المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

باب إزالة النجاسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والنجاسة هي البول والقيء والمذي والودي ومني غير الآدمي والدم والقيح وماء القروح والعلقة والميتة والخمر والنبيذ والكلب والخنزير وما ولد 1 منهما وما تولد من أحدهما، ولبن ما لا يؤكل غير الآدمي ورطوبة فرج المرأة، وما تنجس بذلك".
الشرح: في هذه القطعة مسألتان: إحداهما: في لغات النجاسة وحدها. قال أهل اللغة: النجس هو القذر، قالوا: ويقال شيء نجس، ونجس بكسر الجيم وفتحها، والنجاسة الشيء المستقذر، ونجس الشيء ينجس، كعلم يعلم. قال صاحب المحكم: النجس، والنجس، والنجس، القذر من كل شيء، يعني بكسر النون وفتحها مع إسكان الجيم فيهما، وبفتحهما جميعا، قالوا: ورجل نجس ونجس، يعني بفتح الجيم وكسرها مع فتح النون فيهما، الجمع أنجاس، قال وقيل النجس يكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد، فإذا كسروا النون ثنوا وجمعوا، وهي النجاسة، وقد أنجسه ونجسه.
وأما حد النجاسة في اصطلاح الفقهاء، فقال المتولي: حدها كل عين حرم تناولها على الإطلاق مع إمكان التناول لا لحرمتها. قال: وقولنا: على الإطلاق احتراز من السموم التي هي نبات، فإنها لا يحرم تناولها على الإطلاق، بل يباح القليل منها وإنما يحرم الكثير الذي فيه ضرر. قال: وقولنا: مع إمكان التناول احتراز من الأشياء الصلبة؛ لأنه لا يمكن تناولها، وقولنا: لا لحرمته احتراز من الآدمي، وهذا الذي حدد به المتولي ليس محققا فإنه يدخل فيه التراب والحشيش المسكر والمخاط والمني وكلها طاهرة مع أنها محرمة. وفي المني وجه أنه يحل أكله، فينبغي أن يضم إليها لا لحرمتها أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل والله أعلم.
الثانية: هذه العبارة التي ذكرها إنما يطلقها الفقهاء للحصر، وهي موضوعة للحصر عند الجمهور من أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول والكلام، وإذا علم أنها للحصر فكأنه قال: لا نجاسة إلا هذه المذكورات؛ وهذا الحصر صحيح، فإن قيل: يرد عليه أشياء من النجاسة مختلف فيها، منها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في نسخة المهذب "وما توالد منهما وما توالد من أحدهما" (ط).

 

ج / 2 ص -391-       شعر ما لا يؤكل إذا انفصل في حياته فإنه نجس على المذهب كما سبق في باب الآنية. ومنها الجدي إذا ارتضع كلبة أو خنزيرة فنبت لحمه 1 على لبنها ففي نجاسته وجهان حكاهما صاحب "المستظهري" وغيره أظهرهما أنه طاهر. ومنها الماء الذي ينزل من فم الإنسان في حال النوم، فيه خلاف وتفصيل سنذكره في مسائل الفرع إن شاء الله تعالى.
فالجواب عن الأول أن شعر ما لا يؤكل إذا انفصل في حياته يكون ميتة، فهو داخل في قوله: والميتة. فقد علم أن ما انفصل من حي فهو ميت، ولا يحتاج أن يتكلف فيقول؛ إنما لم يذكر الشعر هنا؛ لأنه ذكره في باب الآنية، بل الاعتماد على ما ذكرته. والجواب عن الجدي والماء أنه اختار طهارتهما. وأما المني والمذي والودي فسبق بيان صفاتها ولغاتها في باب ما يوجب الغسل، وسبق الغائط في الاستطابة. والخمر مؤنثة ويقال فيها خمره بالهاء في لغة قليلة، وقد غلط من أنكرها على الغزالي رحمه الله، وقد بينت ذلك في "تهذيب الأسماء واللغات"  واختلف أهل العربية في نون خنزير هل هي أصل أم زائدة؟ والأظهر: أنها أصلية كعرنيب. وأما قوله: ورطوبة فرج المرأة كان الأولى أن يحذف المرأة ويقول ورطوبة الفرج، فإن الحكم في رطوبة فرج المرأة وسائر الحيوانات الطاهرة سواء كما سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى.
 قال المصنف رحمه الله تعالى: "فأما البول فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم:
"تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه". 
الشرح: هذا الحديث رواه عبد بن حميد شيخ البخاري ومسلم في مسنده من رواية ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد كلهم عدول ضابطون بشرط "الصحيحين" إلا رجلا واحدا وهو أبو يحيى القتات، فاختلفوا فيه فجرحه الأكثرون ووثقه يحيى بن معين في رواية عنه. وقد روى له مسلم في صحيحه وله متابع على حديثه وشواهد يقتضي مجموعها حسنه وجواز الاحتجاج به، ورواه الدارقطني من رواية أنس قال فيها المحفوظ: إنه مرسل وفي المسألة أحاديث صحيحة منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما
"أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" وروي "يستنزه من البول" وروي "يستتر" حديث صحيح رواه البخاري ومسلم بهذه الألفاظ وعن أنس رضي الله عنه: "أن أعرابيا بال في ناحية المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه" رواه البخاري ومسلم، وعن أبي هريرة مثله رواه البخاري وقوله: تنزهوا معناه تباعدوا وتحفظوا.
أما حكم المسألة في الأبوال: فهي أربعة أنواع: بول الآدمي الكبير، وبول الصبي الذي لم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  مقتضى القياس على لحم الجلالة أنه لا يؤكل لحمها وقد أفتيت بحرمتها لمن سأل في إذاعة مصر عن جدي أرضع من كلبة, ولا شك أنه حلال وطاهر عند المالكية.
ودليلي فيه ما ورد في حديث الرضاع: "ما أنبت اللحم وأنشر العظم" فإذا كانت خمس رضعات تحرمها فكيف بما ورد في الجدي (ط).

 

ج / 2 ص -392-       يطعم، وبول الحيوانات المأكولة؛ وبول غير المأكول، وكلها نجسة عندنا وعند جمهور العلماء، ولكن نذكرها مفصلة لبيان مذاهب العلماء ودلائلها، فأما بول الآدمي الكبير فنجس بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وأصحابنا وغيرهم، ودليله الأحاديث السابقة مع الإجماع، وأما بول الصبي الذي لم يطعم فنجس عندنا وعند العلماء كافة. وحكى العبدري وصاحب "البيان" عن داود أنه قال: هو طاهر، دليلنا عموم الأحاديث والقياس على الكبير، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نضح ثوبه من بول الصبي وأمر بالنضح منه، فلو لم يكن نجسا لم ينضح، وأما بول باقي الحيوانات التي لا يؤكل لحمها فنجس عندنا وعند مالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة، وحكى الشاشي وغيره عن النخعي طهارته وما أظنه يصح عنه، وإن صح فمردود بما ذكرناه، وحكى ابن حزم في كتابه المحلى عن داود أنه قال: الأبوال والأرواث طاهرة من كل حيوان إلا الآدمي، وهذا في نهاية من الفساد، وأما بول الحيوانات المأكولة وروثها فنجسان عندنا وعند أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما، وقال عطاء والنخعي والزهري ومالك وسفيان الثوري وزفر وأحمد: بوله وروثه طاهران، وحكاه صاحب "البيان" وجها لأصحابنا، وحكاه الرافعي عن أبي سعيد الإصطخري واختاره الروياني، وسبقهم باختياره إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا واختاره في صحيحه واستدل له، والمشهور من مذهبنا: الجزم بنجاستهما.
وعن الليث بن سعد ومحمد بن الحسن أن بول المأكول طاهر دون روثه، وقال أبو حنيفة: ذرق الحمام طاهر، واحتج لمن قال بالطهارة بحديث أنس رضي الله عنه قال:
"قدم ناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من أبوال إبل الصدقة وألبانها" رواه البخاري ومسلم وعكل وعرينة بضم العين فيهما وهما قبيلتان. وقوله: اجتووا بالجيم أي استوخموا، واحتج لهم بحديث يروى عن البراء مرفوعا: "ما أكل لحمه فلا بأس ببوله" وعن جابر مرفوعا مثله.
واحتج أصحابنا بقول الله تعالى:
"ويحرم عليهم الخبائث" والعرب تستخبث هذا، وبإطلاق الأحاديث السابقة، وبالقياس على ما يؤكل، وعلى دم المأكول، والجواب عن حديث أنس أنه كان للتداوي، وهو جائز بجميع النجاسات سوى الخمر كما سنقرره بدلائله في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى، وعن حديثي البراء وجابر أنهما ضعيفان واهيان ذكرهما الدارقطني وضعفهما وبين ضعفهما وروي: "ولا بأس بسؤره" وكلاهما ضعيف والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما الغائط فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم لعمار رضي الله عنه:
"إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني 1 والمذي والدم والقيء".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذا الحديث قال الدارقطني بعد أن ساق إسناده إلى علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عمار بن ياسر قال:
"أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على بئر أدلو ماء في ركوة لي فقال: يا عمار ما تصنع؟ قلت: يا رسول الله بأبي وأمي أغسل ثوبي من نخامة أصابته فقال: يا عمار إنما يغسل الثوب من خمس من الغائط والبول والقيء والدم والمني, يا عمار ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء" لم يروه غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جدا وإبراهيم وثابت ضعيفان اهـ وفي التعليق المغني: والحديث رواه ابن عدي في الكامل =

 

ج / 2 ص -393-       الشرح: حديث عمار هذا رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والدارقطني والبيهقي، قال البيهقي: هو حديث باطل لا أصل له. وبين ضعفه الدارقطني والبيهقي ويغني عنه الإجماع على نجاسة الغائط ولا فرق بين غائط الصغير والكبير بالإجماع. وينكر على المصنف قوله: "لقوله صلى الله عليه وسلم" فأتى بصيغة الجزم في حديث باطل، وقد سبق نظائر هذا الإنكار. وسبق في باب الآنية خلاف لأصحابنا في أن هذه الفضلات من رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كانت نجسة؟ وسبق بيان حال عمار في باب السواك والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما سرجين البهائم وذرق الطيور فهو كالغائط في النجاسة؛ لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال:
"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس" فعلل نجاسته بأنه ركس، والركس الرجيع وهذا رجيع فكان نجسا، ولأنها خارج من الدبر أحالته الطبيعة فكان نجسا كالغائط".
الشرح: حديث ابن مسعود رواه البخاري بلفظه، وقد سبق أن مذهبنا أن جميع الأرواث والذرق والبول نجسة من كل الحيوان، سواء المأكول وغيره والطير وكذا روث السمك والجراد وما ليس له نفس سائلة كالذباب فروثها وبولها نجسان على المذهب، وبه قطع العراقيون وجماعات من الخراسانيين. وحكى الخراسانيون وجها ضعيفا في طهارة روث السمك والجراد وما لا نفس له سائلة، وقد قدمنا وجها عن حكاية صاحب "البيان" والرافعي أن بول ما يؤكل وروثه طاهران وهو غريب، وهذا المذكور من نجاسة ذرق الطيور كلها هو مذهبنا، وقال أبو حنيفة: كلها طاهرة إلا ذرق الدجاج؛ لأنه لا نتن إلا في ذرق الدجاج، ولأنه عام في المساجد، ولم يغسله المسلمون كما غسلوا بول الآدمي. واحتج أصحابنا بما ذكره المصنف وأجابوا عن عدم النتن بأنه منتقض ببعر الغزلان، وعن المساجد بأنه ترك للمشقة في إزالته مع تجدده في كل وقت، وعندي أنه إذا عمت به البلوى وتعذر الاحتراز عنه يعفى عنه وتصح الصلاة كما يعفى عن طين الشوارع وغبار السرجين.
وأما قول المصنف: الركس الرجيع فكذا قاله، ومن أهل اللغة من يقول: الركس القذر. وأما قوله: فعلل نجاسته بأنه ركس فكلام عجيب وصوابه فعلل تركه، فإن قيل: ليس في الحديث دليل للنجاسة، وإنما فيه ترك الاستنجاء بالروث ولا يلزم من ذلك النجاسة كما لم يلزم من تركه بالعظم والمحترمات. فالجواب: أن الاعتماد في الاستدلال على قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنها ركس" ولا يجوز أن يحمل على أنه مجرد إخبار بأنهما ركس ورجيع، فإن ذلك إخبار بالمعلوم فيؤدي الحمل عليه إلى خلو الكلام عن الفائدة فوجب حمله على ما ذكرناه، ثم التعليل بأنها ركس يشمل روث المأكول وغيره. وقوله: لأنه خارج من الدبر احتراز من المني. وقوله: أحالته الطبيعة. احتراز من الدود والحصى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=وقال: لا أعلم روى هذا عن علي بن زيد غير ثابت بن حماد, وله أحاديث في أسانيدها الثقات يخالف فيها وهي مناكير ومقبولات اهـ (ط).

 

ج / 2 ص -394-       وقاسه على الغائط؛ لأنه مجمع عليه، وقد سبق في أول الكتاب أن السرجين لفظة عجمية ويقال بفتح السين وكسرها ويقال سرقين والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما القيء فهو نجس لحديث عمار، ولأنه طعام استحال في الجوف إلى النتن والفساد فكان نجسا كالغائط".
الشرح: قد سبق قريبا أن حديث عمار باطل لا يحتج به وقوله: استحال في الجوف احتراز من البيضة إذا صارت دما فإنها لا تنجس على أحد الوجهين وقوله: استحال إلى النتن والفساد احتراز من المني. وهذا الذي ذكره من نجاسة القيء متفق عليه سواء فيه قيء الآدمي وغيره من الحيوانات صرح به البغوي وغيره، وسواء خرج القيء متغيرا أو غير متغير. وقال صاحب التتمة: إن خرج غير متغير فهو طاهر وهذا الذي جزم به المتولي، هو مذهب مالك نقله البراذعي منهم في "التهذيب" والصحيح الأول وبه قطع الجماهير، والله أعلم.
فرع: قال أصحابنا الرطوبة التي تخرج من المعدة نجسة. وحكى الشاشي عن أبي حنيفة ومحمد طهارتها، دليلنا أنها خارجة من محل النجاسة وسمى جماعة من أصحابنا هذه الرطوبة بالبلغم وليس بصحيح، فليس البلغم من المعدة والمذهب طهارته وإنما قال بنجاسته المزني وأما النخاعة الخارجة من الصدر فطاهرة كالمخاط.
فرع: الماء الذي يسيل من فم الإنسان حال النوم، قال المتولي: إن انفصل متغيرا فنجس وإلا فطاهر. وقال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب "التبصرة" في الوسوسة منه ما يسيل من اللهوات فهو طاهر ومنه ما يسيل من المعدة فهو نجس بالإجماع وطريق التميز منها أن يراعى عادته، فإن كان يسيل من فمه في أوائل نومه بلل وينقطع حتى إذا طال زمان النوم انقطع ذلك البلل وجفت شفته ونشفت الوسادة فالظاهر أنه من الفم لا من المعدة وإن طال زمان النوم وأحس مع ذلك بالبلل فالظاهر أنه من المعدة، وإذا أشكل فلم يعرفه فالاحتياط غسله. هذا كلام الشيخ أبي محمد وسألت أنا عدولا من الأطباء فأنكروا كونه من المعدة وأنكروا على من أوجب غسله. والمختار: لا يجب غسله إلا إذا عرف أنه من المعدة، ومتى شك فلا يجب غسله لكن يستحب احتياطا وحيث حكمنا بنجاسته وعمت بلوى إنسان به وكثر في حقه فالظاهر أنه يعفى عنه في حقه ويلتحق بدم البراغيث وسلس البول والاستحاضة ونحوها مما عفي عنه للمشقة والله أعلم.
فرع: قال أصحابنا: المرة نجسة، قال الشيخ أبو محمد في كتابه "الفروق" في مسائل المياه المرارة بما فيها من المرة نجسة.
فرع: الجرة بكسر الجيم وتشديد الراء، وهي ما يخرجه البعير من جوفه إلى فمه للاجترار قال أصحابنا: هي نجسة صرح بها البغوي وآخرون، ونقل القاضي أبو الطيب اتفاق الأصحاب على نجاستها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما المذي فهو نجس؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال:

 

ج / 2 ص -395-       "كنت رجلا مذاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة" ولأنه خارج من سبيل الحدث لا يخلق منه طاهر فهو كالبول، وأما الودي فنجس؛ لما ذكرناه من العلة ولأنه يخرج مع البول فكان حكمه حكمه".
الشرح: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي ثم مذهبنا ومذهب الجمهور أنه يجب غسل المذي ولا يكفي نضحه بغير غسل. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله أرجو أن يجزيه النضح، واحتج له برواية في صحيح مسلم في حديث علي: "توضأ وانضح فرجك" ودليلنا رواية: "اغسل" وهي أكثر والقياس على سائر النجاسات. وأما رواية النضح فمحمولة على الغسل وحديث علي رضي الله عنه صحيح، رواه هكذا أبو داود والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة ورواه البخاري ومسلم عن علي أنه أمر المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق إيضاحه والجمع بين الروايات وبين فوائد هذا الحديث في باب ما يوجب الغسل. وقول المصنف: "روي عن علي "مما ينكر؛ لأنه صيغة تمريض، والحديث صحيح متفق على صحته، وقوله: خارج من سبيل الحدث احتراز من المخاط والعرق ونحوهما من الطاهرات وقوله: لا يخلق منه طاهر احتراز من المني وقوله في الودي: يخرج مع البول، الأجود أن يقال عقبه والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما مني الآدمي فطاهر؛ لما روي عن عائشة رضي الله عنها:
"أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي" ولو كان نجسا لما انعقدت معه الصلاة ولأنه مبتدأ خلق بشر فكان طاهرا كالطين".
الشرح: حديث عائشة صحيح رواه مسلم لكن لفظه:
"لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه" هذا لفظه في صحيح مسلم وسنن أبي داود وغيره من كتب السنن، وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فغريب. وقوله تحت المني أي تفركه وتحته وقوله: لأنه مبتدأ خلق بشر احتراز من مني الكلب.
وأما حكم المسألة: فمني الآدمي طاهر عندنا، هذا هو الصواب المنصوص للشافعي رحمه الله في كتبه وبه قطع جماهير الأصحاب وحكى صاحب "البيان" وبعض الخراسانيين في نجاسته قولين، ومنهم من قال: القولان في مني المرأة فقط، والصواب الجزم بطهارة منيه ومنيها وسواء المسلم والكافر، لكن إن قلنا: رطوبة فرج المرأة نجسة تنجس منيها بملاقاتها كما لو بال الرجل ولم يغسل ذكره بالماء ثم أمنى فإن منيه ينجس بملاقاة المحل النجس وإذا حكمنا بطهارة المني استحب غسله من البدن والثوب للأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها:
"أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولأن فيه خروجا من خلاف العلماء في نجاسته.
فرع: قد ذكرنا أن المني طاهر عندنا، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد. وحكاه العبدري وغيره عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم وقال الثوري والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه: نجس، لكن عند أبي حنيفة يجزي فركه يابسا، وأوجب الأوزاعي ومالك غسله يابسا ورطبا، واحتج

