحيض تفريعا على المذهب كذا صرح به أصحابنا، ولو رأت يوما بلا ليلة أو نصف يوم ففيه خلاف مرتب يأتي بيانه في آخر الباب في فصل التلفيق إن شاء الله تعالى والأصح من هذين القولين عند جمهور الأصحاب أن الجميع حيض، وهو نص الشافعي رحمه الله في عامة كتبه، وقد فرق المصنف مسألة التلفيق هذه فذكرها هنا مختصرة وذكر فروعها في آخر الباب. وكان ينبغي أن يؤخرها كلها أو يجمع كل ما يتعلق بالتلفيق في موضع واحد كما فعله الأصحاب، وقد رأيت أن أؤخر شرح هذه المسألة إلى هناك وبالله التوفيق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "إذا رأت المرأة الدم لسن يجوز أن تحيض فيه أمسكت عما تمسك عنه الحائض، فإن انقطع لدون اليوم والليلة كان ذلك دم فساد فتتوضأ وتصلي، وإن انقطع ليوم وليلة أو لخمسة عشر يوما أو لما بينهما فهو حيض، فتغتسل عند انقطاعه، سواء كان الدم على صفة دم الحيض أو على غير صفته، وسواء كان لها عادة، فخالف عادتها أو لم تكن. وقال أبو سعيد الإصطخري: إن رأت الصفرة أو الكدرة في غير وقت العادة لم يكن حيضا، لما روي عن أم عطية رضي الله عنها قالت: "كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة بعد الغسل شيئا" ولأنه ليس فيه أمارة الحيض فلم يكن حيضا، والمذهب أنه حيض؛ لأنه دم صادف زمان الإمكان ولم يجاوزه، فأشبه إذا رأت الصفرة أو الكدرة في أيام عادتها.  وحديث أم عطية يعارضه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كنا نعد الصفرة والكدرة حيضا" وقوله: أنه ليس فيه أمارة غير مسلم، بل وجوده في أيام الحيض أمارة،؛ لأن الظاهر من حالها الصحة والسلامة، وأن ذلك دم الجبلة دون العلة".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  وفي نسخة المهذب المطبوعة "فإن رأت يوما طهرا ويوما دما" (ط).

 

ج / 2 ص -287-       الشرح: حديث أم عطية صحيح، رواه البخاري والدارمي وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهذا المذكور في المهذب هو لفظ رواية الدارمي، وفي رواية البخاري "كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا" وفي رواية أبي داود "كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا" وإسنادها إسناد صحيح على شرط البخاري ومما ينكر على المصنف قوله: روي عن أم عطية بصيغة التمريض مع أنه حديث صحيح، وقد سبق التنبيه على أمثال هذا وروى البيهقي بإسناد ضعفه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كنا نعد الصفرة والكدرة شيئا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأما حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الكتاب فلا أعلم من رواه بهذا اللفظ لكن صح عن عائشة رضي الله عنها قريب من معناه فروى مالك في الموطأ عن عقبة بن أبي عقبة عن أمه مولاة عائشة قالت: "كانت النساء يبعثن إلى عائشة رضي الله عنها بالدرجة 1 فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة" هذا لفظه في الموطأ وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة جزم فصح هذا اللفظ عن عائشة رضي الله عنها والدرجة بضم الدال وإسكان الراء وبالجيم، وروي بكسر الدال وفتح الراء وهي خرقة أو قطنة أو نحو ذلك تدخله المرأة فرجها ثم تخرجه لتنظر هل بقي شيء من أثر الحيض أم لا؟ وقولها القصة هي بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة، وهي الجص شبهت الرطوبة النقية الصافية بالجص فهذا موقوف على عائشة. وأما حديث أم عطية فهل هو موقوف، أم مرفوع؟ فيه خلاف قدمناه في الفصول السابقة في مقدمة الكتاب فيما إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا وأوضحنا المذاهب فيه.
واسم أم عطية: نسيبة بضم النون وفتح السين وإسكان الياء وقيل: بفتح النون وكسر السين وهي نسيبة بنت كعب وقيل: بنت الحارث أنصارية بصرية كانت تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت غاسلة للميتات وذكرت جملة من أحوالها في تهذيب الأسماء. وأما أبو سعيد الإصطخري فبكسر الهمزة وقيل يجوز بفتحها وهي همزة قطع، ويجوز تخفيفها كهمزة الأرض ونحوها، منسوب إلى إصطخر المدينة المعروفة، واسمه الحسن بن أحمد ولد سنة أربع وأربعين ومائتين وتوفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وكان من كبار أصحابنا وأئمتهم وعبادهم وأخيارهم وله أحوال جميلة وكتب نفيسة وذكرت جملة من أحواله في "التهذيب" و"الطبقات" وقوله: دم الجبلة بكسر الجيم وتشديد اللام أي: الخلقة ومعناه دم الحيض المعتاد الذي يكون في حال السلامة، وليس هو دم العلة الذي هو دم الاستحاضة، وأما الصفرة والكدرة فقال الشيخ أبو حامد في تعليقته: هما ماء أصفر وماء كدر وليسا بدم. وقال إمام الحرمين: هما شيء كالصديد يعلوه صفرة وكدرة ليسا على لون شيء من الدماء القوية ولا الضعيفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الدرجة هي شيء يدرج فيدخل في حياء الناقة ودبرها وتترك أياما مشدودة العين والأنف فيأخذها غم  كغم المخاض ثم يحلون الرباط فيخرج ذلك منها ويلتطخ به ولد غيرها فتظن أنه ولدها فترأمه فشبهوا الخرقة تحتشي بها الحائض بدرجة الناقة, وقد ضبط بعضهم الدرجة على وزن عنبة كالباجي وغيره وخطأهم صاحب القاموس (ط).

 

ج / 2 ص -288-       أما الأحكام: فقال أصحابنا رحمهم الله: إذا رأت المرأة الدم لزمان يصح أن يكون حيضا بأن يكون لها تسع سنين فأكثر ولم يكن عليها بقية طهر ولا هي حامل أو حائل وقلنا بالصحيح: إنها تحيض أمسكت عن الصوم والصلاة والقرآن والمسجد والوطء وغير ذلك مما تمسك عنه الحائض؛ لأن الظاهر أنه حيض، وهذا الإمساك واجب على الصحيح المشهور وبه قطع الأصحاب في كل الطرق إلا صاحبي "الحاوي" والتهذيب فحكيا وجها شاذا. قال صاحب "الحاوي": هو قول ابن سريج أنه لا يجوز للمبتدأة أن تمسك بل يجب عليها أن تصلي مع رؤية الدم، فإن انقطع لدون يوم وليلة، كانت الصلاة واجبة عليها وأجزأها ما صلت وإن استدام يوما وليلة تركت الصلاة حينئذ؛ لأن الدم الذي رأته يجوز أن يكون حيضا ويجوز أن يكون دم فساد، فلا يجوز ترك الصلاة بالشك. قال صاحب "الحاوي": وهذا الوجه فاسد من وجهين: أحدهما: أن المعتادة إذا فاتحها الدم تمسك والثاني: المعتادة إذا جاوز الدم عادتها تمسك وإن كان هذا الاحتمال موجودا، وإنما أمرناها بالإمساك؛ لأن الظاهر أنه حيض وهذا المعنى موجود في المبتدأة قال: فبطل قول ابن سريج، والتفريع بعد هذا على المذهب وهو وجوب الإمساك.
قال أصحابنا: فإذا أمسكت فانقطع الدم لدون يوم وليلة تبينا أنه دم فساد، فتقضي الصلاة بالوضوء ولا غسل. فإن كانت صامت في ذلك اليوم فصومها صحيح. وإن انقطع ليوم وليلة أو خمسة عشر أو لما بينهما فهو حيض، سواء كان أسود أو أحمر، وسواء كانت مبتدأة أو معتادة وافق عادتها أو خالفها بزيادة أو نقص أو تقدم أو تأخر، وسواء كان الدم كله بلون واحد أو بعضه أسود وبعضه أحمر، وسواء تقدم الأسود أو الأحمر، ولا خلاف في شيء من هذا إلا وجهين شاذين ضعيفين. أحدهما: حكاه صاحب "الحاوي" أنها إن كانت مبتدأة ورأت دما أحمر لا يكون حيضا لضعفه بل هو دم فساد، ووافق هذا القائل على أنها لو رأت الأحمر وهي معتادة كان حيضا. والوجه الآخر: حكاه البغوي وغيره: أنها إذا رأت أحمر وأسود وتقدم الأحمر كان الحيض هو الأسود وحده إن أمكن جعله حيضا، قال هذا القائل: ولو رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا ثم خمسة حمرة كان الأحمر الأول دم فساد والأحمر والأسود بعده حيضا. وسنوضح هذه المسألة في فصل المميزة إن شاء الله تعالى، أما إذا كان الذي رأته صفرة أو كدرة فقد قال الشافعي في "مختصر المزني" رحمه الله: الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض.
واختلف الأصحاب في ذلك على ستة أوجه الصحيح المشهور الذي قاله أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي وجماهير أصحابنا المتقدمين والمتأخرين أن الصفرة والكدرة في زمن الإمكان، وهو خمسة عشر يكونان حيضا، سواء كانت مبتدأة أو معتادة خالف عادتها أو وافقها، كما لو كان أسود أو أحمر وانقطع لخمسة عشر. والوجه الثاني: قول أبي سعيد الإصطخري وأبي العباس بن القاص أن الصفرة والكدرة في أيام العادة حيض وليست في غير أيام العادة حيضا فإن رأت الصفرة والكدرة مبتدأة أو معتادة في غير أيام العادة فليست بحيض، وإن رأتها معتادة فهي في أيام العادة حيض. والوجه الثالث: قول أبي علي الطبري وغيره من أصحابنا أنه إن تقدم الصفرة والكدرة دم

 

ج / 2 ص -289-       قوي أسود أو أحمر ولو بعض يوم، كانت حيضا في الخمسة عشر، وإن لم يتقدمها شيء لم يكن حيضا على انفرادها. 
وحكى صاحب "الشامل" وغيره هذا عن حكاية أبي علي بن أبي هريرة عن بعض أصحابنا والرابع: حكاه السرخسي في "الأمالي" والمتولي والبغوي وآخرون من الخراسانيين أنه إن تقدم على الصفرة دم قوي يوما وليلة كان حيضا تبعا للقوي. وإن تقدمها دون يوم وليلة فليست حيضا والخامس حكاه ابن كج والسرخسي إن تقدمها دم قوي ولحقها دم قوي كانت حيضا وإلا كانت كالنقاء والسادس حكاه السرخسي إن تقدمها دم قوي يوما وليلة ولحقها دم قوي يوما وليلة كانت حيضا وإلا فلا. 
وقد نقل الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي وإمام الحرمين والبغوي والرافعي وآخرون اتفاق الأصحاب على أن الصفرة والكدرة في أيام العادة تكون حيضا، وهذا الذي نقلوه مخالف لما قدمناه من الخلاف في اشتراط تقدم الأسود فإنه جار في أيام العادة، وقد صرح به صاحب "التتمة" وغيره: قال أصحابنا المصنفون: ومأخذ الخلاف بين الإصطخري والجمهور اختلافهم في مراد الشافعي بقوله: الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض. فالإصطخري يقول: معناه في أيام العادة، والجمهور يقولون: في أيام الإمكان. قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وآخرون: قال أبو إسحاق المروزي: كنت أقول: مراد الشافعي في أيام العادة حتى رأيته قال في كتاب العدة: "والصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، والمبتدأة والمعتادة في ذلك سواء" فلما قال: هما سواء علمت أنه لم يعتبر أيام العادة.
ثم قال الجمهور من أصحابنا في الطرق كلها لا فرق في جريان الخلاف المذكور بين المبتدأة والمعتادة، وذكر إمام الحرمين والغزالي وجهين أصحهما هذا والعبارة عنه أن حكم مرد المبتدأة وهو يوم وليلة أو ست أو سبع حكم ما وراء العادة، والوجه الثاني حكم مردها حكم أيام العادة. قال إمام الحرمين: هذا الوجه غير مرضي والله أعلم.
فرع: اعلم أن مسائل الصفرة مما يعم وقوعه وتكثر الحاجة إليه، ويعظم الانتفاع به فنوضح أصلحها مختصرة. قال أصحابنا رحمهم الله: إذا رأت المبتدأة خمسة عشر يوما أو يوما وليلة، أو ما بينهما صفرة أو كدرة، فعلى المذهب وقول الجمهور الجميع حيض، وعلى الأوجه الخمسة الباقية ليس بحيض فتتوضأ وتصلي ولها حكم الطاهرات ولو رأت أياما سوادا ثم صفرة، ولم يجاوز الخمسة عشر، فعلى المذهب الجميع حيض وعند الإصطخري الأسود حيض، والباقي طهر ولا يخفى قياس الباقين. ولو رأت نصف يوم سوادا ثم أياما صفرة فعلى المذهب الجميع حيض وعند الإصطخري كله دم فساد. ولو رأت خمسة صفرة ثم خمسة سوادا ثم انقطع فعند الإصطخري حيضها السواد وعلى المذهب حكمها حكم من رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا، وفيها ثلاثة أوجه يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، أصحها: الجميع حيض، والثاني: الأسود حيض والصفرة دم فساد ولو رأت خمسة صفرة ثم خمسة عشر سوادا، فعند الإصطخري: حيضها السواد وعلى المذهب فيه ثلاثة أوجه أحدها: حيضها

 

ج / 2 ص -290-       حيض المبتدأة من أول الأصفر يوم وليلة أو ست أو سبع والثاني: حيضها السواد والثالث: حيضها الصفرة لسبقها وتعذر الجمع وهذا ضعيف، وسيأتي إيضاح هذه الأوجه في فصل المميزة إن شاء الله تعالى.
ولو رأت خمسة صفرة ثم ستة عشر سوادا فعند الإصطخري حيضها حيض المبتدأة من أول الأسود وعلى المذهب: حيضها حيض المبتدأة من أول الصفرة إلا على الوجه الثالث في المسألة قبلها، فإن حيضها الصفرة. ولو رأت خمسة سوادا ثم خمسة حمرة ثم خمسة صفرة، فعند الإصطخري حيضها عشرة السواد والحمرة، وعلى المذهب: حيضها الخمسة عشر، ولو رأت خمسة حمرة ثم خمسة صفرة ثم خمسة سوادا، فعلى المذهب لها حكم من رأت عشرة حمرة ثم خمسة سوادا، وفيها الأوجه الثلاثة الأصح: الجميع حيض، والثاني: الحيض الأسود، والثالث: فاقدة التمييز. وعند الإصطخري الحمرة والسواد حيض وفي الصفرة بينهما القولان في النقاء المتخلل بين الدمين هكذا ذكره البغوي وغيره هذا كله في المبتدأة.
أما المعتادة فإذا كانت عادتها خمسة أيام من كل شهر فرأت خمسة سوادا ثم خمسة صفرة، فعلى المذهب الجميع حيض، وعند الإصطخري حيضها الأسود، ولو رأت خمسة سوادا ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت خمسة صفرة فعلى المذهب الصفرة حيض ثان وبينه وبين السواد طهر كامل، وعند الإصطخري الصفرة دم فساد؛ لأنها ليست في أيام العادة، ولو كان عادتها عشرة من أول الشهر، فرأت خمسة سوادا ثم عشرة صفرة وانقطع، فعلى المذهب الجميع حيض؛ لأنه في مدة الإمكان، وعند الإصطخري، قال صاحب "الحاوي" حيضها عشرة، خمسة السواد مع خمسة من أول الصفرة، وهذا ظاهر، ولو كان عادتها خمسة فرأت خمسة سوادا ثم خمسة صفرة، ثم خمسة حمرة أو سوادا وانقطع، فعند الإصطخري السواد والحمرة حيض، وفي الصفرة بينهما القولان في النقاء بين الدمين. وأما على المذهب فاختلفوا فيه، فقال الشيخ أبو حامد والمحاملي في "المجموع" والتجريد: قال ابن سريج: السواد والحمرة حيض، وفي الصفرة القولان في النقاء كما قال الإصطخري قالا: قال أبو العباس والفرق بين هذه المسألة وباقي المسائل حيث حكمنا بأن الصفرة في مدة الإمكان حيض إذا تأخرت عن السواد أن العادة في الحيض أن يكون في أوله قويا أسود ثخينا ثم يرق فيحمر ثم يصفر ثم ينقطع فتكون الصفرة من بقايا الحيض فحكم بأنها حيض. وأما هنا فهذه الصفرة يعقبها حمرة، فعلمنا أنها ليست بقية حيض؛ لأنه لا يضعف ثم يقوى، وإنما اصفر؛ لأنه انقطع فكان نقاء بين حيضتين. هكذا نقل أبو حامد والمحاملي عن ابن سريج ولم يخالفاه بل قرراه. وحكى صاحب "الشامل" هذا عن أبي حامد، وأنكره وقال هذا لا يجيء على مذهب الشافعي ولا مذهب ابن سريج؛ ; لأن عندهما الصفرة في زمن الإمكان حيض، وإنما يجيء على قول الإصطخري، وذكر صاحب "البحر" نحو قول صاحب "الشامل" وقال صاحب "الحاوي"، والقاضي أبو الطيب وصاحب التتمة: المذهب أن الجميع حيض. وهذا هو الصواب والله أعلم.
فرع: في مذاهب العلماء في الصفرة والكدرة.

 

ج / 2 ص -291-       قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أنهما في زمن الإمكان حيض ولا تتقيد بالعادة، ونقله صاحب "الشامل" عن ربيعة ومالك وسفيان والأوزاعي وأبي حنيفة ومحمد وأحمد وإسحاق. وقال أبو يوسف: الصفرة حيض والكدرة ليست بحيض إلا أن يتقدمها دم. وقال أبو ثور: إن تقدمها دم فهما حيض وإلا فلا، قال: واختاره ابن المنذر وحكى العبدري عن أكثر الفقهاء أنهما حيض في مدة الإمكان، وخالفه البغوي فقال: قال ابن المسيب وعطاء والثوري والأوزاعي وأحمد وأكثر الفقهاء: لا تكون الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض حيضا، ومدار أدلة الجميع على الحديثين المذكورين في الكتاب، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن عبر الدم الخمسة عشر فقد اختلط حيضها بالاستحاضة، فلا يخلو إما أن تكون مبتدأة غير مميزة، أو مبتدأة مميزة، أو معتادة غير مميزة، أو معتادة مميزة أو ناسية غير مميزة، أو ناسية مميزة، فإن كانت مبتدأة غير مميزة وهي التي بدأ بها الدم، وعبر الخمسة عشر والدم على صفة واحدة ففيها قولان: أحدهما: تحيض أقل الحيض؛ لأنه يقين وما زاد مشكوك فيه فلا يحكم بكونه حيضا، والثاني: ترد إلى غالب عادة النساء وهو ست أو سبع، وهو الأصح لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش:
"تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء ويطهرن ميقات حيضهن وطهرهن"؛ ولأنه لو كان لها عادة ردت إليها؛ لأن [الظاهر أن] حيضها في هذا الشهر كحيضها فيما تقدم فإذا لم يكن لها عادة فالظاهر أن حيضها كحيض نسائها ولداتها فردت إليها، وإلى أي عادة ترد؟ فيه وجهان: إحداهما: إلى غالب عادة النساء لحديث حمنة والثاني: إلى عادة نساء بلدها وقومها؛ لأنها أقرب إليهن، فإن استمر بها الدم في الشهر الثاني اغتسلت عند انقضاء اليوم والليلة في أحد القولين وعند انقضاء الست أو السبع في الآخر؛ لأنا قد علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة، وأن حكمها ما ذكرناه فتصلي وتصوم ولا تقضي الصلاة وأما الصوم، فلا تقضي ما تأتي به بعد الخمسة عشر، وفيما تأتي به قبل الخمسة عشر وجهان: أحدهما: تقضيه لجواز أن يكون صادف زمان الحيض فلزمها قضاؤه كالناسية والثاني: لا تقضي وهو الأصح؛ لأنها صامت في زمان حكمنا بالطهر فيه بخلاف الناسية فإنه 1 لم يحكم لها بحيض ولا طهر".
الشرح: حديث حمنة صحيح سبق بيانه مع بيان اسمها، وبيان الاختلاف في أنها كانت مبتدأة أو معتادة، والمبتدأة بهمزة مفتوحة بعد الدال، وهي التي ابتدأها الدم ولم تكن رأته، والمميزة بكسر الياء فاعلة من التمييز، وقوله: كحيض نسائها ولداتها، هو بكسر اللام وتخفيف الدال المهملة وبالتاء المثناة فوق، ومعناه أقرانها. 
وأما أحكام المسألة: فلما فرغ المصنف من حكم الحائض إذا لم يجاوز دمها أكثر الحيض انتقل إلى بيان حكم المستحاضات، وهن من جاوز دمهن أكثر الحيض، واختلط الحيض والطهر، وهن منقسمات إلى هذه الأقسام التي ذكرها إحداهن: المبتدأة وهي التي ابتدأها الدم لزمان الإمكان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في المطبوعة من المهذب "فإنا لم نحكم لها بحيض ولا طهر" (ط).

 

ج / 2 ص -292-       وجاوز خمسة عشر، وهو على لون أو على لونين، ولكن فقد شرط من شروط التمييز التي يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، ففيها قولان مشهوران نص عليهما الشافعي رحمه الله في "الأم" في باب المستحاضة. أحدهما: حيضها يوم وليلة من أول الدم، والثاني: ست أو سبع، ودليلهما في الكتاب.
واختلفوا في أصحهما فصحح المصنف والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في كتابه المستخلص، وسليم الرازي في رءوس المسائل والروياني في "الحلية" والشاشي وصاحب "البيان" قول الست أو السبع، وصحح الجمهور في الطريقين قول اليوم والليلة، وممن صححه القاضي أبو حامد في جامعه والشيخ أبو محمد الجويني والغزالي في "الخلاصة" والشيخ نصر المقدسي والبغوي والرافعي وآخرون. وقطع به جماعات من أصحاب المختصرات منهم ابن القاص في "المفتاح" و"التلخيص"، وأبو عبد الله الزبيري في "الكافي" وباب الحيض في آخر كتابه، وله اصطلاح غريب في ترتيب كتابه، وأبو الحسن بن خيران في كتابه اللطيف، وسليم الرازي في الكفاية، والمحاملي في المقنع والشيخ نصر في "الكافي" وآخرون، وهو نص الشافعي في "البويطي" و"مختصر المزني"، واختاره ابن سريج وعلى القولين ابتداء حيضها من أول رؤية الدم.
قال أصحابنا: فإذا قلنا حيضها ست أو سبع فباقي الشهر طهر وهو تمام الدور وهو ثلاثون يوما، وهكذا يكون دورها أبدا ثلاثين، منها ستة أو سبعة حيض والباقي طهر، وإن قلنا حيضها يوم وليلة، ففي طهرها ثلاثة أوجه، هكذا حكاها إمام الحرمين والغزالي وجماعات من الخراسانيين أوجها، وحكاها الشيخ أبو محمد في "الفروق" أقوالا أصحها وأشهرها أنه تسعة وعشرون يوما تمام الشهر، وبه قطع الشيخ أبو حامد والعراقيون وجماعات من الخراسانيين، وصححه شيخهم القفال؛ لأن الغالب أن الدور ثلاثون. 
فإذا ثبت للحيض يوم وليلة تعين الباقي للطهر؛ ولأن الرد إلى يوم وليلة في الحيض إنما كان للاحتياط. فالاحتياط في الطهر أن يكون باقي الشهر، والوجه الثاني: أن الطهر خمسة عشر يوما فيكون دورها ستة عشر يوما أبدا منها يوم وليلة حيض وخمسة عشر طهر؛ لأنها ردت إلى أقل الحيض وترد إلى أقل الطهر، وهذا الوجه مشهور عند الخراسانيين، ونقله القاضي حسين والمتولي والبغوي وآخرون عن نصه في "البويطي"، وكذا رأيته أنا في "البويطي" نصا صريحا لا يحتمل التأويل، وهذا في غاية الضعف. قال إمام الحرمين: هذا الوجه اتباع لفظ وإعراض عن المعنى؛ لأن الرد إلى أقل الحيض إنما كان لتكثر صلاتها، فإذا ردت إلى أقل الطهر عاجلها الحيض فقلت صلاتها. والوجه الثالث: ترد إلى غالب الطهر واختاره الشيخ أبو محمد الجويني وقال: إنه المشهور من نص الشافعي، ودليله أن مقتضى الدليل الرد إلى الغالب، خالفنا في الحيض للاحتياط، وليس في أقل الطهر احتياط فبقيناه على مقتضى الدليل، فعلى هذا يرد إلى الغالب من غالب الطهر وهو ثلاثة وعشرون أو أربعة

 

ج / 2 ص -293-       وعشرون ولا يتعين أحدهما، هكذا صرح به الشيخ أبو محمد في كتابه "الفروق"، وإمام الحرمين والغزالي في "البسيط" والرافعي وآخرون وقال الغزالي في "الوسيط": على هذا ترد إلى أربعة وعشرين؛ لأنه أحوط. ونقله إمام الحرمين عن والده أبي محمد، والأول أصح والله أعلم.
قال أصحابنا العراقيون والمتولي: وإذا قلنا: ترد إلى ست أو سبع فهل ذلك على سبيل التخيير؟ فيه وجهان مشهوران عندهم، وحكاهما القاضي أبو الطيب والمحاملي والشيخ نصر في "الانتخاب" وغيرهم عن ابن سريج، أحدهما: أنه للتخيير بين الست والسبع، فإن شاءت جعلت حيضها ستا، وإن شاءت سبعا؛ لأن كل واحد منهما عادة وبهذا قطع الجرجاني في البلغة، واختاره ابن الصباغ ونقله القاضي أبو الطيب وغيره عن أبي إسحاق المروزي قال الرافعي: وزعم الحناطي أنه الأصح لظاهر الحديث، والوجه الثاني أنه ليس للتخيير بل للتقسيم، فإن كانت عادة النساء ستا فحيضها ست، وإن كانت سبعا فسبع، وهذا هو الصحيح وبه قطع جمهور الخراسانيين وصححه العراقيون والمتولي. قال إمام الحرمين: تخيل التخيير محال، فعلى هذا في النساء المعتبرات أربعة أوجه أحدها: نساء زمانها في الدنيا كلها لظاهر حديث حمنة حكاه المصنف وآخرون. والثاني: نساء بلدها وناحيتها. والثالث: نساء عصبتها خاصة، حكاه الروياني والرافعي كالمهر والرابع: وهو الأصح باتفاق الأصحاب: نساء قراباتها من جهة الأب والأم جميعا، هكذا صرح به الصيدلاني وإمام الحرمين والبغوي، وبهذا الوجه قطع البغوي وجماعات. ونقله إمام الحرمين عن الأكثرين، فعلى هذا إن لم يكن لها نساء عشيرة اعتبر نساء بلدها؛ لأنها أقرب إليهن، كذا صرح به البغوي والمتولي، ثم إن كان عادة النساء المعتبرات ستا فحيض هذه ست، وإن كانت سبعا فسبع، وإن كانت دون ست أو فوق سبع فوجهان: حكاهما البغوي وغيره أصحهما ترد إلى الست إن كانت عادتهن دونها وإلى السبع إن كانت فوقها؛ لأنه أقرب إلى الحديث وبهذا قطع الفوراني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم. وادعى الغزالي في "البسيط" اتفاق الأصحاب عليه، والثاني: ترد إلى عادتهن زادت أو نقصت. قال البغوي: وهذا أقيس؛ ; لأن الاعتبار بالنساء.
ولو كان بعضهن يحضن ستا وبعضهن يحضن سبعا فقال إمام الحرمين وآخرون: ترد إلى الست، وقال البغوي والرافعي: إن استوى البعضان فإلى الست، وإلا فالاعتبار بغالب النسوة، ولو حاض بعضهن فوق سبع وبعضهن دون ست فحيضها الست هذا بيان مرد المبتدأة. ثم ما حكم بأنه حيض من يوم وليلة أو ست أو سبع فلها فيه حكم الحائض في كل شيء. وما فوق الخمسة عشر لها فيه حكم الطاهرات في كل شيء. وأما ما بين المرد والخمسة عشر ففيه قولان مشهوران في جميع كتب الأصحاب من العراقيين والخراسانيين وحكاهما صاحب "الحاوي" عن "الأم" ونقله المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب وجهين وأنكر ذلك عليهما، أصحهما باتفاق الأصحاب أن لها فيه حكم الطاهرات في كل شيء فيصح صومها وصلاتها وطوافها، وتحل لها القراءة ومس المصحف والجماع، ولا يلزمها قضاء الصوم والصلاة وغيرهما مما تفعله فيه، ويصح قضاء ما تقضيه فيه من صلاة وصوم وطواف وغيرها؛ لأن هذه فائدة الحكم بأن اليوم والليلة أو الست أو السبع حيض ليكون

 

ج / 2 ص -294-       الباقي طهرا، وقياسا على المميزة والمعتادة، فإن ما سوى أيام تمييزها وعادتها يكون طهرا بلا خلاف، فكذا المبتدأة. 
والثاني: أنها تؤمر في هذه المدة بالاحتياط الذي تؤمر به المتحيرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فتغتسل لكل صلاة وتصلي وتصوم ولا تقرأ القرآن ولا توطأ، ويلزمها قضاء الصوم الذي أدته في هذه الأيام ولا تقضي الصلوات المؤديات فيها بلا خلاف، كذا صرح به الأصحاب. ونقل الاتفاق عليه الرافعي وغيره، قالوا: ولا يجيء فيه الخلاف في قضاء صلاة المتحيرة، ودليل هذا القول أن هذا الزمان يحتمل أنه طهر وأنه حيض، فأشبهت المتحيرة، والمذهب الأول. ثم ظاهر كلام الجمهور أنها إذا ردت إلى ست أو سبع كان ذلك حيضا بيقين وفيما وراءه القولان. وقال المتولي: يوم وليلة من أول الست والسبع حيض بيقين، وفيما بعده إلى تمام ست أو سبع القولان: أحدهما: أنه حيض بيقين، والثاني: أنه حيض مشكوك فيه فيحتاط فيه فتغتسل وتقضي صلواته والصواب الأول.
قال أصحابنا: فإذا رددنا المبتدأة إلى يوم وليلة فلها ثلاثة أحوال: حال طهر بيقين وهو ما بعد الخمسة عشر إلى آخر الشهر، وحال حيض بيقين، وهو اليوم والليلة، وحال طهر مشكوك فيه، وهو ما بعد يوم وليلة إلى آخر خمسة عشر، وإن رددناها إلى ست أو سبع فلها أربعة أحوال: حال طهر بيقين، وهو ما بعد الخمسة عشر إلى آخر الشهر، وحال حيض بيقين وهو اليوم والليلة، وحال حيض مشكوك فيه وهو ما بعد يوم وليلة إلى آخر ست أو سبع، وحال طهر مشكوك فيه وهو ما بعد ست أو سبع إلى آخر الخمسة عشر والله أعلم.
فرع: قال أصحابنا رحمهم الله: إذا رأت المبتدأة الدم في أول أمرها أمسكت عن الصوم والصلاة وغيرهما مما تمسك عنه الحائض رجاء أن ينقطع على خمسة عشر يوما فما دونها فيكون كله حيضا. فإذا استمر وجاوز الخمسة عشر علمنا أنها مستحاضة وفي مردها القولان، فإذا استمر بها الدم في الشهر الثاني وجب عليها الغسل عند انقضاء المرد، وهو يوم وليلة أو ست أو سبع، ولا تمسك إلى آخر الخمسة عشر؛ لأنا علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة، فالظاهر أن حالها في هذا الشهر كحالها في الأول، وهكذا حكم الشهر الثالث وما بعده. ومتى انقطع الدم في بعض الشهور لخمسة عشر فما دونها تبينا أن جميع الدم في ذلك الشهر حيض، فيتدارك ما ينبغي تداركه من صوم وغيره مما فعلته بعد المرد وتبينا أن غسلها بعد المرد لم يصح لوقوعه في الحيض ولا إثم عليها فيما فعلته بعد المرد من صوم وصلاة وغيرهما؛ لأنها معذورة.
قال أصحابنا: وتثبت الاستحاضة بمرة واحدة بلا خلاف، ولا يجيء فيها الخلاف المعروف في ثبوت العادة في قدر الحيض بمرة واحدة، ونقل إمام الحرمين والغزالي وغيرهما العادة في باب الحيض أربعة أقسام:
أحدها:  ما يثبت فيه بمرة واحدة بلا خلاف وهو الاستحاضة؛ لأنها علة مزمنة فإذا وقعت فالظاهر دوامها ويبعد زوالها، وسواء في هذا المبتدأة والمعتادة والمميزة.

 

ج / 2 ص -295-       الثاني: ما تثبت فيه العادة بمرتين، وفي ثبوته بمرة واحدة وجهان: الأصح الثبوت وهو قدر الحيض.
الثالث: لا تثبت بمرة ولا مرات على الأصح وهو التوقف بسبب تقطع الدم إذا كانت ترى يوما دما ويوما نقاء، كما سيأتي إيضاحه في موضعه إن شاء الله تعالى.
الرابع: لا تثبت العادة فيه بمرة ولا مرات متكررات بلا خلاف، وهي المستحاضة إذا انقطع دمها فرأت يوما دما ويوما نقاء، واستمرت لها أدوار هكذا ثم أطبق الدم على لون واحد، فإنه لا يلتقط لها قدر أيام الدم بلا خلاف وإن قلنا باللقط لو لم يطبق الدم، قالوا: وكذا لو ولدت مرات ولم تر نفاسا أصلا، ثم ولدت وأطبق الدم وجاوز ستين يوما لم يصر عدم النفاس عادة بلا خلاف، بل هذه مبتدأة في النفاس والله أعلم.
فرع: إذا لم تعرف المبتدأة وقت ابتداء دمها، فحكمها حكم المتحيرة ذكره الرافعي وهو ظاهر.
فرع: في مذاهب العلماء في المبتدأة، حكى العبدري عن زفر: ترد إلى يوم وليلة وهي رواية عن أحمد، وقال عطاء والأوزاعي والثوري وإسحاق: إلى ست أو سبع وهي رواية عن أحمد، وعن أبي حنيفة: إلى أكثر الحيض عنده وهو عشرة أيام، وعن أبي يوسف: ترد في إعادة الصلاة إلى ثلاثة أيام، وهو أقل الحيض عنده، وفي الوطء إلى أكثره احتياطا للأمرين. وعن مالك رواية خمسة عشر يوما، ورواية كأقرانها، وعن داود إلى خمسة عشر، ودلائلها تعرف مما سبق والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كانت مبتدأة مميزة وهي التي بدأ بها الدم وعبر الخمسة عشر ودمها في بعض الأيام بصفة دم الحيض وهو المحتدم القانئ الذي يضرب إلى السواد، وفي بعضها أحمر مشرق أو أصفر، فإن حيضها أيام السواد بشرطين: أحدهما: لا ينقص الأسود عن يوم وليلة. والثاني: ألا يزيد على أكثره، والدليل عليه ما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني أستحاض أفأدع الصلاة؟ فقال: صلى الله عليه وسلم إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق"؛ ولأنه خارج يوجب الغسل فجاز أن يرجع إلى صفته عند الإشكال كالمني، وإن رأت في الشهر الأول يوما وليلة دما أسود ثم أحمر أو أصفر أمسكت عن الصوم والصلاة، لجواز أن لا تجاوز الخمسة عشر، فيكون الجميع حيضا، وفي الشهر الثاني يلزمها أن تغتسل عند تغير الدم وتصلي وتصوم؛ لأنا علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة، فإن رأت في الشهر الثالث السواد في ثلاثة أيام ثم أحمر أو أصفر، وفي الشهر الرابع رأت السواد في أربعة أيام ثم أحمر أو أصفر كان حيضها في كل شهر الأسود".
الشرح: حديث فاطمة رضي الله عنها صحيح رواه أحمد بن حنبل وأبو داود والنسائي وغيرهم بلفظه هنا بأسانيد صحيحة من رواية فاطمة وأصله في البخاري ومسلم بغير هذا اللفظ من رواية عائشة رضي الله عنها، وقوله صلى الله عليه وسلم
"إنما هو عرق" فهو -بكسر العين وإسكان الراء- أي: دم عرق وهذا العرق يسمى العاذل كما سبق في أول الباب. وقول إمام الحرمين والغزالي: عرق انقطع منكر فلا يعرف

 

ج / 2 ص -296-       لفظة انقطع في الحديث، وقوله: المحتدم هو بالحاء والدال المهملتين وهو اللذاع للبشرة بحدته، مأخوذ من احتدام النهار وهو اشتداد حره، وهكذا فسره أصحابنا في كتب الفقه، والمشهور في كتب اللغة أن المحتدم الذي اشتدت حمرته حتى أسود والفعل منه احتدم، وأما القانئ فبالقاف وآخره همزة على وزن القارئ، قال أصحابنا: وهو الذي اشتدت حمرته فصار يضرب إلى السواد، وقال أهل اللغة: هو الذي اشتدت حمرته، والفعل منه قنأ يقنأ كقرأ يقرأ، والمصدر القنوء كالرجوع ولا خلاف بين أهل اللغة في أن آخره مهموز، ونبهت على هذا لأني رأيت من يغلط فيه، قال إمام الحرمين وغيره: وليس المراد بالأسود في الحديث وفي كلام أصحابنا الأسود الحالك، بل المراد ما تعلوه حمرة مجسدة كأنها سواد بسبب تراكم الحمرة، وقد أشار المصنف في وصفه إلى هذا.
أما حكم المسألة: فمذهبنا أن المبتدأة المميزة ترد إلى التميز بلا خلاف عندنا ودليله ما ذكره المصنف، قال أصحابنا: والمميزة هي التي ترى الدم على نوعين أو أنواع بعضها قوي، وبعضها ضعيف، أو بعضها أقوى من بعض فالقوي أو الأقوى حيض والباقي طهر، وبماذا يعرف تغير القوة والضعف؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الاعتبار باللون وحده فالأسود قوي بالنسبة إلى الأحمر، والأحمر قوي بالنسبة إلى الأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر والأكدر إذا جعلناهما حيضا. وبهذا الوجه قطع إمام الحرمين والغزالي وادعى الإمام أنه متفق عليه، وقال: لو رأت خمسة سوادا مع الرائحة، وخمسة سوادا بلا رائحة، فهما دم واحد بالاتفاق، والوجه الثاني: أن القوة تحصل بثلاث خصال: وهي اللون والرائحة الكريهة والثخانة، فاللون معتبر كما سبق وما له رائحة كريهة أقوى مما لا رائحة له، والثخين أقوى من الرقيق.
قال الرافعي: هذا الوجه هو الذي قطع به العراقيون وغيرهم قال: وهو الأصح ألا ترى أن الشافعي رحمه الله قال في صفة دم الحيض: إنه محتدم ثخين له رائحة، وورد في الحديث التعرض لغير اللون كما ورد التعرض للون، فعلى هذا إن كان بعض دمها بإحدى الصفات الثلاث والبعض خاليا من جميعها فالقوي هو الموصوف بها، وإن كان للبعض صفة وللبعض صفتان فالقوي ما له صفتان، وإن كان للبعض صفتان وللبعض ثلاث فالقوي ما له ثلاث، وإن كان للبعض صفة وللبعض صفة أخرى فالقوي السابق. هكذا ذكر هذا التفصيل صاحب "التتمة" قال الرافعي: وهو موضع تأمل وهذه صفة التمييز قال أصحابنا: وإنما يحكم بالتمييز بثلاثة شروط ألا ينقص القوي عن يوم وليلة ولا يزيد على خمسة عشر ولا ينقص الضعيف عن خمسة عشر ليمكن جعل القوي حيضا والضعيف طهرا. وأخل المصنف وأكثر العراقيين بهذا الشرط الثالث ولا بد منه، فلو رأت نصف يوم أسود ثم أطبقت الحمرة فات الشرط الأول، ولو رأت ستة عشر أسود ثم أحمر فات الشرط الثاني، ولو رأت يوما وليلة أسود ثم أربعة عشر أحمر ثم عاد الأسود فات الشرط الثالث، وتكون في هذه الصور الثلاث غير مميزة. قال الرافعي: وقول الأصحاب بشرط أن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر متصلة وإلا فلو رأت يوما أسود ويومين أحمر، وهكذا أبدا فجملة الضعيف في الشهر لم ينقص عن خمسة عشر لكن لما لم تكن متصلة لم يكن ذلك تمييزا وهذا الذي ذكرناه من أن شروط التمييز ثلاثة

 

ج / 2 ص -297-       فقط هو الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور. وذكر المتولي شرطا رابعا، وهو أن لا يزيد مجموع الدمين القوي والضعيف على ثلاثين يوما فإن زاد سقط حكم التمييز؛ لأن الثلاثين لا تخلو غالبا من حيض وطهر، وذكر إمام الحرمين وغيره وجها أن الضعيف إن كان مع القوي الذي قبله تسعين يوما فما دونها عملنا بالتمييز وجعلنا دورها أبدا تسعين يوما، وهذا الذي ذكره الإمام والمتولي شاذان ضعيفان. والمذهب أنه لا فرق بين قصر الزمان وطوله قال الرافعي: المذهب أنه لا فرق، والله أعلم.
قال أصحابنا: فإذا رأت الأسود يوما وليلة أو أكثر ثم اتصل به أحمر قبل الخمسة عشر وجب عليها أن تمسك في مدة الأحمر عما تمسك عنه الحائض، لاحتمال أن ينقطع الأحمر قبل مجاوزة "المجموع" خمسة عشر، فيكون الجميع حيضا. فإن جاوز خمسة عشر عرفنا حينئذ أنها مستحاضة مميزة فيكون حيضها الأسود، ويكون الأحمر طهرا بالشروط السابقة، فعليها الغسل عقب الخمسة عشر وتصلي، وتصوم وتقضي صلوات أيام الأحمر، وقولهم: الأسود والأحمر، تمثيل وإلا فالاعتبار بالقوي والضعيف كيف كان على ما سبق من صفاتهما. هذا حكم الشهر الأول فأما الشهر الثاني وما بعده فإذا انقلب الدم القوي إلى الضعيف لزمها أن تغتسل عند انقلابه، وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها ولا ينتظر الخمسة عشر.
قال أصحابنا: وهذا لا خلاف فيه، قالوا: ولا يخرج على الخلاف في ثبوت العادة في قدر الحيض بمرة؛ لأن الاستحاضة علة مزمنة فالظاهر دوامها، , وقد سبق بيان هذا في الفرع السابق، فإن انقطع الضعيف في بعض الأدوار قبل مجاوزة الخمسة عشر يوما تبينا أن الضعيف مع القوي في هذا الدور كان حيضا فيلزمها قضاء الصوم والطواف والاعتكاف في الواجبات المفعولات في أيام الضعيف وهذا لا خلاف فيه. ولو رأت في الشهر الثالث الدم القوي ثلاثة أيام ثم ضعف وفي الشهر الرابع خمسة ثم ضعف وفي الخامس ستة ثم ضعف وكذا ما بعده فحيضها في كل شهر القوي، ويكون الضعيف طهرا بشروطها وتغتسل وتصلي وتصوم أبدا عند انقلاب الدم إلى الضعيف ويأتيها زوجها، ومتى انقطع الضعيف في شهر قبل مجاوزة خمسة عشر فالجميع حيض. قال صاحب "التتمة" والأصحاب: وسواء في هذا كله كان القوي في الشهر الثاني وما بعده بقدر القوي في الشهر الأول أو دونه أو أكثر منه في ذلك الزمان أو قبله أو بعده؛ لأن الحكم بكونه حيضا ليس بسبب العادة، بل المعتمد صفة الدم فمتى وجدت تعلق الحكم بها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن رأت خمسة أيام دما أحمر أو أصفر، ثم رأت خمسة أيام دما أسود ثم أحمر 1 إلى آخر الشهر، فالحيض هو الأسود وما قبل الأسود وبعده استحاضة وخرج أبو العباس وجهين ضعيفين: أحدهما: أنه لا تمييز لها؛ لأن الخمسة الأولة [حيض؛ لأنه] دم بدأ في وقت يصلح أن يكون حيضا، والخمسة الثانية أولى أن تكون حيضا؛ لأنها في وقت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في النسخة المطبوعة: ثم أحمر الدم إلى آخر الشهر (ط).

 

ج / 2 ص -298-       يصلح للحيض، وقد انضم إليه علامة الحيض وما بعدها بمنزلتهما، فيصير كأن الدم كله مبهم فيكون على القولين في المبتدأة غير المميزة والوجه الثاني: أن حيضها العشر الأول؛ لأن الخمسة الأولى حيض بحكم البداية في وقت يصلح أن يكون حيضا والخمسة الثانية حيض باللون. وأن رأت خمسة أيام دما أحمر، ثم رأت دما أسود إلى آخر الشهر فهي غير مميزة؛ لأن السواد زاد على الخمسة عشر فبطل دلالته، فيكون على القولين في المبتدأة غير المميزة. وخرج أبو العباس وجها أن ابتداء حيضها من أول الأسود إما يوم وليلة وإما ست أو سبع؛ لأنه بصفة دم الحيض، وهذا لا يصح؛ لأن هذا اللون لا حكم له إذا عبر 1 الخمسة عشر، وإن رأت خمسة عشر يوما دما أحمر وخمسة عشر يوما أسود وانقطع فحيضها الأسود، وإن استمر الأسود ولم ينقطع لم تكن مميزة فيكون حيضا من ابتداء الدم يوما وليلة في أحد القولين أو ستا أو سبعا في القول الآخر، وعلى الوجه الذي خرجه أبو العباس يكون حيضا من أول الدم الأسود يوما وليلة أو ستا أو سبعا".
الشرح: قوله: الأولة هذه لغة قليلة واللغة الفصيحة المشهورة الأولى وقوله: كأن الدم كله مبهم أي: على لون واحد. وقوله: بحكم البداية هكذا يوجد في المهذب وغيره من كتب الفقه وهو لحن عند أهل العربية وصوابه البدأة والبدأة أو البداءة ثلاث لغات مشهورات حكاهن الجوهري وغيره الأولى: بفتح الباء وإسكان الدال وبعدها همزة مفتوحة، والثانية كذلك إلا أن الباء مضمومة والثالثة بضم الباء وفتح الدال وزيادة الألف ممدودة ومعناهن الابتداء قبل غيره. وقوله: دلالته هي بكسر الدال وفتحها والفتح أجود وفيها لغة ثالثة حكاها الجوهري دلولة بضم الدال.
أما أحكام الفصل: فإذا رأت المميزة دما قويا وضعيفا، فلها ثلاثة أحوال: حال يتقدم القوي، وحال يتقدم الضعيف وحال يتوسط الضعيف بين قويين.
الحال الأول: أن يتقدم قوي ويستمر بعده ضعيف واحد بأن رأت خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة فالحيض هو السواد سواء انقطعت الحمرة بعد مجاوزة الخمسة عشر بيوم أو شهر أو أكثر وإن طال زمانها طولا كثيرا.
هذا هو المذهب وفيه الوجهان السابقان عن المتولي وإمام الحرمين في اشتراط انقطاع الأحمر قبل مجاوزة ثلاثين أو تسعين وهما شاذان ضعيفان، وظاهر نص الشافعي رحمه الله يبطلهما لإطلاقه أن الضعيف طهر ولو تعقب القوي ضعيف ثم أضعف فإن أمكن الجمع بين القوي والضعيف المتوسط بأن رأت خمسة سوادا ثم خمسة حمرة ثم أطبقت الصفرة ففيه طريقان حكاهما إمام الحرمين وجماعة: أصحهما: إلحاق الحمرة بالسواد فيكونان حيضا والصفرة طهرا؛ لأنهما قويان بالنسبة إلى الصفرة وهما في زمن الإمكان وبهذا قطع أبو علي السنجي في "شرح التلخيص" والبغوي والثاني: على وجهين أحدهما: هذا، والثاني إلحاق الحمرة بالصفرة للاحتياط فيكون حيضها الأسود فقط، وأما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في النسخة المطبوعة: إذا اعتبر. وهذا من أغلاط المصححين (ط).

 

ج / 2 ص -299-       إذا لم يمكن الجمع بينهما بأن رأت خمسة سوادا ثم أحد عشر حمرة ثم أطبقت الصفرة، فطريقان حكاهما إمام الحرمين وغيره، أصحهما وأشهرهما القطع بأن السواد حيض وما بعده من الحمرة والصفرة كلاهما طهر لقوة السواد باللون والأولية. والثاني: على وجهين: أصحهما هذا، والثاني: أنها فاقدة للتمييز؛ لأن الحمرة كالسواد لقوتها بالنسبة إلى ما بعدها فيصير كأن السواد استمر ستة عشر، أما إذا تعقب القوي ضعيفان توسط أضعفهما بأن رأت سوادا ثم صفرة ثم حمرة، فهذه الصورة تبنى على التي قبلها وهي توسط الحمرة، فإن ألحقنا هناك الحمرة المتوسطة بالصفرة بعدها فهنا أولى بأن نلحق الصفرة بالحمرة بعدها، فيكون حيضها الأسود والباقي طهرا، وإن ألحقناها بالسواد قبلها فالحكم هنا، كما إذا رأت سوادا ثم حمرة ثم عاد السواد وسنذكره إن شاء الله تعالى.
الحال الثاني: أن يتقدم الضعيف وهي مسائل الكتاب ولها صور إحداها: أن يتوسط قوي بين ضعيفين بأن ترى خمسة حمرة ثم خمسة سوادا ثم تطبق الحمرة أو ترى خمسة حمرة ثم عشرة سوادا ثم تطبق الحمرة، ففيها الأوجه الثلاثة التي حكاها المصنف، وهي مشهورة حكوها عن ابن سريج، أصحها باتفاقهم أن حيضها السواد المتوسط، ويكون ما قبله وبعده طهرا للحديث: "دم الحيض أسود". وهو حديث صحيح كما بيناه؛ ولأن اللون علامة بنفسه فقدم ولهذا قدمنا التمييز على العادة على المذهب. والثاني: أنها فاقدة للتمييز لما ذكره المصنف من التعليل؛ ولأن الجمع بين الدمين خلاف مقتضى العمل بالتمييز، والعدول عن الأولية مع إمكان العمل بها بعيد، فيكون على القولين في المبتدأة فتحيض من أول الحمرة يوما وليلة في قول، وستا وسبعا في قول. والثالث: يجمع بين الأولية واللون فيكون حيضها الحمرة الأولى مع السواد، هذا إذا أمكن الجمع بينهما، فإن لم يمكن بأن رأت خمسة حمرة ثم أحد عشر سوادا فإن قلنا في المسألة الأولى يقدم اللون أو قلنا فاقدة للتمييز فكذا هنا، وإن قلنا بالجمع فهو متعذر هنا فتكون فاقدة للتمييز، وفيه وجه مشهور أن حيضها الحمرة الأولى تغليبا للأولية؛ لتعذر الجمع. قال إمام الحرمين: هذا الوجه هفوة لا أعده من المذهب. هذا الذي ذكرناه من التفصيل والخلاف هو المشهور، وبه قطع الجمهور. وقال صاحب "الحاوي": إن كانت مبتدأة فحيضها السواد بلا خلاف، وإن كانت معتادة فوجهان:، قال أبو العباس وأبو علي: حيضها الحمرة، وقال أبو إسحاق وجمهور المتأخرين: حيضها السواد وحده.
الصورة الثانية: رأت خمسة حمرة ثم أطبق السواد فجاوز الخمسة عشر فثلاثة أوجه، الصحيح المشهور أنها فاقدة للتمييز فتحيض من أول الحمرة يوما وليلة في قول وستا أو سبعا في قول, وبهذا الوجه قطع البغوي وادعى الاتفاق عليه. والثاني: الحيض من أول السواد يوما وليلة في قول وستا أو سبعا في قول: وهذان الوجهان ذكرهما المصنف بدليلهما. والثالث حكاه الخراسانيون: حيضها الحمرة لقوة الأولى وهو ضعيف جدا كما قدمناه.
الثالثة: رأت خمسة عشر 1 حمرة ثم خمسة عشر سوادا وانقطع فالمذهب أن حيضها السواد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  حمرة صفة لتمييز العدد المحذوف "يوما" وكذلك سوادا.

