المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 3 ص -380-       بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: سُجُودُ التِّلَاوَةِ مَشْرُوعٌ لِلْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرُ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ فَإِذَا مَرَّ بِسَجْدَةٍ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا [مَعَهُ]" فَإِنْ تَرَكَ الْقَارِئُ سَجَدَ الْمُسْتَمِعُ لِأَنَّهُ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمَا فَلَا يَتْرُكُهُ أَحَدُهُمَا بِتَرْكِ الْآخَرِ وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ الْقَارِئَ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَمِعٍ إلَيْهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا أُؤَكِّدُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ1 وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رضي الله عنهم: "السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ اسْتَمَعَ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "السَّجْدَةُ لِمَنْ جَلَسَ لَهَا" وَهُوَ سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبٍ. لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: "عُرِضَتْ النَّجْمُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَسْجُدْ مِنَّا أَحَدٌ".
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ إلَّا قَوْلَهُ: "كَبَّرَ" فَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمَا، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَإِسْنَادُهَا ضَعِيفٌ وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ زَيْدٍ قَالَ:
"قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا" وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ "أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا".
وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَحِيحٌ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَكَذَا الْأَثَرَانِ عَنْ عُثْمَانَ وَعِمْرَانَ ذَكَرَهُمَا الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَسُجُودُ التِّلَاوَةِ سُنَّةٌ لِلْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ بِلَا خِلَافٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَارِئُ فِي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ من "المهذب" عن عمر بدل عثمان ونسخة الشارح أدق (ط).

 

ج / 3 ص -381-       صَلَاةٍ أَمْ لَا، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ ضَعِيفٍ، لَا يَسْجُدُ الْمُسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ مُصَلٍّ، غَيْرَ إمَامِهِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَسَوَاءٌ سَجَدَ الْقَارِئُ أَمْ لَمْ يَسْجُدْ يُسَنُّ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يَسْجُدَ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ لَا يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ إذَا لَمْ يَسْجُدْ الْقَارِئُ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ اسْتَمَعَ إلَى قِرَاءَةِ مُحْدِثٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ صَبِيٍّ فَوَجْهَانِ الصَّحِيحُ اسْتِحْبَابُ السُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَمَعَ سَجْدَةً.
وَالثَّانِي: لَا لِأَنَّهُ كَالتَّابِعِ لِلْقَارِئِ وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَمِعُ لَكِنْ يَسْمَعُ بِلَا إصْغَاءٍ وَلَا قَصْدٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ: الْمَنْصُوصُ فِي "الْبُوَيْطِيِّ" وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَلَا يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ تَأَكُّدَهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَمِعِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْمُسْتَمِعِ وَالثَّالِثُ: لَا يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالْبَنْدَنِيجِيّ.
فرع: الْمُصَلِّي إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا سَجَدَ لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ، فَلَوْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَسْجُدَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِلْعَوْدِ إلَى سُنَّةٍ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ زَائِدًا رُكُوعًا، فَلَوْ بَدَا لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ حَدِّ الرَّكْعَتَيْنِ جَازَ، وَلَوْ هَوَى لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ جَازَ، كَمَا لَوْ قَرَأَ بَعْضَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُتِمَّهُ جَازَ بِلَا شَكٍّ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي الْإِصْغَاءُ إلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ إمَامِهِ، فَإِنْ أَصْغَى الْمُنْفَرِدُ لِقِرَاءَةِ قَارِئٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْجُدَ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ هَذَا الْإِصْغَاءِ، فَإِنْ سَجَدَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إمَامًا فَهُوَ كَالْمُنْفَرِدِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُكْرَهُ لَهُ قِرَاءَةُ آيَةِ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَتْ صَلَاةً جَهْرِيَّةً أَوْ سِرِّيَّةً، هَذَا مَذْهَبُنَا وَسَنَذْكُرُ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ لَزِمَ الْمَأْمُومَ السُّجُودُ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ لِتَخَلُّفِهِ عَنْ الْإِمَامِ، وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْ الْإِمَامُ لَمْ يَسْجُدْ الْمَأْمُومُ، فَإِنْ خَالَفَ وَسَجَدَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْجُدَ بَعْدَ سَلَامِهِ لِيَتَدَارَكَهَا وَلَا يَتَأَكَّدُ وَلَوْ سَجَدَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمَأْمُومُ حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ لَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّفَ بِعُذْرٍ، وَلَكِنْ لَا يَسْجُدُ، فَلَوْ عَلِمَ وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي السُّجُودِ لَزِمَهُ السُّجُودُ، وَلَوْ هَوَى الْمَأْمُومُ لِيَسْجُدَ مَعَهُ فَرَفَعَ الْإِمَامُ وَهُوَ فِي الْهَوِيِّ رَجَعَ مَعَهُ وَلَمْ يَسْجُدْ، وَكَذَا الضَّعِيفُ الْبَطِيءُ الْحَرَكَةِ الَّذِي هَوَى مَعَ الْإِمَامِ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ فَرَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ قَبْلَ انْتِهَائِهِ إلَى الْأَرْضِ لَا يَسْجُدُ بَلْ يَرْجِعُ مَعَهُ بِخِلَافِ سُجُودِ نَفْسِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ، وَإِنْ رَفَعَ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ. وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيُكْرَهُ لَهُ قِرَاءَةُ السَّجْدَةِ وَيُكْرَهُ لَهُ أَيْضًا الْإِصْغَاءُ إلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ إمَامِهِ كَمَا سَبَقَ. فَلَوْ سَجَدَ لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ أَوْ لِقِرَاءَةِ غَيْرِ إمَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ سُجُودًا عَمْدًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَسَجَدَاتُ التِّلَاوَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ سَجْدَةٌ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ عِنْدَ قوله تعالى:
{وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَسَجْدَةٌ فِي الرَّعْدِ عِنْدَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعرف: 205، الرعد:15، النور: 36] وَسَجْدَةٌ فِي النَّحْلِ عِنْدَ قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وَسَجْدَةٌ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ عِنْدَ قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109] وَسَجْدَةٌ فِي مَرْيَمَ عِنْدَ قوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] وَسَجْدَتَانِ فِي الْحَجِّ إحْدَاهُمَا: عِنْدَ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] وَالثَّانِيَةُ: عِنْد

