المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ: مَوْقِفِ الْإِمَامِ
قال المصنف رحمه الله تعالى:"السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ

 

ج / 4 ص -130-       فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ" فَإِنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ رَجَعَ إلَى يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ عَلَّمَهُ الْإِمَامُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِابْنِ عَبَّاسٍ. فَإِنْ جَاءَ آخَرُ أَحْرَمَ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ أَوْ يَتَأَخَّرُ الْمَأْمُومَانِ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: "قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَجَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا جَمِيعًا فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ" وَلِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ الثَّانِي لَمْ يَتَغَيَّرْ مَوْقِفُ الْأَوَّلِ وَلَا يَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهِ فَإِنْ حَضَرَ رَجُلَانِ اصْطَفَّا خَلْفَهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَإِنْ حَضَرَ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ اصْطَفَّا خَلْفَهُ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ" وَإِنْ حَضَرَ رِجَالٌ وَصِبْيَانٌ يُقَدَّمُ الرِّجَالُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" فَإِنْ كَانَتْ مَعَهُمْ امْرَأَةٌ وَقَفَتْ خَلْفَهُمْ لِحَدِيثِ أَنَسٍ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ خُنْثَى وَقَفَ الْخُنْثَى خَلْفَ الرِّجَالِ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْخُنْثَى؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً فَلَا يَقِفُ مَعَ الرِّجَالِ".
 الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَحَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ "لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "لِيَلِيَنِي" ضَبَطْنَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: لِيَلِنِي بَعْدَ اللَّامِ نُونٌ مُخَفَّفَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا يَاءٌ والثاني: لِيَلِيَنِّي بِزِيَادَةِ يَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَشْدِيدِ النُّونِ فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ: صَحِيحَانِ، وَرَوَوْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِهِمَا وَرُبَّمَا قَرَأَهُ بَعْضُ النَّاسِ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ قوله: صلى الله عليه وسلم "أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى" مَعْنَاهُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ الْكَامِلُونَ فِي الْفَضِيلَةِ قوله: عَنْ يَسَارِهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَكَسَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ. وَالصِّبْيَانُ بِكَسْرِ الصَّادِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ كَسْرَهَا وَضَمَّهَا، وَالْعَجُوزُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هِيَ أَمُّ سُلَيْمٍ كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْيَتِيمُ اسْمُهُ ضُمَيْرَةُ بْنُ سَعْدٍ الْحِمْيَرِيُّ الْمَدَنِيُّ وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ - بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ - وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبَّارِ بْنِ صَخْرِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ - بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ - الْمَدَنِيُّ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَسَائِرَ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلَاثِينَ رضي الله عنه.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَفِيهِ مَسَائِلُ إحداها: السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ الْوَاحِدُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ رَجُلًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ مُسَاوَاةِ الْإِمَامِ قَلِيلًا فَإِنْ خَالَفَ وَوَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ خَلْفَهُ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى يَمِينِهِ وَيَحْتَرِزَ عَنْ أَفْعَالٍ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَوَّلْ اُسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى الْيَسَارِ أَوْ خَلْفَهُ كُرِهَ وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا بِالِاتِّفَاقِ.
الثانية: إذَا حَضَرَ إمَامٌ وَمَأْمُومَانِ تَقَدَّمَ الْإِمَامُ وَاصْطَفَّا خَلْفَهُ سَوَاءٌ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوْ صَبِيَّيْنِ أَوْ رَجُلًا وَصَبِيًّا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَصَاحِبَيْهِ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: يَكُونُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومَانِ كُلُّهُمْ صَفًّا وَاحِدًا ثَبَتَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.

 

ج / 4 ص -131-       دَلِيلُنَا حَدِيثُ جَابِرٍ السَّابِقُ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ حَضَرَ إمَامٌ وَمَأْمُومٌ وَأَحْرَمَ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ أَحْرَمَ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ قُدَّامَ الْإِمَامِ سَعَةٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ الْمَأْمُومِينَ سَعَةٌ تَقَدَّمَ الْإِمَامُ، وَإِنْ كَانَ وَرَاءَهُمَا سَعَةٌ وَلَيْسَتْ قُدَّامَهُ تَأَخَّرَا، وَإِنْ كَانَ قُدَّامَهُ سَعَةٌ وَوَرَاءَهُمَا سَعَةٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَا، وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الصحيح الَّذِي قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَكْثَرُونَ تَأَخُّرُهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَتْبُوعٌ فَلَا يَنْتَقِلُ والثاني: تَقَدُّمُهُ قَالَ الْقَفَّالُ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لِأَنَّهُ يُبْصِرُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِأَنَّهُ فِعْلُ شَخْصٍ فَهُوَ أَخَفُّ مِنْ شَخْصَيْنِ، هَذَا إذَا جَاءَ الْمَأْمُومُ الثَّانِي فِي الْقِيَامِ، فَإِنْ جَاءَ فِي التَّشَهُّدِ وَالسُّجُودِ فَلَا تَقَدُّمَ وَلَا تَأَخُّرَ حَتَّى يَقُومُوا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ إحْرَامِ الْمَأْمُومِ الثَّانِي كَمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ أَوْ يَتَأَخَّرَا.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْأُمِّ: لَوْ وَقَفَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ أَوْ خَلْفَهُ كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُمَا، وَلَا إعَادَةَ قَالَ: وَلَوْ أَمَّ اثْنَيْنِ فَوَقَفَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا بِجَنْبِهِ وَالْآخَرُ خَلْفَهُ، أَوْ أَحَدُهُمَا خَلْفَهُ، وَالْآخَرُ خَلْفَ الْأَوَّلِ كَرِهْتُ ذَلِكَ وَلَا إعَادَةَ وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ هَذَا نَصُّهُ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ.
الثالثة1: إذَا حَضَرَ كَثِيرُونَ مِنْ الرِّجَالِ وَالصِّبْيَانِ يُقَدَّمُ الرِّجَالُ ثُمَّ الصِّبْيَانُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبَا الْمُسْتَظْهِرِيِّ وَالْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بَيْنَ كُلِّ رَجُلَيْنِ صَبِيٌّ لِيَتَعَلَّمُوا مِنْهُمْ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ".
وَأَمَّا تَعَلُّمُ الصَّلَاةِ فَيُمْكِنُ وَإِنْ كَانُوا خَلْفَهُمْ، وَإِنْ حَضَرَ رِجَالٌ وَصِبْيَانٌ وَخَنَاثَى وَنِسَاءٌ تَقَدَّمَ الرِّجَالُ ثُمَّ الصِّبْيَانُ ثُمَّ الْخَنَاثَى ثُمَّ النِّسَاءُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ حَضَرَ رِجَالٌ وَخُنْثَى وَامْرَأَةٌ وَقَفَ الْخُنْثَى خَلْفَ الرِّجَالِ وَحْدَهُ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ وَحْدَهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ دَخَلَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ، وَإِنْ حَضَرَ إمَامٌ وَصَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ وَخُنْثَى وَقَفَ الصَّبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ وَالْخُنْثَى خَلْفَهُمَا وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ
فرع: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلُّهُ فِي مَوْقِفِ الرِّجَالِ غَيْرِ الْعُرَاةِ، فَإِنْ كَانُوا عُرَاةً فَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَنَّهُ إنْ كَانُوا عُمْيًا أَوْ فِي ظُلْمَةٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ إمَامُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا بُصَرَاءَ فِي ضَوْءٍ فَهَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى؟ فِيهِ خِلَافٌ، فَإِنْ قُلْنَا: جَمَاعَةً وَقَفَ إمَامُهُمْ وَسْطَهُمْ وَسَبَقَ هُنَاكَ أَيْضًا أَنَّ النِّسَاءَ الْخُلَّصَ الْعَارِيَّاتِ وَالْكَاسِيَاتِ تَقِفُ إمَامَتُهُنَّ وَسْطَهُنَّ، وَلَوْ صَلَّى خُنْثَى بِنِسْوَةٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهِنَّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا كُلُّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَمُخَالَفَتُهُ مَكْرُوهَةٌ، وَلَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ.
فرع: السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ الْوَاحِدُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ يَقِفُ عَنْ يَسَارِهِ، وَعَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يَقِفُ وَرَاءَهُ إلَى أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ أَنْ يَرْكَعَ، فَإِنْ لَمْ يَجِئْ مَأْمُومٌ آخَرُ تَقَدَّمَ فَوَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ، وَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ فَاسِدَانِ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي المسألة الثالثة (ط)