 

ج / 2 ص -300-       وعلى تخريج ابن سريج هي فاقدة للتمييز. ولم يذكر المصنف تخريج ابن سريج هنا كما لم يذكره شيخه القاضي أبو الطيب ولا بد من ذكره هنا كما سبق فيما إذا رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا، وقد ذكره هنا الشيخ أبو محمد والمحاملي والبغوي وآخرون.
الرابعة: رأت خمسة عشر حمرة ثم خمسة عشر سوادا ثم استمر فهي فاقدة للتمييز، فحيضها يوم وليلة في قول، وست أو سبع في قول، ويكون ذلك من أول الأحمر على المذهب، وعلى تخريج ابن سريج من أول الأسود، وعلى الوجه الشاذ الناظر إلى الأول يكون حيضها الحمرة في الخمسة عشر، فعلى المذهب -وهو أنها فاقدة للتمييز- تؤمر بترك الصوم والصلاة وغيرهما مما تمسك عنه الحائض أحدا وثلاثين يوما في قول وستة وثلاثين أو سبعة وثلاثين يوما في قول، فإنها إذا رأت الحمرة تؤمر بالإمساك عن الصلاة وغيرها لاحتمال الانقطاع قبل تجاوز خمسة عشر فيكون هو الحيض، فإذا جاوز الأسود الخمسة عشر علمنا أنها فاقدة للتمييز فيكون حيضها يوما وليلة في قول وستا أو سبعا في قول، وقد انقضى الآن دورها فتبتدئ الآن حيضا ثانيا يوما وليلة، أو ستا أو سبعا فتمسك أيضا ذلك القدر، فصار إمساكها أحدا وثلاثين يوما في قول، وستة وثلاثين أو سبعة وثلاثين في قول. قال أصحابنا: ولا يعرف امرأة تؤمر بترك الصلاة أحدا وثلاثين يوما إلا هذه وأما قول الغزالي وجماعة: لا يعرف من تترك الصلاة شهرا إلا هذه ففيه نقص، وتمامه ما ذكرناه.
الحال الثالث: أن يتوسط دم ضعيف بين قويين بأن رأت سوادين بينهما حمرة أو صفرة ففيه أقسام كثيرة، رتبها صاحب "الحاوي" ترتيبا حسنا فجعله ثمانية أقسام، وبعضها ليس من صور التمييز لكن اقتضاه التقسيم، أحدها: أن يبلغ كل واحد من الدماء الثلاثة يوما وليلة ولا يجاوز الجميع خمسة عشر، بأن ترى خمسة سوادا ثم خمسة حمرة أو صفرة، ثم خمسة سوادا. فالمذهب أن الجميع حيض، وبه قطع الجمهور. وقال أبو إسحاق: الضعيف المتوسط، كالنقاء المتخلل بين دمي الحيض، ففيه القولان، أحدهما: أنه حيض مع السوادين، والثاني: طهر. وقطع السرخسي في "الأمالي" بقول أبي إسحاق.
القسم الثاني: أن يجاوز "المجموع" خمسة عشر بأن رأت سبعة سوادا ثم سبعة حمرة ثم سبعة سوادا، قال ابن سريج: حيضها السواد الأول مع الحمرة، وأما السواد الثاني فطهر. وقال أبو إسحاق: حيضها السوادان وتكون الحمرة بينهما طهرا ولا يجيء قولا التلفيق لمجاوزة خمسة عشر، وهذا الذي حكاه عن أبي إسحاق ضعيف جدا، بل غلط؛ لأن الدم جاوز خمسة عشر، ولو رأت ثمانية سوادا ثم ثمانية حمرة ثم ثمانية سوادا فحيضها السواد الأول بالاتفاق.
الثالث: أن ينقص الجميع عن يوم وليلة بأن ترى ساعة أسود ثم ساعة أحمر ثم ساعة أسود وينقطع، فالجميع دم فساد.
الرابع: أن ينقص كل دم عن أقل الحيض ويبلغه "المجموع" بأن ترى ثلث يوم وليلة سوادا، ثم ثلثهما حمرة ثم ثلثهما سوادا، فعلى قول ابن سريج وهو المذهب: الجميع حيض، وعلى قول أبي

 

 

ج / 2 ص -301-       إسحاق: لا حيض والجميع دم فساد؛ لأنه يخرج الحمرة فلا يبقى يوم وليلة، فلو رأت نصف يوم وليلة من كل واحد من الثلاثة كان الجميع حيضا عند ابن سريج، وعلى قول أبي إسحاق: الأسودان حيض، وفي الحمرة قولا التلفيق.
الخامس: أن يبلغ كل واحد من السوادين يوما وليلة وتنقص الحمرة، فعند ابن سريج الجميع حيض وعند أبي إسحاق حيضها السوادان، وفي الحمرة قولا التلفيق، ولو رأت ثمانية أيام سوادا ثم نصف يوم حمرة ثم سبعة سوادا، فعلى قول ابن سريج حيضها السواد الأول مع الحمرة، وعلى قول أبي إسحاق حيضها الخمسة عشر السواد دون الحمرة بينهما، قلت: هذا الذي نقله عن أبي إسحاق ضعيف أو غلط.
السادس: أن ينقص كل سواد عن يوم وليلة وتبلغ الحمرة يوما وليلة، بأن ترى نصف يوم وليلة سوادا، ثم خمسة حمرة ثم نصف يوم وليلة سوادا، فعند ابن سريج للجميع حيض وعند أبي إسحاق حيضها الأسودان وفيما بينهما قولا التلفيق.
السابع: أن يبلغ السواد الأول أقل الحيض وكذا الأحمر، وينقص السواد الأخير عن ذلك بأن رأت خمسة سوادا ثم خمسة حمرة ثم نصف يوم سوادا فالجميع حيض بالاتفاق.
الثامن: أن ينقص الأولان دون الأخير بأن ترى نصف يوم سوادا ثم نصفه حمرة ثم خمسة سوادا، فعلى قول ابن سريج الجميع حيض، وعلى قول أبي إسحاق حيضها السواد الثاني. ولو رأت نصف يوم سوادا ثم نصفه حمرة، ثم خمسة عشر سوادا فالسواد الثاني هو الحيض بالاتفاق. هذا آخر كلام صاحب "الحاوي" والله أعلم. فرع: الصفرة والكدرة مع السواد كالحمرة مع السواد إذا قلنا بالمذهب: إنهما في أيام الحيض حيض، ولا يخفى تفريع أبي سعيد الإصطخري فيهما، وسبق في مسائل الصفرة تفريعات لها تعلق بهذا الفصل.
فرع: رأت خمسة عشر حمرة ثم نصف يوم سوادا: فحيضها الحمرة، وأما الأسود فطهر، ولو رأت يوما حمرة ثم ليلة سوادا فالجميع حيض على المذهب، وفيه الوجه الذي سبق عن صاحب "الحاوي" في المبتدأة والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن رأت ستة 1 عشر يوما دما أحمر ثم رأت دما أسود وانفصل لم يكن لها تمييز، فيكون حيضها يوما وليلة في أول الدم الأحمر في أحد القولين، وستا أو سبعا في الآخر. وقال أبو العباس: يكون حيضها يوما وليلة من أول الأحمر وخمسة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في النسخة المطبوعة من المهذب: وإن رأت سبعة عشر.

 

ج / 2 ص -302-       عشر طهرا، وتبتدئ من أول الدم الأسود حيضا آخر في أحد القولين يوما وليلة، وفي القول الثاني يجعل حيضها ستا أو سبعا والباقي استحاضة، إلا أن يكون الأسود في الثالث والعشرين 1".
الشرح: هكذا توجد هذه المسألة في نسخ المهذب، وحكى بعض المتأخرين أنه رأى أصل المصنف، وقد ضرب المصنف بخطه على قوله: إلا أن يكون الأسود في الثالث والعشرين، فهذه المسألة معدودة من "مشكلات المهذب" ولا أراها من المشكلات فأما على المذهب، وهو أنه لا تمييز لها وأن حيضها من أول الأحمر يوم وليلة، أو ست أو سبع وباقي الشهر طهر فظاهر لا إشكال فيه، وأما على قول أبي العباس فيحتمل أمرين: أظهرهما: أن معناه أنا إن قلنا المبتدأة ترد إلى يوم وليلة فحيض هذه يوم وليلة من أول الأحمر، وباقي الأحمر وهو خمسة عشر طهر، ثم تبتدئ حيضا آخر من أول الأسود يوما وليلة هذا كله إذا قلنا: المبتدأة ترد إلى يوم وليلة، فإن قلنا ترد إلى ست أو سبع فحيضها من أول الأحمر ست أو سبع وباقي الشهر طهر؛ لأن الباقي من الأحمر تسعة أيام أو عشرة فلا يمكن أن يجعل طهرا فاصلا بين الحيضتين، فتعين أن يكون ما بعد الست أو السبع إلى آخر الشهر طهرا، إلا أن تكون رأت اثنين وعشرين يوما دما أحمر واتصل الأسود من الثالث والعشرين فيكون حيضها من أول الأحمر ستا أو سبعا والباقي من الأحمر وهو خمسة عشر أو ستة عشر طهرا وتبتدي حيضا آخر من أول الثالث والعشرين ستا أو سبعا وتقدير كلام المصنف.
وقال أبو العباس: يكون حيضها يوما وليلة من أول الأحمر وخمسة عشر طهر. هذا أحد القولين والقول الثاني: حيضها ست أو سبع وباقي الشهر طهر إلا أن يكون الأحمر قد امتد وبدأ السواد في الثالث والعشرين فيكون باقي الأحمر طهرا وتبتدئ من الأسود حيضا آخر ستا أو سبعا. هذا هو الاحتمال الظاهر المختار لكلام أبي العباس، والاحتمال الثاني وهو الذي ذكره صاحب "البيان" في "مشكلات المهذب" ونقله صاحب "البحر" عن أبي العباس أنه أراد أنا نحيضها من أول الأحمر يوما وليلة قولا واحدا، ولا يجيء قول الست أو السبع ويكون باقي الأحمر طهرا ثم تبتدئ حيضا آخر من أول السواد، وفي قدره القولان في المبتدأة. أحدهما: يوم وليلة والثاني: ست أو سبع إلا أن يكون الأحمر اثنين وعشرين والأسود في الثالث والعشرين، فإن في القدر الذي ترد إليه من أول الأحمر القولين.
أحدهما: يوم وليلة، والثاني: ست أو سبع، وباقي الأحمر طهر، ثم تبتدئ من أول الأسود حيضا آخر. وهذان الاحتمالان ذكرهما صاحب "البيان" وجهين عن أبي العباس، والأول منهما هو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذه القطعة من المتن سقط منها من "المجموع" ما هو ثابت في النسخة المطبوعة من المهذب وهي: "فإنه إذا كان ابتداء الأسود من الثالث والعشرين, فعلى قول أبي العباس رضي الله عنه يكون حيضها من أول الأحمر سبعة وخمسة عشر طهرا وتبتدي من أول الأسود حيضا آخر يوما وليلة في أحد القولين وستا أو سبعا في القول الآخر" اهـ ص40 جـ1 طبعة عيسى البابي الحلبي "المطيعي".

 

ج / 2 ص -303-       الصحيح، والثاني ضعيف؛ لأنه مخالف للقواعد من وجهين: أحدهما: الجزم برد المبتدأة إلى يوم وليلة، والقاعدة أنها على قولين، والثاني: أنه جعل لها حيض من أول الأحمر وطهر بعده، ثم جعلت في السواد مبتدأة، وينبغي أن تجعل معتادة إذا قلنا بالمذهب: إن العادة تثبت بمرة، فإنه سبق لها دور وهو ستة عشر يوما منها يوم وليلة حيض وخمسة عشر طهر.
وذكر القاضي أبو الطيب هذه المسألة في "تعليقه" فقال: قال أبو العباس: إن قلنا: ترد المبتدأة إلى يوم وليلة رددنا هذه إلى يوم وليلة من أول الأحمر ويكون بعده خمسة عشر طهرا ثم تبتدئ حيضا آخر من أول الأسود.
وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع ردت هنا إلى ذلك من أول الأسود؛ لأنا لو جعلنا ذلك من أول الأحمر لم يبق بينه وبين الأسود طهر صحيح إلا أن يكون استمر الأسود إلى آخر الثاني والعشرين فإنها ترد إلى أول الأحمر؛ لأنه يجعل بعده طهر صحيح، هذا كلام القاضي، ويمكن حمل حكاية المصنف عليه والله أعلم.
فرع: رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا ثم خمسة حمرة وانقطع فالجميع حيض وليست مستحاضة، هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب وفيه وجه حكاه البغوي أن الحمرة السابقة طهر والباقي حيض، وقد سبقت المسألة، ولو رأت خمسة حمرة ثم نصف يوم سوادا ثم أطبقت الحمرة فلا تمييز لها. ولو رأت نصف يوم سوادا ثم نصفه حمرة، ثم اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس كذلك ثم رأت السادس سوادا كله ثم أطبقت حمرة وجاوز خمسة عشر، فما بعد السادس طهر والسادس حيض وما قبله من السواد حيض أيضا وفي الحمرة المتخللة طريقان حكاهما المحاملي في "المجموع" وصاحب "البيان" أحدهما: حيض وهو قول ابن سريج. والثاني: أنها على القولين في النقاء المتخلل بين الدماء، ولو رأت يوما وليلة سوادا ثم خمسة أو عشرة أو ثلاثة عشر حمرة ثم يوما سوادا ثم أطبقت الحمرة، فحكمه ما ذكرناه وهو أن السوادين حيض، وفي الحمرة المتخللة الطريقان، وما بعد السواد الثاني طهر.
فرع: قال إمام الحرمين في آخر باب الحيض: لو رأت دما قويا يوما وليلة فصاعدا ولم يتجاوز خمسة عشر ثم اتصل به الضعيف وتمادى ستة مثلا، ولم يعد الدم القوي أصلا، فالذي يقتضيه قياس التمييز أنها طاهر وإن استمر الضعيف سنين. قال: وقد يختلج في النفس استبعاد الحكم بطهارتها، وهي ترى الدم دائما، ولكن ليس لأكثر الطهر مرد يتعلق به فلم يبق ضبط إلا بالتمييز فظاهر القياس أنها طاهر وإن بلغ الدم الضعيف ما بلغ، وهذا الذي قاله الإمام متعين وهو مقتضى كلام الأصحاب. 
فرع: قال الرافعي: المفهوم من كلام الأصحاب في انقلاب الدم القوي إلى الضعيف أن يتمحض ضعيفا حتى لو بقيت خطوط من السواد، وظهرت خطوط من الحمرة لا ينقطع حكم الحيض، وإنما ينقطع إذا لم يبق شيء من السواد أصلا، وقد صرح بهذا المفهوم إمام الحرمين رحمه الله.

 

ج / 2 ص -304-       قال المصنف رحمه الله تعالى: 1 "وإن كانت معتادة غير مميزة، وهي التي كانت تحيض من كل شهر أياما ثم عبر الدم عادتها وعبر الخمسة عشر ولا تمييز لها، فإنها لا تغتسل بمجاوزة 2 الدم عادتها لجواز أن ينقطع الدم الخمسة عشر فإذا عبر الخمسة عشر ردت إلى عادتها فتغتسل بعد الخمسة عشر وتقضي صلاة ما زاد على عادتها، لما روي أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رضي الله عنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتدع للصلاة قدر ذلك".
الشرح: حديث أم سلمة صحيح رواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد في مسنديهما وأبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم، وقولها تهراق الدم بضم التاء وفتح الهاء أي: تصب الدم، والدم منصوب على التشبيه بالمفعول به أو على التمييز على مذهب الكوفيين وقوله صلى الله عليه وسلم: "فلتدع" يجوز في هذه اللام وشبهها من لامات الأمر التي يتقدمها فاء أو واو ثلاثة أوجه كسرها وإسكانها وفتحها والفتح غريب.
أما أحكام المسألة: فإذا كان لها عادة دون خمسة عشر، فرأت الدم وجاوز عادتها وجب عليها الإمساك كما تمسك عنه الحائض لاحتمال الانقطاع قبل مجاوزة خمسة عشر فيكون الجميع حيضا ولا خلاف في وجوب هذا الإمساك، وقد سبق في المبتدأة وجه شاذ أنه لا يجب الإمساك، واتفقوا أنه لا يجيء هنا؛ لأن الأصل استمرار الحيض هنا، ثم انقطع خمسة عشر يوما فما دونها فالجميع حيض. وإن جاوز خمسة عشر علمنا أنها مستحاضة فيجب عليها أن تغتسل. ثم إن كانت غير مميزة ردت إلى عادتها فيكون حيض أيام العادة في القدر والوقت وما عدا ذلك فهو طهر تقضي صلاته.
قال أصحابنا :، وسواء كانت العادة أقل الحيض والطهر، أو غالبهما أو بأقل الطهر وأكثر الحيض أو غير ذلك، وسواء قصرت مدة الطهر، أو طالت طولا متباعدا، فترد في ذلك إلى ما اعتادته من الحيض والطهر ويكون ذلك دورها أي قدر كان، فإن كان عادتها أن تحيض يوما وليلة وتطهر خمسة عشر ثم يعود الحيض في السابع عشر والطهر في الثامن عشر وهكذا فدورها ستة عشر يوما. وإن كانت تحيض خمسة وتطهر خمسة عشر فدورها عشرون. وإن كانت تحيض خمسة عشر وتطهر خمسة عشر فدورها ثلاثون وإن كانت تحيض يوما وتطهر تسعة وثمانين فدورها تسعون يوما، وإن كانت تحيض يوما أو خمسة أو خمسة عشر وتطهر تمام سنة فدورها سنة. وكذا إن كانت تطهر تمام سنتين فدورها سنتان، وكذا إن كانت تطهر تمام خمس سنين فدورها خمس سنين، وكذا إن زاد. وهذا الذي ذكرناه من أن الدور قد يكون سنة أو سنتين أو خمس سنين أو أكثر وترد إليه هو الصحيح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في نسخة المهذب: "فإن".
2  في النسخة "لمجاوزتها".

 

ج / 2 ص -305-       المشهور وبه قطع الجمهور، وممن صرح به الشيخ أبو حامد في "تعليقه" والمحاملي في "المجموع" وصاحب "التتمة" وآخرون.
وقال القفال: لا يجوز عندي أن يجعل الدور سنة ونحوها، إذ يبعد الحكم بالطهر سنة أو نحوها مع جريان الدم. قال: فالوجه أن يجعل غاية الدور تسعين يوما الحيض منها ما يتفق والباقي طهر؛ لأن الشرع جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر. هذا قول القفال وتابعه عليه إمام الحرمين والغزالي وصاحب "العدة" وآخرون من متأخري الخراسانيين، فالمذهب ما قدمته عن الجمهور. وقال الرافعي: ظاهر المذهب أنه لا فرق بين أن تكون عادتها أن تحيض أياما من كل شهر أو من كل سنة وأكثر. قال: وهو الموافق لإطلاق الأكثرين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن استمر بها الدم في الشهر الثاني وجاوز العادة اغتسلت عند مجاوزة العادة؛ لأنا علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة، فتغتسل في كل شهر عند مجاوزة العادة بمرة 1 وتصلي وتصوم".
الشرح: هذا الذي ذكره متفق عليه ولم يذكروا فيه الخلاف في ثبوت العادة بمرة، , وقد سبق في الفصل الماضي دليله، وهو أن الاستحاضة علة مزمنة، فالظاهر دوامها. وقوله: علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة، يعني والظاهر بقاء الاستحاضة، وقوله: وتصلي وتصوم يعني تصير طاهرا في كل شيء من الصوم والصلاة والوطء والقراءة وغيرها. وإنما اقتصر المصنف على ذكر الصوم والصلاة تنبيها بهما على ما سواهما. وقوله: تغتسل وتصلي وتصوم يعني يجب عليها ذلك، وهكذا تفعل في كل شهر، فإن انقطع دمها في بعض الشهور على خمسة عشر فما دونها علمنا أنها ليست مستحاضة في هذا الشهر، وأن جميع ما رأته فيه حيض فتتدارك ما يجب تداركه من الصوم وغيره وكذا إن كانت قضت في هذه الأيام صلوات أو طافت أو اعتكفت تبينا بطلان جميع ذلك، لمصادفته الحيض. قال أصحابنا :، وإذا صامت بعد أيام العادة في الشهر الثاني، وما بعده وطافت وفعلت غير ذلك مما تفعله الطاهر المستحاضة صح ذلك ولا قضاء عليها بلا خلاف قالوا: ولا يجيء فيه القول الضعيف الذي سبق في المبتدأة فإنها تؤمر بالاحتياط إلى خمسة عشر وفرقوا بأن العادة قوية والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وتثبت العادة بمرة واحدة فإذا حاضت في شهر خمسة أيام ثم استحيضت في شهر بعده ردت إلى الخمسة ومن أصحابنا من قال: لا تثبت إلا بمرتين فإن لم تحض الخمس مرتين لم تكن معتادة بل هي مبتدأة،؛ لأن العادة لا تستعمل في مرة والمذهب الأول، لحديث المرأة التي استفتت لها أم سلمة رضي الله عنها فإن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إلى الشهر الذي يلي شهر الاستحاضة؛ ولأن ذلك أقرب إليها فوجب ردها إليه".
الشرح: قد سبق في آخر فصل المبتدأة أن ما يثبت بالعادة وما لا يثبت وما ثبت وما يثبت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  بمرة ليست في النسخة المطبوعة.

 

ج / 2 ص -306-       بالتكرار أربعة أقسام، وأوضحناها هناك. والمراد هنا بيان ما تثبت به العادة في قدر المحيض والطهر وفيه أربعة أوجه، أصحها باتفاق الأصحاب أنها تثبت بمرة واحدة مطلقا، قال صاحب "الحاوي": هذا ظاهر مذهب الشافعي ونص عليه في "الأم" وقال صاحب "الشامل" والعدة: هو نص الشافعي في "البويطي"، وكذا رأيته أنا في "البويطي"، قال القاضي أبو الطيب والمحاملي: هو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي وعامة أصحابنا وبه قطع البغوي وغيره.
والثاني: لا تثبت إلا بمرتين وهو مشهور في الطرق كلها حكاه المتولي وغيره عن أبي علي بن خيران واتفقوا على تضعيفه.
والثالث: لا تثبت إلا بثلاث مرات حكاها الرافعي عن حكاية أبي الحسن العبادي وهو شاذ متروك، وقد نقل القاضي أبو الطيب والمحاملي والماوردي وإمام الحرمين وابن الصباغ والمتولي والروياني وآخرون اتفاق الأصحاب على ثبوتها بمرتين، وأنهم إنما اختلفوا في المرة وأن اعتبار المرتين ضعيف.
والرابع: تثبت في حق المبتدأة بمرة ولا تثبت في حق المعتادة إلا بمرتين، حكاه السرخسي في "الأمالي" عن ابن سريج ونقله المتولي وغيره وقال الماوردي والدارمي في آخر كتاب المتحيرة: اتفقوا على ثبوتها بمرة للمبتدأة واختلفوا في المعتادة؛ لأنه ليس للمبتدأة أصل ترد إليه، فكان ما رأته أولى بالاعتبار من جعلها مبتدأة، وأن الظاهر أنها في الشهر الثاني كالأول، وأما الانتقال من عادة تقررت وتكررت مرات فلا تجعل بمرة، وهذا الوجه وإن فخمه الماوردي والدارمي فهو غريب، وقد صرح الجمهور بأن الخلاف جار في المبتدأة.
فأما دليل الأوجه فقد ذكرنا دليل الرابع، واحتجوا للثاني والثالث بأن العادة مشتقة من العود، وذلك لا يستعمل إلا في متكرر، وحجة الأول وهو المذهب ما احتج به المصنف والأصحاب من الحديث؛ ولأن الظاهر أنها في هذا الشهر كالذي يليه، فإنه أقرب إليها فهو أولى مما انقضى وأولى من رد المبتدأة إلى أقل الحيض أو غالبه، فإنها لم تعهده بل عهدت خلافه، وأما احتجاج الآخرين بأن العادة من العود فحجة باطلة؛ لأن لفظ العادة لم يرد به نص فيتعلق به، بل ورد النص بخلافه في حديث أم سلمة، هذا تفصيل مذهبنا. وقال أبو حنيفة: لا تثبت العادة إلا بمرتين، وعن أحمد رواية كذلك، ورواية لا تثبت إلا بثلاث مرات، وقال مالك في أشهر الروايتين عنه لا اعتبار بالعادة والله أعلم.
فرع: رأت مبتدأة في أول الشهر عشرة أيام دما وباقيه طهرا، وفي الشهر الثاني خمسة، وفي الثالث أربعة ثم استحيضت في الرابع، قال أصحابنا: ترد إلى الأربعة بلا خلاف؛ لتكررها في العشرة والخمسة، ولو انعكس فرأت في الأول أربعة، وفي الثاني خمسة واستحيضت في الثالث فإن أثبتنا العادة بمرة ردت إلى الخمسة، وإن لم نثبتها إلا بمرتين ردت إلى الأربعة؛ لتكررها هذا هو الأصح، وفيه وجه أنها ليست معتادة وصححه إمام الحرمين.

 

ج / 2 ص -307-       قال المصنف رحمه الله تعالى: "وتثبت العادة بالتمييز كما تثبت بانقطاع الدم، فإذا رأت المبتدأة خمسة أيام دما أسود ثم أصفر واتصل، ثم رأت في الشهر الثاني دما مبهما، كان عادتها أيام السواد".
الشرح: هذا الذي ذكره من ثبوت العادة بالتمييز هو الصحيح المشهور وبه قطع الأصحاب في الطريقتين، وحكى إمام الحرمين وجها أنه لا تثبت العادة بالتمييز بل متى انخرم التمييز وأطبق الدم على لون واحد كانت كمبتدأة لم تميز قط وفيها القولان: والصواب الأول. ثم الجمهور في الطرق كلها أطلقوا القول بالرجوع إلى العادة التمييزية. وقال المتولي والسرخسي: لا ترجع إليها إلا إذا كان الحيض والطهر فيها ثلاثين يوما فما دونها، فإن زاد لم يكن للتمييز حكم بناء على الوجه الضعيف في اشتراط ذلك في العمل بالتمييز، وهذا شاذ متروك، والصواب: أنه لا فرق. قال القاضي أبو الطيب والأصحاب: وإذا رأت بعد شهر التمييز دما مبهما، اغتسلت بعد مضي قدر أيام التمييز وصلت وصامت، وفعلت ما تفعله الطاهرة المستحاضة ولا تمسك إلى الخمسة عشر بخلاف الشهر الأول؛ لأنا قد علمنا استحاضتها، وهكذا في كل شهر تغتسل بعد مضي قدر التمييز، فإن انقطع الدم في بعض الشهور قبل مجاوزة خمسة عشر فجميع ما رأته في هذا الشهر حيض.
فرع: لو كان عادتها خمسة سوادا وباقي الشهر حمرة وتكرر هذا مرات ثم رأت في بعض الأدوار عشرة سوادا، ثم باقيه حمرة، ثم أطبق السواد في الدور الذي يليه. قال إمام الحرمين والغزالي والرافعي: اتفق الأصحاب على أنا نحيضها من كل شهر عشرة أيام، ولو رأت خمسة سوادا ثم باقي الشهر حمرة وتكرر هذا ثم رأت في شهر عشرة سوادا ثم باقيه حمرة ثم أطبق دم مبهم في الذي يليه قالوا: فحيضها أيضا في هذا الدور وما بعده العشرة.
قال الرافعي: في الصورتين إشكالان: أحدهما: أنهم حكموا في الصورة الأولى بالرد إلى العشرة، وهذا ظاهر إن أثبتنا العادة بمرة وإلا فينبغي ألا يكتفى بسبق العشرة مرة، قال الغزالي: هذه عادة تمييزية فتسحبها مرة وجها واحدا، كغير المستحاضة إذا تغيرت عادتها القديمة مرة واحدة فإنا نحكم بالحالة الناجزة، قال الرافعي: هذا الجواب لا يشفي القلب.
الإشكال الثاني: إذا أفاد التمييز عادة المستحاضة، ثم تغير قدر القوي بعد انخرام التمييز أو قبله وجب ألا يخرم بالرد إليه، بل يخرج على الخلاف في اجتماع العادة والتمييز، ولم يزد إمام الحرمين في هذا على دعوى اختصاص الخلاف بالعادة الجارية من غير استحاضة، وهذا الذي نقله الإمام والغزالي والرافعي من الاتفاق على ثبوت العادة التمييزية بمرة غير مقبول، بل الخلاف في مشهور وممن صرح بأنه على الخلاف القاضي أبو الطيب والمحاملي والسرخسي في "الأمالي" والشيخ نصر المقدسي وصاحب "البيان" وآخرون قال هؤلاء: إذا رأت المبتدأة دما أحمر واستمر شهرا ثم رأت في الشهر الثاني خمسة سوادا ثم باقيه حمرة ثم رأت في الثالث دما مبهما وأطبق ففي الشهر الأول هي مبتدأة إذ لا تمييز لها وفي مردها القولان وفي الشهر الثاني مميزة ترد إلى التمييز، وفي الثالث إن قلنا: تثبت العادة بمرة فحيضها خمسة أيام. وإن قلنا: لا تثبت بمرة كانت كمبتدأة لا تمييز لها ,

 

ج / 2 ص -308-       هكذا قطع به هؤلاء إلا القاضي أبا الطيب، فقال: إن قلنا: لا تثبت العادة بمرة فإن قلنا: ترد في الشهر الأول إلى يوم وليلة ردت إليها في الثالث لتكررهما في الشهرين، وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع ردت في الثالث إلى الخمسة لتكررهما في الشهرين قال: ولو رأت المبتدأة خمسة سوادا، ثم باقي الشهر حمرة ثم أطبق الدم المبهم في الشهر الثاني فهل ترد إلى الخمسة وتحصل العادة بمرة أم لا؟ فيه الخلاف والأصح ردها إلى الخمسة والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويثبت الطهر بالعادة كما يثبت الحيض، فإذا حاضت خمسة أيام وطهرت خمسين يوما ثم رأت الدم وعبر الخمسة عشر جعل حيضها في كل شهرين خمسة أيام والباقي طهر".  "الشرح" : اتفق أصحابنا على ثبوت الطهر بالعادة، , وسواء طالت مدة الطهر سنة أو سنتين أو أكثر، هذا هو الصحيح المشهور، وقد تقدم قول القفال ومن تابعه أنه لا تثبت فيما إذا زاد الحيض والطهر على تسعين يوما، والأول هو المذهب وعليه التفريع، فإذا رأت المبتدأة يوما وليلة حيضا، ثم طهرت خمسة عشر، ثم حاضت يوما وليلة وطهرت خمسة عشر، ثم أطبق دم مبهم كان دورها ستة عشر يوما، منها يوم وليلة حيض وخمسة عشر طهر، وإن رأت ذلك مرة واحدة ثم أطبق الدم، فإن أثبتنا عادة التمييز بمرة فكذلك وإلا فليست معتادة. ولو رأت يوما وليلة دما وستة طهرا مرة أو مرتين ثم أطبق الدم كان دورها سنة ويوما، منها يوم وليلة حيض وسنة طهر، وكذلك حكم ما زاد ونقص، وظاهر عبارة المصنف أنه أثبت عادة التمييز بمرة، فإما أن يكون فرعه على المذهب وهو ثبوتها بمرة، وإما أن يكون اختياره القطع بثبوتها بمرة، كما قال إمام الحرمين ومن تابعه، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويجوز أن تنتقل العادة فتتقدم وتتأخر، وتزيد وتنقص، وترد إلى آخر ما رأت من ذلك؛ لأن ذلك أقرب إلى شهر الاستحاضة، فإن كان عادتها الخمسة الثانية من الشهر فرأت الدم من أول الشهر واتصل فالحيض هو الخمسة المعتادة. وقال أبو العباس: فيه وجه آخر أن حيضها الخمسة الأولة؛ ; لأنه بدأ بها في وقت يصلح أن يكون حيضا، والأول أصح؛ لأن العادة قد ثبتت في الخمسة الثانية فوجب الرد إليها كما لو لم يتقدم دم، وإن كان عادتها خمسة أيام من أول كل شهر ثم رأت في بعض الشهور الخمسة المعتادة ثم طهرت خمسة عشر يوما ثم رأت الدم وعبر الخمسة عشر فإنها ترد إلى عادتها وهي الخمسة الأولى. وخرج أبو العباس وجها آخر أن الخمسة الأولى من الدم الثاني حيض؛ لأنها رأته في وقت يصلح أن يكون حيضا، والأول هو المذهب؛ لأن العادة قد ثبتت في الحيض من أول كل شهر فلا تتغير إلا بحيض صحيح".
الشرح: هذا الفصل كثير المسائل ويقتضي أمثلة كثيرة، وقد اختصره المصنف وأشار إلى مقصوده، ولا بد في "الشرح" من بسطه وإيضاح أقسامه وأمثلته، فالعمل بالعادة المتنقلة متفق عليه في الجملة، ولكن في بعض صوره تفصيل وخلاف، فإذا كان عادتها الخمسة الثانية من الشهر فرأت في بعض الشهور الخمسة الأولى دما وانقطع فقد تقدمت عادتها ولم يزد حيضها ولم ينقص ولكن نقص

 

ج / 2 ص -309-       طهرها فصار عشرين بعد أن كان خمسة وعشرين، وإن رأته في الخمسة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة فقد تأخرت عادتها ولم يزد حيضها ولم ينقص، ولكن زاد طهرها، وإن رأته في الخمسة الثانية مع الثالثة فقد زاد حيضها وتأخرت عادتها، وإن رأته في الخمسة الأولى والثانية فقد زاد حيضها وتقدمت عادتها، وإن رأته في الخمسة الأولى والثانية والثالثة فقد زاد حيضها فصار خمسة عشر وتقدمت عادتها وتأخرت، وإن رأته في أربعة أيام أو ثلاثة أو يومين أو يوم من الخمسة المعتادة فقد نقص حيضها ولم تنتقل عادتها، وإن رأته في يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة من الخمسة الأولى فقد نقص حيضها وتقدمت عادتها، وإن رأت ذلك في الخمسة الثالثة أو الرابعة أو ما بعد ذلك فقد نقص حيضها وتأخرت عادتها. قال القاضي أبو الطيب وغيره: لا خلاف في كل هذه الصور بين أصحابنا. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن رأته قبل العادة فليس بحيض، وإن رأته بعدها فحيض؛ لأن المتأخر تابع. دليلنا أنه دم صادف الإمكان فكان حيضا. 
قال أصحابنا: ثم في كل هذه الصور إذا استحيضت فأطبق دمها بعد عادة من هذه العادات ردت إليها إن كانت تكررت. فإن لم تتكرر ردت إليها أيضا على المذهب. وفيها الخلاف السابق في ثبوت العادة بمرة أو مرتين فإن لم نثبتها بمرة ردت إلى العادة القديمة. أما إذا كان عادتها خمسة من أول الشهر فرأت في شهر ستة وطهرت باقيه، ثم رأت في الشهر الذي يليه سبعة وطهرت ثم استحيضت في الثالث واستمر الدم المبهم، فإن أثبتنا العادة بمرة ردت إلى السبعة. فإن قلنا: لا تثبت إلا بمرتين فوجهان: أصحهما: عند إمام الحرمين ترد إلى الخمسة فإنها المتكررة حقيقة على خيالها، والثاني: وهو الأشهر وصححه الرافعي وغيره: ترد إلى الستة؛ لأنها تكررت فوجدت مرة منفردة ومرة مندرجة في جملة السبعة، وإن قلنا بالوجه الشاذ: إنها لا تثبت إلا بثلاث مرات ردت إلى الخمسة قطعا.
أما بيان قدر الطهر إذا تغيرت العادة ففيه صور، فإذا كان عادتها خمسة من أول الشهر فرأت في شهر الخمسة الثانية فقد صار دورها المتقدم على هذه الخمسة خمسة وثلاثين، منها خمسة حيض وثلاثون طهر، فإن تكرر هذا بأن رأت بعد هذه الخمسة ثلاثين طهرا ثم عاد الدم في الخمسة الثالثة من الشهر الآخر، وهكذا مرارا أو مرتين ثم استحيضت فأطبق الدم المبهم فإنها ترد إلى هذا أبدا فيكون لها خمسة حيضا وثلاثون طهرا، وهذا متفق عليه.
وإن لم يتكرر بأن استمر الدم من أول الخمسة الثانية، فهل نحيضها في هذا الشهر؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: لا حيض لها في هذا الشهر، فإذا جاء الشهر الثاني ابتدأت من أوله حيضا خمسة أيام وباقيه طهر، وهكذا جميع الشهور كما كانت عادتها.  والوجه الثاني: وهو قول جمهور الأصحاب: نحيضها في هذا الشهر خمسة من أول الدم المبتدأ وهي الخمسة الثانية، ثم إن أثبتنا العادة بمرة جعلنا دورها خمسة وثلاثين، منها خمسة حيض والباقي طهر، وهكذا أبدا. وإن لم نثبتها بمرة فوجهان الصحيح منهما وهو الذي نقله إمام الحرمين وغيره من المحققين أن طهرها خمسة وعشرون بعد الخمسة؛ لأن ذلك هو المتكرر من طهرها، والثاني: أن طهرها في هذا الدور

 

ج / 2 ص -310-       عشرون وهو الباقي في هذا الشهر، ثم تحيض من أول الشهر الثاني خمسة وتطهر باقيه، وهكذا أبدا مراعاة لعادتها القديمة قدرا ووقتا، فهذا الذي حكيناه عن جمهور الأصحاب هو الصواب المعتمد، وأما قول أبي إسحاق فضعيف جدا، قال إمام الحرمين: إنما قال أبو إسحاق هذا لاعتقاده لزوم أول الأدوار ما أمكن قال الإمام: وهذا الوجه وإن صح عن أبي إسحاق فهو متروك عليه معدود من هفواته، قال: وهو كثير الغلط في الحيض، ومعظم غلطه من إفراطه في اعتبار أول الدور. ووجه غلطه أنها إذا رأت الخمسة الثانية ثم استمر، فأول دمها في زمن إمكان الحيض، وقد تقدم عليه طهر كامل، فالمصير إلى تخلية هذا الشهر عن الحيض باطل لا أصل له. قال الإمام: ثم نقل النقلة عن أبي إسحاق غلطا فاحشا فقالوا: عنده لو رأت في الخمسة الثانية دما ثم استمر إلى آخر الشهر ثم رأت خمسة أيام نقاء من أول الشهر الثاني ثم استمر الدم إلى آخر الشهر ثم رأت النقاء خمسة ثم استمر الدم إلى آخر الشهر ثم رأت النقاء خمسة، وهكذا على هذا الترتيب سنين كثيرة، فهذه امرأة لا حيض لها، وهذا في نهاية من السقوط والركاكة، هذا آخر كلام الإمام.
ثم إن إمام الحرمين والغزالي والرافعي وآخرين نقلوا مذهب أبي إسحاق كما قدمته، وهو أنه لا حيض لها في الشهر الأول، فإذا جاء الثاني فلها من أوله خمسة حيض وباقيه طهر، وكذا ما بعده من الشهور فيستمر دورها ثلاثين يوما أبدا.
وقال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه "الفروق" على مذهب أبي إسحاق: زاد 1 طهرها وصار خمسة وخمسين يوما وصار دورها ستين يوما أبدا، خمسة حيض وخمسة وخمسون طهر تفريعا على المذهب أن العادة تثبت بمرة، وهذا الذي نقله الشيخ أبو محمد ظاهر، لكن المشهور عنه ما قدمناه والله أعلم.
أما إذا كان عادتها خمسة من أول الشهر فرأت الدم في الخمسة الثانية وانقطع ثم عاد في أول الشهر الثاني فقد صار دورها خمسة وعشرين، فإن تكرر بأن رأت الدم في أول الشهر الثاني خمسة، ثم طهرت خمسة وعشرين، ثم عاد الدم، وهكذا مرارا أو مرتين ثم استحيضت ردت إلى ذلك وجعل دورها خمسة وعشرين أبدا، وإن لم يتكرر بأن عاد في الخمسة الأولى واستمر، فالخمسة الأولى حيض بلا خلاف، وأما الطهر فإن أثبتنا العادة بمرة فهو عشرون، وإلا فخمسة وعشرون. وأما إذا حاضت خمستها المعهودة أول الشهر ثم طهرت عشرين، ثم عاد الدم في الخمسة الأخيرة من هذا الشهر فقد تقدم حيضها وصار دورها خمسة وعشرين، فإن تكرر ذلك بأن رأت الخمسة الأخيرة دما وانقطع ثم طهرت عشرين ثم رأت الدم خمسة ثم طهرت عشرين وهكذا مرات أو مرتين ثم استحيضت ردت إلى ذلك وجعل دورها أبدا خمسة وعشرين، وإن لم يتكرر بأن استمر الدم الخمسة الأخيرة قال الرافعي: فحاصل ما يخرج من طرق الأصحاب في هذه المسألة ونظائرها أربعة أوجه,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  كذا بالأصل ولعل العبارة: "وزاد الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق على مذهب أبي إسحاق: إذا زاد طهرها الخ" (ط).

 

ج / 2 ص -311-       أصحها: تحيض خمسة من أول الدم وتطهر عشرين وهكذا أبدا. والثاني: تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين الثالث: تحيض عشرة من هذا الدم وتطهر خمسة وعشرين، ثم تحافظ على دورها القديم.
والرابع: أن الخمسة الأخيرة استحاضة، وتحيض من أول الشهر خمسة وتطهر خمسة وعشرين على عادتها القديمة، وقد تقدم عن أبي إسحاق المحافظة على أول الدور، والحكم بالاستحاضة فيما قبله. واختلفوا في قياسه فقيل: قياسه الوجه الثالث، وقيل: بل الرابع.
أما لو كانت المسألة بحالها فحاضت خمستها وطهرت أربعة عشر يوما ثم عاد الدم واستمر فالمتخلل بين حيضتها والدم ناقص عن أقل الطهر وفيها أربعة أوجه. أصحها: أن يوما من أول الدم العائد استحاضة تكميلا للطهر، وخمسة بعده حيض وخمسة عشر طهر وصار دورها عشرين. والثاني: أن اليوم الأول من الدم العائد استحاضة ثم العشرة الباقية من هذا الشهر مع خمسة من أول الذي يليه حيض ومجموعه خمسة عشر ثم تطهر خمسة وعشرين تمام الشهر، وتحافظ على دورها القديم. والثالث: أن اليوم الأول من الدم العائد استحاضة وبعده خمسة حيض وخمسة وعشرون طهر وهكذا أبدا. والرابع: أن جميع الدم العائد إلى آخر الشهر استحاضة وتفتتح دورها القديم من أول الشهر الثاني والله أعلم.
أما إذا كانت عادتها الخمسة الثانية فرأت الدم من أول الشهر واتصل، ففيه الوجهان المشهوران في الكتاب: الصحيح: منهما عند المصنف وشيخه أبي الطيب وصاحب "البيان" وغيرهم أن حيضها الخمسة المعتادة؛ لأن العادة تثبت فيها فلا تغير إلا بحيض صحيح. فعلى هذا يبقى دورها كما كان. والثاني: وهو قول أبي العباس: حيضها الخمسة الأولى من الشهر فعلى هذا يكون قد نقص طهرها خمسة أيام وصار دورها خمسة وعشرين ولو كانت المسألة بحالها فرأت الخمسة المعتادة وطهرت دون الخمسة عشر، ثم رأت الدم واتصل فإنها تبقى على عادتها بلا خلاف ووافق عليه أبو العباس.
أما إذا كان عادتها الخمسة الأولى فرأتها ثم طهرت خمسة عشر ثم أطبق الدم واستمر فوجهان: المذهب عند المصنف وشيخه وغيرهما: أنها على عادتها ويكون حيضها خمسة من أول كل شهر وباقيه طهر، فعلى هذا يكون باقي هذا الشهر طهرا ولا أثر للدم الموجود فيه، والثاني: أن الخمسة الأولى من الدم الثاني حيض، فعلى هذا يصير دورها عشرين، خمسة حيض، وخمسة عشر طهر، ولو رأت الخمسة المعتادة وطهرت عشرة، ثم رأت دما متصلا ردت إلى الخمسة المعتادة من أول كل شهر بلا خلاف. أما إذا كان عادتها خمسة أول الشهر، فرأت في أول الشهر خمسة حمرة ثم أطبق السواد إلى آخر الشهر فهو مبني على ما سبق في فصل المميزة، فإن قلنا: إن الأسود لا يرفع حكم الأحمر كان حيضها الخمسة الأولى وهي أيام الأحمر، وإن قلنا بالمذهب: إنه يرفعه، فحيضها خمسة من أول

 

ج / 2 ص -312-       الأسود، وقد انتقلت عادتها. ولو كانت المسألة بحالها فرأت في أول الشهر خمسة حمرة ثم خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة، ففيها الأوجه الثلاثة السابقة في مثلها في المبتدأة، فإن قلنا هناك: حيضها السواد فحيضها هنا الخمسة الثانية، وقد انتقلت عادتها، وإن قلنا هناك: إنها غير مميزة، فحيضها هنا الخمسة الأولى وهي أيام عادتها، وإن قلنا هناك: حيضها العشرة الأولى، فحيضها هنا العشرة أيضا وهي الحمرة والسواد، وقد زادت عادتها. 
هذا كله في العادة الواحدة، أما إذا كان لها عادات فقد تكون منتظمات، , وقد لا تكون فالأول مثل إن كانت تحيض من شهر ثلاثة أيام ثم من الذي بعده خمسة ثم من الذي بعده سبعة ثم تعود في الشهر الرابع إلى الثلاثة وفي الخامس إلى الخمسة، وفي السادس إلى السبعة ثم تعود في السابع إلى الثلاثة وفي الثامن إلى الخمسة، وهكذا فتكررت لها هذه العادة، ثم استحيضت وأطبق الدم ففي ردها إلى هذه العادة وجهان مشهوران للخراسانيين أصحهما: ترد إليها، وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين منهم أبو محمد الجويني والمتولي؛ ; لأنها عادة فردت إليها كالوقت والقدر. والثاني: لا ترد صححه البغوي؛ لأن كل واحد من هذه المقادير ينسخ ما قبله ولا فرق على الوجهين بين انقطاع عادتها على الوجه المذكور أو غيره بأن كانت ترى خمسة ثم ثلاثة ثم سبعة أو سبعة ثم خمسة ثم ثلاثة وينتظم كذلك، ولا فرق أيضا بين أن ترى كل واحد من هذه المقادير مرة أو مرات، بأن كانت ترى في شهر ثلاثة، وفي الثاني ثلاثة، وفي الثالث ثلاثة، وفي الرابع خمسة، وكذا في الخامس والسادس وفي السابع سبعة وفي الثامن والتاسع كذلك ثم تعود إلى الثلاثة متكررة ثم الخمسة كذلك ثم السبعة كذلك.
قال أصحابنا: ولو رأت الأعداد الثلاثة في ثلاثة أشهر فقط فرأت في شهر ثلاثة ثم في شهر خمسة ثم في شهر سبعة واستحيضت في الرابع، فلا خلاف أنها لا ترد إلى هذه العادات، كذا قاله إمام الحرمين وغيره، قالوا: لأنا إن أثبتنا العادة بمرة فالقدر الأخير نسخ ما قبله وإن لم نثبتها بمرة فظاهر. قال الرافعي: ولهذا قال الأئمة: أقل ما تستقيم فيه العادة في المثال المذكور أولا ستة أشهر، فإن كانت ترى هذه المقادير مرتين مرتين فأقله سنة، فحصل أن محل الوجهين إذا تكررت العادة الدائرة. ثم إن قلنا بالصحيح: إنها ترد إلى هذه العادة فاستحيضت بعد شهر الثلاثة ردت في أول شهر الاستحاضة إلى الخمسة، وفي الثاني إلى السبعة، وفي الثالث إلى الثلاثة، وفي الرابع إلى الخمسة، وفي الخامس إلى السبعة، وفي السادس إلى الثلاثة، وفي السابع إلى الخمسة، وهكذا أبدا، وإن استحيضت بعد شهر الخمسة ردت إلى السبعة ثم إلى الثلاثة ثم إلى الخمسة ثم إلى السبعة وهكذا. وإن استحيضت بعد شهر السبعة، ردت إلى الثلاثة ثم الخمسة ثم السبعة ثم الثلاثة، وهكذا أبدا، ولا يخفى بعد هذا ما إذا كانت ترى الثلاثة في شهرين، ثم الخمسة كذلك، ثم السبعة كذلك.
وإن قلنا: لا ترد إلى هذه العادة فقد نقل الغزالي رحمه الله فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ترد إلى القدر الأخير قبل الاستحاضة أبدا، بناء على ثبوت العادة وانتقالها بمرة واحدة. والثاني: ترد إلى القدر المشترك بين الحيضتين السابقتين للاستحاضة أبدا، فعلى هذا إن

 

ج / 2 ص -313-       استحيضت بعد شهر الخمسة أو الثلاثة ردت إلى الثلاثة؛ لأنها المشتركة بين الشهرين السابقين، وإن استحيضت بعد السبعة ردت إلى الخمسة؛ لأنها المشتركة، والوجه الثالث: أنها كالمبتدأة؛ لأن شيئا من هذه الأقدار لم يصر عادة لعدم تكرره على حاله ولا أثر لتكرره في ضمن غيره فإنه حينئذ ليس بحيضة بل بعضها. قال الرافعي: وهذان الوجهان مفرعان على أن العادة لا تثبت بمرة، قال: ولم أر بعد البحث نقل هذه الأوجه تفريعا على قولنا: لا ترد إلى هذه العادة لغير الغزالي، ولم يذكرها شيخه إمام الحرمين، وإنما ذكرها شيخه فيما إذا لم تتكرر العادة الدائرة، وقد سبق أن محل الوجهين ما إذا تكررت فثبت انفراد الغزالي بنقل هذه الأوجه على هذا الوجه، والذي ذكره غيره تفريعا عليه الرد إلى القدر المتقدم على الاستحاضة لا غير، ثم إذا رددناها إلى القدر المتقدم على الاستحاضة هل يلزمها الاحتياط فيما بين أقل العادات وأكثرها؟ فيه وجهان أصحهما لا، كذات العادة الواحدة لا تحتاط بعد الرد، والثاني: يلزمها لاحتمال امتداد الحيض إليه، فعلى هذا يجتنبها الزوج إلى آخر السبعة في المثال المذكور.
ثم إن استحيضت بعد شهر الثلاثة تحيضت من كل شهر ثلاثة ثم تغتسل وتصلي وتصوم عقب الثلاثة، ثم تغتسل مرة أخرى عقب الخمسة، ثم تغتسل عقب السبعة، وتقضي صوم السبعة، أما الثلاثة فإنها لم تصمها، وأما الباقي فلاحتمال الحيض، ولا تقضي الصلاة أصلا؛ لأن الثلاثة حيض. وما بعدها صلت فيه. وإن استحيضت بعد شهر الخمسة تحيضت من كل شهر خمسة، ثم تغتسل وتصوم وتصلي عقب الخمسة ثم تغتسل عقب السبعة، وتقضي صوم الجميع، وتقضي صلوات اليوم الرابع والخامس لاحتمال طهرها فيهما، ولم تصل فيهما، وإن استحيضت بعد شهر السبعة تحيضت من كل شهر سبعة، واغتسلت عقب السابع وقضت صوم السبعة وصلوات ما بعد الثلاثة المتيقنة والله أعلم.
هذا كله إذا ذكرت العادة المتقدمة على الاستحاضة. فإن نسيتها فطريقان: أحدهما: حكاه الجرجاني في التحرير، فيها قولان: أحدهما: أنها كالمبتدأة، والثاني: ترد إلى الثلاث والطريق الثاني: وهو المذهب وبه قطع الأصحاب في جميع الطرق أنها تحتاط فتحيض من كل شهر ثلاثة أيام؛ لأنها أقل الأقدار التي عهدتها وهي حيض بيقين، ثم تغتسل في آخر الثلاث وتصوم وتصلي، ولا تمس مصحفا، وتجتنب المسجد والقراءة والوطء ثم تغتسل في آخر الخامس، وفي آخر السابع، وتتوضأ فيما بين ذلك لكل فريضة كسائر المستحاضات وهي طاهر إلى آخر الشهر، قال أصحابنا: وهكذا حكمها في كل شهر أبدا.
قال الرافعي: وهل يختص ما ذكرناه بقولنا ترد إلى العادة الدائرة؟ أم هو مستمر على الوجهين؟ مقتضى كلام الأكثرين أنه مستمر على الوجهين، وقال إمام الحرمين: يختص بقولنا. ترد إلى العادة الدائرة، فأما إن قلنا ترد إلى القدر المقدم على الاستحاضة فوجهان: أحدهما: ترد إلى أقل العادات والثاني: أنها كالمبتدأة، , وقد سبق فيها قولان في أنها هل تحتاط إلى آخر الخمسة عشر، ويجريان

 

ج / 2 ص -314-       هنا. الحال الثاني: إذا لم تكن العادات منتظمات بل كانت هذه العادات مختلفات تارة تتقدم الثلاثة على الخمسة وتارة عكسه، وتارة يتقدمان على السبعة وتارة عكسه وتارة تتوسط السبعة وغير ذلك من الاختلاف.
قال الرافعي: ذكر إمام الحرمين والغزالي: أن هذه الحالة تبنى على حالة الانتظام إن قلنا هناك: لا ترد إلى العادة الدائرة فهنا أولى فترد إلى القدر المتقدم على الاستحاضة، وإن قلنا هناك: ترد إلى العادة الدائرة فعدم الانتظام كالنسيان فتحتاط كما سبق، قال: وذكر غيرهما طرقا حاصلها ثلاثة أوجه، أصحها: الرد إلى القدر المتقدم على الاستحاضة بناء على ثبوت العادة بمرة: والثاني: إن تكرر المتقدم عليها ردت إليه، وإلا فإلى أقل عاداتها؛ لأنه متكرر؛ والثالث: أنها كالمبتدأة، فإن قلنا بالوجهين الأولين احتاطت إلى آخر أكثر العادات، وإن قلنا: كالمبتدأة ففي الاحتياط إلى آخر الخمسة عشر القولان، هكذا نقله الرافعي عن الأصحاب. وقال. المتولي: هل يلزمها الاحتياط على هذه الأوجه الثلاثة؟ فيه وجهان، هذا كله إذا عرفت القدر المتقدم على الاستحاضة، فإن نسيته والعادات غير منتظمة فوجهان: أصحهما وبه قال الأكثرون ترد إلى أقل العادات. والثاني: أنها كالمبتدأة، فعلى هذا في الاحتياط الخلاف الذي في المبتدأة، وعلى هذا يجب الاحتياط إلى آخر أكثر العادات على أصح الوجهين، وقيل: يستحب. قال الرافعي: الصحيح من الخلاف في الاحتياط عند العلم في حال الانتظام أنها لا تحتاط، والصحيح في النسيان وفي حال عدم الانتظام أيضا تحتاط، لكن في آخر أكثر الأقدار لا إلى تمام الخمسة عشر. قال البغوي: ولو لم ينتظم أوائل العادات بأن كانت تحيض في بعض الأشهر في أوله وفي بعضها في آخره وفي بعضها في وسطه، ردت إلى ما قبل الاستحاضة. فإن جهلته فهي كالناسية، فمن أول الشهر إلى انقضاء أقل عاداتها تتوضأ لكل فريضة ثم تغتسل بعد ذلك لكل فريضة إلى آخر الشهر والله أعلم. .
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كانت 1 معتادة مميزة، وهي أن يكون عادتها أن تحيض في كل شهر خمسة أيام، ثم رأت في شهر عشرة أيام دما أسود، ثم دما أحمر أو أصفر واتصل، ردت إلى التمييز وجعل حيضها أيام السواد وهي العشرة، وقال أبو علي بن خيران ترد إلى العادة وهي الخمسة، والأول أصح؛ لأن التمييز علامة قائمة في شهر الاستحاضة فكان اعتباره أولى من اعتبار عادة انقضت".
الشرح: إذا كان عادتها خمسة من أول الشهر ثم استحيضت وهي مميزة، فإن وافق التمييز العادة بأن رأت الخمسة الأولى سوادا وباقي الشهر حمرة فحيضها الخمسة بلا خلاف، وإن لم يوافقها فثلاثة أوجه: الصحيح: باتفاق المصنفين أنها ترد إلى التمييز، وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق قال البندنيجي: هو المنصوص. وقال الماوردي: هو مذهب الشافعي رحمه الله لقوله صلى الله عليه وسلم:
"دم الحيض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  نسخة المهذب المطبوعة هكذا: "فإن كانت معتادة لحين وهي أن تكون لها عدة في كل شهر أن تحيض خمسة أيام" (ط).

