المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ: صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
هِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِهَا وَفَتْحِهَا. حَكَاهُنَّ الْوَاحِدِيُّ عَنْ الْفَرَّاءِ وَالْمَشْهُورُ الضَّمُّ وَبِهِ قُرِئَ فِي السَّبْعِ، وَالْإِسْكَانُ تَخْفِيفٌ مِنْهُ، وَوَجَّهُوا الْفَتْحَ بِأَنَّهَا تَجْمَعُ النَّاسَ، كَمَا يُقَالُ: هُمَزَةٌ وَضُحَكَةٌ لِلْمُكْثِرِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَالْفَتْحُ لُغَةُ بَنِي عَقِيلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِاللُّغَاتِ الثَّلَاثِ، وَكَانَ يَوْمُ

 

ج / 4 ص -243-       الْجُمُعَةِ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعُرُوبَةَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكَانَ يُسَمَّى عُرُوبَةً1 وَالْعُرُوبَةَ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي بَيْنَ الْخَمِيسِ وَالسَّبْتِ، وَأَرَادَ إيضَاحَهُ لِمَنْ يَعْرِفُ الْعُرُوبَةَ وَلَا يَعْرِفُ الْجُمُعَةَ وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا، وَزَعَمَ2 أَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْمَعْلُومِ وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ" وَزَادَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَفِيهِ "تِيبَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَاتَ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ يُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنْ السَّاعَةِ إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ" قَوْلُهُ "مُصِيخَةٌ" بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد مُسِيخَةٌ بِالسِّينِ، أَيْ مُصْغِيَةٌ، وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قِيلَ: مَعْنَى بَيْدَ أَنَّهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ، وَقِيلَ مَعَ أَنَّهُمْ، وَقِيلَ عَلَى أَنَّهُمْ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: أَحَبُّ الْأَيَّامِ أَنْ أَمُوتَ فِيهِ ضُحَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَاجِبَةٌ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ "خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تعالى فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ اسْتِخْفَافًا أَوْ جُحُودًا فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَهُوَ بَعْضٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِيهِ قَوَاعِدُ مِنْ الْأَحْكَامِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، فِي إسْنَادِهِ ضَعِيفَانِ3 وَيُغْنِي عَنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تعالى:
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(الجمعة: من الآية9)وَحَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ4 أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، وَامْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، إلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ: طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كانت أيام الأسبوع في العصور الجاهلية الأولى تسمى هكذا من الأحد ،أول ،أهون ، جبار، مؤنس، عروبة ، شبار، (ط)
2 يقول ابن حازم : إن الجمعة اسم إسلامي وأن اسمه في الجاهلية عروبة قال ابن حجر وفيه نظر فقد قال أهل اللغة اسم قديم كان للجاهلية (ط)
3 أحد هذين الضعيفين عبد الله البلوي وهو واهي الحديث وأخرجه البزازر من وجه آخر وفيه علي بن زيد بن جدعان ضعف الدارقطني وحكم ابن عبد البر على الحديث بوهي إسناده (ط)
4 هو طارق بن شهاب بن عبد شمس بن سلمة بن هلال بن عوف بن جشم التجلي الأحمس أو عبد الله بن يعد في الكوفيين روي ابن أثير بإسناده إلى أبي داود الطيالسي عن شعبة عن قيس ابن مسلم عن طارق بن شهاب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت في خلافة  أبي بكر  (في السرايا وغيرها  ) وهو غير ابن شهاب الزهري محمد بن مسلم عالم الحجاز والشام شيخ ابن جريج والليث ومالك (ط)

 

ج / 4 ص -244-       وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو دَاوُد لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ عَدَمُ سَمَاعِهِ يَكُونُ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ وَمُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَبَا إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ. وَعَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
أما حكم المسألة: فَالْجُمُعَةُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ غَيْرَ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ وَالنَّقْصِ الْمَذْكُورِينَ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ إلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ، وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ غَلِطَ، فَقَالَ: هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، قَالُوا: وَسَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ قَالُوا: وَغَلِطَ مَنْ فَهِمَهُ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ مَنْ خُوطِبَ بِالْجُمُعَةِ وُجُوبًا خُوطِبَ بِالْعِيدَيْنِ مُتَأَكَّدًا، وَاتَّفَقَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسَائِرُ مَنْ حَكَى هَذَا الْوَجْهَ عَلَى غَلَطِ قَائِلِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا يَحِلُّ أَنْ يُحْكَى هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَلَا يُخْتَلَفُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابَيْهِ "كِتَابِ الْإِجْمَاعِ وَكِتَابِ الْإِشْرَافِ" إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا مَا سَبَقَ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ الْجُمُعَةَ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ،؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَالْجُمُعَةُ أَوْلَى، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إلَّا عَلَى امْرَأَةٍ أَوْ مُسَافِرٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مَرِيضٍ" وَلِأَنَّهَا تَخْتَلِطُ بِالرَّجُلِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ".
 الشرح:
حَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ السَّابِقُ وَالْإِجْمَاعُ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: وَلِأَنَّهَا تَخْتَلِطُ بِالرِّجَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّهَا لَا يَلْزَمُ مِنْ حُضُورِهَا الْجُمُعَةَ الِاخْتِلَاطُ، بَلْ تَكُونُ وَرَاءَهُمْ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ وَصَلَّتْ الْجُمُعَةَ جَازَ، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِهِ خَلْفَ الرِّجَالِ وَلِأَنَّ اخْتِلَاطَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ خَلْوَةً لَيْسَ بِحَرَامٍ.
أَمَّا حُكْمُ الفصل:فقال  أَصْحَابُنَا: مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الظُّهْرُ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، وَمَنْ يَلْزَمُهُ الظُّهْرُ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، إلَّا أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ الْمَذْكُورِينَ، فَلَا تَجِبُ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا مُغْمًى عَلَيْهِ، وَسَائِرِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ أَوْ انْخَمَرَ بِسَبَبٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَيَجِبُ عَلَى السَّكْرَانِ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ وَتَفْرِيعُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ لَا يُطَالَبُ بِهَا، وَهَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا؟ تُزَادُ فِي عُقُوبَتِهِ بِسَبَبِهَا فِي الْآخِرَةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مُخَاطَبٌ. وَتَجِبُ عَلَى الْمُرْتَدِّ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ، وَدَلِيلُ عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ سَبَقَ هُنَاكَ، وَلَا

 

ج / 4 ص -245-        تَجِبُ عَلَى امْرَأَةٍ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا تَجِبُ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِلشَّكِّ فِي الْوُجُوبِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الْفُتُوحِ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلْعَجُوزِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ. قَالَ: وَيُكْرَهُ لِلشَّابَّةِ حُضُورُ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا الْعِيدَيْنِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالسَّفَرِ وَأَسْبَابِهِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ انْقَطَعَ عَنْهُ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقَصْدُ، وَأَمَّا الْأَعْمَى فَإِنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ قَائِدٌ لَزِمَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَائِدٌ لَمْ تَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ الضَّرَرَ مَعَ عَدَمِ الْقَائِدِ، وَلَا يَخَافُ مَعَ الْقَائِدِ".
الشرح:
فِي هَذِهِ الْقِطْعَةِ مَسَائِلُ: إحداها: لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمُسَافِرِ، هَذَا مَذْهَبُنَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ لَزِمَتْهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْجُمُعَةُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، وَلِأَنَّهَا أَكْمَلُ، هَذَا إذَا أَمْكَنَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا لِلْخُنْثَى وَالصَّبِيِّ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى سُقُوطِ الْجُمُعَةِ عَنْ الْمُسَافِرِ، وَلَوْ كَانَ سَفَرُهُ قَصِيرًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ، فَإِنْ نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ غَيْرِ يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ لَزِمَتْهُ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي انْعِقَادِهَا بِهِ خِلَافٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا، وَإِنْ نَوَى إقَامَةَ دُونِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، أَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَلَا تَسْقُطُ الْجُمُعَةُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَبَابِ مَسْحِ الْخُفِّ وَغَيْرِهِمَا.
الثانية: لَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا الْمُكَاتَبِ وَسَوَاءٌ الْمُدَبَّرُ وَغَيْرُهُ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْمُدَبَّرَ وَالْمُكَاتَبَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ. قَالَ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْعَبْدِ، فَإِنْ مَنَعَهُ السَّيِّدُ فَلَهُ التَّخَلُّفُ، وَعَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وُجُوبُهَا عَلَى عَبْدٍ يُؤَدِّي الضَّرِيبَةَ وَهُوَ الْخَرَاجُ، وَقَالَ دَاوُد: تَجِبُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، دَلِيلُنَا حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ السَّابِقُ، وَأَمَّا مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ أَمْ لَا، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ وَصَادَفَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ حُرِّيَّتَهُ لَزِمَتْهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الْعَبْدِ فِي مُعْظَمِ الْأَحْكَامِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَيُسْتَحَبُّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهَا وَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ حُضُورُهَا وَلَا تَجِبُ.
الثالثة: لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَرِيضِ سَوَاءٌ فَاتَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِتَخَلُّفِهِ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ أَمْ لَا؟ لِحَدِيثِ طَارِقٍ وَغَيْرِهِ قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: لَوْ تَكَلَّفَ الْمَرِيضُ الْمَشَقَّةَ وَحَضَرَ كَانَ أَفْضَلَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمَرَضُ الْمُسْقِطُ لِلْجُمُعَةِ هُوَ الَّذِي يَلْحَقُ صَاحِبَهُ بِقَصْدِ الْجُمُعَةِ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ مُحْتَمَلَةٍ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيَلْتَحِقُ بِالْمَرِيضِ فِي هَذَا مَنْ بِهِ إسْهَالٌ كَثِيرٌ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَضْبِطُ نَفْسَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلْوِيثُهُ الْمَسْجِدَ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَهَذَا الْمَرَضُ الْمُسْقِطُ لِلْجُمُعَةِ أَخَفُّ مِنْ الْمَرَضِ الْمُسْقِطِ لِلْقِيَامِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَشَقَّةِ الْوَحَلِ وَالْمَطَرِ وَنَحْوِهِمَا.

 

ج / 4 ص -246-       الرابعة: الْأَعْمَى إنْ وَجَدَ قَائِدًا مُتَبَرِّعًا أَوْ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَهُوَ وَاجِدُهَا لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ، وَإِلَّا فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي: تَلْزَمُهُ إنْ أَحْسَنَ الْمَشْيَ بِالْعَصَا بِلَا قَائِدٍ، هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْأَعْمَى الَّذِي يَجِدُ قَائِدًا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الزَّمِنِ إنْ وَجَدَ مَرْكُوبًا مِلْكًا، أَوْ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ وَإِلَّا فَلَا تَلْزَمُهُ، قَالُوا: وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ الْعَاجِزُ عَنْ الْمَشْيِ لَهُ حُكْمُ الزَّمِنِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ أَوْ الْقَرْيَةِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ" وَالِاعْتِبَارُ فِي سَمَاعِ النِّدَاءِ أَنْ يَقِفَ الْمُؤَذِّنُ فِي طَرَفِ الْبَلَدِ وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ، وَالرِّيحُ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ مُسْتَمِعٌ فَإِذَا سَمِعَ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَلْزَمْهُ".
 الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَمْرٍو، وَاَلَّذِي رَفَعَهُ ثِقَةٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَلَهُ شَاهِدٌ - فَذَكَرَ حَدِيثًا شَاهِدًا لَهُ - وَرَاوِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُصَحَّفَ بِابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِي النِّدَاءِ لُغَتَانِ كَسْرُ النُّونِ وَضَمُّهَا وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ أَرْبَعُونَ فَصَاعِدًا مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ وَجَبَ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ فِيهِ وَإِنْ اتَّسَعَتْ خُطَّةُ الْبَلَدِ فَرَاسِخَ، وَسَوَاءٌ سَمِعَ النِّدَاءَ أَمْ لَا، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمُقِيمُونَ فِي غَيْرِ قَرْيَةٍ وَنَحْوِهَا فَإِنْ بَلَغُوا أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ لَزِمَتْهُمْ الْجُمُعَةُ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ فَعَلُوهَا فِي قَرْيَتِهِمْ فَقَدْ أَحْسَنُوا، وَإِنْ دَخَلُوا الْبَلَدَ وَصَلَّوْهَا مَعَ أَهْلِهِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَكَانُوا مُسِيئِينَ بِتَعْطِيلِهِمْ الْجُمُعَةَ فِي قَرْيَتِهِمْ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ1 الْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسِيئِينَ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُ الْجُمُعَةَ فِي قَرْيَةٍ فَفِيمَا فَعَلُوهُ خُرُوجٌ مِنْ الْخِلَافِ، وَغَلَّطَ الْأَصْحَابُ قَائِلَهُ. أَمَّا إذَا نَقَصُوا عَنْ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ فَلَهُمْ حَالَانِ.
أحدهما: أَنْ لَا يَبْلُغَهُمْ النِّدَاءُ مِنْ قَرْيَةٍ تُقَامُ فِيهَا جُمُعَةٌ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قَرْيَتَانِ أَوْ قُرًى مُتَقَارِبَةٌ يَبْلُغُ بَعْضَهَا النِّدَاءُ مِنْ بَعْضِهَا، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ يَنْقُصُ أَهْلُهَا عَنْ أَرْبَعِينَ لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِي بَعْضِهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَوَطِّنِينَ فِي مَحَلِّ الْجُمُعَةِ.
الثاني: أَنْ يَبْلُغَهُمْ النِّدَاءُ مِنْ قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ فَيَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: الْمُعْتَبَرُ نِدَاءُ رَجُلٍ عَالِي الصَّوْتِ يَقِفُ عَلَى طَرَفِ الْبَلَدِ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي يَلِي تِلْكَ الْقَرْيَةَ، وَيُؤَذِّنُ وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ وَالرِّيَاحُ سَاكِنَةٌ، فَإِذَا سَمِعَ صَوْتَهُ مَنْ وَقَفَ فِي طَرَفِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّذِي يَلِي بَلَدَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ أَصْغَى إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي سَمْعِهِ خَلَلٌ وَلَا جَاوَزَ سَمْعُهُ فِي الْجَوْدَةِ عَادَةَ النَّاسِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بألاصل فحرر قلت لعل السقط ( الغزالي ) (ط)

 

ج / 4 ص -247-       وَجَبَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ فِي الْقَرْيَةِ وَإِلَّا فَلَا، وَفِي وَجْهٍ مَشْهُورٍ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَنْ يَقِفَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْجُمُعَةُ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: الْمُعْتَبَرُ وُقُوفُهُ فِي نَفْسِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْجُمُعَةَ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى ضَعْفِ الْوَجْهَيْنِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الْوَجْهُ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْبَلَدَ قَدْ يَتَّسِعُ خُطَّتُهُ بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ الْمُنَادِي فِي وَسَطٍ لَا يَسْمَعُهُ الطَّرَفُ، فَكَيْفَ يَتَعَدَّى إلَى قَرْيَةٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُعْتَبَرُ وُقُوفُهُ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ كَمَنَارَةٍ أَوْ سُوَرٍ وَنَحْوِهِمَا، وَهَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَالَ أَصْحَابُنَا، لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ كَطَبَرِسْتَانَ فَإِنَّهَا بَيْنَ غِيَاضٍ وَأَشْجَارٍ تَمْنَعُ الصَّوْتَ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الِارْتِفَاعُ عَلَى شَيْءٍ يَعْلُو الْغِيَاضَ وَالْأَشْجَارَ، وَلَوْ بَلَغَ النِّدَاءُ مَنْ وَقَفَ فِي طَرَفِ الْقَرْيَةِ دُونَ مَنْ وَقَفَ فِي وَسَطِهَا لَزِمَ جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْجُمُعَةُ، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ جَاوَزَ الْعَادَةَ فِي حِدَّةِ السَّمَاعِ فَلَا تَعْوِيلَ عَلَى سَمَاعِهِ، وَلَوْ كَانَتْ قَرْيَةً عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ فَسَمِعَ أَهْلُهَا النِّدَاءَ لِعُلُوِّهَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ عَلَى أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ لَمْ يَسْمَعُوا، أَوْ كَانَتْ قَرْيَةً فِي وَادٍ وَنَحْوِهِ لَا يَسْمَعُ أَهْلُهَا النِّدَاءَ لِانْخِفَاضِهَا، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ لَسَمِعُوا فَوَجْهَانِ أصحهما: وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الِاعْتِبَارُ بِتَقْدِيرِ الِاسْتِوَاءِ، فَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْعَالِيَةِ، وَتَجِبُ عَلَى الْمُنْخَفِضَةِ.
والثاني: عَكْسُهُ اعْتِبَارًا بِنَفْسِ السَّمَاعِ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ أَمَّا إذَا سَمِعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ النَّاقِصُونَ عَنْ أَرْبَعِينَ النِّدَاءَ مِنْ بَلَدَيْنِ فَأَيَّهُمَا حَضَرُوهُ جَازَ وَالْأَوْلَى حُضُورُ أَكْثَرِهِمَا جَمَاعَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إذَا كَانَ خَارِجَ الْبَلَدِ وَنَقَصَ عَدَدُهُمْ عَنْ أَرْبَعِينَ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُهَا عَلَى مَنْ بَلَغَهُ نِدَاءُ الْبَلَدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَمْرِو بْنُ الْعَاصِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: تَجِبُ عَلَى مَنْ يُمْكِنُهُ إذَا فَعَلَهَا أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ فَيَبِيتَ فِيهِمْ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَجِبُ عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَلَدِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَرَبِيعَةُ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَهْلِ الرَّأْيِ، لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجُ الْبَلَدِ سَوَاءٌ سَمِعَ النِّدَاءَ أَمْ لَا. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ.
وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
"لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ" وَاحْتُجَّ لِابْنِ عُمَرَ وَمُوَافِقِيهِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إلَى أَهْلِهِ" دَلِيلُنَا: حَدِيثُ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ
"لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ" فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ ضَعِيفٌ جِدًّا

 