 

ج / 3 ص -382-       قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وَسَجْدَةٌ فِي الْفُرْقَانِ عِنْدَ قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60] وَسَجْدَةٌ فِي النَّمْلِ عِنْدَ قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 25، 26] وَسَجْدَةٌ فِي الم تَنْزِيلُ عِنْدَ قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15] وَسَجْدَةٌ فِي حم السَّجْدَةُ عِنْدَ قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وَثَلَاثُ سَجَدَاتٍ فِي الْمُفَصَّلِ إحْدَاهَا: فِي آخِرِ النَّجْمِ {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] وَالثَّانِيَةُ: فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الإنشقاق: 21] [عِنْدَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ]: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الإنشقاق: 21] وَالثَّالِثَةُ: فِي آخِرِ اقْرَأْ: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: "أَقْرَأَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ وَفِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ" وَفِي "الْقَدِيمِ": سُجُودُ التِّلَاوَةِ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً وَأَسْقَطَ سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إلَى الْمَدِينَةِ".
الشرح: حَدِيثُ عُمَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ هَذِهِ الْأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَفِي "الْقَدِيمِ" أَنَّهَا إحْدَى عَشْرَةَ كَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَهَذَا "الْقَدِيمُ" ضَعِيفٌ فِي النَّقْلِ، وَدَلِيلُهُ بَاطِلٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ. وَمَوَاضِعُ السَّجَدَاتِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: سَجْدَةُ حم السَّجْدَةُ فِيهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْقَاضِي فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصَحُّهُمَا عِنْدَ "يَسْأَمُونَ" كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ وَالثَّانِي: أَنَّهَا عِنْدَ قوله تعالى:
{إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114]. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ وَزَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ رضي الله عنهم، وَحَكَى الْأَوَّلَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا وَأَبِي وَائِلٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ رحمهم الله وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ "الْمَوْضِعُ الثَّانِي" سَجْدَةُ النَّمْلِ الصَّوَابُ أَنَّهَا عِنْدَ قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129، المؤمنون:86] كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ الْمُجَرَّدِ، وَصَاحِبُ "الشَّامِلِ"، وَشَذَّ الْعَبْدَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَالَ فِي كِتَابِهِ "الْكِفَايَةُ": هِيَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] قَالَ: هَذَا مَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ هِيَ عِنْدَ قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129، 86] وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ الْعَبْدَرِيُّ وَنَقْلُهُ عَنْ مَذْهَبِنَا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا سَجْدَةُ [ص] فَهِيَ عِنْدَ قوله تعالى:
{وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] وَلَيْسَتْ مِنْ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ وَإِنَّمَا هِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: "خَطَبَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَرَأَ "ص" فَلَمَّا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ تَشَزَّنَّا بِالسُّجُودِ فَلَمَّا قَالَ: إنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنْ قَدْ اسْتَعْدَدْتُمْ لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ" وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

 

ج / 3 ص -383-       قَالَ: "سَجَدَهَا نَبِيُّ الله دَاوُد تَوْبَةً، وَسَجَدْنَاهَا شُكْرًا" فَإِنْ قَرَأَهَا فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَ فِيهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ فَبَطَلَتْ بِهَا الصَّلَاةُ كَالسُّجُودِ عِنْدَ تَجَدُّدِ نِعْمَةٍ وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالتِّلَاوَةِ فَهِيَ كَسَائِرِ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ.
الشرح: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَقَوْلُهُ: تَشَزَّنَّا هُوَ بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ، ثُمَّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، ثُمَّ زَايٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ نُونٍ مُشَدَّدَةٍ أَيْضًا أَيْ تَهَيَّأْنَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: سَجْدَةُ "ص" لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ مَعْنَاهُ لَيْسَتْ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ وَلَكِنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ هِيَ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ فَقَرَأَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَسْجُدَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ السَّابِقِ. وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي "ص" رَوَاهُ1.
وَإِنْ قَرَأَهَا فِي الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْجُدَ فَإِنْ خَالَفَ وَسَجَدَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ سَجَدَهَا عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا، وَلَوْ سَجَدَ إمَامُهُ فِي "ص" لِكَوْنِهِ يَعْتَقِدُهَا فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: لَا يُتَابِعُهُ، بَلْ إنْ شَاءَ نَوَى مُفَارَقَتَهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ شَاءَ يَنْتَظِرُهُ قَائِمًا كَمَا لَوْ قَامَ إلَى خَامِسَةٍ لَا يُتَابِعُهُ، بَلْ إنْ شَاءَ فَارَقَهُ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَهُ فَإِنْ انْتَظَرَهُ لَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَا سُجُودَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: لَا يُتَابِعُهُ أَيْضًا وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْمُفَارَقَةِ وَالِانْتِظَارِ كَمَا سَبَقَ فَإِنْ انْتَظَرَهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ إمَامَهُ زَادَ فِي صَلَاتِهِ جَاهِلًا، وَأَنَّ لِسُجُودِ السَّهْوِ تَوَجُّهًا عَلَيْهِمَا، فَإِذَا أَخَلَّ بِهِ الْإِمَامُ سَجَدَ الْمَأْمُومُ. وَالثَّالِثُ: يُتَابِعُهُ فِي سُجُودِهِ فِي "ص" حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ لِتَأَكُّدِ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَتَأْوِيلِهِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ وَاجِبًا، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد و غَيْرُهُمْ رضي الله عنهم.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الأنشقاق: 12] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] وَبِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْهَا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ. فَإِنْ قَالُوا:


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل "ش" أقول: وتتمة العبارة يمكن أن تكون رواه أحمد في "مسنده"، وأبو داود والتمذي والنسائي في "تفسيره" لأننا وجدنا بالبحث هكذا "المطيعي".

 

ج / 3 ص -384-       لَعَلَّهُ سَجَدَ فِي وَقْتٍ آخَرَ قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُطْلِقْ الرَّاوِي نَفْيَ السُّجُودِ، فَإِنْ قَالُوا: لَعَلَّ زَيْدًا قَرَأَهَا بَعْدَ الصُّبْحِ أَوْ الْعَصْرِ وَلَا يَحِلُّ السُّجُودُ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِالِاتِّفَاقِ، قُلْنَا: لَوْ كَانَ سَبَبُ التَّرْكِ مَا ذَكَرُوهُ لَمْ يُطْلِقْ زَيْدٌ النَّفْيَ وَزَمَنَ الْقِرَاءَةِ، وَمِنْ الدَّلَائِلِ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَبَقَ مَرَّاتٍ، وَاحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْلِ حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَهَا حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ " وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ السُّجُودَ إلَّا أَنْ نَشَاءَ" رَوَى الْبُخَارِيُّ الرِّوَايَتَيْنِ بِلَفْظِهِمَا. وَهَذَا الْفِعْلُ وَالْقَوْلُ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَالْمَجْمَعُ الْعَظِيمُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ فِي إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ حَتَّى يَثْبُتَ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِهِ وَلَا مُعَارِضَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى هَذَا، وَقِيَاسًا عَلَى سُجُودِ الشُّكْرِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالِاتِّفَاقِ فِي السَّفَرِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ كَسُجُودِ صَلَاةِ الْفَرْضِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا فَهِيَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ وَتَرْكِهِمْ السُّجُودَ اسْتِكْبَارًا وَجُحُودًا، وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ سُجُودُ الصَّلَاةِ وَالْأَحَادِيثُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي عَدَدِ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا الصَّحِيحَ أَنَّهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْهَا سَجْدَتَانِ فِي الْحَجِّ، وَثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ وَلَيْسَتْ "ص" سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، لَكِنَّهُ أَسْقَطَ الثَّانِيَةَ مِنْ الْحَجِّ وَأَثْبَتَ "ص"، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَقَوْلِنَا وَأَشْهَرُهُمَا إحْدَى عَشْرَةَ أَسْقَطَ سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَقَوْلِنَا وَالثَّانِيَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَثْبَتَ "ص" وَهَذَا مَذْهَبُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا سَبَقَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى السَّجْدَةِ الْأُولَى فِي الْحَجِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّانِيَةِ، فَمَنْ أَثْبَتَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَعَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةَ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد رضي الله عنهم. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ يَعْنِي السَّبِيعِيَّ التَّابِعِيَّ الْكَبِيرَ: "أَدْرَكْتُ النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَسْجُدُونَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ" وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ إسْقَاطَهَا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِإِثْبَاتِهَا أَقُولُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ وَهِيَ النَّجْمُ، وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1]، وَاقْرَأْ، فَأَثْبَتَهُنَّ الْجُمْهُورُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَحَذَفَهُنَّ جَمَاعَةٌ، احْتَجَّ أَصْحَابُنَا لِلْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ سَجْدَةُ "ص" فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى السُّجُودِ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ سُجُودُ شُكْرٍ كَمَا سَنُوَضِّحُ دَلِيلَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَجَدَ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَقَالَ: "سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ" وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: "فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1].

 