 

ج / 2 ص -315-       أسود"؛ ولأن التمييز علامة ظاهرة؛ ولأنه علامة في موضع النزاع، والعادة علامة في نظيره، , وسواء على هذا زاد التمييز على العادة أو نقص، والثاني: ترد إلى العادة، وهو قول ابن خيران والإصطخري ومذهب أبي حنيفة وأحمد لقوله: صلى الله عليه وسلم: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن". ولم يفصل؛ ولأن العادة قد ثبتت واستقرت والتمييز معرض للزوال، ولهذا لو زاد الدم القوي على خمسة عشر بطلت دلالته، فعلى هذا لو نسيت عادتها فحكمها حكم ناسية لا تمييز لها، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهذا الوجه وإن كان قد وجهناه توجيها حسنا فهو ضعيف عند الأصحاب.
قال الشيخ أبو حامد: قال أبو إسحاق المروزي: انكدر على أبي علي بن خيران وأبي سعيد: لم يأخذا بمذهب صاحبهما يعني الشافعي، ولا صارا إلى دليل. وقال القاضي أبو الطيب: قال أبو إسحاق: هذا الذي قالاه غلط لا يعذر قائله، قلت: وهذا إفراط. والوجه الثالث: إن أمكن الجمع بين العادة والتمييز حيضناها الجميع عملا بالدلالتين وإن لم يمكن سقطا وكانت كمبتدأة لا تمييز لها وفيها القولان. وهذا الوجه مشهور عند الخراسانيين ولكنه أضعف من الذي قبله. مثال ما ذكرناه: كان عادتها خمسة من أول الشهر فرأت خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة فحيضها خمسة السواد باتفاق الأوجه الثلاثة، ولو رأت عشرة سوادا ثم أطبقت الحمرة فعلى الوجه الأول والثالث حيضها العشرة. وعلى الثاني حيضها خمسة من أول السواد، ولو رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة فعلى الأول حيضها السواد وعلى الثاني خمسة الحمرة وعلى الثالث العشرة. ولو رأت عشرة حمرة ثم خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة، فعلى الأول حيضها السواد وعلى الثاني خمسة من أول عشرة الحمرة وعلى الثالث عشرة الحمرة مع خمسة السواد. ولو رأت السواد يوما أو يومين أو ثلاثة أو أربعة أو ستة أو سبعة أو ما زاد إلى خمسة عشر ثم أطبقت الحمرة. فعلى الأول حيضها السواد مطلقا، وعلى الثاني خمسة من أول الشهر مطلقا، وعلى الثالث الأكثر من التمييز والعادة. ولو رأت خمسة حمرة ثم أحد عشر سوادا فعلى الأول حيضها السواد، وعلى الثاني الحمرة، وعلى الثالث لا يمكن الجمع. ويجيء على الأول وجه أن حيضها الحمرة بناء على تقديم الأولية على اللون في حق المميزة. ، وقد سبق بيانه، , وقد صرح به هنا صاحب "الحاوي".
فعلى هذا يتفق القول بالتمييز والقول بالعادة أن حيضها خمسة الحمرة، وإنما يختلفان في مأخذه، هل هو التمييز أو العادة؟ كما قالوا فيما لو رأت خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة أو خمسة حمرة ثم أطبقت الصفرة، فإن حيضها الخمسة الأولى على الأوجه كلها، وإنما يختلفون في مأخذه، ولو رأت عشرين حمرة ثم خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة فقال الفوراني والبغوي وصاحب العدة: الخمسة الأولى من أول الأحمر عادتها وأيام السواد حيض آخر وما بينهما طهر. قالوا: وهذا متفق عليه وحكى الرافعي هذا ثم قال: ومنهم من قال هذا صحيح على الوجه الثالث، وأما على الأول فحيضها السواد وطهرها المتقدم عليه خمسة وأربعون، وصار دورها خمسين يوما. وإن قلنا: بالثاني فحيضها خمسة من أول الشهر وخمسة وعشرون بعدها طهر على عادتها والله أعلم.
فرع: قد ذكرنا أن مذهبنا أن العادة إذا انفردت عمل بها وإذا انفرد التمييز عمل به، وإذا اجتمعا

 

ج / 2 ص -316-       أسود"؛ ولأن التمييز علامة ظاهرة؛ ولأنه علامة في موضع النزاع، والعادة علامة في نظيره، , وسواء على هذا زاد التمييز على العادة أو نقص، والثاني: ترد إلى العادة، وهو قول ابن خيران والإصطخري ومذهب أبي حنيفة وأحمد لقوله: صلى الله عليه وسلم: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن". ولم يفصل؛ ولأن العادة قد ثبتت واستقرت والتمييز معرض للزوال، ولهذا لو زاد الدم القوي على خمسة عشر بطلت دلالته، فعلى هذا لو نسيت عادتها فحكمها حكم ناسية لا تمييز لها، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهذا الوجه وإن كان قد وجهناه توجيها حسنا فهو ضعيف عند الأصحاب.
قال الشيخ أبو حامد: قال أبو إسحاق المروزي: انكدر على أبي علي بن خيران وأبي سعيد: لم يأخذا بمذهب صاحبهما يعني الشافعي، ولا صارا إلى دليل. وقال القاضي أبو الطيب: قال أبو إسحاق: هذا الذي قالاه غلط لا يعذر قائله، قلت: وهذا إفراط. والوجه الثالث: إن أمكن الجمع بين العادة والتمييز حيضناها الجميع عملا بالدلالتين وإن لم يمكن سقطا وكانت كمبتدأة لا تمييز لها وفيها القولان. وهذا الوجه مشهور عند الخراسانيين ولكنه أضعف من الذي قبله. مثال ما ذكرناه: كان عادتها خمسة من أول الشهر فرأت خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة فحيضها خمسة السواد باتفاق الأوجه الثلاثة، ولو رأت عشرة سوادا ثم أطبقت الحمرة فعلى الوجه الأول والثالث حيضها العشرة. وعلى الثاني حيضها خمسة من أول السواد، ولو رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة فعلى الأول حيضها السواد وعلى الثاني خمسة الحمرة وعلى الثالث العشرة. ولو رأت عشرة حمرة ثم خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة، فعلى الأول حيضها السواد وعلى الثاني خمسة من أول عشرة الحمرة وعلى الثالث عشرة الحمرة مع خمسة السواد. ولو رأت السواد يوما أو يومين أو ثلاثة أو أربعة أو ستة أو سبعة أو ما زاد إلى خمسة عشر ثم أطبقت الحمرة. فعلى الأول حيضها السواد مطلقا، وعلى الثاني خمسة من أول الشهر مطلقا، وعلى الثالث الأكثر من التمييز والعادة. ولو رأت خمسة حمرة ثم أحد عشر سوادا فعلى الأول حيضها السواد، وعلى الثاني الحمرة، وعلى الثالث لا يمكن الجمع. ويجيء على الأول وجه أن حيضها الحمرة بناء على تقديم الأولية على اللون في حق المميزة. ، وقد سبق بيانه، , وقد صرح به هنا صاحب "الحاوي".
فعلى هذا يتفق القول بالتمييز والقول بالعادة أن حيضها خمسة الحمرة، وإنما يختلفان في مأخذه، هل هو التمييز أو العادة؟ كما قالوا فيما لو رأت خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة أو خمسة حمرة ثم أطبقت الصفرة، فإن حيضها الخمسة الأولى على الأوجه كلها، وإنما يختلفون في مأخذه، ولو رأت عشرين حمرة ثم خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة فقال الفوراني والبغوي وصاحب العدة: الخمسة الأولى من أول الأحمر عادتها وأيام السواد حيض آخر وما بينهما طهر. قالوا: وهذا متفق عليه وحكى الرافعي هذا ثم قال: ومنهم من قال هذا صحيح على الوجه الثالث، وأما على الأول فحيضها السواد وطهرها المتقدم عليه خمسة وأربعون، وصار دورها خمسين يوما. وإن قلنا: بالثاني فحيضها خمسة من أول الشهر وخمسة وعشرون بعدها طهر على عادتها والله أعلم.
فرع: قد ذكرنا أن مذهبنا أن العادة إذا انفردت عمل بها وإذا انفرد التمييز عمل به، وإذا اجتمعا

 

ج / 2 ص -317-       صوم الشهر، وإن لزمها صوم ثلاثة أيام قضتها من تسعة عشر يوما، أربعة من أولها وأربعة من آخرها، وإن لزمها صوم أربعة أيام قضتها من عشرين يوما خمسة من أولها وخمسة من آخرها وكلما زاد في هذه المدة يوم زاد في الصوم يومان، يوم في أوله، ويوم في آخره، وعلى هذا القياس يعمل في طوافها".
الشرح: هذه المسألة وما بعدها من مسائل الناسية، وهو من عويص باب الحيض، بل هي معظمة. وهي كثيرة الصور والفروع والقواعد والتمهيدات والمسائل المشكلات، وقد غلط الأصحاب بعضهم بعضا في كثير منها واهتموا بها حتى صنف الدارمي فيها مجلدة ضخمة ليس فيها غير مسألة المتحيرة وتقريرها وتحقيق أصولها، واستدراكات كثيرة استدركها هو على كثير من الأصحاب، وسترى ما أنقل منها هنا من نفائس التحقيق إن شاء الله تعالى.
وقد كنت اختصرت مقاصد تلك المجلدة في نحو خمس كراريس، وقد رأيت الآن الاقتصار على نبذ يسيرة من ذلك. وينبغي للناظر فيها أن يعتني بحفظ ضوابطها وأصولها فيسهل عليه بعده جميع ما يراه من صورها، واتفق أصحابنا المتقدمون والمتأخرون على أن ناسية الوقت والعدد تسمى متحيرة. قال الدارمي والقاضي حسين وغيرهما: وتسمى أيضا محيرة بكسر الياء؛ لأنها تحير الفقيه في أمرها، ولا يطلق اسم المتحيرة إلا على من نسيت عادتها قدرا ووقتا ولا تمييز لها، وأما من نسيت عددا لا وقتا وعكسها فلا يسميها الأصحاب متحيرة وسماها الغزالي متحيرة، والأول هو المعروف.
ثم إن النسيان قد يحصل بغفلة أو إهمال أو علة متطاولة لمرض ونحوه أو لجنون وغير ذلك، وإنما تكون الناسية متحيرة إذا لم تكن مميزة، فإن كانت مميزة فقد سبق قريبا - أن المذهب أنها ترد إلى التمييز.
واعلم أن حكم المتحيرة لا يختص بالناسية، بل المبتدأة إذا لم تعرف وقت ابتداء دمها كانت متحيرة، وجرى عليها أحكامها،, وقد ذكرنا هذا في فصل المبتدأة والله أعلم.
أما حكم المتحيرة ففيها ثلاثة طرق: أصحها وأشهرها والذي قطع الجمهور به أن فيها قولين: أصحهما عند الأصحاب: أنها تؤمر بالاحتياط كما سنبينه إن شاء الله تعالى، والثاني: أنها كالمبتدأة وهو نصه في باب العدد. والطريق الثاني: القطع بأنها كالمبتدأة، وبه قطع القاضي أبو حامد في جامعه. والثالث: تؤمر بالاحتياط قطعا وهو اختيار الدارمي وصاحب "الحاوي" وغيرهما، وتأول هؤلاء نصه في باب العدد على أنه أراد الناسية لقدر حيضها إذا ذكرت وقته، وقيل: أراد أنها كالمبتدأة في حكم "العدة" أي: يحصل لها من كل شهر قرء، فإن قلنا: إنها كالمبتدأة فطريقان: أشهرهما أنه على قولين:
أحدهما: ترد إلى يوم وليلة. والثاني: ست أو سبع كما في المبتدأة وبهذا الطريق قطع المصنف والقفال والقاضيان أبو الطيب وحسين والفوراني وأبو علي السنجي في "شرح التلخيص" وإمام الحرمين وصاحب "الأمالي" والغزالي والمتولي والبغوي وصاحب "العدة" والشاشي وخلائق.

 

ج / 2 ص -318-       والطريق الثاني: ترد إلى يوم وليلة قولا واحدا، وبه قطع الشيخ أبو حامد والمحاملي وسليم الرازي وابن الصباغ والجرجاني في التحرير والشيخ نصر والصحيح طريقة المصنف وموافقيه في طرد القولين، وبها قال الجمهور. وأما قول صاحب "البيان" في مشكلات المهذب: إن أكثر الأصحاب قالوا: ترد إلى يوم وليلة قولا واحدا فغير مقبول والمشاهد خلافه، كما ذكرناه ورأيناه قال أصحابنا: وإذا رددناها إلى مرد المبتدأة، إما يوم وليلة، وإما ست أو سبع، فابتداء دورها من أول كل هلال حتى لو أفاقت مجنونة متحيرة في أثناء الشهر الهلالي حكم بطهرها باقي الشهر وابتداء حيضها من أول الشهر المستقبل. هكذا قاله الجمهور وهو ظاهر نص الشافعي في كتاب العدد في "مختصر المزني"، فإنه قال: ولو ابتدأت مستحاضة أو نسيت أيام حيضها تركت الصلاة يوما وليلة استقبلنا بها الحيض من أول هلال يأتي عليها، فإذا هل هلال الرابع انقضت عدتها. واختلف أصحابنا في علة تخصيصه بأول الهلال مع أنه حكم لا يقتضيه طبع ولا عادة، فقال جماعة منهم: الغالب أن أول الحيض يبتدئ مع أول الهلال. قال المتولي: لأن أول الهلال تهيج الدماء وأنكر المحققون هذا، وقالوا هذه مكابرة للحس، واحتج له إمام الحرمين بأن المواقيت الشرعية هي بالأهلة وهذا قريب، وقال الغزالي: لأن الهلال مبادى أحكام الشرع، وهذا غير مقبول وهو شبيه الأول في أنه إنكار للحس فإن الزكاة والعدد والديات والجزى والكفارات وغيرها إنما تبتدئ من حين الشروع سواء وافق الهلال أو خالفه، قال إمام الحرمين: وهذا القول وهو رد المتحيرة إلى مرد المبتدأة من أول الهلال قول ضعيف مزيف لا أصل له. هذا قول الجمهور تفريعا على هذا القول الضعيف. وحكى المحاملي وابن الصباغ وآخرون عن ابن سريج وجها أنه يقال لها: متى كان يبتدئ دمك؟ فإن ذكرت وقتا فهو أوله وإلا قيل: متى تذكرين أنك كنت طاهرا؟ فإن قالت: يوم العيد أو عرفات أو نحوها فحيضها عقبه. وقال القفال إذا أفاقت مجنونة متحيرة فابتداء دورها من الإفاقة؛ لأنه وقت التكليف. وأنكر عليه الأصحاب وغلطوه بأنها قد تفيق في أثناء الحيض. ثم على قول القفال: دورها ثلاثون يوما كسائر المستحاضات، فلها في أول كل ثلاثين حيض، وهو يوم وليلة أو ست أو سبع ولا يعتبر الهلال، كذا حكاه عنه المتولي وآخرون.
وقال جمهور أصحابنا في الطريقتين: شهرها بالهلال فلها في كل هلال حيض، قال الرافعي: متى أطلقنا الشهر في المستحاضات أردنا به ثلاثين يوما، سواء كان من أول الهلال أم لا، ولا نعني به الشهر الهلالي إلا في هذا الموضع على هذا القول، قال أصحابنا: فإذا رددناها إلى يوم وليلة أو ست أو سبع فذلك القدر حيض، فإذا مضى اغتسلت وصامت وصلت إلى آخر الشهر وما تأتي به من الصلاة لا قضاء فيه وما تأتي به من الصوم لا تقضي ما زاد منه على خمسة عشر، وفيما بين المرد إلى الخمسة عشر القولان السابقان في المبتدأة ويباح الوطء للزوج بعد المرد. هذا تفريع قول الرد إلى مرد المبتدأة وهو ضعيف باتفاق الأصحاب كما سبق ولا تفريع عليه ولا عمل، وإنما التفريع والعمل على المذهب وهو الأمر بالاحتياط، قال أصحابنا: وإنما أمرت بالاحتياط؛ لأنه اختلط حيضها بغيره وتعذر التمييز بصفة أو عادة أو مرد كمرد المبتدأة، ولا يمكن جعلها طاهرا أبدا في كل شيء، ولا

 

ج / 2 ص -319-       حائضا أبدا في كل شيء، فتعين الاحتياط، ومن الاحتياط تحريم وطئها أبدا، ووجوب العبادات كالصوم والصلاة والطواف والغسل لكل فريضة وغير ذلك مما سنوضحه إن شاء الله تعالى. قال إمام الحرمين: وهذا الذي نأمرها به من الاحتياط ليس هو للتشديد والتغليظ فإنها منسوبة إلى ما يقتضي التغليظ، وإنما نأمرها به للضرورة، فإنا لو جعلناها حائضا أبدا أسقطنا الصوم والصلاة وبقيت دهرها لا تصلي ولا تصوم، وهذا لا قائل به من الأمة. وإن بعضنا الأيام -ونحن لا نعرف أول الحيض وآخره- لم يكن إليه سبيل قال: وينضم إلى هذا أن الاستحاضة نادرة، والمتحيرة أشد ندورا، وقد ينقرض دهور ولا توجد متحيرة، هذا كلام الإمام، وقد أطلق الأصحاب أنها مأمورة بالاحتياط وهو كلام صحيح، سواء كان حقيقة كما هو ظاهر كلامهم أم مجازا كما أشار إليه إمام الحرمين، قال أصحابنا: هي مأمورة بالاحتياط في معظم الأحكام ونحن نفصلها إن شاء الله تعالى في فصول متنوعة، ليسهل الوقوف على المقصود من أحكامها لكثرة انتشارها.

فصل في وطء المتحيرة
قال أصحابنا: يحرم على زوجها وسيدها وطؤها في كل حال وكل وقت لاحتمال الحيض في كل وقت والتفريع على قول الاحتياط، وحكى صاحب "الحاوي" وغيره وجها أنه يحل له؛ لأنه يستحق الاستمتاع ولا نحرمه بالشك؛ ولأن في منعها دائما مشقة عظيمة والمذهب التحريم، وبه قطع الأصحاب في الطرق كلها ونقل المتولي وغيره اتفاقهم عليه، فعلى هذا لو وطئ عصى ولزمه غسل الجنابة ولا يلزمه التصدق بدينار على القول القديم؛ لأنا لم نتيقن الوطء في الحيض، وفي حل الاستمتاع بما بين السرة والركبة، الخلاف السابق في الحيض ذكره جماعات منهم الدارمي والرافعي.

فصل:
في قراءتها القرآن ودخولها المسجد ومس المصحف وحمله وتطوعها بصوم وصلاة وطواف. أما مس المصحف وحمله فحرام عليها وأما دخول المسجد فحكمها فيه حكم الحائض فيحرم عليها المكث فيه ويحرم العبور إن خافت تلويثه. وإن أمنت فوجهان: أصحهما الجواز. هذا في غير المسجد الحرام، وكذا دخولها المسجد الحرام لغير الطواف، وأما دخولها للطواف فيجوز للطواف المفروض، وفي المسنون وجهان سنوضحهما قريبا إن شاء الله تعالى.
وأما قراءة القرآن فحرام في غير الصلاة إلا على القول الضعيف الذي حكاه الخراسانيون عن القديم أنها حلال للحائض، هكذا قاله الأصحاب، واختار الدارمي في كتاب المتحيرة والشاشي جواز القراءة لها. والمشهور التحريم، وأما في الصلاة فتقرأ الفاتحة وفيما زاد عليها وجهان:
قال الرافعي: أصحهما الجواز. وأما تطوعها بالصوم والصلاة والطواف ففيه أوجه: أحدها: أنه يحرم جميع ذلك فإن فعلته لم يصح؛ لأن حكمها حكم الحائض وإنما جوز لها الفرض للضرورة ولا ضرورة هنا. والثاني: وهو الأصح عند الدارمي والشاشي والرافعي وغيرهم من المحققين: يجوز ذلك كما يجوز ذلك للمتيمم مع أنه محدث؛ ولأن النوافل من مهمات الدين وفي منعها تضييق عليها;

 

ج / 2 ص -320-       ولأن النوافل مبنية على التخفيف، وبهذا قطع إمام الحرمين ونقله عن الأصحاب. والوجه الثالث: تجويز السنن الراتبة وطواف القدوم دون النفل المطلق. حكاه صاحب "الحاوي"؛ لأنها تابعة للفرض، فهي كجزء منه والله أعلم.

فصل في عدتها
قال أصحابنا: لا تؤمر في "العدة" بالأحوط والقعود إلى تبين اليأس، بل إذا طلقت أو فسخ نكاحها اعتدت بثلاثة أشهر، أولها من حين الفرقة، فإذا مضت ثلاثة أشهر ولم يكن حمل انقضت عدتها وحلت للأزواج؛ لأن الغالب أن المرأة تحيض وتطهر في كل شهر فحمل أمرها على ذلك. قال أصحابنا: ولأنا لو أمرناها بالقعود إلى اليأس عظمت المشقة وطال الضرر لاحتمال نادر مخالف للظن وغالب عادة النساء بخلاف إلزامها وظائف العبادات فإن الأمر فيه سهل بالنسبة إلى هذا؛ ولأن غيرها يشاركها فيه.
وحكى إمام الحرمين هنا والغزالي في العدد وغيرهما عن صاحب التقريب؛ أنه حكى وجها أنه يلزمها القعود إلى اليأس ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ لأنه الأحوط قال الإمام: وهذا الوجه بعيد في المذهب والذي عليه جماهير الأصحاب الاكتفاء بثلاثة أشهر وهذا هو الصحيح، وبه قطع الأصحاب في معظم الطرق، وحكى الدارمي عن كثير من الأصحاب أنها تعتد بثلاثة أشهر، كما حكيناه عن الجمهور، قال: حتى رأيت للمحمودي من أصحابنا في كتاب الحيض أنها إذا طلقها زوجها لم يراجعها بعد مضي اثنين وثلاثين يوما وساعتين ولا تتزوج إلا بعد ثلاثة أشهر احتياطا لأمرين ثم أنكر الدارمي على الأصحاب قولهم تعتد بثلاثة أشهر وغلطهم في ذلك وبالغ في إبطال قولهم، وإيضاح الصواب عنده، وذكر فيه نحو كراسة مشتملة على نفائس وأنا أشير إلى مقصوده مختصرا.
قال الدارمي: ينبغي أن نبين عدة غيرها، لنبني عليها عدتها، فعدة المطلقة الحائل ثلاثة أقراء، كل قرء طهر إلا الأول فقد يكون بعد طهر، وطلاقها في الحيض بدعة وفي الطهر سنة إلا أن يكون جامعها فيه فبدعة أخف من الحيض، وهل يحسب قرءا فيه وجهان: فإن طلقها في طهر لم يجامعها فيه حسبت بقيته قرءا وأتت بطهرين بعده فإذا رأت الدم بعد ذلك خرجت من "العدة" وقيل: يشترط مضي يوم وليلة، وقيل: إن لم يكن لها عادة مستقيمة اشترط وإلا فلا. وإن طلقها في طهر جامعها فيه فإن حسبناه قرءا فكما لو لم يجامع فيه وإلا وجب ثلاثة أطهار بعده، وإن طلقها في حيض وجب ثلاثة أطهار، وهل يقع الطلاق مع آخر اللفظ أم عقبه؟ فيه وجهان: وهل تشرع في "العدة" مع وقت الحكم بالطلاق أم عقيبه؟ فيه وجهان وللناس خلاف في تجزئ القرء، هل هو إلى غاية أم إلى غير غاية؟ وقد قال كثير من أصحابنا: أقل زمان يمكن انقضاء "العدة" فيه اثنان وثلاثون يوما ولحظتان بأن يطلقها، وقد بقي شيء من الطهر، فتعتد به قرءا ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر، ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر، وهو القرء الثالث ثم ترى الدم لحظة؟ وينبغي أن تبني "العدة" على ما سبق فإذا طلقها وكان جزء من آخر لفظه أو شيء منه على قول من لا يقول بالجزء في أول الحيض وقع

 

ج / 2 ص -321-       الطلاق في الحيض بلا خلاف، وتعتد بالأطهار بعده، وإن طابق الطلاق آخر الطهر، اعتدت به قرءا على قول من أوقع الطلاق على آخر لفظه وحسب من "العدة" ولا يحسب على المذهب الآخر.
ولو بقي بعد طلاقه شيء من آخر الطهر فعلى مذهب من لا يقول بالجزء تعتد به قرءا؛ لأنه ينقسم قسمين فيقع الطلاق في الأول منهما وتعتد بالثاني وهو أغلظ إذا قلنا بالطلاق عقيب لفظه. وبالعدة عقيب الطلاق، وإن قلنا غير ذلك فأولى، وعلى مذهب من يقول بالجزء إن كان الثاني جزءا واحدا فإن قلنا: الطلاق عقيب لفظه والعدة مطابقة للطلاق أو قلنا: الطلاق بآخر لفظه والعدة بعده، حسب قرءا؛ لأن ذاك الجزء وقع فيه الطلاق وطابقته العدة، أو صادفته "العدة" وتقدمه الطلاق في آخر لفظه وإن قلنا: الطلاق بآخر لفظه، والعدة تطابقه فأولى بذلك، وإن قلنا الطلاق عقب لفظه والعدة عقيبه لم يحسب قرءا؛ لأن الطلاق يقع في هذا الجزء ولا يبقى بعده شيء من الطهر للعدة.
وإن كان بقي جزء اعتدت به قرءا على جميع هذه المذاهب، فقد تكون "العدة" على بعض هذه المذاهب اثنين وثلاثين يوما وجزءا، وهو أقل ما يمكن، وذلك أن يطلقها فيطابق آخر طلاقه آخر الطهر، وقلنا: وقع الطلاق بآخر اللفظ وطابقه أول "العدة" فأقل "العدة" إذن نوبتان وزيادة، وأكثرها ثلاث نوب ويوم وليلة وجزء وذلك إن يطلقها، وقد بقي جزء من الطهر على قول من قال به، ولا يحسب قرءا عند من أوقع الطلاق عقيب لفظه وجعل أول "العدة" عقيب الطلاق، ثم تمضي نوبة حيض وطهر فيكون قرءا ثم ثانية يكون ثانيا ثم ثالثه قرءا ثالثا، ثم يمضي يوم وليلة على قول من شرط ذلك. وإن طلقها في طهر جامعها فيه فأطول "العدة" على أغلظ المذاهب ثلاث نوب ويوم وليلة وطهر إلا جزءا، وذلك بأن يكون جامعها عاصيا في آخر الحيض، وطلقها فاتفق آخر لفظه في أول جزء من الطهر وطابقه فنقول: الطلاق بآخر لفظه وهو أول جزء من الطهر وفيه جماع وقلنا: لا تعتد به وذلك طهر إلا جزءا، ثم تمضي نوبة فتعتد بالطهر قرءا ثم نوبة ثانية، ثم ثالثة ثم يوم وليلة فهذا أكثر ما يمكن أن يكون عدة على أشد مذاهبنا ولا يخفى بما ذكرناه تفريع ما في المذاهب وإنما قصدنا بيان أقصى الغايتين في الأقل والأكثر على أقصى المذاهب.
فإذا تقرر هذا رجعنا إلى المتحيرة فنقول: حكم علتها متعلق بالنوبة وهذه المتحيرة لا تعلم شيئا من أمرها إلا أنه مضى لها حيض وطهر، ويدخل في شكها أنها هل هي مبتدأة؟ أم ذات عادة؟ وأنها إن كانت معتادة فلا تعرف عادتها وحكم هذه حكم الأولى للاحتياط؛ لأنها أشد تحيرا. ثم النوبة مأخوذة من الزمان الذي مضى بين ابتداء الدم إلى رؤية الدم المتصل، وقد تعلم قدر نوبتها، وإن جهلت قدر الحيض والطهر منها بأن شكت في قدرها عملنا على أكثر ما يبلغ شكها إليه، فإن ذكرت حدا فقالت: أشك في نوبتي إلا أني أقطع بأنها لا تجاوز شهرين أو سنة جعلنا ذلك نوبتها، فإن أطلقت الشك من غير حد فأضعف أحوالها أن تكون نوبتها من بلوغها تسع سنين، إلى رؤية الدم المتصل فيكون جميع ذلك نوبة. فإن شكت في قدر ذلك جعلته أكثر ما يبلغ شكها وتحتاج أيضا إلى معرفة الزمن الذي بين أول الدم المتصل والطلاق، وهذان الوقتان قد تعلمهما، وقد تجهلهما، وقد تعلم أحدهما وتجهل الآخر، فإن شكت هل هي مبتدأة؟ أم معتادة؟ قابلت بين الزمان الذي اعتبرنا به نوبتها

 

ج / 2 ص -322-       وبين ثلاثين يوما التي هي نوبة المبتدأة، فإن كان ذلك الزمان أكثر جعلته نوبتها على أنها معتادة، وإن كانت الثلاثون أكثر جعلتها نوبتها على أنها مبتدأة، وإن كان الزمان ثلاثين يوما استوى الأمران. ومن هذا يظهر إغفال من قال: عدتها ثلاثة أشهر؛ لأنه يجوز أن يعلم أن عدتها أقل من ذلك أو لا يعلم قدر النوبة، إلا أن الزمان الذي من رؤيتها دم الابتداء إلى دم الاتصال دون ثلاثين، وعلمت أنها معتادة، فإذا علم أثر النوبة عملنا على أنه مضى من الزمان بين رؤية الدم المتصل والطلاق ما هو أغلظ في تطويل "العدة" على أغلظ المذاهب، وذلك أن يكون آخر طلاقه قبل آخر الطهر بجزء على قول من قال به، فيقع الطلاق في ذلك الجزء على مذهب من قال: يقع عقيب لفظه، ولا وقت للقرء من الطهر بعده على مذهب من قال: أول "العدة" عقب وقوع الطلاق، فيحتاج إلى ثلاثة أقراء، يخرج من ثلاث نوب، وهي ثلاثة أمثال الزمان الأول الذي اعتبرناه في استخراج النوبة، ثم يوم وليلة بعد النوب على مذهب من قال: يحتاج إلى اليوم والليلة فحصل ثلاث نوب ويوم وليلة وجزء، ولو أنه عصى بجماعها وطلقها ولم يعلم متى جامعها جعل جماعة كأنه وقع آخره في أول جزء من الطهر، فلم يعتد بذلك الطهر على مذهب من قال ذلك، فتعتد بعده بثلاث نوب ويوم وليلة، ومعرفة الطهر أن تنظر الزمان الذي حكمت بأنه نوبتها فتسقط منه يوما وليلة للحيض ثم تعتد بالباقي منه إلا جزءا ولا تعتد بذلك قرءا ثم بثلاث نوب، ثم يوم وليلة. 
وإنما بينا الحكم على أصعب المذاهب ليخرج عدتها أطول ما يمكن. ومن أحب أن يبني على قياس باقي وجوه أصحابنا فليفعل فقد تكون عدتها دون ثلاثة أشهر بأن يعلم بأنها معتادة والزمان المعتبر به نوبتها دون ثلاثين يوما، وقد يزيد على ذلك إلى أن يبلغ إلى حد يعلم أن سنها لا تبلغه في العادة، وأن سن الحيض لا يبلغه، فإن بلغ الجزء الأول فهي وإن لم تعش إليه فستبلغ سن اليأس، فيكون لها حكم اليائسة، وإن انقطع دمها قبل سن اليأس فلها حكم غيرها من المعتدات التي انقطع دمهن في العدة، فهذا حكمها إذا جهلت نوبتها فعلمت أقصى ما يمكن أن يكون نوبة وجهلت الزمان من الدم والطلاق فعملت على أغلظه، فإن علمت النوبة عملت على قدرها، وكذا إن علمت الزمان بين الدم والطلاق وإن لم تعلم لكن علمت أنه مماثل لنوبتها فالحكم على ما مضى، وإن علمت أنه ينقص عن نوبتها اعتدت بقدر نقصانه قرءا، ثم بيومين ثم بيوم وليلة؛ لأن آخره طهر على هذا التنزيل، وإن شكت في قدر النقصان جعلته أكثر الاحتمال؛ لأنه يطول بها العدة. هذا آخر كلام الدارمي مختصرا وفيه جمل من النفائس. ومع هذا فالعمل على ما قاله الجمهور من الاعتداد بثلاثة أشهر، إلا أن يعلم من عادتها ما يقتضي زيادة أو نقصانا والله أعلم.

فصل في طهارة المتحيرة
قال أصحابنا: إن علمت وقت انقطاع الحيض بأن قالت: أعلم أن حيضتي كانت تنقطع مع غروب الشمس لزمها الغسل كل يوم عقب غروب الشمس، وليس عليها في اليوم والليلة غسل سواه، وتصلي بذلك الغسل المغرب وتتوضأ لما سواها من الصلوات؛ لأن الانقطاع عند كل مغرب محتمل ولا يحتمل فيما سواها، وإن لم يعلم وقت انقطاعه لزمها أن تغتسل لكل فريضة لاحتمال الانقطاع

فصل في صلاتها المكتوبة
قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله: يلزمها أن تصلي الصلوات الخمس أبدا، وهذا لا خلاف فيه؛ لأن كل وقت يحتمل طهرها، فمقتضى الاحتياط وجوب الصلاة، ثم إن الشافعي والأصحاب في الطريقتين لم يشترطوا صلاتها في آخر الوقت، بل أوجبوا الصلاة في الوقت متى شاءت كغيرها، وصرح أكثرهم بهذا، وهو مقتضى إطلاق الباقين. وقطع صاحب "الحاوي" بأن عليها الصلاة في آخر الوقت، ونقله بعد هذا بأسطر عن الأصحاب، وهو موافق لما سبق من قوله في الغسل، وهو وإن كان له وجه فهو شاذ متروك لما فيه من الحرج، ثم إذا صلت الخمس في أوقاتها هل يجب قضاؤها؟ ظاهر نص الشافعي أنه لا يجب؛ لأنه نص على وجوب قضاء الصوم ولم يذكر قضاء الصلاة، وهو ظاهر كلام المصنف.
وقد صرح بأن لا قضاء الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وجمهور العراقيين والغزالي في الوجيز، ونقله الدارمي وصاحب "الحاوي" والشيخ نصر وآخرون عن جمهور

 

ج / 2 ص -323-       قبلها، واعلم أن إطلاق كثيرين من الأصحاب بأن يلزمها الغسل لكل فريضة محمول على ما إذا لم يعلم وقت انقطاعه كما صرح به الأصحاب، وقد صرح به المصنف في مواضع من الفصل بعد هذا. قال أصحابنا: ويشترط أن تغتسل في وقت الصلاة؛ لأنها طهارة ضرورة كالتيمم.  هذا هو الصحيح المشهور وحكى إمام الحرمين وغيره وجها أنها إذا ابتدأت غسلها قبل الوقت وفرغت منه مع أول الوقت جاز؛ لأن الغرض ألا تفصل بين الغسل والصلاة. قال إمام الحرمين: وهذا الوجه غلط. ثم إذا اغتسلت هل تلزمها المبادرة بالصلاة عقب الغسل أم لها تأخيرها عن الغسل؟ فيه طريقان حكاهما إمام الحرمين وغيره: أحدهما: أنه على الوجهين في المستحاضة إذا توضأت هل عليها المبادرة أم لها التأخير؟ فإن قلنا: يلزمها المبادرة فأخرت بطل غسلها ووجب استئنافه، والطريق الثاني: القطع بأنه لا تجب المبادرة. وقال الإمام والغزالي: وهو الأصح. قال الإمام وقول الأول أنها كالمستحاضة غلط؛ لأن إيجاب المبادرة على المستحاضة على الأصح ليقل حدثها وهذا لا يتفق في الغسل؛ لأن عين الدم ليست موجبة للغسل، وإنما الموجب الانقطاع. ولا يتكرر الانقطاع بين الغسل والصلاة، فإن قيل: إذا أخرت الصلاة احتمل انقطاع حيضها بين الغسل والصلاة. قلنا: هذا المعنى لا يختلف تقديره بقصر الزمان وطوله؛ لأنه ممكن مع قصر الزمان وطوله، وما لا حيلة في دفعه يقر على ما هو، لكن إن أخرت الصلاة عن الغسل لزمها الوضوء قبل الصلاة إن قلنا: إنه يلزم المستحاضة، هذا كلام الأصحاب وهو صريح في صحة الغسل في أول الوقت وأثنائه، وقطع صاحب "الحاوي" بأنه يجب الغسل لكل فريضة في وقتها بحيث لا يمكنها بعد الغسل إلا فعل الصلاة لجواز انقطاعه في آخر وقتها، ولا يكفيها الغسل والصلاة السابقان وهو غريب جدا، فحصل أربعة أوجه في غسلها: الصحيح المشهور أنه يشترط وقوعه في وقت الصلاة متى كان، والثاني: يشترط ذلك مع المبادرة إلى الصلاة، والثالث: يكفي وقوع آخره مع أول الوقت، والرابع: يشترط وقوعه قبل آخر الوقت بقدر الصلاة والله أعلم.

 

ج / 2 ص -324-       أصحابنا،؛ لأنها إن كانت حائضا فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهرا فقد صلت. وقال الشيخ أبو زيد المروزي رحمه الله: يجب قضاء الصلوات لجواز انقطاع الحيض في أثناء الصلاة أو بعدها في الوقت، ويحتمل انقطاعه قبل غروب الشمس فيلزمها الظهر والعصر، وقبل طلوع الفجر فيلزمها المغرب والعشاء، وإذا كنا نفرع على قول الاحتياط وجب مراعاته في كل شيء، هذا قول أبي زيد. قال الرافعي: ويحكى أيضا عن ابن سريج قال: وهو ظاهر المذهب عند الجمهور وبه قطع المتولي والبغوي وغيرهما.
قلت: وقطع به القاضي حسين أيضا ورجحه إمام الحرمين وجمهور الخراسانيين والدارمي وصاحب "الحاوي" والشيخ نصر المقدسي من العراقيين، قالوا: لأنه مقتضى الاحتياط، والشافعي كما لم يذكر القضاء لم ينفه؛ ومقتضى مذهبه الوجوب، وحجة الأولين ما ذكره إمام الحرمين أنا لا نلزم المتحيرة كل ممكن؛ لأنه يؤدي إلى حرج شديد، والشريعة تحط عن المكلف أمورا دون هذا الضرر، والدليل على أنه لا يلزمها كل ممكن أن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر ولا تقعد إلى اليأس.
واختار صاحب "الحاوي" طريقة أخرى فقال: الصحيح عندي أنها تنزل تنزيلين هما أغلظ أحوالها. أحدهما: تقرير دوام الطهر إلى وقت الصلاة وإمكان أدائها ووجوب الحيض بعده، فيلزمها الصلاة في أول الوقت بالوضوء دون الغسل. والتنزيل الثاني: دوام الحيض إلى دخول وقت الصلاة ثم وجود الطهر بعده فيجب الغسل في آخر الوقت دون الوضوء، فحصل من التنزيلين أنه يلزمها أن تصلي الظهر في أول وقتها بالوضوء لاحتمال أن يكون آخر طهرها ثم تصليها في آخر وقتها بالغسل؛ لاحتمال أن يكون أول طهرها، فإذا دخل وقت العصر صلت العصر في أول وقتها بالوضوء. ثم صلتها بالغسل في آخر الوقت إذا بقي منه ما يسع ما يلزمها به لصلاة العصر، ثم أعادت الظهر مرة ثالثة في آخر وقت العصر بالغسل لاحتمال ابتداء الطهر في آخر وقت العصر فيلزمها الظهر والعصر. فإن قدمت العصر الثانية على الظهر الثالثة كان الغسل لها وتوضأت للظهر. وإن قدمت الظهر على العصر كان الغسل لها وتوضأت للعصر. فإذا غربت الشمس صلت المغرب بغسل صلاة واحدة؛ لأنه ليس لها إلا وقت واحد، فإذا دخل وقت العشاء صلتها في أول الوقت بالوضوء ثم أعادتها في آخره وتعيد معها المغرب وتغتسل للأولى منهما وتتوضأ للأخرى فإذا طلع الفجر صلت الصبح في أول الوقت بوضوء ثم أعادتها في آخره بغسل فتصير مصلية للظهر ثلاث مرات؛ مرة في أول الوقت بالوضوء ومرة ثانية في آخره بالغسل، وثالثة في آخر وقت العصر بغسل لها وللعصر، وتصير مصلية للعصر مرتين، مرة في أول وقتها بوضوء وثانية في آخره بغسل، وتصير مصلية للمغرب مرتين، مرة في وقتها بالغسل، ومرة في آخر وقت العشاء بالغسل لها، وتصير مصلية للعشاء مرتين، مرة بالوضوء في أول وقتها ومرة في آخره بالغسل، وكذا الصبح فتبرأ بيقين. هذا كلام صاحب "الحاوي"، وأما طريقة جمهور العراقيين فظاهرة لا تحتاج إلى تفريع، بل تصلي أبدا ولا قضاء.
وأما طريقة أبي زيد المروزي ومتابعيه فقال القاضي حسين والمتولي والبغوي وآخرون: تصلي على هذه الطريقة الصلوات الخمس مرتين بستة أغسال وأربع وضوءات، فتصلي الظهر في وقتها

 

ج / 2 ص -325-       بغسل، ثم العصر كذلك، ثم المغرب كذلك ثم تتوضأ بعد المغرب وتقضي الظهر، ثم تتوضأ وتقضي العصر، ثم تصلي العشاء في وقتها بغسل ثم الصبح في وقتها بغسل ثم تتوضأ وتقضي المغرب ثم تتوضأ وتقضي العشاء ثم تقضي الصبح بعد طلوع الشمس بغسل. هذا كلامهم، وبسطه إمام الحرمين وأوضحه بأدلته وزاد فيه وأتقنه ثم لخص طريقته واختصرها الرافعي فقال: إذا قلنا: بهذه الطريقة تغتسل في أول وقت الصبح وتصليها، ثم إذا طلعت الشمس اغتسلت مرة أخرى وصلتها لاحتمال أن الحيض صادف المرة الأولى وانقطع بعدها فلزمتها، وبالمرتين تبرأ من الصبح قطعا، ولا يشترط المبادرة بالمرة الثانية بعد طلوع الشمس، بل متى صلتها قبل انقضاء خمسة عشر يوما من أول وقت الصبح أجزأها؛ لأن الحيض إن انقطع في وقت الصبح لم يعد إلى الخمسة عشر. قال إمام الحرمين ولا يشترط تأخير جميع الصلاة الثانية عن الوقت، بل لو وقع بعضها في آخر الوقت جاز بشرط أن يكون دون تكبيرة إذا قلنا: تجب الصلاة بإدراك تكبيرة أو دون ركعة؛ لأنه إن انقطع قبل المرة الثانية أجزأها الثانية، وإن انقطع في أثنائها فلا شيء عليها.
قال الرافعي إنكارا على إمام الحرمين: ينبغي أن ينظر إلى أول زمن الغسل مع الجزء الواقع من الصلاة في الوقت لاحتمال الانقطاع في أثناء الغسل، ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون ذلك دون تكبيرة، ويبعد أن يكون دون ركعة. هذا حكم الصبح، وأما العصر والعشاء فتصليهما مرتين كذلك، وأما الظهر فلا يكفي وقوعها في المرة الثانية في أول وقت العصر، ولا يكفي أيضا وقوع المغرب في أول وقت العشاء؛ لاحتمال الانقطاع في أواخر وقتهما، فيجب أن تعيد الظهر في الوقت الذي تعيد العصر وهو بعد خروج وقت العصر، وتعيد المغرب مع العشاء بعد خروج وقت العشاء. ثم إذا أعادت الظهر والعصر بعد المغرب نظر إن قدمتهما على أداء المغرب وجب غسل للظهر ووضوء للعصر وغسل للمغرب، وإنما كفاها غسل للظهر والعصر؛ لأنه إن انقطع حيضها قبل المغرب فقد اغتسلت له، وإن انقطع بعد المغرب فليس عليها ظهر ولا عصر، وإنما وجب غسل المغرب لاحتمال الانقطاع في خلال الظهر والعصر وعقبها، وكذا الحكم إذا قضت المغرب والعشاء بعد طلوع الفجر قبل أداء الصبح، وحينئذ تكون مصلية الصلوات الخمس مرتين بوضوءين وثمانية أغسال. وإن أخرت الظهر والعصر عن أداء المغرب اغتسلت للمغرب وكفاها ذلك للظهر والعصر؛ لأنه إن انقطع قبل الغروب فهي طاهر، وإلا فلا ظهر ولا عصر عليها ويجب وضوء للظهر ووضوء للعصر كسائر المستحاضات، وكذا القول في المغرب والعشاء إذا أخرتهما عن أداء الصبح، وحينئذ تكون مصلية الصلوات الخمس بأربعة وضوءات وستة أغسال، وعلى الطريق الأول يكون قد أخرت المغرب والصبح عن أول وقتهما لتقديمها القضاء عليهما فتبرأ عما سواهما، وأما هما فقال إمام الحرمين: إذا أخرت الصلاة الأولى عن أول الوقت حتى مضى ما يمنع الغسل وتلك الصلاة لم يكف فعلها مرة أخرى في آخر الوقت أو بعده على التصوير السابق لاحتمال أنها طاهر في أول الوقت ثم يطرأ الحيض فيلزمها الصلاة وتكون الصلاتان واقعتين في الحيض، بل يحتاج إلى فعلهما مرتين أخريين بغسلين ويشترط كون إحداهما بعد انقضاء وقت الرفاهية والضرورة وقبل تمام خمسة عشر يوما من افتتاح

 

ج / 2 ص -326-       الصلاة في المرة الأولى، وأن تكون الثانية في أول السادس عشر من آخر الصلاة في المرة الأولى، وحينئذ تبرأ بيقين.
ومع هذا كله لو اقتصرت على أداء الصلوات في أوائل أوقاتها، ولم تقض شيئا حتى مضت خمسة عشر يوما أو مضى شهر لم يجب عليها لكل خمسة عشر يوما إلا قضاء صلوات يوم وليلة فقط؛ لأن القضاء لاحتمال الانقطاع ولا يتصور الانقطاع في خمسة عشر إلا مرة واحدة، ويجوز أن يجزيه قضاء صلاتي جمع وهما ظهر وعصر أو مغرب وعشاء فإذا شككنا وجب قضاء صلوات يوم وليلة كمن نسي صلاتين من خمس. ولو كانت تصلي في أوساط الأوقات لزمها أن تقضي للخمسة عشر صلوات يومين وليلتين، لاحتمال أن يطرأ الحيض في وسط صلاة فتبطل وينقطع في وسط أخرى فتجب، ويحتمل أن يكونا مثلين.
ومن فاته صلاتان متماثلتان لا يعرفهما لزمه صلوات يومين وليلتين بخلاف ما لو صلت في أول الأوقات فإنه لو فرض ابتداء الحيض في أثناء الصلاة لم يجب؛ لأنها لم تدرك من الوقت ما يسعها، هذا آخر كلام الرافعي المختصر من كلام إمام الحرمين قال إمام الحرمين فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه الآن مخالف ما سبق من قولكم يجب قضاء كل صلاة، فإنكم الآن صرتم إلى أنه لا يجب في الخمسة عشر إلا قضاءه خمس صلوات. فالجواب أن هذا الذي ذكرناه من الاكتفاء بقضاء خمس صلوات في الخمسة عشر أمر أغفله الأصحاب وهو مقطوع به والذي ذكرناه أولا هو فيما إذا أرادت أن تبرأ في كل يوم عما عليها، وكانت تؤثر المبادرة وتخاف الموت في آخر كل ليلة فأما إذا أخرت القضاء فلا شك أنه لا يجب في الخمسة عشر إلا قضاء صلوات يوم وليلة، فإن نسبنا ناسب إلى مخالفة الأصحاب سفهنا عقله، فإن القول في هذه المقاضاة يتعلق بمسالك الاحتمالات، وقد مهد الأئمة القواعد كالتراجم، ووكلوا استقصاءها إلى أصحاب الفطن والقرائح، ونحن نسلم لمن يبغي مزيدا أن يبدي شيئا وراء ما ذكرنا مفيدا على شرط أن يكون مفيدا، وبالجملة النظر الذي يخفف في أمر المتحيرة بالغ الموقع مستفاد، هذا آخر كلام إمام الحرمين، وقد صرح البغوي وآخرون بما ذكره إمام الحرمين، من أنها إذا لم تزد على الصلوات في أول أوقاتها لا يجب في الشهر إلا قضاء صلوات يومين، هذا بيان صلوات الوقت فأما إذا أرادت صلاة مقضية أو منذورة ففيها كلام نذكره بعد صيامها إن شاء الله.