ج / 4 ص -248-       والثاني: لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي مِصْرٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَضَعِيفٌ جِدًّا، وَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَفِي إسْنَادِهِ رَجُلٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَآخَرُ مَجْهُولٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا تَجِبُ عَلَى خَائِفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ" وَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ فِي طَرِيقِهِ إلَى الْمَسْجِدِ مَطَرٌ تَبْتَلُّ بِهِ ثِيَابُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِالْقَصْدِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ مَرِيضٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ آكَدُ مِنْ فَرْضِ الْجُمُعَةِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ قَرِيبٌ أَوْ صِهْرٌ أَوْ ذُو وُدٍّ يَخَافُ مَوْتَهُ؛ لِمَا رُوِيَ "أَنَّهُ اُسْتُصْرِخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنُ عُمَرَ يَسْعَى إلَى الْجُمُعَةِ فَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَمَضَى إلَيْهِ" وَذَلِكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ، وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ بِفَوَاتِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلَمِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ".
 الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَحَدِيثُ الِاسْتِصْرَاخِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي فِي فَضْلِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا.
وَقَوْلُهُ "فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ" يَعْنِي مَجَازًا فَإِنَّهُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَابْنُ عُمَرَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلٍ. وَقَوْلُهُ "اُسْتُصْرِخَ" هُوَ مِنْ الصُّرَاخِ وَهُوَ الصَّوْتُ، يُقَالُ صَرَخَ يَصْرُخُ بِضَمِّ الرَّاءِ فِي الْمُضَارِعِ وَقَوْلُهُ "ذُو وُدٍّ" هُوَ بِضَمِّ الْوَاوِ، أَيْ صِدِّيقٌ. وَقَوْلُهُ "يَخَافُ ضَيَاعَهُ" بِفَتْحِ الضَّادِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ عُذْرٍ سَقَطَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ سَقَطَتْ بِهِ الْجُمُعَةُ إلَّا الرِّيحَ فِي اللَّيْلِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ، وَفِي الْوَحْلِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ الصحيح عَنْهُمْ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ عُذْرٌ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ والثاني: لَيْسَ بِعُذْرٍ فِيهِمَا والثالث: هُوَ عُذْرٌ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الْجُمُعَةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ حِكَايَةِ أَبِي الْمَكَارِمِ صَاحِبِ الْعُدَّةِ، قَالَ: وَبِهِ أَفْتَى أَئِمَّةُ طَبَرِسْتَانَ، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، يَوْمِ رَدْغٍ أَيْ طِينٍ وَزَلَقٍ: لَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قُلْ: الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ، وَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَالَ: فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ الْجُمُعَةَ عَزِيمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُخْرِجَكُمْ تَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ مَطَرٍ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْمَطَرَ كَانَ مَوْجُودًا، فَلَمْ يُعَلِّلْ سُقُوطَ الْجُمُعَةِ إلَّا بِالطِّينِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ الضَّابِطِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الصُّوَرُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهَا مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ صَلَاة الْجَمَاعَةِ، وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ عِبَارَةَ الْأَصْحَابِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَخْصَرَ وَأَعَمَّ. أَمَّا التَّمْرِيضُ فَقَالَ: إنْ كَانَ لِلْمَرِيضِ مُتَعَهِّدٌ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ وَحَاجَتِهِ نُظِرَ إنْ كَانَ ذَا قَرَابَةٍ زَوْجَةً أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ صِهْرًا أَوْ صَدِيقًا وَنَحْوَهُمْ - فَإِنْ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ أَوْ غَيْرَ مُشْرِفٍ لَكِنْ يَسْتَأْنِسُ بِهَذَا الشَّخْج / 4 ص - حَضَرَهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِفًا وَلَا يَسْتَأْنِسُ

 

ج / 4 ص -249-       بِهِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَاهُ أَيْضًا الرَّافِعِيُّ: أَنَّهَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَلَا يَتَقَاصَرُ عَنْ عُذْرِ الْمَطَرِ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا لَيْسَ لَهُ حَقٌّ بِوَجْهٍ مِنْ الْأُمُورِ السَّابِقَةِ لَمْ تَسْقُطْ الْجُمُعَةُ عَنْ الْمُتَخَلِّفِ عِنْدَهُ بِلَا خِلَافٍ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ لَهُ مُتَعَهِّدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَهِّدٌ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: إنْ خَافَ هَلَاكَهُ إنْ غَابَ عَنْهُ فَهُوَ عُذْرٌ يُسْقِطُ الْجُمُعَةَ، سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، قَالُوا: لِأَنَّ إنْقَاذَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْهَلَاكِ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ بِغَيْبَتِهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لَا يَبْلُغُ دَفْعُهُ مَبْلَغَ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أصحها: أَنَّهُ عُذْرٌ أَيْضًا والثاني: لَا والثالث: عُذْرٌ فِي الْقَرِيبِ وَنَحْوِهِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ؛ وَلَوْ كَانَ لَهُ مُتَعَهِّدٌ لَا يَتَفَرَّغُ لِخِدْمَتِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِشِرَاءِ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ كَمَنْ لَا مُتَعَهِّدَ لَهُ لِفَوَاتِ مَقْصُودِ الْمُتَعَهِّدِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَضَرَ الْجَامِعَ إلَّا الْمَرِيضَ وَمَنْ فِي طَرِيقِهِ مَطَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمَا لِلْمَشَقَّةِ وَقَدْ زَالَتْ بِالْحُضُورِ".
 الشرح:
هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُصَنِّفُ نَاقِصٌ يَرِدُ عَلَيْهِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَجِدُ قَائِدًا، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى. قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا حَضَرَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالْمُسَافِرُونَ الْجَامِعَ فَلَهُمْ الِانْصِرَافُ وَيُصَلُّونَ الظُّهْرَ، وَخَرَّجَ ابْنُ الْقَاصِّ وَجْهًا فِي الْعَبْدِ: أَنَّهُ إذَا حَضَرَ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَأَمَّا الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَجِدُ قَائِدًا فَإِذَا حَضَرَ لَزِمَتْهُ وَلَا خِلَافَ لِزَوَالِ الْمَشَقَّةِ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْصِرَافُ، بَلْ إذَا حَضَرَ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ، وَالْأَوْلَى التَّفْصِيلُ فَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَهُ الِانْصِرَافُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَقَبْلَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ وَنِيَّتِهَا فَإِنْ لَمْ تَلْحَقْهُ زِيَادَةُ مَشَقَّةٍ بِانْتِظَارِهَا لَزِمَتْهُ، وَإِنْ لَحِقَتْهُ لَمْ تَلْزَمْهُ بَلْ لَهُ الِانْصِرَافُ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ حَسَنٌ وَاسْتَحْسَنَهُ الرَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَا يَبْعُدُ حَمْلُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ قَالَ: وَأَلْحَقُوا بِالْمَرَضِ الْأَعْذَارَ الْمُلْحَقَةَ بِهِ، وَقَالُوا: إذَا حَضَرُوا لَزِمَتْهُمْ الْجُمُعَةُ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى التَّفْصِيلِ أَيْضًا إنْ لَمْ يَزِدْ ضَرَرُ الْمَعْذُورِ بِالصَّبْرِ إلَى فَرَاغِ الْجُمُعَةِ لَزِمَتْهُ، وَإِنْ زَادَ فَلَهُ الِانْصِرَافُ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَشْرَعُوا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُمْ ثُمَّ أَرَادُوا قَطْعَهَا قَالَ فِي الْبَيَانِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَفِي جَوَازِهِ لِلْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْمَرِيُّ، وَلَمْ يُصَحِّحْ أَحَدَهُمَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا قَطْعُهَا؛ لِأَنَّهَا انْعَقَدَتْ عَنْ فَرْضِهِمَا فَتَعَيَّنَ إتْمَامُهَا. وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ وَمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الْفَرِيضَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا حَرُمَ عَلَيْهِ قَطْعُهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في"الأم" وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ إلَّا احْتِمَالًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ اتَّفَقَ يَوْمُ عِيدٍ وَيَوْمُ جُمُعَةٍ فَحَضَرَ أَهْلُ السَّوَادِ فَصَلَّوْا الْعِيدَ جَازَ أَنْ يَنْصَرِفُوا وَيَتْرُكُوا الْجُمُعَةَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ اجْتَمَعَ عِيدَانِ فِي يَوْمِكُمْ فَمَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَنَا الْجُمُعَةَ فَلِيُصَلِّ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلِيَنْصَرِفْ" وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّهُمْ إذَا قَعَدُوا فِي الْبَلَدِ لَمْ يَتَهَيَّئُوا

 

ج / 4 ص -250-       بِالْعِيدِ، فَإِنْ خَرَجُوا ثُمَّ رَجَعُوا لِلْجُمُعَةِ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ وَالْجُمُعَةُ تَسْقُطُ بِالْمَشَقَّةِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْعِيدِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ كَأَهْلِ الْبَلَدِ، وَالْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ" هُوَ الْأَوَّلُ.
 الشرح:
هَذَا الْأَثَرُ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَالْعَالِيَةُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ هِيَ قَرْيَةٌ بِالْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ؛ وَأَهْلُ السَّوَادِ هُمْ أَهْلُ الْقُرَى، وَالْمُرَادُ هُنَا أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ يَبْلُغُهُمْ النِّدَاءُ وَلَزِمَهُمْ حُضُورُ الْجُمُعَةِ فِي الْبَلَدِ فِي غَيْرِ الْعِيدِ؛ وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ "رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ" بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ مَعَ أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى نَظَائِرِهِ. وَقَوْلُهُ "يَتَهَيَّأُ" مَهْمُوزٌ.
أما الأحكام: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا اتَّفَقَ يَوْمُ جُمُعَةٍ يَوْمَ عِيدٍ وَحَضَرَ أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ لِبُلُوغِ نِدَاءِ الْبَلَدِ فَصَلَّوْا الْعِيدَ لَمْ تَسْقُطْ الْجُمُعَةُ بِلَا خِلَافٍ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَفِي أَهْلِ الْقُرَى وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ في"الأم" وَالْقَدِيمُ: أَنَّهَا تَسْقُطُ والثاني: لَا تَسْقُطُ، وَدَلِيلُهَا فِي الْكِتَابِ، وَأَجَابَ هَذَا الثَّانِي عَنْ قَوْلِ عُثْمَانَ وَنَصِّ الشَّافِعِيّ فَحَمَلَهُمَا عَلَى مَنْ لَا يَبْلُغُهُ النِّدَاءُ.
فإن قيل: هَذَا التَّأْوِيلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَبْلُغُهُ النِّدَاءُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْعِيدِ فَفِيهِ أَوْلَى فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْقَوْلِ لَهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ إذَا حَضَرُوا الْبَلَدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غَيْرَ يَوْمِ الْعِيدِ يُكْرَهُ لَهُمْ الْخُرُوجُ قَبْلَ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ، صَرَّحَ بِهَذَا كُلِّهِ الْمَحَامِلِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي التَّجْرِيدِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَصْحَابِ، قَالُوا: فَإِذَا كَانَ يَوْمَ عِيدٍ زَالَتْ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ فَبَيَّنَ عُثْمَانُ وَالشَّافِعِيُّ زَوَالَهَا، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ، وَهُوَ سُقُوطُهَا عَنْ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ يَبْلُغُهُمْ النِّدَاءُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ الْجُمُعَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ وَسُقُوطُهَا عَنْ أَهْلِ الْقُرَى وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: إذَا صَلَّوْا الْعِيدَ لَمْ تَجِبْ بَعْدَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَلَا الظُّهْرِ، وَلَا غَيْرِهِمَا إلَّا الْعَصْرَ لَا عَلَى أَهْلِ الْقُرَى وَلَا أَهْلِ الْبَلَدِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرُوِّينَا نَحْوَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم وَقَالَ أَحْمَدُ: تَسْقُطُ الْجُمُعَةُ عَنْ أَهْلِ الْقُرَى وَأَهْلِ الْبَلَدِ وَلَكِنْ يَجِبُ الظُّهْرُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَسْقُطُ الْجُمُعَةُ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَلَا أَهْلِ الْقُرَى. وَاحْتَجَّ الَّذِينَ أَسْقَطُوا الْجُمُعَةَ عَنْ الْجَمِيعِ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَقَالَ: "شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فَصَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ وَقَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلِيُصَلِّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد؛ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "قَدْ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ فَمَنْ شَاءَ أَخَّرَ أَمْرَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجْتَمِعُونَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ،
وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْوُجُوبُ. وَاحْتَجَّ عَطَاءٌ بِمَا رَوَاهُ هُوَ قَالَ: "اجْتَمَعَ يَوْمُ جُمُعَةٍ وَيَوْمُ عِيدٍ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: عِيدَانِ

 

 

ج / 4 ص -251-        اجْتَمَعَا فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا فَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ "صَلَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي يَوْمِ عِيدٍ يَوْمَ جُمُعَةٍ أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ رُحْنَا إلَى الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا فَصَلَّيْنَا وُحْدَانًا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَلَمَّا قَدِمَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عُثْمَانَ وَتَأَوَّلُوا الْبَاقِيَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى لَكِنْ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ السُّنَّةِ1 مَرْفُوعٌ وَتَأْوِيلُهُ أَضْعَفُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ، فَإِنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ أَجُزْأَهُ عَنْ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُ لِعُذْرٍ، فَإِذَا حَمَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَفَعَلَ أَجْزَأَهُ، كَالْمَرِيضِ إذَا حَمَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَصَلَّى مِنْ قِيَامٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لَا يُصَلِّيَ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ فَاتَتْ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا زَالَ الْعُذْرُ فَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ، فَإِنْ صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ2 إذَا صَلَّى الصَّبِيُّ الظُّهْرَ ثُمَّ بَلَغَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَهُ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ صَلَّى غَيْرُهُ مِنْ الْمَعْذُورِينَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ مَا صَلَّى الصَّبِيُّ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَمَا صَلَّى غَيْرُهُ فَرْضٌ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا صَلَّى فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الظُّهْرَ، ثُمَّ بَلَغَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الظُّهْرِ، فَكَذَلِكَ الْجُمُعَةُ فَإِنْ صَلَّى الْمَعْذُورُ الظُّهْرَ ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ سَقَطَ الْفَرْضُ بِالظُّهْرِ، وَكَانَتْ الْجُمُعَةُ نَافِلَةً. وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَحْتَسِبُ اللَّهُ لَهُ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَخَّرَ الْمَعْذُورُ الصَّلَاةَ حَتَّى فَاتَتْ الْجُمُعَةُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْجَمَاعَةِ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ إخْفَاءَ الْجَمَاعَةِ لِئَلَّا يُتَّهَمُوا فِي الدِّينِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ عُذْرُهُمْ ظَاهِرًا لَمْ يُكْرَهْ إظْهَارُ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُتَّهَمُونَ مَعَ ظُهُورِ الْعُذْرِ".
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمَعْذُورُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ ضَرْبَانِ أحدهما: مَنْ يُتَوَقَّعُ زَوَالُ عُذْرِهِ وَوُجُوبُ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَنَحْوِهِمْ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ تَأْخِيرُهَا إلَى الْيَأْسِ مِنْ الْجُمُعَةِ لِاحْتِمَالِ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا، وَيَحْصُلُ الْيَأْسُ بِرَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَجْهًا: أَنَّهُ يُرَاعَى تَصَوُّرُ الْإِدْرَاكِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا فَانْتَهَى الْوَقْتُ الَّذِي بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ لَمْ يُدْرِكْ الْجُمُعَةَ حَصَلَ الْفَوَاتُ فِي حَقِّهِ. الضَّرْبُ الثاني: مَنْ لَا يَرْجُو زَوَالَ عُذْرِهِ كَالْمَرْأَةِ وَالزَّمِنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أصحهما وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْخُرَاسَانِيُّونَ ن - وَهُوَ ظَاهِرُ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُمْ تَعْجِيلُ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُحَافَظَةً عَلَى فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ والثاني: يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا حَتَّى تَفُوتَ الْجُمُعَةُ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَنْشَطُونَ لِلْجُمُعَةِ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ صَلَاةُ الْكَامِلِينَ فَاسْتُحِبَّ كَوْنُهَا الْمُتَقَدِّمَةَ، وَلَوْ قِيلَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القاعدة أن الصحابي إذا وصف فعلا بأنه من السنة فقد رفع  هذا الفعل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا كان فعل ابن الزبير موقوفا عليه أو عملا اجتهادا  حتى جاء ابن عباس وقرر أنه من السنة (ط)
2 يعني (أبابكر بن الحداد المصري ) (ط)

 

ج / 4 ص -252-       بِالتَّفْصِيلِ، لَكَانَ حَسَنًا، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ هَذَا الشَّخْصُ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَا يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ - وَإِنْ تَمَكَّنَ اُسْتُحِبَّ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ وَأَنْ لَوْ تَمَكَّنَ أَوْ نَشِطَ حَضَرَهَا - اُسْتُحِبَّ التَّأْخِيرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَعْذُورِينَ الْجَمَاعَةُ فِي ظُهْرِهِمْ، وَحَكَى 1ُ وَالرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُمْ الْجَمَاعَةُ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ الْمَشْرُوعَةَ هَذَا الْوَقْتَ الْجُمُعَةُ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي غَيْرِ الْبَلَدِ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُسْتَحَبُّ فِي ظُهْرِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ فَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَسْتَحِبُّ لَهُمْ إخْفَاءُ الْجَمَاعَةِ لِئَلَّا يُتَّهَمُوا فِي الدِّينِ وَيُنْسَبُوا إلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ تَهَاوُنًا. قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: هَذَا إذَا كَانَ عُذْرُهُمْ خَفِيًّا. فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يُسْتَحَبَّ الْإِخْفَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُتَّهَمُونَ حِينَئِذٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُسْتَحَبُّ الْإِخْفَاءُ مُطْلَقًا عَمَلًا بِظَاهِرِ نَصِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُفْطَنُ لِلْعُذْرِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ يُتَّهَمُ صَاحِبُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِعُذْرِهِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى الظُّهْرِ مَعَ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى الْجُمُعَةِ، وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْوَجْهَ الرَّافِعِيُّ وَإِذَا كَانَ الْعُذْرُ خَفِيًّا فَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ: أُحِبُّ إخْفَاءَ الْجَمَاعَةِ كَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ، وَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهَا كَثِيرُونَ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يُكْرَهُ إخْفَاءُ الْجَمَاعَةِ، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَ عُذْرُهُمْ ظَاهِرًا لَمْ يُكْرَهْ إظْهَارُ الْجَمَاعَةِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا صَلَّى الْمَعْذُورُ الظُّهْرَ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ وَتَمَكَّنَ مِنْ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَتْهُ ظُهْرُهُ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ بِالِاتِّفَاقِ إلَّا الصَّبِيَّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ كَمَا ضَعَّفَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ إذَا زَالَ إشْكَالُهُ فَيَلْزَمُهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَهُوَ الْآنَ مُتَمَكِّنٌ، وَهَذَا يَرِدُ عَلَى الْمُصَنِّفِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ هُوَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخُنْثَى، أَمَّا إذَا زَالَ الْعُذْرُ فِي أَثْنَاءِ الظُّهْرِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: قَالَ الْقَفَّالُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ كَرُؤْيَةِ الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ بِالتَّيَمُّمِ، وَهَذَا يَقْتَضِي خِلَافًا فِي بُطْلَانِ ظُهْرِهِ كَالْخِلَافِ هُنَاكَ، وَيَقْتَضِي خِلَافًا فِي اسْتِحْبَابِ قَطْعِهَا وَالْبَقَاءِ فِيهَا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي بُطْلَانِ هَذِهِ الظُّهْرَ وَجْهَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ لِاتِّصَالِهَا بِالْمَقْصُودِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ إذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ وَجَدَ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ، أَوْ تَمَكَّنَ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً مِنْ نِكَاحِ حُرَّةٍ وَنَظَائِرِهِ، وَهَذَا الْخِلَافُ تَفْرِيعٌ عَلَى إبْطَالِ ظُهْرِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ إذَا قَدَّمَهَا عَلَى الْجُمُعَةِ، أَمَّا إذَا لَمْ تَبْطُلْ تِلْكَ فَهَذِهِ أَوْلَى.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَعْذُورِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ؛ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ، فَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ الصحيح الْمَشْهُورُ الْجَدِيدُ: أَنَّ فَرْضَهُ الظُّهْرُ، وَتَقَعُ الْجُمُعَةُ نَافِلَةً لَهُ، كَمَا تَقَعُ لِلصَّبِيِّ نَافِلَةً والثاني: وَهُوَ الْقَدِيمُ يَحْتَسِبُ اللَّهَ تعالى بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ وَقَدْ سَبَقَ نَحْوُهُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ، وَدَلِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ مَا أَشَرْت إلَيْهِ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْذُورِينَ كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِمْ فَرْضُهُمْ الظُّهْرُ، فَإِنْ صَلَّوْهَا صَحَّتْ، وَإِنْ تَرَكُوا الظُّهْرَ وَصَلَّوْا الْجُمُعَةَ أَجْزَأَتْهُمْ بِالْإِجْمَاعِ، نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَإِمَامُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر (ش) قلت: لعل السقط ( الغزالي ) (ط)