 

ج / 4 ص -132-       قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْضِعُ الْإِمَامِ أَعْلَى مِنْ مَوْضِعِ الْمَأْمُومِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ "صَلَّى عَلَى دُكَّانٍ، وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ فَجَذَبَهُ سَلْمَانُ حَتَّى أَقَامَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ أَصْحَابَكَ يَكْرَهُونَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ عَلَى شَيْءٍ، وَهُمْ أَسْفَلَ مِنْهُ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: بَلَى قَدْ ذَكَرْتُ حِينَ جَذَبْتَنِي" وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَوْضِعُ الْمَأْمُومِ أَعْلَى مِنْ مَوْضِعِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كُرِهَ أَنْ يَعْلُوَ الْإِمَامُ فَلَأَنْ يُكْرَهَ أَنْ يَعْلُوَ الْمَأْمُومُ أَوْلَى، فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ تَعْلِيمَ الْمَأْمُومِينَ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ1 فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ فَقَرَأَ وَرَكَعَ، وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالْأَرْضِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتُعَلَّمُوا صَلَاتِي" وَلِأَنَّ الِارْتِفَاعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ فَكَانَ أَوْلَى".
 الشرح:
حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ وقوله:" لِتُعَلَّمُوا"  بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ - أَيْ تَعْلَمُوا صِفَتَهَا، وَأَمَّا قِصَّةُ حُذَيْفَةَ وَسَلْمَانَ فَهَكَذَا وَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ أَنَّ سَلْمَانَ جَذَبَ حُذَيْفَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ هَكَذَا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا، وَالْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ فَجَذَبَهُ أَبُو مَسْعُودٍ وَهُوَ الْبَدْرِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، هَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ، وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ وَمُصَنِّفِيهِمْ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَيُقَالُ جَذَبَ وَجَبَذَ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ قوله: فَلَأَنْ يُكْرَهَ هُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَسَبَقَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ إيضَاحُهُ وَالْقَهْقَرَى - بِفَتْحِ الْقَافَيْنِ - الْمَشْيُ إلَى خَلْفٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْإِمَامِ أَوْ الْمَأْمُومِ أَعْلَى مِنْ مَوْضِعِ الْآخَرِ فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِتَعْلِيمِهِمْ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ أَوْ لِيُبَلِّغَ الْمَأْمُومُ الْقَوْمَ تَكْبِيرَاتِ الْإِمَامِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ اُسْتُحِبَّ الِارْتِفَاعُ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ: أَنَّهُ يُكْرَهُ الِارْتِفَاعُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"السُّنَّةُ أَنْ تَقِفَ إمَامَةُ النِّسَاءِ وَسْطَهُنَّ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أَمَّتَا نِسَاءً فَقَامَتَا وَسْطَهُنَّ وَكَذَا إذَا اجْتَمَعَ الرِّجَالُ، وَهُمْ عُرَاةٌ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَسْطَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ"..
 الشرح:
هَذَا الْفصل:سَبَقَ شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَحَدِيثَا إمَامَةِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادَيْنِ حَسَنَيْنِ، وَيُقَالُ: وَسْطُ الصَّفِّ بِإِسْكَانِ السِّينِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: تَقُولُ: جَلَسْتُ وَسْطَ الْقَوْمِ بِالْإِسْكَانِ؛ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ، وَجَلَسْتُ وَسَطَ الدَّارِ بِالْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ، قَالَ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَصْلُحُ فِيهِ بَيْنَ فَهُوَ وَسْطُ بِالْإِسْكَانِ، وَمَا لَا يَصْلُحُ فَهُوَ بِالْفَتْحِ، وَرُبَّمَا سُكِّنَ، وَلَيْسَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخة المطبوعة من لمهذب
( على المنبر والناس وراءه فجعل يصلي عليه ثم يركع ثم يرفع ثم يرجع القهقري ويسجد على الأرض ثم يرفع فيرقى عليه فقال: أيها الناس إنما صنعت هكذا كيما تروني فتأتموني )(ط)

 