فصل في صيام المتحيرة 1
اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يلزمها أن تصوم جميع شهر رمضان؛ لاحتمال الطهر في كل يوم فإذا صامته وكان تاما اختلفوا فيما يحسب لها منه فنقل إمام الحرمين وجماعات أن الشافعي رحمه الله نص أنه يحسب لها منه خمسة عشر يوما، وبهذا قطع جمهور أصحابنا المتقدمين,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  لم يثبت الشارح كلمة فصل لصاحب المتن مع استهلاله كل مسألة بها وبذا صارت هذه الكلمة للشارح, ولكنا أثبتناها للمصنف في تكملتنا (ط).

 

ج / 2 ص -327-       ممن قطع به أبو علي الطبري في "الإفصاح" والشيخ أبو حامد والمحاملي وأبو علي السنجي في "شرح التلخيص" وآخرون من المصنفين؛ ونقله صاحب "الحاوي" عن أصحابنا كلهم ونقله الدارمي عن جمهور أصحابنا قال: ولم أر فيه خلافا إلا ما سنذكره عن أبي زيد، ونقله الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه المحيط عن عامة مشايخهم ثم قال: وأجمع الأصحاب عليه وقطع به من المتأخرين الغزالي في كتابه "الخلاصة" والجرجاني في كتابيه التحرير والبلغة. وقال الشيخ أبو زيد المروزي إمام أصحابنا الخراسانيين: لا يحسب لها منه إلا أربعة عشر يوما لاحتمال ابتداء الدم في بعض اليوم الأول، وانقطاعه في بعض السادس عشر فيفسد الستة عشر ويبقى أربعة عشر. وأطبق المتأخرون من الخراسانيين على متابعة أبي زيد ووافقه من العراقيين الدارمي وصاحب "الحاوي" والقاضي أبو الطيب والمصنف وصاحب "الشامل" وآخرون من المتأخرين.
وأشار إمام الحرمين وغيره إلى أن في المسألة طريقين، أحدهما: إثبات خلاف في أنه يحصل أربعة عشر أو خمسة عشر، والثاني، القطع بأربعة عشر، وتأولوا النص على أنها حفظت أن دمها كان ينقطع في الليل، واحتج القائلون بخمسة عشر بأن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما فيبقى خمسة عشر هكذا أطلقوه. قال الشيخ أبو محمد: هذا الذي قاله أبو زيد يحتمل، لكن الذي أجمع عليه أصحابنا خمسة عشر وسلوك سبيل التخفيف عنها في بعض الأحوال، هذا الذي ذكرته من الاختلاف هو المشهور في طريق المذهب.
واختار إمام الحرمين طريقة أخرى؛ فحكى نص الشافعي وقول أبي زيد واختلاف الأصحاب ثم قال: والذي يجب استدراكه في هذا أنا إذا قلنا: ترد المبتدأة إلى سبعة أيام ويحكم لها بالطهر ثلاثة وعشرين يوما فيتجه أن يقال: حيض المتحيرة سبعة أيام في كل ثلاثين يوما فإنه لا فرق بينها وبين المبتدأة إلا شيء واحد وهو أنا نعلم ابتداء دور المبتدأة دون المتحيرة فأما تنزيلها على غالب الحيض قياسا على المبتدأة فمتجه لا ينقدح غيره فليقدر لها سبعة أيام في شهر رمضان ثم قد تفسد بالسبعة ثمانية، فيحصل لها اثنان وعشرون يوما قال: فإن قيل: هذا عود إلى القول الضعيف أن المتحيرة ترد إلى مرد المبتدأة قلنا: هي مقطوعة عنها في ابتداء الدور، فأما ردها إلى الغالب فيما يتعلق بالعدد الذي انتهى التفريع إليه فلا يتجه غيره، وأقصى ما يتخيله الفارق أن المتحيرة كان لها عادات فلا نأمن إذا ردت إلى الغالب أن تخالف تلك العادات، والمبتدأة لم يسبق لها عادة فهذا الفرق ضعيف؛ لأن المبتدأة ربما كانت تحيض عشرة لو لم تستحض، هذا آخر كلام إمام الحرمين فحصل في المسألة ثلاثة أوجه، أو ثلاثة مذاهب لأصحابنا. وحكى القاضي أبو الطيب عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهم الله: أنه يبطل عليها من رمضان صوم عشرة أيام، وهي أكثر الحيض عنده؛ وهذا موافق لنص الشافعي ومتقدمي أصحابنا رحمهم الله أنه يبطل خمسة عشر وتحصل خمسة عشر والله أعلم.
هذا كله إذا كان شهر رمضان تاما، أما إذا صامته وكان ناقصا، وقلنا بطريقة المصنف والمتأخرين: إن الكل يحصل منه أربعة عشر، فقد قطع الأصحاب في الطريقتين بأنها لا يحسب لها

 

ج / 2 ص -328-       منه إلا ثلاثة عشر يوما؛ لأنه يفسد ستة عشر، لما ذكرناه من احتمال الطرو من نصف النهار، وانقطاعه في نصف السادس عشر فيبقى ثلاثة عشر، هكذا صرح به الدارمي وصاحب "الحاوي"، والشيخ نصر والمتولي والبغوي والرافعي وآخرون من الطريقتين، ولم أر فيه خلافا لأحد من أصحابنا. وأما قول المصنف: فتصوم رمضان وشهرا آخر، فإن كان الشهر الذي صامه الناس ناقصا وجب عليها قضاء يوم. فقد حمله صاحب "البيان" على أن معناه أنها صامت مع الناس رمضان الناقص فحصل لها منه أربعة عشر وصامت شهرا كاملا فحصل منه أربعة عشر أيضا فبقي يوم قال :؛ لأن الشهر الهلالي لا يخلو من طهر صحيح متفرقا أو متتابعا، فإذا كان الشهر ناقصا فلا بد فيه من طهر كامل ويدخل النقص على أكثر الحيض قال: ومن اعترض على صاحب المهذب في هذا فليس قوله بصحيح؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الشهر لا يخلو من طهر صحيح. هذا كلام صاحب "البيان" فيه وفي "مشكلات المهذب" وليس هو بصحيح؛ بل مجرد دعوى لا يوافقه عليها أحد؛ بل صرح الأصحاب بمخالفتها كما سبق، بل الصواب حمل كلام المصنف على ما إذا لم تصم مع الناس رمضان بل صامت شهرين كاملين غير رمضان الذي صامه الناس ناقصا فبقي عليها يوم وهذا الذي حملناه عليه يتعين المصير إليه؛ لأنه موافق للأصحاب وللقاعدة مع سلامته من دعوى لا تقبل وكلام المصنف يدل عليه، فإنه قال "فإن كان الشهر الذي صامه الناس" ولم يقل الذي صامته. ، وقد أنكر الرافعي وغيره على المصنف وغلطوه وأبطلوا تأويل صاحب "البيان" ولا يصح الإنكار على المصنف، بل كلامه محمول على هذا الذي قلنا من أنها إذا لم تصم رمضان الناقص وصامت شهرين كاملين غيره، يبقى عليها يوم، هذا تفريع على المذهب وهو أن من أفطر رمضان الناقص كفاه تسعة وعشرون يوما، ولنا وجه أنه يلزمه ثلاثون يوما، حكاه الدارمي هنا وحكاه غيره، وسيأتي إيضاحه في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى.
فرع: في صيام المتحيرة يوما عن قضاء أو نذر أو كفارة أو فدية في الحج أو تطوع أو غيره، فإذا أرادت تحصيل صوم يوم، فهي مخيرة إن شاءت صامت أربعة أيام من سبعة عشر: يومين من أولها ويومين من آخرها، وهذا الطريق هو الذي ذكره المصنف وصاحب "الحاوي" وآخرون، , وقد يكون لها في هذا غرض بأن تريد ألا يتخلل فطر بين الصوم في واحد من الطرفين؛ لأنه إن بدأ الحيض في اليوم الأول سلم السابع عشر، وإن بدأ في الثاني سلم الأول. وإن كان الثاني آخر حيضة سلم السادس عشر، وإن شاءت صامت ثلاثة أيام من سبعة عشر فتصوم الأول والثالث والسابع عشر فيحصل يوم على كل تقدير،؛ لأنه إن بدأ الحيض في أثناء الأول حصل السابع عشر، وإن بدأ في الثاني حصل الأول، وإن كان الأول آخر حيضة حصل الثالث، وإن كان الثالث آخر حيضة حصل السابع عشر، وهذا الذي ذكرناه من صوم الأول والثالث والسابع عشر، تمثيل وليس بشرط. وإنما ضابط براءتها بثلاثة أن تصوم يوما متى شاءت وتفطر الذي يليه، ثم تصوم يوما آخر: إما الثالث وإما الخامس عشر وإما ما بينهما وتفطر السادس عشر وتصوم السابع عشر، فهذا أقصر مدة يمكن فيها قضاء اليوم، ولها أن تؤخر الصوم الثالث عن السابع عشر إلى آخر التاسع والعشرين لكن شرطه أنه يكون المتروك بعد الخمسة عشر مثل ما بين صومها الأول والثاني وأقل، فلو صامت الأول والثالث

 

ج / 2 ص -329-       والثامن عشر لم يجزئها؛ لأن المتروك بعد الخمسة عشر يومان، وليس بين الصومين الأولين إلا يوم، وإنما امتنع ذلك لاحتمال انقطاع الحيض في الثالث وابتداء حيض آخر في الثامن. ولو صامت الأول والرابع والثامن عشر جاز لحصول الشرط ولو صامت في هذه الصورة السابع عشر بدل الثامن عشر جاز؛ لأن المتروك أقل. ولو صامت الأول والخامس عشر فقد خللت بين الصومين ثلاثة عشر فلها أن تصوم الثالث في التاسع والعشرين أو السابع عشر أو ما بينهما ولا يجوز أن تصوم السادس عشر؛ لأن الشرط أن تترك شيئا بعد الخمسة عشر، فإنها لو صامته احتمل انقطاع الحيض في نصف اليوم الأول وابتداؤه في نصف السادس عشر فينقطع في التاسع والعشرين فتفسد الثلاثة، أما إذا صامت الثلاثة من ثلاثين يوما فصامت الأول والأخير مع يوم بينهما فلا يجزيها؛ لأنها إن صامت مع الطرفين الخامس عشر احتمل انقطاع الحيض في نصف الخامس عشر فيفسد هو والأول، ويفسد الأخير لطرءان الحيض في نصفه. وإن صامت مع الطرفين السادس عشر احتمل انقطاع الحيض في النصف الأول وينقطع في نصف السادس عشر وتبتدئ في النصف الأخير فيفسد الجميع. وإن صامت مع الطرفين السابع عشر احتمل الانقطاع في نصف الثاني والابتداء في نصف السابع عشر فيفسد الجميع وهكذا القول في تنزيل باقي الصور، أما إذا صامت الثلاثة من أحد وثلاثين يوما أو اثنين وثلاثين أو أكثر فصامت الطرفين ويوما بينهما فلا يجزيها أيضا وتنزيله ظاهر. قال الدارمي بعد أن ذكر نحو ما ذكرته: فبان أن أقل ما يصح منه صوم يوم ثلاثة أيام، وأن أقل ما يصح منه صوم الثلاثة سبعة عشر وأكثره تسعة وعشرون.
هذا الذي ذكرناه في طريق صوم اليوم هو الصحيح المشهور في كتب متأخري الأصحاب من الطريقتين، ونقل جماعة أن الشافعي نص أنه يكفيها صوم يومين بينهما أربعة عشر وقال إمام الحرمين: نص الشافعي أنها تصوم يومين بينهما خمسة عشر، قال الإمام: وأجمع أئمتنا أنه حسب صوم الأول من الخمسة عشر، فإنها لو صامت يوما وأفطرت خمسة عشر ثم صامت يوما احتمل كون اليومين طرآ في حيضتين، وإذا أفطرت بينهما أربعة عشر فيحصل أحدهما. قال الإمام: وهذا المنقول عن الشافعي لا يتجه إلا مع انطباق الحيض على أول اليوم وآخره ابتداء وانقطاعا وحاصل ما ذكره الإمام موافقة غيره في نقل النص أنها تصوم يومين بينهما أربعة عشر، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد والمحاملي وجماعات من كبار المتقدمين، ونقله صاحب "الحاوي" عن أصحابنا ثم أفسده، وكذا نقله الدارمي وأفسده، وكذا أفسده من حكاه من المتأخرين، وهذا الإفساد بنوه على طريقتهم أن صوم رمضان خمسة عشر فليس هو بفاسد، بل يكفيه يومان بينهما أربعة عشر ولا تبالي باحتمال الطرآن نصف النهار. هذا كله تفريع على المذهب المنصوص الذي قطع به الأصحاب أنها قول الاحتياط تبني أمرها على تقدير أكثر الحيض، أما على اختيار إمام الحرمين الذي قدمناه عنه أنها ترد إلى سبعة فقال الإمام: يكفيها صوم يومين بينهما سبعة أيام قال: ولكن -وإن كان هذا ظاهرا منقاسا- فنحن نتبع الأئمة ونفرعه على تقدير أكثر الحيض، فهذا الذي ذكرته في هذا الفرع وما قبله مختصر واضح جامع يسهل به معرفة ما سأذكره إن شاء تعالى ويتضح به جمل من قواعد صومها وبالله التوفيق.

 

ج / 2 ص -330-       فرع في صيامها يومين
واتفق جماهير من المتقدمين والمتأخرين في الطريقتين على أنها إذا أرادت صوم يومين فأكثر ضعفت الذي عليها وضمت إليه يومين، وقسمت الجميع نصفين فصامت نصفه في أول الشهر ونصفه في أول النصف الآخر ونعني بالشهر ثلاثين يوما متى شاءت ابتدأت ولم أر لأحد من الأصحاب خلاف هذا إلا لصاحب "الحاوي" والدارمي فأنا أذكر إن شاء الله تعالى طريقة الجمهور لوضوحها وشهرتها وخفة الكلام فيها ثم طريقة صاحب "الحاوي" ثم الدارمي، وأختصر كل ذلك مع الإيضاح الذي يفهمه كل أحد إن شاء الله تعالى.
قال الجمهور: إذا أرادت صوم يومين ضعفتهما وضمت إليهما يومين فتكون ستة أيام تصوم منها ثلاثة متى شاءت ثم تفطر تمام خمسة عشر ثم تصوم السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر فيحصل يومان قطعا؛ لأنه إن بدأ الحيض في نصف اليوم الأول حصل السابع عشر والثامن عشر، وإن بدأ في نصف الثاني حصل الأول والثامن عشر، وإن بدأ في نصف الثالث حصل الأولان، وإن كان الأول آخر حيضة حصل الثاني والثالث، وإن كان الثاني آخر حيضة حصل الثالث والسادس عشر، وإن أرادت صوم ثلاثة أيام ضعفتها وضمت إليها يومين فتكون ثمانية فتصوم أربعة وتفطر تمام خمسة عشر ثم تصوم أربعة، وإذا أرادت صوم أربعة صامت الخمسة الأولى والخمسة الرابعة، وإن أرادت صوم خمسة صامت ستة أولا ثم ستة أولها السادس عشر. وإن أرادت صوم ستة صامت سبعة ثم سبعة أولها السادس عشر، وإن أرادت سبعة صامت ثمانية ثم ثمانية أولها السادس عشر، وهكذا تفعل فيما بعد ذلك إلى ثلاثة عشر فتصوم أربعة عشر ثم أربعة عشر أولها السادس عشر، وإن أرادت أربعة عشر صامت ثلاثين متوالية، وإن أرادت خمسة عشر صامت ثلاثين متوالية يحصل منها أربعة عشر ثم يبقى يوم، وقد سبق بيان طريق اليوم. وإن أرادت ستة عشر أو سبعة عشر فأكثر صامت ثلاثا متوالية يحصل منها أربعة عشر ثم يحصل الباقي بطريقه السابق وهذا كله واضح.
قال المتولي والبغوي والرافعي وآخرون: ولو صامت في جميع هذه الصور قبل خمسة عشر ما عليها متواليا من غير زيادة وصامت مثله من أول السابع عشر وصامت بينهما يومين مجتمعين أو متفرقين متصلين بالصوم الأول أو بالثاني أو غير متصلين أجزأها وبرئت ذمتها بيقين. هذه طريقة الجمهور أما صاحب "الحاوي" فحكى عن الأصحاب حكاية غريبة قال: قال أصحابنا: إذا أرادت صوم يومين صامت يومين في أول الشهر ويومين في أول النصف الثاني، وإن أرادت ثلاثة صامت ثلاثة في الأول وثلاثة في أول النصف الثاني، وإن أرادت أربعة أو أكثر فكذلك تصوم القدر الذي عليها ثم تفطر تمام خمسة عشر ثم تصوم مثل الذي عليها. قال: وهذا الذي أطلقه الأصحاب ليس بصحيح وإنما يصح في حق من علمت أن حيضها يبتدئ في الليل، وأما من لم تعلم فلا يجزيها في اليومين إلا ستة من ثمانية عشر، ثم ذكر طريقة الجمهور التي ذكرناها، وهذا الذي حكاه عن الأصحاب غريب جدا، ومع غرابته هو جار على قول المتقدمين أنها إذا صامت رمضان حصل لها خمسة عشر.

 

ج / 2 ص -331-       وأما طريقة الدارمي فإنها طريقة حسنة بديعة نفيسة بلغت في التحقيق والتنقيح والتدقيق، مشتملة على جمل من النفائس الغريبات والتنبيهات المهمات، استدرك فيها على الأصحاب أمورا ضرورية لا بد من بيانها وبسطها أبلغ بسط فذكر في صيامها يومين وثلاثة وما بعدها إلى أربعة عشر قريبا من ثلاثة أرباع مجلد ضخم، وفيها من المستفادات ما ينبغي أن لا يخلى هذا الكتاب من ذكر مقاصده ولا يليق بطالب تحقيق باب الحيض بل الفقه مطلقا جهالته والإعراض عنه، وقد أفردت مختصر ذلك في كراريس؛ وأذكر هنا مقاصده مختصرة إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله: إذا أرادت صوم يومين فإن أرادتهما متتابعين فأقل ما يمكن ذلك أن تصوم ثمانية عشر متوالية، فإن أرادتهما متفرقين صامت ذلك بثلاثة من سبعة عشر إلى تسعة وعشرين على التفصيل السابق، وإن أرادتهما مجتمعين فأقل ما يمكن تحصيلها به خمسة أيام، كما أن أقل ما يحصل به اليوم ثلاثة أيام. وهي ضعفه وواحد، فكذا اليومان ضعفهما وواحد، وأقل ما يصح منه هذه الخمسة تسعة عشر، فتصوم الأول والثالث والسابع عشر والتاسع عشر، ويخلى الرابع والسادس عشر يبقى بينهما أحد عشر يوما تصوم منها يوما، أيها شاءت، فيحصل من ذلك أحد عشر قسما بعدد أيام التخيير، فهذا أقل ما يمكن أن تصوم منه الخمسة. ونحن نزيد في ذلك يوما إلى الحد الذي هو أكثر الممكن، ومتى قلنا بعد هذا: تصوم من الطرفين أو من أحد الطرفين كذا فمرادنا به في الطرف الأول الأول فما بعده مما يليه متواليا، ومرادنا به في الطرف الآخر الآخر وما قبله مما يليه، فإن أرادت تحصيل صوم يومين بخمسة من عشرين صامت من أحد الطرفين الأول والثالث، ومن الطرف الآخر الأول والرابع وأخلت يومين يليان الثلاثة ويوما يلي الأربعة يبقى بين ذلك عشرة أيام تصوم منها يوما أيها شاءت، فيحصل في ذلك عشرة أقسام بعد أيام التخيير. وإن شاءت عكست فن قلت: الصوم، والإخلاء من طرف إلى طرف فيحصل عشرون قسما، عشرة في الأول وعشرة في عكسه، وإن شاءت صامت من كل طرف اليوم الأول والرابع وأخلت يوما من كل طرف بعد الرابع يبقى عشرة أيام، تصوم منها يوما أيها شاءت، وهذا القسم لا ينعكس فاضبط هذا الموضع.
واعلم أن كل قسم يكون الصوم والإخلاء في طرف كما في الطرف الآخر لا ينعكس، ومتى خالف طرف طرفا في شيء من الصوم والإخلاء أو الصوم خاصة انعكس بالبدل، وهو أن تجعل ما في كل طرف في الآخر فحصل في طريق صوم يومين بخمسة من عشرين ثلاثون قسما، عشرة انعكست وعشرة لم تنعكس أما إذا أرادت تحصيل يومين بخمسة من أحد وعشرين فتصوم من طرف الأول والثالث، ومن طرف الأول والخامس، وتخلي ثلاثة تلي الثلاثة ويوما يلي الخمسة يبقى بين ذلك تسعة أيام تصوم أيها شاءت، ولها أن تبدل ما في أحد الطرفين بالآخر فيكون ثمانية عشر قسما. وإن شاءت صامت الأول والرابع من كل طرف وأخلت من كل طرف يومين يليان الصوم، تبقى تسعة تصوم منها يوما، وهذه تسعة أقسام ولا تنعكس لتساوي الصوم والإخلاء في كل طرف، وإن شاءت صامت من طرف الأول والرابع، ومن طرف الأول والخامس وأخلت يومين يليان الأربعة، ويوما يلي الخمسة تبقى تسعة تصوم أيها شاءت، وهذا القسم ينعكس لاختلاف اليوم والإخلاء.

 

ج / 2 ص -332-       وإن شاءت صامت من طرف الأول والخامس وأخلت يوما من كل طرف وصامت من التسعة الباقية يوما، وهذا القسم لا ينعكس، فجملة أقسام الأحد والعشرين أربعة وخمسون قسما. أما إذا أرادت تحصيل يومين بخمسة من اثنين وعشرين فتصوم من طرف الأول والسادس وتخلي أربعة تلي الثلاثة ويوما يلي الستة تبقى ثمانية. تصوم يوما منها ولها العكس، وإن شاءت صامت من طرف الأول والرابع، ومن طرف الأول والخامس وأخلت ثلاثة تلي الأربعة ويومين يليان الخمسة يبقى ثمانية، تصوم منها يوما ولها العكس، وإن شاءت صامت من طرف الأول والرابع، ومن طرف الأول والسادس وأخلت ثلاثة تلي الأربعة ويوما يلي الستة وصامت يوما من الثمانية الباقية ولها العكس للاختلاف، وإن شاءت صامت الأول والخامس من كل طرف وأخلت يومين من كل طرف، ثم صامت يوما من الثمانية الباقية، وهذا لا ينعكس لعدم الاختلاف، وإن شاءت صامت الأول والخامس من طرف، والأول والسادس من طرف وأخلت يومين يليان الخمسة ويوما يلي الستة وصامت يوما من الثمانية وهذا ينعكس للاختلاف. وإن شاءت صامت الأول والسادس من كل طرف وأخلت يوما من كل طرف وصامت يوما من الثمانية وهذا لا ينعكس، فجملة الأقسام ثمانون. 
أما إذا أرادت تحصيل يومين بخمسة من ثلاثة وعشرين فتصوم من طرف الأول والثالث ومن طرف الأول والسابع، وتخلي خمسة تلي الثلاثة ويوما يلي السبعة يبقى بينهما سبعة تصوم منها يوما وينقسم هذا اليوم بحسب ما سبق، وجملة أقسامه مائة وخمسة أقسام أوضحتها في المختصر من كتاب الدارمي مفصلة. أما إذا أرادت يومين بخمسة من أربعة وعشرين فتصوم الأول والثالث من طرف والأول والثامن من طرف، وتخلي ستة تلي الثلاثة ويوما يلي الثمانية، ثم تصوم يوما من الستة الباقية، وينقسم بحسب ما مضى، فجملة أقسامه مائة وستة وعشرون قسما.
أما إذا أرادت يومين بخمسة من خمسة وعشرين فتصوم الأول والثالث من طرف والأول والتاسع من طرف، وتخلي سبعة أيام تلي الثلاثة ويوما يلي السبعة وتصوم يوما من الخمسة الباقية وينقسم كما سبق، فجملة أقسامه مائة وأربعون، أما إذا أرادت يومين بخمسة من ستة وعشرين فتصوم الأول والثالث من طرف والأول والعاشر من طرف وتخلي ثمانية تلي الثلاثة ويوما يلي العشرة وتصوم يوما من الأربعة الباقية، وجملة أقسامه مائة وأربعة وأربعون قسما.
أما إذا أرادت تحصيل يومين بخمسة من سبعة وعشرين فتصوم الأول والثالث من طرف والأول والحادي عشر من طرف وتخلي تسعة تلي الثلاثة ويوما يلي الأحد عشر، وتصوم يوما من الثلاثة الباقية، وجملة أقسامه مائة وخمسة وثلاثون. أما إذا أرادت يومين بخمسة من ثمانية وعشرين فتصوم الأول والثالث من طرف، والأول والثاني عشر من طرف، وتخلي عشرة تلي الثلاثة ويومين تلي الاثني عشر وتصوم يوما من اليومين الباقيين، فجملة أقسامه مائة وعشرة أقسام، أما إذا أرادت يومين بخمسة من تسعة وعشرين فتصوم الأول والثالث من طرف والأول والثالث عشر من طرف وتخلي أحد عشر تلي الثلاثة ويوما يلي الثلاثة عشر وتصوم اليوم الباقي بينهما، وهو متعين في جميع أقسامه التسعة والعشرين فلا يتصور فيه تخيير؛ بخلاف ما قبل التسعة والعشرين، فجملة أقسامه ستة وستون

 

ج / 2 ص -333-       قسما، فجميع الأقسام في صوم يومين بخمسة من جملة تسعة عشر إلى تسعة وعشرين ألف قسم وقسم، أما إذا أرادت يومين بخمسة من أكثر من تسعة وعشرين فلا يصح. هذا ما يتعلق بصوم اليومين وبالله التوفيق. .

فرع في صيامها ثلاثة أيام
قد سبق أن طريقة الجمهور في صوم الثلاثة أن تضعفها وتزيد يومين فتصير ثمانية، تصوم أربعة وتفطر تمام خمسة عشر، ثم تصوم أربعة أولها السادس عشر، وسبق أن صاحب "الحاوي" نقل عن الأصحاب أنها تصوم ثلاثة في أول الشهر وثلاثة في أول النصف الآخر. وأما طريقة الدارمي فبسطها بسطا لم يبلغ أحد قريبا منه في مسألة، فبلغ بها نحو ثمان كراريس، وليس فيها إلا بيان صومها ثلاثة أيام، وأتى فيها من العجائب والتدقيقات بما لا مزيد عليه، وقد أوضحتها في المختصر، وأشير هنا إلى بعض من كل نوع، , وقد سبق طريق بسطه.
قال الدارمي رحمه الله: إذا أرادت صوم ثلاثة أيام متوالية صامت تسعة عشر متوالية فيحصل منها ثلاثة، وإن أرادت أن تفرد كل يوم صامت تسعة أيام كل ثلاثة من سبعة عشر، كما سبق في صوم اليوم، وإن أرادت أن تصوم يومين على ما ذكرنا في اليوم، ويوما على ما ذكرنا في اليوم جاز، وحصل الثلاثة بثمانية اليومان بخمسة واليوم بثلاثة، وإن أرادت الثلاثة بحكم مفرد كما صامت اليومين بحكم مفرد، فأقل ما تحصل به الثلاثة سبعة أيام وهو ضعفها وواحد، كما قلنا في اليوم واليومين، وأقل ما يحصل منه هذه السبعة أحد وعشرون يوما فتصوم في كل طرف الأول والثالث والخامس وتخلي مما يلي كل خمسة يوما وتصوم يوما من السبعة الباقية، فالأقسام تسعة بعدد أيام التخيير ولها أن تزيد في عدد الأيام التي تصوم السبعة منها كما كان لها ذلك في اليوم واليومين.
فإن أرادت ذلك من اثنين وعشرين يوما صامت الأول والثالث والخامس من طرف، والأول والرابع والسادس من طرف. وأخلت يومين يليان الخمسة ويوما يلي الستة وصامت يوما من الثمانية الباقية، وإن شاءت صامت الأول والثالث والسادس من الطرفين. أو الأول والثالث والسادس من طرف. والأول والرابع والسادس من طرف - فجملة الأقسام في الاثنين والعشرين أربعون. أما إذا أرادت تحصيل سبعة من ثلاثة وعشرين فتصوم الأول والثالث والخامس من طرف. والأول والخامس والسابع من طرف، وتخلي ثلاثة تلي الخمسة ويوما يلي السبعة وتصوم يوما من السبعة الباقية. وإن شاءت صامت الأول والثالث والسادس من طرف، والرابع والسابع من طرف، وله أقسام كثيرة تبلغ مائة وخمسة أقسام أوضحتها في المختصر.
أما إذا أرادت تحصيل ثلاثة بسبعة من أربعة وعشرين فتصوم الأول والثالث والخامس من طرف، والأول والسادس والثامن من طرف، وتخلي أربعة تلي الخمسة ويوما يلي الثمانية وتصوم يوما من الستة الباقية. وإن شاءت صامت الأول والثالث والسادس من طرف والأول والخامس والثامن من طرف، وتبلغ أقسامه مائتين وعشرة أقسام أما إذا أرادت ثلاثة بسبعة من خمسة وعشرين فتصوم الأول

 

ج / 2 ص -334-       والثالث والخامس من طرف والأول والسابع والتاسع من طرف، وتخلي خمسة تلي الخمسة ويوما يلي التسعة وتصوم يوما من الخمسة الباقية، وإن شاءت صامت الأول والثالث والسادس من طرف، والأول والسادس والتاسع من طرف، وله أقسام كثيرة تبلغ ثلاثمائة وخمسين قسما أوضحتها في المختصر.
أما إذا أرادت ثلاثة بسبعة من ستة وعشرين فتصوم الأول والثالث والخامس من طرف، والأول والثامن والعاشر من طرف، وتخلي ستة تلي الخمسة ويوما يلي العشرة وتصوم يوما من الأربعة الباقية، وإن شاءت صامت الأول والثالث والسادس من طرف والأول والسابع والعاشر من طرف، وله أقسام كثيرة تبلغ خمسمائة قسم وأربعة أقسام، أوضحتها في المختصر، أما إذا أرادت ثلاثة بسبعة من سبعة وعشرين، فتصوم الأول والثالث والخامس من طرف، والأول والتاسع والحادي عشر من طرف وتخلي سبعة تلي الخمسة ويوما يلي الأحد عشر وتصوم يوما من الثلاثة الباقية، وإن شاءت صامت الأول والثالث والسادس من طرف، والأول والثامن والحادي عشر من طرف وله أقسام تبلغ ستمائة قسم وثلاثين قسما. أما إذا أرادت ثلاثة بسبعة من ثمانية وعشرين فتصوم الأول والثالث والخامس من طرف، والأول والعاشر والثاني عشر من طرف، وتخلي ثمانية تلي الخمسة، ويوما يلي الاثني عشر وتصوم يوما من اليومين الباقيين، وجملة أقسامه ستمائة وستون قسما أما إذا أرادت ثلاثة بسبعة من تسعة وعشرين فتصوم الأول والثالث والخامس من طرف، والأول والحادي عشر والثالث عشر من طرف، وتخلي تسعة تلي الخمسة ويوما يلي الثلاثة عشر، وتصوم اليوم الباقي بينهما، وهو متعين، وإن شاءت أبدلت الأقسام، وجملة أقسامه أربعمائة وخمسة وتسعون قسما فتصير جميع الأقسام في تحصيل ثلاثة أيام بسبعة من أحد وعشرين إلى تسعة وعشرين ثلاثة آلاف وثلاثة أقسام أما إذا أرادت ثلاثة بسبعة من ثلاثين فأكثر فلا يصح.
فرع: في صيامها أربعة أيام، فإن أرادتها متوالية صامت عشرين يوما متوالية، وإن أرادتها متفرقة يوما يوما، فعلت ما ذكرناه في صوم اليوم، فإن أرادت صيامها يومين يومين فعلت ما قدمناه في اليومين، وإن أرادت ثلاثة متوالية ويوما فردا، فعلت في الثلاثة ما سبق فيها، وفي اليوم ما بيناه فيه، وكذلك كلما أرادت صيام أيام فلها تفريقها وصومها على ما ذكرناه في أقل منها، ولها صومها ما نذكره فيها، فإن أرادت تحصيل الأربعة على قياس ما سبق فيما قبلها، والتفريع على طريقة الدارمي، فأقل ما تحصل به صوم تسعة أيام، وهو ضعفها وواحد كما سبق في اليوم واليومين والثلاثة وأقل ما تحصل منه هذه التسعة ثلاثة وعشرون، فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع من الطرفين، وتخلي يوما يلي السبعة فيهما وتصوم يوما من السبعة الباقية فأقسامه سبعة. أما إذا أرادت تحصيل الأربعة بتسعة من أربعة وعشرين، فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع من طرف والأول والرابع والسادس والثامن من طرف وتخلي يومين يليان السبعة ويوما يلي الثمانية، وتصوم يوما من الستة الباقية ولها الأبدال وأقسامه اثنان وأربعون قسما.
أما إذا أرادت تحصيل الأربعة بتسعة من خمسة وعشرين، فتصوم الأول والثالث والخامس

 

ج / 2 ص -335-       والسابع من طرف، والأول والخامس والسابع والتاسع من طرف، وتخلي ثلاثة تلي السبعة ويوما يلي التسعة، وتصوم يوما من الخمسة الباقية، ولها الأبدال وأقسامه مائة وأربعون أما إذا أرادت تحصيل أربعة بتسعة من ستة وعشرين، فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع من طرف، والأول والسادس والثامن والعاشر من طرف، وتخلي أربعة تلي السبعة ويوما يلي العشرة، وتصوم يوما من الأربعة الباقية ولها الأبدال وأقسامه ثلثمائة وستة وثلاثون قسما. أما إذا أرادت تحصيل أربعة بتسعة من سبعة وعشرين فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع من طرف، والأول والسابع والتاسع والحادي عشر من طرف وتخلي خمسة تلي السبعة ويوما يلي الأحد عشر، وتصوم من الثلاثة الباقية، ولها الإبدال وأقسامه ستمائة وثلاثون قسما، أما إذا أرادت أربعة بتسعة من ثمانية وعشرين فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع من طرف، والأول والثامن والعاشر والثاني عشر من طرف، وتخلي ستة تلي السبعة ويوما يلي الاثني عشر وتصوم يوما من اليومين الباقيين ولها الأبدال وأقسامه سبعمائة وثمانية وعشرون قسما، أما إذا أرادت تحصيل أربعة بتسعة من تسعة وعشرين فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع من طرف، والأول والتاسع والحادي عشر والثالث عشر من طرف، وتخلي سبعة تلي السبعة ويوما يلي الثلاثة عشر، وتصوم اليوم الباقي، ولها الإبدال وأقسامه تسعمائة وأربعة وعشرون قسما، فجملة الأقسام في تحصيل أربعة بتسعة من ثلاثة وعشرين إلى تسعة وعشرين ثلاثة آلاف وسبعة أقسام.
فرع: في صيامها خمسة أيام. إن أرادت خمسة متوالية صامت أحدا وعشرين يوما متوالية، وإن أرادتها مفرقة صامتها على ما سبق فيما قبلها، وإن أرادت صومها على قياس ما مضى صامت ضعفها وواحدا، وذلك أحد عشر يوما وأقل ما تصح منه خمسة وعشرون يوما. فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع من الطرفين، وتخلي يوما ويوما وتصوم يوما من الخمسة الباقية. وإن أرادت الخمسة بأحد عشر من ستة وعشرين صامت الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع من طرف والأول والرابع والسادس والثامن والعاشر من طرف وأخلت يومين ويوما وصامت يوما من الأربعة الباقية ولها الأبدال وأقسامه ستة وثلاثون. وإن أرادت الخمسة بأحد عشر من سبعة وعشرين صامت الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع من طرف والأول والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر من طرف وأخلت ثلاثة ويوما وصامت يوما من الثلاثة الباقية، ولها الإبدال؛ وجملة أقسامه مائة وخمسة وثلاثون. وإن أرادت الخمسة بأحد عشر من ثمانية وعشرين، صامت الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع من طرف، والأول والسادس والثامن والعاشر والثاني عشر، وأخلت أربعة ويوما وصامت يوما من اليومين الباقيين، وجملة أقسامه ثلثمائة وأربعة وثلاثون قسما. وإن أرادت الخمسة بأحد عشر من تسعة وعشرين صامت الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع من طرف، والأول والسابع والتاسع والحادي عشر والثالث عشر من طرف، وأخلت خمسة ويوما وصامت اليوم الباقي، وأقسامه أربعمائة وسبعة وسبعون، فجملة الأقسام في تحصيل خمسة بأحد عشر من خمسة وعشرين إلى تسعة وعشرين تسعمائة وخمسة وثمانون قسما.

 

ج / 2 ص -336-       فرع: في صيامها ستة أيام، إن أرادتها متوالية صامت اثنين وعشرين يوما متوالية، وإن أرادتها متفرقة فقد سبق بيانها، وإن أرادتها على قياس ما سبق صامت ضعفها وواحدا، وذلك ثلاثة عشر يوما، وأقل ما تحصل منه الثلاثة عشر سبعة وعشرون فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر من الطرفين، وتخلي يوما ويوما وتصوم يوما من الثلاثة الباقية. وإن أرادت الستة بثلاثة عشر من ثمانية وعشرين صامت الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر من طرف والأول والرابع والسادس والثامن والعاشر والثاني عشر من طرف، وأخلت يومين ويوما وصامت يوما من اليومين الباقيين ولها الإبدال وأقسامه اثنان وعشرون. وإن أرادت الستة بثلاثة عشر من تسعة وعشرين صامت الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر من طرف، والأول والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر والثالث عشر من طرف، وأخلت ثلاثة ويوما وصامت اليوم الباقي ولها الإبدال وأقسامه ستة وستون، فجملة الأقسام في تحصيل ستة بثلاثة عشر من سبعة وعشرين إلى تسعة وعشرين أحد وتسعون قسما.
فرع: في صيامها سبعة أيام. إن أرادتها متوالية صامت ثلاثة وعشرين متوالية، وإن أرادتها مفرقة فقد سبق بيانها، وإن أرادتها على قياس ما مضى صامت ضعفها وواحدا وذلك خمسة عشر وتحصل من تسعة وعشرين، فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر والثالث عشر من الطرفين وأخلت يوما ويوما وصامت اليوم الباقي، وهذا النوع قسم واحد فلا تصح سبعة من خمسة عشر من أقل من تسعة وعشرين ولا أكثر منها.
فرع: في صيامها ثمانية أيام. أقل ما يكفيها للثمانية ثمانية عشر وأقل ما يصح منه ذلك أربعة وعشرون، فتصوم ثمانية من كل طرف ويومين من الثمانية الباقية أيها شاءت وأقسامه ثمانية وعشرون، وإن أرادتها بثمانية عشر من خمسة وعشرين صامت ثمانية من كل طرف، ويومين من التسعة الباقية، وكذا إن أرادتها من ستة وعشرين إلى ثلاثين ولها الإبدال.
فرع: في صيامها تسعة. أقل ما تصح منه عشرون من خمسة وعشرين فتصوم تسعة من كل طرف ويومين من السبعة الباقية، وأقسامه أحد وعشرون، وإن أرادت ذلك من ستة وعشرين إلى ثلاثين فعلت ما سبق. فرع: في صيامها عشرة. أقل ما تصح منه اثنان وعشرون من ستة وعشرين فتصوم عشرة في كل طرف، ويومين في الستة الباقية وأقسامه خمسة عشر، وإن أرادت ذلك من سبعة وعشرين إلى ثلاثين فعلت ما سبق. فرع: في صومها أحد عشر. أقل ما تصح منه أربعة وعشرون من سبعة وعشرين فتصوم أحد عشر من كل طرف ويومين من الخمسة الباقية، وأقسامه عشرة، وإن أرادته من ثمانية وعشرين إلى ثلاثين فعلت.
فرع: في صومها اثني عشر. أقل ما تصح منه ستة وعشرون من ثمانية وعشرين فتصوم من كل

 

ج / 2 ص -337-       طرف اثني عشر ويومين من الأربعة الباقية وأقسامه ستة، وإن أرادته من تسعة وعشرين أو ثلاثين فعلت. فرع: في صومها ثلاثة عشر: تصومها بثمانية وعشرين من تسعة وعشرين فتصوم ثلاثة عشر في كل طرف ويومين من الثلاثة الباقية، وأقسامه ثلاثة، وإن أرادته من ثلاثين فعلت.
فرع: في صومها أربعة عشر: لا يحصل إلا بثلاثين متوالية فإن زاد صومها على أربعة عشر فعلت في أربعة عشر ما ذكرنا وفيما دونها ما سبق والله أعلم.
فرع: في صوم المتحيرة صوما متتابعا لنذر أو كفارة قتل أو جماع في نهار رمضان أو غير ذلك والتفريع على طريقة المتأخرين أنه لا يحصل لها من الشهر إلا أربعة عشر، قال أصحابنا: إذا أرادت صوم شهرين متتابعين صامت مائة وأربعين يوما متوالية؛ لأنه يحصل لها من مائة وعشرين ستة وخمسون، ومن عشرين الأربعة الباقية ولا ينقطع التتابع بالحيض المتخلل وإن أرادت أربعة عشر صامت ثلاثين متوالية وإن أرادت يومين، صامت ثمانية عشر، وإن أرادت ثلاثة صامت تسعة عشر، وإن أرادت أربعة فعشرين أو خمسة فأحد وعشرين وعلى هذا وإن أرادت صوما متتابعا وأرادت تخليل فطر بينه صامت ذلك القدر متواليا ثم صامته مرة أخرى قبل السابع عشر ثم مرة أخرى من السابع عشر، فإذا أرادت يومين متتابعين صامت يومين متتابعين ثم تصوم السابع عشر والثامن عشر وتصوم بينهما يومين متتابعين، هذه طريقة الأصحاب، وخالفهم الدارمي وبسط طريقته بسطا منتشرا فأنا ألخص مقاصده إن شاء الله تعالى.
قال: إذا أرادت صوم يومين متتابعين بستة من ثمانية عشر صامت يومين في أول الثمانية عشر ويومين في آخرها وأخلت من كل طرف يوما وصامت يومين متتابعين من الاثني عشر الباقية، وفي ذلك أحد عشر قسما أقل من عدد الأيام المخير فيها بيوم، وهذا أصل لكل يومين متتابعين تصومهما من جملة أيام التخيير،؛ لأنها تصوم من أيام التخيير الأول والثاني والثالث أو الثالث والرابع وهكذا إلى آخرها فينقص من عدد الأيام واحد. وإن أرادت صيامهما بستة من تسعة عشر صامت يومين من كل طرف وأخلت لكل طرف يومين يليانه وتصوم يومين متتابعين من الأحد عشر الباقية فتكون أقسامه عشرة، وإن أرادتهما بستة من عشرين صامت يومين من كل طرف وأخلت لكل طرف ثلاثة أيام وصامت يومين متتابعين من العشرة الباقية، وأقسامه تسعة. وإن أرادتهما من أحد وعشرين أخلت أربعة وأربعة وصامت يومين أيضا من التسعة الباقية وأقسامه ثمانية، وإن أرادتهما من اثنين وعشرين أخلت خمسة وخمسة وصامت يومين من ثمانية، وأقسامه سبعة. وإن أرادتهما من ثلاثة وعشرين أخلت ستة وستة وصامت يومين من السبعة، وأقسامه ستة وإن أرادتهما من أربعة وعشرين أخلت سبعة وسبعة وصامت يومين من الستة، وأقسامه خمسة، وإن أرادتهما من خمسة وعشرين أخلت ثمانية وثمانية وصامت يومين من الخمسة وأقسامه أربعة. وإن أرادتهما من ستة وعشرين أخلت تسعة وتسعة وصامت يومين من الأربعة وأقسامه ثلاثة، وإن أرادتهما من سبعة وعشرين أخلت عشرة وعشرة وصامت يومين من الثلاثة وله قسمان، وإن أرادتهما من ثمانية وعشرين أخلت أحد عشر وأحد عشر

 

ج / 2 ص -338-       وصامت اليومين الباقيين وله قسم واحد، وإن أرادتهما من تسعة وعشرين لم يكن إلا بزيادة في الصوم؛ لأنها تحتاج أن تخلي اثني عشر واثني عشر، فلم يبق بينهما يومان، فأقل ما يمكن تصحيحه منه من تسعة وعشرين أن تصوم من كل طرف يومين وتخلي في كل طرف أحد عشر، وتصوم الثلاثة الباقية، وإن أرادتهما من ثلاثين فعلت ما ذكرناه في تسعة وعشرين إلا أنها تصوم الأربعة الباقية أما إذا أرادت صوم ثلاثة أيام متتابعة فأقل ما تصح منه تسعة عشر تصوم ثلاثة من كل طرف وتخلي يوما ويوما وتصوم الثلاثة متتابعة من الأحد عشر الباقية، وأقسامه تسعة أقل من أيام التخيير بيومين. وإن أرادت ثلاثة من عشرين صامت ثلاثة من كل طرف وأخلت يومين ويومين وصامت ثلاثة من العشرة الباقية، وأقسامه ثمانية.
والذي أراه اختصار العبارة فقد وضح الطريق وعلم أنها تصوم من كل طرف الأيام التي تريدها وتصومها مرة ثالثة من الأيام الباقية بعد الإخلاء، وعلم أيضا أن الإخلاء يكون من كل طرف بقدر ما أخلي من الطرف الآخر، وعلم أيضا أن الأقسام أقل من الأيام بالقدر الذي نذكره في أول كل فصل، فالأقسام في هذا الفصل أقل من الأيام الباقية بيومين، فنقتصر بعد هذا على ذكر الإخلاء من أحد الطرفين، فإذا أرادت ثلاثة من أحد وعشرين أخلت ثلاثة، وأقسامه سبعة، وإذا أرادتها من اثنين وعشرين أخلت ستة، ومن ثلاثة وعشرين تخلي خمسة، وأقسامه خمسة، ومن أربعة وعشرين تخلي ستة، وأقسامه أربعة، ومن خمسة وعشرين تخلي سبعة، وأقسامه ثلاثة، ومن ستة وعشرين تخلي ثمانية وله قسمان. ومن سبعة وعشرين تخلي تسعة وله قسم واحد، ومن ثمانية وعشرين لا يمكن إلا بزيادة صوم فتصوم ثلاثة من كل طرف وتخلي تسعة وتسعة وتصوم الأربعة الباقية، ومن تسعة وعشرين تصوم الخمسة الباقية ومن ثلاثين الستة الباقية.
أما إذا أرادت صوم أربعة متتابعة فتصح بصوم اثني عشر، وأقل ما تصح منه عشرون، فتصوم في كل طرف أربعة وتخلي يوما ويوما وتصوم أربعة من العشرة الباقية وأقسامه سبعة أقل من الأيام بثلاثة. وإن أرادتها من أحد وعشرين أخلت يومين، وأقسامه ستة، ومن اثنين وعشرين تخلي ثلاثة، ومن ثلاثة وعشرين أربعة، ومن أربعة وعشرين خمسة، ومن خمسة وعشرين ستة، ومن ستة وعشرين سبعة، ومن سبعة وعشرين لا يمكن إلا بزيادة صوم، فتخلي سبعة وتصوم الخمسة الباقية، ومن ثمانية وعشرين تصوم الستة الباقية، ومن تسعة وعشرين السبعة الباقية، ومن ثلاثين الثمانية الباقية. أما إذا أرادت خمسة متتابعة فتصح بصوم خمسة عشر، وأقل ما تصح منه أحد وعشرون فتصوم خمسة من كل طرف وتخلي يوما ويوما وتصوم خمسة من التسعة الباقية، وأقسامه خمسة. ومن اثنين وعشرين تخلي يومين، وأقسامه أربعة، ومن ثلاثة وعشرين تخلي ثلاثة، ومن أربعة وعشرين أربعة، ومن خمسة وعشرين خمسة وتصوم الخمسة الباقية، ومن ستة وعشرين لا يمكن إلا بزيادة صوم، فتصوم خمسة في كل طرف وتخلي خمسة في طرف وتصوم الستة الباقية، ومن سبعة وعشرين تصوم السبعة الباقية، ومن ثمانية وعشرين الثمانية الباقية، ومن تسعة وعشرين التسعة ومن الثلاثين العشرة الباقية. أما إذا أرادت ستة متتابعة فتصح بصوم ثمانية عشر، وأقل ما تصح منه اثنان وعشرون فتصوم ستة من كل

 

ج / 2 ص -339-       طرف وتخلي يوما من كل طرف وتصوم ستة من الثمانية الباقية، وأقسامه ثلاثة، ومن ثلاثة وعشرين تخلي يومين، ومن أربعة وعشرين ثلاثة، ومن خمسة وعشرين لا يمكن إلا بزيادة، فتصوم ستة من كل طرف وتخلي ثلاثة وتصوم السبعة الباقية، ومن ستة وعشرين تصوم الثمانية الباقية ومن سبعة وعشرين التسعة الباقية ومن ثمانية وعشرين، العشرة الباقية، ومن تسعة وعشرين الأحد عشر الباقية، ومن ثلاثين الاثني عشر الباقية. أما إذا أرادت سبعة متتابعة، فتصح بأحد وعشرين من ثلاثة وعشرين، ولا يحصل بأقل من هذا، فتصوم من كل طرف سبعة، وتخلي يوما ويوما وتصوم السبعة الباقية، فإن أرادتهما من أربعة وعشرين صامت الثمانية الباقية، ومن خمسة وعشرين التسعة الباقية، ومن ستة وعشرين العشرة الباقية، ومن سبعة وعشرين الأحد عشر، ومن ثمانية وعشرين الاثني عشر، ومن تسعة وعشرين الثلاثة عشر، ومن ثلاثين الأربعة عشر الباقية. أما إذا أرادت ثمانية متتابعة فلا تصح إلا من متتابع وكذا ما زاد، فأقل ما تصح منه ثمانية أربعة وعشرون، وأقل ما تصح منه تسعة خمسة وعشرون، والله أعلم.