 

ج / 4 ص -253-       الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ فَرْضُهُمْ الظُّهْرَ أَرْبَعًا فَكَيْفَ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ بِرَكْعَتَيْ الْجُمُعَةِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْجُمُعَةَ وَإِنْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ فَهِيَ أَكْمَلُ مِنْ الظُّهْرِ بِلَا شَكٍّ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ عَلَى أَهْلِ الْكَمَالِ. وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْ الْمَعْذُورِ تَخْفِيفًا فَإِذَا تَكَلَّفَهَا فَقَدْ أَحْسَنَ فَأَجْزَأَهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَرِيضِ إذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ، وَالْمُتَوَضِّئِ إذَا تَرَكَ مَسْحَ الْخُفِّ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَشِبْهِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ.
فرع: إذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ حُضُورَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ كَحُضُورِهَا لِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَشَرَحْنَاهُ هُنَاكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا تُشْتَهَى كُرِهَ حُضُورُهَا وَإِلَّا فَلَا، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ، فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الظُّهْرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْضُ الْجُمُعَةَ لَوَجَبَ قَضَاؤُهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا تُجْزِئُهُ، وَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْجُمُعَةُ، وَلَوْ كَانَ الْفَرْضُ الظُّهْرَ، وَالْجُمُعَةُ بَدَلًا عَنْهُ لَمَا أَثِمَ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ إلَى الظُّهْرِ، كَمَا لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الصَّوْمِ إلَى الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إنْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى فِعْلِ الظُّهْرِ أَثِمُوا بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّهُ يُجْزِيهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدِ مِنْهُمْ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُمْ[عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ1]لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا الظُّهْرَ: وَفَرْضُ الْجُمُعَةِ مُتَوَجَّهٌ عَلَيْهِمْ".
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْجُمُعَةِ، فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ (الْجَدِيدُ) : بُطْلَانُهَا (وَالْقَدِيمُ) : صِحَّتُهَا، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ بُطْلَانُهَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: هُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ الْأَصْلِيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَاذَا؟ فَالْجَدِيدُ يَقُولُ: الْجُمُعَةُ، وَالْقَدِيمُ: الظُّهْرُ، وَالْجُمُعَةُ بَدَلٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ بَدَلًا لَجَازَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَصْلِ، وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ إذَا عَصَى بِفِعْلِ الظُّهْرِ هَلْ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا؟
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إذَا تَرَكَ آحَادُ أَهْلِ الْبَلَدِ الْجُمُعَةَ وَصَلَّوْا الظُّهْرَ، أَمَّا إذَا تَرَكَهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَصَلَّوْا الظُّهْرَ فَيَأْثَمُونَ وَيَصِحُّ ظُهْرُهُمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: لَا فَرْقَ بَيْنَ تَرْكِ الْجَمِيعِ وَالْآحَادِ، فَفِي الْجَدِيدِ لَا يَصِحُّ ظُهْرُهُمْ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْهَا، وَفَرْضُ الْجُمُعَةِ مُتَوَجَّهٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُصَنِّفِينَ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فَإِنْ قلنا: بِالْجَدِيدِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَفَرْضُ الْجُمُعَةِ بَاقٍ وَيَجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُهَا فَإِنْ حَضَرَهَا وَصَلَّاهَا فَذَاكَ، وَإِنْ فَاتَتْهُ لَزِمَهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ، وَهَلْ تَكُونُ صَلَاتُهُ الْأُولَى بَاطِلَةً؟ أَمْ يَتَبَيَّنُ وُقُوعُهَا نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مابين المعقوفين ساقط من ش وق (ط)

 

ج / 4 ص -254-       فِي نَظَائِرِهَا، كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَقَدْ سَبَقَتْ جُمْلَةٌ مِنْ نَظَائِرِهَا فِي أَوَّلِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَإِنْ قلنا: بِالْقَدِيمِ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ بِالْجُمُعَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:
أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِيهِ قَوْلَانِ.
 والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَسْقُطُ بَلْ يَبْقَى الْخِطَابُ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ مَا دَامَتْ مُمْكِنَةً، وَإِنَّمَا مَعْنَى صِحَّةِ الظُّهْرِ الِاعْتِدَادُ بِهَا حَتَّى لَوْ فَاتَتْ الْجُمُعَةُ أَجْزَأَتْهُ الظُّهْرُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: يَسْقُطُ أَمْ لَا. فَإِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ فَفِي الْفَرْضِ مِنْهُمَا طَرِيقَانِ أحدهما: الْفَرْضُ إحْدَاهُمَا مُبْهَمَةً، وَيَحْتَسِبُ اللَّهَ تعالى بِمَا شَاءَ وأصحهما وَأَشْهُرُهُمَا فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أصحها: الْفَرْضُ الظُّهْرُ والثاني: الْجُمُعَةُ والثالث: كِلَاهُمَا، وَهُوَ قَوِيٌّ والرابع: إحْدَاهُمَا مُبْهَمَةً، هَذَا كُلُّهُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ فَلَوْ صَلَّاهَا بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ وَقَبْلِ سَلَامِهِ فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبَا الشَّامِلِ وَالْمُسْتَظْهَرَيْ أحدهما: صِحَّتُهَا قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ فَاتَتْ وأصحهما: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ، قَالَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ فَوَاتُهَا إلَّا بِسَلَامِ الْإِمَامِ لِاحْتِمَالِ عَارِضٍ بَعْدَهَا، فَيَجِبُ اسْتِئْنَافُهَا، وَلَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَصَلَّوْا الظُّهْرَ فَالْفَوَاتُ فِي حَقِّهِمْ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ ضِيقِهِ، بِحَيْثُ لَا يَسَعُ رَكْعَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصول ولعله يريد علي بن حزم أبا محمد الإمام الظاهري المعروف وكان ذكره باسمه مجردا من كنيته معروفا للشارح ومن في طبقته والله أعلم (ط)

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ فَصَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِهَا.
ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَزُفَرُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُجْزِئُهُ الظُّهْرُ، لَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ الظُّهْرُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: لَا تَبْطُلُ إلَّا بِالْإِحْرَامِ بِالْجُمُعَةِ، وَقَالَ1 عَلِيٌّ: إنَّهُ يَلْزَمُهُ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ مَا لَمْ تَفُتْ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَمَنْ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ، وَهُوَ يُرِيدُ السَّفَرَ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ فَوْتَ السَّفَرِ - جَازَ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْ الصُّحْبَةِ فَيَتَضَرَّرُ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ الْفَوْتَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ بِالسَّفَرِ، وَهَلْ يَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَجِبْ[عَلَيْهِ]فَلَا يَحْرُمُ التَّفْوِيتُ كَبَيْعِ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ والثاني: لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لِوُجُوبِ التَّسَبُّبِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ كَانَ دَارُهُ عَلَى بُعْدٍ لَزِمَهُ الْقَصْدُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَوُجُوبُ التَّسَبُّبِ كَوُجُوبِ الْفِعْلِ؛ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ السَّفَرُ بَعْدَ وُجُوبِ الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ بَعْدَ وُجُوبِ التَّسَبُّبِ.
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ تُبِيحُ تَرْكَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَوْ حَدَثَتْ بَعْدَهُ، إلَّا السَّفَرَ فَفِيهِ صُوَرٌ

 

ج / 4 ص -255-       إحداها: إذَا سَافَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ جَازَ بِلَا خِلَافٍ بِكُلِّ حَالٍ.
الثانية: أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فِي طَرِيقِهِ بِأَنْ يَكُونَ فِي طَرِيقِهِ مَوْضِعٌ يُصَلِّي فِيهِ الْجُمُعَةَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا فِيهِ جَازَ لَهُ السَّفَرُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِيهِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ أَهْمَلَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي التَّنْبِيهِ وَذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقِهِ مَوْضِعٌ يُصَلِّي فِيهِ الْجُمُعَةَ - فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي تَأْخِيرِ السَّفَرِ بِأَنْ تَكُونَ الرِّفْقَةُ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمْ السَّفَرُ خَارِجِينَ فِي الْحَالِ، وَيَتَضَرَّرُ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهُمْ - جَازَ السَّفَرُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيَّ حَكَى فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِالْجَوَازِ.
الثالثة: أَنْ يُسَافِرَ بَيْنَ الزَّوَالِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَحَيْثُ جَوَّزْنَاهُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أصحهما عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ والثاني: يَجُوزُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَحَرْمَلَةَ وَاخْتَلَفُوا فِي مَحِلِّهِمَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَرَيَانِهَا فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ الَّذِي طَرَفَاهُ كَالتِّجَارَةِ، فَأَمَّا الطَّاعَةُ وَاجِبَةً كَانَتْ أَمْ مُسْتَحَبَّةً فَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ فِي سَفَرِهَا، وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ بِجَوَازِهِ وَخَصُّوا الْقَوْلَيْنِ بِالْمُبَاحِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: فِي الطَّاعَةِ طَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ: الْجَوَازُ والثاني: قَوْلَانِ، وَحَيْثُ حَرَّمْنَا السَّفَرَ فَسَافَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّرَخُّصُ مَا لَمْ تَفُتْ الْجُمُعَةُ ثُمَّ حَيْثُ بَلَغَ وَقْتُ فَوَاتِهَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين سافط من ش و ق (ط)

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا
 أَمَّا لَيْلَتُهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا مَاحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسَافِرُ بَعْدَ دُخُولِ الْعِشَاءِ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَمَّا السَّفَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ إذَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الرِّفْقَةِ وَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ فِي طَرِيقِهِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، وَأَمَّا السَّفَرُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالزَّوَالِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا تَحْرِيمُهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَالنَّخَعِيُّ، وَجَوَّزَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنه، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا الْبَيْعُ[فَيُنْظَرُ1 فِيهِ]فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَبْلَ ظُهُورِ الْإِمَامِ كُرِهَ، فَإِنْ ظَهَرَ الْإِمَامُ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ حَرُمَ لقوله تعالى:
"إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ" فَإِنْ تَبَايَعَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ وَالْآخَرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِهَا أَثِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ

 

ج / 4 ص -256-       فَاشْتَغَلَ عَنْهُ، وَالْآخَرُ شَغَلَهُ عَنْهُ، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَخْتَصُّ بِالْعَقْدِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ كَالصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ".
 الشرح:
فِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ في"الأم" وَالْأَصْحَابُ: إذَا تَبَايَعَ رَجُلَانِ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَحْرُمْ بِحَالٍ وَلَمْ يُكْرَهْ الثانية: إذَا تَبَايَعَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ فَرْضِهَا أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِهَا - فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ - لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَبْلَ ظُهُورِ الْإِمَامِ، أَوْ قَبْلَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَبْلَ شُرُوعِ الْمُؤَذِّنِ فِي الْأَذَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْخَطِيبِ، كُرِهَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَشُرُوعِ الْمُؤَذِّنِ فِي الْأَذَانِ حَرُمَ الْبَيْعُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ جَمِيعًا، سَوَاءٌ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ، وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ: إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ دُونَ الْآخَرِ حَرُمَ عَلَى صَاحِبِ الْفَرْضِ، وَكُرِهَ لِلْآخَرِ، وَلَا يَحْرُمُ، وَهَذَا شَاذٌّ بَاطِلٌ، وَالصَّوَابُ: الْجَزْمُ بِالتَّحْرِيمِ عَلَيْهِمَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُهُ فِي الْكِتَابِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَحْصُلُ التَّحْرِيمُ بِمُجَرَّدِ شُرُوعِ الْمُؤَذِّنِ فِي الْأَذَانِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَإِنْ أَذَّنَ قَبْلَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ كُرِهَ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَحْرُمْ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ النَّصِّ، وَصَرَّحَ بِهِ أَيْضًا الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ، وَحَيْثُ حَرَّمْنَا الْبَيْعَ فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ جَلَسَ لَهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ. أَمَّا إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ فَقَامَ فِي الْحَالِ قَاصِدًا الْجُمُعَةَ، فَتَبَايَعَ فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ يَمْشِي وَلَمْ يَقِفْ، أَوْ قَعَدَ فِي الْجَامِعِ فَبَاعَ فَلَا يَحْرُمُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ.
الثالثة: حَيْثُ حَرَّمْنَا الْبَيْعَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْعُقُودُ وَالصَّنَايِعُ وَكُلُّ مَا فِيهِ تَشَاغُلٌ عَنْ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ فِي تَهْذِيبِهِ وَلَا يُزَالُ التَّحْرِيمُ حَتَّى يَفْرَغُوا مِنْ الْجُمُعَةِ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إذَا تَبَايَعَا بَيْعًا مُحَرَّمًا بَعْدَ النِّدَاءِ
مَذْهَبُنَا صِحَّتُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا يَصِحُّ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي أَبْنِيَةٍ[مُجْتَمِعَةٍ]يَسْتَوْطِنُهَا مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ، مِنْ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُقَمْ الْجُمُعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا فِي أَيَّامِ الْخُلَفَاءِ إلَّا فِي بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهَا أُقِيمَتْ فِي بَدْوٍ، فَإِنْ خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ إلَى خَارِجِ الْبَلَدِ فَصَلَّوْا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَطَنٍ فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْجُمُعَةُ كَالْبَدْوِ وَإِنْ انْهَدَمَ الْبَلَدُ فَأَقَامَ أَهْلُهُ عَلَى عِمَارَتِهِ فَحَضَرَتْ الْجُمُعَةُ لَزِمَهُمْ إقَامَتُهَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِيطَانِ".

 الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ أَنْ تُقَامَ فِي أَبْنِيَةٍ مُجْتَمِعَةٍ يَسْتَوْطِنُهَا شِتَاءً أَوْ صَيْفًا مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: سَوَاءٌ كَانَ الْبِنَاءُ مِنْ أَحْجَارٍ أَوْ أَخْشَابٍ أَوْ طِينٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ سَعَفٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ فِيهِ الْبِلَادُ الْكِبَارُ ذَوَاتُ الْأَسْوَاقِ وَالْقُرَى الصِّغَارُ، وَالْأَسْرَابُ الْمُتَّخَذَةُ وَطَنًا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَبْنِيَةُ مُتَفَرِّقَةً لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ قَرْيَةً، وَيُرْجَعُ

 

ج / 4 ص -257-        فِي الِاجْتِمَاعِ وَالتَّفَرُّقِ إلَى الْعُرْفِ، وَقَدْ أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا مُجْتَمِعَةً مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي التَّنْبِيهِ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْخِيَامِ فَإِنْ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَوْضِعِهِمْ شِتَاءً أَوْ صَيْفًا لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانُوا دَائِمِينَ فِيهَا شِتَاءً وَصَيْفًا وَهِيَ مُجْتَمِعَةٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فَقَوْلَانِ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ أصحهما بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ والثاني: تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتَصِحُّ مِنْهُمْ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُشْتَرَطُ إقَامَتُهَا فِي مَسْجِدٍ، وَلَكِنْ تَجُوزُ فِي سَاحَةٍ مَكْشُوفَةٍ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْقَرْيَةِ أَوْ الْبَلْدَةِ مَعْدُودَةً مِنْ خُطَّتِهَا، فَلَوْ صَلَّوْهَا خَارِجَ الْبَلَدِ لَمْ تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِقُرْبِ الْبَلَدِ أَوْ بَعِيدًا مِنْهُ، سَوَاءٌ صَلَّوْهَا فِي كِنٍّ أَمْ سَاحَةٍ وَدَلِيلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَلَمْ يُصَلِّ هَكَذَا، وَلَوْ انْهَدَمَتْ أَبْنِيَةُ الْقَرْيَةِ أَوْ الْبَلْدَةِ فَأَقَامَ أَهْلُهَا عَلَى عِمَارَتِهَا لَزِمَتْهُمْ الْجُمُعَةُ فِيهَا سَوَاءٌ كَانُوا فِي سَقَائِفَ وَمَظَالَّ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ مَحِلُّ الِاسْتِيطَانِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي غَيْرِ بِنَاءٍ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ نَفْسًا؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ
"مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ إمَامًا، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ جُمُعَةً وَأَضْحَى وَفِطْرًا" وَمِنْ شَرْطِ الْعَدَدِ أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا أَحْرَارًا[عُقَلَاءَ]مُقِيمِينَ فِي الْمَوْضِعِ، فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ وَالْمُسَافِرُونَ فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ، فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ كَالصِّبْيَانِ، وَهَلْ تَنْعَقِدُ بِمُقِيمِينَ غَيْرِ مُسْتَوْطِنِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تَنْعَقِدُ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ فَانْعَقَدَتْ بِهِمْ كَالْمُسْتَوْطَنَيْنِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا تَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "خَرَجَ إلَى عَرَفَاتٍ وَمَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُقِيمُونَ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ" فَلَوْ انْعَقَدَتْ بِهِمْ الْجُمُعَةُ لَأَقَامَهَا".
الشرح: حَدِيثُ جَابِرٍ ضَعِيفٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَضَعَّفُوهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ وقول المصنف: "أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا" يَعْنِي بَالِغِينَ عُقَلَاءَ. وَاحْتِجَاجُهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحِلَّ اسْتِيطَانٍ، بَلْ هُوَ قَضَاءٌ لَا يُنَافِيهِ، وَلِأَنَّ الْحَاضِرِينَ هُنَاكَ كُلَّهُمْ لَيْسُوا مُقِيمِينَ هُنَاكَ، وَالْجُمُعَةُ تَسْقُطُ بِالسَّفَرِ الْقَصِيرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَوْطِنًا، وَالِاسْتِيطَانُ شَرْطٌ هَكَذَا نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ صَاحِبَ هَذَا الْوَجْهِ عَلَّلَهُ بِهَذَا.
 أَمَّا حكم الفصل: فلا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا بَالِغِينَ عُقَلَاءَ أَحْرَارًا مُسْتَوْطِنِينَ الْقَرْيَةَ أَوْ الْبَلْدَةَ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا الْجُمُعَةُ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إلَّا سَفَرَ حَاجَةٍ، فَإِنْ انْتَقَلُوا عَنْهُ شِتَاءً وَسَكَنُوهُ صَيْفًا أَوْ عَكْسُهُ فَلَيْسُوا مُسْتَوْطِنِينَ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اشْتِرَاطِ أَرْبَعِينَ

 

ج / 4 ص -258-        هُوَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَنْصُوصُ فِي كُتُبِهِ، وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَمَعْنَاهُ أَرْبَعُونَ بِالْإِمَامِ فَيَكُونُونَ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ مَأْمُومًا.
وَنَقَلَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي التَّلْخِيصِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ قَدِيمًا: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ: إمَامٍ وَمَأْمُومَيْنِ، هَكَذَا حَكَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَاَلَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ فِي التَّلْخِيصِ ثَلَاثَةٌ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي حَكَاهُ غَرِيبٌ أَنْكَرَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَغَلَّطُوهُ فِيهِ. قَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ: هَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ: أَنْكَرَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا هَذَا الْقَوْلَ وَقَالُوا: لَا يُعْرَفُ هَذَا لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ نَقْلَهُ، وَحَكَى أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا ضَعِيفًا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ زَائِدًا عَلَى الْأَرْبَعِينَ، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَيْضًا، مِنْهُمْ صَاحِبُ الْحَاوِي وَالدَّارِمِيُّ وَالشَّاشِيُّ. قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ قَوْلًا قَدِيمًا. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ "هَلْ تَنْعَقِدُ بِمُقِيمِينَ غَيْرِ مُسْتَوْطِنِينَ؟" فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا تَنْعَقِدُ، اتَّفَقُوا عَلَى تَصْحِيحِهِ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى فِي الْفرع: الْآتِي بَيَانُ مَحِلِّ الْوَجْهَيْنِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: النَّاسُ فِي الْجُمُعَةِ سِتَّةُ أَقْسَامٍ: أحدها: مَنْ تَلْزَمُهُ وَتَنْعَقِدُ بِهِ؛ وَهُوَ الذَّكَرُ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْمُسْتَوْطِنُ الَّذِي لَا عُذْرَ لَهُ الثاني: مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ وَلَا تَلْزَمُهُ، وَهُوَ الْمَرِيضُ وَالْمُمَرِّضُ، وَمَنْ فِي طَرِيقِهِ مَطَرٌ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمَعْذُورِينَ. وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ جِدًّا: أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِالْمَرِيضِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ الثالث: مَنْ لَا تَلْزَمُهُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ. الرابع: مَنْ تَلْزَمُهُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ وَتَصِحُّ مِنْهُ وَهُوَ الْمُمَيِّزُ وَالْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَالْخُنْثَى. الخامس: مَنْ تَلْزَمُهُ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ وَهُوَ الْمُرْتَدُّ. السادس: مَنْ تَلْزَمُهُ وَتَصِحُّ مِنْهُ، وَفِي انْعِقَادِهَا بِهِ خِلَافٌ، وَهُوَ الْمُقِيمُ غَيْرُ الْمُسْتَوْطِنِ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْكِتَابِ أصحهما: لَا تَنْعَقِدُ بِهِ.
ثُمَّ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ الْوَجْهَيْنِ فِي كُلِّ مُقِيمٍ لَا يَتَرَخَّصُ، وَصَرَّحَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَارِيَانِ فِي الْمُسَافِرِ الَّذِي نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: هُمَا جَارِيَانِ فِيمَنْ نَوَى إقَامَةً يَخْرُجُ بِهَا عَنْ كَوْنِهِ مُسَافِرًا قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً وَشَذَّ الْبَغَوِيّ فَقَالَ: الْوَجْهَانِ فِيمَنْ طَالَ مَقَامُهُ وَفِي عَزْمِهِ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ كَالْمُتَفَقِّهِ1 وَالتَّاجِرِ، قَالَ: فَإِنْ نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَعْنِي وَنَحْوِهَا مِنْ الْإِقَامَةِ الْقَلِيلَةِ لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمَشْهُورُ: طَرْدُ الْخِلَافِ فِي الْجَمِيعِ، وَأَمَّا أَهْلُ "الْخِيَامِ وَالْقُرَى الَّذِينَ يَبْلُغُهُمْ نِدَاءُ الْبَلَدِ وَيَنْقُصُونَ عَنْ أَرْبَعِينَ فَقَطَعَ الْبَغَوِيّ بِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُقِيمِينَ فِي بَلَدِ الْجُمُعَةِ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ، وَطَرَدَ الْمُتَوَلِّي فِيهِمْ الْوَجْهَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد بالمتفقه طالب الفقه أو طالب العلم المسافر في سبيله (ط)

 

ج / 4 ص -259-       فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَدَدِ الَّذِي يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اشْتِرَاطُ أَرْبَعِينَ، وَبِهِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ بِاشْتِرَاطِ خَمْسِينَ، وَقَالَ رَبِيعَةُ: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَمُحَمَّدٌ: تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ أَحَدُهُمْ الْإِمَامُ - وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ. وَحَكَى غَيْرُهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ انْعِقَادَهَا بِثَلَاثَةٍ أَحَدُهُمْ الْإِمَامُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَدَاوُد: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِمَامُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَكْحُولٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعِينٌ، بَلْ يُشْتَرَطُ جَمَاعَةٌ تُسْكَنُ بِهِمْ قَرْيَةٌ، وَيَقَعُ بَيْنَهُمْ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَلَا يَحْصُلُ بِثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَنَحْوِهِمْ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ عَنْ الْقَاشَانِيِّ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِوَاحِدٍ مُنْفَرِدٍ، وَالْقَاشَانِيُّ1 لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَدٍ وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَاحْتُجَّ لِرَبِيعَةَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِ فَانْفَتَلَ النَّاسُ إلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا" وَاحْتُجَّ لِلْبَاقِينَ بِحَدِيثٍ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيَّةِ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا أَرْبَعَةٌ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَضَعَّفَ طُرُقَهُ كُلَّهَا، وَبِأَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ فَأَشْبَهَ الْأَرْبَعِينَ.
وَاحْتُجَّ لِمَنْ شَرَطَ خَمْسِينَ بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "فِي الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ". وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعِيفَانِ.2
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ، وَبِأَحَادِيثَ بِمَعْنَاهُ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ وَأَقْرَبُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ مَا احْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بِنَا فِي الْمَدِينَةِ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فِي نَقِيعِ الْخَضِمَاتِ قُلْت: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا3" حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ صَحِيحٌ، النَّقِيعُ هُنَا بِالنُّونِ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْحَازِمِيُّ وَغَيْرُهُمَا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ونيقله الحافظ ابن حجر في " الفتح " عن ابن حمر وحكاه الدارمي عن القاشاني هذا.
2 رواية الدارقطني نسخة أبي الطيب شمس الحق الهندي " على الخمسين جمعة ليس فيما دون ذلك وقد أخرجه الطبراني في الكبير واللذان في إسناده أحدهما محمد بن الحسن النقاش صاحب التفسير فإنه كذاب وقد روى أحاديث مختلفة في فضل معاوية ويعده المحدثون أحد الدحاجلة والثاني جعفر بن الزبير كذبه شعبة فقال غنذر: رأيت شعبة راكبا على حمار فقال اذهب فاستعدى على جعفر بن الزبير وضع على رسول الله عليه وسلم أربعمائة حديث قال ابن معين ليس بثقة وقال البخاري تركوه وقال ابن عدي الضعف على حديثه بين وقد وجدت في إسناده ثالثا هو خالد بن الهياج بن سطام قال السليماني: ليس بشيء (ط)
3 هذا الحديث أخرجه أبوداود وابن ماجه والبيهقي وعبد الرحمن بن كعب كان قائد أبيه بعد أن عمي قال : كان أبي إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة قال فقلت له إذا سمعت ترحمت لأسعد بن زرارة قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم البيت من حرة بنى بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات.قلت كم كنتم يومئذ ؟ قال أربعون رجلا " وأخرجه ابن حبان وحسنه الحافظ ابن حجر (ط)

 

ج / 4 ص -260-       وَالْخَضِمَات - بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ - قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ قَرْيَةٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلٍ مِنْ مَنَازِلِ بَنِي سَلَمَةَ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ، وَالْأَصْلُ الظُّهْرُ فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا بِعَدَدٍ ثَبَتَ فِيهِ التَّوْقِيفُ، وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهَا بِأَرْبَعِينَ، فَلَا يَجُوزُ بِأَقَلَّ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَرِيحٍ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَلَمْ تَثْبُتْ صَلَاتُهُ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ. وَأَمَّا حَدِيثُ انْفِضَاضِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَادُوا هُمْ أَوْ غَيْرُهُمْ فَحَضَرُوا أَرْكَانَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةَ وَجَاءَ فِي رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ "انْفَضُّوا فِي الْخُطْبَةِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ. انْفَضُّوا فِي الصَّلَاةِ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْخُطْبَةِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُمْ انْفَضُّوا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ اثْنَا عَشَرَ.
فرع: إذَا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ صَحَّتْ جُمُعَتُهُمْ فِي قَرْيَتِهِمْ وَلَزِمَتْهُمْ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا سُوقٌ وَنَهْرٌ أَمْ لَا - وَبِهِ - قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِحَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ" وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "إنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقِيسِ بِجُوَاثَا1 مِنْ الْبَحْرَيْنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَبِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْمَذْكُورِ فِي الْفرع: قَبْلَهُ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فَضَعِيفٌ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مُنْقَطِعٍ.
فرع: لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ عِنْدَنَا إلَّا فِي أَبْنِيَةٍ يَسْتَوْطِنُهَا مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ، ولا تصح في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ياقوت في معجم البلدان " ج 2 ص 174 جوثاء بالضم وبين ألفين ثاء مثلثة بمد ويقصر وهو علم مرتجل حصن لعبد القيس بالبحرين فتحه العلاء بن الحضرمي في أيام أبي بكر سنة 12 عنوة  ا هـ وقال بعد ذلك وجوثاء أول موضع جمعت فيه الجمعة بعد المدينة قال عياض وبالبحرين أيضا موضع يقال له قصر جوثاء ويقال : ارتدت العرب كلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل جوثاء وقال رجل من المسلمين يقال له عبد الله بن حذف وكان أهل الردة حصروا طائفة من المسلمين بجوثاء :

ألا أبلغ أبابكر رسولا                     وفتيان المدينة أجمعينا

فهل لكم إلى قوم كرام               قعود في جوثا محصرينا

كأن دماءهم في كل فج              شعاع الشمس يخشى الناظرين

توكلنا على الرحمن أنا                وجدنا النصر للمتوكلينا

فجاءهم العلاء بن الحضرمي فاستنقذهم وفتح البحرين كلها.

 

ج / 4 ص -261-        الصَّحْرَاءِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَآخَرُونَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يَجُوزُ إقَامَتُهَا لِأَهْلِ الْمِصْرِ فِي الصَّحْرَاءِ كَالْعِيدِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَفْعَلُوهَا فِي الصَّحْرَاءِ مَعَ تَطَاوُلِ الْأَزْمَانِ وَتَكَرُّرِ فِعْلِهَا بِخِلَافِ الْعِيدِ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي".
فرع: لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ عِنْدَنَا بِالْعَبِيدِ وَلَا الْمُسَافِرِينَ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَنْعَقِدُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعَدَدِ ثُمَّ انْفَضُّوا عَنْهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أحدها: إنْ نَقَصَ الْعَدَدُ عَنْ أَرْبَعِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْجُمُعَةِ فَشُرِطَ فِي جَمِيعِهَا كَالْوَقْتِ والثاني: إنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ أَتَمَّ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ ثَلَاثَةً وَذَلِكَ جَمْعٌ مُطْلَقٌ فَأَشْبَهَ الْأَرْبَعِينَ والثالث: إنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ أَتَمَّ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جُمُعَةٌ، وَخَرَّجَ الْمُزَنِيّ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ: أحدهما: إنْ بَقِيَ وَحْدَهُ جَازَ أَنْ يُتِمَّ الْجُمُعَةَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي إمَامٍ يُحْرِمُ بِالْجُمُعَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ: إنَّهُمْ يُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا رَكْعَتَيْنِ والثاني: أَنَّهُ إنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ انْفَضُّوا أَتَمَّ الْجُمُعَةَ، وَإِنْ انْفَضُّوا قَبْلَ الرَّكْعَةِ لَمْ يُتِمَّ الْجُمُعَةَ كَمَا قَالَ فِي الْمَسْبُوقِ: إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً أَتَمَّ الْجُمُعَةَ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً أَتَمَّ الظُّهْرَ.
فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَ الْقَوْلَيْنِ، وَحَكَى فِي الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهُمَا فَقَالَ: إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ يَبْنُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَيَبْنُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ عَلَى حُكْمِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَهَهُنَا أَنَّ الْإِمَامَ لَا تَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُ بِصَلَاةِ مَنْ خَلْفَهُ، وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى جُمُعَةٍ تَمَّتْ بِشُرُوطِهَا وَهَهُنَا لَمْ يُتِمَّ جُمُعَةً فَيَبْنِي الْإِمَامُ عَلَيْهَا".
الشرح:
الِانْفِضَاضُ: التَّفَرُّقُ وَالذَّهَابُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْفِضَّةُ، وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي انْفِضَاضِهِمْ عَنْ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ طَرِيقَانِ: أحدهما: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَهِيَ الْمَنْصُوصَةُ، وَلَمْ يُثْبِتُوا الْمُخَرَّجِينَ وأصحهما: وَأَشْهُرُهُمَا فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ بِإِثْبَاتِ الْمُخَرَّجِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلَائِلَهَا أصحها: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ تَبْطُلُ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ، فَشُرِطَ فِي جَمِيعِهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَحْرَمَ الْإِمَامُ وَتَبَاطَأَ الْمُقْتَدُونَ ثُمَّ أَحْرَمُوا، فَإِنْ تَأَخَّرَ إحْرَامُهُمْ عَنْ رُكُوعِهِ فَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ وَلَا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ رُكُوعِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: تَصِحُّ الْجُمُعَةُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَطُولَ الْفصل:بَيْنَ إحْرَامِهِ وَإِحْرَامِهِمْ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الشَّرْطُ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ الْفَصْلُ، وَصَحَّحَ الْغَزَالِيُّ هَذَا.
وَالْقَوْلُ الثاني: إنْ بَقِيَ اثْنَانِ مَعَ الْإِمَامِ أَتَمَّ الْجُمُعَةَ. وَإِلَّا بَطَلَتْ.
والثالث: إنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ لَمْ تَبْطُلْ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَنْصُوصَةٌ، الْأَوَّلَانِ فِي الْجَدِيدِ، وَالْأَخِيرُ فِي الْقَدِيمِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ صِفَةُ الْكَمَالِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْجُمُعَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْحَاوِي أصحهما: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ جُمُعَةٍ والثاني: لَا يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ بَقِيَ مَعَهُ صَبِيَّانِ أَوْ عَبْدَانِ أَوْ امْرَأَتَانِ أَوْ مُسَافِرَانِ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ امْرَأَةٌ إذَا اعْتَبَرْنَا وَاحِدًا كَفَى وَأَتَمَّ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكْتَفِي بِاسْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ الْجَمَاعَةِ وَهِيَ حَاصِلَةٌ بِهَا وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الظَّاهِرُ الِاشْتِرَاطُ، قَالَ: وَلِصَاحِبِ التَّقْرِيبِ احْتِمَالٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَالَ: وَهَذَا مُزَيَّفٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ.