ج / 3 ص -385-       وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إنَّمَا أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَوْ صَحَّ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلسُّجُودِ، وَالْعُمْدَةُ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْحَجِّ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَاصٍ قَالَ:
"قُلْتُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا" فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَا: لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَتِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ لِأُبَيِّنَهُ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "سَجْدَةُ ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِيهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِيهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَحُكْمُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ حُكْمُ صَلَاةِ النَّفْلِ يَفْتَقِرُ إلَى الطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ سَجَدَ بِتَكْبِيرٍ وَرَفَعَ بِتَكْبِيرٍ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ السُّجُودُ فِي آخِرِ سُورَةٍ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ وَيَقْرَأَ مِنْ السُّورَةِ بَعْدَهَا شَيْئًا ثُمَّ يَرْكَعُ، فَإِنْ قَامَ وَلَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا وَرَكَعَ جَازَ، وَإِنْ قَامَ مِنْ السُّجُودِ إلَى الرُّكُوعِ وَلَمْ يَقُمْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْ الرُّكُوعَ مِنْ قِيَامٍ.
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: حُكْمُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي الشُّرُوطِ حُكْمُ صَلَاةِ النَّفْلِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَالطَّهَارَةُ عَنْ النَّجَسِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَدُخُولُ وَقْتِ السُّجُودِ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ قَرَأَ الْآيَةَ أَوْ سَمِعَهَا فَلَوْ سَجَدَ قَبْلَ الِانْتِهَاءِ إلَى آخِرِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَلَوْ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ "السِّتَارَةُ" بِكَسْرِ السِّينِ، وَهِيَ السُّتْرَةُ، أَيْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُكَبِّرْ لِلِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَرِّمٌ بِالصَّلَاةِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ فِي الْهَوِيِّ إلَى السُّجُودِ وَلَا يَرْفَعُ الْيَدَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تُرْفَعُ فِي الْهُوِيِّ إلَى السُّجُودِ، وَيُكَبِّرُ عِنْدَ رَفْعِهِ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ كَمَا يَفْعَلُ فِي سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَهَذَا التَّكْبِيرُ سُنَّةٌ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ لِلْهَوِيِّ وَلَا لِلرَّفْعِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَامَ وَلَا يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ بِلَا خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا قَامَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا ثُمَّ يَرْكَعَ، فَإِنْ انْتَصَبَ قَائِمًا ثُمَّ رَكَعَ بِلَا قِرَاءَةٍ جَازَ إذَا كَانَ قَدْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ قَبْلَ سُجُودِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الِانْتِصَابِ قَائِمًا؛ لِأَنَّ الْهَوِيَّ إلَى الرُّكُوعِ مِنْ الْقِيَامِ وَاجِبٌ كَمَا سَبَقَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ وَسَبَقَ هُنَاكَ مَسَائِلُ حَسَنَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي "الْإِبَانَةِ" و"الْبَيَانِ" وَجْهٌ أَنَّهُ لَوْ رَفَعَ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ إلَى الرُّكُوعِ وَلَمْ يَنْتَصِبْ أَجْزَأَهُ الرُّكُوعُ، وَهُوَ غَلَطٌ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ "وَإِنْ كَانَ السُّجُودُ فِي آخِرِ سُورَةٍ" فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْذِفَ قَوْلَهُ " آخِرِ سُورَةٍ " لِأَنَّ اسْتِحْبَابَ الْقِرَاءَةِ بَعْدَ الِانْتِصَابِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ آخِرِ سُورَةٍ وَغَيْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ التَّنْبِيهَ بِآخِرِ السُّورَةِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا

 

ج / 3 ص -386-       أَحَبَّ اسْتِفْتَاحَ سُورَةٍ أُخْرَى فَإِتْمَامُ الْأُولَى أَوْلَى، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا قَرَأَ الْمُصَلِّي آيَةَ سَجْدَةٍ ثُمَّ رَكَعَ لِلصَّلَاةِ وَسَجَدَ سَقَطَ بِهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سَقَطَ فِي الرُّكُوعِ، وَرُوِيَ بِالسُّجُودِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَبَّرَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَكْبِيرَةُ افْتِتَاحٍ فَهِيَ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً أُخْرَى لِلسُّجُودِ وَلَا يَرْفَعُ الْيَدَ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ: سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ" وَإِنْ قَالَ: اللَّهُمَّ اُكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَك ذُخْرًا وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا وَاقْبَلْهَا مِنِّي كَمَا قَبِلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُد عليه السلام. فَهُوَ حَسَنٌ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
"أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ وَكَأَنِّي قَرَأْت سَجْدَةً، فَسَجَدْتُ فَرَأَيْتُ الشَّجَرَةَ تَسْجُدُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ سَاجِدَةٌ تَقُولُ: "اللَّهُمَّ اُكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَك أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا قَبِلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُد. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سَجْدَةً فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ الرَّجُلُ عَنْ الشَّجَرَةِ" وَإِنْ قَالَ فِيهِ مَا يَقُولُ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ جَازَ وَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى السَّلَامِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ قَالَ فِي "الْبُوَيْطِيِّ": لَا يُسَلِّمُ كَمَا يُسَلِّمُ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ. وَرَوَى الْمُزَنِيّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُسَلِّمُ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَفْتَقِرُ إلَى الْإِحْرَامِ فَافْتَقَرَتْ إلَى السَّلَامِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَهَلْ تَفْتَقِرُ إلَى التَّشَهُّدِ؟ "الْمَذْهَبُ" أَنَّهُ لَا يَتَشَهَّدُ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيَامَ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَشَهُّدٌ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَتَشَهَّدُ؛ لِأَنَّهُ سُجُودٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ فَافْتَقَرَ إلَى التَّشَهُّدِ كَسُجُودِ الصَّلَاةِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَإِسْنَادُ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، زَادَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِيهِ
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. قَالَ الْحَاكِمُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ: أَصْحَابُنَا رحمهم الله: إذَا سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ نَوَى وَكَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي هَذِهِ التَّكْبِيرَةِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً أُخْرَى لِلْهَوِيِّ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الْيَدِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: تَكْبِيرُ الْهَوِيِّ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَفِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَوْجُهُ الصَّحِيحُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهَا شَرْطٌ وَالثَّانِي: مُسْتَحَبَّةٌ وَالثَّالِثُ: لَا تُشْرَعُ أَصْلًا، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ وَاتَّفَقُوا عَلَى شُذُوذِهِ وَفَسَادِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ هَذَا شَاذٌّ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ وَالله أَعْلَمُ.
وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ أَنْ يَقُومَ فَيَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ يُكَبِّرَ لِلْإِحْرَامِ، ثُمَّ يَهْوِيَ لِلسُّجُودِ بِالتَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يُسْتَحَبُّ قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ

 