ج / 4 ص -133-       بِالْوَجْهِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: كُلُّ مَا كَانَ بَيْنَ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ كَوَسْطِ الْفَلَاةِ وَالصَّفِّ وَالْمَسْبَحَةِ وَحَلَقَةِ النَّاسِ فَهُوَ وَسْطُ بِالْإِسْكَانِ، وَمَا كَانَ مُصْمَتًا لَا يَبِينُ كَالدَّارِ وَالسَّاحَةِ وَالرَّاحَةِ فَوَسَطٌ بِالْفَتْحِ، قَالَ: وَأَجَازُوا فِي الْمَفْتُوحِ الْإِسْكَانَ وَلَمْ يُجِيزُوا فِي السَّاكِنِ الْفَتْحَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"فَإِنْ خَالَفُوا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ فَوَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ أَوْ خَلْفَهُ وَحْدَهُ أَوْ وَقَفَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ أَوْ أَمَامَهُ لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
"وَقَفَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ" وَأَحْرَمَ أَبُو بَكْرَةَ خَلْفَ الصَّفِّ، وَرَكَعَ ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلَا تَعُدْ" وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ كُلَّهَا مَوَاقِفُ لِبَعْضِ الْمَأْمُومِينَ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالِانْتِقَالِ إلَيْهَا".
 الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ. وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رُوِيَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، الْمَوْضُوعَةِ لِلضَّعِيفِ، وَقَدْ سَبَقَ مَرَّاتٍ التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
لِأَبِي بَكْرَةَ: وَلَا تَعُدْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ - قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَعُدْ إلَى الْإِحْرَامِ خَارِجَ الصَّفِّ، وَقِيلَ: لَا تَعُدْ إلَى التَّأَخُّرِ عَنْ الصَّلَاةِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، وَقِيلَ: لَا تَعُدْ إلَى إتْيَانِ الصَّلَاةِ مُسْرِعًا.
وأَمَّا حُكْمُ الْفصل:فَقَدْ سَبَقَ مَقْصُودُهَا فِي أَوَائِلِ الْبَابِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَوَاقِفَ الْمَذْكُورَةَ كُلَّهَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنْ خَالَفُوهَا كُرِهَ وَصَحَّتْ الصَّلَاةُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَكَذَا لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِ وَعَكْسَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَكَذَا إذَا تَقَدَّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صُفُوفِ الرِّجَالِ بِحَيْثُ لَمْ تَتَقَدَّمْ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ وَقَفَتْ بِجَنْبِ الْإِمَامِ أَوْ بِجَنْبِ مَأْمُومٍ صَحَّتْ صَلَاتُهَا وَصَلَاةُ الرِّجَالِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَكَذَا لَوْ صَلَّى مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّفِّ كُرِهَ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ.
فرع: إذَا وَجَدَ الدَّاخِلُ فِي الصَّفِّ فُرْجَةً أَوْ سِعَةً دَخَلَهَا، وَلَهُ أَنْ يَخْرِقَ الصَّفَّ الْمُتَأَخِّرَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فُرْجَةٌ وَكَانَتْ فِي صَفٍّ قُدَّامَهُ لِتَقْصِيرِهِمْ بِتَرْكِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً وَلَا سِعَةً فَفِيهِ خِلَافٌ حَكَوْهُ وَجْهَيْنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ قَوْلَانِ:
أحدهما: يَقِفُ مُنْفَرِدًا وَلَا يَجْذِبُ أَحَدًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ لِئَلَّا يَحْرِمَ غَيْرَهُ فَضِيلَةَ الصَّفِّ السَّابِقِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ.
والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْبِذَ إلَى نَفْسِهِ وَاحِدًا مِنْ الصَّفِّ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَجْذُوبِ مُسَاعَدَتُهُ قَالُوا: وَلَا يَجْذِبُهُ إلَّا بَعْدَ إحْرَامِهِ لِئَلَّا يُخْرِجَهُ عَنْ الصَّفِّ لَا إلَى صَفٍّ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ لِلْمَجْذُوبِ الْمُوَافَقَةُ لِيَحْصُلَ لِهَذَا فَضِيلَةُ صَفٍّ وَلِيَخْرُجَ مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ، وَيُسْتَأْنَسُ فِيهِ أَيْضًا بِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنْ جَاءَ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا فَلْيَخْتَلِجْ إلَيْهِ رَجُلًا مِنْ الصَّفِّ فَلِيَقُمْ مَعَهُ فَمَا أَعْظَمَ أَجْرَ الْمُخْتَلَجِ".

 

ج / 4 ص -134-       فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَحَكَاهُ أَصْحَابُنَا أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الصَّحَابِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَدَاوُد، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ النَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ خَلْفَ الصَّفِّ يَصِحُّ إحْرَامُهُ، فَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّفِّ قَبْلَ الرُّكُوعِ صَحَّتْ قُدْوَتُهُ وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
وَاحْتَجَّ لِهَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رضي الله عنه
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ قَالَ:
"صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَانْصَرَفَ فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ فَوَقَفَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ: اسْتَقْبِلْ صَلَاتَك لَا صَلَاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ. وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَيْنِ الْوَارِدَيْنِ بِالْإِعَادَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "لَا صَلَاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ" أَيْ لَا صَلَاةَ كَامِلَةً كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ" وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُ حَتَّى فَرَغَ، وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَمَا أَقَرَّهُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِيهَا، وَهَذَا وَاضِحٌ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْجَذْبِ مِنْ الصَّفِّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَنَّ الدَّاخِلَ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي الصَّفِّ سِعَةٌ جَذَبَ وَاحِدًا بَعْدَ إحْرَامِهِ وَاصْطَفَّ مَعَهُ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ كَرَاهَتُهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد.
فرع: صَلَاةُ الْمَرْأَةِ قُدَّامَ رَجُلٍ وَبِجَنْبِهِ مَكْرُوهَةٌ، وَيَصِحُّ صَلَاتُهَا وَصَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِمْ أَوْ حَاذَتْهُمْ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ بَاطِلَةٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي آخِرِ بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"فَإِنْ تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ عَلَى الْإِمَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي التَّقْدِيمِ: لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ وَحْدَهُ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: تَبْطُلُ لِأَنَّهُ وَقَفَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ مَوْقِفَ مُؤْتَمٍّ بِحَالٍ، فَأَشْبَهَ إذَا وَقَفَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ".
 الشرح: إذَا تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ عَلَى إمَامِهِ فِي الْمَوْضِعِ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ لَا تَنْعَقِدُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا بَطَلَتْ، وَالْقَدِيمُ انْعِقَادُهَا، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا لَمْ تَبْطُلْ وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَكِنْ سَاوَاهُ لَمْ تَبْطُلْ بِلَا خِلَافٍ لَكِنْ يُكْرَهُ وَالِاعْتِبَارُ فِي التَّقَدُّمِ وَالْمُسَاوَاةِ بِالْعَقِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ فَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْعَقِبِ وَتَقَدَّمَتْ أَصَابِعُ الْمَأْمُومِ لَمْ يَضُرَّهُ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَقِبُهُ وَتَأَخَّرَتْ أَصَابِعُهُ عَنْ أَصَابِعِ الْإِمَامِ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ قَطْعًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَقَالَ فِي الْوَسِيطِ: الِاعْتِبَارُ بِالْكَعْبِ، وَالْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ.

 

ج / 4 ص -135-       وَلَوْ شَكَّ هَلْ تَقَدَّمَ عَلَى إمَامِهِ؟ فَوَجْهَانِ: الصحيح الْمَنْصُوصُ في"الأم" - وَبِهِ قَطَعَ الْمُحَقِّقُونَ - تَصِحُّ صَلَاتُهُ قَوْلًا وَاحِدًا بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمُفْسِدِ والثاني: إنْ كَانَ جَاءَ مِنْ خَلْفِ الْإِمَامِ صَحَّتْ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَقَدُّمِهِ وَإِنْ جَاءَ مِنْ قُدَّامِهِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْجَدِيدِ. لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ تَقَدُّمِهِ، هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَمَّا إذَا صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَيَقِفُوا مُسْتَدِيرِينَ بِالْكَعْبَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْإِمَامُ أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إلَيْهَا مِنْهُ وَهُوَ فِي جِهَةِ الْإِمَامِ فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ الْقَوْلَانِ الْجَدِيدُ: بُطْلَانُهَا. وَالْقَدِيمُ. صِحَّتُهَا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ جِهَتِهِ فَطَرِيقَانِ الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِصِحَّتِهَا، وَهُوَ نَصُّهُ في"الأم" وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
والثاني: فِيهِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُ الْأَصْحَابُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَلَوْ وَقَفَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ جَمِيعًا فِي الْكَعْبَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ قُدَّامَهُ فِي جِهَتِهِ مُسْتَقْبِلَهَا فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ وَرَاءَهُ أَوْ بِجَنْبِهِ أَوْ مُسْتَقْبِلَهُ أَوْ ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ أَقْرَبَ إلَى الْجِدَارِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا إنْ كَانَ أَقْرَبَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ، وَلَوْ وَقَفَ الْإِمَامُ فِي الْكَعْبَةِ وَالْمَأْمُومُ خَارِجَهَا جَازَ وَلَهُ التَّوَجُّهُ إلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ. وَإِنْ وَقَفَ الْإِمَامُ خَارِجَهَا وَالْمَأْمُومُ فِيهَا أَوْ عَلَى سَطْحِهَا وَبَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ جَازَ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ لَكِنْ إنْ تَوَجَّهَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَوَجَّهَ إلَيْهَا الْإِمَامُ عَادَ الْقَوْلَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض  النسخ ( لو تعلمون ما في الصف الأول ) (ط)

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي تَقَدُّمِ مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد: يَجُوزُ، هَكَذَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْهُمْ مُطْلَقًا. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ إذَا ضَاقَ الْمَوْضِعُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّاسُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَوْ يَعْلَمُونَ1 مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةٌ" وَرَوَى الْبَرَاءُ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمِدُوا يَمِينَ الْإِمَامِ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ قَالَ: "كَانَ يُعْجِبُنَا عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ يَبْدَأُ بِمَنْ عَنْ يَمِينِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ" فَإِنْ وَجَدَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فُرْجَةً اُسْتُحِبَّ أَنْ يَسُدَّهَا، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ، فَإِنْ كَانَ نَقْصٌ فَفِي الْمُؤَخَّرِ".
 الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَقَالَ فِيهِ: الصُّفُوفَ الْأُوَلَ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الثَّانِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ "كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ" وَحَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ؛ وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ

 

ج / 4 ص -136-       فِي الصَّحِيحِ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ يَمِينِ الْإِمَامِ وَسَدِّ الْفُرَجِ فِي الصُّفُوفِ وَإِتْمَامِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيه ثُمَّ الَّذِي يَلِيه إلَى آخِرِهَا، وَلَا يُشْرَعُ فِي صَفٍّ حَتَّى يَتِمَّ مَا قَبْلَهُ، وَعَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الِاعْتِدَالُ فِي الصُّفُوفِ. فَإِذَا وَقَفُوا فِي الصَّفِّ لَا يَتَقَدَّمُ بَعْضُهُمْ بِصَدْرِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَسِّطُوا الْإِمَامَ وَيَكْشِفُوهُ مِنْ جَانِبَيْهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "وَسِّطُوا الْإِمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَلَ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْسَحَ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الصَّفِّ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ "أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا بِأَيْدِي إخْوَانِكُمْ وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
 فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الصَّفُّ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيه، ثُمَّ الَّذِي يَلِيه إلَى آخِرِهَا؛ وَهَذَا الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ فِي صُفُوفِ الرِّجَالِ بِكُلِّ حَالٍ، وَكَذَا فِي صُفُوفِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ بِجَمَاعَتِهِنَّ عَنْ جَمَاعَةِ الرِّجَالِ أَمَّا إذَا صَلَّتْ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَأَفْضَلُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالُ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ الصَّفُّ الَّذِي يَلِي الْإِمَامَ، سَوَاءٌ تَخَلَّلَهُ مِنْبَرٌ وَمَقْصُورَةٌ وَأَعْمِدَةٌ وَغَيْرُهَا أَمْ لَا، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ: تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي وَلِيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ
قال المصنف رحمه الله تعالى:"فَإِنْ تَبَاعَدَتْ الصُّفُوفُ أَوْ تَبَاعَدَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ عَنْ الْإِمَامِ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ لَا حَائِلَ بَيْنَهُمَا وَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ عَالِمٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوْضِعُ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ صَفٍّ مَعَ الْإِمَامِ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ مَسَافَةً قَرِيبَةً صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَقَدَّرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الْقَرِيبَ بِثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ وَالْبَعِيدَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ فِي الْعَادَةِ، وَمَا زَادَ بَعِيدٌ، وَهَلْ هُوَ تَقْرِيبٌ أَوْ تَحْدِيدٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّهُ تَحْدِيدٌ، فَلَوْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ ذِرَاعٌ لَمْ يُجْزِهِ والثاني: أَنَّهُ تَقْرِيبٌ فَإِنْ زَادَ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ جَازَ.
وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ وَالْآخَرُ عَلَى سَطْحِهِ أَوْ فِي بَيْتٍ مِنْهُ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ وَالْمُشَاهَدَةَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها
"أَنَّ نِسْوَةً كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَقَالَتْ: لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ" وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ كَالشِّبَاكِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
 أحدهما: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا حَائِلًا يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ فَأَشْبَهَ الْحَائِطَ والثاني: يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُشَاهِدُهُمْ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ نَهْرٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَاءَ يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ فَهُوَ كَالْحَائِطِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يُخْلَقْ لِلْحَائِلِ وَإِنَّمَا خُلِقَ لِلْمَنْفَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ كَالنَّارِ.

 

ج / 4 ص -137-       الشرح: لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الْمَكَانِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أحدها: أَنْ يَكُونَا فِي مَسْجِدٍ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، سَوَاءٌ قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا أَمْ بَعُدَتْ لِكِبَرِ الْمَسْجِدِ، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَ الْبِنَاءُ أَمْ اخْتَلَفَ كَصَحْنِ الْمَسْجِدِ صُفَّتِهِ وَسِرْدَابٍ فِيهِ، وَبِئْرٍ، مَعَ سَطْحِهِ وَسَاحَتِهِ وَالْمَنَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْمَسْجِدِ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ وَمَا أَشْبَهَهَا إذَا عَلِمَ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ أَسْفَلَ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا.
وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا فِيهِ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ هُوَ إذَا كَانَ سَطْحُهُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَهُوَ كَمِلْكٍ مُتَّصِلٍ بِالْمَسْجِدِ وَقَفَ أَحَدُهُمَا فِيهِ وَالْآخَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَسَيَأْتِي فِي الْحَالِ الثَّالِثِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَشَرْطُ الْبِنَاءَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَكُونَ بَابُ أَحَدِهِمَا نَافِذًا إلَى الْآخَرِ وَإِلَّا فَلَا يُعَدَّانِ مَسْجِدًا وَاحِدًا، وَإِذَا وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَابُ بَيْنَهُمَا مَفْتُوحًا أَوْ مَرْدُودًا، مُغْلَقًا أَوْ غَيْرَ مُغْلَقٍ، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ إنْ كَانَ مُغْلَقًا لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَوَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ وَالْآخَرُ عَلَى سَطْحِهِ وَبَابُ الْمِرْقَاةِ مُغْلَقٌ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ وَهُمَا شَاذَانَ وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ، أَمَّا الْمَسَاجِدُ الْمُتَلَاصِقَةُ الَّتِي يُفْتَحُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فَلَهَا حُكْمُ مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، وَأَحَدُهُمَا فِي ذَا وَالْآخَرُ فِي ذَاكَ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبَا الشَّامِلِ وَالتَّتِمَّةِ وَالْجُمْهُورُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: إنْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَسْجِدَيْنِ بِإِمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ وَجَمَاعَةٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ الْآخَرِ حُكْمُ الْمِلْكِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَسْجِدِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ كَانَا فِي مَسْجِدَيْنِ يَحُولُ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ أَوْ حَائِطُ الْمَسْجِدِ غَيْرُ بَابٍ نَافِذٍ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَهُوَ كَمِلْكٍ مُتَّصِلٍ بِالْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ نَهْرٌ فَإِنْ حُفِرَ بَعْدَ الْمَسْجِدِ فَهُوَ مَسْجِدٌ فَلَا يَضُرُّ، وَإِنْ حُفِرَ قَبْلَ مَصِيرِهِ مَسْجِدًا فَهُمَا مَسْجِدَانِ غَيْرُ مُتَّصِلَيْنِ، أَمَّا رَحْبَةُ الْمَسْجِدِ فَقَالَ الرَّافِعِيُّ: عَدَّهَا الْأَكْثَرُونَ مِنْهُ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ طَرِيقٌ أَمْ لَا. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: إنْ انْفَصَلَتْ فَهِيَ كَمَسْجِدٍ آخَرَ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فِيهَا، قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَرَحْبَةُ الْمَسْجِدِ هِيَ الْبِنَاءُ الْمَبْنِيُّ لَهُ حَوْلَهُ مُتَّصِلًا بِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هِيَ مَا حَوَالَيْهِ.
الْحَالُ الثاني: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَهُوَ ضَرْبَانِ.
أحدهما: أَنْ يَكُونَا فِي فَضَاءٍ مِنْ صَحْرَاءَ أَوْ بَيْتٍ وَاسِعٍ وَنَحْوِهِ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَهَلْ هُوَ تَحْدِيدٌ أَمْ تَقْرِيبُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ أحدهما: أَنَّهُ تَقْرِيبٌ وَجْهًا وَاحِدًا، وَنَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وأصحهما وَأَشْهُرُهُمَا فِيهِ وَجْهَانِ: ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أصحهما تَقْرِيبٌ، وَهُوَ نَصُّهُ في"الأم" وَالْمُخْتَصَرِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعُرْفِ

 

ج / 4 ص -138-       عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَأَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.
حَكَى الْبَنْدَنِيجِيُّ هَذَا الْوَجْهَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا قلنا: تَقْرِيبٌ فَزَادَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ أَذْرُعًا يَسِيرَةً كَثَلَاثَةٍ وَنَحْوِهَا لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ قلنا: تَحْدِيدٌ ضَرَّ. وَلَوْ وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ شَخْصَانِ أَوْ صَفَّانِ أَحَدُهُمَا وَرَاءَ الْآخَرِ اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الصَّفِّ الْأَخِيرِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، أَوْ الشَّخْصِ الْأَخِيرِ وَالْأَوَّلِ حَتَّى لَوْ كَثُرَتْ الصُّفُوفُ وَبَلَغَ مَا بَيْنَ الْإِمَامِ وَالصَّفِّ الْأَخِيرِ أَمْيَالًا جَازَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ مَا بَيْنَ كُلِّ صَفٍّ أَوْ شَخْصٍ وَبَيْنَ مَنْ قُدَّامَهُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ مَذْكُورٌ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ هَذِهِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالصَّفِّ الْأَخِيرِ إذَا لَمْ تَكُنِ الصُّفُوفُ الْقَرِيبَةُ مِنْ الْإِمَامِ مُتَّصِلَةً عَلَى الْعَادَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى تَضْعِيفِهِ؛ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَلَوْ وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ أَوْ يَسَارِهِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَوْ صَفٌّ صَحَّ إنْ لَمْ يَزِدْ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، فَإِنْ وَقَفَ آخَرُ عَنْ يَمِينِ الْوَاقِفِ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ الْمَأْمُومِ الْأَوَّلِ ثُمَّ ثَالِثٌ عَلَى يَمِينِ الثَّانِي عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ؛ وَهَكَذَا رَابِعٌ وَخَامِسٌ وَأَكْثَرُ صَحَّتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ كَمَا إذَا كَانُوا خَلْفَهُ؛ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ مِنْ الْإِمَامِ إذَا لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ الْقَرِيبَةُ بِالْإِمَامِ عَلَى الْعَادَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ وَقَفَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ وَآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ وَآخَرُ وَرَاءَهُ كَذَلِكَ؛ ثُمَّ وَرَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ عَنْ جَنْبِهِ آخَرُ أَوْ صَفٌّ عَلَى هَذِهِ الْمَسَافَةِ؛ ثُمَّ آخَرُ، ثُمَّ آخَرُ وَكَثُرُوا صَحَّتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ إذَا عَلِمُوا صَلَاةَ الْإِمَامِ.
أَمَّا إذَا حَالَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَوْ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ نَهْرٌ فِي الْفَضَاءِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْعُبُورُ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ إلَى الْآخَرِ بِلَا سِبَاحَةٍ بِالْوُثُوبِ أَوْ الْخَوْضِ أَوْ الْعُبُورِ عَلَى جِسْرٍ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى سِبَاحَةٍ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَارِعٌ مَطْرُوقٌ فَوَجْهَانِ: الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِهِمْ لَا يَضُرُّ؛ بَلْ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ لِحُصُولِ الْمُشَاهَدَةِ. وَالْمَاءُ لَا يُعَدُّ حَائِلًا، وَكَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا نَارٌ فَإِنَّ الِاقْتِدَاءَ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ فِي الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ الْفَضَاءُ مَوَاتًا أَوْ مِلْكًا أَوْ وَقْفًا بَعْضُهُ مَوَاتًا وَبَعْضُهُ مِلْكًا. وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي السَّاحَةِ الْمَمْلُوكَةِ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَ كُلِّ صَفٍّ وَاَلَّذِي قُدَّامَهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ؛ وَوَجْهًا حَكَاهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْمِلْكَيْنِ لِشَخْصَيْنِ لَا فِي مِلْكِ الْوَاحِدِ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَكَثِيرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ كَانَ الْفَضَاءُ مَحُوطًا عَلَيْهِ أَوْ مُسْقَفًا كَالْبُيُوتِ الْوَاسِعَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الضَّرْبُ الثاني: أَنْ يَكُونَا فِي غَيْرِ فَضَاءٍ، فَإِذَا وَقَفَ أَحَدُهُمَا فِي صَحْنِ دَارٍ أَوْ صُفَّتِهَا وَالْآخَرُ فِي بَيْتٍ مِنْهَا فَقَدْ يَقِفُ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَوَرَاءَهُ وَخَلْفَهُ وَفِيهِ طَرِيقَانِ إحداهما قَالَهَا الْقَفَّالُ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ كَجٍّ؛ وَحَكَاهَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيّ فِي الْإِفْصَاحِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَا إذَا وَقَفَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَنْ يَتَّصِلَ الصَّفُّ مِنْ الْبِنَاءِ الَّذِي فِيهِ الْإِمَامُ بِاَلَّذِي فِيهِ الْمَأْمُومُ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى

 

ج / 4 ص -139-       ُفرْجَةٌ تَسَعُ وَاحِدًا، فَإِنْ بَقِيَتْ فُرْجَةٌ لَا تَسَعُ وَاقِفًا فَوَجْهَانِ: الصحيح أَنَّهَا لَا تَضُرُّ والثاني: تَضُرُّ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَتَبَةٌ عَرِيضَةٌ تَسَعُ وَاقِفًا اُشْتُرِطَ وُقُوفُ مُصَلٍّ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْوُقُوفُ فِيهَا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْفُرْجَةِ الْيَسِيرَةِ، الْأَصَحُّ: لَا تَضُرُّ وَإِنْ وَقَفَ خَلْف الْإِمَامِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ مُطْلَقًا وَالصَّحِيحُ  الصِّحَّةُ بِشَرْطِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ وَتَلَاحُقِهَا، وَمَعْنَى اتِّصَالِهَا أَنْ يَقِفَ شَخْصٌ أَوْ صَفٌّ فِي آخِرِ بِنَاءِ الْإِمَامِ وَآخَرُ فِي أَوَّلِ بِنَاءِ الْمَأْمُومِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ وَالثَّلَاثَةُ لِلتَّقْرِيبِ. قَالُوا: فَلَوْ زَادَ عَلَيْهَا مَا لَا يَبِينُ فِي الْحِسِّ لَمْ يَضُرَّ وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَشْرُوعُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يُزَادَ مَا بَيْنَهُمَا عَلَيْهِ، وَإِذَا وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ فَكَانَ فِي بِنَاءِ الْمَأْمُومِ بَيْتٌ عَنْ الْيَمِينِ أَوْ الشِّمَالِ اُعْتُبِرَ الِاتِّصَالُ بِتَوَاصُلِ الْمَنَاكِبِ كَمَا سَبَقَ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَفَّالِ وَمُوَافِقِيهِ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَجُمْهُورِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ، أَنَّ اخْتِلَافَ الْبِنَاءِ لَا يَضُرُّ وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الصَّفِّ مِنْ خَلْفٍ وَلَا مِنْ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ عَلَى الضَّبْطِ الْمَذْكُورِ فِي الصَّحْرَاءِ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَبِجَنْبِهِ مَا لَمْ يَزِدْ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ صَفٍّ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ كَمَا سَبَقَ، هَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْبِنَاءَيْنِ بَابٌ مَفْتُوحٌ، فَوَقَفَ مُقَابِلَهُ رَجُلٌ أَوْ صَفٌّ، أَوْ لَمْ يَكُنْ جِدَارٌ أَصْلًا - كَصَحْنٍ مَعَ صُفَّةٍ - فَلَوْ حَالَ حَائِلٌ يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ وَالْمُشَاهَدَةَ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِاتِّفَاقِ الطَّرِيقَتَيْنِ وَإِنْ مَنَعَ الِاسْتِطْرَاقَ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ كَالشِّبَاكِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أصحهما لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ يُعَدُّ حَائِلًا، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ، وَإِذَا صَحَّ اقْتِدَاءُ الْوَاقِفِ أَوْ الْوَاقِفِينَ فِي الْبِنَاءِ - إمَّا لِوُجُودِ الِاتِّصَالِ كَمَا شَرَطَهُ أَصْحَابُ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى، وَإِمَّا لِعَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُ الثَّانِيَةِ - صَحَّتْ صَلَاةُ الصُّفُوفِ وَالْمُنْفَرِدِ خَلْفَهُمْ تَبَعًا، وَلَا يَضُرُّ الْحَائِلُ الْمَانِعُ مِنْ الِاسْتِطْرَاقِ وَالْمُشَاهَدَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ، لَكِنْ يَكُونُ الصُّفُوفُ مَعَ الْوَاقِفِ كَالْمَأْمُومِينَ مَعَ الْإِمَامِ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْطِ السَّابِقِ فَيُعْتَبَرُ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُمَا مَانِعٌ مِنْ الِاسْتِطْرَاقِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَيُعْتَبَرُ بَاقِي مَا سَبَقَ. وَلَوْ تَقَدَّمَ عَلَى الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ وَاحِدٌ أَوْ صَفٌّ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ سَمْتِ الْإِمَامِ إلَّا إذَا جَوَّزْنَا تَقَدُّمَ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنُ وَغَيْرُهُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ تَكْبِيرَةُ إحْرَامِ الَّذِينَ وَرَاءَ الْوَاقِفِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِالْإِمَامِ إلَّا تَبِعَا لِلْوَاقِفِ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ. أَمَّا إذَا وَقَفَ الْإِمَامُ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَالْمَأْمُومُ فِي مَكَان عَالٍ مِنْهَا كَسَطْحٍ وَطَرَفِ صُفَّةٍ مُرْتَفِعَةٍ وَنَحْوِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَفِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الِاتِّصَالُ وَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَجْهَانِ: أحدهما: قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ: إنْ كَانَ رَأْسُ الْوَاقِفِ أَسْفَلَ يُحَاذِي رُكْبَةَ الْوَاقِفِ فِي الْعُلْوِ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ وَإِلَّا فَلَا والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ إنْ حَاذَى رَأْسُ الْأَسْفَلِ قَدَمَ الْأَعْلَى صَحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْأَوَّلُ مُزَيَّفٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَالِاعْتِبَارُ بِمُعْتَدِلِ الْقَامَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَصِيرًا أَوْ قَاعِدًا فَلَمْ تُحَاذِ - وَلَوْ قَامَ فِيهِ مُعْتَدِلُ الْقَامَةِ لَحَصَلَتْ الْمُحَاذَاةُ - كَفَى. وَحَيْثُ لَا يَمْنَعُ الِانْخِفَاضُ الْقُدْوَةَ؛ وَكَانَ بَعْضُ مَنْ يَحْصُلُ بِهِمْ الِاتِّصَالُ عَلَى سَرِيرٍ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ جَازَ. وَلَوْ كَانَا فِي بَحْرٍ وَالْإِمَامُ فِي سَفِينَةٍ وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى وَهُمَا مَكْشُوفَتَانِ فَوَجْهَانِ: أحدهما: قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ سَفِينَتُهُ مَشْدُودَةً بِسَفِينَةِ الْإِمَامِ والثاني: وَهُوَ

 

ج / 4 ص -140-       الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَزِيدَ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ كَالصَّحْرَاءِ، قَالُوا: وَتَكُونُ السَّفِينَتَانِ كَدَكَّتَيْنِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْمَاءُ كَالْأَرْضِ؛ وَإِنْ كَانَتَا مُسْقَفَتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا فَهُمَا كَالدَّارَيْنِ وَالسَّفِينَةُ ذَاتُ الْبُيُوتِ كَدَارٍ ذَاتِ بُيُوتٍ، وَحُكْمُ الْمَدْرَسَةِ وَالرِّبَاطِ وَالْخَانِ حُكْمُ الدَّارِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُبْنَ لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ، وَالسُّرَادِقَاتُ فِي الصَّحْرَاءِ كَسَفِينَةٍ مَكْشُوفَةٍ، وَالْخِيَامُ كَالْبُيُوتِ.
الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ وَالْآخَرُ خَارِجَهُ، فَإِنْ وَقَفَ الْإِمَامُ فِي مَسْجِدٍ وَالْمَأْمُومُ فِي مَوَاتٍ مُتَّصِلٍ بِهِ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ - جَازَ إذَا لَمْ يَزِدْ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَمِنْ أَيْنَ تُعْتَبَرُ هَذِهِ الذُّرْعَانُ؟ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ آخِرِ الْمَسْجِدِ وَالثَّانِي مِنْ آخِرِ صَفٍّ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا الْإِمَامُ فَمِنْ مَوْقِفِهِ؛ وَالثَّالِثُ: مِنْ حَرِيمِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوَاتِ، وَحَرِيمُهُ الْمَوْضِعُ الْمُتَّصِلُ بِهِ الْمُهَيَّأُ لِمَصْلَحَتِهِ كَانْصِبَابِ الْمَاءِ إلَيْهِ وَطَرْحِ الْقُمَامَاتِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا جِدَارُ الْمَسْجِدِ لَكِنَّ الْبَابَ النَّافِذَ بَيْنَهُمَا مَفْتُوحٌ فَوَقَفَ فِي مُقَابِلَتِهِ جَازَ، فَلَوْ اتَّصَلَ صَفٌّ بِالْوَاقِفِ فِي الْمُقَابِلَةِ وَرَاءَهُ وَخَرَجُوا عَنْ الْمُقَابِلَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ لِاتِّصَالِهِمْ بِمَنْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجِدَارِ بَابٌ أَوْ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مَفْتُوحًا، أَوْ كَانَ مَفْتُوحًا وَلَمْ يَقِفْ فِي قُبَالَتِهِ بَلْ عَدَلَ عَنْهُ فَوَجْهَانِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ لِعَدَمِ الِاتِّصَالِ. وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَقَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الْمُصَنَّفِينَ والثاني: قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَلَا يَكُونُ حَائِطُ الْمَسْجِدِ حَائِلًا سَوَاءٌ كَانَ قُدَّامَ الْمَأْمُومِ أَوْ عَنْ جَنْبِهِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَمْنَعُ. وَهَذَا الْوَجْهُ مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ.
وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا الْحَائِلُ غَيْرُ جِدَارِ الْمَسْجِدِ فَيَمْنَعُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ فَهُوَ كَالْجِدَارِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ وَالْمُشَاهَدَةَ، فَإِنْ كَانَ مَرْدُودًا غَيْرُ مُغْلَقٍ فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ، دُونَ الِاسْتِطْرَاقِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا شِبَاكٌ فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ الِاسْتِطْرَاقِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ وَجْهَانِ: أصحهما عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ مَانِعٌ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْمَوَاتِ، فَلَوْ وَقَفَ الْمَأْمُومُ فِي شَارِعٍ مُتَّصِلٍ بِالْمَسْجِدِ فَوَجْهَانِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالْمَوَاتِ والثاني: يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الصَّفِّ مِنْ الْمَسْجِدِ بِالطَّرِيقِ.
وَلَوْ وَقَفَ فِي حَرِيمِ الْمَسْجِدِ، قَالَ الْبَغَوِيّ: هُوَ كَالْمَوَاتِ، قَالَ وَالْفَضَا الْمُتَّصِلُ بِالْمَسْجِدِ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فَوَقَفَ الْمَأْمُومُ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ حَتَّى يَتَّصِلَ الصَّفُّ مِنْ الْمَسْجِدِ بِالْفَضَاءِ، قَالَ: وَكَذَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الصَّفِّ مِنْ سَطْحِ الْمَسْجِدِ بِالسَّطْحِ الْمَمْلُوكِ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ فِي دَارٍ مَمْلُوكَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْمَسْجِدِ يُشْتَرَطُ الِاتِّصَالُ بِأَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلٌ بِعَتَبَةِ الدَّارِ وَآخَرُ فِي الدَّارِ مُتَّصِلٌ بِالْعَتَبَةِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَوْقِفُ رَجُلٍ.

 

ج / 4 ص -141-       هَذَا كَلَامُ الْبَغَوِيِّ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي الْفَضَاءِ ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالْمَوَاتِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّارِ فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَفَّالِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَمُتَابِعُوهُ: لَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَائِلٌ، بَلْ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ إذَا لَمْ يَزِدْ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فرع: فِي بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ الْمُصَنِّفِ.
فَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَبَاعَدَتْ الصُّفُوفُ عَنْ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ لَا حَائِلَ بَيْنَهُمَا وَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ عَالِمٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ. هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ الْمُهَذَّبِ: فَإِنْ كَانَ لَا حَائِلَ بَيْنَهُمَا، وَالصَّوَابُ حَذْفُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ إذَا عَلِمَ صَلَاتَهُ، سَوَاءٌ حَالَ حَائِلٌ أَمْ لَا؟ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا سَبَقَ، وَقَوْلُهُ: وَقَدَّرَ الشَّافِعِيُّ الْقَرِيبَ بِثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ لِأَنَّهُ قَرِيبٌ فِي الْعَادَةِ، هَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلصَّحِيحِ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورُ إنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعُرْفِ لَا مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ، وَالذِّرَاعُ مُؤَنَّثٌ وَمُذَكَّرٌ لُغَتَانِ التَّأْنِيثُ أَفْصَحُ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ التَّذْكِيرَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ زَادَ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ وَلَمْ يَقُلْ: ثَلَاثُ، وَقَوْلُهُ: وَالثَّانِي أَنَّهُ تَقْرِيبٌ، فَإِنْ زَادَ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ جَازَ، هَذَا لَيْسَ تَحْدِيدًا لِلثَّلَاثَةِ بَلْ الثَّلَاثَةُ وَنَحْوُهَا وَمَا قَارَبَهَا يُعْفَى عَنْهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قوله: لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ نِسْوَةً كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَقَالَتْ: إنَّكُنَّ دُونَهَا فِي حِجَابٍ" هَذَا الْأَثَرُ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ بِغَيْرِ إسْنَادٍ.

فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ.
إحداها: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا تَطُولَ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ إذَا صَلَّوْا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَدَّرَ الشَّافِعِيُّ الْقُرْبَ بِثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَإِنْ طَالَتْ الْمَسَافَةُ مِيلًا وَأَكْثَرَ إذَا عَلِمَ صَلَاتَهُ.
الثانية: لَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالْأَكْثَرِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ لِحَدِيثٍ رَوَوْهُ مَرْفُوعًا "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ طَرِيقٌ فَلَيْسَ مَعَ الْإِمَامِ" وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سَلِيمٍ عَنْ تَمِيمٍ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ، وَتَمِيمٌ مَجْهُولٌ.
الثالثة: لَوْ صَلَّى فِي دَارٍ أَوْ نَحْوِهَا بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَحَالَ بَيْنَهُمَا حَائِلُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَصِحُّ إلَّا فِي الْجُمُعَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَصِحُّ مُطْلَقًا.
الرابعة: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عِلْمُ الْمَأْمُومِ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ صَلَّيَا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِيهِ وَالْآخَرُ فِي غَيْرِهِ. وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ بِسَمَاعِ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ خَلْفَهُ أَوْ مُشَاهَدَةِ فِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ مَنْ خَلْفَهُ، وَنَقَلُوا الْإِجْمَاعَ فِي جَوَازِ اعْتِمَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ أَعْمَى اُشْتُرِطَ أَنْ يُصَلِّيَ بِجَنْبِ كَامِلٍ لِيَعْتَمِدَ مُوَافَقَتَهُ مُسْتَدِلًّا بِهَا.