فصل في تحصيل المتحيرة صلاة أو صلوات مقضيات أو منذورات
وهذا الذي نذكره فيه تفريع على طريقة المصنف والشيخ أبي زيد والمتأخرين في أنها إذا صامت رمضان حصل منه أربعة عشر وفسد ستة عشر، قال أصحابنا: قضاء الصلاة يجري على قياس قضاء الصوم، فإذا أرادت صلاة واحدة مقتضية أو منذورة أو نحوها صلتها متى شاءت بغسل ثم أمهلت زمانا يسع الغسل وتلك الصلاة ثم تعيدها بغسل آخر، ولها تأخير الصلاة الثانية وغسلها إلى آخر الخامس عشر من حين بدأت بالأولى، ثم تمهل من أول السادس عشر قدر الإمهال الأول، ثم تعيدها بغسل آخر مرة ثالثة قبل تمام شهر من المرة الأولى. ويشترط ألا تؤخر الثالثة عن أول ليلة السادس عشر أكثر من قدر الإمهال بين آخر الأولى وأول الثالثة، ولها أن تنقصه عن قدر الإمهال إن كان إمهالا طويلا بشرط ألا ينقص عن قدر أقل الإمهال، وهو ما يسع تلك الصلاة وغسلها، فلو اغتسلت وصلت ثم أمهلت إلى أول اليوم الثاني فاغتسلت وصلتها فلها أن تفعل الثالثة بغسلها بعد أن يمضي من أول السادس عشر قدر الصلاة الأولى وغسلها، ولها ذلك في أول السابع عشر وما بينهما، ولا يجوز تأخيره عن أول السابع عشر وإن صلت الثانية في أول العاشر فلها فعل الثانية بعد مضي قدرها وغسلها من أول السادس عشر إلى أول السادس والعشرين ولا يجوز بعده.
قال إمام الحرمين وغيره: ولا فرق بين الصلاة وصوم يوم في هذا، إلا أن الصوم يستوعب يوما، فيكون الإمهال الأول يوما فأكثر، والصلاة تحصل في لحظة فكفى الإمهال بقدرها. وهذا الإمهال شرط لا بد منه، فلو أخلت به في أحد الطرفين لم يجزها الصلاة؛ لأنها إن تركت الإمهال الأول وصلت الصلاة الثانية متصلة بالأولى احتمل انقطاع الحيض في أثناء الثانية وابتداؤه في الثالثة، وإن تركت الإمهال الثاني فصلت الثالثة متصلة بالخمسة عشر احتمل انقطاع الحيض في الأولى وابتداؤه في الثالثة.

 

ج / 2 ص -340-       هذا حكم الصلاة الواحدة، فإن أرادت صلوات فهي مخيرة بين طريقتين: إحداهما وهي التي ذكرها المتولي والبغوي وآخرون، ونقلها إمام الحرمين عن الأئمة أنها كالصلاة الواحدة فتصلي تلك الصلوات ثلاث مرات كما ذكرنا في الصلاة الواحدة، وتفعلهن في كل مرة متواليات، وتغتسل في كل مرة للصلاة الأولى وتتوضأ لكل واحدة من الباقيات، , وسواء اتفقت الصلوات أم اختلفت ويشترط من الإمهال ما سبق في الصلاة الواحدة، ويكون مجموع الصلوات كالواحدة فتمهل بعد فعلهن زمانا يسعهن كلهن مع الغسل والوضوءات. 
والطريق الثاني: ذكره إمام الحرمين وغيره أخف من هذا، وهو أنه إن كانت الصلوات متفقات كمائة صبح ضعفتهن وزادت صلاتين، ثم قسمت الجملة نصفين فصلت في أول شهر مائة صبح وصبحا متواليات، ثم صلت في أول السادس عشر مائة وصبحا ويجب لكل صلاة من الجميع غسل جديد بخلاف الطريق الأول، فإذا فعلت هذا حصل لها مائة صبح بيقين؛ لأنه إن قدر ابتداء الحيض في نصف الصبح الأولى فسد ما أتت به في النصف الأول من الشهر، وانقطع في نصف الصبح الأولى من أول السادس عشر فيبقى بعدها مائة وإن بدأ في الصلاة الموفية مائة من الأولى وانقطع في الموفية مائة من السادس عشر حصل تسع وتسعون في الأول مع الزائدة على المائة في السادس عشر، وإن بدأ في الموفية عشرين أو أربعين أو غيرها انقطع في مثلها في السادس عشر، ويحصل تمام المائة مما قبل ابتدائه وبعد انقطاعه. قال إمام الحرمين وغيره: ويشترط أن يكون زمن جملة الأغسال والصلوات في الأول مثل زمنها في السادس عشر، ولا يشترط ضبط أزمنة أفراد الأغسال والصلوات، هذا إذا كانت الصلوات متفقات فإن كانت أجناسا بأن أرادت عشرين صبحا وعشرين ظهرا وعشرين عصرا وعشرين مغربا وعشرين عشاء، فهذه الصور تخالف صورة المتفقات من حيث إنه إذا قدر فساد صلاة بانقطاع الحيض احتمل ذلك كل صلاة من الأجناس الخمسة، فكل جنس يحتمل بطلان صلاتين منه فيجب لهذا الاحتمال أن تزيد على الضعف عشر صلوات من كل جنس صلاتين، فتصلي مائة صلاة من كل جنس عشرين وترتب الأجناس فتبدأ بالصبح مثلا، ثم تصلي بعد المائة وقبل انقضاء الخمسة عشر صلوات من كل جنس صلاتين ثم تمهل من أول السادس عشر زمانا يسع صلاة ثم تعيد المائة من الأجناس على الترتيب السابق فتبرأ مما عليها بيقين؛ لأنه إن بدأ الحيض في الصلاة الأولى انقطع في ساعة الإمهال في أول السادس عشر فتحصل المائة بعدها.
وإن انقطع الحيض في الصلاة الأولى حصل بعدها تسع وتسعون، وحصلت الموفية مائة من العشرة المتوسطة، وإن انقطع في الصبح الثالثة في الأول عاد في الصبح الثانية من السادس عشر، فحصل لها من الأول مائة إلا ثلاثة أصباح وحصل صبحان من العشرة المتوسطة وصبح من المفعولات السادس عشر، وإنما قلنا: يعود في الصبح الثانية ولم نقل في الثالثة بسبب ساعة الإمهال، وعلى هذا التنزيل تخرج باقي التقديرات. وهذا الذي قلناه من ساعة الإمهال في أول السادس عشر لا بد منه؛ لأنها لو لم تمهل بل صلت في أول السادس عشر، بقي عليها صلاة لاحتمال ابتداء الحيض في الصلاة الأولى وانقطاعه في الأول وفي السادس عشر، ويبقى ذلك مائة إلا صلاة، فلو فعلت هذا لزمها إعادة صبح والله أعلم.

 

ج / 2 ص -341-       فصل في طواف المتحيرة
قال أصحابنا: فعل الصلاة الواحدة وصوم اليوم الواحد وفعل الطواف سواء، ففي الأنواع الثلاثة إذا أرادت واحدا منها فطريقها أن تفعله ثلاث مرات بشرط الإمهال الذي ذكرناه في الصوم والصلاة، وجميع ما سبق في الصلاة من التقديرات يجيء مثله في الطواف حرفا حرفا اتفق عليه أصحابنا فإذا أرادت طوافا واحدا أو عددا اغتسلت وطافت ثلاث مرات، وتصلي مع كل طواف ركعتيه، فكل طواف مع ركعتيه وغسله كصلاة مع غسلها فتغتسل وتطوف وتصلي الركعتين، ثم تمهل قدرا يسع مثل طوافها وغسله وركعتيه، ثم تفعل ذلك ثانية ثم تمهل حتى يمضي تمام خمسة عشر يوما من أول اشتغالها بغسل الطواف الأول وتمهل بعد الخمسة عشر لحظة تسع الغسل والطواف وركعتيه ويكون قدر الإمهال الأول ثم تغتسل وتطوف وتصلي ركعتيه مرة ثالثة، والغسل واجب في كل مرة للطواف، وأما الركعتان، فإن قلنا: هما سنة كفى لهما غسل الطواف. وإن قلنا: واجبتان فثلاثة أوجه: الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور يجب للصلاة وضوء لا تجديد غسل، والثاني: لا يجب تجديد غسل ولا وضوء؛ لأنها تابعة للطواف كجزء منه؛ وبهذا قطع المتولي، والثالث: يجب تجديد الغسل، حكاه أبو علي السنجي في "شرح التلخيص" والرافعي وهو شاذ ضعيف، فإن الغسل للركعتين لا فائدة فيه؛ لأنها إن كانت طاهرا حال الطواف ثم حاضت بعده فغسل الحائض باطل، وإن كانت حائضا حال الطواف ثم طهرت فالطواف باطل فلا تصح ركعتاه، وقد صرح الجمهور بأن الغسل لا يجب تجديده للركعتين، وإنما اشتهر الخلاف في الوضوء، فهذا مختصر ما ذكره المحققون المتأخرون في الطواف.
وقال ابن الحداد وأبو علي الطبري والمحاملي وآخرون من كبار المتقدمين: إذا أرادت طوافا أتت به مرتين بينهما خمسة عشر يوما، ونقل الشيخ أبو حامد هذا عن أصحابنا، ثم قال: وهذا غلط لاحتمال وقوعهما في حيضتين وبينهما طهر قال: ولكن تطوف ثم تمهل تمام خمسة عشر يوما من حين شرعت في الطواف ثم تطوف ثانيا، وهذا الذي اختاره الشيخ أبو حامد هو الذي قطع به صاحب "الحاوي" والشيخ أبو علي السنجي، وكل هذا ضعيف أو باطل، والصواب ما قدمناه عن حذاق المتأخرين أنها تطوف ثلاث مرات، وقد أطبق عليه متأخرو الخراسانيين ووافقهم من كبار العراقيين الدارمي والقاضي أبو الطيب بعد تخطئتهما الأصحاب في اقتصارهم على طوافين.
وأما قول المصنف: "وعلى هذا القياس تعمل في طوافها" فظاهره أنها إذا أرادت طوافا واحدا طافته أربع مرات فتطوف مرتين ثم تمهل تمام خمسة عشر، ثم تطوف مرتين كما ذكر هو في صوم اليوم الواحد أنها تصومه من أربعة أيام، وقد صرح بهذا في الطواف شيخه القاضي أبو الطيب في كتابه شرح فروع ابن الحداد وهذا صحيح لكن ليس متعينا، بل الاقتصار على ثلاث جائز على ما بيناه والله أعلم.

 

ج / 2 ص -342-       فصل في مسائل ذكرها صاحب "البحر" تتعلق بالمتحيرة
إحداها: لو صلت امرأة خلف المتحيرة لم يصح اقتداؤها لاحتمال مصادفة الحيض فأشبه صلاة الرجل خلف خنثى وليس كمن صلى خلف من يشك في حدثه؛ لأن الظاهر هناك الطهارة.
الثانية: صلت متحيرة خلف متحيرة فيه وجهان،: الصحيح لا يصح اقتداؤها.
الثالثة: وطئ المتحيرة زوجها في نهار رمضان وهما صائمان، وقلنا: يلزم المرأة الكفارة للجماع لا يلزمها هنا على الصحيح من الوجهين؛ لاحتمال الحيض، والأصل براءتها.
الرابعة: أفطرت متحيرة لإرضاع ولدها، وقلنا: يلزم المفطرة للإرضاع فدية فلا يلزم المتحيرة على الصحيح لما ذكرناه في الجماع في الصوم.
الخامسة: إذا كان عليها قضاء صوم يوم فقد سبق أنها تقضيه بثلاثة أيام، فلو صامت يوما من الثلاثة ثم شكت هل كانت نوت صومه أم لا؟ فوجهان: أحدهما: يحسب لها اليوم ولا أثر للشك؛ لأنه بعد فراغ اليوم، والثاني: لا يحسب؛ لأن صيام الأيام الثلاثة كيوم واحد، فأشبه الشك قبل فراغ اليوم قال: وأصل هذا أن من عليه صوم شهرين متتابعين فصام يوما ثم شك هل نوى أم لا؟ هل غير النية أم لا؟ هل يلزمه الاستئناف؟ فيه وجهان: قلت: الأظهر أنه لا يؤثر هذا الشك في الصورتين؛ لأنه بعد الفراغ حقيقة؛ ولأنه يشق الاحتراز منه.
السادسة: لو أرادت المتحيرة الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت الأولى لم يصح؛ لأن شرطه أن تتقدم الأولى وهي صحيحة يقينا، أو بناء على أصل؛ ولم يوجد هنا، وليس كمن شك هل أحدث أم لا؟ فصلى الظهر، فإن له أن يصلي بعدها العصر جمعا؛ لأنه يبني على أصل الطهارة السابقة.
السابعة: إذا قلنا: تصح صلاة الطاهر خلف مستحاضة في زمن محكوم بأنه طهر فصلت خلف مستحاضة لها حيض وطهر في الزمن المشكوك فيه فوجهان: أحدهما لا يصح مطلقا، كما يحرم الوطء مطلقا، وأصحهما إن كان المشكوك عقيب الطهر جاز، وإن كان عقيب الحيض لم يجز بناء على الأصل والله أعلم.
فرع: يجب على الزوج نفقة زوجته المتحيرة، ممن نص عليه الغزالي في الخلاصة، ولا خيار له في فسخ نكاحها؛ لأن جماعها ليس مأيوسا منه، بخلاف الرتقاء، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كانت ناسية لوقت الحيض ذاكرة العدد، فكل زمن تيقنا فيه الحيض ألزمناها اجتناب ما تجتنبه الحائض، وكل زمان تيقنا فيه طهرها أبحنا فيه ما يباح للطاهر وأوجبنا ما يجب على الطاهر، وكل زمان شككنا في طهرها حرمنا وطأها وأوجبنا ما يجب على الطاهر احتياطا، وكل زمان جوزنا فيه انقطاع الحيض أوجبنا عليها أن تغتسل فيه للصلاة، ويعرف ذلك بتنزيل أحوالها، ونذكر من ذلك مسائل تدل على جميع أحكامها إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

 

ج / 2 ص -343-       فإذا قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر لا أعرف وقتها لم يكن لها حيض ولا طهر بيقين؛ لأنه يمكن في كل وقت أن تكون حائضا ويمكن أن تكون طاهرا، فيجعل زمانها في الصلاة والصوم زمان الطهر، وتتوضأ في العشر الأول لكل فريضة، ولا تغتسل،؛ لأنه لا يمكن انقطاع الدم فيه، فإذا مضى العشر أمرناها بالغسل لإمكان انقطاع الدم، ثم نلزمها بعد ذلك أن تغتسل لكل صلاة إلى آخر الشهر؛ لأن كل وقت من ذلك يمكن انقطاع الدم فيه، فإن عرفت وقتا من اليوم كان ينقطع دمها فيه ألزمناها أن تغتسل كل يوم في ذلك الوقت، ولا يلزمها أن تغتسل في غيره؛ لأنا قد علمنا وقت انقطاع دمها من اليوم.
وإن قالت: كنت أحيض إحدى العشرات الثلاث من الشهر فليس لها حيض ولا طهر بيقين، فنجعل زمانها زمان الطهر فتصلي من أول الشهر وتتوضأ لكل فريضة وتغتسل في آخر كل عشر لإمكان انقطاع الدم فيه، وإن قالت: حيضي ثلاثة أيام في العشر الأول من الشهر فليس لها حيض ولا طهر بيقين في هذه العشرة، فتصلي من أول العشر ثلاثة أيام بالوضوء ثم تغتسل لكل صلاة، [إلى آخر العشر] إلا أن تعرف انقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل ذلك الوقت في كل يوم وتتوضأ في غيره. وإن قالت: كان حيضي أربعة أيام من العشر الأول صلت بالوضوء أربعة أيام ثم تغتسل لكل صلاة، [إلى آخر العشر] وعلى هذا التنزيل في الخمس والست والسبع والثمان والتسع، فإن علمت يقين طهرها في وقت بأن قالت: كان حيضي عشرة أيام في كل شهر، وأعلم أني كنت في العشر الأخيرة طاهرا. فإنها في العشر الأول تتوضأ لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فإذا مضت العشر اغتسلت لكل صلاة، إلا أن تعلم انقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل فيه دون غيره، وفي العشر الثالثة طاهر بيقين فتتوضأ لكل فريضة. وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام في العشر الأول وكنت في اليوم الأول من العشر الأول طاهرا، ففي اليوم الأول طهر بيقين فتتوضأ فيه لكل صلاة فريضة وفي اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس طهر مشكوك فيه فتتوضأ فيه لكل فريضة، والسادس حيض بيقين، فإنه على أي تنزيل نزلنا لم يخرج اليوم السادس منه، فتترك فيه ما تترك الحائض ثم تغتسل في آخره لإمكان انقطاع الدم فيه، ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر العاشر، ثم تدخل في طهر بيقين فتتوضأ لكل فريضة، وإن قالت: كان حيضي ستة أيام في العشر الأول، كان لها يوما حيض بيقين، وهما الخامس والسادس،؛ لأنه إن ابتدأ الحيض من أول العشر فآخره السادس، وإن ابتدأ من الخامس فآخره العاشر، والخامس والسادس داخلان فيه بكل حال. وإن قالت: كان حيضي سبعة أيام من العشر الأول حصل لها أربعة أيام حيض بيقين، وهي من الرابع إلى السابع، وإن قالت: ثمانية كان حيضها بيقين ستة من الثالث إلى آخر الثامن. فإن قالت: تسعة كان ثمانية من الثاني إلى آخر التاسع لما بينا وإن قالت: كان حيضي في كل شهر عشرة أيام لا أعرفها وكنت في اليوم السادس طاهرا فإنها من أول الشهر إلى آخر السادس في طهر بيقين. ومن السابع إلى آخر الشهر في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ لكل فريضة إلى أن يمضي عشرة أيام بعد السادس، ثم تغتسل لامكان انقطاع الدم فيه، ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة، إلا أن تعرف الوقت الذي كان ينقطع فيه الدم فتغتسل كل يوم فيه دون غيره. وإن قالت: كان حيضي في كل شهر خمسة أيام لا أعرف موضعها وأعلم إني كنت في الخمسة الأخيرة

 

ج / 2 ص -344-       طاهرا وأعلم أن لي طهرا صحيحا غيرها في كل شهر، فإنه يحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الأولى والباقي طهرا، ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الثانية والباقي طهرا، ولا يجوز أن يكون في الخمسة الثالثة؛ لأن ما قبلها وما بعدها دون أقل الطهر، ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الرابعة ويكون ما قبلها طهرا، ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الخامسة ويكون ما قبلها طهرا فيلزمها أن تتوضأ لكل صلاة في الخمسة الأولى وتصلي؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تغتسل لكل فريضة من أول السادس إلى آخر العاشر؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الدم في كل وقت منه ومن أول الحادي عشر إلى آخر الخامس عشر تتوضأ لكل فريضة؛ لأنه طهر بيقين، ومن أول السادس عشر تتوضأ لكل صلاة إلى آخر العشرين؛ لأنه طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الحيض فيه، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الخامس والعشرين؛ لأنه طهر مشكوك فيه، وتغتسل لكل صلاة؛ لأنه يحتمل انقطاع الحيض في كل وقت منها، ومن أول السادس والعشرين إلى آخر الشهر تتوضأ لكل فريضة؛ لأنه طهر بيقين.
وإن علمت يقين الحيض في بعض الأيام بأن قالت: كان حيضي في كل شهر عشرة أيام وكنت أكون في اليوم العاشر حائضا، فإنه يحتمل أن يكون العاشر آخر حيضها ويكون ابتداؤها من أول الشهر ويحتمل أن يكون العاشر أول حيضها فيكون آخره التاسع عشر، ويحتمل أن يكون ابتداؤها ما بين اليوم الأول من الشهر واليوم العاشر، فهي من أول الشهر إلى اليوم التاسع في طهر مشكوك فيه، ولا يحتمل انقطاع الدم فيه فتتوضأ لكل صلاة وتصلي، واليوم العاشر يكون حيضا بيقين، تترك فيه ما يجب على الحائض تركه وتغتسل في آخره، ثم تغتسل لكل صلاة إلى تمام التاسع عشر، إلا أن تعلم انقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل فيه من الوقت إلى الوقت، ثم بعد ذلك في طهر بيقين إلى آخر الشهر، فتتوضأ لكل صلاة فريضة. فإن قالت: كان حيضي في كل شهر عشرة أيام، ولي في كل شهر طهر صحيح، وكنت في اليوم الثاني عشر حائضا، فإنها في خمسة عشر يوما من آخر الشهر في طهر بيقين، وفي اليوم الأول والثاني من أول الشهر في طهر بيقين، وفي الثالث والرابع والخامس في طهر مشكوك فيه، تتوضأ فيه لكل فريضة، وفي السادس إلى تمام الثاني عشر في حيض بيقين، ومن الثالث عشر إلى تمام الخامس عشر في طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الحيض في كل وقت منها فتغتسل لكل صلاة. وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من العشر الأول، وكنت في اليوم الثاني من الشهر طاهرا وفي اليوم الخامس حائضا، فإنه يحتمل أن يكون ابتداء حيضها من الثالث وآخره إلى تمام السابع، ويحتمل أن يكون من الرابع وآخره إلى تمام الثامن، ويحتمل أن يكون ابتداؤه من الخامس وآخره تمام التاسع، فاليوم الأول والثاني طهر بيقين، والثالث والرابع طهر مشكوك فيه، والخامس والسادس والسابع حيض بيقين، ثم تغتسل في آخر السابع، فيكون ما بعده إلى تمام التاسع طهرا مشكوكا فيه تغتسل فيه لكل صلاة. وإن قالت: كان لي في كل شهر حيضتان ولا أعلم موضعهما ولا عددهما، فإن الشيخ أبا حامد الإسفراييني رحمه الله ذكر أن أقل ما يحتمل أن يكون حيضها يوما من أول الشهر ويوما من آخره ويكون ما بينهما طهرا. وأكثر ما يحتمل أن يكون حيضها أربعة عشر يوما من أول الشهر أو من آخره ويوما وليلة من أول الشهر أو من آخره ويكون بينهما خمسة عشر يوما طهرا، ويحتمل ما بين الأقل والأكثر فيلزمها أن تتوضأ وتصلي في اليوم الأول من الشهر؛ لأنه طهر مشكوك فيه,

 

ج / 2 ص -345-       ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر لاحتمال انقطاع الدم فيه، ويكون الخامس عشر والسادس عشر طهرا بيقين؛ لأنه إن كان ابتداء الطهر في اليوم الثاني، فاليوم السادس عشر آخره. وإن كان من الخامس عشر، فالخامس عشر والسادس عشر داخل في الطهر، ومن السابع عشر إلى آخر الشهر طهر مشكوك فيه. وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله: هذا خطأ؛ لأنا إذا نزلناها هذا التنزيل لم يجز أن يكون هذا حالها في الشهر الذي بعده، بل يجب أن تكون في سائر الشهور كالمتحيرة الناسية لأيام حيضها ووقته، فتغتسل لكل صلاة ولا يطؤها الزوج. وتصوم رمضان وتقضيه على ما بيناه".
الشرح: إذا كانت ناسية لوقت الحيض ذاكرة لعدده فالقاعدة فيه أن كل زمان تيقنا فيه حيضها ثبت فيه جميع أحكام الحيض، وكل زمان تيقنا فيه طهرها ثبت فيه جميع أحكام الطاهر المستحاضة، وكل زمان احتمل الحيض والطهر أوجبنا فيه الاحتياط فيجب عليها ما يجب على الطاهر من العبادات، وحكمها في الاستمتاع حكم الحائض. ثم إن كان هذا الزمان المحتمل للطهر وللحيض لا يحتمل انقطاع الحيض لزمها الوضوء لكل فريضة، ولا يجب الغسل. وإن كان يحتمل انقطاع الحيض وجب الغسل لكل فريضة لاحتمال انقطاع الدم قبلها، فإن علمت أنه كان ينقطع في وقت بعينه من ليل أو نهار اغتسلت كل يوم في ذلك الوقت، ولا غسل عليها إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الثاني.
هذا أصل الفصل وتمهيد قاعدته، وعليه يخرج كل ما سنذكره إن شاء الله تعالى وهذا القدر كاف لمن يؤثر الاختصار، ولكن عادة الأصحاب إيضاحه وبسطه بالأمثلة، وأنا أتابعهم وأذكر إن شاء الله تعالى مسائل مستقصاة ملخصة واضحة في فروع متراسلة ليكون أنشط لمطالعيه، وأبعد من ملالة ناظريه، وأيسر في تحصيل المرغوب منه فيه، وأسهل في إدراك الطالب ما يبغيه، والله الكريم أستعينه وأستهديه.
فرع: قال أصحابنا رحمهم الله: الحافظة لقدر حيضها إنما ينفعها حفظها وتخرج عن التحير المطلق إذا حفظت مع ذلك قدر الدور وابتداءه، فإن فقدت ذلك بأن قالت: كان حيضي خمسة عشر أضللتها في دوري ولا أعرف سوى ذلك فلا فائدة فيما ذكرت لاحتمال الحيض والطهر والانقطاع في كل وقت، وكذا لو قالت: حيضي خمسة عشر وابتداء دوري يوم كذا ولا أعرف قدره فلا فائدة فيما حفظت للاحتمال المذكور، ولها في هذين المثالين حكم المتحيرة في كل شيء. وهكذا لو قالت: كان حيضي خمسة من كل ثلاثين ولا أعرف ابتداءها أو لا أدري أهي في كل شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين؟ ولا أدري في أي وقت من شهر هي؟ فهذه لها حكم المتحيرة التي لا تذكر شيئا أصلا؟ وحكمها ما سبق إلا في الصيام فإنها إذا قالت: كان حيضي خمسة أيام من ثلاثين وصامت رمضان حصل لها خمسة وعشرون يوما إن كان تاما، وعلمت أن حيضها كان يبتدئها في الليل، فإن علمت أنه كان يبتدئها في النهار أو شكت حصل لها أربعة وعشرون يوما، ثم إذا أرادت قضاء صوم هذه الخمسة صامت أحد عشر يوما، فيحصل لها منها خمسة على كل تقدير ولا يكفيها صوم عشرة لاحتمال الابتداء في أثناء يوم؛ فيفسد ستة إلا أن تعلم أنه كان يبتدئها في الليل فيكفيها العشرة، ولو كان على

 

ج / 2 ص -346-       هذه التي قالت كان حيضي خمسة من ثلاثين صوم يوم واحد صامت يومين بينهما أربعة أيام إن علمت أن حيضها كان يبتدئ في الليل فيحصل لها يوم، فإن لم تعلم وقت ابتدائه صامت يومين بينهما خمسة أيام، فيحصل أحدهما، ولو كان عليها يومان صامتهما مرتين بينهما ثلاثة أيام إن علمت الابتداء ليلا، وإلا فأربعة وضابطه إذا لم تعلم وقت الابتداء أنها تضيف إلى أيام الحيض يوما لاحتمال الطرءان في أثناء النهار وتصوم ما عليها ثم تفطر بقدر الباقي من أيام الحيض مع اليوم المضاف ثم تصوم اليوم الذي عليها مرة أخرى. فإن كان عليها يومان وحيضها خمسة من ثلاثين كما ذكرنا أضافت يوما فتصير ستة فتصوم يومين وتفطر أربعة ثم تصوم يومين، ولو كان عليها ثلاثة صامتها ثم أفطرت ثلاثة ثم صامت ثلاثة وهكذا ما أشبه ذلك والله أعلم.
فرع: إذا قالت: حيضي خمسة أيام في كل ثلاثين يوما أو عشرة من عشرين من الشهر، أو من خمسة عشر وشبه ذلك، فهذه قد يكون لها حيض بيقين وطهر بيقين، ومشكوك فيه يحتمل انقطاع الحيض فيه ومشكوك فيه لا يحتمله، وقد لا يكون حيض ولا طهر بيقين وقد يكون طهر بيقين دون حيض بيقين ولا يتصور عكسه وطريقة معرفة هذه الأقسام أن تنظر إلى المنسي، فإن كان نصف المنسي فيه أو أقل لم يكن لها حيض بيقين، وإن كان أكثر من نصفه كان لها حيض بيقين، وهو يقدر على ما زاد على النصف مرتين، ويكون من وسط المنسي فيه ويكون ما قبله مشكوكا فيه لا يحتمل الانقطاع فتتوضأ لكل فريضة كسائر المستحاضات وما بعده تغتسل لكل فريضة، وإن شئت 1 أسقطت المنسي من المنسي فيه، ثم أسقطت بقية المنسي فيه من المنسي، فما بقي فهو حيض بيقين، وتلك البقية هي القدر المشكوك فيه من الطرفين.
مثال ذلك وهو مثال يجمع الأقسام الأربعة قالت: كان حيضي ستة أيام من العشرة الأولى من الشهر فيجعل شهرها أربعة أقسام، الأربعة الأولى زمن مشكوك فيه يحتمل الانقطاع فتتوضأ فيها لكل فريضة وتصلي الخامس والسادس حيض بيقين، لأنه إن بدأ الحيض في أول العشرة انتهى إلى آخر السادس، وإن انقطع على العاشر بدأ من الخامس، فالخامس والسادس حيض لدخولهما في التقديرين، والسابع والثامن والتاسع والعاشر مشكوك فيه يحتمل الانقطاع، فتغتسل فيها لكل فريضة إلا أن تعلم أن الدم كان ينقطع في وقت من اليوم فيكفيها كل يوم غسل واحد في ذلك، وتتوضأ لباقي فرائض ذلك اليوم، وما بعد العشرة إلى آخر الشهر طهر بيقين. ولو قالت: حيضي سبعة أيام من العشرة الأولى فلها أربعة أيام حيض بيقين وهي الرابع والخامس والسادس والسابع وتتوضأ للثلاثة الأولى وتغتسل للثلاثة الأخيرة لكل فريضة إلا أن تعلم الانقطاع في وقت بعينه، ولو قالت: ثمانية من العشرة فحيضها ستة، أولها الثالث، ولو قالت: تسعة من العشرة فحيضها ثمانية، أولها الثاني وتتوضأ في اليوم الأول وتغتسل لكل فريضة في العاشر. ولو قالت: ستة من أحد عشر فالسادس حيض بيقين وتتوضأ لكل فريضة في الخمسة الأولى وتغتسل في الخمسة الأخيرة، ولو قالت: خمسة من التسعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  كذا بالأصل ولعله: شاءت (ط).

 

ج / 2 ص -347-       الأولى فالخامس حيض بيقين وتتوضأ لما قبله وتغتسل لما بعده إلى آخر التاسع وما بعده إلى آخر الشهر طهر بيقين.
ولو قالت: حيضي عشرة من الشهر فليس لها حيض ولا طهر بيقين فتتوضأ لكل فريضة إلى قبيل آخر العاشر ثم تغتسل من آخر العاشر إلى آخر الشهر لكل فريضة إلا أن تعلم الانقطاع في وقت بعينه فيكفيها الغسل فيه كل يوم مرة، ولو قالت: عشرة من العشرين الأول توضأت إلى قبيل آخر العاشر ثم اغتسلت إلى آخر العشرين ثم هي طاهرة بيقين في العشر الأخيرة. ولو قالت: عشرة من الخمسة عشر الأولى فالخمسة الأولى تتوضأ والخمسة الثانية حيض بيقين، والثالثة تغتسل وباقي الشهر طهر بيقين.
ولو قالت: خمسة عشر في العشرين الأولى فالخمسة الأولى تتوضأ والثانية والثالثة حيض بيقين، والرابعة تغتسل والعشرة الأخيرة طهر بيقين، ولو قالت عشرة في العشرين الأخيرة فالعشرة الأولى طهر بيقين؛ والثانية تتوضأ؛ والثالثة تغتسل، ولو قالت خمسة عشر من العشرين الأخيرة فالعشرة الأولى طهر بيقين والخمسة الثالثة تتوضأ والرابعة والخامسة حيض بيقين والسادسة تغتسل. ولو قالت: حيضي إحدى العشرات فلا حيض ولا طهر بيقين فتتوضأ في جميع الشهر إلى آخر العشرات، فتغتسل في آخر كل عشرة. ولو قالت: حيضي يومان من العشرة الأولى، أو قالت ثلاثة، أو قالت أربعة، أو قالت خمسة فلا حيض ولا طهر فتتوضأ مدة أيامها، ثم تغتسل لكل فريضة إلى آخر العشرة ثم هي طاهر بيقين.
وأما قول المصنف رحمه الله: "وعلى هذا التنزيل في الخمس والست والسبع والثمان والتسع" فهو مما عدوه من "مشكلات المهذب" حتى إن بعضهم قال: مراد المصنف أنها إذا قالت: لي تسعة أيام في العشرة الأولى فلا حيض لها بيقين، ثم اعترض هذا الحامل وغلط المصنف ولقد أخطأ هذا الحامل وظلم بوضعه الكلام في غير موضعه، فإن المصنف رحمه الله أجل قدرا وأعلى محلا من أن يخفى عليه هذا الذي لا يشك فيه أقل مبتدئ شرح باب الحيض، فكيف يظن بهذا الإمام أنه يقول إذا قالت: حيضي تسعة أيام من العشرة الأولى فلا حيض لها، وأي خفاء في هذا ليغلط فيه. وإنما مراد المصنف عطف هذا الكلام على ما تقدم في أول الفصل وهو قوله: فكل زمان تيقنا فيه الحيض ألزمناها اجتناب ما تجتنبه الحائض، إلى قوله: ويعرف ذلك بتنزيل أحوالها، ثم قال: ونذكر من ذلك مسائل تدل على أحكامها فذكر ما ذكره، ثم قال: وعلى هذا التنزيل في الخمس والست، يعني يعمل ما ذكرناه وبه يعرف يقين الحيض والطهر والمشكوك فيه، فيعمل في الست والسبع والثمان والتسع على ما ذكرنا من التنزيل وهو أن ما احتمل الحيض والطهر فهو مشكوك فيه، وما يتعين لأحدهما فهو له؛ وحينئذ إذا قالت: خمسة من العشرة فلا حيض بيقين وتتوضأ في خمسة.
ولو قالت: ستة من العشرة فالخامس والسادس حيض، وإن قالت: سبعة فأربعة حيض أولها الرابع كما سبق إيضاحه، فهذا تأويل صحيح لكلام المصنف، وذكر صاحب "البيان" في كتابه "مشكلات المهذب" لكلامه تأويلين أحدهما: وهو الذي اقتصر عليه في البيان: أن معناه إذا قالت:

 

ج / 2 ص -348-       كان حيضي في الخمس أو الست أو السبع أو الثمان أو التسع أياما لا يزيد على نصف المنسي فيه بأن قالت: كان حيضي في الخمس يومين أو في الست والسبع والثمان والتسع ثلاثة فاقتصر المصنف على ذكر الأيام المنسي فيها ولم يذكر قدر المنسي وعطف ذلك على ما ذكره في قوله: فإن قالت: كان حيضي في العشرة ثلاثة أو أربعة، لأن الثلاثة والأربعة أقل من نصف العشرة  قلت: فعلى هذا تكون الخمس والست والسبع والثمان والتسع معطوفات على العشرة.
والتأويل الثاني: أنه أراد إذا قالت: حيضي خمس أو ست أو سبع أو ثمان أو تسع من أيام لا تزيد هذه المذكورة على نصفها، فذكر المنسي دون المنسي فيه اكتفاء بما ذكره واعتمادا على فهم السامع بعد تقرير القاعدة فهذه ثلاثة أجوبة عن عبارة المصنف على تقدير ثبوتها عنه، وقد قال بعض كبار متأخري أصحابنا المذكورين، طبقة أصحاب المصنف أنه رأى جزءا فيه وصية الشيخ أبي إسحاق المصنف رحمه الله إلى الفقهاء؛ وفيه أنه أمرهم بالضرب على قوله، وعلى هذا التنزيل في الخمس والست والسبع والثمان والتسع، والله أعلم.
فرع: فيما إذا عرفت يقين طهرها في وقت من الشهر، بأن قالت: كان حيضي عشرة من الشهر لا أعلم عينها، وأعلم أني كنت في العشرة الأخيرة طاهرا فالعشرة الأولى تتوضأ والثانية تغتسل لكل فريضة، إلا أن تعلم الانقطاع في وقت؛ فتقتصر على الغسل فيه كل يوم والعشرة الأخيرة طهر بيقين، وتوجيه هذا ظاهر وكذا ما أشبهه مما أحذف دليله، فإن ذكرت ما قد يخفى دليله بينته إن شاء الله تعالى فإن قالت: حيضي عشرة من الشهر وكنت في العشرة الأولى طاهرا فالعشرة الأولى طهر بيقين؛ والثانية تتوضأ، والثالثة تغتسل لكل فريضة وإن قالت: حيضي خمسة من العشرة الأولى، وكنت أكون في اليوم الأول طاهرا فالأول طهر بيقين، والثاني والثالث والرابع والخامس تتوضأ لكل فريضة والسادس حيض بيقين، والسابع إلى آخر العاشر تغتسل لكل فريضة، وما بعد العاشر إلى آخر الشهر طهر بيقين، وإن قالت: حيضي خمسة من العشرة الأولى وكنت طاهرا في الثاني فاليومان الأولان طهر بيقين، والثالث والرابع والخامس تتوضأ والسادس والسابع حيض بيقين والثامن والتاسع والعاشر تغتسل لكل فريضة، وإن قالت حيضي خمسة من العشرة الأولى وكنت طاهرا في الثالث فالثلاثة الأولى طهر، والرابع والخامس تتوضأ، والسادس والسابع والثامن حيض بيقين، والتاسع والعاشر تغتسل لكل فريضة. وإن قالت: حيضي عشرة من الشهر وكنت طاهرا في السادس، فالستة الأولى طهر بيقين، ومن السابع إلى آخر السادس عشر تتوضأ ثم بعده تغتسل إلى آخر الشهر لكل فريضة. وكذا لو قالت: حيضي عشرة من الشهر، وكنت طاهرا في السابع أو التاسع أو العاشر، فاليوم الذي كانت فيه طاهرا وما قبله طهر ثم بعده تتوضأ عشرة أيام ثم تغتسل إلى آخر الشهر.
وإن قالت حيضي عشرة من الشهر وكنت في الحادي عشر طاهرا فالعشرة الأولى تتوضأ وتغتسل في آخرها لاحتمال الانقطاع والحادي عشر طهر بيقين، وبعده تتوضأ إلى آخر الحادي والعشرين، ثم تغتسل بعده إلى آخر الشهر لكل فريضة. وإن قالت: حيضي خمسة من الشهر وكنت في الخمسة الأخيرة طاهرا، أو لي طهر صحيح غيرها فيحتمل أن حيضها الخمسة الأولى والباقي

 

ج / 2 ص -349-       طهر. ويحتمل أن تكون الخمسة الثانية، والباقي طهر ويحتمل أن تكون الرابعة. ويحتمل أن تكون الخامسة، ولا يجوز أن تكون الثالثة لأنه لا يبقى قبلها ولا بعدها أقل الطهر سوى الخمسة الأخيرة فالخمسة الأولى تتوضأ والثانية تغتسل لاحتمال الانقطاع والثالثة طهر بيقين، والرابعة تتوضأ والخامسة تغتسل، لاحتمال الانقطاع والسادسة طهر بيقين. وإن قالت: حيضي خمسة عشر من الشهر، وكنت في الثاني عشر طاهرا، فالثاني عشر وما قبله طهر بيقين، والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر تتوضأ والسادس عشر فما بعده إلى آخر السابع والعشرين حيض بيقين والثلاثة الأخيرة تغتسل لكل فريضة. ولو قالت: حيضي خمسة من العشرة الأولى، وكنت في السادس طاهرا فحيضها الخمسة الأولى وإن قالت: كنت في الخامس طاهرا فحيضها الخمسة الثانية، وليست في هاتين ناسية وإن كان سؤالها كسؤال ناسية، وإن قالت: وكنت في السادس حائضا فالسادس حيض بيقين فتغتسل بعده إلى آخر العشرة وتتوضأ في الأربعة قبله، واليوم الأول طهر بيقين.
ولو قالت: وكنت في الخامس حائضا فالخامس حيض، وتتوضأ في الأربعة قبله وتغتسل بعده إلى آخر التاسع ثم ما بعده طهر بيقين، وإن قالت: حيضي خمسة من العشرة الأولى وكنت في الثاني طاهرا وفي الخامس حائضا فالأول والثاني طهر بيقين وكذا العاشر وما بعده والخامس والسادس والسابع حيض بيقين وتتوضأ في الثالث والرابع وتغتسل في الثامن والتاسع. ولو قالت: لا أعلم قدر حيضي وأعلم أني كنت طاهرا في طرفي الشهر فلحظة من أول الشهر ولحظة من آخره طهر بيقين ثم بعد اللحظة الأولى تتوضأ يوما وليلة ثم تغتسل لكل فريضة إلى أن يبقى لحظة من آخر الشهر ثم اللحظة مع اللحظة الأولى من الشهر الآتي طهر. 
فرع: فيما إذا عرفت يقين حيضها في وقت من الشهر فإن قالت كان حيضي عشرة أيام في كل شهر لا أعلمها وأعلم أني كنت أكون حائضا في العاشر فتتوضأ إلى آخر التاسع ويكون العاشر حيضا وتغتسل بعده إلى آخر التاسع عشر ثم باقي الشهر طهر بيقين فإن قالت: حيضي عشرة لا أعلمها وكنت حائضا في السادس فالخمسة الأولى تتوضأ والثانية حيض بيقين لدخولها في التقديرين. والثالثة تغتسل لكل فريضة وباقي الشهر طهر بيقين. وإن قالت: حيضي عشرة من الشهر وكنت حائضا في الثاني عشر فاليومان الأولان طهر بيقين وما بعدهما إلى آخر الحادي عشر تتوضأ والثاني عشر حيض بيقين وتغتسل بعده إلى آخر الحادي والعشرين وما بعده طهر بيقين ولو قالت: حيضي خمسة عشر وكنت حائضا في الثاني عشر فالثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر حيض بيقين والأحد عشر قبلها تتوضأ ومن السادس عشر إلى آخر السادس والعشرين تغتسل لكل فريضة والأربعة الباقية من الشهر طهر بيقين. ولو قالت: حيضي في كل شهر عشرة ولي في كل شهر طهر صحيح وكنت في الثاني عشر حائضا؛ فاليومان الأولان طهر بيقين، والثالث والرابع والخامس تتوضأ ومن أول السادس إلى آخر الثاني عشر حيض بيقين والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر تغتسل لكل فريضة والخمسة عشر الباقية طهر بيقين.
ولو قالت: حيضي خمسة من العشرة الأولى وكنت في اليوم الأول حائضا؛ فحيضها الخمسة

 

ج / 2 ص -350-       الأولى، وإن قالت: كنت في العاشر حائضا فحيضها الخمسة الثانية وليست في الصورتين ناسية وإن كان سؤالها كسؤال الناسية.
فرع: إذا قالت: كان لي في كل شهر حيضتان لا أعلم موضعهما ولا قدرهما 1.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ذكر الشيخ أبو حامد أن أقل ما يحتمل أن يكون حيضا يوم من أول الشهر أو آخره ويوم وليلة من أول الشهر أو آخره ويكون بينهما خمسة عشر يوما طهرا، ويحتمل ما بين الأقل والأكثر، فيلزمها أن تتوضأ وتصلي في اليوم الأول من الشهر لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر لاحتمال انقطاع الدم فيه، ويكون الخامس عشر والسادس عشر طهرا بيقين لأنه إن كان ابتداء الطهر في اليوم الثاني فالسادس عشر إلى آخر الشهر طهر مشكوك فيه. وقال شيخنا القاضي أبو الطيب: هذا خطأ لأنا إذا نزلنا هذا التنزيل لم يجز أن يكون ذلك حالها في الشهر الذي بعده، بل يجب أن تكون في سائر الشهور كالمتحيرة الناسية لأيام حيضها ووقته فتغتسل لكل صلاة، ولا يطؤها الزوج، وتصوم رمضان وتقضيه على 2 ما بيناه".
هذا كلام المصنف وكذا نقله المتأخرون عن الشيخ أبي حامد وكذا قطع بما قاله أبو حامد المحاملي وابن الصباغ وآخرون، ونقله صاحب "البيان" عن أكثر أصحابنا وحكاه القاضي أبو الطيب في "تعليقه" عن أبي حامد ثم قال: وهذا خطأ بيقين، لأنه يحتمل أن يكون اليوم الأخير حيضا، فيعقبه خمسة عشر طهر من الشهر الثاني فلا يبقى بعد ذلك من الشهر الثاني ما يسع حيضتين قال وكذا قوله: إن الخامس عشر والسادس عشر طهر بيقين؛ وليس بصحيح فيما سوى الشهر الأول قال: فالصواب في هذا أن يقال: هذا الذي قالته لا يتصور فكأنها لم تقل شيئا فهي متحيرة لا تحفظ شيئا قال: وإنما يصح ما ذكره أبو حامد فيما إذا قالت: لي حيضتان في شهر بعينه فيكون حكمها في ذلك لشهر بعينه ما ذكره وتكون فيما سواه متحيرة. هذا كلام أبي الطيب. وهذا الإنكار الذي أنكروه على أبي حامد متوجه على ما نقلوه من عبارة أبي حامد أنها قالت: لي في كل شهر حيضتان والذي رأيته أنا في تعليق أبي حامد إذا قالت لي حيضتان من الشهر والباقي طهر وهذه العبارة لا تقتضي تكرر ذلك في كل شهر. وأعلم أن الشيخ أبا حامد أرفع محلا وأعظم مرتبة من أن يخفى عليه هذا الذي نقلوه عنه وهو خطأ ظاهر لا يخفى على أقل متفقه شرح باب الحيض، فيتعين حمل كلام الشيخ أبي حامد مما نقلته عن "تعليقه" أنها قالت: لي في الشهر الفلاني حيضتان فيكون حكمها ما ذكره، وقد وافق عليه القاضي أبو الطيب كما سبق ولا شك في صحة هذا وعبارته تقتضيه.
أما عبارة من يقول ذلك فيما إذا قالت: لي في كل شهر حيضتان فمحمولة على هذا؛ ومعناها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  آثرنا وضعها في صورة الفصول المعزوة إلى المصنف وإن سبقت على سبيل الاستشهاد لما يقول (ط).
2  هذه القطعة مكررة ساقها الشارح استشهادا وليعقب عليها بكلام جديد (ط).