ج / 3 ص -387-       وَالْمُتَوَلِّي وَتَابَعَهُمْ الرَّافِعِيُّ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ: لَا يُسْتَحَبُّ، وَهَذَا اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُحَقِّقِينَ. قَالَ الْإِمَامُ وَلَمْ أَرَ لِهَذَا الْقِيَامِ ذِكْرًا وَلَا أَصْلًا "قُلْتُ": وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ هَذَا الْقِيَامَ وَلَا ثَبَتَ فِيهِ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ، فَالِاخْتِيَارُ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْمُحْدَثَاتِ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الْأَزْدِيَّةِ قَالَتْ: "رَأَيْتُ عَائِشَةَ تَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فَإِذَا مَرَّتْ بِسَجْدَةٍ قَامَتْ فَسَجَدَتْ" فَهُوَ ضَعِيفٌ، أُمُّ سَلَمَةَ هَذِهِ مَجْهُولَةٌ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قَوْلُهُ: سَجَدَ وَجْهِي إلَى آخِرِهِ وَسُجُودُ الشَّجَرَةِ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ مَا يَقُولُهُ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ جَازَ وَكَانَ حَسَنًا وَسَوَاءٌ فِيهِ التَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ إسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ اخْتِيَارَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ: سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي مَدْحَ هَذَا فَهُوَ حَسَنٌ، وَصِفَةُ هَذَا السُّجُودِ صِفَةُ سُجُودِ الصَّلَاةِ فِي كَشْفِ الْجَبْهَةِ وَوَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالْأَنْفِ، وَمُجَافَاةِ الْمِرْفَقَيْنِ عَنْ الْجَنْبَيْنِ وَإِقْلَالِ الْبَطْنِ عَنْ الْفَخِذَيْنِ، وَرَفْعِ أَسَافِلِهِ عَلَى أَعَالِيهِ وَتَوْجِيهِ أَصَابِعِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، فَالْمُبَاشَرَةُ بِالْجَبْهَةِ شَرْطٌ وَوَضْعُ الْأَنْفِ مُسْتَحَبٌّ، وَكَذَا مُجَافَاةُ الْمِرْفَقِ وَإِقْلَالُ الْبَطْنِ وَتَوْجِيهُ الْأَصَابِعِ، وَفِي اشْتِرَاطِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ هُنَاكَ بِفُرُوعِهِمَا، وَحُكْمُ رَفْعِ الْأَسَافِلِ عَلَى مَا سَبَقَ هُنَاكَ وَالطُّمَأْنِينَةُ رُكْنٌ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَالذِّكْرُ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِرُكْنٍ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، وَهَذَا التَّكْبِيرُ مُسْتَحَبٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.
وَهَلْ يُسْتَحَبُّ مَدُّ تَكْبِيرِ السُّجُودِ وَالرَّفْعُ مِنْهُ؟ يَجِيءُ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَدُّ الْأَوَّلِ حَتَّى يَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَدُّ الثَّانِي حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا, وَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى السَّلَامِ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ سُجُودِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ نَقَلَهُمَا الْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ كَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ اشْتِرَاطُهُ، مِمَّنْ صَحَّحَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِمَا" وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ السَّلَامُ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّشَهُّدُ، وَإِنْ شَرَطْنَا السَّلَامَ فَفِي اشْتِرَاطِ التَّشَهُّدِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ، الصَّحِيحُ مِنْهُمَا لَا يُشْتَرَطُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ: فِي السَّلَامِ وَالتَّشَهُّدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: يُشْتَرَطُ السَّلَامُ دُونَ التَّشَهُّدِ وَالثَّانِي: يُشْتَرَطَانِ وَالثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ التَّشَهُّدُ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَصَحُّهُمَا لَا يُسْتَحَبُّ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَصْلٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي "التَّنْبِيهِ": قِيلَ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، وَقِيلَ: يُسَلِّمُ وَلَا يَتَشَهَّدُ، وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يَتَشَهَّدُ وَلَا يُسَلِّمُ، فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَوْهَمَ أَوْ صَرَّحَ بِأَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ وَلَيْسَ لَهُ نَصٌّ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ الْقَوْلَانِ فِي اشْتِرَاطِ السَّلَامِ مَشْهُورَانِ كَمَا ذَكَرَهُمَا هُوَ هَاهُنَا فِي "الْمُهَذَّبِ"، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْهَمَ أَوْ صَرَّحَ بِأَنَّ الرَّاجِحَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ اشْتِرَاطُ السَّلَامِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَالله أَعْلَمُ.

 

ج / 3 ص -388-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنْ مَرَّتْ بِهِ آيَةُ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَمَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا سَأَلَ وَلَا بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا اسْتَعَاذَ" وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِي سُؤَالِ الرَّحْمَةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْعَذَابِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَسَاوَى الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ فِيهِ كَالتَّأْمِينِ.
الشرح:
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا: يُسَنُّ لِلْقَارِئِ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا إذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الرَّحْمَةَ أَوْ بِآيَةِ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ، أَوْ بِآيَةِ تَسْبِيحٍ أَنْ يُسَبِّحَ أَوْ بِآيَةٍ مَثَلُ أَنْ يَتَدَبَّرَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَإِذَا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] قَالَ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الشَّاهِدِينَ، وَإِذَا قَرَأَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50] قَالَ: آمَنَا بِالله، وَكُلُّ هَذَا يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ قَارِئٍ فِي صَلَاتِهِ أَوْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ صَلَاةُ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَالْمَأْمُومُ وَالْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَاسْتَوَوْا فِيهِ كَالتَّأْمِينِ، وَدَلِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إذَا مَضَى بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ سُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَكَانَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ حِينَئِذٍ مُقَدَّمَةً عَلَى آلِ عِمْرَانَ.
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "قُمْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَكَ ذَا الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِي "سُنَنِهِمَا" وَالتِّرْمِذِيُّ فِي "الشَّمَائِلِ" بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ: ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ رُكُوعِهِ. وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ:
"سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قَرَأَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إلَى آخِرِهَا فَلْيَقُلْ وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الشَّاهِدِينَ. وَمَنْ قَرَأَ {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَانْتَهَى إلَى آخِرِهَا: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسَلَاتِ فَبَلَغَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50]، فَلْيَقُلْ آمَنَّا بِالله" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا يُرْوَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا يُسَمَّى.
"قُلْتُ": فَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ مَجْهُولٌ فَلَا يُعْلَمْ حَالُهُ، وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُنَا قَدْ احْتَجُّوا بِهِ وَالله أَعْلَمُ.
هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يُكْرَهُ السُّؤَالُ عِنْدَ آيَةِ الرَّحْمَةِ وَالِاسْتِعَاذَةُ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ بِمَذْهَبِنَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَجَدَّدَتْ عِنْدَهُ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ انْدَفَعَتْ عَنْهُ نِقْمَةٌ ظَاهِرَةٌ أَنْ يَسْجُدَ شُكْرًا لِلّهِ تَعَالَى لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم

 

ج / 3 ص -389-       إذَا جَاءَهُ الشَّيْءُ يُسَرُّ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى" وَحُكْمُ سُجُودِ الشُّكْرِ فِي الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ حُكْمُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ.
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ: وَلَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: سُجُودُ الشُّكْرِ سُنَّةٌ عِنْدَ تَجَدُّدِ نِعْمَةٍ ظَاهِرَةٍ وَانْدِفَاعِ نِقْمَةٍ ظَاهِرَةٍ، سَوَاءٌ خَصَّتْهُ النِّعْمَةُ وَالنِّقْمَةُ أَوْ عَمَّتْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَا إذَا رَأَى مُبْتَلًى بِبَلِيَّةٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِمَعْصِيَةٍ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْجُدَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِاسْتِمْرَارِ النِّعَمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا سَجَدَ لِنِعْمَةٍ أَوْ انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ اُسْتُحِبَّ إظْهَارُ السُّجُودِ وَإِنْ سَجَدَ لِبَلِيَّةٍ فِي غَيْرِهِ وَصَاحِبُهَا غَيْرُ مَعْذُورٍ كَالْفَاسِقِ أَظْهَرَ السُّجُودَ فَلَعَلَّهُ يَتُوبُ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا كَالزَّمِنِ وَنَحْوِهِ أَخْفَاهُ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِهِ، فَإِنْ خَافَ مِنْ إظْهَارِهِ لِلْفَاسِقِ مَفْسَدَةً أَوْ ضَرَرًا أَخْفَاهُ أَيْضًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَفْتَقِرُ سُجُودُ الشُّكْرِ إلَى شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَحُكْمُهُ فِي الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا حُكْمُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: وَفِي السَّلَامِ مِنْهُ وَالتَّشَهُّدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كَمَا فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ الصَّحِيحُ: السَّلَامُ دُونَ التَّشَهُّدِ وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطَانِ وَالثَّالِثُ: يُشْتَرَطَانِ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى تَحْرِيمِ سُجُودِ الشُّكْرِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ سَجَدَهَا فِيهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا فِي مَسْأَلَةِ سَجْدَةِ ص، وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ سَجَدَ بِهَا لِلشُّكْرِ فَفِي جَوَازِ السُّجُودِ وَجْهَانِ فِي "الشَّامِلِ" و "الْبَيَانِ" وَغَيْرِهِمَا أَصَحُّهُمَا تَحْرُمُ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ دَخَلَ لِلْمَسْجِدِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ.
فرع: فِي صِحَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ بِالْإِيمَاءِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ جَازَ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَبَعًا لِلصَّلَاةِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ وَجِهَةُ الْمَنْعِ نُدُورُهُ، وَعَدَمُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ غَالِبًا، بِخِلَافِ صَلَاةِ النَّفْلِ. وَقَطَعَ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ بِالْجَوَازِ وَمَسْأَلَةُ الْخِلَافِ فِيمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِيمَاءِ فَإِنْ كَانَ فِي مَرْقَدٍ وَنَحْوِهِ وَأَتَمَّ السُّجُودَ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْمَاشِي فِي السَّفَرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ شُرُوطُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ وَنُدُورِهِ وَالثَّانِي: يُجْزِيهِ الْإِيمَاءُ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.
فرع: لَوْ تَصَدَّقَ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ النِّعْمَةُ أَوْ انْدَفَعَتْ عَنْهُ النِّقْمَةُ أَوْ صَلَّى شُكْرًا لِلّهِ تَعَالَى كَانَ حَسَنًا يَعْنِي مَعَ فِعْلِهِ سَجْدَةَ الشُّكْرِ.
فرع: لَوْ خَضَعَ إنْسَانٌ لِلّهِ تَعَالَى فَتَقَرَّبَ بِسَجْدَةٍ بِغَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي سُجُودَ شُكْرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، قَالَهُ صَاحِبُ "التَّقْرِيبِ" وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ، صَحَّحَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَكَانَ شَيْخِي - يَعْنِي أَبَا مُحَمَّدٍ - يُشَدِّدُ فِي إنْكَارِ هَذَا السُّجُودِ وَاسْتَدَلُّوا لِهَذَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الرُّكُوعِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَطَوَّعَ بِرُكُوعٍ مُفْرَدًا كَانَ حَرَامًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ إلَّا مَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِثْنَائِهِ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْخِلَافِ فِي تَحْرِيمِ

 

ج / 3 ص -390-       السَّجْدَةِ مَا يُفْعَلُ بَعْدَ صَلَاةٍ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْجَهَلَةِ مِنْ السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَشَايِخِ، بَلْ ذَلِكَ حَرَامٌ قَطْعًا بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَسَوَاءٌ قَصَدَ السُّجُودَ لِلّهِ تَعَالَى أَوْ غَفَلَ، وَفِي بَعْضِ صُوَرِهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ أَوْ يُقَارِبُهُ، عَافَانَا اللَّهُ الْكَرِيمُ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي آخِرِ بَابِ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ فَاتَتْ سَجْدَةُ الشُّكْرِ فَهَلْ يُشْرَعُ قَضَاؤُهَا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، قَالَ صَاحِبُ "التَّقْرِيبِ": فِيهِ الْخِلَافُ فِي قَضَاءِ الرَّوَاتِبِ وَقَطَعَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا تُقْضَى وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَتَطَوَّعُ بِمِثْلِهِ ابْتِدَاءً أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ صَاحِبِ "التَّقْرِيبِ" يَتَطَوَّعُ بِهِ كَمَا سَبَقَ فَيُشْبِهُ الرَّوَاتِبَ وَعِنْدَ غَيْرِهِ يَحْرُمُ التَّطَوُّعُ بِسَجْدَةٍ فَلَا تُقْضَى كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَ تَجَدُّدِ نِعْمَةٍ أَوْ انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيٍّ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهم.
وَعَنْ إِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِهِ أَقُولُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُكْرَهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ النَّخَعِيِّ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا: الْكَرَاهَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ الْمُنْذِرِ غَيْرَهَا وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ سُنَّةً، وَاحْتُجَّ لِمَنْ كَرِهَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"شَكَا إلَيْهِ رَجُلٌ الْقَحْطَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا فَسُقُوا فِي الْحَالِ، وَدَامَ الْمَطَرُ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يَرْفَعْهُ عَنَّا، فَدَعَا فَرُفِعَ فِي الْحَالِ" وَالْحَدِيثُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْجُدْ لِتَجَدُّدِ نِعْمَةِ الْمَطَرِ أَوَّلًا وَلَا لِدَفْعِ نِقْمَتِهِ آخِرًا، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ نِعْمَةٍ فَإِنْ كُلِّفَهُ لَزِمَ الْحَرَجُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَلَمَّا كُنَّا قَرِيبًا مِنْ حَرُورَاءَ نَزَلَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى سَاعَةً ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا، فَمَكَثَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَمَكَثَ طَوِيلًا ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ قَالَ:
"إنِّي سَأَلْتُ رَبِّي وَشَفَعْتُ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي فَخَرَرْتُ لِرَبِّي شُكْرًا ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي فَسَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِي الثُّلُثَ الْآخَرَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد لَا نَعْلَمُ ضَعْفَ أَحَدٍ مِنْ رُوَاتِهِ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد، وَمَا لَمْ يُضَعِّفْهُ فَهُوَ عِنْدَهُ حَسَنٌ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "خَرَّ سَاجِدًا [حِينَ] جَاءَهُ كِتَابُ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنْ الْيَمَنِ بِإِسْلَامِ هَمْدَانَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ جُمْلَةِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي حَدِيثِ تَوْبَتِهِ قَالَ: "فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ سُجُودَ الشُّكْرِ مِنْ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رضي الله عنهم.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ تَرَكَ السُّجُودَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بَيَانًا لِلْجَوَازِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي السُّجُودِ حِينَئِذٍ مَشَقَّةٌ أَوْ اكْتَفَى بِسُجُودِ الصَّلَاةِ وَالْجَوَابُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ أَوْ غَيْرِهَا مُتَعَيَّنٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

 