 

ج / 2 ص -396-       لمن قال بنجاسته بحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يغسل المني" رواه مسلم. وفي رواية: "كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم أنها قالت لرجل أصاب ثوبه مني فغسله كله: "إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تره نضحت حوله، لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه" وذكروا أحاديث كثيرة ضعيفة، منها حديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يأمر بحت المني" قالوا: وقياسا على البول والحيض؛ لأنه يخرج من مخرج البول، ولأن المذي جزء من المني؛ لأن الشهوة تحلل كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة. واحتج أصحابنا بحديث فركه، ولو كان نجسا لم يكف فركه كالدم والمذي وغيرهما، وهذا القدر كاف، وهو الذي اعتمدته أنا في طهارته، وقد أكثر أصحابنا من الاستدلال بأحاديث ضعيفة ولا حاجة إليها. وعلى هذا إنما فركه تنزها واستحبابا وكذا غسله كان للتنزه والاستحباب وهذا الذي ذكرناه متعين أو كالمتعين للجمع بين الأحاديث.
وأما قول عائشة:
"إنما كان يجزيك" فهو وإن كان ظاهره الوجوب فجوابه من وجهين: أحدهما: حمله على الاستحباب؛ لأنها احتجت بالفرك، فلو وجب الغسل لكان كلامها حجة عليها لا لها، وإنما أرادت الإنكار عليه في غسل كل الثوب، فقالت: "غسل كل الثوب بدعة منكرة، وإنما يجزيك في تحصيل الأفضل والأكمل كذا وكذا" وذكر أصحابنا أقيسة ومناسبات كثيرة غير طائلة ولا نرتضيها ولا نستحل الاستدلال بها ولا نسمح بتضييع الوقت في كتابتها، وفيما ذكرناه كفاية، وأجاب أصحابنا عن القياس على البول والدم بأن المني أصل الآدمي المكرم، فهو بالطين أشبه بخلافهما، وعن قولهم: يخرج من مخرج البول بالمنع. قالوا: بل ممرهما مختلف. قال القاضي أبو الطيب: وقد شق 1 ذكر الرجل بالروم فوجد كذلك فلا ننجسه بالشك. قال الشيخ أبو حامد: ولو ثبت أنه يخرج من مخرج البول لم يلزم منه النجاسة؛ لأن ملاقاة النجاسة في الباطن لا تؤثر، وإنما تؤثر ملاقاتها في الظاهر، وعن قولهم المذي جزء من المني بالمنع أيضا. قالوا: بل هو مخالف له في الاسم والخلقة وكيفية الخروج؛ لأن النفس والذكر يفتران بخروج المني، وأما المذي فعكسه، ولهذا من به سلس المذي لا يخرج معه شيء من المني، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما مني غير الآدمي ففيه ثلاثة أوجه أحدها: الجميع طاهر إلا مني الكلب والخنزير؛ لأنه خارج من حيوان طاهر يخلق منه مثل أصله فكان طاهرا كالبيض ومني الآدمي والثاني: الجميع نجس؛ لأنه من فضول الطعام المستحيل، وإنما حكم بطهارته من الآدمي لحرمته وكرامته، وهذا لا يوجد في غيره والثالث: ما أكل لحمه فمنيه طاهر كلبنه، وما لا يؤكل لحمه فمنيه نجس كلبنه".
الشرح: هذه الأوجه مشهورة ودلائلها ظاهرة، والأصح طهارة الجميع غير الكلب والخنزير وفرع أحدهما، وممن صرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد والبندنيجي وابن الصباغ والشاشي وغيرهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هذه أول إشارة إلى عملية تشريحية ينبني عليها حكم شرعي في الكتاب (ط).

 

ج / 2 ص -397-       وأشار المصنف في "التنبيه" إلى ترجيحه وصحح الرافعي النجاسة مطلقا، والمذهب الأول. أما مني الكلب والخنزير وما تولد من أحدهما، فإنه نجس بلا خلاف، كما صرح به المصنف.
فرع: البيض من مأكول اللحم طاهر بالإجماع، ومن غيره فيه وجهان كمنيه الأصح الطهارة. وقد أشار المصنف في تعليله الوجه الأول إلى القطع بهذا قال أصحابنا: ويجري الوجهان في بزر القز؛ لأنه أصل الدود كالبيض. وأما دود القز فطاهر بلا خلاف، وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"المسك أطيب الطيب" وفي "الصحيحين" "أن وبيص الطيب كان يرى من مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي فأرة المسك المنفصلة في حال حياة الظبية وجهان. أصحهما: الطهارة كالجنين والثاني: النجاسة كسائر الفضلات والأجزاء المنفصلة في الحياة فإن انفصلت بعد موتها فنجسة على المذهب كاللبن، وقيل طاهرة كالبيض المتصلب، حكاه الرافعي.
فرع: البيضة الطاهرة إذا استحالت دما ففي نجاستها وجهان الأصح: النجاسة كسائر الدماء والثاني: الطهارة كاللحم وغيره من الأطعمة إذا تغيرت، ولو صارت مدرة، وهي التي اختلط بياضها بصفرتها فطاهر بلا خلاف، صرح به صاحب "التتمة" وغيره، وكذا اللحم إذا خنز وأنتن فطاهر على المذهب، وفيه وجه أنه نجس، حكاه الشاشي وصاحب "البيان" في باب الأطعمة، وهو شاذ ضعيف جدا.
فرع: هل يحل أكل المني الطاهر؟ فيه وجهان؟ الصحيح المشهور أنه لا يحل؛ لأنه مستخبث قال تعالى:
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: من الآية157] والثاني يجوز، وهو قول الشيخ أبي زيد المروزي؛ لأنه طاهر لا ضرر فيه. وسنبسط الكلام فيه وفي المخاط وأشباهه في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. وإذا قلنا بطهارة بيض ما لا يؤكل لحمه جاز أكله بلا خلاف؛ لأنه غير مستقذر، وهل يجب غسل ظاهر البيض إذا وقع على موضع طاهر؟ فيه وجهان حكاهما البغوي وصاحب "البيان" وغيرهما بناء على أن رطوبة الفرج طاهرة أم نجسة، وقطع ابن الصباغ في فتاويه بأنه لا يجب غسله، وقال: الولد إذا خرج طاهر لا يجب غسله بإجماع المسلمين وكذا البيض، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما الدم فنجس لحديث عمار رضي الله عنه وفي دم السمك وجهان أحدهما: نجس كغيره والثاني: طاهر؛ لأنه ليس بأكثر من الميتة، وميتة السمك طاهرة فكذا دمه".
الشرح: أما حديث عمار فضعيف سبق بيان ضعفه، ويغني عنه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة:
"إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" رواه البخاري ومسلم. وعن أسماء رضي الله عنه قالت: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع به؟ قال تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه" رواه البخاري ومسلم. والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافا عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب "الحاوي" عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين

 

ج / 2 ص -398-       لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف، على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم لا سيما في المسائل الفقهيات، وأما الوجهان في دم السمك فمشهوران ونقلهما الأصحاب أيضا في دم الجراد ونقلهما الرافعي أيضا في الدم المتحلب من الكبد والطحال، والأصح في الجميع النجاسة. وممن قال بنجاسة دم السمك مالك وأحمد وداود. وقال أبو حنيفة: طاهر. وأما دما القمل والبراغيث والقراد والبق ونحوهما مما ليس له نفس سائلة فنجسة عندنا كغيرها من الدماء، لكن يعفى عنها في الثوب والبدن للحاجة كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. وممن قال بنجاسة هذه الدماء مالك، وقال أبو حنيفة: هي طاهرة، وهي أصح الروايتين عن أحمد، وأما قول المصنف؛ لأنه ليس بأكثر من الميتة فكلام ناقص؛ لأنه ينتقض بدم الآدمي، فإنه نجس مع أن ميتته طاهرة على المذهب، فينبغي أن يزاد فيقال: ميتته طاهرة مأكولة.
فرع: مما تعم به البلوى الدم الباقي على اللحم وعظامه، وقل من تعرض له من أصحابنا؛ فقد ذكره أبو إسحاق الثعلبي المفسر من أصحابنا، ونقل عن جماعة كثيرة من التابعين أنه لا بأس به، ودليله المشقة في الاحتراز منه، وصرح أحمد وأصحابه بأن ما يبقى من الدم في اللحم معفو عنه ولو غلبت حمرة الدم في القدر لعسر الاحتراز منه، وحكوه عن عائشة وعكرمة والثوري وابن عيينة وأبي يوسف وأحمد وإسحاق وغيرهم، واحتجت عائشة والمذكورون بقوله تعالى:
{إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: من الآية145] قالوا: فلم ينه عن كل دم بل عن المسفوح خاصة وهو السائل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما القيح فهو نجس؛ لأنه دم استحال إلى نتن، فإذا كان الدم نجسا فالقيح أولى. وأما ماء القروح فإن كان له رائحة فهو نجس كالقيح وإن لم يكن له رائحة فهو طاهر، كرطوبة البدن، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان أحدهما: طاهر كالعرق والثاني: نجس؛ لأنه تحلل بعلة فهو كالقيح".
الشرح: القيح نجس بلا خلاف وكذا ماء القروح المتغير نجس بالاتفاق. وأما غير المتغير فطاهر على المذهب، وبه قطع القاضي أبو الطيب والشيخ أبو حامد وآخرون ونقله أبو حامد عن نصه في الإملاء، وقيل: في نجاسته قولان، وقد ذكر المصنف دليل الجميع، وقوله: تحلل بعلة، احتراز من الدمع والعرق. وأما قوله: كرطوبات البدن، فمعناه أنها طاهرة بالاتفاق، وهو كما قال: وقد ضبط الغزالي وتابعه 1 الرافعي وغيره هذا بعبارة وجيزة، فقال: ما ينفصل من باطن الحيوان قسمان. أحدهما: ما ليس له اجتماع واستحالة في الباطن، وإنما يرشح رشحا. والثاني: ما يستحيل ويجتمع في الباطن ثم يخرج. فالأول كالدمع واللعاب والعرق والمخاط وحكمه حكم الحيوان المنفصل منه إن كان نجسا، وهو الكلب والخنزير، وفرع أحدهما فهو نجس أيضا، وإن كان طاهرا وهو سائر الحيوانات فهو طاهر بلا خلاف. وأما الثاني فكالدم والبول والعذرة والروث والقيء والقيح وكله نجس، ويستثنى اللبن والمني والعلقة على تفصيل في ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  بكسر الباء الموحدة.

 

ج / 2 ص -399-       واعلم أنه لا فرق في العرق واللعاب والمخاط والدمع بين الجنب والحائض والطاهر والمسلم والكافر والبغل والحمار والفرس والفأرة وجميع السباع والحشرات، بل هي طاهرة من جميعها ومن كل حيوان طاهر، وهو ما سوى الكلب والخنزير وفرع أحدهما، ولا كراهة في شيء من ذلك عندنا، وكذا لا كراهة في سؤر شيء منها، وهو بقية ما شربت منه، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما العلقة ففيها وجهان، قال أبو إسحاق: هي نجسة؛ لأنه دم خارج من الرحم فهو كالحيض، وقال أبو بكر الصيرفي: هي طاهرة؛ لأنه دم غير مسفوح، فهو كالكبد والطحال".
الشرح: العلقة هي المني إذا استحال في الرحم فصار دما عبيطا؛ فإذا استحال بعده فصار قطعة لحم فهو مضغة، وهذان الوجهان في العلقة مشهوران، ودليلهما ما ذكره المصنف؛ أصحهما الطهارة، ونقله الشيخ أبو حامد عن الصيرفي وعامة الأصحاب، وصرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد والمحاملي والرافعي في "المحرر" وآخرون، وأما المضغة فالمذهب القطع بطهارتها كالولد، وبهذا قطع الأكثرون ونقل القاضي حسين وصاحب "العدة" والبيان فيها وجهين؛ وكذا وقع في كثير من نسخ "الوسيط" وأنكروه عليه، ولا يصح إنكار من أنكر ذلك، ونسبته إلى الانفراد بنقل وجه في نجاسة المضغة، فإن الوجه نقله غيره ممن ذكرناه.
وقوله: مسفوح أي سائل، وقوله: كالكبد هي بفتح الكاف وكسر الباء، ويجوز إسكان الباء مع فتح الكاف وكسرها كما سبق في نظائرها، والطحال بكسر الطاء، وإنما قاس على الكبد والطحال؛ لأنهما طاهران بالإجماع، والأحاديث الصحيحة مشهورة في أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل الكبد؛ وللحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان فالميتتان: السمك والجراد، والدمان الكبد والطحال" قال البيهقي: روي هكذا عن ابن عمر؛ وروي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولكن الرواية الأولى هي الصحيحة وهي في معنى المرفوع قلت: ويحصل الاستدلال بها؛ لأنها مرفوعة أيضا، فإنها كقول الصحابي: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا؛ وهذا عند أصحابنا وعند المحدثين وجمهور الأصوليين والفقهاء في حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحا كما سبق بيانه في مقدمة الكتاب، وأما أبو بكر الصيرفي فهذا أول موضع جرى فيه ذكره في الكتاب وهو أبو بكر محمد بن عبد الله كان إماما بارعا متقنا صاحب مصنفات كثيرة في الأصول وغيره. قال الخطيب البغدادي: توفي لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثمائة رحمه الله.
قال المصنف: "وأما الميتة من غير السمك والجراد والآدمي فهي نجسة؛ لأنه محرم الأكل من غير ضرر، فكان نجسا كالدم، وأما السمك والجراد فهما طاهران؛ لأنه يحل أكلهما، ولو كانا نجسين لم يحل [أكلهما]. وأما الآدمي ففيه قولان أحدهما: أنه نجس؛ لأنه ميت لا يحل أكله فكان نجسا كسائر الميتات والثاني: أنه طاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا" ولأنه لو كان نجسا لما غسل كسائر الميتات".
الشرح: أما الحديث فرواه الحاكم أبو عبد الله وصاحبه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم

 

ج / 2 ص -400-       قال الحاكم في آخر كتاب المستدرك على الصحيحين: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم قال البيهقي: وروي موقوفا على ابن عباس من قوله وكذا ذكره البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز تعليقا عن ابن عباس: "المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا" ورواية المرفوع مقدمة؛ لأن فيها زيادة علم كما سبق تقريره في مقدمة الكتاب. وقد ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن لا ينجس" وهذا عام يتناول الحياة والموت.
أما حكم المسألة: فالسمك والجراد إذا ماتا طاهران بالنصوص والإجماع قال الله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ "البحر" وَطَعَامُهُ} [المائدة: من الآية96] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ "البحر" لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [النحل: من الآية14] وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وقد سبق بيانه وفوائده في أول الكتاب وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد" رواه البخاري ومسلم، وسواء عندنا الذي مات بالاصطياد أو حتف نفسه والطافي من السمك وغير الطافي وسواء قطع رأس الجرادة أم لا وكذا باقي ميتات "البحر" إذا قلنا بالأصح: إن الجميع حلال فميتتها طاهرة وسيأتي تفصيلها في بابها إن شاء الله تعالى.
وأما الآدمي هل ينجس بالموت أم لا؟ فيه هذان القولان الصحيح منهما: أنه لا ينجس اتفق الأصحاب على تصحيحه ودليله الأحاديث السابقة والمعنى الذي ذكره، وعجب إرسال المصنف القولين من غير بيان الراجح منهما في مثل هذه المسألة التي تدعو الحاجة إليها، وقد ذكر البندنيجي في كتاب الجنائز وصاحب "الشامل" في باب الآنية أن القول بالطهارة هو نصه في "الأم" وبالنجاسة هو نصه في "البويطي"، وسواء في جريان القولين المسلم والكافر. وأما قوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: من الآية28] فليس المراد نجاسة الأعيان والأبدان بل نجاسة المعنى والاعتقاد، ولهذا ربط النبي صلى الله عليه وسلم الأسير الكافر في المسجد وقد أباح الله تعالى طعام أهل الكتاب والله أعلم.
وأما باقي الميتات فنجسة ودليلها الإجماع، واستثنى صاحب "الحاوي" وغيره فقالوا: الميتات نجسة إلا خمسة أنواع: السمك والجراد والآدمي والصيد إذا قتله سهم أو كلب معلم أرسله أهل للذكاة، والجنين إذا خرج ميتا بعد ذكاة أمه وزاد القفال فحكم بطهارة ما ليس له نفس سائلة في قول كما حكيناه عنه في باب المياه وحكى صاحب "الحاوي" والشاشي عنه وجهين في نجاسة الضفدع بالموت ولا يرد شيء من هذا على المصنف. أما الصيد والجنين فليسا منه بل جعل الشرع هذا ذكاتهما ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
"ذكاة الجنين ذكاة أمه" فصرح بأنه مذكى شرعا وإن لم تنله السكين مباشرة، وأما ما زاده القفال وصاحب "الحاوي" فضعيف انفردا به عن الجمهور والصحيح النجاسة كما أوضحناه هناك وبالله التوفيق.
وأما قول المصنف: يحرم الأكل من غير ضرر وكان نجسا - فينتقض بالمخاط والمني وجلد الميتة إذا دبغ فإنها محرمة الأكل على الأصح من غير ضرر وليست نجسة، فكان ينبغي أن يقول: من غير ضر ولا استقذار، وقوله في السمك والجراد: يحل أكلها يعني من غير ضرورة ولا حاجة وإلا فالميتة يحل لها في المخمصة، ويحل أكل الدواء النجس للحاجة وإن لم يكن ضرورة، والله أعلم.

 

 

ج / 2 ص -401-       فرع: العضو المنفصل من حيوان حي كألية الشاة وسنام البعير وذنب البقرة والأذن واليد وغير ذلك نجس بالإجماع ومما يستدل به من السنة حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يجبون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم فقال: ما تقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" رواه أبو داود والترمذي وغيرهم، وهذا لفظ الترمذي، قال الترمذي: حديث حسن قال: والعمل على هذا عند أهل العلم. وأما العضو المبان من السمك والجراد والآدمي كيده ورجله وظفره ومشيمة الآدمي ففيها كلها وجهان أصحهما طهارتها، وهو الذي صححه الخراسانيون كميتاتها. والثاني: نجاستها وإنما يحكم بطهارة الجملة لحرمتها. وبهذا قطع العراقيون أو جمهورهم في يد الآدمي وسائر أعضائه وتكرر نقل القاضي أبي الطيب الاتفاق على نجاسة يد السارق، وغيره إذا قطعت أو سقطت، ونقل القاضي أيضا الاتفاق على نجاسة مشيمة الآدمي، والصحيح الطهارة كما ذكرناه، وأما مشيمة الآدمي فنجسة بلا خلاف كما في سائر أجزائه المنفصلة في حياته والله أعلم.
فرع: عصب الميتة غير الآدمي نجس بلا خلاف، ولا يخرج على الخلاف في الشعر والعظم؛ لأنه يحس ويألم بخلافهما ذكره المتولي وغيره والله أعلم.
فرع: في مذاهب العلماء في نجاسة الآدمي بالموت، قد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا ينجس، وبه قال مالك وأحمد وداود وغيرهم، وقال أبو حنيفة: ينجس وروي عنه أنه يطهر بالغسل، وعن مالك وأحمد رواية بنجاسته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما الخمر فهي نجسة لقوله عز وجل:
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ 1 فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: من الآية90] ولأنه يحرم تناوله من غير ضرورة فكان نجسا كالدم، وأما النبيذ فهو نجس؛ لأنه شراب فيه شدة مطربة فكان نجسا كالخمر).
الشرح: الخمر نجس عندنا، وعند مالك وأبي حنيفة وأحمد وسائر العلماء إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب وغيره عن ربيعة شيخ مالك وداود أنهما قالا: هي طاهرة وإن كانت محرمة كالسم الذي هو نبات وكالحشيش المسكر، ونقل الشيخ أبو حامد الإجماع على نجاستها، واحتج أصحابنا بالآية الكريمة، قالوا: ولا يضر قرن الميسر والأنصاب والأزلام بها مع أن هذه الأشياء طاهرة؛ لأن هذه الثلاثة خرجت بالإجماع فبقيت الخمر على مقتضى الكلام، ولا يظهر من الآية دلالة ظاهرة؛ لأن الرجس عند أهل اللغة القذر ولا يلزم من ذلك النجاسة، وكذا الأمر بالاجتناب لا يلزم منه النجاسة وقول المصنف: ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر فكان نجسا كالدم لا دلالة فيه لوجهين. أحدهما: أنه منتقض بالمني والمخاط وغيرهما كما ذكرنا قريبا. والثاني: أن العلة في منع تناولهما مختلفة فلا يصح القياس؛ لأن المنع من الدم لكونه مستخبثا، والمنع من الخمر لكونها سببا للعداوة والبغضاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين من المتوكلية (ط).

 

ج / 2 ص -402-       وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما صرحت به الآية الكريمة، وأقرب ما يقال ما ذكره الغزالي أنه يحكم بنجاستها تغليظا وزجرا عنها قياسا على الكلب وما ولغ فيه والله أعلم.
واعلم أنه لا فرق في نجاسة الخمر بين الخمر المحترمة وغيرها، وكذا لو استحال باطن حبات العنب خمرا فإنه نجس، وحكى إمام الحرمين والغزالي وغيرهما وجها ضعيفا أن الخمر المحترمة طاهرة ووجها أن باطن حبات العنب المستحيل طاهرة، وهما شاذان والصواب النجاسة.
وأما النبيذ فقسمان مسكر وغيره، فالمسكر نجس عندنا وعند جمهور العلماء وشربه حرام وله حكم الخمر في التنجيس والتحريم ووجوب الحد، وقال أبو حنيفة وطائفة قليلة: هو طاهر ويحل شربه، وفي رواية عنه يجوز الوضوء به في السفر، وقد سبق في باب المياه بيان مذهبنا ومذهبه، والدلائل من الطرفين مستقصاة، وقد أثبتت الأحاديث الصحيحة الذي يقتضي مجموعها الاستفاضة أو التواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" وهذه الألفاظ مروية في "الصحيحين" من طرق كثيرة وحكى صاحب "البيان" وجها أن النبيذ المسكر طاهر لاختلاف العلماء في إباحته، وهذا الوجه شاذ في المذهب، وليس هو بشيء. وأما القسم الثاني من النبيذ فهو ما لم يشتد ولم يصر مسكرا، وذلك كالماء الذي وضع فيه حبات تمر أو زبيب أو مشمش أو عسل أو نحوها فصار حلوا، وهذا القسم طاهر بالإجماع يجوز شربه وبيعه، وسائر التصرفات فيه، وقد تظاهرت الأحاديث في "الصحيحين" من طرق متكاثرة على طهارته وجواز شربه. ثم إن مذهبنا ومذهب الجمهور جواز شربه ما لم يصر مسكرا وإن جاوز ثلاثة أيام، وقال أحمد رحمه الله: لا يجوز بعد ثلاثة أيام. 
واحتج له بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له من أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر فإن بقي شيء سقى الخادم أو أمر به فصب" رواه مسلم وفي رواية لمسلم وغيره "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيسقى أو يهراق" وفي رواية لمسلم "ينبذ له الزبيب في السقاء فيشربه يومه والغد وبعد الغد فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه فإن فضل شيء أهراقه". ودليلنا حديث بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا" رواه مسلم، فهذا عام يتناول ما فوق ثلاثة أيام ولم يثبت نهي في الزيادة فوجب القول بإباحة ما لم يصر مسكرا وإن زاد على الثلاث، والجواب عن الروايات التي احتج بها لأحمد أنه ليس فيها دليل على تحريم بعد الثلاثة بل فيها دليل على أنه ليس بحرام بعد ثلاثة؛ لأنه "كان يسقيه الخادم"، ولو كان حراما لم يسقه، وإنما معنى الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان يشربه ما لم يصر مسكرا فإذا مضت ثلاثة أيام أو نحوها امتنع من شربه ثم إن كان بعد ذلك قد صار مسكرا أمر بإراقته؛ لأنه صار نجسا محرما ولا يسقيه الخادم؛ لأنه حرام على الخادم كما هو حرام على غيره، وإن كان لم يصر مسكرا سقاه الخادم ولا يريقه؛ لأنه حلال ومال من الأموال المحترمة، ولا يجوز إضاعتها، وإنما ترك صلى الله عليه وسلم شربه، والحالة هذه تنزها واحتياطا كما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الضب

 

ج / 2 ص -403-                                                                                                           وأكلوه بحضرته، وقيل له: أحرام هو؟ قال: "لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه". وقد حصل مما ذكرناه أن لفظة: أو، في قوله: سقاه الخادم أو أمر به فصب، ليست للشك ولا للتخيير بل للتقسيم واختلاف الحال، وقد أوضحت هذا الحديث، وما يتعلق بالمسألة في شرح صحيح مسلم رحمه الله وبالله التوفيق.
فرع: مذهبنا ومذهب الجمهور: أنه يجوز الانتباذ في جميع الأوعية من الخزف والخشب والجلود والدباء (وهي القرع) والمزفت والنحاس وغيرها، ويجوز شربه منها ما لم يصر مسكرا كما سبق. وأما الأحاديث المشهورة في "الصحيحين
" عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الانتباذ في الدباء والحنتم" وهي جرار خضر وقيل: كل الجرار، والنقير وهي الخشبة المنقورة من النخل، والمزفت، والمقير وهو المطلي بالزفت والقار فهي المنسوخة بحديث بريدة الذي قدمناه قريبا، وقد بسطت ذلك بدلائله في أول شرح صحيح البخاري، ثم في شرح مسلم وبالله التوفيق.
فرع: شرب الخليطين والمنصف إذا لم يصر مسكرا ليس بحرام لكن يكره، فالخليطان ما نقع من بسر أو رطب أو تمر أو زبيب، والمنصف ما نقع من تمر ورطب وسبب الكراهة أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه فيظن الشارب أنه ليس مسكرا وهو مسكر، ودليل الكراهة حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
"نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر" وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا" وفي رواية: "لا تجمعوا بين الرطب والبسر، وبين الزبيب والتمر نبيذا". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب النبيذ منكم فليشربه زبيبا فردا أو تمرا فردا أو بسرا فردا". وعن قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنبذوا الزهو والرطب جميعا، ولا تنبذوا الزبيب والتمر جميعا، وانتبذوا كل واحد منهما على حدته". وعن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وروى هذه الروايات كلها مسلم وروى البخاري وغيره بعضها أيضا والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما الكلب فهو نجس؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
"دعي إلى دار فأجاب ودعي إلى دار فلم يجب فقيل له في ذلك، فقال: إن في دار فلان كلبا، فقيل له: وفي دار فلان هرة فقال: الهرة ليست بنجسة" فدل على أن الكلب نجس".
الشرح: 1 مذهبنا أن الكلاب كلها نجسة المعلم وغيره الصغير والكبير، وبه قال الأوزاعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  حديث "دعي إلى دار" لم يلتفت إليه الشارح رحمه الله تعالى وبيض مكانه ولكن الحافظ في التلخيص الحبير قال بعد أن ساق الخبر: "ولم أجد بهذا السياق ولهذا بيض له النووي في شرحه,ولكن رواه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث عيسى بن المسيب عن أبي زرعة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دار لا يأتيها فشق ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم
: إن في داركم كلبا فقالوا: فإن في دارهم سنورا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: السنور سبع" وقال ابن أبي حاتم في "العلل": سألت أبا زرعة عنه فقال: لم يرفعه أبو نعيم وهو أصح, وعيسى ليس بالقوي. قال العقيلي: لا يتابعه على هذا الحديث إلا من هو مثله أو دونه, وقال ابن حبان: خرج عن حد=

ج / 2 ص -404-       وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وقال الزهري ومالك وداود: هو طاهر وإنما يجب غسل الإناء من ولوغه تعبدا، وحكي هذا عن الحسن البصري وعروة بن الزبير واحتج لهم بقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: من الآية4] ولم يذكر غسل موضع إمساكها؛ وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما ما قال: "كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك" ذكره البخاري في صحيحه فقال: وقال أحمد بن شبيب حدثنا أبي إلى آخر الإسناد والمتن، وأحمد هذا شيخه، ومثل هذه العبارة محمول على الاتصال وأن البخاري رواه عنه كما هو معروف عند أهل هذا الفن، وذلك واضح في علوم الحديث. وروى البيهقي وغيره هذا الحديث متصلا وقال فيه: "وكانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك" واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات" رواه مسلم. وعن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: :طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" رواه مسلم وفي رواية له: "طهر إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبع مرات" والدلالة من الحديث الأول ظاهرة؛ لأنه لو لم يكن نجسا لما أمر بإراقته؛ لأنه يكون حينئذ إتلاف مال وقد نهينا عن إضاعة المال، والدلالة من الحديث الثاني ظاهرة أيضا فإن الطهارة تكون من حدث أو نجس وقد تعذر الحمل هنا على طهارة الحدث فتعينت طهارة النجس وأجاب أصحابنا عن احتجاجهم بالآية بأن لنا خلافا معروفا في أنه يجب غسل ما أصابه الكلب أم لا؟ فإن لم نوجبه فهو معفو للحاجة والمشقة في غسله بخلاف الإناء، وأما الجواب عن حديث ابن عمر فقال البيهقي مجيبا عنه أجمع المسلمون على نجاسة بول الكلب ووجوب الرش على بول الصبي فالكلب أولى قال: فكان حديث ابن عمر قبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب أو أن بولها خفي مكانه فمن تيقنه لزمه غسله والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما الخنزير 1 فنجس؛ لأنه أسوأ حالا من الكلب؛ لأنه مندوب إلى قتله من غير ضرر فيه ومنصوص على تحريمه فإذا كان الكلب نجسا فالخنزير أولى، وأما ما تولد منهما أو من أحدهما 2 فنجس؛ لأنه مخلوق من نجس فكان مثله".
الشرح: نقل ابن المنذر في كتاب "الإجماع" إجماع العلماء على نجاسة الخنزير وهو أولى ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=الاحتجاج به وقال ابن عدي: لا يرويه غير عيسى, وهو صالح فيما يرويه. ولما ذكره الحاكم قال: هذا الحديث صحيح تفرد به عيسى عن أبي زرعة وهو صدوق لم يجرح قط. كذا قال وقد ضعفه أبو حاتم الرازي وأبو داود وغيرهم, وقال ابن الجوزي: لا يصح, وقال ابن العربي: ليس معناه أن الكلب نجس بل معناه أن الهر سبع فينتفع به بخلاف الكلب فلا منفعة فيه. كذا قال وفيه نظر لا يخفى على المتأمل. قلت: وروى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم من طريق منصور ابن صفية عن أمه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ليست بنجس هي كبعض أهل البيت –يعني الهرة- لفظ ابن خزيمة والدارقطني اهـ جـ1 ص25 طبعة اليماني المدني (ط).
1  في بعض نسخ المهذب "فهو نجس" فيهما (ط).
2  في بعض نسخ المهذب "فهو نجس" فيهما (ط).

 

ج / 2 ص -405-       يحتج به لو ثبت الإجماع، ولكن مذهب مالك طهارة الخنزير ما دام حيا وأما ما احتج به المصنف فكذا احتج به غيره ولا دلالة فيه وليس لنا دليل واضح على نجاسة الخنزير في حياته، وقوله: مندوب إلى قتله من غير ضرر فيه احتراز من الحية والعقرب والحدأة وسائر الفواسق الخمس وما في معناها فإنها طاهرة وإن كان مندوبا إلى قتلها لكن لضررها، وأما قوله: إن المتولد منهما أو من أحدهما حيوان طاهر من نجس، فهو متفق عليه عندنا. ولو ارتضع جدي من كلبة ونبت لحمه على لبنها ففي نجاسته وجهان أصحهما ليس بنجس 1 وقد سبقا في أول الباب، وقوله: لأنه مخلوق من نجس فكان مثله ينقض بالدود المتولد من الميتة ومن السرجين فإنه طاهر على المذهب وبه قطع الجمهور كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى وكان ينبغي أن يقول: لأنه مخلوق من حيوان نجس ليحترز عما ذكرناه فإن الميتة لا تسمى حيوانا، وقد يمنع هذا الاعتراض ويقال: الدود لا يخلق من نفس الميتة ونفس السرجين، وإنما يتولد فيها كدود الخل لا يخلق من نفس الخل بل يتولد فيه، وقد أجاب القاضي أبو الطيب بهذا الجواب عن نحو هذا الاعتراض في مسألة طهارة المني والله أعلم.
وأما باقي الحيوانات غير الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما فهي طاهرة كلها وسيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى في مسائل الفرع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما لبن ما لا يؤكل لحمه غير الآدمي ففيه وجهان قال أبو سعيد الإصطخري: هو طاهر؛ لأنه حيوان طاهر فكان لبنه طاهرا كالشاة [والبقرة 2] والمنصوص أنه نجس؛ لأن اللبن كلحم 3 المذكى بدليل أنه يتناول من الحيوان ويؤكل كما يتناول اللحم المذكى، ولحم ما لا يؤكل نجس فكذا لبنه".
الشرح: الألبان أربعة أقسام: أحدها: لبن مأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم والخيل والظباء وغيرها من الصيود وغيرها، وهذا طاهر بنص القرآن والأحاديث الصحيحة والإجماع. والثاني: لبن الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما وهو نجس بالاتفاق. الثالث: لبن الآدمي وهو طاهر على المذهب وهو المنصوص، وبه قطع الأصحاب إلا صاحب "الحاوي" فإنه حكى عن الأنماطي من أصحابنا أنه نجس، وإنما يحل شربه للطفل للضرورة ذكره في كتاب البيوع وحكاه الدارمي في أواخر كتاب السلم وحكاه هناك الشاشي والروياني وهذا ليس بشيء، بل هو خطأ ظاهر، وإنما حكى مثله للتحذير من الاغترار به وقد نقل الشيخ أبو حامد في "تعليقه" عقب كتاب السلم إجماع المسلمين على طهارته، قال الروياني في آخر باب بيع الغرر: إذا قلنا بالمذهب إن الآدمية لا تنجس بالموت فماتت وفي ثديها لبن فهو طاهر يجوز شربه وبيعه. الرابع: لبن سائر الحيوانات الطاهرة غير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سبق تعليقنا على هذا الحكم واستدلالنا بحكم التحريم في الرضاع وتحريم الجلالة أو كراهتها والله أعلم ط.
2  ما بين المعقوفين ساقط من ش وق.
3  في بعض النسخ "كاللحم" و "فكذلك لبنه" (ط).

 

ج / 2 ص -406-       ما ذكرنا، والصحيح المنصوص: نجاستها، وقال الإصطخري: طاهرة وقد ذكر المصنف دليل الوجهين، وممن قال بطهارته أبو حنيفة، وبنجاسته مالك وأحمد وداود، فإن قلنا بالطهارة فهل يحل شربه؟ فيه وجهان حكاهما المتولي وغيره أصحهما: جواز شربه؛ لأنه طاهر والثاني: تحريمه، وبه قطع الغزالي في "البسيط"؛ لأنه يقال إنه يؤذي، ولأنه مستقذر فأشبه المخاط وجمع جماعة هذا الخلاف وحكى الدارمي في آخر كتاب السلم في لبن الأتان ونحوها ثلاثة أوجه، الصحيح: أنه نجس لا يجوز بيعه والثاني: أنه طاهر ويجوز بيعه وشربه والثالث: طاهر لا يجوز بيعه ولا شربه. وقول المصنف: لبن ما لا يؤكل غير الآدمي، فيه وجهان: إطلاقه يقتضي دخول الكلب والخنزير، وكان ينبغي أن يقول من الحيوان الطاهر، وكأنه ترك بيانه لظهوره والله أعلم.
فرع: الإنفحة إن أخذت من السخلة بعد موتها أو بعد ذبحها وقد أكلت غير اللبن فهي نجسة بلا خلاف، وإن أخذت من سخلة ذبحت قبل أن تأكل غير اللبن فوجهان، الصحيح الذي قطع به كثيرون طهارتها؛ لأن السلف لم يزالوا يجبنون بها ولا يمتنعون من أكل الجبن المعمول بها. وحكى العبدري عن مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه نجاسة الإنفحة الميتة كمذهبنا، وعن أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى أنها طاهرة كالبيض. دليلنا أنها جزء من السخلة فأشبهت اليد بخلاف البيضة فإنها ليست جزءا. ولنا في البيضة في جوف الدجاجة الميتة ثلاثة أوجه سبقت في باب الآنية أحدها: أنها طاهرة والثاني: نجسة وأصحها: إن كانت تصلبت فطاهرة وإلا فنجسة، وأما اللبن في ضرع شاة ميتة فنجس عندنا بلا خلاف، وسبق بيانه في باب الآنية والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "أما رطوبة فرج المرأة فالمنصوص أنها نجسة؛ لأنها رطوبة متولدة في محل النجاسة فكانت نجسة، ومن أصحابنا من قال: هي طاهرة كسائر رطوبات البدن".
الشرح: رطوبة الفرج ماء أبيض متردد بين المذي والعرق، فلهذا اختلف فيها ثم إن المصنف رحمه الله رجح هنا وفي "التنبيه" النجاسة، ورجحه أيضا البندنيجي وقال البغوي والرافعي وغيرهما: الأصح: الطهارة، وقال صاحب "الحاوي" في باب ما يوجب الغسل: نص الشافعي رحمه الله في بعض كتبه على طهارة رطوبة الفرج، وحكي التنجيس عن ابن سريج فحصل في المسألة قولان منصوصان للشافعي، أحدهما ما نقله المصنف، والآخر نقله صاحب "الحاوي"، والأصح طهارتهما. ويستدل للنجاسة أيضا بحديث زيد بن خالد رضي الله عنه أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه قال:
"أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري ومسلم، زاد البخاري فسأل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبي بن كعب فأمروه بذلك. وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي" رواه البخاري ومسلم، وهذان الحديثان في جواز الصلاة بالوضوء بلا غسل منسوخان كما سبق في باب ما يوجب الغسل. وأما الأمر بغسل الذكر وما أصابه منها فثابت غير منسوخ وهو ظاهر

 

ج / 2 ص -407-       في الحكم بنجاسة رطوبة الفرج، والقائل الآخر بحمله على الاستحباب لكن مطلق الأمر للوجوب عند جمهور الفقهاء والله أعلم.
وقول المصنف: "رطوبة فرج المرأة" فيه نقص، والأحسن رطوبة الفرج، فإنه لا فرق بين رطوبة فرج المرأة وغيرها من الحيوان الطاهر كما سبق، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما ما تنجس 1 بذلك فهو الأعيان الطاهرة إذا لاقاها شيء من هذه النجاسات وأحدهما رطب [والآخر يابس] فينجس بملاقاتها".
الشرح: هذا الذي قاله واضح لا خفاء به لكن يستثنى من هذا الإطلاق أشياء، أحدها: الميتة التي لا نفس لها سائلة فإنها نجسة على المذهب ولا تنجس ما ماتت فيه على الصحيح. الثاني: النجاسة التي لا يدركها الطرف لا تنجس الماء والثوب على الأصح كما سبق الثالث: الهرة إذا كانت أكلت نجاسة ثم ولغت في ماء قليل أو مائع قبل أن تغيب لا تنجسه على أحد الأوجه الرابع: إذا لاقت النجاسة قلتين فصاعدا من الماء فلم تغيره لا تنجسه.
فرع: في مسائل تتعلق بالنجاسات أحدها: شعر الميتة نجس على المذهب إلا من الآدمي فطاهر على المذهب سواء انفصل في حياته أو بعد موته، وقد سبق تفصيل الشعور في باب الآنية، وسبق فيه أن المذهب نجاسة عظم الميتة، وسبق فيه أن ما لا يؤكل لحمه إذا ذبح كان نجسا.
الثانية: قال أصحابنا: الأعيان جماد وحيوان وما له تعلق بالحيوان، فالجماد كله طاهر إلا الخمر وكل نبيذ مسكر. وحكي وجه أن النبيذ طاهر ووجه أن الخمرة المحترمة طاهرة وأن باطن العنقود إذا استحال خمرا طاهر. وهذه الأوجه سبق بيانها وهي شاذة ضعيفة، والمراد بالجماد ما ليس بحيوان ولا كان حيوانا ولا جزءا من حيوان ولا خرج من حيوان. وقولنا: ولا كان حيوانا احتراز من الميتة وقولنا: ولا جزءا من حيوان احتراز من العضو المبان من الشاة ونحوها في الحياة وقولنا: ولا خرج من حيوان احتراز من البول والروث وغيرهما من النجاسات المنفصلة عن باطن الحيوان. وأما الحيوان فكله طاهر إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما، وحكى صاحب "البيان" وجها عن الصيدلاني أن الدود المتولد من الميتة نجس وهذا شاذ مردود، والصواب الجزم بطهارته كسائر الحيوان، وأما ما له تعلق بالحيوان كالميتة والفضلات فقد سبق تفصيله وبيان الطاهر منه من النجس والله أعلم.
الثالثة: النجاسة المستقرة في الباطن لا حكم لها ما لم يتصل بها شيء من الظاهر مع بقاء حكم الظاهر عليه، كما إذا ابتلع بعض خيط فحصل بعضه في المعدة وبعضه خارج في الفم أو أدخل في دبره إصبعه أو عودا وبقي بعضه خارجا فوجهان سبقا في أول باب ما ينقض الوضوء. أصحهما: وبه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في بعض النسخ "ينجس" بصيغة المضارعة و"فهي" وما بين المعقوفين ساقط من ش وق (ط).

 

ج / 2 ص -408-       قطع الأكثرون يثبت لها حكم النجاسة فلا تصح صلاته ولا طوافه في هذه الحال؛ لأنه مستصحب بمتصل بالنجاسة والثاني: لا يثبت حكم النجاسة وقد سبق هناك توجيههما وبيان قائلهما وما يتفرع عليهما من المسائل والله أعلم.
الرابعة: في "الفتاوى" المنقولة عن صاحب "الشامل" أن الولد إذا خرج من الجوف طاهر لا يحتاج إلى غسله بإجماع المسلمين، قال: ويجب أن يكون البيض كذلك فلا يجب غسل ظاهره، والنجاسة الباطنة لا حكم لها. ولهذا اللبن يخرج من بين فرث ودم، وهو طاهر حلال، وهذا الذي قاله إن النجاسة الباطنة لا حكم لها وفي البيض، هو اختياره وقد قدمنا الخلاف فيهما.
الخامسة: قال صاحب التتمة: الوسخ المنفصل من بدن الآدمي في الحمام وغيره حكمه حكم ميتة الآدمي؛ لأنه متولد من البشرة قال: وكذا الوسخ المنفصل عن سائر الحيوان حكمه حكم ميتته، وهذا الذي قاله في وسخ الآدمي ضعيف لم أره لغيره، والمختار القطع بطهارته؛ لأنه عرق جامد.
السادسة: قال أصحابنا رحمهم الله: إذا أكلت البهيمة حبا وخرج من بطنها صحيحا فإن كانت صلابته باقية بحيث لو زرع نبت فعينه طاهرة لكن يجب غسل ظاهره لملاقاة النجاسة؛ لأنه وإن صار غذاء لها فمما تغير إلى الفساد فصار كما لو ابتلع نواة وخرجت فإن باطنها طاهر ويطهر قشرها بالغسل، وإن كانت صلابته قد زالت بحيث لو زرع لم ينبت فهو نجس. ذكر هذا التفصيل هكذا القاضي حسين والمتولي والبغوي وغيرهم.
السابعة: الزرع النابت على السرجين، قال الأصحاب: ليس هو نجس العين لكن ينجس بملاقاة النجاسة نجاسة مجاورة وإذا غسل طهر، وإذا سنبل فحباته الخارجة طاهرة قطعا ولا حاجة إلى غسلها، وهكذا القثاء والخيار وشبههما يكون طاهرا ولا حاجة إلى غسله. قال المتولي: وكذا الشجرة إذا سقيت ماء نجسا فأغصانها وأوراقها وثمارها طاهرة كلها؛ لأن الجميع فرع الشجرة ونماؤها، قال البغوي: وإذا خرج من فرجه دود فهو طاهر العين، ولكن ظاهره نجس، فإذا غسل طهر.
فرع: المسك طاهر بالإجماع ويجوز بيعه بالإجماع، وقد حكى الماوردي في كتاب البيوع عن الشيعة أنهم قالوا: هو نجس لا يجوز بيعه، وهو غلط فاحش مخالف للأحاديث الصحيحة وللإجماع، وسنوضح المسألة بأدلتها إن شاء الله تعالى في باب ما نهي عنه من بيع الغرر، حيث ذكره المصنف والأصحاب.
فرع : قال الماوردي والروياني في آخر باب بيع الغرر: أما الزباد فهو لبن سنور في "البحر" رائحته كرائحة المسك، قالا: فإذا قلنا بنجاسة لبن ما لا يؤكل لحمه، ففي هذا وجهان أحدهما: أنه نجس لا يجوز بيعه اعتبارا بجنسه والثاني: طاهر كالمسك هذا كلام الماوردي والروياني.
والصواب: طهارته وصحة بيعه؛ لأن الصحيح أن جميع حيوان "البحر" طاهر يحل لحمه ولبنه

 

ج / 2 ص -409-       كما سنوضحه في بابه إن شاء الله تعالى :، هذا على تقدير تسليم ما ذكره الماوردي أنه لبن هذا السنور البحري وقد سمعت جماعة من أهل الخبرة بهذا من الثقات يقولون: بأن الزباد إنما هو عرق سنور بري، فعلى هذا هو طاهر بلا خلاف، لكن قالوا: إنه يغلب فيه اختلاطه بما يتساقط من شعره، فينبغي أن يحترس عما فيه شيء من شعره؛ لأن الأصح عندنا نجاسة شعر ما يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته غير الآدمي، والأصح أن سنور البر لا يؤكل والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ولا يطهر من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان: أحدهما: جلد الميتة [إذا دبغ]، وقد دللنا عليه في موضعه والثاني: الخمر إذا استحالت بنفسها خلا فتطهر بذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال: "لا يحل خل من خمر قد أفسدت حتى يبدأ الله إفسادها، فعند ذلك يطيب الخل، ولا بأس أن يشتروا من أهل الذمة خلا ما لم يتعمدوا إلى إفساده" ولأنه إنما حكم بنجاستها للشدة المطربة الداعية إلى الفساد، وقد زال ذلك من غير نجاسة خلفتها، فوجب أن يحكم بطهارتها".
الشرح: أما قوله لا يطهر بالاستحالة إلا شيئان فقد يورد عليه ثلاثة أشياء وهي العلقة والمضغة إذا نجسناهما، فإنهما يطهران بمصيرهما حيوانا، والثالث البيضة في جوف الدجاجة الميتة إذا حكمنا بنجاستها فإنها تطهر بمصيرها فرخا بلا خلاف، كما سبق في باب الآنية، ويجاب عن البيضة بأنها نجسة العين، وإنما تنجست بالمجاورة. وأما العلقة والمضغة ففرعهما على الأصح، وهو طهارتهما. وقد سبق بيانهما قريبا فاكتفي به. وأما قول عمر رضي الله عنه فآخره قوله: "يتعمدوا إلى إفساده" وقد رواه البيهقي دون قوله: ولا بأس أن يشتروا إلى آخره. 
قوله: أفسدت هو بضم الهمزة ومعناه خللت، وقوله: حتى يبدأ الله إفسادها هو بفتح الياء من يبدأ وبهمز آخره، ومعنى هذا الكلام أن الخمر إذا خللت فصارت خلا لم يحل ذلك الخل، ولكن لو قلب الله الخمر خلا بغير علاج آدمي حل ذلك الخل، وهذا معنى قوله: يبدأ الله إفسادها يعني بإفسادها جعلها خلا، وهو إفساد للخمر؛ وإن كان صلاحا لهذا المائع من حيث إنه صار حلالا ومالا. وأما قوله: ولا بأس أن يشتروا من أهل الذمة خلا، فمعناه أنه يباح ذلك، ولا يمتنع لكونهم كفارا لا يوثق بأقوالهم، بل يباح كما تباح ذبائحهم وغيرها من أطعمتهم، وقد قال الله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: من الآية5] وهذا يتناول الخل وغيره ولا يقبل دعوى أكثر المفسرين ومن تابعهم في تخصيصهم ذلك بالذبائح وممن تابعهم المصنف في أول باب الربا، والصواب ما ذكرناه، وقوله: من غير نجاسة خلفتها هو بتخفيف اللام أي جاءت بعدها.
أما حكم المسألة: فإذا استحالت الخمر خلا بنفسها طهرت وسأذكر فرعا مشتملا على نفائس من أحكام التخلل والتخليل إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن خللت بخل أو ملح لم تطهر؛ لما روي
"أن أبا طلحة رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فقال: أهرقها فقال أفلا أخللها؟ قال لا" فنهاه عن التخليل فدل على أنه لا يجوز ولأنه لو جاز لندبه إليه؛ لما فيه من إصلاح مال اليتيم، ولأنه

 

ج / 2 ص -410-       إذا طرح فيها الخل نجس الخل فإذا زالت [الشدة المطربة] بقيت نجاسة الخل النجس فلم يطهر، وإن نقلها من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس حتى تخللت ففيه وجهان أحدهما: تطهر؛ لأن الشدة قد زالت من غير نجاسة خلفتها. والثاني: لا تطهر؛ لأنه فعل محظور توصل به إلى استعجال ما يحل في الثاني فلم يحل به كما لو قتل مورثه أو نفر صيدا حتى خرج من الحرم إلى الحل".
الشرح: أما حديث أبي طلحة فصحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة عن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره بلفظه في المهذب، وروى مسلم في صحيحه والترمذي عن أنس قال:
"سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتخذ الخمر خلا؟ قال: لا" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقول المصنف: روي أن أبا طلحة، مما ينكر عليه حيث ذكره بصيغة تمريض وهو حديث صحيح، وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل، سبق بيانه في باب ما يوجب الغسل.
أما حكم المسألة: فالتخليل عندنا وعند الأكثرين حرام، فلو فعله فصار خلا لم يطهر، قال البغوي: ولا يمكن تطهيره بعد هذا بطريق كالخل إذا وقعت فيه نجاسة. وقال أبو حنيفة: تطهر بالتخليل، دليلنا هذان الحديثان الصحيحان، وأما مسألة النقل من ظل إلى شمس وعكسه فالأصح فيها الطهارة، والوجهان جاريان فيما لو فتح رأسها ليصيبها الهواء استعجالا للحموضة. نقله الرافعي.
فرع: الخمر نوعان محترمة وغيرها فالمحترمة هي التي اتخذ عصيرها ليصير خلا وغيرها ما اتخذ عصيرها للخمرية، وفي النوعين مسائل:
إحداها: تخليلها بطرح عصير أو خل أو خبز حار أو ملح أو غيرها فيها حرام بلا خلاف عند أصحابنا فإذا خللت فهذا الخل نجس لعلتين ذكرهما المصنف والأصحاب إحداهما: تحريم التخليل، والثانية: نجاسة المطروح بالملاقاة فتستمر نجاستها إذ لا مزيل لها ولا ضرورة إلى الحكم بانقلابها به طاهرا بخلاف أجزاء الدن، قال أصحابنا: وسواء في هذا المحترمة وغيرها والمطروح قصدا، والواقع فيها اتفاقا بإلقاء الريح وغيرها، وفي وجه ضعيف يجوز تخليل المحترمة وتطهر به وفي وجه تطهر المحترمة وغيرها إذا طرح بلا قصد حكاهما الرافعي، والصحيح المشهور أنه لا فرق كما سبق.
الثانية: لو طرح في العصير بصلا أو ملحا واستعجل به الحموضة قبل الاشتداد فصار خمرا، ثم انقلبت بنفسها خلا والبصل فيها فوجهان حكاهما الرافعي أحدهما: يطهر؛ لأنه لاقاه في حال طهارته كأجزاء الدن وأصحهما: لا يطهر؛ لأن المطروح ينجس بالتخمر، فتستمر نجاسته بخلاف أجزاء الدن للضرورة، ولو طرح العصير على خل، وكان العصير غالبا بحيث يغمر الخل عند الاشتداد ففي طهارته إذا انقلبت خلا هذان الوجهان، ولو كان الخل غالبا يمنع العصير من الاشتداد فلا بأس بل يطهر قطعا. 
الثالثة: إمساك الخمر المحترمة لتصير خلا جائز، هذا هو الصواب الذي قطع به الأصحاب,

 