 

ج / 4 ص -262-       وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمُخَرَّجُ لَا تَبْطُلُ، وَإِنْ بَقِيَ وَحْدَهُ.
والخامس: إنْ انْفَضُّوا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَطَلَتْ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ انْفَضُّوا بَعْدَهَا لَمْ تَبْطُلْ الْجُمُعَةُ بَلْ يُتِمُّهَا الْإِمَامُ وَحْدَهُ، وَكَذَا مَنْ مَعَهُ إنْ بَقِيَ مَعَهُ أَحَدٌ. هَذَا حُكْمُ الِانْفِضَاضِ فِي نَفْسِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَرْبَعِينَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْخُطْبَتَيْنِ، فَيُشْتَرَطُ سَمَاعُهُمْ الْآنَ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى فَلَوْ حَضَرَ الْعَدَدُ ثُمَّ انْفَضُّوا قَبْلَ افْتِتَاحِ الْخُطْبَةِ لَمْ يَجُزْ افْتِتَاحُهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ لَهَا أَرْبَعُونَ كَامِلُونَ وَإِنْ انْفَضُّوا فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِالرُّكْنِ الْمَفْعُولِ فِي غَيْبَتِهِمْ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ الِانْفِضَاضِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ فِيهِ الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ. وَفَرَّقَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فَسُومِحَ بِنَقْصِ الْعَدَدِ عَلَى قَوْلٍ، وَالْخَطِيبُ لَا يَخْطُبُ لِنَفْسِهِ، إنَّمَا الْغَرَضُ إسْمَاعُهُمْ، فَمَا جَرَى وَلَا مُسْتَمِعَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْغَرَضُ فَلَمْ تَصِحَّ، ثُمَّ إنْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفصل:بَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ، وَإِنْ عَادُوا بَعْدَهُ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، قَالَ: وَيُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِأَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْخُطْبَةِ وَاجِبَةٌ أَمْ لَا؟ الْأَصَحُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَيَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ. والثاني: غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَيَبْنِي، وَبَنَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ بَدَلٌ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَيَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ أَمْ لَا؟ فَلَا يَجِبُ، قَالُوا: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ فَوَاتِ الْمُوَالَاةِ لِعُذْرٍ وَغَيْرِهِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ لَمْ يَعُدْ الْأَوَّلُونَ وَجَاءَ غَيْرُهُمْ وَجَبَ اسْتِئْنَافُ الْخُطْبَتَيْنِ قَصُرَ الْفصل:أَمْ طَالَ بِلَا خِلَافٍ.
أَمَّا إذَا انْفَضُّوا بَعْدَ فَرَاغِ الْخُطْبَةِ - فَإِنْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفصل:- صَلَّى الْجُمُعَةَ بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ، وَإِنْ عَادُوا بَعْدَ طُولِ الْفصل:فَفِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: وَهُوَ الْجَدِيدُ الِاشْتِرَاطُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ والثاني: لَا يُشْتَرَطُ فَعَلَى هَذَا يُصَلِّي بِهَا، وَهَلْ تَجِبُ إعَادَةُ الْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا؟ قَالَ الْمُزَنِيّ فِي الْمُخْتَصَرِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ ثُمَّ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى كَلَامِهِ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَنَّهُ حَكَاهَا الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا وَالْأَصْحَابُ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ أصحها: وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: تَجِبُ إعَادَةُ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا: وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا هُوَ (أَوْجَبْتُ) وَلَكِنَّهُ صُحِّفَ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ وَقَالَ: أَرَادَ بِأَحْبَبْتُ: أَوْجَبْتُ، قَالُوا: وَقَوْلُهُ صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَالْوَجْهُ الثاني: وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا تَجِبُ إعَادَةُ الْخُطْبَةِ لَكِنْ تُسْتَحَبُّ وَتَجِبُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ. أَمَّا وُجُوبُ الْجُمُعَةِ فَلِقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ الْخُطْبَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ انْفِضَاضُهُمْ ثَانِيًا، فَصَارَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي سُقُوطِهَا. الثالث: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ: لَا تَجِبُ إعَادَةُ الْخُطْبَةِ وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ أَيْضًا، لَكِنْ يُسْتَحَبَّانِ عَمَلًا بِظَاهِرِ نَصِّهِ، وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبَيْ الْحَاوِي وَالْمُسْتَظْهَرَيْ؛ قَالَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: وَقَوْلُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ فَقَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ أَظْهَرُ. قَالَ: وَقَدْ أَخْطَأَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي تَخْطِئَتِهِ الْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْبُوَيْطِيَّ وَالرَّبِيعَ وَالزَّعْفَرَانِيّ نَقَلُوهُ هَكَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ فَقَالُوا: قَالَ أَحْبَبْتُ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ

 

ج / 4 ص -263-       أَحَدٌ أَوْجَبْتُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ لَمْ يُخْطِئْ فِي نَقْلِهِ وَإِنَّمَا أَخْطَأَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ. هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْحَاوِي وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُونَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ وَغَيْرُهُمْ: هَذَا الْوَجْهُ الثَّالِثُ ضَعِيفٌ قَالُوا: وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَوْجُهِ، وَهُوَ كَمَا قَالُوا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى احْتِمَالِ انْفِضَاضِهِمْ ثَانِيًا، فَإِنَّهُ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ نَادِرٌ قَالَ أَصْحَابُنَا، فَإِنْ أُعِيدَتْ الْخُطْبَةُ وَصُلِّيَتْ الْجُمُعَةُ فَلَا إثْمَ عَلَى وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ تُعَدْ وَأَوْجَبْنَا إعَادَتَهَا أَثِمُوا كُلُّهُمْ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْ إعَادَتَهَا أَثِمَ الْمُنْفَضُّونَ دُونَ الْإِمَامِ وَالْبَاقِينَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: الِاعْتِبَارُ فِي طُولِ الْفصل:بِالْعُرْفِ فَمَا عُدَّ طَوِيلًا فَطَوِيلٌ، وَإِلَّا فَقَصِيرٌ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ تَفْرِيعًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ هُنَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّوْا الظُّهْرَ وَتَرَكُوا الْجُمُعَةَ جَازَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ إذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ صَلَّوْا الظُّهْرَ جَازَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ قَوْلِهِ: وَأَنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ طَالَ الْفصل:وَالْخَطِيبُ سَاكِتٌ أَوْ مُسْتَمِرٌّ فِي الْخُطْبَةِ، ثُمَّ أَعَادَ مَا جَرَى مِنْ أَرْكَانِهَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ حِينَ عَادُوا، أَمَّا إذَا أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ بِالْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ وَأَحْرَمُوا ثُمَّ حَضَرَ أَرْبَعُونَ آخَرُونَ وَأَحْرَمُوا بِهَا ثُمَّ انْفَضَّ الْأَوَّلُونَ، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَضُرُّ بَلْ يُتِمُّ الْجُمُعَةَ سَوَاءٌ كَانَ اللَّاحِقُونَ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ أَمْ لَا، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا يَمْتَنِعُ عِنْدِي أَنْ يُقَالُ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ أَرْبَعِينَ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ أَمَّا إذَا انْفَضُّوا بَعْدَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ حَضَرَ أَرْبَعُونَ مُتَّصِلُونَ بِهِمْ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَسْتَمِرُّ صِحَّةُ الْجُمُعَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ اللَّاحِقُونَ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ.
فرع: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ مُنْفَرِدٍ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا، وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: "وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِأَرْبَعِينَ" أَيْ فِي جَمَاعَةٍ؛ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَشُرُوطُ الْجُمُعَةِ هُنَا كَشُرُوطِهَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَيُشْتَرَطُ هُنَا أُمُورٌ زَائِدَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا. وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَرْبَعِينَ كَامِلِينَ، وَوُقُوعُهَا فِي خُطَّةِ الْبَلَدِ وَفِي الْوَقْتِ، وَسَبَقَتْ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ وَمَسَائِلُ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ فِي الْجُمُعَةِ فِي أَوَّلِ بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ حُضُورُ السُّلْطَانِ، وَلَا إذْنُهُ فِيهَا، وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهُ، وَهُوَ شَاذٌّ بَاطِلٌ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ مَا سَبَقَ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْضٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَخْتَلِفْ وَقْتُهُمَا كَصَلَاةِ الْحَضَرِ وَصَلَاةِ السَّفَرِ، وَإِنْ خَطَبَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ رُدَّتْ إلَى رَكْعَتَيْنِ بِالْخُطْبَةِ فَإِذَا لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ تَجُزْ الْخُطْبَةُ فَإِنْ دَخَلَ فِيهَا فِي وَقْتِهَا ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ لَمْ يَجُزْ فِعْلُ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ إتْمَامُهَا كَالْحَجِّ، وَيُتِمُّ الظُّهْرَ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ رُدَّ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى رَكْعَتَيْنِ بِشَرْطٍ يَخْتَصُّ بِهِ، فَإِذَا زَالَ الشَّرْطُ أَتَمَّ كَالْمُسَافِرِ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ قَدِمَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا فِي الْوَقْتِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ خَرَجَ الْوَقْتُ؟. أَتَمَّ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَقْتِ وَصِحَّةُ الْفَرْضِ وَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ

 

ج / 4 ص -264-       وَإِنْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَرَأَى أَنَّهُ إنْ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَذْهَبْ الْوَقْتُ لَزِمَهُمْ الْجُمُعَةُ؛ وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ صَلَّى الظُّهْرَ".
الشرح:
فِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ: أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَسَأَذْكُرُ دَلَائِلَهُ وَاضِحَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى فِي فرع: مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقْضَى عَلَى صُورَتِهَا جُمُعَةً وَلَكِنَّ مَنْ فَاتَتْهُ لَزِمَتْهُ الظُّهْرُ.
الثانية: يُشْتَرَطُ لِلْخُطْبَةِ كَوْنُهَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي سَأَذْكُرُهَا فِي فرع: مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ  تَعَالَى.
 وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا الثالثة: إذَا شَكُّوا فِي خُرُوجِ وَقْتِهَا فَإِنْ كَانُوا لَمْ يَدْخُلُوا فِيهَا لَمْ يَجُزْ الدُّخُولُ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهَا الْوَقْتُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْهُ فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ مَعَ الشَّكِّ فِي الشَّرْطِ، وَإِنْ دَخَلُوا فِيهَا فِي وَقْتِهَا ثُمَّ شَكُّوا قَبْلَ السَّلَامِ فِي خُرُوجِ الْوَقْتِ فَوَجْهَانِ الصحيح وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَكُتُبُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَالْجُمْهُورُ: يُتِمُّونَهَا جُمُعَةً، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني: يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا، حَكَاهُ الْبَغَوِيّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَآخَرُونَ، لِلشَّكِّ فِي شُرُوطِهَا.
وَأَمَّا إذَا صَلَّوْا الْجُمُعَةَ ثُمَّ شَكُّوا بَعْدَ فَرَاغِهَا هَلْ خَرَجَ وَقْتُهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا؟ فَإِنَّهُمْ تُجْزِئهُمْ الْجُمُعَةُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَقْتِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْقَفَّالُ: وَهَذَا كَمَنْ تَسَحَّرَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَمْ لَا؟ أَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ ثُمَّ شَكَّ هَلْ كَانَ طَلَعَ الْفَجْرُ؟ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ وَالْوُقُوفُ.
فرع: قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ فِي مَسَائِلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْهِلَالِ: لَوْ دَخَلُوا فِي الْجُمُعَةِ فَأَخْبَرَهُمْ عَدْلٌ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا، قَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُصَلُّوا ظُهْرًا قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُمْ يُتِمُّونَ جُمُعَةً إلَّا أَنْ يَعْلَمُوا.
الرابعة: إذَا شَرَعُوا فِيهَا فِي وَقْتِهَا ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ السَّلَامِ مِنْهَا فَاتَتْ الْجُمُعَةُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَفِي حُكْمِ صَلَاتِهِ طَرِيقَانِ: أصحهما وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: يَجِبُ إتْمَامُهَا ظُهْرًا وَيُجْزِئُهُ. كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني: وَهُوَ مَشْهُورٌ لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ فِيهِ قَوْلَانِ: "الْمَنْصُوصُ" يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا "وَالثَّانِي": وَهُوَ مُخَرَّجٌ لَا يَجُوزُ إتْمَامُهَا ظُهْرًا، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَبْطُلُ أَوْ تَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي أَوَّلِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ أصحهما: تَنْقَلِبُ نَفْلًا، وَإِنْ قلنا: بِالْمَذْهَبِ يُتِمُّهَا ظُهْرًا أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ حِينَئِذٍ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الظُّهْرِ، كَالْمُسَافِرِ إذَا نَوَى الْقَصْرَ ثُمَّ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ بِإِقَامَةٍ أَوْ غَيْرِهَا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُ وَجْهًا أَنَّهُ تَجِبُ نِيَّةُ الظُّهْرِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
الخامسة: لَوْ أَدْرَكَ مَسْبُوقٌ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَسَلَّمَ الْإِمَامُ، وَقَامَ هُوَ إلَى الثَّانِيَةِ فَخَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ سَلَامِهِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أحدهما: يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِجُمُعَةٍ صَحِيحَةٍ، وَهِيَ جُمُعَةُ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ والثاني: لَا يَجُوزُ إتْمَامُهَا

 

ج / 4 ص -265-       جُمُعَةً بَلْ يُتِمُّهَا ظُهْرًا وَيَجِيءُ فِي بُطْلَانِهَا وَانْقِلَابِهَا نَفْلًا مَا سَبَقَ، وَالْمَذْهَبُ إتْمَامُهَا ظُهْرًا، صَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا.
 السادسة: لَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ وَالْجَمَاعَةُ التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى فِي الْوَقْتِ - وَالثَّانِيَةَ خَارِجُهُ - صَحَّتْ جُمُعَتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ الْأُولَى خَارِجَ الْوَقْتِ فَاتَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَزِمَهُمْ قَضَاءُ الظُّهْرِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ وَبَعْضُهُمْ الْأُولَى فِي الْوَقْتِ وَسَلَّمَهَا بَعْضُهُمْ خَارِجَ الْوَقْتِ - فَإِنْ بَلَغَ عَدَدُ الْمُسَلَّمِينَ فِي الْوَقْتِ أَرْبَعِينَ - صَحَّتْ جُمُعَتُهُمْ، وَإِلَّا فَقَالَ الرَّافِعِيُّ: هُوَ شَبِيهٌ بِمَسْأَلَةِ الِانْفِضَاضِ وَالصَّحِيحُ فَوَاتُ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا الْمُسَلِّمُونَ خَارِجَ الْوَقْتِ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ، وَفِيهِمْ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: إنْ كَانَ الْمُسَلِّمُونَ فِي الْوَقْتِ أَرْبَعِينَ إنَّهُ تَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ، وَهُوَ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي سَلَامِ الْمَسْبُوقِ بَعْدَ الْوَقْتِ، ثُمَّ سَلَامُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ خَارِجَ الْوَقْتِ، إنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، وَإِلَّا فَلَهُمْ إتْمَامُهَا ظُهْرًا عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ.
السابعة: إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْجُمُعَةِ فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ خُطْبَتَانِ وَرَكْعَتَانِ يُقْتَصَرُ فِيهِمَا عَلَى الْوَاجِبَاتِ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ، وَإِلَّا صَلَّوْا الظُّهْرَ، نَصَّ عَلَيْهِ في"الأم" وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الظُّهْرِ فِي الْحَالِ، وَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا إلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالِاتِّفَاقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا: أَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ الظُّهْرِ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَالَ أَحْمَدُ: تَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، وَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُفْعَلُ فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ، وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً: لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ إلَّا أَحْمَدَ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَقَوْلِ أَحْمَدَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَإِسْحَاقَ قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ لَا يَثْبُتُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاوِيَةَ. وَاحْتُجَّ لِأَحْمَدَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ "نَجْمَعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ".
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
"مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَذَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلَانَ قَالَ "شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ زَالَ النَّهَارُ، وَلَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ، وَلَا أَنْكَرَهُ" وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُمَا.

 

ج / 4 ص -266-       وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: "كُنَّا نَجْمَعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ:"صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ كُلَّ جُمُعَةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ".
والجواب: عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَمَا بَعْدَهُ أَنَّهَا كُلَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى شِدَّةِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْجِيلِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ غَيْرِ إيرَادٍ وَلَا غَيْرِهِ، هَذَا مُخْتَصَرُ الْجَوَابِ عَنْ الْجَمِيعِ، وَحَمَلْنَا عَلَيْهِ الْجَمِيعَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَعَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَاطِبَةً أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَهَا إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَتَفْصِيلُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ جَابِرٍ فِيهِ إخْبَارٌ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالرَّوَاحَ إلَى جِمَالِهِمْ كَانَا حِينَ الزَّوَالِ لَا أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَهُ.
فإن قيل: قَوْلُهُ: حِينَ الزَّوَالِ لَا يَسَعُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ نَفْسُ الزَّوَالِ، وَمَا يُدَانِيهِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"صَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلِّهِ".
والجواب: عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ: أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا فِي كَوْنِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحِيطَانِ شَيْءٌ مِنْ الْفَيْءِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا فَيْءٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ يَسْتَظِلُّ بِهِ الْمَارُّ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ، فَلَمْ يَنْفِ أَصْلَ الظِّلِّ وَإِنَّمَا نَفَى كَثِيرَهُ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: "نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ" فَهَذَا فِيهِ تَصْرِيحٌ بِوُجُودِ الْفَيْءِ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حِيطَانَهُمْ قَصِيرَةٌ وَبِلَادَهُمْ مُتَوَسِّطَةٌ مِنْ الشَّمْسِ، وَلَا يَظْهَرُ هُنَاكَ الْفَيْءُ بِحَيْثُ يُسْتَظَلُّ بِهِ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ: "مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَذَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ" (فَمَعْنَاهُ) : أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْقَيْلُولَةَ وَالْغِذَاءَ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَى مَا بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ نُدِبُوا إلَى التَّبْكِيرِ إلَيْهَا، فَلَوْ اشْتَغَلُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَهَا خَافُوا فَوْتَهَا أَوْ فَوْتَ التَّبْكِيرِ إلَيْهَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْت أَرَى طُنْفُسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تُطْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ، فَإِذَا غَشِيَ الطُّنْفُسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ثُمَّ نَخْرُجُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضُّحَى. وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ؛ لِأَنَّ ابْنَ سِيلَانَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مُتَأَوَّلًا لِمُخَالَفَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُمْ فِيهَا
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهَا تَفُوتُ الْجُمُعَةُ وَيُتِمُّونَهَا ظُهْرًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ وَيَسْتَأْنِفُونَ الظُّهْرَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانَ صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً أَتَمَّهَا جُمُعَةً وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ يُتِمُّهَا ظُهْرًا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ حَتَّى يَتَقَدَّمَهَا خُطْبَتَانِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ إلَّا بِخُطْبَتَيْنِ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ

 

 