ج / 3 ص -391-       فَصْلٌ: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ
إحْدَاهَا: إذَا قَرَأَ آيَاتِ السَّجَدَاتِ فِي مَكَان وَاحِدٍ سَجَدَ لِكُلِّ سَجْدَةٍ فَلَوْ كَرَّرَ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الْمَجْلِسِ نُظِرَ إنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى كَفَاهُ لِلْجَمِيعِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ سَجَدَ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يَسْجُدُ مَرَّةً أُخْرَى لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، وَالثَّانِي: تَكْفِيه الْأُولَى قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالثَّالِثُ: إنْ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا سَجَدَ ثَانِيًا وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ كَرَّرَ آيَةً فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ فِي رَكْعَةٍ فَكَالْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ فِي رَكْعَتَيْنِ سَجَدَ لِلثَّانِيَةِ أَيْضًا كَالْمَجْلِسَيْنِ، وَلَوْ قَرَأَ مَرَّةً فِي الصَّلَاةِ وَمَرَّةً خَارِجَهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَسَجَدَ لِلْأُولَى، قَالَ الرَّافِعِيُّ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِلْأَصْحَابِ، قَالَ: وَإِطْلَاقُهُمْ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلَافِ فِيهِ.
وَالثَّانِيَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ عَقِبَ قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ أَوْ اسْتِمَاعِهَا فَإِنْ أَخَّرَ وَقَصُرَ الْفَصْلُ سَجَدَ، وَإِنْ طَالَ فَاتَتْ وَهَلْ تُقْضَى؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ "التَّقْرِيبِ" وَتَابَعُوهُ عَلَيْهِمَا أَظْهَرُهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالصَّيْدَلَانِيّ وَآخَرُونَ: لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَضَبْطُ طُولِ الْفَصْلِ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَرَأَ سَجْدَةً فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ سَجَدَ بَعْدَ سَلَامِهِ إنْ قَصُرَ الْفَصْلُ، فَإِنْ طَالَ فَفِيهِ الْخِلَافُ. وَلَوْ كَانَ الْقَارِئُ أَوْ الْمُسْتَمِعُ مُحْدِثًا حَالَ الْقِرَاءَةِ فَإِنْ تَطَهَّرَ عَلَى قُرْبٍ سَجَدَ وَإِلَّا فَالْقَضَاءُ عَلَى الْخِلَافِ. وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي فَقَرَأَ قَارِئٌ السَّجْدَةَ وَسَمِعَهُ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْجُدَ فَإِنْ سَجَدَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَإِذَا لَمْ يَسْجُدْ وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ هَلْ يَسْجُدُ؟ فِيهِ طُرُقٌ، قَالَ صَاحِبُ "التَّقْرِيبِ": فِيهِ الْقَوْلَانِ وَقَالَ الْبَغَوِيّ يَحْسُنُ أَنْ يَسْجُدَ وَلَا يَتَأَكَّدُ كَمَا يُجِيبُ الْمُؤَذِّنَ إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَسْجُدُ قَطْعًا وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" ، وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّهِ فِي "الْبُوَيْطِيِّ" وَقَطَعَ بِهِ أَيْضًا الشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ غَيْرِ إمَامِهِ لَا تَقْتَضِي سُجُودَهُ كَمَا سَبَقَ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَا تَقْتَضِي إذًا فَكَيْفَ يَقْضِي؟.
وَالثَّالِثَةُ: لَوْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلَاة قَبْلَ الْفَاتِحَةِ سَجَدَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَرَأَهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ فَإِنَّهُ لَا يَسْجُدُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ قِرَاءَةٍ، وَلَوْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فَهَوَى لِيَسْجُدَ فَشَكَّ هَلْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ؟ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْقِيَامِ فَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ. ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ.
الرَّابِعَةُ: لَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَمْ يَسْجُدْ عِنْدَنَا كَمَا لَوْ فَسَّرَ آيَةَ سَجْدَةٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَسْجُدُ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُكْرَهُ قِرَاءَةُ السَّجْدَةِ عِنْدَنَا لِلْإِمَامِ كَمَا لَا يُكْرَهُ لِلْمُنْفَرِدِ سَوَاءٌ كَانَتْ صَلَاةً سِرِّيَّةً أَوْ جَهْرِيَّةً، وَيَسْجُدُ مَتَى قَرَأَهَا وَقَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ مُطْلَقًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُكْرَهُ فِي السِّرِّيَّةِ دُونَ الْجَهْرِيَّةِ قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ: وَعَلَى مَذْهَبِنَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ السُّجُودِ حَتَّى يُسَلِّمَ لِئَلَّا يُهَوِّشَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ.

 

ج / 3 ص -392-       السَّادِسَةُ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ. وَبِهِ قَالَ سَالِمُ بْنُ عُمَرَ1 وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُكْرَهُ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ رضي الله عنهم.
السَّابِعَةُ: لَا يَقُومُ الرُّكُوعُ مَقَامَ السُّجُودِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ الْقِيَاسُ عَلَى سُجُودِ الصَّلَاةِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَخَرَّ رَاكِعاً} [ص: 24] وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْخُضُوعُ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ شَرْعُنَا حَمَلْنَا الرُّكُوعَ هُنَا عَلَى السُّجُودِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْمَقْصُودُ الْخُضُوعُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الرُّكُوعَ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْخُضُوعِ مَا فِي السُّجُودِ، فَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ السُّجُودِ فَيُومِئُ بِهِ كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ.
الثَّامِنَةُ: إذَا سَجَدَ الْمُسْتَمِعُ مَعَ الْقَارِئِ لَا يَرْتَبِطُ بِهِ وَلَا يَنْوِي الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَلَهُ الرَّفْعُ مِنْ السُّجُود قَبْلَهُ.
التَّاسِعَةُ: لَوْ سَجَدَ لِتِلَاوَةٍ فَقَرَأَ فِي سُجُودِهِ سَجْدَةً أُخْرَى لَمْ يَسْجُدْ ثَانِيًا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَحَكَى صَاحِبُ "الْبَحْرِ" - وَجْهًا - أَنَّهُ يَسْجُدُ ثَانِيًا وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ.
الْعَاشِرَةُ: لَوْ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ سَجْدَةً، قَالَ صَاحِبُ "الْبَحْرِ": لَا يَسْجُدُ فِيهَا، وَهَلْ يَسْجُدْ بَعْدَ فَرَاغِهَا؟ قَالَ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا يَسْجُدُ قَالَ: وَأَصْلُهُمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَا تُشْرَعُ هَلْ يُسْجَدُ لِتِلَاوَتِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قِرَاءَةِ آيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ فِيهِمَا سَجْدَةٌ لِيَسْجُدَ لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ كَلَامًا وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَلَا فِي صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِيُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ سَمِعَ رَجُلٌ قِرَاءَةَ امْرَأَةٍ السَّجْدَةَ اُسْتُحِبَّ لَهُ السُّجُودُ، هَذَا مَذْهَبُنَا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ.
فرع: فِي فَضْلِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَاهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ".


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله سالم بن عبد الله بن عمر وإنما قال ابن عمر مجازاً (ط).

 

ج / 3 ص -393-       فرع: إذَا كَانَ الْمُسَافِرُ قَارِئًا فَقَرَأَ السَّجْدَةَ فِي صَلَاةٍ سَجَدَ بِالْإِيمَاءِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ سَجَدَ بِالْإِيمَاءِ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد: يَسْجُدُ مُطْلَقًا.
"تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع بإذن الله تعالى وأوله"
باب ما يفسد الصلاة ويكره فيها