ج / 2 ص -411-       وحكى إمام الحرمين عن بعض الخلافيين وجها أنه لا يجوز وهذا غلط مردود، وأما غير المحترمة فيجب إراقتها فلو لم يرقها فتخللت طهرت؛ لأن النجاسة للشدة، وقد زالت، وحكى الرافعي وجها أنها لا تطهر؛ لأنه عاص بإمساكها فصار كالتخليل والمذهب الأول.
الرابعة: متى عادت الطهارة بالتخلل طهرت أجزاء الظرف للضرورة وفيه وجه، قال الدارمي: إن لم تتشرب شيئا من الخمر كالقوارير طهرت، وإن تشربت لم تطهر، والصواب الذي قطع به الجماهير الطهارة مطلقا للضرورة، ثم كما يطهر ما يلاقي الخل بعد التخلل يطهر ما فوقه مما أصابه الخمر في حال الغليان، قاله القاضي حسين وأبو الربيع الإيلاقي وحكاه الرافعي عنهما ولم يذكر خلافه وهذا الإيلاقي بكسر الهمزة وبعدها ياء مثناة من تحت وآخره قاف واسمه طاهر بن عبد الله منسوب إلى إيلاق وهي بلاد الشاش المتصلة بالترك قاله السمعاني وهي أحسن بلاد الإسلام وأنزهها قال: وكان أبو الربيع هذا بارعا في الفقه تفقه بمرو على القفال المروزي وبنيسابور على أبي طاهر الزيادي وببخارى على أبي عبد الله الحليمي وأخذ الأصول عن أبي إسحاق الإسفراييني وعليه تفقه أهل الشاش، وقد بسطت أحواله في تهذيب الأسماء.
فرع: لا يصح بيع الخمر المحترمة على المذهب وحكى الشيخ أبو علي السنجي "بكسر السين المهملة وبالجيم وجها ضعيفا": أنه يصح بناء على الوجه الشاذ في طهارتها، ولو استحالت أجواف حبات العناقيد خمرا، ففي صحة بيعها اعتمادا على طهارة ظاهرها وتوقع طهارة باطنها وجهان وطردهما في البيضة المستحيل باطنها دما، والصحيح البطلان في الجميع.
فرع: مذهبنا أنه يجوز إمساك ظروف الخمر والانتفاع بها واستعمالها في كل شيء إذا غسلت وغسلها ممكن وبه قال جمهور العلماء؛ وعن أحمد رحمه الله أنه يجب كسر دنانها وشق زقوقها دليلنا أنها مال وقد نهينا عن إضاعته، ولأن الأصل أن لا وجوب ولا يثبت شيء يدل على الوجوب. وأما حديث أنس رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ وخمر فأتاهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة: "يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها فقمت وكسرتها" رواه البخاري ومسلم فليس فيه دليل على وجوب الكسر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك، بل في حديث أبي طلحة الذي ذكره المصنف دليل على عدم الوجوب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أهرقها" ولم يذكر إتلاف ظرفها وممن ذكر هذه المسألة من أصحابنا صاحب "المستظهري".
فرع: قال المتولي في كتاب البيع: التصرف في الخمر حرام على أهل الذمة عندنا وقال أبو حنيفة: لا يحرم. قال: والمسألة مبنية على خطاب الكفار بالفروع ومذهبنا أنهم مخاطبون وسأوضح المسألة في أول كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى وبه التوفيق.
فرع: في مذاهب العلماء في تخلل الخمر وتخليلها. أما إذا انقلبت بنفسها خلا فتطهر عند جمهور العلماء ونقل القاضي عبد الوهاب المالكي فيه الإجماع وحكى غيره عن سحنون المالكي أنها لا تطهر، وأما إذا خللت بوضع شيء فيها فمذهبنا أنها لا تطهر وبه قال أحمد والأكثرون. وقال أبو

 

ج / 2 ص -412-       حنيفة والأوزاعي والليث: تطهر، وعن مالك ثلاث روايات أصحها عنه أن التخليل حرام [وتطهر 1] فلو خللها طهرت والثانية حرام ولا تطهر والثالثة: حلال وتطهر دليلنا ما سبق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن أحرق السرجين أو العذرة فصار رمادا لم يطهر؛ لأن نجاستها لعينها، ويخالف الخمر فإن نجاستها لمعنى معقول وقد زال".
الشرح: مذهبنا أنه لا يطهر السرجين والعذرة وعظام الميتة وسائر الأعيان النجسة بالإحراق بالنار، وكذا لو وقعت هذه الأشياء في مملحة أو وقع كلب ونحوه وانقلبت ملحا، ولا يطهر شيء من ذلك عندنا وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وداود وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة طهارة هذا كله، وحكاه صاحب "العدة" والبيان وجها لأصحابنا، وقال إمام الحرمين: قال أبو زيد والخضري من أصحابنا: كل عين نجسة رمادها طاهر تفريعا على القديم؛ إذ الشمس والريح والنار تطهر الأرض النجسة، وهذا ليس بشيء وقد فرق المصنف بينها وبين الخمر إذا تخللت والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وأما دخان النجاسة إذا أحرقت ففيه وجهان أحدهما: أنه نجس؛ لأنها أجزاء متحللة من النجاسة فهو كالرماد والثاني: ليس بنجس؛ لأنه بخار نجاسة فهو كالبخار الذي يخرج من الجوف".
الشرح: الوجهان في نجاسة دخان النجاسة مشهوران، ودليلهما مذكور في الكتاب أصحهما: عند الأصحاب النجاسة وجمع الدخان دواخن ويقال في الدخان دخن أيضا بالفتح وبضم الدال وتشديد الخاء حكاهما الجوهري والبخار بضم الباء وهو هذا المرتفع كالدخان وسواء دخان الأعيان النجسة كالسرجين ودخان الزيت المتنجس ففي الجميع الوجهان ذكره البغوي. فرع: قال صاحب "الحاوي": إذا قلنا دخان النجاسة نجس فهل يعفى عنه؟ فيه وجهان فإن قلنا: لا يعفى فحصل في التنور فإن مسحه بخرقة يابسة طهر وإن مسحه برطبة لم يطهر إلا بالغسل بالماء، وقال صاحب البيان: قال أصحابنا: إذا قلنا بالنجاسة فعلق بالثوب فإن كان قليلا عفي عنه وإن كان كثيرا لم يطهر إلا بالغسل، وإن سود التنور فألصق عليه الخبز قبل مسحه فظاهر أسفل الرغيف نجس هكذا ذكره الشيخ أبو حامد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإذا ولغ الكلب في إناء أو أدخل عضوا منه فيه وهو رطب لم يطهر الإناء حتى يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب؛ لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا إحداهن بالتراب" فعلق طهارته بسبع مرات فدل أنه لا يحصل بما دونه".
الشرح: حديث أبي هريرة هذا صحيح رواه مسلم وقد ذكرناه قبل هذا، لكن في رواية مسلم "أولاهن بالتراب" وأما رواية المصنف "إحداهن" فغريبة لم يذكرها البخاري ومسلم وأصحاب الكتب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين ليس في ش وق (ط).

 

ج / 2 ص -413-       المعتمدة إلا الدارقطني فذكرها من رواية علي رضي الله عنه. وقد اختلف العلماء في ولوغ الكلب، فمذهبنا أنه ينجس ما ولغ فيه ويجب غسل إنائه سبع مرات إحداهن بالتراب، وبهذا قال أكثر العلماء. حكى ابن المنذر وجوب الغسل سبعا عن أبي هريرة وابن عباس وعروة بن الزبير وطاوس وعمرو بن دينار ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور. قال ابن المنذر: وبه أقول، وقال الزهري: يكفيه غسله ثلاث مرات وقال أبو حنيفة: يجب غسله حتى يغلب على الظن طهارته، فلو حصل ذلك بمرة أجزأه. وكذا عنده سائر النجاسات العينية. قال: ويجب غسل النجاسة الحكمية ثلاثا. وعن أحمد رواية أنه يجب غسله ثماني مرات إحداهن بالتراب، وهي رواية عن داود أيضا.
وقال مالك والأوزاعي: لا ينجس الطعام الذي ولغ فيه، بل يحل أكله وشربه والوضوء به. قالا: ويجب غسل الإناء تعبدا. قال مالك: وإن ولغ في ماء جاز أن يتوضأ به؛ لأنه طاهر، وفي جواز غسل هذا الإناء بهذا الماء روايتان عنه واحتج لأبي حنيفة بحديث يرويه عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن عروة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء قال:
"يغسله ثلاثا أو خمسا أو سبعا" وبالقياس على سائر النجاسات. واحتج لأحمد رحمه الله بحديث عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرار وعفروه الثامنة في التراب" رواه مسلم. واحتج لمالك والأوزاعي في عدم نجاسته وجواز الانتفاع بالطعام بأن الأمر بغسل الإناء كان تعبدا، ولا يلزم منه نجاسة الطعام وإتلافه. واحتج أصحابنا والجمهور على وجوب الغسل سبعا بحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا أولاهن بالتراب" رواه مسلم. وفي رواية عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا" رواه البخاري ومسلم وروى هذا المتن في الصحيح جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وذكر أصحابنا أقيسة كثيرة ومناسبات لا قوة فيها، ولا حاجة إليها مع ما ذكرناه من السنن الصحيحة المتظاهرة.
وأما الدليل على الأوزاعي ومالك فحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار" رواه مسلم، وهذا نص في وجوب إراقته وإتلافه وذلك ظاهر في نجاسته فلولا النجاسة لم تجز إراقته وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم" ظاهر في نجاسته كما أوضحناه في مسألة نجاسة الكلب. وأما الجواب عما احتج به لأبي حنيفة فهو أنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ؛ لأن راويه عبد الوهاب مجمع على ضعفه وتركه، قال الإمام العقيلي والدارقطني: هو متروك الحديث، وهذه العبارة هي أشد العبارات توهينا وجرحا بإجماع أهل الجرح والتعديل: وقال البخاري في تاريخه: عنده عجائب وهذه أيضا من أوهن العبارات، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم إمام هذا الفن: قال أبي: كان عبد الوهاب يكذب. قال: وحدث بأحاديث كثيرة موضوعة فخرجت إليه فقلت له: ألا تخاف الله عز وجل فضمن لي أن لا يحدث فحدث بها بعد ذلك. وأقوال أئمة هذا الفن فيه بنحو ما ذكرته مشهورة، وإنما بسطت الكلام في هذا الرجل؛ لأن مدار

 

ج / 2 ص -414-       الحديث عليه ومدار مذهبهم عليه؛ فأردت إيضاح الحديث وراويه فقد يقال: لا يقبل الجرح إلا مفسرا ففسرته؛ وأما إسماعيل بن عياش فمتفق على ضعفه في روايته عن الحجازيين واختلف في قبول روايته عن الشاميين، وقد روي هذا الحديث عن هشام بن عروة ومعلوم أنه حجازي فلا يحتج به ولو لم يكن في الحديث سبب آخر يضعفه؛ وكيف وفيه عبد الوهاب الذي حاله ما وصفناه، وأما قياسهم على سائر النجاسات فلا يلتفت إليه مع هذه السنن الصحيحة المتظاهرة على مخالفته.
فإن قال قائل منهم: حديثكم رواه أبو هريرة وقد أفتى بغسله ثلاثا. فالجواب من وجهين: أحسنهما: أن هذا ليس بثابت عنه فلم يقبل دعوى من نسبه إليه، بل قد نقل ابن المنذر عنه وجوب الغسل سبعا كما قدمناه. وقد علم كل منصف ممن له أدنى عناية أن ابن المنذر إمام هذا الفن أعني نقل مذاهب العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وأن معول الطوائف في نقل المذاهب عليه. الجواب الثاني: أن عمل الراوي وفتواه بخلاف حديث رواه ليس بقادح في صحته، ولا مانع من الاحتجاج به عند الجمهور من الفقهاء والمحدثين والأصوليين، وإنما يرجع إلى قول الراوي عند الشافعي وغيره من المحققين إذا كان قوله تفسيرا للحديث ليس مخالفا لظاهره، ومعلوم أن هذا لا يجيء في مسألتنا، فكيف نجعل السبع ثلاثا؟ وأما الجواب عما احتج به أحمد وهو أن المراد اغسلوه سبع مرار إحداهن بماء وتراب فيكون التراب مع الماء بمنزلة الغسلتين، وهذا التأويل محتمل فيقال به للجمع بين الروايات، فإن الروايات المشهورة سبع مرات فإذا أمكن حمل هذه الرواية على موافقتها صرنا إليه، وأما الجواب عما احتج به الأوزاعي ومالك فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الأمر بإراقته وإتلافه فوجب العمل به والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "والأفضل أن يجعل التراب في غير السابعة ليرد عليه ما ينظفه، وفي أيها جعل جاز لعموم الخبر".
الشرح: هذا الذي قاله متفق عليه عندنا، ونقل القاضي أبو الطيب أن الشافعي نص في حرملة أنه يستحب جعل التراب في الأولى، وكذا قاله أصحابنا وهو موافق لرواية مسلم التي قدمناها فالحاصل أنه يستحب جعل التراب في الأولى فإن لم يفعل ففي غير السابعة أولى فإن جعله في السابعة جاز، وقد جاء في روايات في الصحيح سبع مرات، وفي رواية سبع مرات أولاهن بالتراب، وفي رواية أخراهن بدل أولاهن، وفي رواية سبع مرات السابعة بتراب، وفي رواية سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب، وقد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها وفيه دليل على أن التقييد بالأولى وغيرها ليس للاشتراط، بل المراد إحداهن، وهو القدر المتيقن من كل الروايات والله أعلم.
قال المصنف: "وإن جعل بدل التراب الجص أو الأشنان وما أشبههما ففيه قولان أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه تطهير، نص فيه على التراب فاختص به كالتيمم والثاني: يجزئه؛ لأنه تطهير نجاسة نص فيه على جامد، فلم يختص به كالاستنجاء والدباغ، وفي موضع القولين وجهان أحدهما: [أن القولين] في حال عدم التراب: فأما مع وجود التراب فلا يجوز

 

ج / 2 ص -415-       بغيره قولا واحدا والثاني: [أن القولين] في الأحوال كلها؛ [لأنه جعله في أحد القولين كالتيمم وفي الآخر جعله كالاستنجاء والدباغ وفي الأصلين جميعا لا فرق بين وجود المنصوص عليه وبين عدمه]" 1.
الشرح: قوله: بدل التراب منصوب على الظرف، والجص بكسر الجيم وفتحها وهو معروف وقد سبق بيانه في باب المياه، والأشنان بضم الهمزة وكسرها لغتان حكاهما أبو عبيدة والجواليقي وغيرهما وهو معرب وهو بالعربية حرض، وقد أوضحته في "تهذيب الأسماء واللغات" .
أما حكم المسألة: فحاصل المنقول فيها أربعة أقوال رابعها مخرج أظهرها عند الرافعي وغيره من المحققين لا يقوم غير التراب مقامه والثاني: يقوم وصححه المصنف في "التنبيه" والشاشي والثالث: يقوم عند عدم التراب دون وجودهوالرابع: يقوم فيما يفسده التراب كالثياب دون الأواني ونحوها، ودلائل الأقوال ظاهرة مما ذكره المصنف والاحترازات أيضا ظاهرة والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن غسل بالماء وحده ففيه وجهان أحدهما: يجزئه؛ لأن الماء أبلغ من التراب فهو بالجواز أولى والثاني: لا يجزئه؛ لأنه أمر بالتراب، ليكون معونة للماء لتغليظ النجاسة، وهذا لا يحصل بالماء وحده".
الشرح: صورة المسألة أن يغسل بالماء وحده ثمان مرات، فهل يجزئه؟ وتقوم الثامنة مقام التراب؟ فيه هذان الوجهان وهما مشهوران، الصحيح لا يقوم وقد ذكر دليلهما ولكن دليل الأول فاسد جدا، وفيه وجه ثالث: أنه يقوم عند عدم التراب دون وجوده وطردوا الخلاف فيما لو غمس الإناء أو الثوب في ماء كثير والأصح: أنه لا يكفي؛ بل لا بد من التراب والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن ولغ كلبان فوجهان أحدهما: يجب لكل كلب سبع مرات كما أمر في بول رجل بذنوب، ثم يجب في بول رجلين ذنوبان والثاني: يجزئه في الجميع سبع مرات، وهو المنصوص في حرملة؛ لأن النجاسة لا تتضاعف بعدد الكلاب بخلاف البول".
الشرح: إذا تكرر الولوغ من كلب أو كلاب فثلاثة أوجه: الصحيح: المنصوص أنه يكفي للجميع سبع؛ لأن النجاسة على النجاسة من جنسها لا أثر لها كما سنذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا ولغ كلب في إناء ثم وقع فيه نجاسة، وقولنا: من جنسها احتراز مما إذا وقع فيه نجاسة ثم ولغ فيه كلب فإنها تؤثر فيجب غسله سبعا بعد أن كان مرة. والثاني: يجب لكل ولغة سبع إحداهن بالتراب؛ لأنه يصدق عليه أنه ولغ فيه كلب فصار كما لو غسله ثم ولغ فيه والثالث: أنه إن كان تعدد الولوغ من كلب كفى سبع لجميع ولغاته، وإن تعددت الكلاب وجب لكل كلب سبع حكاه صاحب "الحاوي" وغيره، وقوله: كما أمر في بول رجل بذنوب، ثم يجب في بول رجلين ذنوبان كلام عجيب؛ لأنه جعله عمدة الدليل، ولم ينكر عليه المصنف عند احتجاجه للوجه الثاني، بل سلمه وقرره وذكر الفرق مع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  كل ما بين المعقوفين من المتوكلية والركبي (ط).

 

ج / 2 ص -416-       أنه ذكر بعد أسطر أن التقدير في بول الرجلين بذنوبين ضعيف، وسنوضح المسألة هناك إن شاء الله تعالى، والذنوب بفتح الذال المعجمة هي الدلو الممتلئة ماء، هذا قول الأكثرين، وقال ابن السكيت: هي التي فيها قريب من المد وفيها لغتان التأنيث والتذكير، والتأنيث أفصح وجمعها في القلة أذنبة وفي الكثرة ذنايب كقلوص وقلايص والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن ولغ [الكلب 1] في إناء ووقعت فيه نجاسة أخرى أجزأه سبع مرات للجميع 2؛ لأن النجاسات تتداخل، ولهذا لو وقع فيه بول ودم أجزأه لهما غسل مرة واحدة".
الشرح: هذا الذي قاله متفق عليه ونص عليه في حرملة. قال: ولو غسله مرة ثم وقعت فيه نجاسة غسله ستا، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن أصاب الثوب من ماء الغسلات ففيه وجهان: أحدهما: يغسل من كل غسلة مرة؛ لأن كل غسل يزيل سبع النجاسة والثاني: حكمه حكم الإناء الذي انفصل عنه؛ لأن المنفصل كالبلل الباقي في الإناء، وذلك لا يطهر إلا بما بقي من العدد فكذلك المنفصل، وإن جمع ماء الغسلات ففيه وجهان:
أحدهما: الجميع طاهر؛ لأنه ماء انفصل من الإناء، وهو طاهر.
والثاني: أنه نجس، وهو الصحيح؛ لأن السابعة طاهرة والباقي نجس، فإذا اختلط ولم يبلغ قلتين وجب أن يكون نجسا".
الشرح: قد سبق بيان حكم غسالة نجاسة الكلب وغيره في باب ما يفسد الماء من الاستعمال. ونعيد منه هنا ما يتعلق بما ذكره المصنف مختصرا، فإذا انفصلت غسالة ولوغ الكلب متغيرة بالنجاسة فهي نجسة قطعا، وإن انفصلت غير متغيرة فثلاثة أوجه أو أقوال كما سبق. أحدها: أنها طاهرة، والثاني: نجسة، والثالث: وهو الأصح: إن كانت غير الأخيرة فنجسة، وإن كانت الأخيرة فطاهرة تبعا للمحل المنفصل عنه، فإن قلنا بهذا فجمعت السابعة إلى الست ولم تبلغ قلتين فوجهان. أحدهما: الجميع طاهر؛ لأن الإناء محكوم بطهارته الآن. والثاني: وهو الصحيح: أن الجميع نجس؛ لما ذكره المصنف، ولو أصاب شيء من ماء غسله ثوبا فإن قلنا: إنها طاهرة، فالثوب طاهر ولا أثر لها، أما إن قلنا: نجسة تنجس الثوب، وفيما يكفي في غسل ذلك الثوب أوجه أصحها: له حكم ذلك المحل بعد هذه الغسلة فيجب له حكمه قبل هذه الغسلة، فيجب بعدد غسله، فيجب غسله بعدد ما بقي، ويجب التتريب إن كان لم يترب والثاني: له حكمه قبل هذه الغسلة فيجب بعدد ما كان قبلها، والتتريب إن كان لم يتقدمها والثالث: يكفيه غسلة واحدة، وقد ذكر المصنف دليله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين ساقط في ش وق (ط).
2  (في ش وق) لأن الطهارة تتداخل الخ (ط).

 

ج / 2 ص -417-       قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن ولغ الخنزير، فقد قال ابن القاص: قال في القديم: يغسل مرة. وقال سائر أصحابنا: يحتاج إلى سبع مرات. وقوله في القديم مطلق؛ لأنه قال: يغسل وأراد به سبع مرات، والدليل عليه أن الخنزير أسوأ حالا من الكلب [على ما بيناه]، فهو باعتبار العدد أولى".
الشرح: حاصل ما ذكره أن في ولوغ الخنزير طريقين أحدهما: فيه قولان وهي طريقة ابن القاص أحدهما: يكفي مرة بلا تراب كسائر النجاسات والثاني: يجب سبع مع التراب.  والطريق الثاني: يجب سبع قطعا، وبه قال الجمهور، وتأولوا نصه في القديم كما أشار إليه المصنف.
واعلم أن الراجح من حيث الدليل أنه يكفي غسلة واحدة بلا تراب، وبه قال أكثر العلماء الذين قالوا بنجاسة الخنزير. وهذا هو المختار؛ لأن الأصل عدم الوجوب حتى يرد الشرع، لا سيما في هذه المسألة المبنية على التعبد، وممن قال يجب غسله سبعا أحمد ومالك في رواية عنه. قال صاحب العدة: ويجري هذا الخلاف الذي في الخنزير فيما أحد أبويه كلب أو خنزير. وذكر صاحب "التلخيص" في المتولد بين الكلب والخنزير قولين، وهذا صحيح؛ لأن الشرع إنما ورد في الكلب وهذا المتولد لا يسمى كلبا.

فرع في مسائل مهمة تتعلق بالولوغ مختصرة جدا
إحداها: قال أصحابنا: لا فرق بين ولوغ الكلب وغيره من أجزائه، فإذا أصاب بوله أو روثه أو دمه أو عرقه أو شعره أو لعابه أو عضو منه شيئا طاهرا مع رطوبة أحدهما وجب غسله سبعا إحداهن بالتراب، وقد ذكر المصنف هذا في أوائل مسائل الولوغ. وقيل: يكفي غسله في غير الولوغ مرة كسائر النجاسات، حكاه المتولي والرافعي وغيرهما، وهذا الوجه متجه وقوي من حيث الدليل؛ لأن الأمر بالغسل سبعا من الولوغ إنما كان لينفرهم عن مؤاكلة الكلب، وهذا مفقود في غير الولوغ، والمشهور في المذهب أنه يجب سبعا مع التراب، وبه قطع الجمهور؛ لأنه أبلغ في التنفير من مقاربتها واقتنائها والله أعلم.
الثانية: لا يكفي التراب النجس على أصح الوجهين؛ لأنه ليس بطهور، والثاني: يكفي؛ لأن الغرض الاستظهار به.
الثالثة: لو تنجست أرض ترابية بنجاسة الكلب كفى الماء وحده سبع مرات من غير تراب أجنبي على أصح الوجهين؛ إذ لا معنى لتتريب التراب.
الرابعة: قال أصحابنا: لا يكفي في استعمال التراب ذره على المحل بل لا بد من ماء يمزجه به ليصل التراب بواسطته إلى جميع أجزاء المحل ويتكدر به وسواء طرح الماء على التراب أو التراب على الماء أو أخذ الماء الكدر من موضع وغسل به ولا يجب إدخال اليد في الإناء، بل يكفي أن يلقيه في الإناء ويحركه. وحكى صاحب "الحاوي" في قدر التراب الواجب وجهين أحدهما: ما يقع عليه الاسم والثاني: ما يستوجب محل الولوغ قال صاحب البحر: هذا هو المشهور.

 

ج / 2 ص -418-       الخامسة: لو غسله ستا بالماء ثم مزج التراب بماء ورد أو خل ونحوه من المائعات وغسله بها السابعة لم يكفه على الصحيح وفيه وجه مشهور عند الخراسانيين أنه يكفي، وهو خطأ ظاهر كما لو غسل السبع بخل وتراب فإنه لا يجزئ بالاتفاق.
السادسة: لو ولغ الكلب في إناء فيه طعام جامد ألقى ما أصابه وما حوله وبقي الباقي على طهارته السابقة وينتفع به كما في الفأرة تموت في السمن ونحوه. قال أصحابنا وممن صرح به صاحبا "الشامل" والبيان وآخرون. قال أصحابنا: ضابط الجامد: أنه إذا أخذ منه قطعة لا يتراد من الباقي ما يملأ موضع القطعة على القرب فإن تراد فهو مائع.
السابعة: لو ولغ في ماء قليل أو مائع فأصاب ذلك الماء أو المائع ثوبا أو بدنا أو إناء آخر وجب غسله سبع مرات إحداهن بتراب.
الثامنة: قال أصحابنا: لو ولغ في ماء كثير بحيث لم ينقص بولوغه عن قلتين لم ينجسه ولا ينجس الإناء إن لم يكن أصاب جرمه الذي لم يصله الماء مع رطوبة أحدهما.
التاسعة:: قال أصحابنا: لو وقع الإناء الذي ولغ فيه في ماء قليل نجسه ولم يطهر الإناء وإن وقع في ماء كثير لم ينجس الماء وهل يطهر الإناء؟ فيه خمسة أوجه حكاها الأصحاب مفرقة وجمعها صاحب "البيان" وغيره أحدها: يطهر؛ لأنه لو كان كذلك ابتداء لم ينجس والثاني: يحسب ذلك غسلة فيجب بعده ست مرات مع التراب؛ لأن الإناء ما لم ينفصل عن الماء فهو في حكم غسلة واحدة والثالث: يحسب ستا ويجب سابعة بتراب والرابع: إن كان الكلب أصاب نفس الإناء حسب ذلك غسلة، وإن كان أصاب الماء الذي في الإناء وتنجس الإناء تبعا حسب سبعا؛ لأنه تنجس تبعا للماء الذي وقع الآن فيه والخامس: إن كان الإناء ضيق الرأس حسب مرة وإن كان واسعا طهر ولا حاجة إلى ماء آخر ولا تراب؛ لأن الماء يجول فيه مرارا ولم يصح شيء من الأوجه والأظهر أنه يحسب مرة.
العاشرة: لو كانت نجاسة الكلب عينية كدمه وروثه فلم تزل إلا بست غسلات مثلا فهل يحسب ذلك ستا؟ أم واحدة؟ أم لا يحسب شيئا؟ فيه ثلاثة أوجه ولم أر من صرح بأصحها، ولعل أصحها أنه يحسب مرة كما قال الأصحاب: يستحب غسل النجاسة في غير الكلب ثلاث مرات فإن لم تزل عينها إلا بغسلات استحب بعد زوال العين غسلة ثانية وثالثة فجعل ما زالت به العين غسلة واحدة
الحادية عشرة: إذا لم يرد استعمال الإناء الذي ولغ فيه الكلب فهل يجب عليه إراقته؟ أم يستحب ولا يجب؟ فيه وجهان حكاهما صاحبا "الحاوي" والبحر وغيرهما قال صاحبا "الحاوي" والبحر: الأصح الذي قاله الجمهور مستحب ولا يجب قياسا على باقي المياه النجسة بخلاف الخمر فإنه يجب إراقتها؛ لأن النفوس تطلبها فيخاف الوقوع في شربها والثاني: يجب ويحرم الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم:
"وليرقه" حديث صحيح رواه مسلم كما سبق بيانه، والأمر للوجوب عند جمهور الفقهاء، ويفرق بينه وبين سائر النجاسات بأن المراد هنا الزجر والتنفير من الكلاب، والمبالغة في التغليظ في ذلك ولهذا غلظ بالعدد والتراب.

 

ج / 2 ص -419-       الثانية عشرة: لو كان الماء أكثر من قلتين وتغير بالنجاسة ثم ولغ فيه كلب ثم أصاب ذلك الماء ثوبا، قال صاحب البحر: قال القاضي حسين: يجب غسل الثوب سبعا إحداهن بالتراب؛ لأن الماء المتغير بالنجاسة كالخل الذي وقعت فيه نجاسة، وكذا رأيته في فتاوى القاضي حسين.
الثالثة عشرة: لو أدخل الكلب رأسه في إناء فيه ماء أو مائع وأخرجه ولا يعلم هل ولغ فيه أم لا؟ فإن لم يكن على فمه رطوبة فالمائع طاهر، وإن كانت عليه رطوبة فطاهر أيضا على أصح الوجهين وقد سبقت المسألة في باب المياه.
الرابعة عشرة: قال أهل اللغة: يقال ولغ الكلب يلغ بفتح اللام فيهما، وحكى أبو عمر الزاهد عن ثعلب عن ابن الأعرابي أن من العرب من يقول: ولغ بكسرها والمصدر منهما ولغا وولوغا ويقال: أولغه صاحبه قال: الولوغ في الكلب والسباع كلها أن يدخل لسانه في المائع فيحركه، ولا يقال ولغ بشيء من جوارحه غير اللسان، ولا يكون الولوغ لشيء من الطير إلا الذباب قال: ويقال: لحس الكلب الإناء وقفنه ولجنه ولجده بالجيم فيهما كله بمعنى إذا كان فارغا فإن كان فيه شيء قيل ولغ وقال صاحب "المطالع": الشرب أعم من الولوغ فكل ولوغ شرب ولا عكس. قال الجوهري: قال أبو زيد: يقال ولغ الكلب بشرابنا وفي شرابنا ومن شرابنا والله أعلم.
فرع: سؤر الهرة والبغل والحمار والسباع والفأرة وسائر الحيوانات غير الكلب والخنزير وما تولد من أحدهما طاهر لا كراهة فيه عندنا، فإذا ولغ في طعام جاز أكله بلا كراهة وإذا شرب من ماء جاز الوضوء به. وقد سبقت المسألة في باب الشك في نجاسة الماء وسبق هناك الأوجه في الهرة إذا أكلت نجاسة ثم ولغت في ماء أو مائع والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "ويجزئ في بول الصبي 1 الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو أن يبله بالماء، وإن لم ينزل عنه، ولا يجزي في بول الصبية إلا الغسل؛ لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الرضيع:
"يغسل من بول الجارية، وينضح من الغلام".
الشرح: في بول الصبي والصبية اللذين لم يأكلا غير اللبن من الطعام للتغذي ثلاثة أوجه الصحيح أنه يجب غسل بول الجارية ويجزئ النضح في بول الصبي والثاني: يكفي النضح فيهما حكاه الخراسانيون والثالث: يجب الغسل فيهما حكاه المتولي وهذان الوجهان ضعيفان والمذهب الأول، وبه قطع المصنف والجمهور. قال البغوي: وبول الخنثى كبول الأنثى من أي فرجيه خرج، ويشترط في النضح إصابة الماء جميع موضع البول، وأن يغمره ولا يشترط أن ينزل عنه، والغسل أن يغمره وينزل عنه. هذه عبارة الشيخ أبي حامد والجمهور، وشرحها إمام الحرمين فقال: النضح أن يغمره ويكاثره بالماء مكاثرة لا يبلغ جريانه وتردده وتقطره بخلاف الغسل فإنه يشترط فيه جريان بعض الماء وتقاطره، وإن لم يشترط عصره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في بعض نسخ المهذب "الغلام".

 

ج / 2 ص -420-       قال الرافعي وغيره: لا يراد. الماء ثلاث درجات: الأولى: النضح المجرد. الثانية: مع الغلبة والمكاثرة، والثالثة: أن يضم إلى ذلك السيلان، فلا تجب الثالثة قطعا، وتجب الثانية على أصح الوجهين. والثاني يكفي الأول. وأما حديث علي رضي الله عنه فحديث حسن، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك. قال الترمذي: حديث حسن، ذكره في كتاب الصلاة. وقال الحاكم حديث صحيح. قال: وله شاهدان صحيحان فرواه بلفظه أو بمعناه من رواية لبابة بنت الحارث زوجة العباس. ومن رواية أبي السمح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواهما أيضا أبو داود وغيره قال البخاري: حديث أبي السمح هذا حديث حسن وثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها "أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فبال عليه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه عليه ولم يغسله" وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم، فأتي بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله" وذكر أصحابنا في الفرق بين بول الصبي والصبية من حيث المعنى فرقين، أحدهما: أن بولها أثخن وألصق بالمحل. والثاني: أن الاعتناء بالصبي أكثر فإنه يحمله الرجال والنساء في العادة، والصبية لا يحملها إلا النساء غالبا، فالابتلاء بالصبي أكثر وأعم والله أعلم. 
هذا كلام الأصحاب في المسألة، وأما الشافعي فقال في "مختصر المزني": يجزئ في بول الغلام الرش، واستدل بالسنة ثم قال: ولا يبين لي فرق بينه وبين الصبية. ونقل صاحب "جمع الجوامع" في نصوص الشافعي أن الشافعي نص على جواز الرش على بول الصبي ما لم يأكل، واحتج بالحديث ثم قال: ولا يبين لي في بول الصبي والجارية - فرق من السنة الثابتة، ولو غسل بول الجارية كان أحب إلي احتياطا، وإن رش عليه ما لم تأكل الطعام أجزأ إن شاء الله تعالى. ولم يذكر عن الشافعي غير هذا، وقال البيهقي: كأن أحاديث الفرق بين بول الصبي والصبية لم تثبت عند الشافعي، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح إنكارا على الغزالي رحمهما الله في قوله: "ومنهم من قاس الصبية على الصبي، وهو غلط لمخالفته النص" قال: قوله هذا غير مرضي من وجهين:
أحدهما: كونه جعله وجها لبعض الأصحاب مع أنه القول المنصوص للشافعي كما ذكرناه.
والثاني: جعله إياه غلطا، وهو يرتفع عن ذلك ارتفاعا ظاهرا فإنه المنصوص، ثم ذكر النص الذي قدمناه، ثم قال: الفرق بينهما حينئذ كأنه قول مخرج لا منصوص، ومع هذا لا يذكر كثير من، المصنفين غيره قال: ولا يقوى ما يذكر من الفرق من جهة المعنى قال: وذكر القاضي حسين نص الشافعي أنه لا يبين لي فرق بينهما ثم قال: وأصحابنا يجعلون في بول الصبية قولين: أقيسهما: أنه كبول الصبي والثاني: يجب غسله. قال أبو عمرو: ومع ما ذكرناه من رجحان التسوية من حيث نص الشافعي فالصحيح الفرق لورود الحديث من وجوه تعاضدت بحيث قامت الحجة به.

 

ج / 2 ص -421-       فرع في مذاهب العلماء في ذلك
مذهبنا المشهور أنه يجب غسل بول الجارية. ويكفي نضح بول الغلام، وبه قال علي بن أبي طالب وأم سلمة والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود، وقال مالك وأبو حنيفة والثوري: يشترط غسل بول الغلام والجارية، وقال النخعي: يكفي نضحهما جميعا، وهو رواية عن الأوزاعي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وما سوى ذلك من النجاسات ينظر فيه فإن كانت جامدة كالعذرة أزيلت ثم غسل موضعها على ما نبينه 1 إن شاء الله تعالى وإن كانت ذائبة كالبول والدم والخمر فإنه يستحب [أن يغسل 2] منه ثلاثا؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده" فندب صلى الله عليه وسلم إلى الثلاث للشك في النجاسة، فدل على أن ذلك يستحب إذا تيقن، ويجوز الاقتصار على [غسل] مرة؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل الثوب من البول سبع مرات، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة، وغسل الثوب من البول مرة" والغسل الواجب من ذلك أن تكاثر النجاسة بالماء حتى تستهلك فيه، فإن كانت النجاسة على الأرض أجزأته المكاثرة؛ لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في بول الأعرابي بذنوب من ماء" وإنما أمر بالذنوب؛ لأن ذلك يغمر 3 النجاسة وتستهلك فيه. وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو القاسم الأنماطي: الذنوب تقدير فيجب في بول واحد ذنوب، وفي بول اثنين ذنوبان، والمذهب: أن ذلك ليس بتقدير؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يطهر البول الكثير من رجل بذنوب، وما دون ذلك من رجلين لا يطهر إلا بذنوبين وإن كانت النجاسة على الثوب ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه المكاثرة كالأرض والثاني: لا يجزئه حتى يعصر؛ لأنه يمكن عصره بخلاف الأرض، والأول أصح. وإن كانت النجاسة في إناء فيه شيء، فوجهان: أحدهما: يجزئ فيه المكاثرة كالأرض والثاني: لا يجزئ حتى يراق ما فيه ثم يغسل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء: "فليهرقه ثم ليغسله سبع مرات".
الشرح: هذه القطعة فيها أحاديث ومسائل. أما الأحاديث فالأول حديث: "إذا استيقظ أحدكم "رواه مسلم بلفظه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأصله في "الصحيحين" وقد سبق بيانه وما يتعلق به من الفوائد في أول صفة الوضوء، وينكر على المصنف قوله فيه: روي بصيغة تمريض، وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فرواه أبو داود ولم يضعفه، لكن في إسناده أيوب بن جابر وقد اختلفوا في تضعيفه. وأما حديث:
"أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبوا على بول الأعرابي ذنوبا" فرواه البخاري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في بعض نسخ المهذب "على ما بينته" وليس فيه مشيئة.
2  ما بين المعقوفين ليس في ش وق (ط).
3  في بعض نسخ المهذب "حتى يغمر البول ويستهلك".