ج / 4 ص -267-       "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِس بَيْنَهُمَا" وَلِأَنَّ السَّلَفَ قَالُوا: إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجَلِ الْخُطْبَةِ، فَإِذَا لَمْ يَخْطُبْ رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ، وَمِنْ شَرْطِ الْخُطْبَةِ الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ لقوله تعالى: "إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ" وَالذِّكْرُ الَّذِي يُفْعَلُ بَعْدَ النِّدَاءِ هُوَ الْخُطْبَةُ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ شُرِطَ فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ فَشُرِطَ فِيهِ الْعَدَدُ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَإِنْ خَطَبَ بِالْعَدَدِ ثُمَّ انْفَضُّوا وَعَادُوا قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَإِنْ لَمْ يَطُلْ الْفصل:- صَلَّى الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ. ثُمَّ الْفصل:الْيَسِيرُ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ. وَإِنْ طَالَ الْفصل:قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ ثُمَّ يُصَلِّيَ بَعْدَهَا الْجُمُعَةَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى الظُّهْرَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَجِبُ إعَادَةُ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي[بَعْدَهَا]الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مَعَ الصَّلَاةِ كَالصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ الْفصل:الطَّوِيلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ لَا يُعْرَفُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَنْفَضُّوا مَرَّةً أُخْرَى، فَجَعَلَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهَا، فَإِنْ صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ جَازَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ: إذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ صَلَّوْا الظُّهْرَ أَجْزَأَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ إعَادَةُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ: لِأَنَّهُمْ انْفَضُّوا عَنْهُ مَرَّةً فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَنْفَضُّوا عَنْهُ ثَانِيًا فَصَارَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ".
الشرح:
حَدِيثُ "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَسَبَقَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وفوله: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ احْتِرَازٌ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْعَدَدُ، وَقَوْلُهُ: شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ احْتِرَازٌ مِنْ الْأَذَانِ.
أما الأحكام:فَمَسْأَلَةُ الِانْفِضَاضِ إلَى آخِرِهَا[فَقَدْ سَبَقَ]شَرْحُهَا، وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا فِي مَسْأَلَةِ الِانْفِضَاضِ فِي الصَّلَاةِ وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَطُرُقُ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ حَتَّى يَتَقَدَّمَهَا خُطْبَتَانِ، وَمِنْ شَرْطِهَا الْعَدَدُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ حَيْثُ كَانَتْ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ قَبْلَهَا، وَالْعِيدُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَشَأْنُ الشَّرْطِ أَنْ يُقَدَّمَ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ فَأُخِّرَتْ الصَّلَاةُ لِيُدْرِكَهَا الْمُتَأَخِّرُ، وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَمِنْ شَرْطِ الْخُطْبَتَيْنِ كَوْنُهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ. فَلَوْ خَطَبَ الْخُطْبَتَيْنِ أَوْ بَعْضَهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَدْ أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَ هَذَا الشَّرْطِ هُنَا، وَفِي التَّنْبِيهِ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْخُطْبَةِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ تَقَدُّمَ خُطْبَتَيْنِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ، وَأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، وَبِهَذِهِ الْجُمْلَةِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخُطْبَةُ شَرْطٌ، وَلَكِنْ تُجْزِئُ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ لِسَمَاعِهَا كَالْأَذَانِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أن الجمعة

 

ج / 4 ص -268-        تَصِحُّ بِلَا خُطْبَةٍ. وَبِهِ قَالَ دَاوُد وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَثَبَتَتْ صَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ خُطْبَتَيْنِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَمِنْ شَرْطِهِمَا الْقِيَامُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالْفصل:بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ ثُمَّ يَقُومُ وَيَقْرَأُ آيَاتٍ وَيَذْكُرُ اللَّهَ تعالى"وَلِأَنَّهُ أَحَدُ فَرْضَيْ الْجُمُعَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِيهِ الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ كَالصَّلَاةِ".
الشرح:
حَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَكِنْ قَالَ: يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، وَجَابِرٌ وَأَبُوهُ سَمُرَةُ صَحَابِيَّانِ رضي الله عنهما. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْخُطْبَتَيْنِ الْقِيَامُ فِيهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا مَعَ الْقُدْرَةِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، فَإِنْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِلْعَجْزِ جَازَ بِلَا خِلَافٍ كَالصَّلَاةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ حِينَئِذٍ، سَوَاءٌ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ أَمْ سَكَتَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قُعُودَهُ لِلْعَجْزِ، فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَهُوَ كَمَا لَوْ بَانَ مُحْدِثًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ إنْ تَمَّ الْعَدَدُ دُونَهُ، وَإِنْ نَقَصَ لَمْ تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا: فَلَوْ عَلِمُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْقِيَامِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ قُدْرَتُهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِعَجْزِهِ اعْتَمَدُوهُ وَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَغَيْرُهُمْ: فَإِنْ عَلِمَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ بِقُدْرَتِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْعَالِمِينَ، وَتَصِحُّ صَلَاةُ الْآخَرِينَ إنْ تَمَّ بِهِمْ الْعَدَدُ وَإِلَّا فَلَا. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّ الْخُطْبَةَ تَصِحُّ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا الْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا فَوَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الْجُلُوسُ خَفِيفٌ جِدًّا قَدْرَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ تَقْرِيبًا، وَالْوَاجِبُ مِنْهُ قَدْرُ الطُّمَأْنِينَةِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ قَدْرَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ قَالَ: وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَيْضًا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ خَطَبَ قَاعِدًا لِلْعَجْزِ فصل:بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْطَجِعَ، وَالْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ وَاجِبَةٌ لِيَحْصُلَ الْفصل:وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَجْهًا أَنَّهَا لَا تَجِبُ، وَأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ كَلَامَهُ فِي الْخُطْبَتَيْنِ صَحَّتَا؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَهُ سَكَتَاتٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: تُسْتَحَبُّ هَذِهِ السَّكْتَةَ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَوْ خَطَبَ قَائِمًا كَفَاهُ الْفصل:بِسَكْتَةٍ[مِنْ]غَيْرِ جُلُوسٍ وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَتَيْنِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَهُمَا وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِهِمَا وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: تَصِحُّ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ. قَالُوا: وَالْقِيَامُ سُنَّةٌ وَكَذَا الْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إنَّ الطَّحَاوِيَّ قَالَ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ بِاشْتِرَاطِ الْجُلُوسِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ، وَكَذَا الْقِيَامُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" مَعَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا".

 

ج / 4 ص -269-       قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا الطَّهَارَةُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ: تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ افْتَقَرَ إلَى الطَّهَارَةِ لَافْتَقَرَ إلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ كَالصَّلَاةِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ شَرْطٌ فِي الْجُمُعَةِ فَشُرِطَ فِيهِ الطَّهَارَةُ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ".
 الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ؟ وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَالطَّهَارَةُ عَنْ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الصحيح الْجَدِيدُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ كُلِّهِ (وَالْقَدِيمُ) : لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. بَلْ يُسْتَحَبُّ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ إنَّ الْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ: الْقَوْلَانِ فِي الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، فَإِنْ خَطَبَ جُنُبًا لَمْ تَصِحَّ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْخُطْبَةِ وَاجِبَةٌ وَلَا تُحْسَبُ قِرَاءَةُ الْجَنْبِ، وَصَرَّحَ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ بِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَقَدْ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ وَصَاحِبُ الْحَاوِي فِيهِ وَآخَرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إمَامُ الْجُمُعَةِ جُنُبًا وَلَمْ يَعْلَمْ الْمَأْمُومُونَ ثُمَّ عَلِمُوا بَعْدَ فَرَاغِهَا أَجْزَأَتْهُمْ، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْأُمِّ".
وَقَدْ أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالْقَوْلَانِ فِيهِ مَشْهُورَانِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا هُوَ فِي التَّنْبِيهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد: لَا تُشْتَرَطُ، دَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يَخْطُبُ مُتَطَهِّرًا" وَقَالَ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي".
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَفَرْضُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ أحدها: أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، ثُمَّ يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَاَلَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ ثُمَّ يَقُولُ: إنَّ أَفْضَلَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ". والثاني: أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ افْتَقَرَتْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تعالى افْتَقَرَتْ إلَى ذِكْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَالْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ. والثالث: الْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ تعالى لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْخُطْبَةِ الْمَوْعِظَةُ؛ فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا والرابع: أَنْ يَقْرَأَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ فَرْضَيْ الْجُمُعَةِ فَوَجَبَ فِيهِ الْقِرَاءَةُ كَالصَّلَاةِ وَيَجِبُ ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْوَصِيَّةُ فِي الْخُطْبَتَيْنِ، وَفِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَجْهَانِ أحدهما: يَجِبُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي إحْدَاهُمَا وَجَبَ فِيهِمَا كَذِكْرِ اللَّهِ تعالى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْوَصِيَّةِ والثاني: لَا تَجِبُ إلَّا فِي إحْدَاهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مِنْ آيَةٍ قَرَأَهَا فِي الْخُطْبَةِ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ (ق)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَؤُهَا فِي الْخُطْبَةِ فَإِنْ قَرَأَ آيَةً فِيهَا سَجْدَةٌ فَنَزَلَ وَسَجَدَ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ فَعَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه بَعْدَهُ فَإِنْ فَعَلَ هَذَا وَطَالَ الْفصل:فَفِيهِ قَوْلَانِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَبْنِي وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَسْتَأْنِفُ. وَهَلْ يَجِبُ الدُّعَاءُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَجِبُ، رَوَاهُ الْمُزَنِيّ فِي أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُطْبَةِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلسُّلْطَانِ فَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّهُ مُحْدَثٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْخُطْبَةُ تَذْكِيرًا.
 الشرح: حَدِيثُ جَابِرٍ الْأَوَّلُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِكَمَالِهِ، وَهُوَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ.

 

ج / 4 ص -270-       وَقَوْلُهُ: أَنْ يَقْرَأَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ الْقِيَامِ، وَحَدِيثُ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُورَةَ (ق) فِي الْخُطْبَةِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الصَّحَابِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ "مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ" وَحَدِيثُ نُزُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمِنْبَرِ وَسُجُودِهِ لِلتِّلَاوَةِ فِي الْخُطْبَةِ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ صَحِيحٌ، ذَكَرَهُ فِي أَبْوَابِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَقَوْلُهُ (وَفَعَلَهُ عُمَرُ) هُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ وَلَفْظُهُ: أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْلِ، حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ. وَقَوْلُهُ (وَسُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ ذَلِكَ) هُوَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَاسْمُ أَبِي رَبَاحٍ أَسْلَمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ، فَذَكَرَهُ، وَهُوَ إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَّا عَبْدَ الْمَجِيدِ فَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ.
وَأَمَّا لُغَاتُ الْفَصْلِ: فَقَوْلُهُ: "يَقُولُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ "فِيهِ لُغَتَانِ كَسْرُ الْهَمْزَةِ مَعَ إسْكَانِ الثَّاءِ وَفَتْحُهُمَا، قَوْلُهُ:
"وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاه" هَذَا كُلُّهُ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ وَأَبْلُغُ فِي الْوَعْظِ. وَالْوَجْنَةُ: الْخَدُّ وَفِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ، فَتْحُ الْوَاوِ وَضَمُّهَا وَكَسْرُهَا وَالرَّابِعَةُ أُجْنَةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ قَوْلُهُ أَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ" مَعْنَاهُ يُنْذِرُ قَوْمَهُ وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ جَيْشٍ يَقْصِدُهُمْ. قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ"هُوَ بِنَصْبِ السَّاعَةِ وَرَفْعِهَا، النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ مَعَ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَالرَّفْعُ: عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ، وَالْإِبْهَامُ مُؤَنَّثَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهَا، وَسَبَقَ بَيَانُهَا وَاضِحًا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ. قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ" رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَلَى وَجْهَيْنِ، ضَمُّ الْهَاءِ مَعَ فَتْحِ الدَّالِ وَفَتْحُ الْهَاءِ مَعَ إسْكَانِ الدَّالِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَمَنْ فَتَحَ فَمَعْنَاهُ الطَّرِيقَةُ وَالْأَخْلَاقُ، وَمَنْ ضَمَّ مَعْنَاهُ الْإِرْشَادُ، وَقَدْ بَسَطْتُ شَرْحَ الرِّوَايَتَيْنِ وَسَائِرِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مُوَضَّحَةً فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
"كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" هَذَا مِنْ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ كُلُّ مَا عُمِلَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهِيَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: وَاجِبَةٌ وَمَنْدُوبَةٌ وَمُحَرَّمَةٌ وَمَكْرُوهَةٌ وَمُبَاحَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْت أَمْثِلَتَهَا وَاضِحَةً فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ. وَمِنْ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ الْكَلَامِ لِلرَّدِّ عَلَى مُبْتَدِعٍ أَوْ مُلْحِدٍ تَعَرَّضَ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَمَا سَنُوضِحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى فِي كِتَابِ السِّيَرِ1.
وَمِنْ الْبِدَعِ الْمَنْدُوبَاتِ: بِنَاءُ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطُ وَتَصْنِيفُ الْعِلْمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالضَّيَاعُ - بِفَتْحِ الضَّادِ -

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يقدر الله أن يصل إلى كتاب السير وهو من أواخر المهذب ولم نجد في شرحنا داعيا لخوض غمار متاهات علم الكلام الذي يعتمد على منطق اليونان وقدحرم النووي هو وابن الصلاح منطق اليونان قال في متن السلم

فابن الصلاح والنواوي حرما                     وقال قوم ينبغي أن يعلما

 أسأل الله الكريم أن يجعله خالصا لوجهه وأن يحسن لي به الخاتمة وأن يصلح لي من ذريتي آمين (ط)

 

ج / 4 ص -271-       الْعِيَالُ، أَيْ مَنْ تَرَكَ عِيَالًا وَأَطْفَالًا يَضِيعُونَ بَعْدَهُ فَلِيَأْتُونِي لِأَقُومَ بِكِفَايَتِهِمْ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي دَيْنَ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَخْلُفْ لَهُ وَفَاءً، وَكَانَ هَذَا الْقَضَاءُ وَاجِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَلَا يَجِبُ الْيَوْمَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.
وَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إذَا كَانَ فِيهِ سَعَةٌ وَلَمْ يَضِقْ عَنْ أَهَمَّ مِنْ هَذَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَسَيَأْتِي كُلُّ هَذَا وَاضِحًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ فِي الْخَصَائِصِ حَيْثُ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. قَوْلُهُ "لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ افْتَقَرَتْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تعالى افْتَقَرَتْ إلَى ذِكْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم" فَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ الصَّوْمِ وَقَوْلُهُ "الرَّسُولِ" هَكَذَا هُوَ فِي الْمُهَذَّبِ، وَكَذَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ: قَالَ الرَّسُولُ، بَلْ يُقَالُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ نَبِيُّ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ فَفِي الْقُرْآنِ "ا أَيُّهَا الرَّسُولُ" فَالْجَوَابُ أَنَّ نِدَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم تَشْرِيفٌ لَهُ وَتَبْجِيلٌ بِأَيِّ خِطَابٍ كَانَ بِخِلَافِ كَلَامِنَا. وقول المصنف: "رَوَاهُ الْمُزَنِيّ فِي أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُطْبَةِ" مَعْنَاهُ نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ فِي الْمُخْتَصَرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ مِنْ الْخُطْبَةِ فَجَعَلَهُ وَاجِبًا.
أما الأحكام: فقال أَصْحَابُنَا: فُرُوضُ الْخُطْبَةِ خَمْسَةٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا أحدها: حَمْدُ اللَّهِ تعالى وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْحَمْدِ، وَلَا يَقُومُ مَعْنَاهُ مَقَامَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَقَلُّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الثاني: الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَا يُوهِمُ أَنَّ لَفْظَيْ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ لَا يَتَعَيَّنَانِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ وَجْهًا مَجْزُومًا بِهِ، وَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ أَنَّهُمَا مُتَعَيِّنَانِ الثالث: الْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ تعالى، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْوَصِيَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الصحيح الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ وَالْجُمْهُورُ: لَا يَتَعَيَّنُ بَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَيُّ وَعْظٍ كَانَ والثاني: حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَلَفْظِ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ تَعَبَّدَنَا بِهِ فِي مَوَاضِعَ. وَأَمَّا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِالْأَمْرِ بِهِ، وَلَا بِتَعَيُّنِهِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي التَّحْذِيرُ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَوَاصَى بِهِ مُنْكِرُو الشَّرَائِعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْحَثِّ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تعالى وَالْمَنْعِ مِنْ الْمَعَاصِي. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَجِبُ فِي الْمَوْعِظَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، بَلْ لَوْ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ كَفَى، وَأَبْدَى فِي الِاكْتِفَاءِ بِهِ احْتِمَالًا، وَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ وَوَافَقَهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى لَفْظَيْ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ كَافٍ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَالَ: وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ رَسُولِ اللَّهِ كَفَى؛ وَلَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلرَّحْمَنِ أَوْ لِلرَّحِيمِ لَمْ يَكْفِ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذِهِ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ إلَّا وَجْهًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَكْفِي فِي إحْدَاهُمَا وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ.
الرابع: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الصحيح الْمَنْصُوصُ في"الأم" تَجِبُ فِي إحْدَاهُمَا أَيَّتَهَا

 