 

ج / 2 ص -351-       لي في كل شهر أحيضه حيضتان، وكنت أحيض في صفر وجمادى وشوال مثلا، فحصل أن كلام أبي حامد صحيح وأنه ينبغي ألا يجعل بينه وبين أبي الطيب خلاف، والله أعلم.
وأما قول المصنف: "يحتمل ما بين الأقل والأكثر" فمعناه أنه يحتمل أن حيضها ثلاثة أيام؛ يومان في آخر الشهر ويوم في أوله، ويحتمل عكسه، ويحتمل أنه أربعة بعضها في أوله وبعضها في آخره، وكذا خمسة وستة وسبعة وما بعدها إلى خمسة عشر بعضها في أوله وبعضها في آخره، ويحتمل أن الحيض الأول في اليوم الأول، ويحتمل في الثاني أو الثالث أو الثالث عشر وما بينهما، والمقصود حيضتان بينهما خمسة عشر للطهر. وأما قوله: "فيلزمها أن تتوضأ وتصلي في اليوم الأول لأنه طهر مشكوك فيه" فسببه أنه يحتمل أن الحيض الأول بعد اليوم الأول، لقوله يحتمل ما بين الأقل والأكثر كما بيناه. وأما قوله: ومن السابع عشر إلى آخر الشهر طهر مشكوك فيه فقد يتوهم من لا يفكر أن الطهر في هذه المدة على صفة واحدة، وليس كذلك، بل تتوضأ في السابع عشر لأنه لا يحتمل الانقطاع. بل تغتسل لكل فريضة لاحتمال الانقطاع في كل وقت، وهذا متفق عليه، أطبق أصحابنا الذين ذكروا المسألة على التصريح به. وذكر الشيخ أبو حامد في "تعليقه" فرعا حسنا لهذه المسألة فقال: لو قالت: لي في الشهر -يعني شهرا معينا- حيضتان ولي فيه طهر واحد متصل، فاليوم الأول حيض بيقين، لأنا لو جعلناه مشكوكا فيه لصار لها طهران، وقد قالت طهر واحد، ثم يحتمل ما احتملت المسألة الأولى أن تكون أربعة عشر من الأول حيضا، وخمسة عشر بعدها طهر، واليوم الأخير الحيضة الأخرى، وأن يكون الأول حيضا وبعده خمسة عشر طهر، والأربعة الباقية الحيضة الأخرى، ويحتمل ما بين ذلك كما سبق. فاليوم الأول مع ليلته حيض بيقين، وبعده تغتسل لكل فريضة إلى آخر الأربعة عشر، والخامس عشر والسادس عشر طهر بيقين، ثم تتوضأ لكل فريضة من أول السابع إلى آخر التاسع والعشرين، واليوم الأخير حيض بيقين، ولا يلزمها الاغتسال لكل فريضة بعد السابع عشر بخلاف المسألة قبلها، لأنه لا يتصور الانقطاع هنا قبل آخر الشهر، لأنه لو انقطع لم يبق بعده طهر كامل، ولصار لها في الشهر أكثر من طهر واحد متصل، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كانت ذاكرة للوقت ناسية للعدد نظرت فإن كانت ذاكرة لوقت ابتدائه بأن قالت: كان ابتداء حيضي من أول يوم من الشهر حيضناها يوما وليلة من أول الشهر لأنه يقين، ثم تغتسل بعده وتحصل في طهر مشكوك فيه إلى آخر الخامس عشر فتصلي وتغتسل لكل صلاة لجواز انقطاع الدم، وما بعده طهر بيقين إلى آخر الشهر فتتوضأ لكل فريضة. وإن كانت ذاكرة لوقت انقطاعه بأن قالت: كان حيضي ينقطع في آخر الشهر قبل غروب الشمس حيضناها قبل ذلك يوما وليلة وكانت طاهرا من أول الشهر إلى آخر الخامس عشر، تتوضأ لكل فريضة لأنه لا يحتمل انقطاع الحيض ولا يجب الغسل إلا في آخر الشهر في الوقت الذي تيقنا انقطاع الحيض فيه.
وإن قالت: كان حيضي في كل شهر خمسة عشر يوما، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر أربعة عشر في أحد النصفين ويوما في الآخر ولا أدري أن اليوم في النصف الأول أو

 

ج / 2 ص -352-       الأربعة عشر، فهذه يحتمل أن يكون اليوم في النصف الثاني والأربعة عشر في النصف الأول فيكون ابتداء الحيض من اليوم الثاني من الشهر وآخره تمام السادس عشر، ويحتمل أن يكون اليوم في النصف الأول والأربعة عشر في النصف الثاني، فيكون ابتداء الحيض من أول الخامس عشر وآخره التاسع والعشرون، فاليوم الأول والآخر من الشهر بيقين والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين، ومن الثاني إلى الخامس عشر طهر مشكوك فيه، ومن أول السابع عشر إلى آخر التاسع والعشرين طهر مشكوك فيه، فتغتسل في آخر السادس عشر وفي آخر التاسع والعشرين لأنه يحتمل انقطاع الدم فيهما، وعلى هذا التنزيل والقياس فإن قالت: كان حيضي خمسة عشر يوما وكنت أخلط اليوم وأشك هل كنت أخلط بأكثر من يوم؟ فالحكم فيه في المسألة قبلها إلا في شيء واحد، وهو أن ههنا يلزمها أن تغتسل لكل صلاة بعد السادس عشر لجواز أن يكون الخلط بأكثر من يوم، فيكون ذلك الوقت وقت انقطاع الحيض، إلا أن تعلم انقطاع الحيض في وقت بعينه من اليوم فتغتسل فيه في مثله".
الشرح: أما المسألتان الأوليان فيما إذا ذكرت الابتداء والانقطاع فظاهرتان حكمهما ما ذكره. إلا أن قوله في الثانية قالت: كان حيضي ينقطع في آخر الشهر قبل غروب الشمس ينكر عليه، وصوابه حذف قوله: قبل غروب الشمس ليصح ما ذكره بعده من الحكم، فإنه لو انقطع قبل آخر الشهر بلحظة لم ينته الطهر إلى آخر الخامس عشر، بل يجب ترك لحظة من آخره ويجب الحكم بالحيض في لحظة من آخر التاسع والعشرين أما إذا قالت: كان حيضي من كل شهر خمسة عشر يوما وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر، أربعة عشر في أحد النصفين ويوما في النصف الآخر؛ ولا أدري هل اليوم في النصف الأول والأربعة عشر في النصف الآخر؟ أو الأربعة عشر في الأول واليوم في الآخر؟ فاليوم الأول والآخر طهر بيقين، والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين، ومن أول الثاني إلى آخر الرابع عشر مشكوك فيه لا يحتمل الانقطاع، فتتوضأ فيه لكل فريضة وتغتسل في أول ليلة السابع عشر لاحتمال الانقطاع في آخر السادس عشر ثم تتوضأ بعد ذلك ولا تغتسل إلا في آخر التاسع والعشرين، فالحاصل أن لها يومين طهرا بيقين الأول والأخير، ويومين حيضا وهما الخامس عشر والسادس عشر. وعليها غسلان ولها زمنان مشكوك فيهما وتتوضأ فيهما، وهما ما بين الثاني والخامس عشر، وما بين السادس عشر والأخير، فإن طافت أو قضت فائتة في أحد الشكين لم يجزها، فإن طافت أو قضت في الشكين جميعا أجزأها قطعا، لأن أحدهما طهر بيقين.
قال الدارمي في "الاستذكار": فإن طلقها زوجها في أول يوم من شهر انقضت عدتها في الخامس عشر من الشهر الثالث، وإن أرادت قضاء ما فاتها من رمضان وهو خمسة عشر صامت شهرا غير يومي الحيض وأجزأها قطعا. لأنه يحصل لها يوما الطهر مع أحد الشكين. أما إذا قالت: حيضي خمسة عشر أخلط أحد النصفين بالآخر بيومين لا أعرف أيهما اليومان؟ واليومان الأولان واليومان الآخران طهر بيقين، والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر حيض بيقين وتغتسل عقيب التاسع عشر والثامن والعشرين وتتوضأ سوى ما ذكرنا. ولو قالت: حيضي خمسة عشر أخلط بثلاثة فلها ثلاثة في أوله وثلاثة من آخره طهر بيقين وستة حيض، أولها الثالث عشر وتغتسل عقيب

 

ج / 2 ص -353-       الثامن عشر والسابع والعشرين، وهكذا كلما زاد الخلط يوما زاد يقين الحيض يومين في الوسط وزاد يقين الطهر يوما في كل طرف. ولو قالت: حيضي أربعة عشر أخلط منها بيوم فالأولان والآخران طهر بيقين والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين فتغتسل عقيب السادس عشر والثامن والعشرين وتتوضأ لما سواه. ولو قالت: حيضي ثلاثة أيام من الشهر وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم فالثلاثة عشر الأولى والثلاثة عشر الأخيرة طهر بيقين، والخامس عشر والسادس عشر حيض، والرابع عشر والسابع عشر مشكوك فيهما، فتتوضأ فيهما وتغتسل عقيب السادس عشر والسابع عشر لأن الانقطاع في آخر أحدهما. ولو قالت: كنت أحيض خمسة عشر أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أدري هل كنت أخلط بأكثر من يوم أم لا، فحكمها حكم من قالت أخلط بيوم فقط، ولا يخالفها إلا في شيء واحد، وهو أن هذه يلزمها أن تغتسل بعد السادس عشر لكل فريضة إلى آخر التاسع والعشرين لجواز أن يكون الخلط بأكثر من يوم، إلا أن تعلم انقطاع الحيض في وقت بعينه، فتغتسل كل يوم في ذلك الوقت فقط.
ولو قالت: كنت أحيض خمسة عشر يوما أخلط أحد النصفين بالآخر بجزء فقط فلها جزء من أول الليلة الأولى، وجزء من آخر اليوم الأخير طهر بيقين، لا تترك بسبب هذين الجزأين صلاة، ويبطل صوم الخامس عشر لحصول الحيض في آخره، ولا يجب الغسل إلا في موضعين: أحدهما: بعد جزء من أول ليلة السادس عشر والثاني: إذا بقي جزء من اليوم الأخير من الشهر وتتوضأ فيما سواهما، ولو كانت المسألة بحالها وقالت لا أدري هل كنت أخلط بجزء أم بأكثر؟ فحكمها حكم التي قبلها إلا في الغسل، فإنه يلزمها هنا أن تغتسل لكل فريضة بعد مضي جزء من السادس عشر إلى أن يبقى جزء من آخر الشهر لاحتمال الخلط بأكثر من جزء. ولو قالت: حيضي أربعة عشر يوما ونصف يوم، والكسر في أول حيض، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، فالأول ونصف الثاني طهر، ومن نصف الثاني إلى آخر السادس عشر حيض وما بعده طهر. ولا تغتسل إلا في آخر السادس عشر، وحكم الصوم والعدة في هذه المسائل على ما سبق في أول هذا الفصل.
فرع: قالت: حيضي ثلاثة أيام من إحدى عشرات الشهر، فليس لها حيض ولا طهر بيقين فتصلي بالوضوء ثلاثا من أول كل عشرة وتغتسل بعد ذلك إلى آخر كل عشرة، ويحرم وطؤها ما دام هذا حالها، فإن أرادت طوافا طافت مرتين بينهما يومان فصاعدا، أو طافت في يومين متلاصقين من طرفي عشرتين، وإن طلقت في أول شهر انقضت عدتها يوم الثامن والعشرين من الشهر الثالث، ولو كان حيضها أربعا أو خمسا أو ستا أو سبعا أو ثمانيا أو تسعا من إحدى عشرات الشهر فليس لها حيض ولا طهر بيقين وتصلي بالوضوء من أول كل عشرة قدر أيام حيضها وتغتسل بعده لكل فريضة إلى آخر كل عشرة.
فرع: قالت: كنت أحيض خمسة من الشهر ثلاثة منها من إحدى خمسات الشهر ويومين من الخمسة التي تليها ولا أعلم هل اليومان من الخمسة المتقدمة؟ أم من المتأخرة؟ فليس لها في الشهر حيض متيقن زمانه، واليومان الأولان والآخران من الشهر بيقين، وباقي الشهر مشكوك فيه، وتغتسل

 

ج / 2 ص -354-       عشرة أغسال عقب السابع والثامن والثاني عشر والثالث عشر والسابع عشر والثامن عشر والثاني والعشرين والثالث والعشرين والسابع والعشرين والثامن والعشرين، وتتوضأ فيما سوى هذه الأوقات لأن الانقطاع لا يتصور في غيرها وهو محتمل فيها لأنه يحتمل أن الثلاثة من الخمسة الأولى واليومين من الثانية فينقطع في آخر السابع، ويحتمل عكسه فينقطع في آخر الثامن، ويحتمل أن الثلاثة من الثانية واليومين من الثالثة فينقطع في آخر الثاني عشر، ويحتمل عكسه فينقطع في آخر الثالث عشر وباقي التقديرات ظاهر وإن شئت قلت: لا غسل عليها في الخمسة الأولى وتغتسل عقب الثاني والثالث من كل خمسة.
فرع: قالت: كان حيضي يومين من العشرة الأولى من الشهر وكنت أخلط نهار إحدى الخمستين بالأخرى بلحظة فمن أول الشهر إلى مضي لحظة من أول النهار الرابع طهر بيقين، وتتوضأ بعده حتى يبقى لحظة من آخر الخامس، وتلك اللحظة من ليلة السادس ولحظة من أول نهار السادس حيض بيقين، وتغتسل بعد هذه اللحظة لكل فريضة حتى يبقى لحظة من آخر السابع، وتلك اللحظة وما بعدها إلى آخر الشهر طهر بيقين وتغتسل في هذه اللحظة.
فرع: قالت: لا أعرف قدر حيضي ولكن أعلم أني كنت أخلط شهرا بشهر فلحظة من أول الشهر ولحظة من آخره حيض بيقين، وتغتسل بعد اللحظة الأولى حتى تبقى لحظة من آخر الخامس عشر، وتلك اللحظة مع لحظة من أول ليلة السادس عشر طهر بيقين ثم تتوضأ حتى تبقى لحظة من آخر الشهر. 
فرع: قالت: حيضي عشرة وأخلط أحد نصفي الشهر بالآخر بيوم فستة أيام من أول الشهر وستة من آخره طهر بيقين، والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين، وتغتسل عقب السادس عشر والرابع والعشرين وتتوضأ لما سوى المذكور.
فرع: قالت: حيضي عشرة من الشهر وطهري عشرون متصلة فالعشرة المتوسطة طهر بيقين، والأولى والثالثة مشكوك فيهما وتغتسل في آخرهما.
فرع: قالت: حيضي خمسة من الشهر منها السادس أو السادس والعشرون فالأول طهر بيقين، ومن الحادي عشر إلى آخر الحادي والعشرين طهر أيضا، وتغتسل عقب السادس لكل فريضة إلى آخر العاشر وعقب السادس والعشرين إلى آخر الشهر وتتوضأ فيما سوى ذلك.
فرع: قالت: كنت أخلط العشرة الأولى بالوسطى بيوم والوسطى بالأخيرة بيوم؛ ولا أعلم قدر حيضي، فلها اثنا عشر يوما حيض، وهي العاشر والحادي والعشرون وما بينهما ولها ستة من أول الشهر وستة من آخره طهر بيقين، وتغتسل عقب الحادي والعشرين لكل فريضة إلى آخر الرابع والعشرين.
ولو قالت: حيضي عشرة أخلط الخمسة الثانية من الشهر بالثالثة، والثالثة بالرابعة فلها سبعة حيض بيقين، وهي العاشر إلى آخر السادس عشر، ولها من الأول إلى آخر السادس ومن

 

ج / 2 ص -355-       أول العشرين إلى آخر الشهر طهر بيقين، فتغتسل عقب السادس عشر لكل فريضة إلى آخر التاسع عشر. فرع: قالت: حيضي ثلاثة أيام لا أعلمها، وكان حيضي من أول النهار، وصامت رمضان كله فعليها قضاء ثلاثة أيام، فإن شاءت صامت ستة متوالية وأجزأها، وإن أرادت تقليل الصوم فأقل ما يجزيها صيام أربعة أيام متفرقة بين كل يومين يومان فتصوم الأول والرابع والسابع والعاشر فيحصل ثلاثة قطعا لأنه على كل تقدير لا يبطل إلا يوم. ولو قالت: حيضي خمسة أيام من الشهر، ولا أعلم متى كان يبتدئ الدم، وصامت رمضان فسد ستة أيام لاحتمال الطرءان له نصف النهار، فتصوم له بعده اثني عشر متتابعة يحصل لها منها ستة على كل تقدير، فإن أرادت تفريق القضاء وتقليل الصوم صامت يوما، وأفطرت خمسة ثم صامت يوما وأفطرت خمسة. وكذا مرة ثالثة ورابعة وخامسة فتكون قد صامت من الشهر خمسة أيام يحصل لها منها أربعة على كل تقدير، يبقى يومان فتصومهما من ثلاثة عشر، تصوم الأول والسابع والثالث عشر، وأما قول الغزالي في "البسيط" و"الوسيط" في هذه المسألة: تقضي خمسة أيام فمنكر ظاهر وكأنه تابع الفوراني فيه فغلطا.
فرع: قال القاضي أبو الطيب: كل موضع قلنا عليها الوضوء لكل فريضة فلها صلاة النافلة. وكل موضع قلنا: الغسل لكل فريضة لم يجز النافلة إلا بالغسل أيضا هذا كلامه وفيه نظر، ويحتمل أن تستبيح النافلة بغسل الفريضة والله أعلم.
فرع: هذا الذي ذكرناه في هذا الفصل من تنزيل المسائل وأحكامها هو المذهب المشهور المعروف الذي تطابقت عليه فرق الأصحاب واتفقت عليه طرقهم، وشذ عنهم صاحب "الحاوي" فذكر طريقة عجيبة مخالفة للأصحاب والدليل، فقال: إذا قالت: لي في كل شهر حيضة لا أعلم قدرها، فلها حكم المبتدآت في أن تحيض في أول كل شهر، وفي قدره قولان. أحدهما: يوم وليلة والثاني: ست أو سبع ثم الزمن المردود إليه من يوم وليلة أو ست أو سبع حيض بيقين وما بعد الخمسة عشر طهر بيقين وما بينهما مشكوك فيه، ثم فرع على هذه الطريقة مسائل كثيرة وهذه طريقة شاذة مردودة، وإنما ذكرتها لأنبه على فسادها لئلا يغتر بها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "هذا الذي ذكرناه في المستحاضة إذا عبر دمها الخمسة عشر ولم يتخللها طهر، فأما إذا تخللها طهر بأن رأت يوما وليلة دما ويوما وليلة نقاء وعبر الخمسة عشر فهي مستحاضة. وقال ابن بنت الشافعي رحمه الله: الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض وبين ما بعده فيكون الدم في الخمسة عشر حيضا، وفي النقاء الذي بينهما قولان في التلفيق، لأنا حكمنا في اليوم السادس عشر لما رأت النقاء بطهارتها وأمرناها بالصوم والصلاة وما بعده ليس بحيض، بل هو طهر فكان بمنزلة ما لو انقطع الدم بعد الخمسة عشر ولم يعد، والمنصوص أنها مستحاضة اختلط حيضها بالاستحاضة، لأنه لو كان النقاء في اليوم السادس عشر يميز لوجب أن يميز في الخمسة عشر كالتمييز باللون، فعلى هذا ينظر فيها، فإن كانت مميزة بأن ترى يوما وليلة دما أسود، ثم ترى النقاء عشرة أيام، ثم ترى يوما

 

ج / 2 ص -356-       وليلة دما أسود، ثم أحمر فترد إلى التمييز فيكون الحيض أيام الأسود وما بينهما على القولين، وإن كان لها عادة في كل شهر خمسة أيام ردت إلى عادتها.
فإن قلنا: لا يلفق كانت الخمسة كلها حيضا، وإن قلنا: يلفق كانت أيام الدم حيضا وذلك ثلاثة أيام ونقص يومان من العادة، ومن أصحابنا من قال: يلفق لها قدر العادة من الخمسة عشر يوما، فيحصل لها خمسة أيام من تسعة أيام، وإن كانت عادتها ستة أيام فإن قلنا: لا يلفق كان حيضها خمسة أيام لأن اليوم السادس من أيام العادة لا دم فيه، لأن الدم في الأفراد فلم يجز أن يجعل حيضا، لأن النقاء إنما يجعل حيضا على هذا القول إذا كان واقعا بين الدمين، فعلى هذا ينقص من عادتها يوم. وإذا قلنا: يلفق من أيام العادة كان حيضها ثلاثة أيام وينقص يومان، وإذا قلنا: يلفق من خمسة عشر حصل لها ستة أيام من أحد عشر يوما، وإن كانت عادتها سبعة أيام فإن قلنا: إن الجميع حيض كان حيضها سبعة أيام لا ينقص منها شيء، لأن اليوم السابع دم، فيمكن استيفاء جميع أيام عادتها، وإن قلنا: يلفق لها من أيام العادة كان حيضها أربعة أيام، وإن قلنا: يلفق من خمسة عشر كان لها سبعة أيام من ثلاثة عشر يوما، وعلى هذا القياس، وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها ولا عادة ففيها قولان: أحدهما: ترد إلى يوم وليلة، فيكون حيضها من أول ما رأت يوما وليلة، والباقي طهر، وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع فهي كمن عادتها ستة أيام أو سبعة أيام وقد بيناه، فأما إذا رأت نصف يوم دما ونصف يوم نقاء ولم تجاوز الخمسة عشر فهي على القولين في التلفيق. وقال بعض أصحابنا: هذه مستحاضة هذه لا يثبت لها حكم الحيض حتى يتقدم لها أقل الحيض، ومنهم من قال: لا يثبت لها حكم الحيض إلا أن يتقدمه أقل الحيض متصلا، ويتعقبه أقل الحيض متصلا، والصحيح هو الأول، وأنها على القولين في التلفيق، فإذا قلنا: لا يلفق، حصل لها أربعة عشر يوما ونصف يوم حيضا، وإذا قلنا: يلفق حصل لها سبعة أيام ونصف حيضا وما بينهما من النقاء طهر. وإن جاوز الخمسة عشر كانت مستحاضة فترد إلى التمييز إن كانت مميزة أو إلى العادة إن كانت معتادة، وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها ولا عادة. فإن قلنا: إنها ترد إلى ست أو سبع كان ذلك كالعادة وإن قلنا: ترد إلى يوم وليلة، فإن قلنا: لا يلفق فلا حيض لها لأنه لا يحصل لها يوم وليلة من غير تلفيق وإن قلنا: يلفق من أيام العادة لم يكن لها حيض لأن اليوم والليلة كأيام العادة ولا يحصل لها من اليوم والليلة أقل الحيض وإن قلنا: يلفق من الخمسة عشر لفق لها مقدار يوم وليلة من يومين وليلتين، وإن رأت ساعة دما وساعة نقاء ولم يجاوز الخمسة عشر فإن كان الدم بمجموعه يبلغ أقل الحيض فقد قال أبو العباس وأبو إسحاق: فيه قولان في التلفيق، وإن كان لا يبلغ بمجموعه أقل الحيض مثل أن ترى ساعة دما ثم ينقطع ثم ترى في آخر الخامس عشر ساعة دما. قال أبو العباس: إذا قلنا: يلفق فهو دم فساد لأنه لا يتلفق منه ما يكون حيضا، وإذا قلنا: لا يلفق احتمل وجهين: أحدهما: يكون حيضا لأن زمان النقاء على هذا القول حيض فلا ينقص الحيض عن أقله بل الخمسة عشر حيض والثاني: لا يكون حيضا لأن النقاء إنما يكون حيضا على سبيل التبع للدم، والدم لم يبلغ بمجموعه أقل الحيض فلم يجعل النقاء تابعا له وإن رأت ثلاثة أيام دما وانقطع [اثني عشر يوما ثم رأت ثلاثة أيام دما وانقطع]

 

ج / 2 ص -357-       فالأول حيض لأنها رأته في زمان إمكانه والثاني دم فساد ولا يجوز أن يجعل ابتداء الحيض لأنه لم يتقدمه أقل الطهر، ولا يمكن ضمه إلى ما رأته قبل الخمسة عشر لأنه خارج عن الخمسة عشر، وإن رأت دون اليوم دما ثم انقطع إلى تمام الخمسة عشر يوما ثم رأت ثلاثة أيام دما فإن الحيض هو الثاني، والأول ليس بحيض، لأنه لا يمكن إضافته إلى ما بعد الخمسة عشر ولا يمكن أن يجعل بانفراده حيضا لأنه دون أقل الحيض".
الشرح: ابن بنت الشافعي هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عثمان بن شافع بن السائب كنيته أبو محمد وقيل: أبو عبد الرحمن. وأمه زينب بنت الإمام الشافعي ويقع في اسمه وكنيته تخبيط في كتب المذهب فاعتمد ما ذكرته لك محققا، روى عن أبيه عن الشافعي، وكان إماما مبرزا لم يكن في آل شافع بعد الشافعي مثله، وسرت إليه بركة جده وعلمه. وقد بسطت  في تهذيب الأسماء وفي "الطبقات" رحمه الله.
واعلم أن هذا الفصل يقال له: فصل التلفيق، ويقال: فصل التقطع، وقد قدم المصنف بعضه في أول الباب وأخرت أنا شرح تلك القطعة إلى هنا. قال أصحابنا: إذا انقطع دمها فرأت يوما وليلة دما، ويوما وليلة نقاء أو يومين ويومين فأكثر، فلها حالان: إحداهما: ينقطع دمها ولا يتجاوز خمسة عشر. والثاني يجاوزها 1.
الحال الأول: إذا لم يجاوز ففيه قولان مشهوران: أحدهما: أن أيام الدم حيض وأيام النقاء طهر، ويسمى قول التلفيق وقول اللقط. والثاني: أن أيام الدم وأيام النقاء كلاهما حيض، ويسمى قول السحب وقول ترك التلفيق، واختلفوا في الأصح منهما فصحح قول التلفيق الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي وسليم الرازي والجرجاني والشيخ نصر والروياني في "الحلية" وصاحب البيان، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، وصحح الأكثرون قول السحب، فممن صححه القضاة الثلاثة أبو حامد في جامعه وأبو الطيب وحسين في تعليقهما وأبو علي السنجي في "شرح التلخيص" والسرخسي في "الأمالي" والغزالي في "الخلاصة" والمتولي والبغوي والروياني في "البحر" والرافعي وآخرون وهو اختيار ابن سريج. قال الرافعي: هو الأصح عند معظم الأصحاب. وقال صاحب "الحاوي" الذي صرح به الشافعي في كل كتبه أن الجميع حيض، وقال في مناظرة جرت بينه وبين محمد بن الحسن ما يقتضي أن النقاء طهر، فخرجها جمهور أصحابنا على قولين. وذكر إمام الحرمين وابن الصباغ نحو كلام صاحب "الحاوي". قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: الجميع حيض قولا واحدا وأما ذكره مع محمد بن الحسن كان مناظرة؛ وقد ينصر الإنسان في المناظرة غير مذهبه. وقال الدارمي في مواضع من كتاب المتحيرة: من قال فيه قولان فقد غلط؛ بل الصواب القطع بالتلفيق، ولم يذكر لطريقته هذه الشاذة مستندا، فحصل في المسألة ثلاثة طرق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ظهر من كلام الشارح أنها أكثر من حاتين على ما سترى إذ بلغت أربعة أحوال (ط).

 

ج / 2 ص -358-       أحدها: القطع بالتلفيق. والثاني: القطع بالسحب، وهو المشهور من نصوصه والثالث: في المسألة قولان، وهو المشهور في المذهب.
وبالتلفيق قال مالك وأحمد وبالسحب أبو حنيفة. وقد سبق دليل القولين، فالحاصل أن الراجح عندنا قول السحب. قال أصحابنا: وسواء كان التقطع يوما وليلة دما ويوما وليلة نقاء أو يومين، ويومين أو خمسة وخمسة أو ستة وستة أو سبعة وسبعة ويوما، أو يوما وعشرة، أو خمسة أو يوما وليلة دما، وثلاثة عشر نقاء ويوما وليلة دما، أو غير ذلك فالحكم في الكل سواء وهو أنه إذا لم يجاوز خمسة عشر فأيام الدم حيض بلا خلاف وفي أيام النقاء المتخلل بين الدم القولان. ولو تخلل بين الدم الأسود صفرة أو كدرة وقلنا: إنها ليست بحيض فهي كتخلل النقاء وإلا فالجميع حيض، ولو تخللت حمرة فالجميع حيض قطعا.
واعلم أن القولين إنما هما في الصلاة والصوم والطواف والقراءة والغسل والاعتكاف والوطء ونحوها، ولا خلاف أن النقاء ليس بطهر في انقضاء "العدة" وكون الطلاق سنيا قال الغزالي في "البسيط": أجمعت الأمة على أنه لا يجعل كل يوم طهرا كاملا، قال المتولي وغيره: إذا قلنا بالتلفيق فلا خلاف أنه لا يجعل كل دم حيضا مستقلا ولا كل نقاء طهرا مستقلا، بل الدماء كلها حيض واحد يعرف والنقاء مع ما بعده من الشهر طهر واحد قال أصحابنا: وعلى القولين إذا رأت النقاء في اليوم الثاني عملت عمل الطاهرات بلا خلاف لأنا لا نعلم أنها ذات تلفيق لاحتمال دوام الانقطاع قالوا: فيجب عليها أن تغتسل وتصوم وتصلي ولها قراءة القرآن ومس المصحف والطواف والاعتكاف وللزوج وطؤها، ولا خلاف في شيء من هذا إلا وجها حكاه الرافعي أنه يحرم وطؤها على قول السحب وهو غلط ولا تفريع عليه، فإذا عاودها الدم في اليوم الثالث تبينا أنها ملفقة. إن قلنا بالتلفيق تبينا صحة الصوم والصلاة والاعتكاف وإباحة الوطء وغيرها وإن قلنا بالسحب تبينا بطلان العبادات التي فعلتها في اليوم الثاني، فيجب عليها قضاء الصوم والاعتكاف والطواف المفعولات عن واجب، وكذا لو كانت صلت عن قضاء أو نذر ولا يجب قضاء الصلاة المؤداة لأنه زمن الحيض، ولا صلاة فيه، وإن كانت صامت نفلا، قال صاحب البيان: تبينا أنه لا ثواب فيه وفيما قاله نظر، وينبغي أن يقال: لها ثواب على قصد الطاعة ولا ثواب على نفس الصوم إذا لم يصح ولعل هذا مراده، قال أصحابنا: ونتبين أن وطء الزوج لم يكن مباحا لكن لا إثم للجهل.
قال أصحابنا: وكلما عاد النقاء في هذه الأيام إلى الرابع عشر وجب الاغتسال والصلاة والصوم وحل الوطء وغيره كما ذكرنا في اليوم الثاني، فإذا لم يعد الدم فكله ماض على الصحة، وإن عاد فحكمه ما ذكرناه في الثاني، هكذا قطع به الأصحاب في كل الطرق إلا وجها شاذا حكاه إمام الحرمين ومن تابعه أن النقاء الثاني وهو الحاصل في اليوم الرابع يبنى على أن العادة هل تثبت بمرة أم لا؟ فإن أثبتناها بمرة وقلنا: أيام النقاء حيض أمسكت عما تمسك عنه الحائض لانتظار عود الدم، وإن قلنا: لا تثبت بمرة اغتسلت وفعلت العبادات وعلى هذا الوجه تمسك في النقاء الثالث وهذا الوجه ليس بشيء وقد حكاه إمام الحرمين عن والده ثم ضعفه. وقال: هذا بعيد لم أره لغيره. هذا حكم الشهر

 

ج / 2 ص -359-       الأول فإذا جاء الشهر الثاني فرأت اليوم الأول وليلته دما، والثاني وليلته نقاء، ففيه طريقان حكاهما إمام الحرمين وغيره.
أحدهما: وبه قطع الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وغيرهما من العراقيين والشيخ أبو زيد وغيره من الخراسانيين أن حكم الشهر الثاني والثالث والرابع وما بعدها أبدا كالشهر الأول فتغتسل عند كل نقاء وتفعل العبادات ويطؤها الزوج. 
والطريق الثاني البناء على ثبوت العادة بمرة أو بمرتين فإن أثبتناها بمرة فقد علمنا التقطع بالشهر الأول فلا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم إذا قلنا بالسحب وإن لم نثبتها بمرة اغتسلت وفعلت العبادات كالشهر الأول، فعلى هذا الطريق تثبت عادة التقطع في الشهر الثالث بالعادة المتكررة في الشهرين السابقين، وكذا حكم الرابع فما بعده فلا تغتسل في النقاء ولا تفعل العبادات ولا توطأ إذا قلنا: بالسحب وهذا الطريق هو الأصح عند الرافعي وبه قطع صاحب "الحاوي"، وأشار إمام الحرمين إلى ترجيح الطريق الأول ويؤيده أن الشافعي نص في "الأم" على وجوب الغسل والصلاة كلما عاد النقاء.
قال إمام الحرمين: ولا خلاف بين فرق الأصحاب أنها لو تقطع دمها مرارا في شهور ثم استحيضت وأطبق الدم بلا تقطع فلا يحكم على قول التلفيق بتقطع الحيض حتى يلتقط لها حيض من الخمسة عشر، ويحكم بتخلل دم الاستحاضة في أثناء الحيض، قال: فإذا كل دور في التقطع يقدر كأنه ابتداء التقطع، لأنه إذا انقطع الدم حينا فبناء الأمر على عوده بعيد، هذا كله إذا كان المتقطع في كل مرة يبلغ أقل الحيض وهو يوم وليلة أو يزيد، ولم يجاوز الخمسة عشر كما بيناه في أول المسألة.
ولو رأت المبتدأة نصف يوم دما وانقطع وقلنا بالمذهب الصحيح الذي سيأتي إن شاء الله تعالى أن من انقطع دمها نصف يوم ونصف يوم نقاء تكون ذات تلفيق، فإنه على قول السحب لا غسل عليها عند الانقطاع الأول، لأنه إن عاد الدم في الخمسة عشر فالنقاء كله حيض وإن لم يعد فالدم الذي رأته دم فساد وعليها أن تتوضأ وتصلي، وباقي الانقطاعات إذا بلغ مجموع الدماء أقل الحيض صار حكمه ما تقدم في الصورة الأولى وهي إذا رأت دما يوما وليلة ثم نقاء كذلك هذا تفريع قول السحب؛ وأما على قول التلفيق فلا يلزمها الغسل في الانقطاع الأول أيضا على المذهب الصحيح، لأنا لا ندري هل هو حيض أم لا؟ وفيه وجه أنه يجب الغسل، وبه قطع صاحبا "التتمة" والعدة، كما يجب الغسل على الناسية احتياطا، وهذا الوجه ليس بشيء، وأما سائر الانقطاعات فإذا بلغ مجموع ما سبق من الدم أقل الحيض وجب الغسل وقضاء الصوم والصلاة. وحكم الدور الثاني والثالث على القولين حكم الحالة الأولى.
أما إذا لم يبلغ واحد من الطرفين يوما وليلة بأن رأت نصف يوم دما ونصفه نقاء، وهكذا إلى آخر الخامس عشر ففيه ثلاث طرق, الصحيح: الأشهر منها طرد القولين في التلفيق، كما إذا بلغ كل

 

ج / 2 ص -360-       دم يوما وليلة، فعلى قول التلفيق حيضها أنصاف الدم وهو سبعة أيام ونصف، وعلى قول السحب حيضها أربعة عشر يوما ونصف يوم، لأن النصف الأخير لم يتخلل بين دمي حيض، ولا يحكم بأن النقاء حيض على قول السحب إلا إذا تخلل بين دمي حيض. 
والطريق الثاني: لا حيض لها، وكل ذلك دم فساد.
والطريق الثالث: إن توسط قدر أقل الحيض متصلا جرى القولان في التلفيق وإلا فالجميع دم فساد. أما إذا بلغ أحد الطرفين أقل الحيض دون الآخر فثلاثة طرق أيضا، أصحها طرد القولين. والثاني: أن الذي بلغه حيض وباقيه دم فساد. والثالث: إن بلغ الأول أقل الحيض فهو وما سواه حيض، وإن بلغ الآخر الأقل فهو حيض دون ما سواه، هذا كله إذا بلغ مجموع الدماء أقل، فإن لم يبلغه بأن رأت ساعة دما وساعة نقاء، ثم ساعة وساعة ولم يبلغ "المجموع" يوما وليلة فطريقان أصحهما أنه على القولين أيضا إن قلنا بالتلفيق فلا حيض لها، بل هو دم فساد؛ وإن قلنا بالسحب فوجهان: أصحهما: لا حيض لها أيضا لأن الدم لم يبلغ ما يمكن أن يكون حيضا. والثاني: أن الدماء وما بينها حيض.  والطريق الثاني: القطع بأنه لا حيض، فحصل في القدر المعتبر من الدمين ليجعل ما بينها حيضا، وعلى قول السحب أوجه؛: الصحيح المشهور أنه يشترط أن يبلغ مجموع الدماء قدر أقل الحيض، ولا يضر نقص كل دم عن أقل الحيض. وهذا الوجه هو قول أبي العباس بن سريج وأبي إسحاق المروزي وأبي بكر المحمودي وجماهير أصحابنا المتقدمين، وصححه أصحابنا المتأخرون المصنفون ونقله القاضي أبو الطيب والماوردي عن عامة الأصحاب، والثاني: يشترط أن يكون كل واحد من الدمين بالغا أقل الحيض، حتى لو رأت دما ناقصا عن أقل الحيض ودمين آخرين غير ناقصين، فالأول دم فساد والآخران وما بينهما من النقاء حيض، والثالث: وهو قول أبي القاسم الأنماطي: لا يشترط شيء من ذلك، بل لو كان مجموع الدماء نصف يوم أو أقل فهي وما بينها من النقاء حيض على هذا القول الذي يفرع عليه، وهو قول السحب، والرابع: لا يشترط بلوغ كل واحد من الدمين أقل الحيض، لكن يشترط بلوغ أولهما الأقل، والخامس: يشترط بلوغ أحدهما الأقل أيهما كان، والسادس: يشترط الأقل في الأول أو الآخر أو الوسط.
فرع: قال أصحابنا: القولان في التلفيق، هما فيما إذا كان النقاء زائدا على الفترات المعتادة بين دفعات الحيض، فأما الفترات فحيض بلا خلاف، ثم الجمهور لم يضبطوا الفرق بين حقيقتي الفترات والنقاء، وهو من المهمات التي يتأكد الاعتناء بها ويكثر الاحتياج إليها وتقع في الفتاوى كثيرا، وقد رأيت ذلك، وقد وجدت ضبطه في أتقن مظانه وأحسنها وأكملها وأصونها، فنص الشافعي رحمه الله: في "الأم" في باب الرد على من قال: لا يكون الحيض أقل من ثلاثة أيام، والشيخ أبو حامد الإسفراييني وصاحبه القاضي أبو الطيب الطبري وصاحبه الشيخ أبو إسحاق مصنف الكتاب في تعاليقهم على أن الفترة هي الحالة التي ينقطع فيها جريان الدم ويبقى لوث وأثر، بحيث لو أدخلت في فرجها قطنة يخرج عليها أثر الدم من حمرة أو صفرة أو كدرة، فهي في هذه الحالة حائض قولا واحدا طال ذلك أم قصر. والنقاء هو أن يصير فرجها بحيث لو جعلت القطنة فيه لخرجت بيضاء,

 

ج / 2 ص -361-       فهذا ما ضبطه الإمام الشافعي والشيوخ الثلاثة، ولا مزيد عليه في وضوحه وصحة معناه والوثوق بقائليه. وقد قال إمام الحرمين: إن الأصحاب لم يضبطوا ذلك، وإن منتهى المذكور فيه أن ما يعتاد تخلله بين دفعات الدم فهو من الفترات وما زاد فهو على القولين في النقاء جميعه من غير استثناء لقدر الفترة منه، هذا كلام إمام الحرمين والاعتماد على ما قدمناه، والله أعلم.
الحال الثاني 1: إذا انقطع الدم وجاوز خمسة عشر، فإذا رأت يوما وليلة دما ومثله نقاء، وهكذا حتى جاوز خمسة عشر قطعا فلا خلاف أنه لا يلتقط لها أيام الحيض من جميع الشهر، وإن كان مجموع الملتقط دون خمسة عشر ولكنها مستحاضة اختلط حيضها بالاستحاضة وهي ذات تقطع. هذا هو الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي في كتاب الحيض وقطع به جماهير الأصحاب المتقدمين والمتأخرين. وقال أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي وأبو بكر المحمودي وغيرهما: ليست مستحاضة بل السادس عشر فما بعده طهر لها فيه حكم الطاهرات المستحاضات. وأما الخمسة عشر فهي على القولين في التلفيق. أحدهما: السحب فتكون كل الخمسة عشر حيضا. والثاني: التلفيق فتكون أيام الدم حيضا والنقاء طهرا، وهذا الذي ذكرناه من قول ابن بنت الشافعي ومتابعيه هو فيما إذا انفصل دم الخمسة عشر عما بعدها، فكانت ترى يوما وليلة دما ومثله نقاء، فالسادس عشر يكون نقاء، فلو اتصل الدم بالدم بأن رأت ستة أيام دما ثم ستة نقاء ثم ستة دما فالسادس عشر فيه دم متصل بدم الخامس عشر، فقد وافق ابن بنت الشافعي وغيره الأصحاب وقال: هي في الجميع مستحاضة، واتفق الأصحاب على تغليط ابن بنت الشافعي ومتابعيه في هذا التفصيل، وغلط فيه ابن سريج فمن بعده. قال إمام الحرمين: رأيت الحذاق لا يعدون قوله هذا من جملة المذهب، فالصواب ما قدمناه من نص الشافعي والأصحاب رحمهم الله أنها مستحاضة. قال أصحابنا: لهذه المستحاضة أربعة أحوال: أحدها: أن تكون مميزة بأن ترى يوما وليلة دما أسود، ثم يوما وليلة نقاء ثم يوما وليلة أسود ثم يوما وليلة نقاء وكذا مرة ثالثة ورابعة وخامسة، ثم ترى بعد هذه العشرة يوما وليلة دما أحمر ويوما وليلة نقاء، ثم مرة ثانية وثالثة وتجاوز خمسة عشر متقطعا كذلك أو متصلا دما أحمر، فهذه المميزة ترد إلى التمييز، فيكون العاشر فما بعده طهرا، وفي التسعة القولان، إن قلنا: بالتلفيق فحيضها خمسة السواد، وإن قلنا: بالسحب فالتسعة كلها حيض، وإنما لم يدخل معها العاشر لما قدمنا بيانه أن النقاء إنما يكون حيضا على قول السحب إذا كان بين دمي حيض.
ولو رأت يوما وليلة دما أسود، ويوما وليلة دما أحمر، وهكذا إلى أن رأت الخامس عشر أسود والسادس عشر أحمر ثم اتصلت الحمرة وحدها أو مع تخلل النقاء بينها فهي أيضا مميزة، وإن قلنا: بالتلفيق فحيضها أيام السواد، وهي ثمانية، وإن قلنا: بالسحب فالخمسة عشر كلها حيض، والمقصود أن الدم الضعيف المتخلل بين الدماء القوية كالنقاء، بشرط أن يستمر الضعيف بعد الخمسة عشر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  وانظر: الحال الأول في أول شرح الفصل وكان أجدر به أن يجعل الثاني قسمين كما سيأتي في الهامش بعده (ط).

 

ج / 2 ص -362-       وحده، وضابطه أن على قول السحب حيضها الدماء القوية في الخمسة عشر مع ما يتخللها من النقاء أو الدم الضعيف. وعلى قول التلفيق حيضها القوي دون المتخلل. ثم هذا الذي ذكرناه من التمييز هو على إطلاقه إذا كانت مبتدأة، وكذا لو كانت معتادة وقلنا بالمذهب: إن من اجتمع لها عادة وتمييز ترد إلى التمييز. فأما إذا قلنا بالوجه الضعيف إنها ترد إلى العادة فإنها تكون معتادة ويأتي حكمها في الحال الثاني إن شاء الله تعالى.
هذا كله إذا كان التمييز تمييزا معتبرا كما مثلناه، فأما إن فقد شرط من شروط التمييز فرأت يوما وليلة دما أسود ويوما وليلة أحمر، واستمر هكذا يوما ويوما إلى آخر الشهر، فهذه وإن كانت صورة مميزة فليست مميزة في الحكم لفقد أحد شروط التمييز وهو ألا يجاوز الدم القوي خمسة عشر. وقد نقل إمام الحرمين وغيره اتفاق، الأصحاب على أنها غير مميزة، قال إمام الحرمين والأصحاب: فإذا علم أنها غير مميزة نظر إن كانت معتادة ردت إلى العادة وصار كأن الدماء على لون واحد، وإن لم تكن معتادة فهي مبتدأة فترد إلى مرد المبتدأة من يوم وليلة أو ست أو سبع ولا التفات إلى اختلاف ألوان الدماء.
الحال الثاني 1: أن تكون ذات التقطع معتادة غير مميزة وهي حافظة لعادتها وكانت عادتها أيامها متصلة لا تقطع فيها فترد إلى عادتها، فعلى قول السحب كل دم يقع في أيام العادة مع النقاء المتخلل بين الدمين يكون جميعه حيضا، فإن كان آخر أيام العادة نقاء لم يكن حيضا لكونه لم يقع بين دمي حيض وأما على قول التلفيق فأيام النقاء طهر ويلتقط لها قدر عادتها وفيما يلتقط منه خلاف مشهور، حكاه المصنف والجمهور وجهين: وحكاه الشيخ أبو حامد والماوردي والجرجاني قولين: أصحهما: يلتقط ذلك من مدة الإمكان وهي خمسة عشر ولا يبالى بمجاوزة الملقوط منه قدر العادة، والثاني: يلتقط ما أمكن من زمان عادتها ولا يتجاوز ذلك ولا يبالى بنقص قدر الحيض عن العادة، وهذه أمثلة ما ذكرناه: كان عادتها من أول كل شهر خمسة أيام فتقطع دمها يوما ويوما وجاوز خمسة عشر، فإن قلنا: بالسحب فحيضها الخمسة الأولى دما ونقاء، وإن قلنا: بالتلفيق فإن قلنا: يلقط من أيام العادة فحيضها اليوم الأول والثالث والخامس ونقص من عادتها يومان، وما سوى ذلك طهر، وإن قلنا: يلقط من مدة الإمكان فحيضها الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع وما سواها طهر، ولو كانت عادتها ستة فإن قلنا بالسحب فحيضها الخمسة الأولى، ويكون السادس وما بعده طهرا، لأنه ليس بين دمي حيض، ويكون قد نقص من عادتها يوم.
وإن قلنا: تلفق من عادتها فحيضها الأول والثالث والخامس، وإن قلنا: من مدة الإمكان فحيضها هذه الثلاثة والسابع والتاسع والحادي عشر، وإن كانت عادتها سبعة فإن سحبنا فحيضها السبعة الأولى، وإن لقطنا من العادة فحيضها الأول والثالث والخامس والسابع، وإن لقطنا من الإمكان فحيضها هذه الأربعة والتاسع والحادي عشر والثالث عشر. وإن كانت عادتها ثمانية فإن سحبنا فحيضها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الحال الثاني هنا مشتق من الحال الثاني وهو حال من تجاوز الخمسة عشر وتكون معتادة وعلى هذا يكون ما سبق من الحال الثاني هو في المبتدأة وكان الأولى بالشارح أن يقسم الحال الثاني إلى قسمين مبتدأة ومعتادة, ومن ثم لا يقع لبس في تسلسل الأحكام وطردها والله أعلم. (ط).

 

ج / 2 ص -363-       السبعة الأولى، وإن لقطنا من العادة فحيضها أفراد السبعة؛ وإن لقطنا من الإمكان فحيضها الأفراد الثمانية من الخمسة عشر، وإن كانت عادتها تسعة فإن سحبنا فحيضها التسعة الأولى، وإن لقطنا من العادة فحيضها أفراد التسعة، وهي خمسة. وإن لقطنا من الإمكان فحيضها أفراد الخمسة عشر وهي ثمانية، ونقص من العادة يوم لأنه لا يمكن التقاط السابع عشر لمجاوزته الخمسة عشر، ولو كانت عادتها عشرة فإن سحبنا فحيضها التسعة الأولى، وإن لقطنا من العادة فحيضها أفراد التسعة وهي خمسة وإلا فالأفراد الثمانية وإن كانت عادتها أحد عشر فإن سحبنا فهي حيضها، وإن لقطنا من العادة فأفرادها وإلا فأفراد الخمسة عشر، وإن كانت عادتها اثني عشر فإن سحبنا فأحد عشر، وإن لقطنا من العادة فأفرادها وإلا فأفراد الخمسة عشر، وإن كانت عادتها ثلاثة عشر فإن سحبنا فهي حيضها، وإن لقطنا من العادة فأفرادها وإلا فأفراد الخمسة عشر، وإن كانت عادتها أربعة عشر فإن سحبنا فحيضها الثلاثة عشر وإن لقطنا من العادة فأفرادها وإلا فأفراد الخمسة عشر وإن كانت عادتها خمسة عشر فإن سحبنا فهي حيضها وإن لقطنا من العادة أو الإمكان بأفرادها الثمانية، وقال الغزالي والأصحاب: وعلى الوجهين جميعا نأمرها في الدور الأول أن تحيض أيام الدماء لاحتمال الانقطاع على خمسة عشر فلا تكون مستحاضة والله أعلم.
الحال الثالث 1: أن تكون مبتدأة لا تمييز لها. وفيها القولان المعروفان: أحدهما: ترد إلى يوم وليلة. والثاني: إلى ست أو سبع، فإن رددناها إلى ست أو سبع فحكمها حكم من عادتها ست أو سبع وقد بيناها. وإن رددناها إلى يوم وليلة فحيضها يوم وليلة، سواء سحبنا أو لقطنا من العادة أو من الإمكان، ثم إن هذه المبتدأة إذا صلت وصامت في أيام النقاء حتى جاوز خمسة عشر؛ وتركت الصوم والصلاة في أيام الدم كما أمرناها فيجب عليها قضاء صيام أيام الدم وصلواتها بعد المرد بلا خلاف، لأنا تبينا أنهما واجبان، وأما صلوات أيام النقاء وصيامها فلا تقضيهما على قول التلفيق، وأما على قول السحب فلا تقضي الصلاة لأنها إن كانت حائضا فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهرا فقد صلت. وفي وجوب قضاء الصوم قولان أصحهما: لا يجب كالصلاة، والثاني: يجب لأنها صامت مترددة في صحته فلا يجزئها بخلاف الصلاة فإنها إن لم تصح لم يجب قضاؤها، واعلم أن هذا الحكم مطرد في جميع شهورها. قال الرافعي بعد أن ذكر هذه الجملة: فخرج مما ذكرناه أنا إن حكمنا باللقط لم تقض من الخمسة إلا عشر صلوات سبعة أيام وصيامها إن رددنا المبتدأة إلى يوم وليلة وهي أيام الدم سوى اليوم الأول، وإن رددناها إلى ست أو سبع فإن لم تجاوز باللقط أيام العادة، وكان الرد إلى ست قضتها من خمسة أيام، وهي أيام الدم بعد المرد، وإن ردت إلى سبع فمن أربعة، وهي أيام الدم بعد المرد، وإن جاوزناها وردت إلى ست قضتها من يومين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  كان يمكن اعتبار الحال الثالث هذا وما بعده من بعض أقسام الحالين الأصلين المبني عليهما الشرح (ط).

 

ج / 2 ص -364-       الحال الرابع: الناسية وهي ضربان:
أحدهما: من نسيت قدر عادتها ووقتها وهي المتحيرة وفيها القولان: أحدهما أنها كالمبتدأة وقد سبق حكمها، والصحيح أنه يلزمها الاحتياط، فعلى هذا، فإن قلنا: بالسحب احتاطت في أزمنة الدم بالأمور السابقة في حال إطباق الدم بلا فرق لاحتمال الطهر والحيض والانقطاع، وتحتاط في أزمنة النقاء أيضا إذ ما زمان إلا ويحتمل أن يكون حيضا لكن لا يلزمها الغسل في وقت لأن الغسل إنما تؤمر به المتحيرة المطبقة لاحتمال انقطاع الدم وهذا غير محتمل هنا، ولا يلزمها تجديد الوضوء أيضا لكل فريضة، لأن ذلك إنما يجب لتجدد خروج الحدث ولا تجدد في النقاء فيكفيها لزمان النقاء الغسل عند انقضاء كل نوبة من نوب الدماء.
وأما إذا قلنا: باللقط فعليها الاحتياط في جميع أزمنة الدم وعند كل انقطاع، وأما أزمنة النقاء فهي فيها طاهرة في الوطء وجميع الأحكام. الضرب الثاني: من نسيت قدر عادتها وذكرت وقتها أو نسيت الوقت وذكرت القدر فتحتاط أيضا على قول التلفيق والسحب مع رعاية ما نذكره. مثاله قالت: أضللت خمسة في العشرة الأولى وتقطع دمها يوما يوما وجاوز الخمسة عشر؛ فإن قلنا: بالسحب فاليوم العاشر طهر لأنه نقاء ليس بين دمي حيض ولا غسل عليها في الخمسة الأولى لتعذر الانقطاع وتغتسل عقب الخامس والسابع والتاسع لجواز الانقطاع في هذه الأزمان. وهل يلزمها الغسل في أثناء السابع والتاسع؟ وجهان: أحدهما: نعم، لاحتمال الانقطاع في الوسط. والثاني: وهو الصحيح بل الصواب وقول جماهير الأصحاب: لا يلزمها لأن الانقطاع لو فرض في الوسط هنا لزم منه الابتداء في أثناء الثاني أو الرابع وهي نقية وأما إذا قلنا: باللقط فإن لم يجاوز أيام العادة. فالحكم كما ذكرنا على قول السحب إلا أنها طاهر في أيام النقاء في كل حكم وأنها تغتسل عقب كل نوبة من نوب الدم في جميع المدة لأن المتقطع حيض وإن جاوزنا أيام العادة فحيضها خمسة أيام وهي الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع على تقدير انطباق الحيض على الخمسة الأولى. وعلى تقدير تأخره إلى الخمسة الثانية ليس لها إلا يومان دما وهما السابع والتاسع فتضم إليها الحادي عشر والخامس عشر فهي إذا حائض في السابع والتاسع بيقين لدخولهما في كل تقدير والله أعلم.

فرع: هذا الذي قدمناه هو فيما إذا انقطع الدم يوما وليلة دما ومثله نقاء، أما إذا انقطع نصف يوم دما ونصفه نقاء وجاوز خمسة عشر فإن كانت مميزة ردت إلى التمييز فإن كانت ترى نصف يوم دما أسود ونصفه نقاء ثم الثاني والثالث والرابع والخامس كذلك ثم ترى نصف السادس دما أحمر ونصفه نقاء ثم كذلك السابع وما بعده وجاوز الخمسة عشر كانت أنصاف السواد حيضا وفيما بينهما من النقاء القولان، وما بعد ذلك الحمرة والنقاء طهر وهذا تفريع على المذهب، أنه لا يشترط في الأول ولا في غيره أن يتصل الدم يوما وليلة، وإن كانت معتادة غير مميزة ردت إلى العادة فإن كانت عادتها خمسة أيام فرأت نصف يوم دما، ونصفه نقاء ثم هكذا حتى جاوز خمسة عشر فإن سحبنا فحيضها أربعة أيام ونصف من الأول، وإن لقطنا من العادة فحيضها يومان ونصف وهي أنصاف الدم في الخمسة، وإن لقطنا من الإمكان فحيضها خمسة أيام من العشرة الأولى وهي أنصاف الدم وإن

 

ج / 2 ص -365-       كانت مبتدأة غير مميزة. قال أصحابنا: إن قلنا: ترد إلى ست أو سبع فهي كمن عادته ست أو سبع، وإن قلنا: ترد إلى يوم وليلة فإن سحبنا أو لقطنا من العادة فلا حيض لها لأنه لا يحصل لها أقل الحيض، فإن لقطنا من الإمكان لقطنا لها يوما وليلة فإن كانت ترى نصف يوم دما ونصفه الآخر مع الليلة نقاء لفقنا اليوم والليلة من أربعة أيام، وإن كانت ترى نصف يوم وليلة دما ونصفها نقاء لفقنا من يومين. هكذا قطع به جماهير الأصحاب وحكى صاحب "الحاوي" على قول السحب وجهين: أحدهما: لا حيض لها كما قاله الجمهور. والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج نحيضها يوما وليلة وإن لم تر الدم في جميعه، وهذا غريب ضعيف، والله أعلم.
 فرع: إذا رأت ثلاثة أيام دما ثم اثني عشر نقاء ثم ثلاثة دما ثم انقطع فالثلاثة الأولى حيض لأنه في زمان الإمكان، والثلاثة الأخيرة دم فساد ولا يجوز أن تجعل حيضا مع الثلاثة الأولى وما بينهما لمجاوزته خمسة عشر يوما، ولا يجوز أن تجعل حيضا ثانيا لأنه لم يتقدمه أقل طهر، وهكذا لو رأت يوما وليلة دما أو يومين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو غير ذلك ثم رأت النقاء تمام خمسة عشر، ثم رأت يوما وليلة فأكثر دما فالأول حيض والآخر دم فساد ولا خلاف في شيء من هذا، ولو رأت دما دون يوم وليلة ثم رأت النقاء تمام خمسة عشر ثم رأت الدم يوما وليلة أو ثلاثة أيام أو خمسة أو نحو ذلك: فالأول دم فساد، والثاني: حيض لوقوعه في زمن الإمكان، ولا يضم الأول إليه لمجاوزة الخمسة عشر ولا يستقل بنفسه ولو رأت نصف يوم دما ثم تمام خمسة عشر نقاء ثم نصف يوم دما فالدمان جميعا دم فساد ولا حيض لها بلا خلاف، لأن كل دم لا يستقل ولا يمكن ضمه إلى الآخر لمجاوزة خمسة عشر. ولو رأت المبتدأة يوما بلا ليلة دما ثم ثلاثة عشر نقاء ثم ثلاثة أيام دما، فقد رأت في الخمسة عشر يومين دما، في أولها يوما، وفي آخرها يوما، فإن قلنا: لا تلفق فحيضها الدم الثاني وأما الأول فدم فساد، وإن لفقنا من العادة فحيضها أيضا الثاني، وأما الأول فدم فساد لأن المبتدأة ترد إلى يوم وليلة أو ست أو سبع وليس في هذا الزمان ما يمكن جعله حيضا وإن لفقنا في مدة الإمكان وهي الخمسة عشر فإن قلنا: المبتدأة ترد إلى يوم وليلة حيضناها اليوم الأول ومن الخامس عشر مقدار ليلة فيتم لها يوم وليلة وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع فحيضها الأول من الخامس عشر بليلته لأنه الممكن ويكون الدم بعد الخمسة عشر دم فساد.
فرع: إذا كانت عادتها أن تحيض في الشهر عشرة أيام من أوله فرأت في شهر يومين دما ثم ستة نقاء ثم يومين دما وانقطع واستمر الطهر فإن سحبنا فالعشرة حيض، وإن لفقنا فحيضها أربعة أيام وهي أيام الدم. ولو كان عادتها خمسة فرأت ثلاثة دما ثم أربعة نقاء ثم ثلاثة دما فإن سحبنا فالعشرة حيض وإن لفقنا فحيضها ستة الدم، ولو كان عادتها خمسة من أول الشهر فرأت في أوله أربعة دما ثم خمسة نقاء ثم العاشر دما فإن سحبنا فالعشرة حيض، وإن لفقنا فحيضها خمسة الدم. ولو رأت يوما وليلة دما وسبعة نقاء ويومين دما فإن سحبنا فالعشرة حيض وإلا فثلاثة الدم، وسواء في هذا كله لفقنا من العادة أو من الإمكان وإنما الخلاف فيما إذا جاوز التقطع الخمسة عشر، وهذا وإن كان ظاهرا فلا يضر التنبيه عليه لبعض المبتدئين، والله أعلم.

 

ج / 2 ص -366-       فرع: ذكر المحاملي وصاحب "الشامل" وآخرون ونقلوه عن ابن سريج قالوا: لو كان عادتها خمسة أيام من الشهر وباقيه طهر فرأت في شهر اليوم الأول نقاء والثاني دما والثالث نقاء والرابع دما ثم لم تزل هكذا حتى رأت السادس عشر دما وانقطع، فإن قلنا: لا تلفق فحيضها خمسة عشر أولها الثاني وآخرها السادس عشر وإن لفقنا، فحيضها ثمانية الدم. هذا إذا وقف على السادس عشر فإن جاوزه فقد صارت مستحاضة على المذهب خلافا لابن بنت الشافعي. فإن لفقنا من العادة فحيضها يومان الثاني والرابع إذ ليس في أيام العادة دم سواهما، وإن لفقنا من مدة الإمكان فحيضها الثاني والرابع والسادس والثامن والعاشر، وإن سحبنا فهل الاعتبار بعدد العادة أم بزمنها، فيه وجهان، ذكرهما ابن سريج والأصحاب. أحدهما: الاعتبار بزمانها فيكون حيضها الثاني والثالث والرابع ولا يمكن ضم الأول والخامس إليها لأنهما نقاء ليس بين دمي حيض. والثاني: الاعتبار بعددها ولا تبالي بمجاوزة الزمان، فيكون حيضها خمسة، وهي الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس؛ فحصل في حيضها ثلاثة أوجه: أحدها: يومان، والثاني: ثلاثة، والثالث: خمسة وفي زمنه أربعة أوجه، أحدها: أنه الثاني والرابع، والوجه الثاني: أنه الثاني والثالث والرابع، والوجه الثالث: أنه الثاني والرابع والسادس والثامن والعاشر والوجه الرابع: أنه الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس.
قال ابن سريج: فلو كانت المسألة بحالها فحاضت قبل عادتها بيوم ورأت النقاء في اليوم الأول من الشهر والدم في اليوم الثاني والنقاء في الثالث والدم في الرابع وهكذا حتى جاوز خمسة عشر، فإن لفقنا من العادة فحيضها يوم الثاني والرابع فقط؛ إذ ليس في زمن العادة دم سواها، وإن لفقنا من الإمكان قال ابن سريج: احتمل وجهين، أحدهما: أن يكون أول الحيض اليوم الذي سبق العادة، والوجه الثاني: أن يكون أوله اليوم الثاني من الشهر. قال: والأول أظهر لأنه دم في زمن الإمكان، فعلى هذا يلفق لها خمسة، وهي أيام الدماء آخرها الثامن، وإن قلنا: بالوجه الثاني لفقنا لها خمسة آخرها العاشر، وإن سحبنا بني على الوجهين، فإن قلنا: الاعتبار بزمن العادة حيضناها ثلاثة أيام، وهي الثاني والثالث والرابع، وإن قلنا: الاعتبار بعدد أيام العادة حيضها خمسة، أولها الذي بدأ فيه الدم وآخرها الرابع فحصل في قدر حيضها ثلاثة أوجه: أحدها: يومان، والثاني: ثلاثة، والثالث: خمسة، وفي زمنه خمسة أوجه: أحدها: يومان الثاني والرابع، والوجه الثاني: ثلاثة أيام الثاني والثالث والرابع. والوجه الثالث: خمسة أيام الدماء، ولها الذي سبق عادتها وآخرها الثامن. والوجه الرابع: خمسة أيام أولها الثاني وآخرها العاشر. والوجه الخامس: خمسة أيام متوالية أولها الدم الذي تقدم له وآخرها الرابع، وهذه المسألة في نهاية من الحسن، والله أعلم.
فرع: إذا انتقلت عادتها بتقدم أو تأخر ثم استحيضت وتقطع دمها ففيها الخلاف السابق بين أبي إسحاق والأصحاب في مراعاة الأولية كما ذكرناه في حال إطباق الدم، ويعود الخلاف في ثبوت العادة بمرة، مثال التقدم: كان عادتها خمسة من ثلاثين، فرأت في بعض الأدوار يوم الثلاثين دما واليوم الذي بعده نقاء وتقطع دمها هكذا وجاوز خمسة عشر. قال أبو إسحاق: حيضها أيامها القديمة وما

 

ج / 2 ص -367-       قبلها استحاضة فإن سحبنا فحيضها اليوم الثاني والثالث والرابع وإن لفقنا فالثاني والرابع. وقال الجمهور وهو المذهب: تنتقل العادة بمرة فإن سحبنا فحيضها خمسة متوالية أولها يوم الثلاثين، وإن لفقنا من العادة فحيضها يوم الثلاثين والثاني والرابع، وإن لفقنا من الخمسة عشر ضممنا إليها السادس والثامن، مثال التأخر: أن ترى في بعض الأدوار اليوم الأول نقاء والثاني دما والثالث نقاء والرابع دما، واستمر هكذا متقطعا، فعند أبي إسحاق الحكم كما سبق في صورة التقدم، وعلى المذهب إن سحبنا فحيضها خمسة متوالية أولها الثاني، وإن لفقنا من العادة فالثاني والرابع والسادس لأن السادس وإن خرج عن العادة القديمة فبالتأخر انتقلت عادتها وصار الثاني أولها والسادس، وإن لفقنا من الخمسة عشر ضممنا إليها الثامن والعاشر. وقد صار طهرها السابق على الاستحاضة في هذه الصورة ستة وعشرين، وفي صورة التقدم أربعة وعشرين.
ولو لم يتقدم الدم في المثال المذكور ولا تأخر لكن تقطع هو والنقاء يومين يومين لم يعد خلاف أبي إسحاق، بل يبنى على القولين، فإن سحبنا فحيضها خمسة متوالية والسادس كالدماء بعده، وإن لفقنا من العادة فحيضها الأول والثاني والخامس، وإن لفقنا من الخمسة عشر ضممنا إليها السادس والتاسع وحكى الرافعي وجها شاذا أن الخامس لا يجعل حيضا إذا لفقنا من العادة، ولا التاسع إذا لفقنا من الخمسة عشر، لأنهما ضعفا باتصالهما بدم الاستحاضة، وطردوا الوجه في كل نوبة دم يخرج بعضها عن العادة إن اقتصرنا عليها أو عن الخمسة عشر إن اعتبرناها. هذا بيان حيضها، أما قدر طهرها إلى استئناف حيضة أخرى فينظر إن كان التقطع بحيث ينطبق الدم على أول الدور فهو ابتداء الحيضة الأخرى، وإن لم ينطبق فابتداؤها أقرب نوب الدماء إلى الدور، تقدمت أو تأخرت، فإن استويا في التقدم والتأخر فابتداء حيضها النوبة المتأخرة، ثم قد يتفق التقدم والتأخر في بعض أدوار الاستحاضة دون بعض. وطريق معرفة ذلك أن تأخذ نوبة دم ونوبة نقاء وتطلب عددا صحيحا يحصل من مضروب مجموع النوبتين فيه مقدار دورها، فإن وجدته فاعلم انطباق الدم على أول الدور وإلا فاضربه في عدد يكون الحاصل منه أقرب إلى دورها زائدا كان أو ناقصا، واجعل حيضها الثاني أقرب الدماء إلى الدور، فإن استوى طرفا الزيادة والنقص فالاعتبار بالزائد. مثاله: عادتها خمسة من ثلاثين وتقطع يوما ويوما، وجاوز خمسة عشر فنوبة الدم يوم، ونوبة النقاء مثله، وتجد عددا إذا ضربت الاثنين فيه يبلغ ثلاثين، وهو خمسة عشر، فتعلم انطباق الدم على أول دورها أبدا ما دام التقطع بهذه الصفة، ولو كانت المسألة بحالها وتقطع يومين يومين فلا تجد عددا يحصل من ضرب أربعة فيه من ثلاثين، فاطلب ما يقرب الحاصل من الضرب فيه من ثلاثين وهنا عددان سبعة وثمانية، أحدهما يحصل منه ثمانية وعشرون والآخر اثنان وثلاثون فاستوى طرفا الزيادة والنقص، فخذ بالزيادة واجعل أول الحيضة الثانية الثالث والثلاثين، وحينئذ يعود خلاف أبي إسحاق لتأخر الحيض عن أول الدور فحيضها عنده في الدور الثاني هو اليوم الثالث والرابع فقط على قول السحب والتلفيق جميعا.
وأما على المذهب فإن سحبنا فحيضها خمسة متوالية أولها الثالث، وإن لفقنا من العادة فحيضها

 

ج / 2 ص -368-       الثالث والرابع والسابع، وإن لفقنا من الخمسة عشر فحيضها هذه الثلاثة مع الثامن والحادي عشر، ثم في الدور الثالث ينطبق الدم على أول الدور فلا يبقى خلاف أبي إسحاق؛ ويكون الحكم كما ذكرناه في الدور الأول ثم في الدور الرابع يتأخر الدم ويعود الخلاف، وعلى هذا أبدا. قال الرافعي: ولم نر أحدا يقول: إذا تأخر الدم في الدور الثاني يومين فقد صار أول الأدوار المجاوزة اثنين وثلاثين، فيجعل هذا القدر دورا لهما تفريعا على ثبوت العادة بمرة، وحينئذ ينطبق الدم على أول الدور أبدا، لأنا نجد عددا يحصل من ضرب الأربعة فيه هذا القدر وهو ثمانية. قال: ولو قال قائل بهذا لم يكن به بأس. فإن قيل: هذا الدور حدث في زمن الاستحاضة فلا عبرة به، قلنا: لا نسلم فقد أثبتنا عادة المستحاضة مع دوام الاستحاضة، ألا ترى أن المستحاضة المميزة يثبت لها بالتمييز عادة معمول بها؟ ولو كانت المسألة بحالها ورأت ثلاثة دما وأربعة نقاء فمجموع النوبتين، سبعة، ولا نجد عددا إذا ضربت السبعة فيه بلغ ثلاثين، فاضربها في أربعة لتبلغ ثمانية وعشرين، واجعل أول الحيضة الثالثة التاسع والعشرين ولا تضربها في خمسة فإنه يبلغ خمسة وثلاثين وهي أبعد من الدور، ثم إذا صار أول الحيضة التاسع والعشرين فقد تقدم الحيض أول الدور، فعلى قياس أبي إسحاق ما قبل الدور استحاضة، وحيضها اليوم الأول على قول التلفيق والسحب؛ وقياس المذهب لا يخفى. ولو كانت عادتها ستة من ثلاثين وتقطع دمها ستة ستة وجاوز، ففي الدور الأول حيضها الستة الأولى بلا خلاف، وأما الدور الثاني فإنها ترى ستة من أوله نقاء وهي أيام عادتها، فعند أبي إسحاق لا حيض لها في هذا الدور أصلا، وعلى المذهب وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره, أصحهما: حيضها الستة الثانية على قولي السحب والتلفيق جميعا، والثاني: حيضها الستة الأخيرة من الدور الأول، لأن الحيضة إذا فارقت محلها فقد يتقدم وقد يتأخر، والستة الأخيرة صادفت زمن الإمكان لأنه مضى قبلها طهر كامل، فوجب جعلها حيضا؛ ويجيء هذا الوجه حيث خلت جميع أيام العادة عن الدم.
هذا كله إذا لم ينقص الدم الموجود في زمن العادة عن أقل الحيض، فلو نقص بأن كانت عادتها يوما وليلة فرأت في بعض الأدوار يوما دما وليلة نقاء واستحيضت فثلاثة أوجه على قول السحب: أصحها: وبه قال أبو إسحاق المروزي: لا حيض لها في هذه الصورة. والثاني: تعود إلى قول التلفيق، وبه قال أبو بكر المحمودي، والثالث: حيضها الأول والثاني والليلة بينهما، وبه قال الشيخ أبو محمد: وأما على قول التلفيق فإن لفقنا من الخمسة عشر حيضناها الأول والثاني وجعلنا الليلة بينهما طهرا، وإن لفقنا من العادة فوجهان حكاهما الإمام الغزالي في "البسيط" الأصح قول أبي إسحاق: لا حيض لها، وبه قطع الرافعي. والثاني: ترجع إلى الوجه الآخر وهو التلفيق من الخمسة عشر، وادعى الغزالي في "الوسيط" أنه لا طريق غيره وليس كما قال. هذا كله فيمن كان لها قبل الاستحاضة عادة غير متقطعة، أما من كانت لها عادة متقطعة ثم استحيضت مع التقطع فينظر إن كان التقطع بعد الاستحاضة كالتقطع قبلها فمردها قدر حيضها على اختلاف القولين، مثاله: كانت ترى ثلاثة دما وأربعة نقاء ثم ثلاثة دما وتطهر عشرين ثم استحيضت والتقطع على هذه الصفة فإن سحبنا

 

ج / 2 ص -369-       كان حيضها قبل الاستحاضة عشرة وكذا بعدها، وإن لفقنا كان حيضها ستة يتوسط بين نصفيهما أربعة وكذا الآن، وإن اختلف التقطع بأن تقطع في المثال المذكور يوما يوما ثم استحيضت فإن سحبنا فحيضها الآن تسعة أيام لأنها جملة الدماء الموجودة في زمن العادة مع النقاء المتخلل، وإن لفقنا من العادة فحيضها الأول والثالث والتاسع، إذ ليس لها في أيام حيضها القديم على هذا القول دم لها في هذه الثلاثة وإن لفقنا من الخمسة عشر ضممنا إلى هذه الثلاثة الخامس والسابع والحادي عشر تكميلا لقدر حيضها والله أعلم.
فرع: قوله في "التنبيه" 1: "وإن رأت يوما طهرا ويوما دما ففيه قولان" ينكر عليه في ثلاثة أشياء أحدها: تسميته طهرا مع أنه حيض في الأصح، والثاني: تقديم الطهر في اللفظ، فإن الابتداء إنما هو من الدم بلا خلاف، والثالث إهماله بيان صورة المسألة، وهي مصورة فيمن تقطع دمها ولم يجاوز خمسة عشر، فإن جاوز فهي مستحاضة كما سبق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "دم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض ويسقط ما يسقطه الحيض لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل، فكان حكمه حكم الحيض. فإن خرج قبل الولادة شيء لم يكن نفاسا، وإن خرج بعد الولادة كان نفاسا، وإن خرج مع الولد ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بنفاس لأنه ما لم ينفصل جميع الولد فهي في حكم الحامل، ولهذا يجوز للزوج رجعتها، فصار كالدم الذي تراه في حال الحمل. وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن أبي أحمد بن القاص: هو نفاس لأنه دم انفصل بخروج الولد، فصار كالدم الخارج بعد الولادة، وإن رأت الدم قبل الولادة خمسة أيام ثم ولدت ورأت الدم، فإن الخارج بعد الولادة نفاس، وأما الخارج قبله ففيه وجهان من أصحابنا من قال: هو استحاضة لأنه لا يجوز أن يتوالى حيض ونفاس من غير طهر كما لا يجوز أن يتوالى حيضتان من غير طهر، ومنهم من قال: إذا قلنا: إن الحامل تحيض فهو حيض لأن الولد يقوم مقام الطهر في الفصل".
الشرح: في هذه القطعة مسائل:
إحداها: في ألفاظها "النفاس" بكسر النون، وهو عند الفقهاء الدم الخارج بعد الولد وعلى قول من يجعل الخارج معه نفاسا يقول هو الخارج مع الولد أو بعده، وأما أهل اللغة فقالوا: النفاس الولادة ويقال في فعله: نفست المرأة بضم النون وفتحها والفاء مكسورة فيهما وهاتان اللغتان مشهورتان حكاهما ابن الأنباري والجوهري والهروي في "الغريبين" وآخرون أفصحهما: الضم ولم يذكر صاحب العين والمجمل غيره. وأما إذا حاضت فيقال: نفست بفتح النون وكسر الفاء لا غير، كذا قال ابن الأنباري والهروي وآخرون؛ ويقال في الولادة: امرأة نفساء بضم النون وفتح الفاء وبالمد ونسوة نفاس بكسر النون. قالوا: وليس في كلام العرب فعلاء يجمع على فعال إلا نفساء وعشراء للحامل جمعها عشار، ويجمع النفساء أيضا على نفساوات بضم النون، قال صاحب "المطالع": وبالفتح أيضا قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هو كتاب للمصنف أيضا كالمهذب (ط).

 

ج / 2 ص -370-       ويجمع على نفس أيضا بضم النون والفاء قال: ويقال في الواحدة: نفسى مثل كبرى ونفسي بفتح النون، ويقال: امرأتان نفساوان والولد منفوس وقوله: "لأجل الحيض" هو بفتح الهمزة وحكى الجوهري وغيره كسرها أيضا والمشهور في اللغة تعديته بمن، فيقال: من أجل الحيض ومن أجل كذا، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا} [المائدة: من الآية32]. 
وقوله: "للزوج رجعتها" هي بفتح الراء وكسرها لغتان مشهورتان وسبق في أول الباب بيان اللغتين في الحامل والحاملة، وسبق بيان حال أبي إسحاق وأبي العباس في أبواب المياه. وقوله: أبو العباس بن أبي أحمد بن القاص كذا وقع هنا وهو صحيح، وقوله ابن القاص يكتب بالألف وهو مرفوع هنا صفة لأبي العباس ولا يجوز جره على أنه صفة لأبي أحمد لأنه يفسد المعنى فإن القاص هو أبو أحمد، وعادتهم أن يصفوا أبا العباس بأحد أوصاف ثلاثة فتارة يقال: أبو العباس بن أبي أحمد، وتارة أبو العباس صاحب "التلخيص"، أو صاحب "التلخيص" بلا كنية كما يفعله الغزالي وغيره، وتارة يجمعون بين الوصفين الأولين كما فعله المصنف هنا والله أعلم.
المسألة الثانية: إذا نفست المرأة فلها حكم الحائض في الأحكام كلها إلا أربعة أشياء مختلفا في بعضها. أحدها: أن النفاس لا يكون بلوغا، فإن البلوغ يحصل بالحمل قبله والحيض قد يكون بلوغا والثاني: لا يكون النفاس استبراء، الثالث: لا يحسب النفاس من عدة الإيلاء على أحد الوجهين، وإذا طرأ عليها قطعها بخلاف الحيض فإنه يحسب ولا يقطع، الرابع: لا ينقطع تتابع صوم الكفارة بالحيض، وفي انقطاعه بالنفاس وجهان، وما سوى هذه الأربعة يستوي فيه الحائض والنفساء، فيحرم عليها ما حرم على الحائض كالصلاة والصوم والوطء وغيرها مما سبق، ويسقط عنها ما يسقط عن الحائض من الصلاة وتمكين الزوج وطواف الوداع وغيرها مما سبق، ويحرم على الزوج وطؤها وطلاقها، ويكره عبورها في المسجد والاستمتاع بما بين سرتها وركبتها إذا لم نحرمهما، ويلزمها الغسل وقضاء الصوم وتمنع صحة الصلاة والصوم والطواف والاعتكاف والغسل. وأما قول المصنف: "النفاس يحرم ما يحرم الحيض، ويسقط ما يسقطه الحيض" فكلام صحيح ولكنه ناقص لأن باقي الأحكام التي ذكرتها لم يتعرض لها، وكان ينبغي أن يعبر بالعبارة التي ذكرتها أولا لسهولتها، وكأنه اقتصر على ما ذكره تنبيها به على الباقي، ولهذا قال: "فكان حكمه حكم الحيض" وهذا الذي ذكرناه من أن النفساء لها حكم الحائض لا خلاف فيه ونقل ابن جرير إجماع المسلمين عليه، ونقل المحاملي اتفاق أصحابنا على أن حكمها حكم الحائض في كل شيء، ولا بد من استثناء ما ذكرته أولا، والله أعلم.
فرع: ذكرنا أن النفساء يسقط عنها فرض الصلاة وهذا جار في كل نفساء وحكى البغوي والمتولي وغيرهما وجها أنها لو شربت دواء ليسقط الجنين ميتا فأسقطته ميتا وجب عليها قضاء صلوات أيام النفاس لأنها عاصية، والأصح الأشهر أنه لا يجب. وسنوضح المسألة في أول كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.

 

ج / 2 ص -371-       المسألة الثالثة: في حقيقة النفاس وحكم الدم قبل الولادة وبعدها، فأما الدم الخارج بعد الولادة فنفاس بلا خلاف، وفي الخارج مع الولد ثلاثة أوجه:
الصحيح: عند جمهور المصنفين وبه قطع جمهور أصحابنا المتقدمين أنه ليس بنفاس، بل له حكم الدم الخارج قبل الولادة وسنذكر حكمه إن شاء الله تعالى، واحتج له الأصحاب بما ذكره المصنف، قال الروياني: ولأنه لا خلاف أن ابتداء الستين يكون عقب انفصال الولد فلو جعلناه نفاسا لزادت مدة النفاس على ستين يوما. والوجه الثاني: أنه نفاس وصححه ابن الصباغ.
والثالث: له حكم الدم الخارج بين التوأمين. حكاه البغوي وهو شاذ ضعيف وإذا قلنا: هو نفاس فله فوائد منها وجوب الغسل إذا لم تر دما بعده وقلنا: لا يجب الغسل بخروج الولد ومنها بطلان الصوم إذا لم تر دما بعده أصلا أو ولدت مع آخر جزء من النهار وكان الدم المتعقب للولد بعد غروب الشمس، ومنها منع وجوب الصلاة إذا كانت الولادة مستوعبة لجميع الوقت أو كانت الحامل مجنونة وأفاقت في آخر الوقت واتصلت الولادة بالجنون بحيث لو لم توجد الولادة لوجبت الصلاة والله أعلم. 
وأما الدم الخارج قبل الولادة فقد أطلق المصنف وجمهور الأصحاب في الطرق كلها أنه ليس بنفاس بل له حكم دم الحامل. وقال صاحب "الحاوي": إن انفصل عما بعد الولادة فليس بنفاس بلا خلاف، وإن اتصل به فوجهان: أحدهما: أنه نفاس وهو قول أبي الطيب بن سلمة وقال: وأول نفاسها من حين بدأ بها الدم المتصل بالولادة. والثاني: ليس بنفاس ومراده بما قبل الولادة ما قاربها، وقد أوضح الرافعي المسألة فقال: لو رأت الحامل الدم على عادتها واتصلت الولادة بآخره ولم يتخلل طهر أصلا فوجهان أصحهما: أنه حيض، والثاني: أنه دم فساد. قال: ولا خلاف أنه ليس بنفاس لأن النفاس لا يسبق الولادة ولهذا قطع الجمهور بأن ما يبدو عند الطلق ليس بنفاس وقالوا: ابتداء النفاس من انفصال الولد. وحكى صاحب "الإفصاح" وجها أن ما يبدو عند الطلق نفاسا، لأنه من آثار الولادة ثم عند الجمهور كما لا يجعل نفاسا لا يجعل حيضا، كذا حكاه القاضي أبو المكارم في "العدة" وكذا حكاه الحناطي، وحكى معه وجها أنه حيض على قولنا: الحامل تحيض. وإذا كان الأصح في هذه الصورة أنه ليس بحيض وجب أن تستثنى هذه الصورة من قولنا: الحامل تحيض على أصح القولين؛ لأنها حامل بعد في هذه الصورة قال الرافعي: فحصل في وقت ابتداء النفاس أوجه أحدها: يحسب من الدم البادئ عند الطلق، والثاني: من الدم الخارج مع ظهور الولد، والثالث: وهو الأصح: من وقت انفصال الولد وحكى إمام الحرمين وجها أنها لو ولدت ولم تر دما أياما ثم رأت الدم فابتداء النفاس يحسب من خروج الولد، لا من رؤية الدم وهذا وجه رابع، وموضعه إذا كانت الأيام المتخللة دون أقل الطهر، والله أعلم.
المسألة الرابعة: إذا رأت الحامل دما يمكن أن يكون حيضا وانقطع، ثم ولدت قبل مضي خمسة

 

ج / 2 ص -372-       عشر يوما من انقطاعه فوجهان أصحهما عند الأصحاب: أنه حيض إن قلنا: الحامل تحيض وإلا فهو دم فساد. والثاني: أنه دم فساد سواء قلنا: الحامل تحيض أم لا، ودليلهما مذكور في الكتاب هكذا حكى الأصحاب هذا الخلاف وجهين، وهو في المعنى طريقان: أحدهما: أنه دم فساد، والثاني: على القولين في دم الحامل، ثم لا فرق في جريان هذا الخلاف بين أن ترى الدم في زمن عادتها أو غيره ولا فرق بين أن تتصل بالولادة أم لا على الصحيح، كما سبق في المسألة الثالثة، وقد تقدم في هذه المسألة زيادة في أول الباب. وأما قول المصنف: من أصحابنا من قال: هو استحاضة، فهو تصريح بأن دم الاستحاضة يطلق على الجاري في غير أوانه وإن لم يتصل بحيض، وقد أوضحت الخلاف فيه في أول الباب والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأكثر النفاس ستون يوما وقال المزني: أربعون يوما، والدليل على ما قلناه ما روي عن الأوزاعي قال: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين وعن عطاء والشعبي وعبيد الله بن الحسن العنبري والحجاج بن أرطاة: أن النفاس ستون يوما وليس لأقله حد، وقد تلد المرأة ولا ترى الدم وروي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تر نفاسا فسميت ذات الجفوف".
الشرح: هذا الحديث غريب والجفوف بضم الجيم معناه الجفاف وهما مصدران لجف الشيء يجف بكسر الجيم وبفتحها أيضا في لغية.
أما حكمه فمذهبنا المشهور الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي رحمه الله وقطع به الأصحاب أن أكثر النفاس ستون ولا حد لأقله ومعناه لا يتقيد بساعة ولا بنصف ساعة مثلا ولا نحو ذلك بل قد يكون مجرد مجة أي دفعة كما قاله المصنف في "التنبيه" والأصحاب وحكى أبو عيسى الترمذي في جامعه عن الشافعي أنه قال: أكثره أربعون يوما. وهذا عجيب والمعروف في المذهب ما سبق وأما إطلاق جماعة من أصحابنا أقل النفاس ساعة، فليس معناه الساعة التي هي جزء من اثني عشر جزءا من النهار بل المراد مجة كما ذكره الجمهور. وانفرد صاحب "الحاوي" فقال: ليس للشافعي رحمه الله في كتبه نص في أقل النفاس روى أبو ثور عنه أن أقله ساعة. قال: واختلف أصحابنا هل الساعة حد لأقله أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي العباس وجميع البغداديين أنه محدود الأقل وبه قال محمد بن الحسن وأبو ثور. والثاني: وهو قول البصريين أنه لا حد لأقله، وإنما ذكر الساعة تقليلا لا تحديدا وأقله مجة دم وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق. هذا كلام صاحب "الحاوي". وقال صاحب الشامل: وقع في بعض نسخ المزني أقله ساعة وأشار ابن المنذر إلى أن للشافعي في ذلك قولين فإنه قال: كان الشافعي يقول: إذا ولدت فهي نفساء فإذا أرادت الطهر وجب الغسل والصلاة قال: وحكى أبو ثور عن الشافعي أن أقل النفاس ساعة والصحيح المشهور ما قدمناه أن أقله مجة. وبنى صاحب "الحاوي" على ما ذكره من الخلاف في تحديده بساعة أنها لو ولدت ولم تر دما أصلا وقلنا: إن الولادة بلا دم توجب الغسل فهل يصح غسلها عقب الولادة؟ أم لا بد من تأخيره ساعة؟ فيه وجهان إن قلنا: محدود لم يصح وإلا فيصح، وهذا البناء ضعيف انبني على ضعيف بل الصواب القطع

 

ج / 2 ص -373-       بصحة غسلها وكيف تمنع صحته بسبب النفاس ولا دم هنا والله أعلم.
قال الروياني في البحر: ولا خلاف أن ابتداء الستين يكون عقيب انفصال الولد سواء قلنا: الدم الخارج مع الولد نفاس أم لا، ولم يذكر المصنف غالب النفاس وتركه عجب فقد ذكره هو في "التنبيه" والأصحاب، ثم أنه قال بعد هذا: ترد المبتدأة إلى غالبه في أحد القولين، وهذا يزيد التعجب من تركه، وأنه استغنى بشهرته وقد اتفق أصحابنا على أن غالبه أربعون يوما ومأخذه العادة والوجود والله أعلم.
فرع: ذكر المصنف في هذا الفصل أسماء جماعة منهم عطاء والأوزاعي، وقد بينا حالهما في أول الباب، وأما الشعبي فبفتح الشين وهو أبو عمرو عامر بن شراحيل بفتح الشين وقيل: عامر بن عبد الله بن شراحيل الكوفي التابعي الكبير المتفق على جلالته وإمامته وبراعته وشدة حفظه، روينا عنه قال: أدركت خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروينا عنه قال: "ما كتبت سوداء في بيضاء قط، ولا حدثني رجل بحديث فأحببت أن يعيده علي ولا حدثني رجل بحديث إلا حفظته" وأحواله كثيرة ذكرت جملة منها في تهذيب الأسماء. ولد لست سنين خلت من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتوفي سنة أربع ومائة. وقيل سنة ثلاث وقيل خمس وقيل ست، وأما العنبري فهو عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن مالك العنبري القاضي البصري، ولي قضاء البصرة بعد سوار بن عبد الله نسب إلى العنبر بن عمرو بن تميم جد من أجداده، قال محمد بن سعد: كان محمودا ثقة عاقلا، وهو من تابع التابعين. وأما الحجاج بن أرطاة فبفتح الهمزة وإسكان الراء وبالطاء المهملة، وهو أبو أرطاة النخعي الكوفي من تابع التابعين وهو أحد المفتين بالكوفة استفتي وهو ابن ست عشرة سنة وولي قضاء البصرة رحمهم الله أجمعين.
فرع: في مذاهب العلماء في أكثر النفاس وأقله، قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور أن أكثره ستون يوما، وبه قال عطاء والشعبي والعنبري والحجاج بن أرطاة ومالك وأبو ثور وداود. وقال ابن المنذر: وزعم ابن القاسم أن مالكا رجع عن التحديد بستين يوما وقال: يسأل النساء عن ذلك، وذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن أكثره أربعون، كذا حكاه عن الأكثرين الترمذي والخطابي وغيرهما قال الخطابي: قال أبو عبيد: على هذا جماعة الناس، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وأنس وعثمان بن أبي العاص وعائذ بن عمرو بالذال المعجمة وأم سلمة والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد رضي الله عنهم. وحكى الترمذي وابن المنذر وابن جرير وغيرهم عن الحسن البصري أنه خمسون، وقال القاضي أبو الطيب: قال الطحاوي: قال الليث: قال بعض الناس: إنه سبعون يوما. قال ابن المنذر وذكر الأوزاعي عن أهل دمشق أن أكثر النفاس من الغلام ثلاثون يوما ومن الجارية أربعون. وعن الضحاك أكثره أربعة عشر يوما واحتج للقائلين بأربعين بحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما". حديث حسن رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. قال الخطابي: أثنى البخاري على هذا الحديث.

 

ج / 2 ص -374-       واحتجوا بأحاديث بمعنى هذا من رواية أبي الدرداء وأنس ومعاذ وعثمان بن أبي العاص، وأبي هريرة رضي الله عنهم قالوا: ولأن هذا تقدير فلا يقبل إلا بتوقيف أو اتفاق، وقد حصل الاتفاق على أربعين.
واحتج أصحابنا بأن الاعتماد في هذا الباب على الوجود، وقد ثبت الوجود في الستين بما ذكره المصنف في الكتاب عن هؤلاء الأئمة، فتعين المصير إليه كما قلنا في أقل الحيض والحمل وأكثرهما. قال أصحابنا: ولأن غالبه أربعون فينبغي أن يكون أكثره زائدا كما في الحيض والحمل. ونقل أصحابنا عن ربيعة شيخ مالك، وهو تابعي، قال أدركت الناس يقولون أكثر النفاس ستون، وأما الجواب عن حديث أم سلمة فمن أوجه: أحدها: أنه محمول على الغالب. والثاني: حمله على نسوة مخصوصات، ففي رواية لأبي داود كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة، الثالث: أنه لا دلالة فيه لنفي الزيادة، وإنما فيه إثبات الأربعين، واعتمد أكثر أصحابنا جوابا آخر وهو تضعيف الحديث، وهذا الجواب مردود، بل الحديث جيد كما سبق، وإنما ذكرت هذا لئلا يغتر به. وأما الأحاديث الأخر فكلها ضعيفة ضعفها الحفاظ منهم البيهقي وبين أسباب ضعفها والله أعلم.
وأما أقل النفاس فقد ذكرنا أن أقله عندنا مجة، قال القاضي أبو الطيب: وبه قال جمهور العلماء، وقد سبق أنه مذهب مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات أصحها مجة كمذهبنا، والثانية: أحد عشر، والثالثة: خمسة وعشرون، ولم يذكر ابن المنذر وابن جرير والخطابي عنه غيرها. وحكى الماوردي عن الثوري أقله ثلاثة أيام، وقال المزني: أقله أربعة أيام، واحتج أصحابنا بأن الاعتماد على الوجود، وقد حصل الوجود في القليل والكثير، حتى وجد من لم تر نفاسا أصلا. قال صاحب "الحاوي": وسبب اختلاف العلماء أن كلا منهم ذكر أقل ما بلغه فوجب الرجوع إلى أقل ما وجد. وأما قول المصنف: قال المزني: أكثر النفاس أربعون، فغريب عن المزني والمشهور عنه أنه قال: أكثره ستون كما قاله الشافعي، وإنما خالفه في أقله، كذا نقله الفوراني والغزالي وصاحب "العدة" وآخرون، فإن صح ما ذكره المصنف وذكروه كان عن المزني روايتان، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن ولدت توأمين بينهما زمان ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعتبر النفاس من الولد الأول لأنه دم يعقب الولادة فاعتبرت المدة منه كما لو كان وحده، والثاني: يعتبر من الثاني لأنه ما دام معها حمل فالدم ليس بنفاس، كالدم الذي تراه قبل الولادة، والثالث: يعتبر ابتداء المدة من الأول ثم تستأنف المدة من الثاني، لأن كل واحد منهما سبب للمدة، فإذا وجدا اعتبر الابتداء من كل واحد منهما، كما لو وطئ امرأة بشبهة فدخلت في "العدة" ثم وطئها فإنها تستأنف العدة".
الشرح: يقال: زمان وزمن لغتان؛ وقوله: ولدت توأمين، وهو بفتح التاء وإسكان الواو وبعدها همزة مفتوحة، ومعناه ولدان هما حمل واحد، وشرط كونهما توأمين أن يكون بينهما دون ستة أشهر، فإن كانت ستة أشهر فهما حملان ونفاسان بلا خلاف، وسواء كان بينهما شهر أو شهران أو أكثر ما لم

 

ج / 2 ص -375-       يبلغ ستة أشهر فهما توأمان وهذه الأوجه الثلاثة التي ذكرها المصنف مشهورة لمتقدمي أصحابنا، وحكى ابن القاص في "التلخيص" أن بعض أصحابنا حكاها أقوالا، والمشهور أنها أوجه أصحها عند الشيخ أبي حامد وأصحابنا العراقيين والبغوي والروياني وصاحب "العدة" وغيرهم من الخراسانيين أن النفاس معتبر من الولد، الثاني: وهو مذهب محمد وزفر، ورواية عن أحمد وداود وصحح ابن القاص وإمام الحرمين والغزالي كونه من الأول، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأبي يوسف، وأصح الروايتين عن أحمد ورواية عن داود، وتوجيه الجميع مذكور في الكتاب. فإن قلنا: يعتبر من الثاني ففي حكم الدم الذي بينهما ثلاثة طرق: أصحها: - وبه قطع القاضي حسين - فيه القولان في دم الحامل، أصحهما أنه حيض والثاني: دم فساد، والطريق الثاني القطع بأنه دم فساد كالذي تراه في مبادئ خروج الولد. وبها قطع الشيخ أبو حامد، والثالث: القطع بأنه حيض؛ لأنه بخروج الأول انفتح باب الرحم، فخرج الحيض بخلاف ما قبله فإنه منسد.
وقال الرافعي: قال الأكثرون إن قلنا: دم الحامل حيض، فهذا أولى وإلا فقولان وأما إذا قلنا: بالوجه الثالث: إن المدة تعتبر من الولد الأول ثم تستأنف فمعناه أنهما نفاسان يعتبر كل واحد منهما على حدته، ولا يبالى بزيادة مجموعهما على ستين، حتى لو رأت بعد الأول ستين يوما دما وبعد الثاني ستين كانا نفاسين كاملين قال إمام الحرمين: حتى لو ولدت أولادا في بطن ورأت على أثر كل واحد ستين فالجميع نفاس ولكل واحد حكم نفاس مستقل لا يتعلق حكم بعضها ببعض. وأما إذا قلنا: إن الاعتبار بالأول فمعناه أنهما نفاس واحد ابتداؤه من خروج الولد الأول فإن زاد مجموعهما على ستين يوما فهي مستحاضة، وسيأتي حكمها إن شاء الله تعالى وإن وضعت الثاني بعد مضي ستين يوما من حين وضعت الأول قال جماعة: كان ما رأته بعد الثاني دم فساد وليس بنفاس. وقال إمام الحرمين: قال الصيدلاني: اتفق أئمتنا في هذه الصورة أن الولد الثاني ينقطع عن الأول وتستأنف نفاسا، فإن الذي تقدمه نفاس كامل ويستحيل أن تلد الثاني وترى الدم عقيبه ولا يكون نفاسا. قال الإمام: وسمعت شيخي يقول: الدم بعد الثاني دم فساد في هذه الصورة؛ وهذا ولد تقدمه النفاس. قال الإمام: ويلزم على قياس هذا أن يقال: إذا ولدت ورأت ستين يوما دما ثم تمادى اجتنان الولد الثاني أشهرا ثم ولدته ورأت دما أنه دم فساد، وهذا بعيد جدا، وبهذا يتبين أن كل ولد يستعقب نفاسا. هذا آخر كلام الإمام.
فرع: إذا أسقطت عضوا من الجنين وبقي الباقي مجتنا ورأت بعد العضو دما قال المتولي: هل يكون نفاسا؟ فيه الوجهان في الدم بين التوأمين، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن رأت دم النفاس ساعة ثم طهرت خمسة عشر يوما ثم رأت الدم يوما وليلة ففيه وجهان: أحدهما: أن الأول نفاس والثاني حيض وما بينهما طهر (والوجه الثاني ): أن الجميع نفاس لأن الجميع وجد في مدة النفاس وفيما بينهما القولان في التلفيق".
الشرح: قال أصحابنا: إذا انقطع دم النفساء فتارة يتجاوز التقطع ستين يوما وتارة لا يتجاوزها

 

ج / 2 ص -376-       فإن لم يتجاوزها نظر فإن لم يبلغ مدة النقاء بين الدمين أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوما، فأوقات الدم نفاس، وفي النقاء المتخلل قولا التلفيق أصحهما: أنه نفاس، والثاني: أنه دم فساد. مثال هذا: أن ترى ساعة دما وساعة نقاء، أو يوما أو يومين، أو خمسة أو عشرة أو أربعة عشر وأربعة ونحوهما من التقديرات، أما إذا بلغت مدة النقاء أقل الطهر بأن رأت الدم ساعة أو يوما أو أياما عقب الولادة، ثم رأت النقاء خمسة عشر يوما فصاعدا ثم رأت الدم يوما وليلة فصاعدا ففي الدم العائد الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وهما مشهوران. قال الشيخ أبو حامد والأصحاب: أصحهما أن الأول نفاس والعائد حيض وما بينهما طهر، لأنهما دمان تخللهما طهر كامل فلا يضم أحدهما إلى الآخر كدمي الحيض، وهذا الوجه قول أبي إسحاق المروزي، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد وأبي ثور.  والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج أن الدمين نفاس لوقوعه في زمن الإمكان كما لو تخلل بينهما دون خمسة عشر، وفي النقاء المتخلل القولان أحدهما: أنه طهر، والثاني: أنه نفاس، هذا هو المشهور وبه قطع الجمهور.
وحكى إمام الحرمين والغزالي وجها أن النقاء المتخلل طهر على القولين، وأن هذه الصورة تستثنى على قول السحب، إذ يبعد أن تجعل المدة الكاملة في الطهر نفاسا، بخلاف ما إذا كانت المدة ناقصة فإنها لا تصلح طهرا وحدها، فتبعت الدم. أما إذا كان الدم دون يوم وليلة، فإن قلنا في الصورة الأولى: إنه نفاس فهنا أولى، وإن قلنا هناك: إنه حيض فهنا وجهان أصحهما أنه دم فساد لأن الطهر الكامل قطع حكم النفاس وبهذا قطع الجرجاني وهو مذهب زفر ومحمد، الثاني: أنه نفاس لأنه تعذر جعله حيضا وأمكن جعله نفاسا. وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف. أما إذا كان الدم العائد أكثر من خمسة عشر فإن قلنا في الصورة الأولى: إن العائد نفاس فكذا هنا، وإن قلنا إنه حيض فهي مستحاضة في الحيض قد اختلط حيضها بالاستحاضة، فينظر أمبتدأة هي أم معتادة أم مميزة؟ وقد سبق بيانها. أما إذا ولدت ولم تر دما أصلا حتى مضى خمسة عشر يوما فصاعدا ثم رأت الدم فهل هو حيض أم نفاس؟ فيه الوجهان. أصحهما أنه حيض. ذكره إمام الحرمين والغزالي وغيرهما، فإن قلنا: إنه حيض فلا نفاس لهذه المدة أصلا. أما إذا ولدت ولم تر دما أصلا ثم رأته قبل خمسة عشر يوما من الولادة، فهل يكون ابتداء النفاس من رؤية الدم أم من وقت الولادة؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين أصحهما من رؤية الدم. وقد سبق بيان هذا في أول فصل النفاس والله أعلم.
هذا كله إذا تقطع دمها ولم يجاوز ستين يوما، فإن جاوزها نظر إن بلغ زمن النقاء في الستين خمسة عشر يوما ثم جاوز العائد فالعائد حيض بلا خلاف والنقاء قبله طهر، وإن لم يبلغ النقاء خمسة عشر فهي مستحاضة، فإن كانت مميزة ردت إلى التمييز وإن كانت مبتدأة فهل ترد إلى أقل النفاس أم غالبه؟ فيه خلاف، وإن كانت معتادة ردت إلى العادة، وفي الأحوال كلها يراعى التلفيق، فإن سحبنا فالدماء في أيام المرد مع النقاء المتخلل نفاس، وإن لفقنا فلا يخفى حكمه، وهل يلفق من العادة؟ أم من مدة الإمكان وهي الستون؟ فيه الوجهان السابقان في فصل التلفيق.