 

ج / 2 ص -422-       ومسلم من طرق من رواية أنس رضي الله عنه ورواه البخاري أيضا بمعناه من رواية أبي هريرة، وأما حديث: "فليهرقه ثم ليغسله سبع مرات" فصحيح رواه مسلم، وقد قدمناه في مواضع من هذا الباب، وقوله: يلغ هو بفتح اللام كما سبق بيانه.
أما المسائل فإحداها: الأعيان النجسة كالميتة والروث وغيرهما لا يطهر بالغسل بل إذا وقعت على طاهر ونجس لا يمكن تطهيره حتى تزول عين النجاسة، وهكذا إذا اختلطت هذه النجاسات بتراب وغيره فصب عليه الماء لم يطهر، قال أصحابنا: ولا طريق إلى طهارة هذه الأرض إلا بأن يحفر ترابها ويرمى، فلو ألقى عليها ترابا طاهرا أو طينها صحت الصلاة عليها.
الثانية: إذا كانت النجاسة ذائبة كأثر البول والدم والخمر وغيرها استحب غسلها ثلاث مرات، والواجب مرة واحدة، ودليلهما ما ذكره المصنف، وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يجب غسل النجاسة كلها سبع مرات كالكلب؛ ودليلنا حديث ابن عمر وهو صريح في المرة وإطلاق الأحاديث الصحيحة المشهورة كحديث غسل دم الحيض: "وصبوا عليه ذنوبا من ماء" وغير ذلك، وبمذهبنا قال الجمهور، قال أصحابنا: فإن لم يزل عين الدم أو طعمه أو طعم سائر النجاسات إلا بغسلات كفاه زوال العين، ويستحب بعد ذلك غسله ثانية وثالثة لحديث:
"إذا استيقظ أحدكم".
الثالثة: الواجب في إزالة النجاسة الذائبة من الأرض المكاثرة بالماء، بحيث تستهلك فيه وتطهر الأرض بمجرد ذلك وإن لم ينصب الماء، سواء كانت الأرض صلبة أم رخوة، هذا هو الصحيح وفيه وجه أنها لا تطهر حتى ينصب، حكاه الخراسانيون بناء على اشتراط العصر في الثوب، ووجه حكاه الخراسانيون وجماعة من العراقيين أنه يشترط كون الماء المصبوب سبعة أمثال البول، ووجه أنه يشترط في بول كل رجل ذنوب من ماء، فلو كان مائة، وجب مائة ذنوب وهذا الوجه هو الذي حكاه المصنف عن الأنماطي والإصطخري. وهذه الأوجه كلها ضعيفة والمذهب الأول. وأما نص الشافعي رحمه الله أنه يصب على البول سبعة أضعافه، وقوله: وإن بال اثنان لم يطهر إلا بذنوبين محمول على ما إذا لم تحصل المكاثرة إلا بذلك أو على الاستحباب والاحتياط، ولا يشترط جفاف الأرض بلا خلاف كما لا يشترط جفاف الثوب بلا خلاف، وإن شرطنا العصر قال أصحابنا: ولو وقع على الأرض والثوب وغيرهما ماء المطر حصلت الطهارة بلا خلاف قال أصحابنا: ثم الخمر والبول والدم وسائر النجاسات الذائبة حكمها ما ذكرنا، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود والجمهور. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن كانت الأرض رخوة ينزل الماء فيها أجزأه صبه عليها، وإن كانت صلبة لم يجزئه إلا حفرها ونقل ترابها، دليلنا حديث بول الأعرابي في المسجد وصب الذنوب عليه، وأما الحديث الوارد في الأمر بحفره فضعيف.
الرابعة: إذا كانت النجاسة على ثوب ونحوه فالواجب المكاثرة بالماء، وفيه وجه سبعة الأمثال الذي سبق وليس بشيء، وفي اشتراط العصر وجهان أصحهما: لا يشترط بل يطهر في الحال، وهما مبنيان على الخلاف في طهارة غسالة النجاسة. والأصح طهارتها إذا انفصلت غير متغيرة وقد طهر المحل؛ ولهذا كان الأصح أنه لا يشترط العصر. فإن شرطناه لم يحكم بطهارة الثوب ما دام الماء فيه,

 

ج / 2 ص -423-       فإن عصره طهر حينئذ، وإن لم يعصره حتى جف فهل يطهر؟ وجهان حكاهما الخراسانيون الصحيح يطهر؛ لأنه أبلغ في زوال الماء. والثاني: لا يطهر؛ لأن الماء الذي وجبت إزالته باق، ولأن وجوب العصر مفرع على نجاسة الغسالة، وهي باقية في الثوب حكما، وهذا ضعيف، والمعتمد الجزم بالطهارة ولو عصره وبقيت رطوبة فهو طاهر بلا خلاف.
الخامسة: إذا كانت النجاسة مائعا في إناء فصب عليه ماء غمره ولم يرقه فهل يطهر الإناء وما فيه؟ فيه وجهان ذكرهما المصنف بدليلهما وهما مشهوران، الصحيح منهما: لا يطهر. ولو غمس الثوب النجس في إناء دون قلتين من الماء فوجهان: الصحيح، وبه قطع الجمهور: ينجس الماء ولا يطهر الثوب، وقال ابن سريج: يطهر الثوب ولا ينجس الماء، ولو ألقت الريح الثوب في الماء وهو دون القلتين نجس الماء، ولم يطهر الثوب بلا خلاف، ووافق ابن سريج على النجاسة هنا، واستدلوا بهذا على اشتراطه النية في إزالة النجاسة، وأنكر إمام الحرمين والغزالي وغيرهما هذا الاستدلال. السادسة: إذا كان داخل الإناء متنجسا فصب فيه ماء غمر النجاسة، فهل يطهر في الحال قبل إراقة الغسالة؟ وجهان بناء على اشتراط العصر أصحهما الطهارة كالأرض، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كانت النجاسة خمرا فغسلها وبقيت الرائحة ففيه قولان: أحدهما: لا يطهر كما لو بقي اللون والثاني: يطهر؛ لأن الخمر لها رائحة شديدة فيجوز أن تكون لقوة رائحتها تبقى الرائحة من غير جزء من النجاسة، وإن كانت النجاسة دما فغسله ولم يذهب الأثر أجزأه؛ لما روي أن خولة بنت يسار قالت: "يا رسول الله، أرأيت لو بقي أثر؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
الماء يكفيك ولا يضرك أثره".
الشرح: حديث خولة هذا رواه البيهقي في السنن الكبيرة من رواية أبي هريرة بإسناد ضعيف وضعفه، ثم روى عن إبراهيم المزني الإمام قال: لم نسمع بخولة بنت يسار 1 إلا في هذا الحديث. قال أصحابنا: يجب محاولة إزالة طعم النجاسة ولونها وريحها فإن حاوله فبقي طعم النجاسة لم يطهر بلا خلاف؛ لأنه يدل على بقاء جزء منها، وإن بقي اللون وحده وهو سهل الإزالة لم يطهر، وإن كان غيرها كدم الحيض يصيب ثوبا ولا يزول بالمبالغة في الحت والقرض طهر على المذهب. وحكى الرافعي -وجها- أنه لا يطهر وهو شاذ، قال الرافعي: والصحيح الذي قطع به الجمهور أن الحت والقرض مستحبان وليسا بشرط، وفي وجه شاذ هما شرط، وإن بقيت الرائحة وحدها وهي عسرة الإزالة كرائحة الخمر وبول المبرسم وبعض أنواع العذرة فقولان، وقيل: وجهان أصحهما يطهر، وممن حكاه وجهين القاضي أبو الطيب، قال الشيخ أبو حامد: هما قولان منصوصان، وقد ذكر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ساق أبو عمر في الاستيعاب هذه الرواية في ترجمة خولة بنت يسار وقال: روى عنها أبو سلمة, وأخشى أن تكون خولة بنت اليمان لأن إسناد حديثهما واحد وإنما هو علي بن ثابت عن الوازع بن نافع عن أبي سلمة بالحديث الذي ذكرنا في اسم خولة بنت اليمان. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: قلت: لا يلزم من كون الإسناد إليها واحدا مع اختلاف المتن أن تكون واحدة اهـ ط.

 

ج / 2 ص -424-       المصنف دليلهما. وإن بقي اللون والرائحة لم يطهر على الصحيح، وحكى الرافعي فيه وجها. قال صاحب التتمة: وإذا لم تزل النجاسة بالماء وحده، وأمكن إزالتها بأشنان ونحوه وجب. ثم ما حكمنا بطهارته في هذه الصور مع بقاء لون أو رائحة فهو طاهر حقيقة. وهذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور، وفي "التتمة" وجه أنه يكون نجسا معفوا عنه وليس بشيء، هذا تلخيص حكم المسألة وما ذكره الأصحاب.
وأما قول المصنف: أحدهما: لا يطهر كما لو بقي اللون. فمراده: لون يسهل إزالته كما ذكرناه، وهكذا من أطلق من العراقيين أنه لا يطهر مع بقاء اللون مرادهم ما ذكرنا، وقد نقل الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب الاتفاق على أنه إذا بقي اللون لا يطهر ومرادهما ما ذكرنا، وقد أنكر بعض الناس على المصنف قوله: كاللون، وزعم أن صوابه كالطعم قال: لأن اللون لا يضر بقاؤه قطعا، وهذا الإنكار خطأ من قائله فإنه بجهالته فهم خلاف الصواب ثم اعترض، والصواب صحة ما قاله المصنف وحمله على ما ذكرناه فقد صرح غيره بما تأولناه. وأما قول صاحب البيان: القولان في بقاء رائحة الخمر، فإن بقي رائحة غيرها فقال عامة أصحابنا: لا يطهر، وقال صاحب "التلخيص" والفروع: فيه القولان كالخمر. فليس كما قال بل الصواب الذي عليه الأكثرون طرد القولين في الجميع على ما سبق. وكأن صاحب "البيان" قلد في هذه الدعوى صاحب "العدة" على عادته في النقل عنه، وممن صرح بطردهما في غير الخمر الشيخ أبو حامد والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن كان الثوب نجسا فغمسه في إناء فيه دون القلتين من الماء نجس الماء، ولم يطهر الثوب، ومن أصحابنا من قال: إن قصد إزالة النجاسة لم ينجسه وليس بشيء؛ لأن القصد لا يعتبر في إزالة النجاسة ولهذا يطهر بماء المطر وبغسل المجنون قال أبو العباس بن القاص: إذا كان ثوب كله نجس فغسل بعضه في جفنة ثم عاد فغسل ما بقي لم يطهر حتى يغسل الثوب كله دفعة واحدة؛ لأنه إذا صب على بعضه ماء ورد جزءا من البعض الآخر على الماء فنجسه وإذا نجس الماء نجس الثوب".
الشرح: أما المسألة الأولى فسبق بيانها قريبا في المسألة الخامسة من المسائل السابقة، وقوله: "ومن أصحابنا من قال" هو ابن سريج، وقوله: "ولهذا يطهر بماء المطر وبغسل المجنون" ظاهره أن ابن سريج يوافق على هذا ولا يبعد أنه يخالف فيه فقد نقل عنه اشتراط النية في إزالة النجاسة كما سبق في باب نية الوضوء، وأما المسألة الثانية، وهي مسألة ابن القاص فهي مشهورة عنه لكن قال المحاملي في "التجريد" في باب المياه: هذا غلط من ابن القاص، قال: وقال عامة أصحابنا: يطهر الثوب. وقال صاحب البيان: حكى صاحب "الإفصاح" والشيخ وأبو حامد والمحاملي أن ابن القاص قال: إذا كان الثوب كله نجسا فغسل نصفه ثم عاد إلى ما بقي فغسله لم يطهر حتى يغسله كله قال: لأنه إذا غسل نصفه فالجزء الرطب الذي يلاصق الجزء اليابس النجس ينجس به؛ لأنه ملاصق؛ لما هو نجس، ثم الجزء الذي بعده ينجس بملاصقته الجزء الأول ثم الذي بعده ينجس بملاصقته حتى ينجس جميع الأجزاء إلى آخر الثوب. قال الشيخ أبو حامد: غلط ابن القاص بل يطهر الثوب؛ لأن

 

ج / 2 ص -425-       الجزء الذي يلاصق الجزء النجس ينجس به؛ لأنه لاقى عين النجاسة، فأما الجزء الذي يلاصق ذلك الجزء فلا ينجس به؛ لأنه لاقى ما هو نجس حكما لا عينا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "في الفأرة تموت في السمن الجامد: ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم" فحكم صلى الله عليه وسلم بنجاسة ما لاقى عين النجاسة دون الجزء المتصل بذلك المتنجس، ولو كان كما قال ابن القاص لنجس السمن كله. وأما ابن الصباغ فحكى أن ابن القاص قال: إذا غسل نصفه في جفنة ثم عاد فغسل النصف الآخر لم يطهر حتى يغسله كله وحكى عنه العلة التي ذكرها عنه الشيخ أبو حامد قال ابن الصباغ: والحكم كما قاله ابن القاص لكن أخطأ في الدليل، بل الدليل لما قاله: أن الثوب إذا وضع نصفه في الجفنة وصب عليه ماء يغمره لاقى هذا الماء جزءا مما لم يغسله وذلك الجزء نجس وهو وارد على دون القلتين فنجسه وإذا نجس الماء نجس الثوب. قال صاحب البيان: وعندي أنهما مسألتان فإن غسل نصفه في جفنة فالحكم ما قاله ابن القاص، وإن غسل نصفه بصب الماء عليه بغير جفنة فالحكم ما قاله الشيخ أبو حامد، هذا آخر كلام صاحب "البيان" وقد رأيت أنا المسألة في "التلخيص" لابن القاص كما نقلها المصنف وابن الصباغ فإنه قال: لو أن ثوبا نجسا كله غسل بعضه في جفنة ثم عاد إلى ما بقي فغسله لم يجز حتى يغسل الثوب دفعة واحدة، هذا كلامه بحروفه قال القفال في شرحه: في هذه المسألة وجهان الصحيح ما قال ابن القاص وهو أن جميع الثوب نجس قال: وقال صاحب "الإفصاح": يطهر واستدل بحديث فأرة السمن قال القفال: والصواب قول ابن القاص. واستدل له بنحو ما ذكره ابن الصباغ وفرق بينه وبين السمن بأنه جامد لا يتراد قال: ونظير مسألتنا السمن الذائب فحصل أن الصحيح ما قاله ابن القاص، ووافقه عليه القفال والمصنف وابن الصباغ وصاحب البيان. ويحمل كلام الآخرين على ما حمله صاحب "البيان" وعليه يحمل ما نقله الرافعي عن الأصحاب أنهم قالوا: لو غسل أحد نصفي ثوب ثم نصفه الآخر، فوجهان أحدهما لا يطهر حتى يغسل كله دفعة واحدة وأصحهما: أنه إن غسل مع النصف الثاني ما يجاوره من النصف الأول طهر الثوب كله، وإن اقتصر على النصفين فقط طهر الطرفان وبقي المنتصف نجسا فيغسله وحده والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "إذا أصاب الأرض نجاسة ذائبة في موضع ضاح فطلعت عليه الشمس وهبت عليه الريح فذهب أثرها ففيه قولان، قال في القديم والإملاء: يطهر؛ لأنه لم يبق شيء من النجاسة فهو كما لو غسل بالماء، وقال في الأم: لا يطهر وهو الأصح؛ لأنه محل نجس فلا يطهر بالشمس كالثوب النجس".
الشرح: هذان القولان مشهوران وأصحهما عند الأصحاب: لا يطهر كما صححه المصنف، ونقله البندنيجي عن نص الشافعي في عامة كتبه، وحكى في المسألة طريقين أحدهما: فيه القولان والثاني: القطع بأنها لا تطهر، وتأويل نصه على أرض مضت عليه سنون وأصابها المطر، ثم القولان فيما إذا لم يبق من النجاسة طعم ولا لون ولا رائحة، وممن قال بأنها لا تطهر مالك وأحمد وزفر

 

ج / 2 ص -426-       وداود وممن قال بالطهارة أبو حنيفة وصاحباه ثم قال العراقيون: هما إذا زالت النجاسة بالشمس أو الريح، فلو ذهب أثرها بالظل لم تطهر عندهم قطعا، وقال الخراسانيون: فيه خلاف مرتب وأما الثوب النجس ببول ونحوه إذا زال أثر النجاسة منه بالشمس فالمذهب: القطع بأنه لا يطهر وبه قطع العراقيون.
ونقل إمام الحرمين عن الأصحاب أنهم طردوا فيه القولين كالأرض قال:
وذكر بعض المصنفين يعني الفوراني أنا إذا قلنا: يطهر الثوب بالشمس فهل يطهر بالجفاف في الظل؟ فيه وجهان وهذا ضعيف قال الإمام: ولا شك أن الجفاف لا يكفي في هذه الصورة فإن الأرض تجف بالشمس على قرب ولم ينقلع بعد آثار النجاسة، فالمعتبر انقلاع الآثار على طول الزمان بلا خلاف، وكذا القول في الثياب. وقول المصنف: "موضع ضاح" هو بالضاد المعجمة قال أهل اللغة: هو البارز والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وإن طبخ اللبن الذي خلط بطينة السرجين لا يطهر؛ لأن النار لا تطهر النجاسة، وقال أبو الحسن بن المرزبان: إذا غسل طهر ظاهره، فتجوز الصلاة عليه ولا تجوز الصلاة فيه؛ لأن ما فيه من السرجين كالزئبر [في الثوب 1] فيحترق بالنار، ولهذا يتثقب 2 موضعه فإذا غسل طهر فجازت الصلاة عليه، والمذهب الأول".
الشرح: قال أصحابنا: اللبن النجس ضربان مختلط بنجاسة جامدة، كالروث والعذرة وعظام الميتة، وغير مختلط بها، فالمختلط نجس لا طريق إلى تطهيره؛ لأن الأعيان النجسة لا تطهر بالغسل، وهذا فيه عين نجسة فإن طبخ أي أحرق فالمذهب: أنه لا يطهر، وبه قطع الجمهور وخرج أبو زيد والخضري وآخرون قولا: أن النار تؤثر فيطهر خرجوه من القول القديم أن الأرض تطهر بالشمس. قالوا: فالنار أبلغ، فعلى قول الجمهور لو غسل لم يطهر على الصحيح المنصوص، وقال ابن المرزبان والقفال: يطهر ظاهره واختاره ابن الصباغ. قال صاحب البيان: فإذا قلنا: إنه لا يطهر بالإحراق فكسر منه موضع فما ظهر بالكسر نجس لا يطهر بالغسل وتصح الصلاة على ما لم يكسر منه ولكنها مكروهة كما لو صلى في مقبرة غير منبوشة لكونها مدفن النجاسة قال الشافعي والأصحاب: ويكره أن يبني به مسجدا. قال القاضي أبو الطيب: لا يجوز أن يبني به مسجدا ولا يفرش به فإن فرش به وصلى عليه لم تصح صلاته فإن بسط عليه شيئا صحت مع الكراهة، ولو حمله مصل في صحة صلاته الوجهان فيمن حمل قارورة فيها نجاسة وسد رأسها بنحاس الصحيح أنه لا تصح صلاته.
والضرب الثاني: غير المختلط بنجاسة جامدة، كالمعجون ببول أو بماء نجس أو خمر فيطهر ظاهره بإفاضة الماء عليه ويطهر باطنه بأن ينقع في الماء حتى يصل إلى جميع أجزائه كما لو عجن بماء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ما بين المعقوفين ليس في (ش) ولا (ق) "ط".
2  في ش وق ينتقب "ط".