ج / 4 ص -272-       شَاءَ والثاني: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ تَجِبُ فِي الْأُولَى وَلَا تُجْزِي فِي الثَّانِيَةِ والثالث: تَجِبُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَهُوَ وَجْهٌ مَشْهُورٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ غَلَطٌ والرابع: لَا تَجِبُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالشَّاشِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ قَوْلًا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ: أَنَّهَا تَجِبُ فِي إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا. قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ جَعْلُهَا فِي الْأُولَى وَنَصَّ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَقَلَّهَا آيَةٌ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله سَوَاءٌ كَانَتْ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا أَوْ حُكْمًا أَوْ قِصَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا يَبْعُدُ الِاكْتِفَاءُ بِشَطْرِ آيَةٍ طَوِيلَةً كَانَتْ1 أَوْ قَصِيرَةً، وَالْمَشْهُورُ الْجَزْمُ بِاشْتِرَاطِ آيَةٍ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ {ثُمَّ نَظَرَ} لَمْ يَكْفِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً آيَةً، بَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهَا مُفْهِمَةً.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْخُطْبَةِ سُورَةَ (ق) قَالَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى. وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهَا بِكَمَالِهَا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ وَلِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَاعِدِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَدَلَائِلِهِ وَالتَّرْهِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ قَرَأَ سَجْدَةً نَزَلَ وَسَجَدَ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلْ يَسْجُدُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ السُّجُودُ عَلَيْهِ وَكَانَ عَالِيًا وَهُوَ بَطِيءُ الْحَرَكَةِ بِحَيْثُ لَوْ نَزَلَ لَطَالَ الْفصل:تَرَكَ السُّجُودَ وَلَمْ يَنْزِلْ. هَكَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ جَمَاعَةٌ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قَرَأَ سَجْدَةً فَنَزَلَ فَسَجَدَ فَلَا بَأْسَ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الَّذِي أَسْتَحِبُّهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْخُطْبَةَ وَيَشْتَغِلَ بِالسُّجُودِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ نَفْلٌ فَلَا يُشْتَغَلُ بِهِ عَنْ الْخُطْبَةِ، وَهِيَ فَرْضٌ، فَلَوْ نَزَلَ فَسَجَدَ وَعَادَ إلَى الْمِنْبَرِ - وَلَمْ يَطُلْ الْفصل:- بَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ بِلَا خِلَافٍ، فَلَوْ طَالَ الْفصل:فَقَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ هُنَا وَسَبَقَ ذِكْرُهُمَا أصحهما: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ فَوَاتَهَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْوَعْظِ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْخُطْبَةِ والثاني: وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّ الْمُوَالَاةَ مُسْتَحَبَّةٌ فَعَلَى هَذَا يُسْتَحَبُّ الِاسْتِئْنَافُ فَإِنْ بَنَى جَازَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ قَرَأَ آيَةً فِيهَا مَوْعِظَةٌ وَقَصَدَ إيقَاعَهَا عَنْ الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى وَعَنْ الْقِرَاءَةِ لَمْ تُحْسَبْ عَنْ الْجِهَتَيْنِ، بَلْ تُحْسَبُ قِرَاءَةً وَلَا يُجْزِئُهُ الْإِتْيَانُ بِآيَاتٍ تَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْكَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى خُطْبَةً، وَلَوْ أَتَى بِبَعْضِهَا فِي ضِمْنِ آيَةٍ جَازَ الخامس: الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ قَوْلَانِ، وَحَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ وَجْهَيْنِ، وَالصَّوَابُ قَوْلَانِ.
أحدهما: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَمَقْصُودُ الْخُطْبَةِ الْوَعْظُ، وَهَذَا نَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عَنْ الْإِمْلَاءِ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ.
والثاني: أَنَّهُ وَاجِبٌ وَرُكْنٌ لَا تَصِحُّ الْخُطْبَةُ إلَّا بِهِ، وَهَذَا نَصُّهُ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْبُوَيْطِيِّ وَالْأُمِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَصَحِّ، فَرَجَّحَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ اسْتِحْبَابَهُ، وَبِهِ قَطَعَ شَيْخُهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش وق والسقط (أو قصيرة )  (ط)

 

ج / 4 ص -273-       يَجِبُ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ، وَقَطَعَ بِهِ أَيْضًا الْمَحَامِلِيُّ فِي كُتُبِهِ الثَّلَاثَةِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيّ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ، وَقَطَعَ بِهِ قَبْلَهُمْ ابْنُ الْقَاصِّ فِي التَّلْخِيصِ، وَرَجَّحَ جُمْهُورُ الْخُرَاسَانِيِّينَ وُجُوبَهُ، وَقَطَعَ بِهِ شَيْخُهُمْ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ، وَصَاحِبُهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَاهُ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي، وَقَطَعَ بِهِ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْحَاوِي، وَرَجَّحَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا قُلْنَا: يَجِبُ فَمَحِلُّهُ الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرَيْ الْبُوَيْطِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، فَلَوْ دَعَا فِي الْأُولَى لَمْ يُجْزِئْهُ، قَالُوا: يَكْفِي مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الدُّعَاءِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَرَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُتَعَلِّقًا بِأُمُورِ الْآخِرَةِ. وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَخْصِيصِهِ بِالسَّامِعِينَ بِأَنْ يَقُولَ: رَحِمَكُمْ اللَّهُ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلسُّلْطَانِ فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ1، إمَّا مَكْرُوهٌ وَإِمَّا خِلَافُ الْأَوْلَى، هَذَا إذَا دَعَا لَهُ بِعَيْنِهِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ بِالصَّلَاحِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ فَمُسْتَحَبٌّ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُجَازَفَةً فِي وَصْفِهِ وَنَحْوَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا إذا كان السلطان عادلا فما بالك إذا كان من الظالمين فإن الدعاء له حرام

فرع: هَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخُطْبَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ؟
فِيهِ طَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ فَشُرِطَ فِيهِ الْعَرَبِيَّةُ كَالتَّشَهُّدِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَكَانَ يَخْطُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْمُتَوَلِّي، أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي: مُسْتَحَبٌّ وَلَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوَعْظُ وَهُوَ حَاصِلٌ بِكُلِّ اللُّغَاتِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا قلنا: بِالِاشْتِرَاطِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ جَازَ أَنْ يَخْطُبَ بِلِسَانِهِ مُدَّةَ التَّعَلُّمِ، وَكَذَا إنْ تَعَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ مَضَى زَمَنُ التَّعَلُّمِ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَصَوْا بِذَلِكَ، وَيُصَلُّونَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَلَا تَنْعَقِدُ لَهُمْ جُمُعَةٌ.
فرع: التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَرْكَان الْخُطْبَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ هُوَ بِشَرْطٍ فَلَهُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ والثاني: أَنَّهُ شَرْطٌ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْحَمْدِ، ثُمَّ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ الْقِرَاءَة، ثُمَّ الدُّعَاءِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ: يَجِبُ تَقْدِيمُ الْحَمْدِ، ثُمَّ الصَّلَاةِ ثُمَّ الْوَصِيَّةِ، وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ، وَلَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوَعْظُ، وَهُوَ حَاصِلٌ وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْخَطِيبِ فِي أَثْنَائِهَا أَوْ أَحْدَثَ - وَشَرْطُنَا الطَّهَارَةُ - فَهَلْ يَبْنِي عَلَيْهَا غَيْرُهُ، فِيهِ طَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ

 

ج / 4 ص -274-       والثاني: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَفَرَّقَ بِأَنَّ فِي الِاسْتِخْلَافِ يَسْتَخْلِفُ مَنْ كَانَ شَارَكَهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تُتَصَوَّرُ مُشَارَكَةُ غَيْرِهِ فِي الْخُطْبَةِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الصَّلَاةِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ اسْتِخْلَافُ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ، حَيْثُ يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَالِ تَرْتِيبِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ هُنَا (فَالْجَوَابُ) بِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْخُطْبَةِ أَيْضًا الْوَعْظُ، وَلَا يَحْصُلُ بِبِنَاءِ كَلَامِ رَجُلٍ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ، وَالْأَصَحُّ هُنَا مَنْعُ الْبِنَاءِ. قَالَ الْبَغَوِيّ: فَإِنْ جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ اُشْتُرِطَ كَوْنُ الثَّانِي مِمَّنْ سَمِعَ الْمَاضِيَ مِنْ الْخُطْبَةِ وَإِلَّا اسْتَأْنَفَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ فِي الْخُطْبَةِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَرْكَانَهَا عِنْدَنَا خَمْسَةٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ الْمَالِكِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَدَاوُد: الْوَاجِبُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُطْبَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ بِسْمِ اللَّهِ أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَذْكَارِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمَالِكِيُّ: إنْ هَلَّلَ أَوْ سَبَّحَ أَجْزَأَهُ.
فرع: شُرُوطُ الْخُطْبَةِ سَبْعَةٌ: وَقْتُ الظُّهْرِ، وَتَقْدِيمُهَا عَلَى الصَّلَاةِ، وَالْقِيَامُ، وَالْقُعُودُ بَيْنَهُمَا. وَطَهَارَةُ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْخُطْبَتَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الشُّرُوطِ، وَالسَّابِعُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَوْ خَطَبَ سِرًّا وَلَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدٌ صَحَّتْ، وَهُوَ غَلَطٌ لِفَوَاتِ مَقْصُودِهَا. وَلَوْ خَطَبَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ قَدْرًا يَبْلُغهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا صُمًّا فَلَمْ يَسْمَعُوا كُلُّهُمْ أَوْ سَمِعَ دُونَ أَرْبَعِينَ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ الصحيح: لَا تَصِحُّ كَمَا لَوْ بَعُدُوا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ. والثاني: تَصِحُّ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ فَلَمْ يَسْمَعْ لِصَمَمِهِ يَحْنَثُ وَكَمَا لَوْ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ فَلَمْ يَفْهَمُوهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ.
وَيَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يُقْبِلُوا عَلَى الْإِمَامِ وَيَسْتَمِعُوا لَهُ وَيُنْصِتُوا وَالِاسْتِمَاعُ هُوَ شَغْلُ الْقَلْبِ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءِ لِلْمُتَكَلِّمِ. وَالْإِنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ. وَهَلْ يَجِبُ الْإِنْصَاتُ وَيَحْرُمُ الْكَلَامُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِتَفْرِيعِهِمَا فِي بَابِ هَيْئَةِ الْجُمُعَةِ أصحهما: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْجَدِيدِ: يُسْتَحَبُّ الْإِنْصَاتُ وَلَا يَجِبُ، وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ والثاني: وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ مِنْ الْجَدِيدِ: يَجِبُ الْإِنْصَاتُ وَيَحْرُمُ الْكَلَامُ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ طَرِيقًا غَرِيبًا جَازِمًا بِالْوُجُوبِ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
وَفِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ عَلَى الْخَطِيبِ طَرِيقَانِ: أحدهما: عَلَى الْقَوْلَيْنِ والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يُسْتَحَبُّ وَلَا يَحْرُمُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"تَكَلَّمَ فِي الْخُطْبَةِ" وَالْأَوْلَى أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كَلَامَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لِحَاجَةٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الْخِلَافُ فِي حَقِّ الْقَوْمِ وَالْإِمَامِ فِي كَلَامٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مُهِمٌّ نَاجِزٌ، فَلَوْ رَأَى أَعَمًى يَقَعُ فِي بِئْرٍ أَوْ عَقْرَبًا وَنَحْوَهَا تَدِبُّ إلَى إنْسَانٍ غَافِلٍ وَنَحْوِهِ فَأَنْذَرَهُ أَوْ عَلَّمَ إنْسَانًا خَيْرًا أَوْ نَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ فَهَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ، لَكِنْ قَالُوا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِشَارَةِ إنْ حَصَلَ بِهَا

 

ج / 4 ص -275-        الْمَقْصُودُ: هَذَا كُلُّهُ فِي الْكَلَامِ فِي حَالِ، الْخُطْبَةِ أَمَّا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَبَعْدَ فَرَاغِهَا فَيَجُوزُ الْكَلَامُ بِلَا خِلَافٍ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الِاسْتِمَاعِ، فَأَمَّا فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ فَطَرِيقَانِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ بِالْجَوَازِ، وَقَطَعَ الْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ بِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَمَادَى إلَى الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَكَلَامٍ فِي أَثْنَائِهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلدَّاخِلِ الْكَلَامَ مَا لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ مَكَانًا وَالْقَوْلَانِ إنَّمَا هُمَا فِيمَا بَعْدَ قُعُودِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَالْأَصْحَابُ: يُكْرَهُ لِلدَّاخِلِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْإِنْصَاتُ وَاجِبٌ أَمْ لَا، فَإِنْ خَالَفَ وَسَلَّمَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ قلنا: بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ حَرُمَتْ إجَابَتُهُ بِاللَّفْظِ، وَيُسْتَحَبُّ بِالْإِشَارَةِ كَمَا لَوْ سَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصحيح الْمَنْصُوصُ تَحْرِيمُهُ كَرَدِّ السَّلَامِ والثاني: اسْتِحْبَابُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ بِخِلَافِ الْمُسَلِّمِ والثالث: يَجُوزُ وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ - وَجْهًا - أَنَّهُ يُرَدُّ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَا يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، فَلَا يُتْرَكُ لَهَا الْإِنْصَاتُ الْوَاجِبُ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُحْرَمُ الْكَلَامُ جَازَ رَدُّ السَّلَامِ وَالتَّشْمِيتُ بِلَا خِلَافٍ، وَيُسْتَحَبُّ التَّشْمِيتُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِهِ والثاني: لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ آكَدُ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ، وَأَمَّا السَّلَامُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أحدها: يَجُوزُ وَلَا يُسْتَحَبُّ، وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ والثاني: يُسْتَحَبُّ والثالث: يَجِبُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ.
هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَسْمَعُهَا لِبُعْدِهِ مِنْ الْإِمَامِ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ أحدهما: الْقَطْعُ بِجَوَازِ الْكَلَامِ وأصحهما وَهُوَ الْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُحْرَمُ الْكَلَامُ اُسْتُحِبَّ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَحْرُمُ حَرُمَ عَلَيْهِ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ السُّكُوتِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَذْكُرُ - إذَا قلنا: بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ -؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى هَيْنَمَةٍ وَتَهْوِيشٍ، حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ. قَالُوا: وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي أَنَّ الْمَأْمُومَ هَلْ يَقْرَأُ السُّورَةَ فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْإِمَامَ؟ وَالصَّحِيحُ هُنَاكَ أَنَّهُ يَقْرَأُ، وَكَذَا هُنَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَذْكُرُ وَإِنْ جَوَّزْنَا لَهُ الْكَلَامَ. لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ آكَدُ لِلِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَحَيْثُ حَرَّمْنَا الْكَلَامَ فَتَكَلَّمَ أَثِمَ وَلَا تَبْطُلُ جُمُعَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ
"فَلَا جُمُعَةَ لَهُ" أَيْ: لَا جُمُعَةَ كَامِلَةٌ.
فرع: قَالَ الْغَزَالِيُّ: هَلْ يَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَى مَنْ عَدَا الْأَرْبَعِينَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شَاذٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا التَّقْدِيرُ بَعِيدٌ وَمُخَالِفٌ؛ لِمَا نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ، أَمَّا بُعْدُهُ فَلِأَنَّ كَلَامَهُ مَفْرُوضٌ فِي السَّامِعِينَ لِلْخُطْبَةِ، وَإِذَا حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ زَائِدُونَ عَلَى أَرْبَعِينَ: لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَقُولَ: تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَرْبَعِينَ مِنْهُمْ مُعَيَّنِينَ حَتَّى يَحْرُمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا، وَيَكُونَ الْخِلَافُ فِي الْبَاقِينَ، بَلْ الْوَجْهُ: الْحُكْمُ بِانْعِقَادِهَا بِجَمِيعِهِمْ، أَوْ بِأَرْبَعِينَ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِنَقْلِ الْأَصْحَابِ فَلِأَنَّك لَا تَجِدُ لِلْأَصْحَابِ إلَّا إطْلَاقَ قَوْلَيْنِ فِي السَّامِعِينَ، وَوَجْهَيْنِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، كَمَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 4 ص -276-       فرع:فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ حَالَ الْخُطْبَةِ وَتَحْرِيمِ الْكَلَامِ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ، وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَدَاوُد، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يَحْرُمُ. وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}(الأعراف: من الآية204)وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ - وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ - فَقَدْ لَغَوْتَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ "دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَرَأَ سُورَةَ بَرَاءَةٍ، فَقُلْت لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: مَتَى نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ؟ فَلَمْ يُكَلِّمْنِي فَلَمَّا صَلَّيْنَا قُلْت لَهُ: سَأَلْتُكَ فَلَمَّا تُكَلِّمُنِي؟ فَقَالَ: مَا لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ إلَّا مَا لَغَوْتَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَدَقَ أَبِي" حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ بَدَلُ رَكْعَتَيْنِ فَحَرُمَ بَيْنَهُمَا الْكَلَامُ كَالصَّلَاةِ.
 وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَرَّاتٍ وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ:
"دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَأَشَارَ إلَيْهِ النَّاسُ أَنْ اُسْكُتْ، سَأَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُشِيرُونَ إلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَيْحَكَ مَا أَعْدَدْتَ لَهَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا قَالَ "بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَذَكَرَ حَدِيثَ الِاسْتِسْقَاءِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَأَجَابُوا عَنْ الْآيَةِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، هَذَا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْخُطْبَةُ، وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمُرَادِ. وَعَنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّغْوِ الْكَلَامُ الْفَارِغُ وَمِنْهُ لَغْو الْيَمِينِ، وَعَنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ الْمُرَادَ نَقْصُ جُمُعَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّاكِتِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا تَفْسُدُ بِالْكَلَامِ بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَسُنَنُهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِنْبَرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، وَمِنْ سُنَنِهَا إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ" وَلِأَنَّهُ اسْتَدْبَرَ النَّاسَ فِي صُعُودِهِ فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ. وَمِنْ سُنَنِهَا أَنْ يَجْلِسَ إذَا سَلَّمَ حَتَّى يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَلَسَ - يَعْنِي عَلَى الْمِنْبَرِ - حَتَّى يَسْكُتَ الْمُؤَذِّنُ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ" وَيَقِفُ عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقِفُ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا؛ لِمَا رَوَى1 الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ رضي الله عنه قَالَ "وَفَدْتُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَهِدْنَا مَعَهُ الْجُمُعَةَ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ، طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ" وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ سَكَّنَ يَدَيْهِ، وَمِنْ سُنَنِهَا أَنْ يُقْبِلَ عَلَى النَّاسِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحكم بن الحزن الكلفي وكلفة من تميم والحديث أخرجه ابن الأثير في" أسد الغابة " مطولا من طريق أبي يعلى الموصلي وقال في آخره أخرجه الثلاثة يعني ابن منده وأبا نعيم وأبا عمر ابن عبد البر (ط)

 