 

ج / 2 ص -377-       فرع: قال المحاملي وغيره: إن أبا العباس بن سريج فرع على هذه المسألة فقال: إذا قال لامرأته الحامل: إذا وضعت فأنت طالق، طلقت بالوضع، وكم القدر الذي يقبل قولها فيه إذا ادعت انقضاء العدة، يبنى على الوجهين السابقين في الدم العائد بعد الطهر الكامل في الستين، فإن جعلناه حيضا فأقل ما يمكن انقضاء "العدة" فيه سبعة وأربعون يوما ولحظتان، لأنه يمكن أن تضع قبل المغرب بلحظة وترى الدم في اللحظة ثم تطهر خمسة عشر ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر ثم ترى الدم لحظة وقد انقضت عدتها، قال المحاملي وغيره: وبنى ابن سريج هذا على ما إذا رأت النفاس. قال إذا لم تره أصلا انقضت عدتها بسبعة وأربعين يوما ولحظة واحدة؛ هذا إذا قلنا: الدم العائد حيض، فإن قلنا: هو نفاس فأقل مدة تنقضي فيها عدتها اثنان وتسعون يوما ولحظة، لأن الستين لا يحصل فيها دم يحسب حيضا، فلا يتصور فيها إلا طهر واحد، ثم تحيض بعد الستين يوما وليلة؛ ثم تطهر خمسة عشر ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر ثم ترى الدم لحظة، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن نفست المرأة وعبر الدم الستين فحكمها حكم الحيض إذا عبر الخمسة عشر في الرد إلى التمييز والعادة والأقل والغالب لأنه بمنزلة الحيض في أحكامه فكذلك في الرد عند الإشكال".
الشرح: إذا عبر دم النفساء الستين ففيه طريقان، أصحهما أنه كالحيض إذا عبر الخمسة عشر في الرد إلى التمييز إن كانت مميزة أو العادة إن كانت معتادة غير مميزة أو الأقل أو الغالب إن كانت مبتدأة غير مميزة، ووجهه ما ذكره المصنف، وبهذا الطريق قطع المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب وإمام الحرمين والغزالي والأكثرون، والطريق الثاني حكاه المحاملي وابن الصباغ والمتولي والبغوي والشيخ نصر وآخرون من العراقيين والخراسانيين: أن في المسألة ثلاثة أوجه، أصحها باتفاقهم أنه كالطريق الأول. والثاني: أن الستين كلها نفاس وما زاد عليه استحاضة، وبه قطع ابن القاص في "المفتاح" واختاره المزني حكاه أصحابنا عنه، قال الماوردي: قاله المزني في "جامعه الكبير" وفرقوا بينه وبين الحيض بأن الحيض محكوم به من حيث الظاهر وليس مقطوعا به فجاز أن ينتقل عنه إلى ظاهر آخر، والنفاس مقطوع به فلا ينتقل عنه إلى غيره إلا بيقين وهو مجاوزة الأكثر. قال الرافعي: وهذا القائل يجعل الزائد استحاضة إلى تمام طهرها المعتاد إن كانت معتادة أو المردودة إليه إن كانت مبتدأة ثم ما بعده. والوجه الثالث: أن الستين نفاس والذي بعده حيض على الاتصال به، لأنهما دمان مختلفان، فجاز أن يتصل أحدهما بالآخر، وبهذا الوجه قال أبو الحسن بن المرزباني قال صاحب "التتمة" والعدة وغيرهما: فعلى هذا إن زاد الدم بعد الستين حكمنا بأنها مستحاضة في الحيض. قال أصحابنا: وهذا الوجه ضعيف جدا، وهو أضعف من الذي قبله، قال أصحابنا وأصل هذين الوجهين أنه هل يصح أن يتصل دم الحيض بدم النفاس؟ أم لا بد من طهر فاصل بينهما؟ وفيه وجهان مشهوران. قال صاحب "الحاوي" وغيره: حكاهما أبو إسحاق المروزي في كتابه المصنف في الحيض، قال صاحب "الشامل" وغيره: وهما مبنيان على الوجهين فيما لو رأت الحامل خمسة أيام

 

ج / 2 ص -378-       دما؛ ثم ولدت قبل مجاوزة خمسة عشر، وقلنا: الحامل تحيض، فهل تكون الخمسة عشر حيضا أم لا؟ وقد سبق بيانه، فأحد الوجهين في المسألتين من يقول: لا يتصل الحيض بالنفاس كما لا يتصل حيض بحيض، والثاني: يتصل لاختلافهما. ثم إن هؤلاء الجماعة الذين حكوا الأوجه الثلاثة أطلقوها وخصص الشيخ أبو حامد وآخرون الأوجه بغير المميزة، وقطعوا بأن المميزة ترد إلى التمييز.
أما إذا قلنا بالمذهب، وهو أنها كالحائض إذا عبر دمها خمسة عشر، فقال أصحابنا: إن كانت معتادة غير مميزة وذكرت عادتها فقالت: كنت أنفس أربعين يوما مثلا ردت إلى عادتها وكان نفاسها أربعين، وهل يشترط تكرر العادة؟ فيه الخلاف السابق في الحيض، والأصح أنه لا يشترط بل تصير معتادة بمرة واحدة فإذا ردت إلى العادة في النفاس فلها في الحيض حالتان:
إحداهما: أن تكون معتادة في الحيض أيضا فيحكم لها بالطهر بعد الأربعين على قدر عادتها في الطهر، ثم تحيض على قدر عادتها في الحيض ثم تستمر كذلك.
الحالة الثانية: أن تكون مبتدأة في الحيض فيجعل لها بعد الأربعين دور المبتدأة في الطهر والحيض، وقد سبق بيان الخلاف في قدر دور المبتدأة ويكون الطهر متصلا بالأربعين والحيض بعده، فلو كانت قد ولدت مرارا وهي ذات جفاف ثم ولدت مرة ونفست وجاوز دمها الستين. قال أصحابنا: لا نقول عدم النفاس عادة لها بل هي مبتدأة في النفاس كالتي لم تلد قط، أما المبتدأة في النفاس غير المميزة إذا جاوز دمها الستين وهي غير مميزة ففيها القولان السابقان في الحيض، أصحهما: الرد إلى أقل النفاس، وهو لحظة لطيفة نحو مجة والثاني: الرد إلى غالبه وهو أربعون يوما هكذا قاله الجمهور، وزاد صاحب "العدة" قولا ثالثا وهو أنها ترد إلى أكثر النفاس وهو ستون يوما، وهذا غريب عن الشافعي، وإنما نقله الأصحاب عن المزني مذهبا للمزني وحكاه الشيخ أبو حامد وغيره لبعض أصحابنا، وحكى المحاملي في "المجموع" وغيره من أصحابنا طريقا آخر عن ابن سريج وأبي إسحاق وهي الرد إلى الأقل قولا واحدا فحصل ثلاثة طرق، والصحيح المشهور ما سبق من القولين، فإذا علم حالها في مردها في النفاس فلها في الحيض حالتان إحداهما أن تكون معتادة فيجعل لها بعد مرد النفاس قدر عادتها في الطهر طهرا ثم بعده قدر عادتها في الحيض حيضا ثم تستمر كذلك.
الحالة الثالثة: أن تكون مبتدأة في الحيض أيضا فقدر مردها في الطهر والحيض كالمعتادة، أما المبتدأة المميزة فترد إلى التمييز بشرط ألا يزيد القوي على أكثر النفاس، وأما المعتادة المميزة فهل يقدم تمييزها؟ أم العادة؟ فيه الخلاف السابق في مثله في الحيض، والأصح تقديم التمييز. وأما المعتادة الناسية لعادتها في النفاس ففيها الخلاف في المتحيرة في الحيض ففي قول هي كالمبتدأة فترد إلى اللحظة في قول، وإلى أربعين يوما في قول، وعلى المذهب تؤمر بالاحتياط، رجح إمام الحرمين هنا الرد إلى مرد المبتدأة، لأن أول النفاس معلوم، وتعيين أول الهلال للحيض تحكم لا أصل له. قال الرافعي: إذا قلنا بالاحتياط فإن كانت مبتدأة في الحيض وجب الاحتياط أبدا لأن أول حيضها مجهول، وقد سبق أن المبتدأة إذا جهلت ابتداء دمها كانت كالمتحيرة، وإن كانت معتادة في الحيض ناسية لعادتها استمرت أيضا على الاحتياط أبدا. وإن كانت ذاكرة لعادة الحيض فقد التبس عليها الدور

 

ج / 2 ص -379-       لالتباس آخر النفاس، فهي كمن نسيت وقت الحيض دون قدره، وقد سبق بيانها والله أعلم.
فرع: قال الفوراني والبغوي وصاحب "العدة" وغيرهم: الصفرة والكدرة في زمن النفاس حكمهما حكمهما في زمن الحيض، فإذا اتصلت صفرة أو كدرة بالولادة ولم تجاوز الستين فإن وافق عادتها فنفاس وإلا ففيه الخلاف كما في الحيض. والأصح أنه نفاس، وقال صاحب "الحاوي": هو نفاس بلا خلاف لأن الولادة شاهدة للنفاس فلم يشترط شاهد في الدم بخلاف الحيض قال: وسواء المبتدأة وغيرها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر، فإن شهرها عشرون يوما، فإن ولدت في وقت حيضها، ورأت عشرين يوما الدم ثم طهرت خمسة عشر يوما، ثم رأت الدم بعد ذلك واتصل وعبر الخمسة عشر كان حيضها وطهرها على عادتها فتكون نفساء في مدة العشرين وطاهرا في مدة الخمسة عشر وحائضا في خمسة أيام بعدها، وإن كان عادتها أن تحيض عشرة أيام، وتطهر عشرين فإن شهرها ثلاثون يوما فإن ولدت في وقت حيضها ورأت عشرين يوما دما وانقطع وطهرت شهرين ثم رأت الدم بعد ذلك وعبر الخمسة عشر فإن حيضها لم يتغير، بل هي في الحيض على عادتها، ولكن زاد طهرها فصار شهرين بعد ما كان عشرين يوما فتكون نفساء في العشرين الأولى وطاهرا في الشهرين بعدها وحائضا في العشرة التي بعدها".
الشرح: هاتان المسألتان مشهورتان في كتب العراقيين، ونقلوهما عن أبي إسحاق 1، كما ذكرهما المصنف بحروفهما، قال: وهما مفرعتان على ثبوت العادة بمرة وهو المذهب.
فرع: قال أصحابنا: لا يشترط في ثبوت حكم النفاس أن يكون الولد كامل الخلقة ولا حيا، بل لو وضعت ميتا أو لحما تصور فيه صورة آدمي أو لم يتصور وقال القوابل: إنه لحم آدمي ثبت حكم النفاس هكذا صرح به المتولي وآخرون، وقال الماوردي: ضابطه أن تضع ما تنقضي به "العدة" وتصير به أم ولد.
فرع: إذا انقطع دم النفساء واغتسلت جاز وطؤها، كما تجوز الصلاة وغيرها ولا كراهة في وطئها، هذا مذهبنا وبه قال الجمهور، قال العبدري: هو قول أكثر الفقهاء قال: وقال أحمد: يكره وطؤها في ذلك الطهر ولا يحرم، وحكى صاحب "البيان" عن علي بن أبي طالب وابن عباس وأحمد رضي الله عنهم أنه يكره وطؤها إذا انقطع دمها لدون أربعين. دليلنا أن لها حكم الطاهرات في كل شيء، فكذا في الوطء وليس لهم دليل يعتمد، وإنما احتج لهم بحديث ضعيف غريب وليس فيه دلالة لو صح ثم لا فرق عندنا بين أن ينقطع الدم عقب الولادة أو بعد أيام فللزوج الوطء قال صاحبا "الشامل" والبحر: إذا انقطع عقيب الولادة فعليها أن تغتسل، ويباح الوطء عقيب الغسل، قال: فإن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  يعني أبا إسحاق المروزي فإذا قيل الشيخ أبو إسحاق كان المصنف كما لو قلنا الشيخ أبو حامد الأسفراييني ولو قلنا: القاضي أبو حامد كان المروروذي (ط).

 

ج / 2 ص -380-       خافت عود الدم استحب التوقف عن الوطء احتياطا والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "يجب على المستحاضة أن تغسل الدم وتعصب الفرج وتستوثق بالشد وبالتلجم، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش رضي الله عنها:
"أنعت لك الكرسف، فقالت: إنه أكثر من ذلك، فقال: تلجمي". فإن استوثقت ثم خرج الدم من غير تفريط في الشد لم تبطل صلاتها، لما روت عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت 1 أبي حبيش رضي الله عنها استحيضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي حتى يجيء ذلك الوقت، وإن قطر الدم على الحصير".
الشرح: حديث حمنة صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بهذا اللفظ إلا قوله: "تلجمي" فإنه في الترمذي خاصة. وفي رواية أبي داود بدله "فاتخذي ثوبا" وهو بمعنى تلجمي. ثم هذا بعض حديث طويل مشهور. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح، قال: وسألت محمدا، يعني البخاري عنه فقال: حديث حسن. قال: وكذا قال أحمد بن حنبل: هو حديث حسن صحيح والكرسف بضم الكاف والسين القطن، وأنعت أصف. 
وأما حديث بنت أبي حبيش فرواه أبو داود والدارقطني والبيهقي، وليس في روايتهم: "حتى يجيء ذلك الوقت" ولا في رواية أبي داود: "إن قطر الدم على الحصير"وهو حديث ضعيف باتفاق الحفاظ، ضعفه أبو داود في سننه وبين ضعفه وبين البيهقي ضعفه، ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني ويحيى بن معين، وهؤلاء حفاظ المسلمين، ورواه أبو داود والبيهقي من طرق أخرى كلها ضعيفة. وإذا ثبت ضعف الحديث تعين الاحتجاج بما سأذكره إن شاء الله تعالى، وقد سبق في أول الباب بيان حديث حمنة بنت أبي حبيش.
أما حكم المسألة: فقال أصحابنا: إذا أرادت المستحاضة الصلاة ونعني بالمستحاضة التي يجري دمها مستمرا في غير أوانه لزمها الاحتياط في طهارتي الحدث والنجس، فتغسل فرجها قبل الوضوء أو التيمم إن كانت تتيمم، وتحشوه بقطنة وخرقة دفعا للنجاسة وتقليلا لها، فإن كان دمها قليلا يندفع بذلك وحده فلا شيء عليها غيره. وإن لم يندفع بذلك وحده شدت مع ذلك على فرجها وتلجمت، وهو أن تشد على وسطها خرقة أو خيطا أو نحو ذلك على صورة التكة، وتأخذ خرقة أخرى مشقوقة الطرفين فتدخلها بين فخذيها وأليتها، وتشد الطرفين في الخرقة التي في وسطها أحدهما قدامها عند سرتها والآخر خلفها، وتحكم ذلك الشد وتلصق هذه الخرقة المشدودة بين الفخذين بالقطنة التي على الفرج إلصاقا جيدا، وهذا الفعل يسمى تلجما واستثفارا لمشابهته لجام الدابة وثفرها بفتح الثاء المثلثة والفاء، وسماه الشافعي رحمه الله التعصيب. قال أصحابنا: وهذا الذي ذكرناه من الحشو والشد والتلجم واجب. قال الرافعي إلا في موضعين: أحدهما أن تتأذى بالشد ويحرقها اجتماع الدم فلا يلزمها لما فيه من الضرر. الثاني أن تكون صائمة فتترك الحشو نهارا وتقتصر على الشد والتلجم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  أمها جرية وهي أم محمد بن عبد الله بن جحش (ط).

 

ج / 2 ص -381-       قالوا: ويجب تقديم الشد والتلجم على الوضوء وتتوضأ عقب الشد من غير إمهال، فإن شدت وتلجمت وأخرت الوضوء وطال الزمان ثم توضأت ففي صحة وضوئها وجهان حكاهما صاحب "الحاوي" قال: وهما الوجهان فيمن تيمم وعلى بدنه نجاسة. قال أصحابنا: فإذا استوثقت بالشد على الصفة المذكورة ثم خرج دمها بلا تفريط لم تبطل طهارتها ولا صلاتها، ولها أن تصلي بعد فرضها ما شاءت من النوافل لعدم تفريطها ولتعذر الاحتراز عن ذلك. وقد أثبتت الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". فهذا مع حديث حمنة دليل لجميع ما ذكرناه وينضم إليه المعنى الذي قدمناه. وأما إذا خرج الدم بتقصيرها في الشد أو زالت العصابة عن موضعها لضعف الشد فزاد خروج الدم بسببه فإنه يبطل طهرها، وإن كان ذلك في أثناء الصلاة بطلت، وإن كان بعد فريضة لم تستبح نافلة لتقصيرها والله أعلم.
وأما تجديد غسل الفرج وحشوه وشده لكل فريضة فينظر إن زالت العصابة عن موضعها زوالا له تأثير، أو ظهر الدم على جوانب العصابة، وجب التجديد بلا خلاف. نقل الاتفاق عليه إمام الحرمين وغيره لأن النجاسة كثرت وأمكن تقليلها والاحتراز عنها فوجب التجديد كنجاسة النجو إذا خرجت عن الأليين فإنه يتعين الماء وإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدم فوجهان حكاهما الخراسانيون أصحهما عندهم وجوب التجديد كما يجب تجديد الوضوء. والثاني: لا يجب إذ لا معنى للأمر بإزالة النجاسة مع استمرارها بخلاف الأمر بتجديد طهارة الحدث مع استمراره فإنه معهود في التيمم. قال إمام الحرمين: وهذا الوجه غير سديد لأنه لا خلاف في الأمر به. وإذا زالت العصابة فلا أثر للزوال، وإنما الأثر لتجدد النجاسة. قال الرافعي: ونقل المسعودي هذا الخلاف قولين، قال البغوي والرافعي: وهذا الخلاف جار فيما إذا انتقض وضوءها قبل الصلاة، واحتاجت إلى وضوء آخر بأن خرج منها ريح فيلزمها تجديد الوضوء وفي تجديد الاحتياط بالشد الخلاف ولو انتقض وضوءها بالبول وجب تجديد العصابة بلا خلاف لظهور النجاسة والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا تصلي بطهارة أكثر من فريضة لحديث فاطمة بنت أبي حبيش ويجوز أن تصلي ما شاءت من النوافل لأن النوافل تكثر فلو ألزمناها أن تتوضأ لكل نافلة شق عليها".
الشرح: مذهبنا أنها لا تصلي بطهارة واحدة أكثر من فريضة مؤداة كانت أو مقضية، وأما المنذورة ففيها الخلاف السابق في باب التيمم.  واحتج المصنف والأصحاب بحديث فاطمة المذكور وهو ضعيف باتفاق الحفاظ كما ذكرناه، قالوا: ولا يصح ذكر الوضوء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام عروة بن الزبير، وإذا بطل الاحتجاج به تعين الاحتجاج بغيره فيقال: مقتضى الدليل وجوب الطهارة من كل خارج من الفرج خالفنا ذلك في الفريضة الواحدة للضرورة وبقي ما عداها على مقتضاه، وتستبيح ما شاءت من النوافل بطهارة مفردة، وتستبيح ما شاءت منها بطهارة الفريضة قبل الفريضة وبعدها لما ذكره المصنف. وقد حكى القاضي حسين وغيره في استباحتها النافلة وجهين بناء

 

ج / 2 ص -382-       على القولين في صحة استباحة المعضوب والميت في حج التطوع، وحكوا مثلهما وجهين في استباحة النافلة بالتيمم، والمذهب الجواز في كل ذلك. وقد سبق بيان ذلك كله في باب التيمم هذا بيان مذهبنا، وممن قال إنه لا يصح بوضوئها أكثر من فريضة عروة بن الزبير وسفيان الثوري وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: طهارتها مقدرة بالوقت فتصلي ما شاءت من الفرائض الفائتة في الوقت فإذا خرج بطلت طهارتها. وقال ربيعة ومالك وداود: دم الاستحاضة ليس بحدث فإذا تطهرت صلت ما شاءت من الفرائض والنوافل إلى أن تحدث بغير الاستحاضة. واحتج من جوز فرائض بحديث رواه: "المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة". وهذا حديث باطل لا يعرف، والله أعلم.
فرع: مذهبنا أن طهارة المستحاضة الوضوء ولا يجب عليها الغسل لشيء من الصلوات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها، وبهذا قال جمهور السلف والخلف وهو مروي عن علي وابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو حنيفة ومالك وأحمد. وروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء بن أبي رباح رضي الله عنهم أنهم قالوا: يجب عليها الغسل لكل صلاة، وروي هذا أيضا عن علي وابن عباس وروي عن عائشة أنها قالت: تغتسل كل يوم غسلا واحدا وعن ابن المسيب والحسن أنهما قالا: تغتسل من صلاة الظهر إلى الظهر دائما، ودليلنا أن الأصل عدم الوجوب فلا يجب إلا ما ورد الشرع به، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع الحيض، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي". وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالغسل لكل صلاة فليس فيها شيء ثابت، وقد بين البيهقي ومن قبله ضعفها، وإنما صح في هذا ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما أن أم حبيبة 1 بنت جحش رضي الله عنها استحاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك عرق فاغتسلي ثم صلي". فكانت تغتسل عند كل صلاة. قال الشافعي رضي الله عنه: إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة قال: ولا أشك أن غسلها كان تطوعا غير ما أمرت به وذلك واسع لها، هذا لفظ الشافعي رحمه الله وكذا قاله شيخه سفيان بن عيينة، والليث بن سعد وغيرهما، والله أعلم.
فرع: قال صاحب "الحاوي" والبندنيجي وغيرهما: إذا توضأت المستحاضة ارتفع حدثها السابق ولم يرتفع المستقبل ولا المقارن ولكن تصح صلاتها وطوافها ونحوهما مع قيام الحدث للضرورة كالمتيمم، ونقل المحاملي هذا عن ابن سريج، ونقله صاحب "البيان" عن أصحابنا العراقيين. وقد سبق في باب مسح الخف أن القفال وغيره من الخراسانيين قالوا: في ارتفاع حدثها بالوضوء قولان، وأن إمام الحرمين والشاشي قالا: هذا غلط بل الصواب أنه لا يرتفع، قالا: ويستحيل ارتفاع حدثها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هي أخت زينب أم المؤمنين وحمنة وأكثرهم يسقطون الهاء فيقولون أم حبيب وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف, وقد مرت أحاديث أخرى أن المستحاضة حمنة (ط).

 

ج / 2 ص -383-       مع مقارنته للطهارة وقال إمام الحرمين هنا قال الأصحاب: لا يرتفع حدثها المستقبل وفي ارتفاع الماضي وجهان والمقارن ليس بحدث، فحصل في المسألة ثلاثة طرق أشهرها: يرتفع حدثها الماضي دون المقارن والمستقبل، والثاني: في الجميع قولان، والثالث: وهو الصحيح دليلا: لا يرتفع شيء من حدثها لكن تستبيح الصلاة وغيرها مع الحدث للضرورة، وفي كيفية نيتها في الوضوء أوجه سبقت في باب نية الوضوء أصحها:: تجب نية استباحة الصلاة ولا تجب نية رفع الحدث ولا تجزئ. والثاني: يكفيها نية رفع الحدث أو الاستباحة. والثالث: يجب الجمع بينهما والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يجوز أن تتوضأ [لفرض 1 الوقت] قبل دخول الوقت؛ لأنها طهارة ضرورة فلا تجوز قبل وقت الضرورة، فإن توضأت في أول الوقت وأخرت الصلاة فإن كان بسبب يعود إلى مصلحة الصلاة كانتظار الجماعة وستر العورة والإقامة صحت صلاتها، وإن كان لغير ذلك ففيه وجهان أحدهما: أن صلاتها باطلة؛ لأنها تصلي مع نجاسة يمكن حفظ الصلاة منها. والثاني: يصح؛ لأنه وسع في الوقت فلا يضيق عليها، وإن أخرتها حتى خرج الوقت لم يجز 2 لها أن تصلي به؛ لأنه لا عذر لها في ذلك، ومن أصحابنا من قال: يجوز أن تصلي بعد خروج الوقت؛ لأنا لو منعناها من ذلك صارت طهارتها مقدرة بالوقت وذلك لا يجوز عندنا".
الشرح: مذهبنا أنه لا يصح وضوء المستحاضة لفريضة قبل وقتها، ووقت المؤداة معروف، ووقت المقضية بتذكرها، وقد سبقت المسألة بفروعها في باب التيمم فتجيء تلك الفروع كلها هنا، وقد سبق في النافلة المؤقتة وجهان، أصحهما: لا يصح التيمم لها إلا بعد دخول وقتها. والثاني: يجوز، وهما جاريان في وضوء المستحاضة. وحكى إمام الحرمين وجها أنها لو شرعت في الوضوء قبل الوقت بحيث أطبق آخره على أول الوقت صح وضوءها وصلت به فريضة الوقت، وهذا ليس بشيء، ودليل المذهب أنها طهارة ضرورة فلا يجوز شيء منها قبل الوقت لعدم الضرورة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز وضوءها قبل الوقت. ودليلنا ما ذكرناه والله أعلم.
قال أصحابنا: وينبغي أن تبادر بالصلاة عقيب طهارتها، فإن أخرت ففيها أربعة أوجه, الصحيح منها: أنها إن أخرت لاشتغالها بسبب من أسباب الصلاة كستر العورة والأذان والإقامة والاجتهاد في القبلة والذهاب إلى المسجد الأعظم والسعي في تحصيل سترة تصلي إليها وانتظار الجماعة ونحو ذلك جاز، وإن أخرت بلا عذر بطلت طهارتها لتفريطها. والثاني: تبطل طهارتها سواء أخرت بسبب الصلاة أو لغيره، حكاه صاحب "الحاوي" وهو غريب ضعيف. والثالث: يجوز التأخير وإن خرج الوقت ولا تبطل طهارتها. قال صاحب "الإبانة": ما لم تصل الفريضة، يعني بعد الوقت، قال: وهذا قول القفال وشيخه الخضري قياسا على التيمم، ولأن الوقت موسع فلا نضيقه عليها,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين سقط من الطبعتين وفي نسخة المهذب لسبب اللام (ط).   
2  في الطبعتين السابقتين "لم يجزها" في المهذب "لم يجز لها" وهو ما يؤيده السياق وكلام الشارح (ط).

 

ج / 2 ص -384-       وخروج الوقت لا يوجب نقض الطهارة، ولأن المبادرة لو وجبت خوفا من كثرة الحدث والنجس لوجب الاقتصار على أركان الصلاةوالرابع: لها التأخير ما لم يخرج وقت الصلاة، وليس لها الصلاة بعد الوقت بتلك الطهارة؛ لأن جميع الوقت في حق الصلاة كالشيء الواحد فضبطت الطهارة به، قال إمام الحرمين: وهذا الوجه بعيد عن قياس الشافعي مشابه لمذهب أبي حنيفة رحمه الله قال الإمام: فإن قلنا: تجب المبادرة فقد ذهب ذاهبون من أئمتنا إلى المبالغة في الأمر بالبدار. وقال آخرون: ولو تخلل فصل يسير لم يضر. قال: وضبطه على التقريب عندي أن يكون على قدر الزمن المتخلل بين صلاتي الجمع في السفر، وقد سبق في باب التيمم أن المذهب المشهور أنه لا يلزم المتيمم المبادرة، وأنها تلزم المستحاضة، وأن بعض الأصحاب خرج من كل واحدة إلى الأخرى وجعل فيهما خلافا، وأن المذهب الفرق، وسبق بيان الفرق والله أعلم. واذا توضأت المستحاضة للفريضة فقد سبق أنها تستبيح ما شاءت من النوافل وتبقى هذه الاستباحة ما دام وقت الفريضة باقيا، فإذا خرج الوقت فوجهان حكاهما الشيخ أبو حامد وصاحب "الحاوي" وآخرون. قال أبو حامد: الصحيح أنها لا تستبيح النفل بعد الوقت بذلك الوضوء، وقطع البغوي بالاستباحة، وقد سبق في باب التيمم أن من تيمم لفريضة فله التنفل بعد الوقت على أصح الوجهين، والأصح هنا أنه لا يجوز لها؛ والفرق أن حدثها متجدد ونجاستها متزايدة بخلاف المتيمم، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن دخلت في الصلاة ثم انقطع دمها ففيه وجهان: أحدهما: لا تبطل صلاتها كالمتيمم إذا رأى الماء في الصلاة، والثاني: تبطل؛ لأن عليها طهارة حدث وطهارة نجس، ولم تأت من طهارة النجس بشيء وقد قدرت عليها فلزمها الإتيان بها، وإن انقطع دمها قبل الدخول في الصلاة لزمها غسل الدم وإعادة الوضوء، فإن لم تفعل حتى عاد الدم فإن كان عود الدم بعد الفراغ من الصلاة لم تصح صلاتها؛ لأنه اتسع الوقت للوضوء والصلاة من غير حدث ولا نجس، وإن كان عوده قبل الفراغ من الصلاة ففيه وجهان: أحدهما: تصح لأنا تيقنا بعود الدم أن الانقطاع لم يكن له حكم؛ لأنه لا يصلح للطهارة والصلاة.  والثاني: وهو الأصح أن صلاتها باطلة؛ لأنها استفتحت الصلاة وهي ممنوعة منها فلم تصح بالتبيين، كما لو استفتح لابس الخف الصلاة وهو شاك في انقضاء مدة المسح ثم تبين أن المدة لم تنقض".
الشرح: قال أصحابنا رحمهم الله: إذا توضأت المستحاضة فانقطع دمها انقطاعا محققا حصل معه برؤها وشفاؤها من علتها، وزالت استحاضتها نظر إن حصل هذا خارج الصلاة فإن كان بعد صلاتها فقد مضت صلاتها صحيحة وبطلت طهارتها فلا تستبيح بها بعد ذلك نافلة، وإن كان قبل الصلاة بطلت طهارتها ولم تستبح تلك الصلاة ولا غيرها، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور. وحكى إمام الحرمين وجها أنه إذا اتصل الشفاء بآخر الوضوء لم تبطل. قال الإمام: وهذا لا يعد من المذهب وحكى صاحب "الحاوي" وجها أنها إذا شفيت وقد ضاق وقت الصلاة عن الطهارة ولم يبق إلا ما يسع الصلاة وحدها ولم تكن صلتها فلها أن تصليها بهذه الطهارة قال: وهذا ضعيف؛ لأن التيمم

 

ج / 2 ص -385-       يبطل برؤية الماء قبل الصلاة وإن ضاق وقتها، وهذان الوجهان شاذان مردودان.
واعلم أن قول الأصحاب: إذا شفيت يلزمها استئناف الوضوء، المراد به إذا خرج منها دم في أثناء الوضوء أو بعده وإلا فلا يلزمها الوضوء بل تصلي بوضوئها الأول بلا خلاف، وصرح به الغزالي في "البسيط" وغيره. أما إذا حصل الانقطاع في نفس الصلاة ففيه الوجهان المذكوران في الكتاب الصحيح منهما: باتفاق الأصحاب بطلان صلاتها وطهارتها. والثاني: لا تبطل كالمتيمم، والصواب الأول، وقد سبق في باب التيمم أن الشافعي رحمه الله نص على بطلان صلاة المستحاضة دون المتيمم، وأن من الأصحاب من نقل وخرج فجعل في كل مسألة قولين، وقرر الجمهور النصين وفرقوا بوجهين: أحدهما أن حدثها ازداد بعد الطهارة، والثاني أنها مستصحبة للنجاسة وهو يخالفها فيها وحكى الشيخ أبو محمد عن أبي بكر الفارسي أنه حكى قولا عن الربيع عن الشافعي أنها تخرج من الصلاة وتتوضأ وتزيل النجاسة وتبني على صلاتها، وهذا يكون بناء على القول القديم في سبق الحدث، والله أعلم.
هذا حكم انقطاع الشفاء، أما إذا توضأت ثم انقطع دمها وهي تعتاد الانقطاع والعود أو لا تعتاد لكن أخبرها بذلك من يعتمد من أهل المعرفة فينظر إن كانت مدة الانقطاع يسيرة لا تسع الطهارة والصلاة التي تطهرت لها، فلها الشروع في الصلاة في حال الانقطاع ولا تأثير لهذا الانقطاع؛ لأن الظاهر عود الدم على قرب فلا يمكنها إكمال الطهارة والصلاة بلا حدث، فلو امتد الانقطاع على خلاف عادتها أو خلاف ما أخبرت به تبينا بطلان طهارتها ووجب قضاء الصلاة. أما إذا كانت مدة الانقطاع تسع الطهارة والصلاة فيلزمها إعادة الوضوء بعد الانقطاع لتمكنها منه في حال الكمال، فلو عاد الدم على خلاف العادة قبل التمكن ففي وجوب إعادة الوضوء وجهان، أصحهما: لا يجب فلو شرعت في الصلاة بعد هذا الانقطاع من غير إعادة الوضوء ثم عاد الدم قبل الفراغ وجب قضاء الصلاة في أصح الوجهين؛ لأنها حال الشروع كانت شاكة في بقاء الطهارة وصحة الصلاة. هذا كله إذا عرفت عود الدم، أما إذا انقطع وهي لا تدري أيعود أم لا وأخبرها به من تثق بمعرفته فتؤمر بإعادة الوضوء في الحال، ولا يجوز أن تصلي بالوضوء السابق؛ لأنه يحتمل أن هذا الانقطاع شفاء، والأصل دوام هذا الانقطاع، فإن عاد الدم قبل إمكان فعل الطهارة والصلاة فوجهان: أصحهما: أن الوضوء صحيح بحاله؛ لأنه لم يوجد انقطاع عن الصلاة مع الحدث. والثاني: يجب الوضوء نظرا إلى أول الانقطاع، ولو خالفت أمرنا أولا وشرعت في الصلاة من غير إعادة الوضوء، فإن لم يعد الدم لم تصح صلاتها لظهور الشفاء، وكذا إن عاد بعد إمكان الوضوء والصلاة لتفريطها، فإن عاد قبل الإمكان ففي وجوب إعادة الصلاة الوجهان كما في الوضوء، لكن الأصح هنا وجوب الإعادة؛ لأنها شرعت مترددة، وعلى هذا لو توضأت بعد الانقطاع وشرعت في الصلاة ثم عاد الدم فهو حدث جديد، فيلزمها أن تتوضأ وتستأنف الصلاة والله أعلم.
فهذا "المجموع" الذي ذكرناه هو المعروف في طرق الأصحاب وذكره الرافعي ثم قال: هذا هو الذي ذكره معظم أصحابنا العراقيين وغيرهم قال: وبينه وبين كلام الغزالي بعض الاختلاف فإنه جعل

 

ج / 2 ص -386-       الانقطاع قسمين: أحدهما: ألا يبعد من عادتها عود الدم، والثاني: أن يبعد وذكر التفصيل والخلاف. وهذان القسمان يفرضان في التي لها عادة بالعود، قال: وما حكيناه عن الأصحاب يقتضي جواز الشروع في الصلاة متى كان العود معتادا بعد أو قرب، وإنما يمتنع الشروع من غير استئناف الوضوء إذا لم يكن العود معتادا أصلا قال: فيجوز أن يؤول كلامه على ما ذكره المعظم ولا يبعد أن يلحق ندرة العود وبعده في عادتها بعدم اعتياد العود والله أعلم.
فرع: قال المتولي: لو كان دمها ينقطع في حال ويسيل في حال، لزمها الوضوء والصلاة في وقت انقطاعه، إلا أن تخاف فوت الوقت فتتوضأ وتصلي في حال سيلانه، فإن كانت ترجو الانقطاع في آخر الوقت ولا تتحققه فهل الأفضل تعجيل الصلاة في أول الوقت أم تأخيرها إلى آخره؟ فيه وجهان بناء على القول في مثله في التيمم.
فرع: توضأت ثم انقطع دمها انقطاعا يوجب بطلان الطهارة، فتوضأت بعد ذلك ودخلت في الصلاة فعاد الدم بطل وضوءها ولزمها استئنافه وهل يجب استئناف الصلاة أم يجوز البناء؟ فيه القولان فيمن سبقه الحدث، الصحيح: وجوب الاستئناف، قال البغوي: ولو كان به جرح غير سائل فانفجر في خلال الصلاة أو ابتدأت الاستحاضة في خلال الصلاة، وجب الانصراف من الصلاة لغسل النجاسة وتتوضأ المستحاضة وتستأنف الصلاة، ويجيء قول في البناء كما سبق في الحدث والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وسلس البول وسلس المذي حكمهما حكم المستحاضة فيما ذكرناه، ومن به ناصور أو جرح يجري منه الدم حكمه حكم المستحاضة في غسل النجاسة عند كل فريضة؛ لأنها نجاسة متصلة لعلة فهي كالاستحاضة".
الشرح: سلس البول هنا بكسر اللام، وهي صفة للرجل الذي به هذا المرض، وأما سلس بفتح اللام فاسم لنفس الخارج فالسلس بالكسر كالمستحاضة وبالفتح كالاستحاضة، وأما الناصور كذا وقع هنا بالنون والصاد وهو صحيح وفيه ثلاث لغات إحداها هذه والثانية ناسور بالسين والثالثة باسور بالباء والسين، وقد سبق إيضاحه في باب الاستطابة.
قال أصحابنا: حكم سلس البول، وسلس المذي حكم المستحاضة في وجوب غسل النجاسة وحشو رأس الذكر والشد بخرقة والوضوء لكل فريضة والمبادرة بالفريضة بعد الوضوء، وحكم الانقطاع وغير ذلك مما سبق وأما صاحب الناصور والجرح السائل فهما كالمستحاضة في وجوب غسل الدم لكل فريضة والشد على محله، ولا يجب الوضوء في مسألة الجرح، ولا في مسألة الناسور إلا أن يكون في داخل مقعدته بحيث ينقض الوضوء. ثم هذا الذي ذكرناه إنما هو في السلس الذي هو عادة ومرض، أما من خرج منه مذي بسبب حادث كنظر إلى امرأة وقبلتها فله حكم سائر الأحداث فيجب غسله، والوضوء منه عند خروجه للفرض والنفل؛ لأنه لا حرج فيه، أم من استطلق سبيله فدام خروج البول والغائط والريح منه، فحكمه حكم المستحاضة في كل ما ذكرناه، اتفق عليه أصحابنا. أما من دام خروج المني منه فقال صاحب "الحاوي" والبحر عليه الاغتسال لكل فريضة قالا: قال

 

ج / 2 ص -387-       الشافعي: وقل من يدوم به خروج المني؛ لأن معه تلف النفس أما ذات دم الفساد وهي التي استمر بها دم غير متصل بالحيض في وقت لا يصلح للحيض كدم تراه من لها دون تسع سنين أو رأته حامل، وقلنا: ليس هو بحيض أو رأته غيرهما في وقت لا يصلح للحيض بأن رأته قبل مضي خمسة عشر للطهر ففيها وجهان حكاهما صاحب "الحاوي" والبحر, أحدهما: أنها كالمستحاضة في جميع الأحكام السابقة. قال: وهذا قول أبي إسحاق المروزي؛ لأن دم الفساد ليس بأندر من المذي وقد جعلناه كالاستحاضة. والثاني: وهو قول ابن سريج: أنه حدث كسائر الأحداث فإذا خرج هذا الدم بعد صلاتها فريضة لم تصح النافلة بعدها؛ لأن دم الفساد لا يدوم بخلاف الاستحاضة، وإذا دام خرج عن كونه فاسدا وصار حيضا واستحاضة، هذا كلام صاحب "الحاوي" والبحر، والمشهور أنها كالمستحاضة والله أعلم.
فرع: قال أصحابنا: إذا تطهرت المستحاضة طهارتي الحدث والنجس على الوجه المشروط وصلت فلا إعادة عليها، وكذا كل من ألحقناه بها من سلس البول والمذي ومن به حدث دائم وجرح سائل ونحوهم لا إعادة عليهم، وقد سبقت هذه المسألة في آخر باب التيمم مع نظائرها.
فرع: قال البغوي: لو كان سلس البول بحيث لو صلى قائما سال بوله ولو صلى قاعدا استمسك فكيف يصلي؟ فيه وجهان: أصحهما: قاعدا حفظا للطهارة ولا إعادة عليه على الوجهين، وهذان الوجهان في فتاوى القاضي حسين، قال القفال: يصلي قائما، وقال القاضي حسين: يصلي قاعدا.
فرع: يجوز وطء المستحاضة في الزمن المحكوم بأنه طهر ولا كراهة في ذلك وإن كان الدم جاريا، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وقد سبقت المسألة بدلائلها في أول الباب ولها قراءة القرآن، وإذا توضأت استباحت مس المصحف وحمله وسجود التلاوة والشكر، وعليها الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات التي على الطاهر، ولا خلاف في شيء من هذا عندنا. قال أصحابنا: وجامع القول في المستحاضة: أنه لا يثبت لها شيء من أحكام الحيض بلا خلاف، ونقل ابن جرير الإجماع على أنها تقرأ القرآن وأن عليها جميع الفرائض التي على الطاهر، وروى إبراهيم النخعي أنها لا تمس مصحفا، ودليلنا القياس على الصلاة والقراءة والله أعلم.

فرع في مسائل تتعلق بباب الحيض
إحداها: لا تكره مؤاكلة الحائض ومعاشرتها وقبلتها والاستمتاع بها فوق السرة وتحت الركبة، ولا تمتنع من فعل شيء من الصنائع ولا من الطبخ والعجن والخبز وإدخال يدها في المائعات، ولا يجتنب الزوج مضاجعتها إذا سترت ما بين السرة والركبة، وسؤرها وعرقها طاهران، وهذا كله متفق عليه، وقد نقل ابن جرير إجماع المسلمين على هذا ودلائله في الأحاديث الصحيحة ظاهرة مشهورة، وقد سبقت هذه المسألة في آخر باب ما يوجب الغسل. وأما قول الله عز وجل:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: من الآية222] فالمراد به اعتزال وطئهن ومنع قربان وطئهن لقوله صلى الله عليه وسلم

 

ج / 2 ص -388-       في الحديث الصحيح: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بمعناه مع الإجماع، والله أعلم.
الثانية: قال ابن جرير: أجمع العلماء على أن للحائض أن تخضب يدها بخضاب يبقى أثره في يدها بعد غسله، وقد سبق إيضاح هذه المسألة مع أشياء كثيرة لها في آخر صفة الوضوء.
الثالثة: الحرة والأمة في الحيض والنفاس سواء بخلاف العدة.
الرابعة: علامة انقطاع الحيض ووجود الطهر أن ينقطع خروج الدم وخروج الصفرة والكدرة، فإذا انقطع طهرت سواء خرجت بعده رطوبة بيضاء أم لا، قال صاحب الشامل: الترية رطوبة خفية لا صفرة فيها ولا كدرة، تكون في القطنة أثرا لا لونا، قال: وهذا يكون بعد انقطاع الحيض، وكذا قال البيهقي في السنن: الترية هي الشيء الخفي اليسير.
قلت: هي الترية بفتح التاء المثناة فوق وكسر الراء ثم ياء مثناة من تحت مشددة، وقد سبق في أوائل الباب قول عائشة رضي الله عنها للنساء: "ولا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" تريد بذلك الطهر وقدمنا معناه، وقال أصحابنا: وإذا مضى زمن حيضها لزمها أن تغتسل في الحال لأول صلاة تدركها، ولا يجوز لها بعد ذلك أن تترك صوما ولا صلاة ولا تمنع من الوطء ولا غير ذلك مما يثبت في حق الطاهر ولا تستطهر بشيء أصلا. وقال مالك رحمه الله: تستطهر بثلاثة أيام، دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" والله أعلم.

فصل في أشياء أنكرت على الغزاليّ رحمه الله في باب الحيض من "الوسيط"
 منها قوله: أمّا حكم الحيض فهو المنع من أربعة أمور: الأوّل: كلّ ما يفتقر إلى الطّهارة الثاني: الاعتكاف، الثالث: الصّوم، الرابع: الجماع، وهذه العبارة يطلقها للحصر، وليس حكم الحيض منحصرا في هذه الأربعة، بل له أحكام أخر، منها بطلان الطّهارة وامتناع صحّتها، ووجوب الغسل عند انقطاعه، إمّا بالانقطاع وإمّا بخروجه على الخلاف السّابق في باب ما يوجب الغسل، ومنها حصول الاستبراء والبلوغ به وتحريم الطّلاق وسقوط فرض الصّلاة، وعدم انقطاع التّتابع في صوم الكفّارة والنّذر، ومنع وجوب طواف الوداع، ومنها تحريم قراءة القرآن ومن ذلك قوله في حديث عائشة رضي الله عنها في أوّل الكتاب: "ونال منّي ما ينال الرّجل من امرأته إلّا ما تحت الإزار" هذه الزّيادة غير معروفة في كتب الحديث المعتمدة وهي موضع الاستدلال. وفي "الصحيحين" أحاديث تغني عنه. ومن ذلك قوله في آخر الباب الثّاني فرعان, الأوّل: المبتدأة إذا رأت خمسة سوادا ثمّ أطبق الدّم على لون واحد، ففي الشّهر الثّاني نحيّضها خمسة؛ لأنّ التّمييز أثبت لها عادة. هذه العبارة توهم خلاف الصّواب، فمراده أنّها رأت خمسة سوادا ثمّ أطبقت الحمرة إلى آخر الشّهر ثمّ رأت الشّهر الثّاني سوادا مستمرّا فتردّ في الشّهر الثّاني إلى الخمسة وتثبت العادة في التّمييز بمرّة على اختياره، وقد سبقت المسألة موضّحة في فصل المميّزة.

 

ج / 2 ص -389-       أمّا إذا رأت خمسة سوادا ثمّ أطبقت الحمرة فإنّ حيضها خمسة السّواد ويكون ما بعده من الحمرة طهرا، وإن استمرّت سنة وأكثر كما سبق، ومن ذلك قوله: لقول حمنة بنت جحش "كنّا لا نعتدّ بالصّفرة" والمعروف في صحيح البخاريّ وغيره أنّ هذا من كلام أمّ عطيّة، ومن ذلك قوله في المتحيّرة: تردّ إلى أوّل الأهلّة فإنّها مبادئ أحكام الشّرع، هذا ممّا أنكروه عليه، فإنّ أحكام الشّرع ليست مختصّة بأوائل الأهلّة. ومن ذلك قوله: إنّها مأمورة بالاحتياط والأخذ بأسوأ الاحتمالات في أمور. الثالث 1: الاعتداد بثلاثة أشهر، هذا ما أنكروه عليه، فإنّ الاعتداد بثلاثة أشهر ليس من أسوأ الاحتمالات، بل الأسوأ صبرها إلى سنّ اليأس، وهو وجه حكاه هو في كتاب "العدة" كما بيّنّاه، ومن ذلك قوله: لأنّ الانقطاع في صلاة لا تفسد ما مضى، كان ينبغي أن يقول: لأنّ الطّرآن، ويمكن تكلّف وجه لما ذكره. ومن ذلك قوله في أوّل الباب الرّابع في الصّورة الثّالثة ثمّ بعده إلى آخر التّاسع والعشرين يحتمل الحيض، هكذا وقع في "البسيط" و"الوسيط"، وهو غلط، وصوابه إلى قبيل آخر جزء من الثّلاثين. ومن ذلك قوله إذا قالت أضللت خمسة في شهر فإذا جاء شهر رمضان تصومه كلّه ثمّ تقضي خمسة هكذا قال وكذا قاله الفورانيّ وكأنّ الغزاليّ أخذه من كتاب الفورانيّ على عادته وهو غلط، وصوابه تقضي ستّة لاحتمال الطّرآن في وسط النّهار بناء على طريقته، وطريقة جمهور المتأخّرين أنّه يفسد على المتحيّرة من رمضان ستّة عشر يوما. ومن ذلك قوله في باب التّلفيق: لو حاضت عشرا وطهرت خمس سنين فدورها تسعون يوما؛ لأنّه اكتفى به في عدّة الآيسة، فلو تصوّر أن يزيد الدّور عليه لما اكتفى به، هذا ممّا أنكروه عليه، وكيف يقال: لا تتصوّر الزّيادة عليه، وهو متصوّر يدرك بالعقل والنّقل، وإنّما اكتفى به؛ لأنّه الغالب، ونحن لا نكتفي في المتحيّرة بالغالب.
ومن ذلك قوله في المستحاضة الثّانية المبتدأة: إذا رأت يوما دما ويوما نقاء وصامت إلى خمسة عشر وجاوز دمها، وفي مردّها قولان، فإن ردّت إلى يوم وليلة فحيضها يوم وليلة ثمّ لا يلزمها إلّا قضاء تسعة أيّام؛ لأنّها صامت سبعة في أيّام النّقاء، ولولا ذلك النّقاء لما لزمها إلّا ستّة عشر، فإذا احتسبنا سبعة منها بقي تسعة هذا ممّا أنكروا عليه فيه أشياء. قوله: تسعة في الموضعين، وصوابه ثمانية، وقوله: ستّة عشر، وصوابه خمسة عشر، فإنّها صامت سبعة فالّذي بقي ثمانية، فإنّ الطّرآن وسط النّهار لا يتصوّر هنا وقد ذكر المسألة على الصّواب صاحب "التهذيب" وغيره.
ومن ذلك قوله في المستحاضة الرّابعة النّاسية، في المتحيّرة الّتي تقطّع دمها يوما ويوما أنّها على قول السّحب إذا أمرناها بالاحتياط حكمها حكم من أطبق الدّم عليها وإنّما تفارقها في أنّا لا نأمرها بتجديد الوضوء في وقت النّقاء، ولا بتجديد الغسل. هذا ممّا أنكروه عليه، فإنّه يوهم أنّ المتحيّرة عند إطباق الدّم مأمورة بتجديد الوضوء، فإنّ هذه تفارقها في ذلك، وليست المتحيّرة مأمورة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هكذا في جميع النسخ ولعله الثاني: لأن ما قبلها الأول: (ط).

 

ج / 2 ص -390-       بتجديد الوضوء وإنّما تؤمر بتجديد الغسل؛ فكان ينبغي أن يقول: تفارقها في الأمر بتجديد الغسل، وكذلك لا تؤمر بتجديد الوضوء ومن ذلك قوله في آخر باب النّفاس: إذا انقطع دم النّفساء فرأت دما، ثمّ انقطع خمسة عشر ثمّ عاد، فالعائد حيض أو نفاس؟ فيه وجهان، فإذا قلنا: نفاس ورأينا ترك التّلفيق فالأشهر أنّ مدّة النّقاء حيض، وصوابه نفاس كذا قال هنا وفي "البسيط"، وكذا قال شيخه في "النهاية": الأشهر أنّ مدّة النّقاء حيض وصوابه نفاس. وقد سبق إيضاح هذه المسألة وغيرها ممّا ذكرناه في مواضعها واللّه أعلم بالصّواب وله الحمد والمنّة وبه التّوفيق والعصمة.