 

ج / 2 ص -427-       نجس، فلو طبخ هذا اللبن طهر -على تخريج أبي زيد- ظاهره، وكذا باطنه على الأصح، وأما على المذهب وقول الجمهور فهو باق على نجاسته ويطهر - بالغسل - ظاهره دون باطنه، وإنما يطهر باطنه بأن يدق حتى يصير ترابا ثم يفاض الماء عليه، فلو كان بعد الطبخ رخوا لا يمنع نفوذ الماء فهو كما قبل الطبخ. وقول المصنف: كالزئبر هو بزاي مكسورة ثم همزة ثم باء موحدة مكسورة على المشهور عند أهل اللغة. قال الجوهري: ويقال بضم الباء وهو ما يعلو الثوب الجديد كالزغب وقوله: قال ابن المرزبان: هو بميم مفتوحة ثم راء ساكنة ثم زاي مضمومة ثم باء موحدة، والمرزبان بالفارسية وهو معرب وهو زعيم فلاحي العجم وجمعه مرازبة، ذكر هذا كله الجوهري في صحاحه. وابن المرزبان هذا هو أبو الحسن علي بن أحمد المرزبان البغدادي صاحب ابن القطان، تفقه عليه الشيخ أبو حامد، كان إماما في المذهب ورعا، قال: ما أعلم أن لأحد علي مظلمة. وهو يعلم أن الغيبة مظلمة، توفي في رجب سنة ست وستين وثلاثمائة، ذكرت أحواله في "الطبقات" والتهذيب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "فإن أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه على الأرض نظرت فإن كانت نجاسة رطبة لم يجزه 1، وإن كانت يابسة فقولان: قال في الجديد: لا يجوز حتى يغسله؛ لأنه ملبوس نجس فلا يجزئ فيه المسح كالثوب. وقال في "الإملاء" والقديم: يجوز لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر نعليه فإن كان بهما خبث فليمسحه على الأرض ثم ليصل فيهما" ولأنه تتكرر فيه النجاسة فأجزأ فيه المسح كموضع الاستنجاء".
الشرح: إذا أصابت أسفل الخف أو النعل نجاسة رطبة فدلكه بالأرض فأزال عينها وبقي أثرها نظر إن دلكها وهي رطبة لم يجزئه ذلك ولا يجوز الصلاة فيه بلا خلاف؛ لأنها تنتشر من محلها إلى غيره من أجزاء الخف الظاهرة، وإن جفت على الخف فدلكها وهي جافة بحيث لم تنتشر إلى غير موضعها منه فالخف نجس بلا خلاف. ولكن هل يعفى عن هذه النجاسة فتصح الصلاة؟ فيه قولان، ودليلهما ما ذكره المصنف، أصحهما عند الأصحاب الجديد: وهو أنه لا تصح الصلاة، وبه قال أحمد في أصح الروايات عنه والقديم: الصحة، وبه قال أبو حنيفة واتفقوا على أنه لو وقع هذا الخف في مائع أو فيما دون قلتين من الماء نجسه، كما لو وقع فيه مستنج بالأحجار قال الرافعي: إذا قلنا بالقديم وهو العفو فله شروط: أحدها: أن يكون للنجاسة جرم يلتصق بالخف، أما البول ونحوه فلا يكفي دلكه بحال الثاني: أن يدلكه في حال الجفاف، وأما ما دام رطبا فلا يكفي دلكه قطعا الثالث: أن يكون حصول النجاسة بالمشي من غير تعمد، فلو تعمد تلطيخ الخف بها وجب الغسل قطعا، والقولان جاريان فيما لو أصاب أسفل الخف وأطرافه من طين الشوارع المتيقن نجاسته الكثير الذي لا يعفى عنه، وسائر النجاسات الغالبة في الطرق كالروث وغيره. واعلم أن الغزالي وصاحبه محمد بن يحيى جزما بالعفو عن النجاسة الباقية على أسفل الخف، وهذا شاذ مردود والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في بعض نسخ المهذب "لم يجز" و"ففيه قولان" و"فليمسحه بالأرض" (ط).

 

ج / 2 ص -428-       وأما حديث أبي سعيد المذكور في الكتاب فحديث حسن رواه أبو داود بإسناد صحيح ولفظه: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما" وروى أبو داود بأسانيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور" رواه من طرق كلها ضعيفة والاعتماد على حديث أبي سعيد.  وأجاب في الجديد عن الحديث بأن المراد بالقذر والأذى ما يستقذر ولا يلزم منه النجاسة، وذلك كمخاط ونخامة وشبههما مما هو طاهر أو مشكوك فيه. وهذا الحديث وجوابه تقدما في أول الكتاب في مسألة اشتراط الماء لإزالة النجاسة.
وأما قول المصنف : لأنه ملبوس نجس فلا يجوز فيه المسح فاحترز بملبوس عن محل الاستنجاء، وبقوله: نجس عن خف المحرم إذا علق به طيب فإنه يجزيه إزالته بالمسح، والله أعلم.
فرع: في مسائل تتعلق بالباب مختصرة جدا خشية الإطالة، وفرارا من السآمة والملالة.
إحداها: أن إزالة النجاسة التي لم يعص بالتلطخ بها في بدنه ليس على الفور، وإنما تجب عند إرادة الصلاة ونحوها لكن يستحب تعجيل إزالتها.
الثانية: إذا نجس الزيت والسمن والشيرج وسائر الأدهان، فهل يمكن تطهيره؟ فيه وجهان مشهوران، وقد ذكرهما المصنف في باب ما يجوز بيعه أصحهما: عند الأكثرين: لا يطهر بالغسل ولا بغيره لقوله صلى الله عليه وسلم في الفأرة تقع في السمن: "إن كان مائعا فلا تقربوه" ولم يقل اغسلوه، ولو جاز الغسل لبينه لهم، وقياسا على الدبس والخل وغيرهما من المائعات إذا تنجست فإنه لا طريق إلى تطهيرها بلا خلاف والثاني: يطهر بالغسل بأن يجعل في إناء ويصب عليه الماء ويكاثر به ويحرك بخشبة ونحوها تحريكا يغلب على الظن أنه وصل إلى أجزائه ثم يترك حتى يعلو الدهن ثم يفتح أسفل الإناء فيخرج الماء ويطهر الدهن، وهذا الوجه قول ابن سريج ورجحه صاحب العدة، وقال البغوي وغيره: ليس هو بصحيح، وقال صاحب العدة: لا يطهر السمن بالغسل قطعا، وفي غيره الوجهان، والمشهور أنه لا فرق. أما الزئبق فقال المحاملي في "اللباب" وصاحب "التهذيب" وغيرهما: إن أصابته نجاسة ولم يتقطع بعد إصابتها طهر بصب الماء عليه، وإن تقطع فهو كالدهن ولا يمكن تطهير على الأصح.
الثالثة: إذا أصابت النجاسة شيئا صقيلا كالسيف والسكين والمرآة ونحوها لم تطهر بالمسح ولا تطهر إلا بالغسل كغيرها، وبه قال أحمد وداود، وقال مالك وأبو حنيفة: تطهر بالمسح.
الرابعة: إذا سقيت السكين ماء نجسا ثم غسلها طهر ظاهرها وهل يطهر باطنها بمجرد الغسل؟ أم لا يطهر حتى يسقيه مرة ثانية بماء طهور يورده عليها؟ فيه وجهان حكاهما صاحب "البيان" وآخرون؛ ولو طبخ لحم بماء نجس صار باطنه وظاهره نجسا، وفي كيفية طهارته وجهان أحدهما:

 

ج / 2 ص -429-       يغسل ثم يعصر كالبساط، والثاني: يشترط أن يغلى مرة أخرى بماء طهور، وقطع القاضي حسين في مسألتي السكين واللحم بأنه يجب سقيها وإغلاؤها، واختار الشاشي أن الغسل كاف فيهما، وهو المنصوص قال الشافعي رحمه الله في "الأم" في كتاب صلاة الخوف: لو أحمى حديدة، ثم صب عليها سما أو غسلها فيه فشربته؛ ثم غسلت بالماء طهرت؛ لأن الطهارات كلها إنما جعلت على ما يظهر فيه ليس على الأجواف. هذا نصه بحروفه. قال المتولي: وإذا غسل السكين طهر ظاهره دون باطنه، ويجوز استعماله في الأشياء الرطبة كما يجوز في اليابسة لكن لا تصح الصلاة وهو حامله، وإنما جاز استعماله في الرطب مع قولنا بنجاسة باطنه؛ لأن الرطوبة لا تصل باطنه؛ إذ لو وصلت لطهرت بالماء.
الخامسة: قال صاحب "التتمة" وغيره: للماء قوة عند الورود على النجاسة، فلا ينجس بملاقاتها بل يبقى مطهرا، فلو صبه على موضع النجاسة من الثوب، فانتشرت الرطوبة في الثوب لا يحكم بنجاسة موضع الرطوبة، ولو صب في إناء نجس ولم يتغير بالنجاسة فهو طهور، فإذا أداره على جوانبه طهرت الجوانب كلها، هذا كله قبل الانفصال قال: فلو انفصل الماء متغيرا، وقد زالت النجاسة عن المحل فالماء نجس، وفي المحل وجهان أحدهما: أنه طاهر لانتقال النجاسة إلى الماء والثاني: وهو الصحيح: أن المحل نجس أيضا؛ لأن الماء المنفصل نجس وقد بقيت منه أجزاء في المحل قال: ولو وقع بول على ثوب فغسل بماء موزون فانفصل زائد الوزن فالزيادة بول، والماء نجس كما لو تغير، وفي طهارة المحل الوجهان الصحيح لا يطهر قلت: وقد سبق في المياه وجه شاذ أن هذا الماء طاهر مع زيادة الوزن، وليس بشيء فالمذهب نجاسته.
السادسة: قال أصحابنا: إذا اختلطت العذرة أو الروث وغيرهما من الأعيان النجسة بتراب نجس ولم يتميز لم يطهر بصب الماء عليها؛ لأن العين النجسة لا تطهر بالغسل وطريقه أن يزال التراب الذي وصلته أو يطرح عليه تراب طاهر يغطيه والأول أولى. قال صاحب "الشامل" وغيره: لو طين على النجاسة أو طرح عليها ترابا طاهرا وصلى عليه جاز، لكن تكره الصلاة؛ لأنه مدفن النجاسة، وكذا لو دفن ميتة، وسوى فوقها الطاهر تصح الصلاة عليه وتكره.
السابعة: ما ذكر صاحب "التتمة" بعد أن ذكر الوجهين في مسألة ابن القاص السابقة وهي: إذا غسل نصف الثوب ثم عاد فغسل نصفه قال: لو غسل الثوب عن النجاسة ثم وقعت عليه نجاسة عقب فراغه من غسله، هل يجب عليه غسل جميع الثوب؟ أم يكفي غسل موضع النجاسة؟ فيه هذان الوجهان، قلت والصحيح أنه يكفي غسل موضعها، وهو الموافق للدليل ولما ذكره الأصحاب هناك.
قال: ولو خرز الخف بشعر خنزير رطب صار نجسا، فإذا غسله هل يطهر ظاهره؟ فيه هذان الوجهان أحدهما: لا يطهر؛ لأن الذي يتخلل ثقب الخف من الخيط نجس لملاصقته الشعر مع الرطوبة

 

ج / 2 ص -430-       فإذا غسل ظاهره اتصلت الرطوبة بالموضع النجس، ولا ينفذ الماء فيه ليطهر الجميع فيعود المغسول نجسا والثاني: يطهر فيجوز أن يصلي عليه لا فيه، ولو عرقت رجله فيه أو أدخلها فيه رطبة لم ينجس ولا تتعدى النجاسة من الخرز الذي في ثقب الخف إلى المغسول وكان القاضي حسين يختار هذا الوجه.
الثامنة: صب الماء على ثوب نجس وعصره في إناء وهو متغير ثم صب عليه ماء آخر وعصره فخرج متغيرا ثم جمع الماءين فزال التغير، ولم يبلغ قلتين فهو نجس هذا هو الصواب، وبه قطع الجمهور، وحكى صاحب "المستظهري" وجها أنه طاهر، وليس بشيء.
التاسعة: قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب "التبصرة" في الوسوسة: إذا غسل فمه النجس فليبالغ في الغرغرة ليغسل كل ما هو في حد الظاهر ولا يبتلع طعاما ولا شرابا قبل غسله لئلا يكون أكل نجاسة.
العاشرة: إذا كانت أعضاؤه رطبة فهبت الريح فأصابه غبار الطريق أو غبار السرجين لم يضره، وقد ذكر المصنف المسألة في باب المياه.
الحادية عشرة: لو صبغ يده بصبغ نجس أو خضب يده أو شعره بحناء نجس بأن خلط ببول أو خمر أو دم وغسله فزالت العين وبقي اللون فهو طاهر، هذا هو الصحيح. وبه قطع الأكثرون منهم البغوي، ونقله المتولي عن عامة الأصحاب قال: وقال الأستاذ أبو إسحاق 1: لا يطهر مع بقاء اللون، وقال صاحب "الحاوي": إن بقي لون النجاسة فنجس، وإن بقي لون الخضاب فوجهان، ونقل صاحب "المستظهري" هذا عن "الحاوي" ثم ضعفه، وقال هذا عجيب واعتبار زوال اللون لا معنى له قال: وقد نص الشافعي رحمه الله: في موضع آخر أنه يطهر بالغسل مع بقاء اللون والمذهب ما سبق وهو الجزم بالطهارة. قال صاحب "الحاوي": فإن قلنا: لا يطهر فإن كان الخضاب على شعر كاللحية لم يلزمه حلقه، بل يصلي فيه ويتركه حتى ينصل؛ لأنه ينصل عن قرب فإذا نصل أعاد الصلوات، وإن كان على بدن، وهو مما ينصل كالحناء انتظر فصوله ثم يعيد ما صلى معه، فإن كان مما لا ينصل كالوشم فإن أمن التلف في إزالته لزمه كشطه؛ لأنه ليس له أمد ينتظر بخلاف الحناء، وإن خاف التلف فإن كان غيره أكرهه تركه بحاله، وإن كان هو الذي فعله فوجهان كما لو صلى بعظم نجس والله أعلم.
فرع: في استعمال النجاسات في البدن وغيره خلاف وتفصيل نوضحه إن شاء الله تعالى في باب ما يكره لبسه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الأستاذ هو أبو أسحاق الأسفراييني (ط).

 

ج / 2 ص -431-       الثانية عشرة: إذا توضأ إنسان في طست ثم صب ذلك الماء في بئر فيها ماء كثير لم يفسد الماء، ولم يجب نزح شيء منه عندنا وعند جماهير العلماء. وقال أبو يوسف: يجب نزح جميعها، وقال محمد: ينزح منه عشرون دلوا.
الثانية عشرة: لا يشترط في غسل النجاسة فعل مكلف ولا غيره بل يكفي ورود الماء عليها وإزالة العين، سواء حصل ذلك بغسل مكلف أو مجنون أو صبي أو إلقاء الريح أو نحوها أو بنزول المطر عليه أو مرور السيل أو غيره، نص عليه الشافعي في الأم، واتفق عليه لكن يجيء فيه الوجه السابق في اشتراط النية في إزالة النجاسة، لكنه وجه باطل مخالف للإجماع كما سبق، قال الشافعي والأصحاب: فلو وقع البول ونحوه على أرض فقلع التراب الذي أصابه -فإن استظهر حتى علم أنه لم ينزل البول عن ذلك- كان الموضع طاهرا، وإلا فلا والله أعلم.

تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله
كتاب الصلاة.