ج / 4 ص -277-       وَلَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا؛ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"كَانَ إذَا خَطَبَنَا اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا وَاسْتَقْبَلَنَا بِوَجْهِهِ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ "عَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ" وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَيَكُونُ كَلَامُهُ مُتَرَسِّلًا مُبِينًا مُعْرِبًا مِنْ غَيْرِ بَغْيٍ وَلَا تَمْطِيطٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَصِّرَ الْخُطْبَةَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ "أَنَّهُ خَطَبَ وَأَوْجَزَ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ كُنْت تَنَفَّسْت، فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قِصَرُ خُطْبَةِ الرَّجُلِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ".
الشرح:
حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ" صَحِيحٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَاتِ جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ" فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَإِسْنَادُهُمَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ" إلَى آخِرِهِ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ؛ وَيُغْنِي عَنْهُ مَا سَبَقَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الصَّحَابِيِّ قَالَ "كَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما" فَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الْجُلُوسِ حِينَئِذٍ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقِفُ عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ" فَهَذَا الْحَدِيثُ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَلَيْسَ مَوْجُودًا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُقَابَلَةِ بِأَصْلِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَكَمِ بْنِ حَزَنٍ فَحَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ1.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.
وَأَمَّا لُغَاتُ الْفصل:وَأَلْفَاظُهُ: فَالْمِنْبَرُ مُشْتَقٌّ مِنْ النَّبْرِ، وَهُوَ الِارْتِفَاعُ، وَقَوْلُهُ
"تَلِي الْمُسْتَرَاحَ"هُوَ أَعْلَى الْمِنْبَرِ الَّذِي يَقْعُدُ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ لِيَسْتَرِيحَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ حَالَ الْأَذَانِ، وَالْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ، وَجُنْدُبٌ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا، قَوْلُهُ "يَكُونُ كَلَامُهُ مُتَرَسِّلًا" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَيْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل فحرر (ش) قلت وهذا الخبر لم يرد بهذا النص عن سمرة وإنما الذي ورد في سنن ابن ماجه عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده ولم يثبت لجد عدي هذا صحبة قال :
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم " وأخرج نحوه الترمذي عن ابن مسعود بلفظ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا " وفي اسناده محمد بن الفضل بن عطية قال فيه الترمذي ذاهب الحديث وقال صاحل مزره يضع وقال الترمذي : ولا يصح في هذا الباب شيء وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام من أدلة الأحكام وله مشاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة وقال الشوكاني في النيل وفي الباب عن أبي سعيد عند البخاري ومسلم والنسائي قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما على المنبر وجلسنا حوله بوب عليه البخاري باب استقبال الناس الإمام إذا خطب وفي الباب أيضا عن مطيع أبي يحيى عن جده قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام استقباناه بوجوهنا " ومطيع هذا مجهول ولم أجد لسمرة بن جندب حديثا في هذا الباب والله أعلم (ط)

 

ج / 4 ص -278-       يَتَمَهَّلُ فِيهِ وَيُبَيِّنُهُ تَبْيِينًا يَفْهَمُهُ سَامِعُوهُ. قَالَ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: اذْهَبْ عَلَى رِسْلِكَ أَيْ عَلَى هِينَتِكَ غَيْرَ مُسْتَعْجِلٍ وَلَا تُتْعِبْ نَفْسَكَ، قَوْلُهُ "مُعْرِبًا" أَيْ فَصِيحًا، وَالْبَغْيُ بِإِسْكَانِ الْغَيْن الْمُعْجَمَةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ صَوْتَهُ يَحْكِي كَلَامَ الْجَبَابِرَةِ وَالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَفَيْهِقِينَ، قَالَ: وَالْبَغْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكِبْرُ، وَالْبَغْيُ الضَّلَالُ وَالْبَغْيُ الْفَسَادُ، قَوْلُهُ التَّمْطِيطُ الْإِفْرَاطُ فِي مَدِّ الْحُرُوفِ، يُقَالُ: مَطَّ كَلَامَهُ إذَا مَدَّهُ، فَإِذَا أَفْرَطَ فِيهِ قِيلَ مَطَّطَهُ، قَوْلُهُ: لَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْت؛ يَعْنِي مَدَدْتَهَا وَطَوَّلْتهَا، قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "مَئِنَّةٌ" بِفَتْحِ الْمِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ نُونٌ مُشَدَّدَةٌ أَيْ عَلَامَةٌ أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى فِقْهِهِ.
وأما أحكام الفصل: فَفِيهِ مَسَائِلُ: إحداها:أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَوْنُ الْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرٍ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ إذَا شَاهَدُوا الْخَطِيبَ كَانَ أَبْلَغَ فِي وَعْظِهِمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْمِحْرَابِ، أَيْ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ إذَا قَامَ فِي الْمِحْرَابِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَهَكَذَا الْعَادَةُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى يَمِينِ الْمِنْبَرِ، قَالَ أَصْحَابُنَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْبَرٌ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ، وَإِلَّا فَإِلَى خَشَبَةٍ وَنَحْوِهَا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يَخْطُبُ إلَى جِذْعٍ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْمِنْبَرِ" فَقَالُوا: وَيُكْرَهُ الْمِنْبَرُ الْكَبِيرُ جِدًّا الَّذِي يُضَيِّقُ عَلَى الْمُصَلِّينَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَسْجِدُ مُتَّسِعًا.
الثانية: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسَنُّ لِلْإِمَامِ السَّلَامُ عَلَى النَّاسِ مَرَّتَيْنِ إحداهما: عِنْدَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ هُنَاكَ وَعَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إذَا انْتَهَى إلَيْهِ.
الثانية: إذَا وَصَلَ أَعْلَى الْمِنْبَرِ وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا سَلَّمَ لَزِمَ السَّامِعِينَ الرَّدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالسَّلَامِ فِي بَاقِي الْمَوَاضِعِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ الثَّانِي مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ.
الثالثة: يُسَنُّ لَهُ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ وَيُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَذَانِ قَامَ فَشَرَعَ فِي الْخُطْبَةِ وَيَكُونُ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَفِيهِ كَلَامٌ وَتَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَذَانِ.
الرابعة: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نَزَلَ عَنْ مَوْقِفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَرَجَةً، وَعُمَرَ دَرَجَةً أُخْرَى، وَعُثْمَانَ أُخْرَى، وَوَقَفَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي مَوْقِفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قُلْنَا: كُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ حَجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مُوَافَقَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ صلى الله عليه وسلم.
الخامسة: يُسَنُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ عَصًا أَوْ نَحْوِهَا؛ لِمَا سَبَقَ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمْهُورُ الْيَدَ الَّتِي يَأْخُذُهُ فِيهَا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْغَلَ يَدَهُ الْأُخْرَى بِأَنْ يَضَعَهَا عَلَى حَرْفِ الْمِنْبَرِ. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَيْفًا أَوْ عَصًا وَنَحْوَهُ سَكَّنَ يَدَيْهِ بِأَنْ يَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى أَوْ يُرْسِلَهُمَا وَلَا يُحَرِّكَهُمَا وَلَا يَعْبَثَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا،

 

ج / 4 ص -279-       وَالْمَقْصُودُ الْخُشُوعُ وَالْمَنْعُ مِنْ الْعَبَثِ.
السادسة: يُسَنُّ أَنْ يُقْبِلَ الْخَطِيبُ عَلَى الْقَوْمِ فِي جَمِيعِ خُطْبَتَيْهِ وَلَا يَلْتَفِتَ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي وَغَيْرُهُ: وَلَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْخُطَبَاءِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ الِالْتِفَاتِ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا غَيْرِهَا فَإِنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ هَذَا الِالْتِفَاتِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْصِدَ قَصْدَ وَجْهِهِ، وَلَا يَلْتَفِتَ فِي شَيْءٍ مِنْ خُطْبَتِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي بَعْضِ الْخُطْبَةِ كَمَا فِي الْأَذَانِ، وَهَذَا غَرِيبٌ لَا أَصْلَ لَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ الْإِقْبَالُ بِوُجُوهِهِمْ عَلَى الْخَطِيبِ وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَلِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَدَبُ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْوَعْظِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: سَبَبُ اسْتِقْبَالِهِمْ لَهُ وَاسْتِقْبَالِهِ إيَّاهُمْ وَاسْتِدْبَارِهِ الْقِبْلَةَ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ، فَلَوْ اسْتَدْبَرَهُمْ كَانَ قَبِيحًا خَارِجًا عَنْ عُرْفِ الْخِطَابِ، وَلَوْ وَقَفَ فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَإِنْ اسْتَدْبَرُوهُ كَانَ قَبِيحًا؛ وَإِنْ اسْتَقْبَلُوهُ اسْتَدْبَرُوا الْقِبْلَةَ؛ فَاسْتِدْبَارٌ وَاحِدٌ وَاسْتِقْبَالُ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَخَطَبَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُسْتَدْبِرَ النَّاسِ صَحَّتْ خُطْبَتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ كَذَا قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ؛ وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ خُطْبَتُهُ. حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَطَعَ بِهِ؛ وَأَنَّ لَهُ بَعْضَ الِاتِّجَاهِ، وَطَرَدَ الدَّارِمِيُّ الْوَجْهَ فِيمَا إذَا اسْتَدْبَرُوهُ أَوْ خَالَفُوا هُمْ أَوْ هُوَ الْهَيْئَةَ الْمَشْرُوعَةَ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
السابعة: يُسْتَحَبُّ رَفْعُ صَوْتِهِ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
الثامنة: يُسْتَحَبُّ كَوْنُ الْخُطْبَةِ فَصِيحَةً بَلِيغَةً مُرَتَّبَةً مُبَيَّنَةً مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا تَقْعِيرٍ؛ وَلَا تَكُونُ أَلْفَاظًا مُبْتَذَلَةً مُلَفَّقَةً، فَإِنَّهَا لَا تَقَعُ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعًا كَامِلًا، وَلَا تَكُونُ وَحْشِيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهَا بَلْ يَخْتَارُ أَلْفَاظًا جَزْلَةً مُفْهِمَةً. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيُكْرَهُ الْكَلِمَاتُ الْمُشْتَرَكَةُ وَالْبَعِيدَةُ عَنْ الْأَفْهَامِ. وَمَا يَكْرَهُ عُقُولُ الْحَاضِرِينَ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ صَحِيحِهِ.
التاسعة: يُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ الْخُطْبَةِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَحَتَّى لَا يَمَلُّوهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَكُونُ قِصَرُهَا مُعْتَدِلًا، وَلَا يُبَالِغُ بِحَيْثُ يَمْحَقُهَا.
العاشرة: قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ لَا يَحْضُرَ لِلْجُمُعَةِ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ يَشْرَعُ فِيهَا أَوَّلَ وُصُولِهِ الْمِنْبَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا وَصَلَ الْمِنْبَرَ صَعِدَهُ وَلَا يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَتَسْقُطُ هُنَا التَّحِيَّةُ بِسَبَبِ الِاشْتِغَالِ بِالْخُطْبَةِ كَمَا تَسْقُطُ فِي حَقِّ الْحَاجِّ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِسَبَبِ الطَّوَافِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: تُسْتَحَبُّ لَهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَانِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، مِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وَصَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّاهَا، وَحِكْمَتُهُ مَا ذَكَرْتُهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ التَّحِيَّةَ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 4 ص -280-       الحادية عشرة: يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَنْ يُقْبِلُوا عَلَى الْخَطِيبِ مُسْتَمِعِينَ وَلَا يَشْتَغِلُوا بِغَيْرِهِ حَتَّى قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ لَهُمْ شُرْبُ الْمَاءِ لِلتَّلَذُّذِ، وَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ لِلْعَطَشِ لِلْقَوْمِ وَالْخَطِيبِ، هَذَا مَذْهَبُنَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَخَّصَ فِي الشُّرْبِ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَنَهَى عَنْهُ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تَبْطُلُ الْجُمُعَةُ إذَا شَرِبَ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْجَوَازَ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ حُجَّةً لِمَنْ مَنَعَهُ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ.
الثانية عشرة: يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَخْتِمَ خُطْبَتَهُ بِقَوْلِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ. وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي النُّزُولِ مِنْ الْمِنْبَرِ عَقِبَ فَرَاغِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ، وَيَبْلُغُ الْمِحْرَابَ مَعَ فَرَاغِ الْإِقَامَةِ.
الثالثة عَشْرَةَ: يُكْرَهُ فِي الْخُطْبَةِ أَشْيَاءُ منها مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الْخُطَبَاءِ مِنْ الدَّقِّ بِالسَّيْفِ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ فِي صُعُودِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَبِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ ومنها: الدُّعَاءُ إذَا انْتَهَى صُعُودُهُ قَبْلَ جُلُوسِهِ، وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ جَهَلَتِهِمْ أَنَّهَا سَاعَةُ إجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ خَطَأٌ، إنَّمَا سَاعَةُ الْإِجَابَةِ بَعْدَ جُلُوسِهِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْبَابِ الثَّانِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى ومنها: الِالْتِفَاتُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّهُ بَاطِلٌ مَكْرُوهٌ ومنها: الْمُجَازَفَةُ فِي أَوْصَافِ السَّلَاطِينِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ وَكَذِبُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ السُّلْطَانُ الْعَالِمُ الْعَادِلُ وَنَحْوِهِ ومنها: مُبَالَغَتُهُمْ فِي الْإِسْرَاعِ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ بِهَا.
الرابعة عشرة: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَإِذَا حُصِرَ الْإِمَامُ لُقِّنَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: وَنَصَّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ لَا يُلَقَّنُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلْ عَلَى حَالَيْنِ، فَقَوْلُهُ "يُلَقِّنُهُ" أَرَادَ إذَا اسْتَعْظَمَهُ التَّلْقِينُ بِحَيْثُ سَكَتَ وَلَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ؛ وَقَوْلُهُ "لَا يُلَقِّنُهُ" أَرَادَ مَادَامَ يُرَدِّدُ الْكَلَامَ وَيَرْجُو أَنْ يَنْفَتِحَ عَلَيْهِ؛ فَيُتْرَكُ حَتَّى يَنْفَتِحَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَتِحْ لُقِّنَ؛ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ هَذَا التَّفْصِيلُ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَالْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ "صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ" وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ خَابَ مِنْ افْتَرَى، وَلِأَنَّهُ نَقْلُ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ الْجُمُعَةَ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَالَ:
"اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ فَقَرَأَ بِالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ، فَقُلْت: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأْت بِسُورَتَيْنِ سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه قَرَأَ بِهِمَا؟ قَالَ: سَمِعْتُ حِبِّي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهِمَا" وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ نَقْلُ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ".
 الشرح
: حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمْ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ فِي فرع: مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا تَابِعِيٌّ، وَأَبُوهُ

 

ج / 4 ص -281-       أَبُو رَافِعٍ صَحَابِيٌّ، وَهُوَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْمُهُ أَسْلَمُ، وَيُقَالُ: إبْرَاهِيمُ، وَيُقَالُ: ثَابِتٌ، وَيُقَالُ: هُرْمُزُ وَقَوْلُهُ: حِبِّي - بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - أَيْ مَحْبُوبِي.
أما الأحكام:فَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ رَكْعَتَانِ، وَعَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْجَهْرُ فِيهِمَا وَتُسَنُّ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِالسُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بِكَمَالِهِمَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى "سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ" وَفِي الثَّانِيَةِ "هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ". وَقَالَ الرَّبِيعُ - وَهُوَ رَاوِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدَةِ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ أَنَّهُ يَخْتَارُ الْجُمُعَةَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ قَرَأَ سَبِّحْ وَهَلْ أَتَاكَ كَانَ حَسَنًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحْ، هَلْ أَتَاكَ أَيْضًا، وَالصَّوَابُ هَاتَانِ سُنَّةٌ وَهَاتَانِ سُنَّةٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَاتَيْنِ تَارَةً وَبِهَاتَيْنِ تَارَةً، وَالْأَشْهَرُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ الْجُمُعَةُ وَالْمُنَافِقُونَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى الْمُنَافِقِينَ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ الْجُمُعَةَ -، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: وَلَا يُعِيدُ الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَى غَيْرَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ قَالَ أَصْحَابُنَا: قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ السُّورَتَيْنِ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَرَكَ الْجَهْرَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ لَا يَجْهَرُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْإِسْرَارُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُ السُّنَّةِ الْفَائِتَةِ إلَّا بِتَفْوِيتِ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ الْآنَ وَأَمَّا هُنَا فَيُمْكِنُهُ جَمْعُ السُّورَتَيْنِ بِغَيْرِ إخْلَالٍ بِسُنَّةٍ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُؤَدِّي إلَى تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى، وَهَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ الْأَدَبَ لَا يُقَاوِمُ فَضِيلَةَ السُّورَتَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا مَزِيَّةَ لِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَلَا لِغَيْرِهِمَا، وَالسُّوَرُ كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي هَذَا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْرَأُ فِي الْأُولَى الْجُمُعَةَ وَالثَّانِيَةِ هَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ.
فرع: هَلْ الْجُمُعَةُ صَلَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ؟ أَمْ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي طَرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ حَكَاهُ عَنْهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَوْلَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْآخَرِينَ أَنَّهُ وَجْهَانِ، وَلَعَلَّهُمَا قَوْلَانِ مُسْتَنْبَطَانِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فَيَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا قَوْلَيْنِ وَوَجْهَيْنِ أصحهما: أَنَّهَا صَلَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَبِأَنَّ ادِّعَاءَ الْقَصْرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَعَبَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: فِي الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
أحدها: كُلُّ وَاحِدَةٍ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ والثاني: الظُّهْرُ أَصْلٌ وَالْجُمُعَةُ بَدَلٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ والثالث: وَهُوَ أَصَحُّهَا أَنَّ الْجُمُعَةَ أَصْلٌ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ، وَبَنَى الْأَصْحَابُ عَلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِهَا ظُهْرًا مَقْصُورَةً أَمْ مُسْتَقِلَّةً مَسَائِلَ كَثِيرَةً منها: مَا سَأَذْكُرُهُ فِي
فرع: بَعْدَ هَذَا فِي نِيَّةِ الْجُمُعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
فرع: يَنْبَغِي لِمُصَلِّي الْجُمُعَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْجُمُعَةَ بِمَجْمُوعِ مَا يُشْتَرَطُ فِي النِّيَّةِ. فَلَوْ نَوَى الظُّهْرَ - قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ - قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: إنْ قلنا: الْجُمُعَةُ صَلَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْجُمُعَةِ فَلَوْ نَوَى ظُهْرًا مَقْصُورَةً لَمْ تَصِحَّ، وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ فَنَوَى ظُهْرًا مَقْصُورَةً فَوَجْهَانِ.

 

ج / 4 ص -282-       أحدهما: تَصِحُّ جُمُعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا والثاني: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ النِّيَّاتِ التَّمْيِيزُ فَوَجَبَ التَّمْيِيزُ بِمَا يَخُصُّ الْجُمُعَةَ؛ قَالَ: وَلَوْ نَوَى الْجُمُعَةَ، فَإِنْ قلنا: هِيَ صَلَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ أَجْزَأَتْهُ، وَإِنْ قلنا: ظُهْرٌ مَقْصُورٌ فَهَلْ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَصْرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الصحيح لَا يُشْتَرَطُ، بَلْ تَكْفِي نِيَّةُ الْجُمُعَةِ والثاني: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِتْمَامُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ مِنْ الْمَذْهَبِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ، وَلَوْ نَوَى الظُّهْرَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْقَصْرِ لَمْ تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ.