المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ: هَيْئَةِ الْجُمُعَةِ وَالتَّبكْيرِ
قال المصنف رحمه الله تعالى:"السُّنَّةُ لِمَنْ أَرَادَ الْجُمُعَةَ أَنْ يَغْتَسِلَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مِنْ جَاءَ مِنْكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ" وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ اغْتَسَلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" فَعَلَّقَهُ عَلَى الْيَوْمِ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَغْتَسِلَ عِنْدَ الرَّوَاحِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ لِقَطْعِ الرَّوَائِحِ فَإِذَا فَعَلَهُ عِنْدَ الرَّوَاحِ كَانَ أَبْلَغَ فِي الْمَقْصُودِ، فَإِنْ تَرَكَ الْغُسْلَ جَازَ؛ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ" فَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَنَوَى بِالْغُسْلِ الْجَنَابَةَ وَالْجُمُعَةَ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا كَمَا لَوْ اغْتَسَلَتْ الْمَرْأَةُ وَنَوَتْ الْجَنَابَةَ وَالْحَيْضَ وَإِنْ نَوَى الْجَنَابَةَ وَلَمْ يَنْوِ الْجُمُعَةَ أَجْزَأَهُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَفِي الْجُمُعَةِ قَوْلَانِ. أحدهما: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ، وَقَدْ حَصَلَ[ذَلِكَ]والثاني: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ فَأَشْبَهَ إذَا اغْتَسَلَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنْ نَوَى الْجُمُعَةَ وَلَمْ يَنْوِ الْجَنَابَةَ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْجَنَابَةِ وَفِي الْجُمُعَةِ وَجْهَانِ أحدهما: وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنْ يُجْزِئَهُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ نَوَاهَا والثاني: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ، وَالتَّنْظِيفُ لَا يَحْصُلُ مَعَ بَقَاءِ الْجَنَابَةِ".
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَحَدِيثُ "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَدِيثُ سَمُرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ" مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ الْمَجِيءَ (وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) الْمُرَادُ بِالْمُحْتَلِمِ الْبَالِغُ، وَبِالْوُجُوبِ وُجُوبُ اخْتِيَارٍ لَا وُجُوبُ الْتِزَامٍ، كَقَوْلِ الْإِنْسَانِ لِصَاحِبِهِ، حَقُّكَ وَاجِبٌ عَلَيَّ. وقوله: صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ) قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَعْنَاهُ فَبِالسُّنَّةِ أَخَذَ وَنِعْمَتْ السُّنَّةُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَنِعْمَتْ الْخَصْلَةُ أَوْ نِعْمَتْ الْفِعْلَةُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ قَالَ: وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ تَاءُ التَّأْنِيثِ لِإِظْهَارِ السُّنَّةِ أَوْ الْخَصْلَةِ أَوْ الْفِعْلَةِ، وَحَكَى الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ مَا سَبَقَ ثُمَّ قَالَ: وَسَمِعْتُ الْفَقِيهَ أَبَا حَاتِمٍ الشَّارِكِيَّ يَقُولُ: مَعْنَاهُ فَبِالرُّخْصَةِ أَخَذَ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْغُسْلُ وَقَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: فَبِالْفَرِيضَةِ أَخَذَ وَلَعَلَّ الْأَصْمَعِيَّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَبِالسُّنَّةِ أَيْ فِيمَا جَوَّزَتْهُ السَّنَةُ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: وَنِعْمَتْ - بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ - هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَرُوِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ

 

ج / 4 ص -283-       الْعَيْنِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ قَالَ الْقَلَعِيُّ: وَرُوِيَ نَعِمْتَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ التَّاءِ أَيْ نَعَّمَكَ اللَّهُ وَهَذَا تَصْحِيفٌ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ.
أما الأحكام:فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ فِي فصل:عَقِيبَ بَابِ صِفَةِ الْغُسْلِ، وَنُعِيدُ مِنْهُ هُنَا قِطْعَةً مُخْتَصَرَةً تَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ الْمُصَنِّفِ، وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وُجُوبًا يُعْصَى بِتَرْكِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا وَفِيمَنْ يُسَنُّ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الصحيح الْمَنْصُوج / 4 ص - وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ - يُسَنُّ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ حُضُورَ الْجُمُعَةِ، سَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْمُسَافِرُ وَالْعَبْدُ وَغَيْرُهُمْ لِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ النَّظَافَةُ، وَهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَلَا يُسَنُّ لِمَنْ لَمْ يُرِدْ الْحُضُورَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ وَلِانْتِفَاءِ الْمَقْصُودِ وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
الثاني: يُسَنُّ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَهَا وَلِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا - وَمَنَعَهُ عُذْرٌ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لَهُ الْجُمُعَةُ وَالْغُسْلُ، فَعَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ الْآخَرَ
وَالثَّالِثُ: لَا يُسَنُّ إلَّا لِمَنْ لَزِمَهُ حُضُورُهَا، حَكَاهُ الشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ.
والرابع: يُسَنُّ لِكُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ مَنْ حَضَرَهَا وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ كَيَوْمِ الْعِيدِ، وَهُوَ مَشْهُودٌ مِمَّنْ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَوَقْتُ جَوَازِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةَ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَدَلِيلُهُ فِي الْكِتَابِ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَانْفَرَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِحِكَايَةِ وَجْهٍ أَنَّهُ يَجُوزُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَغُسْلِ الْعِيدِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَالصَّوَابُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَيُخَالِفُ الْعِيدَ. فَإِنَّهُ يُصَلَّى فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَيَبْقَى أَثَرُ الْغُسْلِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى تَقْدِيمِ غُسْلِ الْعِيدِ لِكَوْنِ صَلَاتِهِ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْفَجْرِ ضَاقَ الْوَقْتُ وَتَأَخَّرَ عَنْ التَّبْكِيرِ إلَى الصَّلَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتِ الذَّهَابِ إلَى الْجُمُعَةِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ إلَّا عِنْدَ الذَّهَابِ.
وَلَوْ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَحْدَثَ أَوْ أَجْنَبَ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَبْطُلْ غُسْلُ الْجُمُعَةِ عِنْدَنَا، بَلْ يَغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ وَيَبْقَى غُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ وَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِهِ، وَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْغُسْلِ لِنَفَادِ الْمَاءِ بَعْدَ الْوُضُوءِ أَوْ لِمَرَضٍ أَوْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّيَمُّمُ وَيَحُوزُ بِهِ فَضِيلَةَ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَهُ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُرَادَ بِالْغُسْلِ النَّظَافَةُ وَلَا تَحْصُلُ بِالتَّيَمُّمِ وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْ تَرَكَ الْغُسْلَ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَجُمُعَتُهُ صَحِيحَةٌ وَسَنَبْسُطُ دَلَائِلَهُ فِي فرع: مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
وَأَمَّا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غَسْلُ جَنَابَةٍ فَنَوَى الْغُسْلَ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ مَعًا فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ غُسْلِهِ لَهُمَا جَمِيعًا، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي عَنْ أَبِي سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاسْتَدَلَّ لِلْمَذْهَبِ

 

ج / 4 ص -284-       بِمَا إذَا لَزِمَهَا غُسْلُ حَيْضٍ وَغُسْلُ جَنَابَةٍ فَنَوَتْهُمَا أَوْ نَوَى بِصَلَاتِهِ الْفَرْضَ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا، وَلَوْ نَوَى غُسْلَ الْجُمُعَةِ لَمْ تَحْصُلْ[عَنْ]الْجَنَابَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ للخراسانيين أَنَّهَا تَحْصُلُ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنْ قلنا: بِهِ حَصَلَ غُسْلُ الْجُمُعَةِ أَيْضًا، وَإِنْ قلنا: بِالْمَذْهَبِ فَفِي صِحَّةِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ الصحيح الَّذِي قَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ: حُصُولُهُ وَنَقَلَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّصِّ والثاني: لَا يَحْصُلُ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ.
وَإِذَا اخْتَصَرْتَ قُلْتَ: إذَا نَوَى غُسْلَ الْجُمُعَةِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصحيح: حُصُولُهَا دُونَ الْجَنَابَةِ والثاني: حُصُولُهُمَا والثالث: مَنْعُهُمَا. وَلَوْ نَوَى الْغُسْلَ لِلْجَنَابَةِ حَصَلَ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي حُصُولِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ قَوْلَانِ أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّنْبِيهِ وَالْأَكْثَرِينَ لَا يَحْصُلُ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَلَمْ يَنْوِهِ وأصحهما: عِنْدَ الْبَغَوِيِّ حُصُولُهُ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ.
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ يَعْصِي بِتَرْكِهِ بَلْ لَهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: هُوَ فَرْضٌ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَنْ رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ "غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" وَبِحَدِيثِ "مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلِيَغْتَسِلْ" وَهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ "مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ" وَفِيهِ دَلِيلَانِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ أحدهما: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "فَبِهَا" وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِمَّا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِهِ تَحْصُلُ الدَّلَالَةُ والثاني: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ" وَالْأَصْلُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْفَضْلِ يُرَجَّحُ أَحَدَهُمَا فِيهِ، وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ إذْ دَخَلَ عُثْمَانُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ ثُمَّ أَقْبَلْتُ، فَقَالَ عُمَرُ وَالْوُضُوءَ أَيْضًا؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ دَخَلَ رَجُلٌ وَلَمْ يُسَمِّ عُثْمَانَ؛ وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ، وَهُمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ أَقَرُّوا عُثْمَانَ عَلَى تَرْكِ الْغُسْلِ وَلَمْ يَأْمُرُوهُ بِالرُّجُوعِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَتْرُكْهُ وَلَمْ يَتْرُكُوا أَمْرَهُ بِالرُّجُوعِ لَهُ، قَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ: لَا يَتَحَرَّيَنَّهُ.
وفوله: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ وَتَوَضَّأْتَ الْوُضُوءَ أَيْضًا وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ
"كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمِنْ الْعَوَالِي فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ وَيُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ الرِّيحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "غُسْلُ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَكِنَّهُ أَطْهُرُ وَخَيْرٌ لِمَنْ اغْتَسَلَ، وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْغُسْلِ" فَذَكَرَ

 

ج / 4 ص -285-        نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ والجواب: عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ مِنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: يُجْزِئُ غُسْلٌ وَاحِدٌ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ، وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ الصَّحَابِيُّ لِمَنْ اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ أَعِدْ غُسْلًا لِلْجُمُعَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ: لَا يُجْزِئُهُ وَمِنْهَا: لَوْ اغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ تُجْزِئهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِنَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِئُهُ وَمِنْهَا: لَوْ اغْتَسَلَ لَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عِنْدَ الذَّهَابِ إلَى الْجُمُعَةِ وَكُلُّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يُجْزِئُهُ قَبْلَ الْفَجْرِ إلَّا الْأَوْزَاعِيَّ فَقَالَ: يُجْزِئُهُ الِاغْتِسَالُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِلْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ. ومنها: لَوْ اغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ ثُمَّ أَجْنَبَ لَمْ يَبْطُلْ غُسْلُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَبْطُلُ. وَلَوْ أَحْدَثَ لَمْ يَبْطُلْ بِالْإِجْمَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْبَابِ إعَادَةِ الْغُسْلِ، فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، وَحَكَى عَنْ طَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ اسْتِحْبَابَهُ ومنها: الْمُسَافِرُ إذَا لَمْ يُرِدْ حُضُورَ الْجُمُعَةِ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْغُسْلُ عِنْدَنَا، وَفِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ تَرَكَهُ فِي السَّفَرِ ابْنُ عُمَرَ وَعَلْقَمَةُ وَعَطَاءٌ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ فِي السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعَنْ طَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ مِثْلُهُ. ومنها: الْمَرْأَةُ إذَا حَضَرَتْ الْجُمُعَةَ اُسْتُحِبَّ لَهَا الْغُسْلُ، عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تَغْتَسِلُ، دَلِيلُنَا عَلَى الْجَمِيعِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ" وَعَلَى مَالِكٍ اشْتِرَاطُ الذَّهَابِ عَقِبَ الْغُسْلِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ" إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَفْظَةُ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي، وَعَلَى أَحْمَدَ فِي الْمَرْأَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِزِيَادَتِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَطَيُّبٌ وَلَا تَزَيُّنٌ.
قَالَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِسِوَاكٍ، وَأَخْذُ الظُّفْرِ وَالشَّعْرِ، وَقَطْعُ الرَّوَائِحِ؛ وَيَتَطَيَّبُ وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتَنَّ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ، إنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ وَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ، ثُمَّ رَكَعَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْكَعَ، وَأَنْصَتَ إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ كَانَتْ كَفَّارَةَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا" وَأَفْضَلُ الثِّيَابِ الْبَيَاضُ؛ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "الْبَسُوا ثِيَابَ الْبِيضِ فَإِنَّهَا أَطْهُرُ وَأَطْيَبُ" وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مِنْ الزِّينَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَعْتَمَّ وَيَرْتَدِيَ بِبُرْدٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِك".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ

 

ج / 4 ص -286-       وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ الْمَغَازِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْتُ؛ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا قَالَ عَنْ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى تَدْلِيسٍ وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ؛ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ سَمَاعُهُ وَصَارَ الْحَدِيثُ حَسَنًا؛ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَحَادِيثُ بِمَعْنَى بَعْضِهِ. منها عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ وَيَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَسِوَاكٌ وَيَمَسُّ مِنْ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ. قَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ صَحِيحٌ وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي النَّدْبِ إلَى إحْسَانِ الثِّيَابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالسِّوَاكِ وَالطِّيبِ. وَأَمَّا إزَالَةُ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ فَاحْتَجَّ لَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فِي بَابِ السِّوَاكِ فِي النَّدْبِ الْعَامِّ إلَيْهِمَا، وَأَنَّهُمَا مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِمَا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ النَّهْيِ عَنْهُمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَبَاطِلٌ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الِاعْتِمَامِ فَرَوَاهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَأَمَّا لُبْسُ الْبُرْدِ فَرَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ "كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بُرْدٌ يَلْبَسُهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "وَاسْتَنَّ" بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ تَسَوَّكَ، وَيُقَالُ: أَنْصَتَ وَنَصَتَ وَتَنَصَّتَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ ذَكَرَهُنَّ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَفْصَحُهَا: أَنْصَتَ، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ، وَسَبَقَ فِي الْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِمَاعِ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا. وَقَوْلُهُ "أَفْضَلُ الثِّيَابِ الْبَيَاضُ" كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ الْبِيضُ، وَيَصِحُّ الْبَيَاضُ عَلَى تَقْدِيرِ أَفْضَلُ أَلْوَانِ الثِّيَابِ الْبَيَاضُ؛ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ "الْبَسُوا ثِيَابَ الْبِيضِ، أَيْ ثِيَابَ الْأَلْوَانِ الْبِيضِ، وَالْبَسُوا بِفَتْحِ الْبَاءِ".
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ مَعَ الِاغْتِسَالِ لِلْجُمُعَةِ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِإِزَالَةِ أَظْفَارٍ وَشَعْرٍ وَمَا يَحْتَاجُ إلَى إزَالَتِهِ كَوَسَخٍ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يَتَطَيَّبَ وَيَدَّهِنَ وَيَتَسَوَّكَ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَأَفْضَلُهَا الْبِيضُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ مِنْ الزِّينَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْ يَتَعَمَّمَ وَيَرْتَدِيَ، وَأَفْضَلُ ثِيَابِهِ الْبِيضُ كَغَيْرِهِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ كَرَاهَةَ لِبَاسِهِ السَّوَادَ. وَقَالَهُ قَبْلَهُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ، وَخَالَفَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فَقَالَ فِي الْحَاوِي: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ لُبْسُ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ. قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ يَلْبَسُونَ الْبَيَاضَ. وَاعْتَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ السَّوَادَ بَنُو الْعَبَّاسِ فِي خِلَافَتِهِمْ شِعَارًا لَهُمْ. وَلِأَنَّ الرَّايَةَ الَّتِي عُقِدَتْ لِلْعَبَّاسِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَتْ سَوْدَاءَ، وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ صَفْرَاءَ. قَالَ: فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَلْبَسَ السَّوَادَ إذَا كَانَ السُّلْطَانُ لَهُ

 

ج / 4 ص -287-       مُؤْثِرًا؛ لِمَا فِي تَرْكِهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَلْبَسَ السَّوَادَ، وَيُسْتَدَلُّ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْبَسُ الْبَيَاضَ دُونَ السَّوَادِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَرَتُّبُ مَفْسَدَةٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ مِنْ اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ وَالطِّيبِ وَالتَّنَظُّفِ بِإِزَالَةِ الشُّعُورِ الْمَذْكُورَةِ وَالظُّفْرِ وَالرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ وَلُبْسِ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ - لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْجُمُعَةِ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ حُضُورَ مَجْمَعٍ مِنْ مَجَامِعِ النَّاسِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أُحِبُّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَكُلِّ مَجْمَعٍ تَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ، قَالَ: وَأَنَا لِذَلِكَ فِي الْجُمَعِ وَنَحْوِهَا أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَتُسْتَحَبُّ هَذِهِ الْأُمُورُ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ حُضُورَ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ الرِّجَالُ وَالصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ، إلَّا النِّسَاءَ فَيُكْرَهُ لِمَنْ أَرَادَتْ مِنْهُنَّ الْحُضُورَ الطِّيبُ وَالزِّينَةُ وَفَاخِرُ الثِّيَابِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهَا قَطْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَإِزَالَةُ الظُّفْرِ وَالشُّعُورِ الْمَكْرُوهَةِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَكِّرَ إلَى الْجُمُعَةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ [فِي السَّاعَةِ الْأُولَى]1 فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثالثة: فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقَرْنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ وَطُوِيَتْ الصُّحُفُ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا قَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ مِنْ أَنَّ السَّاعَاتِ خَمْسٌ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ سِتُّ سَاعَاتٍ. قَالَ:
"فِي الْأُولَى بَدَنَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ بَقَرَةً، وَالثالثة: كَبْشًا، وَالرَّابِعَةِ بَطَّةً، وَالْخَامِسَةِ دَجَاجَةً، وَالسَّادِسَةِ بَيْضَةً" وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ أَيْضًا: فِي الرَّابِعَةِ دَجَاجَةً، وَفِي الْخَامِسَةِ عُصْفُورًا، وَفِي السَّادِسَةِ بَيْضَةً" وَإِسْنَادُ الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَانِ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: هُمَا شَاذَّانِ لِمُخَالِفَتِهِمَا سَائِرَ الرِّوَايَاتِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "غُسْلُ الْجَنَابَةِ، مَعْنَاهُ غُسْلًا كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ فِي صِفَاتِهِ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَسَاهَلَ فِيهِ وَلَا يُكْمِلَ آدَابَهُ وَمَنْدُوبَاتِهِ. لِكَوْنِهِ سُنَّةً لَيْسَ بِوَاجِبٍ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ غَيْرَهُ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَهُ عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ حَقِيقَةً، قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ - إنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ - أَوْ أَمَتَهُ، لِتَسْكُنَ نَفْسُهُ فِي يَوْمِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذَا "مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ" عَلَى أَحَدِ الْمَذَاهِبِ فِي تَفْسِيرِهِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
"مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ" يَسْتَدِلُّ بِهِ أَصْحَابُنَا عَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ الرَّوَاحِ عَقِبَهُ؛ لِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي، وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْأَوْزَاعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ الِاغْتِسَالَ قَبْلَ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْفَجْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط)

 

ج / 4 ص -288-       لَيْسَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالِاتِّفَاقِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ الْمُطْلَقِ فِي غَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَاحَ أَيْ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الرَّوَاحِ وَالْمُرَادُ بِهِ فَسَنَذْكُرُهُ عَقِبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. وقوله: صلى الله عليه وسلم: "قَرَّبَ بَدَنَةً" إلَى آخِرِهِ مَعْنَى قَرَّبَ بَدَنَةً تَصَدَّقَ بِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْبَدَنَةِ هُنَا الْوَاحِدُ مِنْ الْإِبِلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَفِي حَقِيقَةِ الْبَدَنَةِ خِلَافٌ لِأَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءِ قَالَ الْجُمْهُورُ: يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعِظَمِ بَدَنِهَا، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، سُمِّيَتْ بَقَرَةً؛ لِأَنَّهَا تَبْقُرُ الْأَرْضَ أَيْ تَشُقُّهَا بِالْحِرَاثَةِ، وَالْبَقْرُ الشَّقُّ وَوَصَفَ الْكَبْشَ بِأَنَّهُ أَقْرَنُ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنُ وَأَكْمَلُ فِي صُورَتِهِ، وَالدَّجَاجَةُ - بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا - يَقَعُ عَلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَيُقَالُ: حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ بِفَتْحِ الضَّادِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى ابْنُ السِّكِّيتِ وَجَمَاعَاتٌ كَسْرَهَا، قَالُوا: وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ غَيْرُ الْحَفَظَةِ بَلْ طَائِفَةٌ وَظِيفَتُهُمْ كِتَابَةُ حَاضِرِي الْجُمُعَةِ، ثُمَّ يَحْضُرُونَ يَسْمَعُونَ الْخُطْبَةَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لَنَا وَلِلْجُمْهُورِ عَلَى مَالِكٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: التَّضْحِيَةُ بِالْبَقَرَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْبَدَنَةِ، وَفِي الْهَدْيِ فِي الْحَجِّ قَالَ: الْبَدَنَةُ أَفْضَلُ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ الْبَدَنَةُ أَفْضَلُ فِيهِمَا، وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْقُرْبَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي تَرْجِيحِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرَةِ فِي الْقُرْبَانِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى التَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ، وَأَنَّ مَرَاتِبَ النَّاسِ فِي الْفَضِيلَةِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تعالى:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات: من الآية13)وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَتُعْتَبَرُ السَّاعَاتُ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْيَوْمِ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ جَوَازُ الْغُسْلِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُعْتَبَرُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ".
الشرح:
اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ؛ وَفِيمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ السَّاعَاتُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصحيح عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَكْثَرِينَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ والثاني: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ، وَيُنْكَرُ عَلَيْهِ الْجَزْمُ بِهِ والثالث: أَنَّ السَّاعَاتِ هُنَا لَحَظَاتٌ لَطِيفَةٌ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الرَّوَاحَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ السَّاعَاتِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ؛ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَبِيبٍ الْمَالِكِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَكْتُبُونَ مَنْ جَاءَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثالثة: وَالرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ وَالسَّادِسَةِ، كَمَا صَحَّ فِي رِوَايَتَيْ النَّسَائِيّ اللَّتَيْنِ قَدَّمْتُهُمَا، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ وَلَا يَكْتُبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ مُتَّصِلًا بِالزَّوَالِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ الْهَدْيِ وَالْفَضِيلَةِ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا يُكْتَبُ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ طَيِّ الصُّحُفِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ السَّاعَاتِ إنَّمَا كَانَ لِلْحَثِّ عَلَى التَّبْكِيرِ إلَيْهَا وَالتَّرْغِيبِ فِي فَضِيلَةِ السَّبْقِ، وَتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَانْتِظَارِهَا وَالِاشْتِغَالِ بِالتَّنَفُّلِ

 

ج / 4 ص -289-       وَالذِّكْرِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَحْصُلُ بِالذَّهَابِ بَعْدَ الزَّوَالِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَلَا فَضِيلَةَ لِلْمَجِيءِ بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ يَكُونُ حِينَئِذٍ وَيَحْرُمُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا آتَاهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، فَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ: بِلَفْظِ الرَّوَاحِ فَجَوَابُهُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ مِمَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الْأَزْهَرِيُّ ذَلِكَ، وَغَلَّطَ قَائِلَهُ فَقَالَ فِي شَرْحِ أَلْفَاظِ الْمُخْتَصَرِ: مَعْنَى رَاحَ مَضَى إلَى الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَيَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الرَّوَاحَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي آخِرِ النَّهَارِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الرَّوَاحَ وَالْغُدُوَّ عِنْدَ الْعَرَبِ مُسْتَعْمَلَانِ فِي السَّيْرِ، أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. يُقَالُ: رَاحَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ وَتَرَوَّحَ وَغَدَا بِمَعْنَاهُ. هَذَا لَفْظُ الْأَزْهَرِيِّ وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ. وَالْجَوَابُ الثاني: أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ حَقِيقَةَ الرَّوَاحِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَجَبَ حَمْلُهُ هُنَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مَجَازًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: مَعْنَى رَاحَ: قَصَدَ الْجُمُعَةَ وَتَوَجَّهَ إلَيْهَا مُبَكِّرًا قَبْلَ الزَّوَالِ، قَالَ: وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ هَكَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ الزَّوَالِ خَمْسُ سَاعَاتٍ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ قَالَ: وَهَذَا شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ تَقُولُ رَاحَ فُلَانٌ بِمَعْنَى قَصَدَ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ الرَّوَاحِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: مَنْ جَاءَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ السَّاعَاتِ وَمَنْ جَاءَ فِي آخِرِهَا مُشْتَرِكَانِ فِي تَحْصِيلِ أَصْلِ الْبَدَنَةِ أَوْ الْبَقَرَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَكِنَّ بَدَنَةَ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ مِنْ بَدَنَةِ مَنْ جَاءَ فِي آخِرِ السَّاعَةِ، وَبَدَنَةُ الْمُتَوَسِّطِ مُتَوَسِّطَةٌ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُطْلَقُ عَلَى اثْنَيْنِ وَعَلَى أُلُوفٍ فَمَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ هُمْ عَشْرَةُ آلَافٍ لَهُ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَمَنْ صَلَّى مَعَ اثْنَيْنِ لَهُ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَلَكِنَّ دَرَجَاتِ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ، وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرَةٌ، هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ بِالسَّاعَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْعِشْرِينَ بَلْ تَرْتِيبُ الدَّرَجَاتِ، وَفَضْلُ السَّابِقِ عَلَى الَّذِي يَلِيه لِئَلَّا يَسْتَوِيَ فِي الْفَضِيلَةِ رَجُلَانِ جَاءَا فِي طَرَفَيْ سَاعَةٍ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْشِيَ إلَيْهَا وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَلَكِنْ ائْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ شَرْحُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى الْجُمُعَةِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي مُطْلَقِ الصَّلَوَاتِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَسْرَعَ حِينَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ وَإِسْحَاقَ. دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(الجمعة: من الآية9)فَمَعْنَاهُ اذْهَبُوا وَامْضُوا؛ لِأَنَّ السَّعْيَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّهَابِ وَعَلَى الْعَدْوِ فَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ الْمُرَادَ بِهِ.

 

ج / 4 ص -290-       قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَرْكَبُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِمَا رَوَى أَوْسُ بْنُ أَوْسٍ رضي الله عنه[عَنْ أَبِيهِ]1عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ "مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرُ عَمَلِ سَنَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا".
 الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَاوِيهِ أَوْسُ بْنُ أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَرُوِيَ غَسَلَ بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَغَسَّلَ بِتَشْدِيدِهَا، رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ؛ وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بِالتَّخْفِيفِ، فَعَلَى رِوَايَةِ التَّشْدِيدِ فِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أحدها: غَسَّلَ زَوْجَتَهُ بِأَنْ جَامَعَهَا فَأَلْجَأَهَا إلَى الْغُسْلِ، وَاغْتَسَلَ هُوَ قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِيَأْمَنَ أَنْ يَرَى فِي طَرِيقِهِ مَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ والثاني: أَنَّ الْمُرَادَ غَسَّلَ أَعْضَاءَهُ فِي الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ اغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ. والثالث: غَسَّلَ ثِيَابَهُ وَرَأْسَهُ ثُمَّ اغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ التَّخْفِيفِ فِي مَعْنَاهُ هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ أحدها: الْجِمَاعُ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ؛ قَالَ وَيُقَالُ: غَسَلَ امْرَأَتَهُ إذَا جَامَعَهَا والثاني: غَسَلَ رَأْسَهُ وَثِيَابَهُ والثالث: تَوَضَّأَ وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَسَّلَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ أَيْ جَامَعَ، شَبَّهَ لَذَّةَ الْجِمَاعِ بِالْعَسَلِ؛ وَهَذَا غَلَطٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا هُوَ تَصْحِيفٌ، وَالْمُخْتَارُ مَا اخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ بِالتَّخْفِيفِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ غَسَلَ رَأْسَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةٌ لِأَبِي دَاوُد فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ غَسَلَ رَأْسَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنْ مَكْحُولٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ بَيِّنٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا أَفْرَدَ الرَّأْسَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ فِيهِ الدُّهْنَ وَالْخِطْمِيَّ وَنَحْوَهُمَا وَكَانُوا يَغْسِلُونَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
"وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ" فَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ بَكَرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ خَفَّفَ فَمَعْنَاهُ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بَاكِرًا، وَمَنْ شَدَّدَ مَعْنَاهُ أَتَى الصَّلَاةَ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وَبَادَرَ إلَيْهَا، وَكُلُّ مَنْ أَسْرَعَ إلَى شَيْءٍ فَقَدْ بَكَّرَ إلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ بَكِّرُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ أَيْ صَلُّوهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا، وَيُقَالُ لِأَوَّلِ الثِّمَارِ بَاكُورَةٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ. قَالَ: مَعْنَى ابْتَكَرَ أَدْرَكَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ، كَمَا يُقَالُ ابْتَكَرَ بِكْرًا إذَا نَكَحَهَا لِأَوَّلِ إدْرَاكِهَا.
هَذَا كَلَامُ الْأَزْهَرِيِّ وَالْمَشْهُورُ بَكَّرَ بِالتَّشْدِيدِ؛ وَمَعْنَاهُ بَكَّرَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ وَقِيلَ إلَى الْجَامِعِ؛ وَابْتَكَرَ أَدْرَكَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ. وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا. حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ الْأَثْرَمِ صَاحِبِ أَحْمَدَ، قَالَ وَدَلِيلُهُ تَمَامُ الْحَدِيثِ؛ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: بَكَّرَ، أَدْرَكَ بَاكُورَةَ الْخُطْبَةِ أَيْ أَوَّلَهَا، وَابْتَكَرَ قَدِمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بَكَّرَ تَصَدَّقَ قَبْلَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ليس في ش و ق (ط)

 

ج / 4 ص -291-       خُرُوجِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ "بَاكِرُوا بِالصَّدَقَةِ" وَقِيلَ: بَكَّرَ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى، وَابْتَكَرَ فَعَلَ فِعْلَ الْمُبْتَكِرِينَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الطَّاعَةِ وَقِيلَ مَعْنَى ابْتَكَرَ: فَعَلَ فِعْلَ الْمُبْتَكِرِينَ، وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
"وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ" فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ حِكَايَةِ الْخَطَّابِيِّ عَنْ الْأَثْرَمِ أَنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَنَّهُمَا بِمَعْنًى، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ احْتِرَازٌ مِنْ شَيْئَيْنِ: أحدهما: نَفْيُ تَوَهُّمِ حَمْلِ الْمَشْيِ عَلَى الْمُضِيِّ وَالذَّهَابِ، وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا والثاني: نَفْيُ الرُّكُوبِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى مَشَى لَاحْتَمَلَ أَنَّ الْمُرَادَ وُجُودُ شَيْءٍ مِنْ الْمَشْيِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَنَفَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مَشَى جَمِيعَ الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَرْكَبْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "وَدَنَا وَاسْتَمَعَ" فَهُمَا شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَقَدْ يَسْتَمِعُ وَلَا يَدْنُو مِنْ الْخُطْبَةِ، وَقَدْ يَدْنُو وَلَا يَسْتَمِعُ فَنَدَبَ إلَيْهِمَا جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "وَلَمْ يَلْغُ" مَعْنَاهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ حَالَ الْخُطْبَةِ لَغْوٌ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ اسْتَمَعَ الْخُطْبَةَ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِغَيْرِهَا.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَاصِدِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَمْشِيَ وَأَنْ لَا يَرْكَبَ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِهِ إلَّا لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلَاةِ".
 الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ بَعْضُ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ السَّابِقِ: "إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ يَذْهَبُ فِي آخِرِ تَعَمُّدِهِ إلَى الصَّلَاةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا دَامَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلَاةِ فَلَهُ أَجْرٌ وَثَوَابٌ بِسَبَبِ الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَدَّبَ بِآدَابِ الْمُصَلِّينَ، فَيَتْرُكَ الْعَبَثَ وَالْكَلَامَ الرَّدِيءَ فِي طَرِيقِهِ، وَالنَّظَرَ الْمَذْمُومَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَتْرُكُهُ الْمُصَلِّي.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي طَرِيقِهِ إلَى الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَبَثِ مَا دَامَ قَاصِدًا الصَّلَاةَ أَوْ مُنْتَظِرَهَا، وَاحْتُجَّ لَهُ بِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ يَدَهُ، فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: التَّشْبِيكُ يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَبَثًا وَبَعْضُهُمْ لِتُفَرْقِعَ أَصَابِعُهُ، وَرُبَّمَا قَعَدَ الْإِنْسَانُ فَاحْتَبَى بِيَدَيْهِ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ، وَرُبَّمَا جَلَبَ النَّوْمَ فَيَكُونُ سَبَبًا لِنَقْضِ الْوُضُوءِ، فَنُهِيَ قَاصِدُ الصَّلَاةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَلِيقُ بِالْمُصَلِّي، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ وَشَبَّكَ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ وَالْكَرَاهَةَ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْمُصَلِّي وَقَاصِدِ الصَّلَاةِ، وَتَشْبِيكُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ بَعْدَ سَلَامِهِ وَقِيَامِهِ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 4 ص -292-       قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْنُوَ مِنْ الْإِمَامِ لِحَدِيثِ أَوْسٍ، وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ "إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ طَرِيقٌ لَمْ يُكْرَهْ[لَهُ]أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ) وَإِنْ دَخَلَ رَجُلٌ وَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ وَبَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةٌ لَا يَصِلُ إلَيْهَا إلَّا بِأَنْ يَتَخَطَّى رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَإِنْ رَجَا إذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَتَقَدَّمُوا جَلَسَ حَتَّى يَقُومُوا، وَإِنْ لَمْ يَرْجُ أَنْ يَتَقَدَّمُوا جَازَ أَنْ يَتَخَطَّى لِيَصِلَ إلَى الْفُرْجَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ رَجُلًا مِنْ مَوْضِعِهِ[لِيَجْلِسَ فِيهِ]لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ يَقُولُ: تَفَسَّحُوا أَوْ تَوَسَّعُوا" فَإِنْ قَامَ رَجُلٌ وَأَجْلَسَهُ مَكَانَهُ بِاخْتِيَارِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَقِلُ إلَيْهِ دُونَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي الْقُرْبِ مِنْ الْإِمَامِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ آثَرَ غَيْرَهُ فِي الْقُرْبَةِ، وَإِنْ فُرِشَ لِرَجُلٍ ثَوْبٌ فَجَاءَ آخَرُ لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُنَحِّيَهُ وَيَجْلِسَ مَكَانَهُ جَازَ، وَإِنْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ مَوْضِعِهِ لِحَاجَةٍ فَجَلَسَ رَجُلٌ مَكَانَهُ ثُمَّ عَادَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ الْمَوْضِعَ إلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ" قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ إذَا نَعَسَ وَوَجَدَ مَجْلِسًا لَا يَتَخَطَّى فِيهِ غَيْرَهُ تَحَوَّلَ إلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِ".
 الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْأَوَّلُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الثَّانِي "إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَآخَرُونَ بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ الْمَغَازِي عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَأَنْكَرَ الْبَيْهَقِيُّ ذَلِكَ وَقَالَ: رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، هَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِهِ "مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ" وَرَوَاهُ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَثْبُتُ رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَاقْتَصَرَ الشَّافِعِيُّ في"الأم" عَلَى رِوَايَتِهِ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَمَّا تَصْحِيحُ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُمَا إنَّمَا رَوَيَاهُ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ (عَنْ) وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمُدَلِّسَ إذَا قَالَ: عَنْ لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ، وَالْحَاكِمُ مُتَسَاهِلٌ فِي التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ، وَالتِّرْمِذِيُّ ذَهَلَ عَنْ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا بَسَطْتُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِتَصْحِيحِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ صَحَّحَهُ وَلَكِنَّ تَصْحِيحَهُ مَوْجُودٌ فِي نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ، وَلَعَلَّ النُّسَخَ اخْتَلَفَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا تَخْتَلِفُ فِي غَيْرِهِ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ غَالِبًا. وقوله: يَتَخَطَّى غَيْرُ مَهْمُوزٍ، وَالْفُرْجَةُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا، وَيُقَالُ أَيْضًا: فَرْجٌ وَمِنْهُ قوله تعالى:
{وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}(قّ: من الآية6)) جَمْعُ فَرْجٍ وَهُوَ الْخُلُوُّ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَقَوْلُهُ نَعَسَ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ يَنْعَسُ، بِضَمِّهَا.

 

ج / 4 ص -293-       وأَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَفِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: يُسْتَحَبُّ الدُّنُوُّ مِنْ الْإِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ التَّقَدُّمِ فِي الصُّفُوفِ وَاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ مُحَقِّقًا.
الثانية: يُنْهَى الدَّاخِلُ إلَى الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ عَنْ تَخَطِّي رِقَابَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لَا حَرَامٌ، فَإِنْ كَانَ إمَامًا، وَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا إلَى الْمِنْبَرِ وَالْمِحْرَابِ إلَّا بِالتَّخَطِّي لَمْ يُكْرَهْ؛ لِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ إمَامٍ وَرَأَى فُرْجَةً قُدَّامَهُمْ، لَا يَصِلُهَا إلَّا بِالتَّخَطِّي قَالَ الْأَصْحَابُ: لَمْ يُكْرَهْ التَّخَطِّي؛ لِأَنَّ الْجَالِسِينَ وَرَاءَهَا مُفَرِّطُونَ بِتَرْكِهَا، وَسَوَاءٌ وَجَدَ غَيْرَهَا أَمْ لَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ قَرِيبَةً أَمْ بَعِيدَةً لَكِنْ يُسْتَحَبُّ إنْ كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُهَا أَنْ لَا يَتَخَطَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعٌ، وَكَانَتْ قَرِيبَةً بِحَيْثُ لَا يَتَخَطَّى أَكْثَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَنَحْوِهِمَا دَخَلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً وَرَجَا أَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ إلَيْهَا إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْعُدَ مَوْضِعَهُ وَلَا يَتَخَطَّى، وَإِلَّا فَلْيَتَخَطَّ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي التَّخَطِّي
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ قُدَّامَهُمْ فُرْجَةٌ لَا يَصِلُهَا إلَّا بِالتَّخَطِّي فَلَا يُكْرَهُ حِينَئِذٍ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَآخَرُونَ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ كَرَاهَتَهُ مُطْلَقًا عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتَهُ إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَلَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَتَخَطَّاهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ جَوَازُ ذَلِكَ بِإِذْنِهِمْ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدِي. لِأَنَّ الْأَذَى يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ. وَهَذَا أَذًى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يَرَاهُ يَتَخَطَّى: "اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ".
الثالثة: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ الدَّاخِلُ رَجُلًا مِنْ مَوْضِعِهِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَسْجِدُ وَسَائِرُ الْمَوَاضِعِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا السَّابِقُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ: وَيَجُوزُ إقَامَتُهُ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ، وَهِيَ أَنْ يَقْعُدَ فِي مَوْضِعِ الْإِمَامِ أَوْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَيَمْنَعَهُمْ الِاجْتِيَازَ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْ الصَّفِّ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، قَالَ فِي الشَّامِلِ، بِشَرْطِ أَنْ يَضِيقَ الْمَوْضِعُ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ اتَّسَعَ تَنَحَّوْا عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَا يُنَحُّوهُ. أَمَّا إذَا قَامَ الْجَالِسُ بِاخْتِيَارِهِ وَأَجْلَسَ غَيْرَهُ فَلَا كَرَاهَةَ فِي جُلُوسِ الدَّاخِلِ، وَأَمَّا الْجَالِسُ فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى أَقْرَبِ شَيْءٍ إلَى الْإِمَامِ أَوْ مِثْلِهِ لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى أَبْعَدَ مِنْهُ كُرِهَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، قَالَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ: وَدَلِيلُ كَرَاهَتِهِ أَنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرْبَةِ مَكْرُوهٌ. وأما: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}(الحشر: من الآية9)فَالْمُرَادُ بِهِ فِي حُظُوظِ النُّفُوسِ، وَالْإِيثَارُ بِحُظُوظِ النُّفُوسِ مُسْتَحَبٌّ بِلَا شَكٍّ وَبَيَّنَهُ تَمَامُ الْآيَةِ {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(الحشر: من الآية9)وَقَدْ يُحْتَجُّ لِكَرَاهَتِهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ تعالى" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ.
الرابعة: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا: يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ الرَّجُلُ مَنْ يَأْخُذُ لَهُ مَوْضِعًا يَجْلِسُ فِيهِ. فَإِذَا جَاءَ الْبَاعِثُ تَنَحَّى الْمَبْعُوثُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَفْرِشَ لَهُ ثَوْبًا وَنَحْوَهُ، ثُمَّ يَجِيءُ وَيُصَلِّي مَوْضِعَهُ فَإِذَا فَرَشَهُ لَمْ

 

ج / 4 ص -294-       يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُنَحِّيَهُ وَيَجْلِسَ مَكَانَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَحِّيَهُ بِحَيْثُ لَا يَدْفَعُهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ دَفَعَهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُ.
الخامسة: إذَا جَلَسَ فِي مَكَان مِنْ الْمَسْجِدِ فَقَامَ لِحَاجَةٍ كَوُضُوءٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَفِي هَذَا الْحَقِّ وَجْهَانِ أحدهما: يُسْتَحَبُّ الثاني: أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ وَلَا يَلْزَمَهُ. وَبِهَذَا جَزَمَ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ "وَأَصَحُّهُمَا" يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى الْأَوَّلِ، صَحَّحَهُ أَصْحَابُنَا، وَجَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ تَرَكَ الْأَوَّلُ فِي مَوْضِعِهِ ثَوْبًا وَنَحْوَهُ أَمْ لَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَسَوَاءٌ قَامَ لِحَاجَةٍ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَهُ، أَمَّا إذَا فَارَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ بِلَا خِلَافٍ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا فِي إحْيَاءِ1 الْمَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
السادسة: إذَا نَعَسَ فِي مَكَانِهِ وَوَجَدَ مَوْضِعًا لَا يَتَخَطَّى فِيهِ أَحَدًا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِلْحَدِيثِ مَرْفُوعًا كَانَ أَوْ مَوْقُوفًا، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِزَوَالِ النُّعَاسِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَإِذَا ثَبَتَ فِي مَوْضِعِهِ وَتَحَفَّظَ مِنْ النُّعَاسِ بِوَجْهٍ يَرَاهُ نَافِيًا لِلنُّعَاسِ لَمْ أَكْرَهْ بَقَاءَهُ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَحَوَّلَ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا حَضَرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي جُلُوسِهِ، فَإِنْ اسْتَدْبَرَهَا جَازَ وَلَوْ اتَّكَأَ أَوْ مَدَّ رِجْلَيْهِ أَوْ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ ذَلِكَ كُرِهَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عِلَّةٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَإِنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى مَوْضِعٍ لَا يُزَاحِمُ فِيهِ حَتَّى لَا يُؤْذِي وَلَا يَتَأَذَّى.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ اشْتَغَلَ بِذِكْرِ اللَّهِ تعالى وَالصَّلَاةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْكَهْفِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ
"مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ" وَيُكْثِرُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتِهَا؛ لِمَا رَوَى أَوْسُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ" وَيُكْثِرُ مِنْ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ فِيهِ سَاعَةً يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ فَلَعَلَّهُ يُصَادِفُ ذَلِكَ".
 الشرح:
حَدِيثُ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ هَذَا صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ: رَوَيْنَا عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا أَحَادِيثَ وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ أَوْسٍ هَذَا، وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي الْكَهْفِ فَغَرِيبٌ وَرُوِيَ بِمَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنْ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ" قَالَ: وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتاب أحياء الموات من حظنا الذي قسمه الله لنا ونسأله تعالى أن يكون لنا فيه نعم المؤزر.

 

ج / 4 ص -295-       أما الأحكام: فَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاضِرِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ الِاشْتِغَالُ بِذَكَرِ اللَّهِ تعالى وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالصَّلَاةِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ سَلْمَانَ فِي هَذَا الْبَابِ النَّدْبُ إلَى الصَّلَاةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ في"الأم" وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتِهَا، وَيُسْتَحَبُّ إكْثَارُ الدُّعَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ؛ وَسَقَطَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ "قَائِمٌ يُصَلِّي" وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: "وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ "وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ" وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ السَّاعَةِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا:
 أحدها: أَنَّهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ1، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ. الثاني: عِنْدَ الزَّوَالِ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ2.
الثالث: مِنْ الزَّوَالِ إلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ حَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ لَكِنْ قَالَ: إلَى أَنْ يَدْخُلَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ3.
الرَّابِعُ: مِنْ الزَّوَالِ إلَى أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ نَحْوَ4 ذِرَاعٍ، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ.
الخامس: مِنْ خُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى فَرَاغِ صَلَاتِهِ حَكَاهُ عِيَاضٌ.
السادس: مَا بَيْنَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَصَلَاتِهِ حَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ.
السابع: مِنْ حِينِ تُقَامُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَفْرُغَ حَكَاهُ عِيَاضٌ.
وَالثَّامِنُ: وَهُوَ الصَّوَابُ: مَا بَيْنَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حَكَاهُ عِيَاضٌ وَآخَرُونَ.
التاسع: مِنْ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ حَكَاهُ عِيَاضٌ وَآخَرُونَ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ: وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا بَعْدُ الْعَصْرِ، وَتُرْجَى بَعْدَ الزَّوَالِ5.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى ابن عساكر عن أبي هريرة (ط)
2 وحكاه ابن المنذر عن أبي السوار العدوي (ط)
3 ذكره ابن المنذر عن أبي السوار العدوي (ط)
4 نقل هذه العبارة ابن حجر هكذا (أن يصير الظل نصف الذراع )وعزاها هكذا إلى النووي وقال حكاه عياض والقرطبي والنووي (ط)
5 هورواية عند سعيد ابن منصور عن أبي هريرة وفي إسنادها ليث  بن أبي سليم  (ط)

 

ج / 4 ص -296-       العاشر: آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ النَّهَارِ حَكَاهُ الْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ وَعِيَاضٌ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَخَلَائِقُ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
الحادي عشر: أَنَّهَا مَخْفِيَّةٌ فِي كُلِّ الْيَوْمِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ1، حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وروى الحاكم وابن خزيمة عن أبي سعيد قال :
سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد علمتها ثم أنسيتها كما أنسيب ليلة القدر وقد مال إلى هذا الرافعي وابن قدامة في المغني .
وقد أحصاها ابن حجر في الفتح فبلغت ثلاثا وأربعين منها  عدا ما أثبته النووي
1 أنها قد رفعت قد حكاه ابن المنذر عن قومه وزيفه وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة أنه كذب من قال بذلك وقال ابن القيم : إن قائله إن أراد أنها صارت مبهمة بعد أن كانت معلومة احتمل وإن أراد حقيقة الرفع فهو مردود .
2 – أنها في جمعة واحدة من السنة روى ذلك عن كعب بن مالك .
3- أنها تنتقل في يوم الجمعة ولا تلزم ساعة معينة وجزم به ابن عساكر ورجحه الغزالي والمحب الطبري .
4- أذا أذن المؤذن لصلاة الغداة روي ذلك عن عائشة .
5-من طلوع الشمس
6- هي في وقتين من يوم الجمعة من الفجر إلى طلوع الشمس ومن العصر إلى غروب الشمس وهو رواية سعيد بن منصور .
7- هي في ثلاثة أوقات الوقتين المار ذكرهما آنفا ثم من أن ينزل من المنبر إلى أن يكبر رواه حميد بن زنجويه عن أبي هريرة .
8 _ أنها أولساعة بعد طلوع الشمس حكاه العجيلى ف شرح التنبيه وتبعه المحب الطبري .
9-أنها عند طلوع الشمس حكاه الغزالي في الإحياء وعزاه ابن المنذر إلى أبي ذر .
10- أنها آخر الساعة الثالثة من النهار حكاه صاحب المغني من الحنابلة وهي في مسند أحمد عن أبي هريرة موقوفا بلفظ
" وفي آخر ثلاث ساعات منه ساعة من دعا الله تعالى يستجيب له "وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف .
11- أنها من الزوال إلى أن يصير الظل نصف  ذراع .
12- أنها بعد الزوال لشبر إلى ذراع رواه ابن المنذر وابن عبد البر عن أبي ذر .
13- أنها إذا زالت الشمس حكاه ابن المنذر عن أبي العالية وروي نحوه عن علي وعبد الله ابن نوفل وروي ابن عساكر عن قتادة أنه قا لكانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس .
14- إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة رواه ابن المنذر عن عائشة .
15- أنها من الزوال إلى غروب الشمس حكاه أبو العباس أحمد بن علي الأزماري نقله ابن الملقن
16- انها حين خروج الإمام رواه حميد بن زنجويه عن الحسن
17- أنها بين أن يحرم البيع إلى أن يحل رواه سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي .
18- ما بين الأذان ألى الصلاة
19-  ما بين الأذان ألى ايقضاء الصلاة .
20- ما بين خروج الإمام الى انقضاء الصلاة رواه ابن جرير عن الشعبي وروى عن أبي موسى وابن عمر .
21- عند التأذين وعند تذكير الإمام وعند الإقامة عن عوف بن مالك الأشجعي .
22- إذا أذن وإذا رقى وإذا أقيمت الصلاة رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي أمامة .
 23- من حين يبدأ الخطبة إلى نهايتها رواه ابن عبد البر عن ابن عمر مرفوعا بإسناد ضعيف

 

ج / 4 ص -297-       وَاعْتَرَضُوا عَلَى مَنْ قَالَ بَعْدَ الْعَصْرِ بِأَنَّهُ لَيْسَ وَقْتَ صَلَاةٍ وَفِي الْحَدِيثِ: "وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي" وَأَجَابُوا بِأَنَّ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ سَبَبٍ، وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الثَّامِنُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ" فَهَذَا صَحِيحٌ صَرِيحٌ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ أَجْوَدُ حَدِيثٍ وَأَصَحُّهُ فِي بَيَانِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَيْسَ مَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَقْتٌ لِهَذِهِ السَّاعَةِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِقَوْلِهِ: وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي صَحِيحٌ. أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ" فَضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، رَاوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، مُنْكَرُ الْحَدِيثِ سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَأَمَّا حَدِيثُ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهَا مِنْ حِينِ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا" فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ مَدَارَهُ عَلَى كَثِيرِ1 بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ وَتَرْكِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ كَذَّابٌ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْكَذِبِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ" فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدوَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ مُتَنَقِّلَةٌ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فِي وَقْتٍ، وَفِي بَعْضِهَا فِي وَقْتٍ، كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ[عَلَى الْمِنْبَرِ]2انْقَطَعَ التَّنَفُّلُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
24- عند الجلوس بين الخطبتين حكاه الطيبي عن بعض شراح المصابيح .
25- عند نزول الإمام من المنبر رواه ابن أبي شيبة وابن جرير ابن  المنذر بإسناد صحيح عن أبي بردة .
26- حين تقام الصلاة حتى يقوم الإمام في مقامه حكاه ابن المنذر عن الحسن وروى الطبراني من حديث ميمونة بنت سعد نحوه بإسناد ضعيف .
27- من إقامة الصلاة إلى تمام الصلاة أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن عوف وفيه قالوا أية ساعة يارسول الله صلى الله عليه وسلم قال : حين تقام الصلاة إلى الانصراف وإليه ذهب ابن سيرين ورواه عنه ابن جرير وسعيد بن منصور .
28- الساعة التي كان يصلي فيها النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة رواه ابن عساكر عن ابن سيرين.
29- بعد العصر  إلى آخر وقت الاختيار حكاه الغزالي في الإحياء .
30- من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب. 
1 كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف العسكري المدني عن أبيه روى عنه زيد بن الحباب وخالد بن مخلد وكذبه الشافعي كما ترى وأحمد وكذلك كذبه أبو داود ( المطيعي )
2 ما بين المعقوفين سافط من ش و ق (ط)

 

ج / 4 ص -298-       ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: "قُعُودُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ السُّبْحَةَ، وَكَلَامُهُ يَقْطَعُ الْكَلَامَ، وَأَنْهَمْ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَتَحَدَّثُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ عُمَرُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، حَتَّى يَقْضِيَ الْخُطْبَتَيْنِ، فَإِذَا قَامَتْ الصَّلَاةُ وَنَزَلَ عُمَرُ تَكَلَّمُوا" وَلِأَنَّ التَّنَفُّلَ فِي هَذَا الْحَالِ يَمْنَعُ الِاسْتِمَاعَ إلَى ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ فَكُرِهَ، فَإِنْ دَخَلَ[رَجُلٌ]- وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ - صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ" فَإِنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ لَمْ يُصَلِّ؛ لِأَنَّهُ تَفُوتُهُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ فَرْضٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهُ بِالنَّفْلِ".
الشرح:
حَدِيث جَابِرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ، وَحَدِيثُ ثَعْلَبَةَ صَحِيحٌ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ في"الأم" بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِمَعْنَاهُ وَثَعْلَبَةُ هَذَا صَحَابِيٌّ1 رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: فَقَدْ أَخْبَرَ ثَعْلَبَةُ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِ الْهِجْرَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَكَلَّمُونَ، وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَقَوْلُهُ "يَقْطَعُ السُّبْحَةَ" هُوَ بِضَمِّ السِّينِ وَهِيَ النَّافِلَةُ، وَفِي هَذَا الْأَثَرِ فَوَائِدُ: منها: جَوَازُ الصَّلَاةِ حَالَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْكَلَامِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَالتَّنَفُّلِ مَا لَمْ يَقْعُدْ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَانْقِطَاعِ النَّافِلَةِ بِجُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْأَذَانِ، وَجَوَازُ الْكَلَامِ حَالَ الْأَذَانِ. وقول المصنف: (فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهُ بِالتَّنَفُّلِ) مَعْنَاهُ يُكْرَهُ الِاشْتِغَالُ عَنْهُ بِالتَّنَفُّلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَحْرِيمَهُ.
أما الأحكام: فقال أَصْحَابُنَا: إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ امْتَنَعَ ابْتِدَاءُ النَّافِلَةِ، وَنَقَلُوا الْإِجْمَاعَ فِيهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ حَرُمَ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَبْتَدِئَ صَلَاةَ النَّافِلَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ جَلَسَ، وَهَذَا إجْمَاعٌ. هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْحَاوِي، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: إذَا ابْتَدَأَ الْخُطْبَةَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ صَلَاةً سَوَاءٌ كَانَ صَلَّى السُّنَّةَ أَمْ لَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ انْقَطَعَ التَّنَفُّلُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهَا، فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ خَفَّفَهَا، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إذَا قُلْنَا: الْإِنْصَاتُ سُنَّةٌ جَازَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْقِرَاءَةِ وَصَلَاةِ النَّفْلِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْإِنْصَاتُ وَاجِبٌ حَرُمَ ذَلِكَ، هَذَا كَلَامُهُ وَالْمَشْهُورُ الْمَنْعُ مِنْ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَوْجَبْنَا الْإِنْصَاتَ أَمْ لَا، فَإِنْ خَرَجَ الْإِمَامُ وَهُوَ فِي صَلَاةٍ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُخَفِّفَهَا بِلَا خِلَافٍ وَلَا تَبْطُلُ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً يَدْخُلُ فِيهِ بِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَيَبْقَى حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَجَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقَدْ انْقَطَعَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ثعلبة بن أبي مالك القرظي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولثعلبة وأبيه قصة فأبوه واسمه عبد الله من كنده وقدم أبو مالك هذا من اليمن على دين اليهود ونزل في بني قريظة فنسب إليهم ولم يكن منهم وهذا دليل على بطلان دعوى اليهود أنهم من نسل الانبياء إذ مقتضى نسبة رجل من كنده إلى دين اليهود والتحاقة ببني قريظة ومثله كثير في تاريخ اليهود أن تكون دعواهم لا أساس لها (ط).

 

ج / 4 ص -299-        الرُّكُوعُ، يَعْنِي التَّنَفُّلَ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ الْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ يَمْتَنِعُ بِمُجَرَّدِ جُلُوسِ الْإِمَامِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَذَانِ، قَالُوا: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ انْقَطَعَ التَّنَفُّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إذَا دَخَلَ دَاخِلٌ، وَالْإِمَامُ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ وَيُخَفِّفَهُمَا وَيُكْرَهُ تَرْكُهُمَا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
"إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ" وَإِنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ صَلَّى التَّحِيَّةَ فَاتَهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يُصَلِّ التَّحِيَّةَ، بَلْ يَقِفُ حَتَّى تُقَامَ الصَّلَاةُ وَلَا يَقْعُدُ لِئَلَّا يَكُونَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ التَّحِيَّةِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الصَّلَاةُ وَإِدْرَاكُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ صَلَّى التَّحِيَّةَ، هَكَذَا فَصَّلَهُ الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُمْ صَاحِبُ الشَّامِلِ، وَأَطْلَقَ الْبَغَوِيّ وَجَمَاعَةٌ كَمَا أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ، وَإِطْلَاقُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْخُطْبَةِ قَدْرًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالرَّكْعَتَيْنِ فِيهِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِنَصِّ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْأُمِّ: إذَا دَخَلَ، وَالْإِمَامُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ - وَلَا يُمْكِنُهُ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ دُخُولِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ - فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا، وَأَرَى الْإِمَامَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِصَلَاتِهِمَا، وَيَزِيدَ فِي كَلَامِهِ مَا يُمْكِنُهُ إكْمَالُهُمَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا نَصُّهُ وَأَطْبَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليست الغرابة من أسباب توهين الحديث إلا في حالة ما إذا عارض الغريب ماله  شواهد أو متابعات وحينئذ يكون الغريب شاذا ومقابله المحفوظ (ط)

 فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَيُخَفِّفَهُمَا وَيُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهُمَا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَالْمَقْبُرِيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْحُمَيْدِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد وَآخَرُونَ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَشُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا يُصَلِّي شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: إنْ شَاءَ صَلَّى وَإِلَّا فَلَا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إذَا خَطَبَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ" وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ.وَالْجوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ غَرِيبٌ 1والثاني: لَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى مَا زَادَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَيَجُوزُ الْكَلَامُ قَبْلَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْخُطْبَةِ؛ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، وَيَجُوزُ إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَإِذَا نَزَلَ مِنْ الْمِنْبَرِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ الْمِنْبَرِ فَيَقُومُ مَعَهُ الرَّجُلُ فَيُكَلِّمُهُ فِي الْحَاجَةِ ثُمَّ يَنْتَهِي إلَى مُصَلَّاهُ فَيُصَلِّي" وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَالِ صَلَاةٍ وَلَا حَالِ اسْتِمَاعٍ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْكَلَامِ، وَإِذَا بَدَأَ الْخُطْبَةَ أَنْصَتَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَنْصَتَ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَةِ إلَى

 

ج / 4 ص -300-        الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ" وَهَلْ يَجِبُ الْإِنْصَاتُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يَجِبُ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: "دَخَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَجَلَسَ إلَى أُبَيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَسَكَتَ حَتَّى صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: إنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا الْجُمُعَةَ، قَالَ وَلِمَ؟ قَالَ؛ لِأَنَّكَ تَكَلَّمْتَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَامَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ، فَقَالَ صَدَقَ أُبَيٌّ1[وَأَطِعْ أُبَيًّا]والثاني: يُسْتَحَبُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ. لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: "دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَأَشَارَ النَّاسُ إلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الثالثة: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: إنَّك مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" فَإِنْ رَأَى رَجُلًا[ضَرِيرًا]يَقَعُ فِي بِئْرٍ أَوْ رَأَى عَقْرَبًا تَدِبُّ إلَيْهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ كَلَامُهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَجِبُ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ، وَالْإِنْصَاتُ لِحَقِّ اللَّهِ تعالى وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَوْ عَطَسَ، فَإِنْ قُلْنَا: يُسْتَحَبُّ الْإِنْصَاتُ رَدَّ السَّلَامَ وَشَمَّتَ الْعَاطِسَ، وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ الْإِنْصَاتُ لَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ، وَلَمْ يُشَمِّتْ الْعَاطِسَ؛ لِأَنَّ الْمُسَلِّمَ سَلَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ سُنَّةٌ فَلَا يُتْرَكُ لَهُ الْإِنْصَاتُ الْوَاجِبُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَرُدُّ السَّلَامَ؛ لِأَنَّ الْمُسَلِّمَ مُفَرِّطٍ؛ وَيُشَمِّتُ الْعَاطِسَ؛ لِأَنَّ الْعَاطِسَ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي الْعُطَاسِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ".
 الشرح: حَدِيثُ ثَعْلَبَةَ سَبَقَ، بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَحَدِيثُ أَنَسٍ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفُوهُ، وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يُكَلَّمُ فِي الْحَاجَةِ إذَا نَزَلَ مِنْ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ" وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا".
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ
"دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَجَلَسْت قَرِيبًا مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَقَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُورَةَ بَرَاءَةٍ فَقُلْتُ لِأُبَيٍّ: مَتَى نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ؟ فَلَمْ يُكَلِّمْنِي" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ أَوْ بِلَفْظِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْمُهَذَّبِ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَ أُبَيٌّ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأُبَيٍّ وَجُعِلَتْ الْقِصَّةُ بَيْنَهُمَا، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ مَعْنَى هَذِهِ الْقِصَّةِ بَيْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ، قَالَ وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَعَلَ مَعْنَى الْقِصَّةِ بَيْنَ رَجُلٍ غَيْرِ مُسَمًّى وَبَيْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَعَلَ الْمُصِيبَ ابْنَ مَسْعُودٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَيْسَ فِي الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ هَذَا، وَزَادَ فَقَالَ: وَرَوَيْنَا فِي كِتَابِ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأُبَيٍّ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ الْأَخِيرُ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ بِمَعْنَاهُ.
أَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَيُقَالُ أَنْصَتَ وَنَصَتَ وَانْتَصَتَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ سَبَقَ بَيَانُهُنَّ أَفْصَحَهُنَّ أَنْصَتَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَيُقَالُ أَنْصَتَهُ وَأَنْصَتَ لَهُ، وَسَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط)

 

 

ج / 4 ص -301-       وقوله: لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا الْجُمُعَةَ أَيْ جُمُعَةً كَامِلَةً أَوْ شُهُودًا كَامِلًا قوله: عَقْرَبًا تَدِبُّ - هُوَ بِكَسْرِ الدَّالِ - قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْحَدِيثِ: كَانَتْ كَفَّارَةً؛ لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ قَالَ: مَعْنَاهُ مَا بَيْنَ السَّاعَةِ الَّتِي يُصَلِّي فِيهَا الْجُمُعَةَ وَمِثْلِهَا مِنْ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ عَشَرَةً، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ وَهُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ مَشْهُورَتَانِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُعْجَمَةُ أَفْصَحُ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ وَالْأَزْهَرِيُّ: الْمُهْمَلَةُ أَفْصَحُ، وَسَمَّتَهُ وَشَمَّتَهُ، وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ السَّمْتِ، وَهُوَ الْقَصْدُ وَالِاسْتِقَامَةُ.
أما الأحكام:فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْكَلَامِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَقَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْفُرُوعِ مَبْسُوطًا وَاضِحًا فِي آخِرِ الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَجُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْخُطْبَةِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ؛ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، لِحَدِيثِ ثَعْلَبَةَ الْمَذْكُورِ هُنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ الْكَلَامُ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ الْإِمَامُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَمَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ أَحْرَمَ بِهَا فَإِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ مِنْ الثَّانِيَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ فَقَدْ فَاتَتْ الْجُمُعَةُ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ تَمَّ الظُّهْرَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ وَقَالَ: أَسَانِيدُهَا صَحِيحَةٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ احْتَجَّ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالشَّافِعِيُّ في"الأم" وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ لَمْ تَفُتْهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ وَمَنْ لَمْ تَفُتْهُ الْجُمُعَةُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ وَقَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ الْكِتَابِ: فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى، وَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ.
أما الأحكام: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ رُكُوعَ الْإِمَامِ فِي ثَانِيَةِ الْجُمُعَةِ بِحَيْثُ اطْمَأَنَّ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ عَنْ أَقَلِّ الرُّكُوعِ كَانَ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَتَى بِثَانِيَةٍ وَتَمَّتْ جُمُعَتُهُ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ رُكُوعِهَا لَمْ يُدْرِكْ الْجُمُعَةَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، فَيَقُومُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ إلَى أَرْبَعٍ لِلظُّهْرِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ هَذَا الَّذِي أَدْرَكَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُ أحدهما: يَنْوِي الظُّهْرُ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ وأصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ وَآخَرُونَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْجُمْهُورِ: يَنْوِي الْجُمُعَةَ مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ، وَلَوْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ وَشَكَّ هَلْ سَجَدَ مَعَ الْإِمَامِ سَجْدَةً أَمْ سَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ وَغَيْرُهُمْ: إنْ كَانَ شَكَّ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ سَجَدَ أُخْرَى وَأَدْرَكَ الْجُمُعَةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ سَجَدَ أُخْرَى وَأَتَمَّ الظُّهْرَ، وَلَا تَحْصُلُ الْجُمُعَةُ قَطْعًا، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ فِيمَا إذَا سَجَدَهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.

 

ج / 4 ص -302-       وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ وَأَتَى بِرَكْعَتِهِ الْأُخْرَى فَلَمَّا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ شَكَّ هَلْ سَجَدَ مَعَ الْإِمَامِ سَجْدَةً أَمْ سَجْدَتَيْنِ؟ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مِنْ الْأُولَى وَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ مِنْ الظُّهْرِ، وَيَأْتِي بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، هَذَا كُلُّهُ إذَا أَدْرَكَ رُكُوعًا مَحْسُوبًا لِلْإِمَامِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْسُوبًا لَهُ بِأَنْ أَدْرَكَ رُكُوعَ ثَانِيَةِ الْجُمُعَةِ فَبَانَ الْإِمَامُ مُحْدِثًا فَيَبْنِي عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إمَامُ الْجُمُعَةِ مُحْدِثًا وَتَمَّ الْعَدَدُ بِغَيْرِهِ هَلْ تَصِحُّ؟ وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ فَهُنَا أُولَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أصحهما: لَا تَصِحُّ والثاني: تَصِحُّ، وَسَبَقَ هُنَاكَ دَلِيلُ الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا وَشَكَّ هَلْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ الْمُجْزِئَ؟ فَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، فَتَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ وَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ هُنَاكَ.
قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا نَاسِيًا فَأَدْرَكَهُ مَسْبُوقٌ فِي الثالثة: لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرَّكْعَةَ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ لِلْإِمَامِ، فَلَوْ عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً سَاهِيًا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى انْجَبَرَتْ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ وَصَارَتْ الثالثة: ثَانِيَةً وَحُسِبَتْ لِلْمَسْبُوقِ وَأَدْرَكَ بِهَا الْجُمُعَةَ فَيَضُمُّ إلَيْهَا أُخْرَى وَيُسَلِّمُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ هِيَ؟ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ وَلَا يَكُونُ الْمَسْبُوقُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنْ الثَّانِيَةِ، فَتَكُونُ الثالثة: لِلْإِمَامِ لَغْوًا إلَّا سَجْدَةً يُتَمِّمُ بِهَا الثَّانِيَةَ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يُدْرِكُ بِهِ الْمَسْبُوقُ الْجُمُعَةَ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إنْ أَدْرَكَ رُكُوعَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَدْرَكَهَا وَإِلَّا فَلَا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبَى يُوسُفَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَمَكْحُولٌ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ صَلَّى أَرْبَعًا، وَحَكَى أَصْحَابُنَا مِثْلَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ أَدْرَكَ التَّشَهُّدَ مَعَ الْإِمَامِ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ، فَيُصَلِّي بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَتَمَّتْ جُمُعَتُهُ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ كَانَ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ فَأَدْرَكَهُ مَأْمُومٌ فِيهِ أَدْرَكَهَا وَحَكَى أَصْحَابُنَا مِثْلَ مَذْهَبِنَا أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ عَنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ زُوحِمَ الْمَأْمُومُ عَنْ السُّجُودِ فِي الْجُمُعَةِ نَظَرْتُ فَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ لَزِمَهُ أَنْ يَسْجُدَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:"إذَا اشْتَدَّ الزِّحَامُ فَلْيَسْجُدْ، أَحَدُكُمْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ"وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ سَجَدَ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ حَتَّى يَزُولَ الزِّحَامُ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَجَدَ حَصَلَتْ لَهُ فَضِيلَةُ الْمُتَابَعَةِ، وَإِذَا انْتَظَرَ زَوَالَ الزَّحْمَةِ حَصَلَتْ لَهُ فَضِيلَةُ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ فَخُيِّرَ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْطُلُ بِالْمَرِيضِ إذَا عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ

 

ج / 4 ص -303-       عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَلَا يُؤَخِّرُ، وَإِنْ كَانَ فِي التَّأْخِيرِ فَضِيلَةُ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ بِحَالٍ انْتَظَرَ حَتَّى يَزُولَ الزِّحَامُ، فَإِنْ زَالَ الزِّحَامُ - لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يُدْرِكَ الْإِمَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ رَافِعًا مِنْ الرُّكُوعِ أَوْ سَاجِدًا - فَإِنْ أَدْرَكَهُ قَائِمًا سَجَدَ، ثُمَّ تَبِعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ ذَلِكَ بِعُسْفَانَ لِلْعُذْرِ، وَالْعُذْرُ هُنَا مَوْجُودٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ فَإِنْ فَرَغَ مِنْ السُّجُودِ فَأَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يَتْبَعُهُ فِي الرُّكُوعِ وَلَا يَقْرَأُ، كَمَنْ حَضَرَ، وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ والثاني: أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مَحِلَّ الْقِرَاءَةِ بِخِلَافِ مَنْ حَضَرَ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ.
فصل: فَإِنْ زَالَ الزِّحَامُ فَأَدْرَكَ الْإِمَامَ رَافِعًا مِنْ الرُّكُوعِ أَوْ سَاجِدًا سَجَدَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ سُجُودِهِ وَحَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ، وَهَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمُعَةَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُدْرِكُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلِيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى" وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُدْرِكُ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ صَلَاةٌ كَامِلَةٌ، فَلَا تُدْرَكُ إلَّا بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ وَهَذِهِ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ".
فصل: إنْ زَالَ الزِّحَامُ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَفِيهِ قَوْلَانِ أحدهما:
يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ ثُمَّ يَرْكَعُ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ الْإِمَامَ فِي جُزْءٍ مِنْ الرُّكُوعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْجُدَ كَمَا لَوْ زَالَتْ الزَّحْمَةُ فَأَدْرَكَهُ قَائِمًا والثاني: يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا، فَلَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ كَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ، وَالْإِمَامُ فِيهَا رَاكِعٌ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَرْكَعُ مَعَهُ - نَظَرْتُ - فَإِنْ فَعَلَ مَا قُلْنَاهُ وَرَكَعَ حَصَلَ لَهُ رُكُوعَانِ، وَبِأَيِّهِمَا يَحْتَسِبُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يَحْتَسِبُ بِالثَّانِي كَالْمَسْبُوقِ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَرَكَعَ مَعَهُ والثاني: يَحْتَسِبُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ الْأَوَّلُ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِتَرْكِ مَا بَعْدَهُ كَمَا لَوْ رَكَعَ وَنَسِيَ السُّجُودَ فَقَامَ أَوْ رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَحْتَسِبُ بِالثَّانِي حَصَلَ لَهُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةٌ فَإِذَا سَلَّمَ أَضَافَ[إلَيْهَا]أُخْرَى وَسَلَّمَ وَإِذَا قُلْنَا: يَحْتَسِبُ بِالْأَوَّلِ حَصَلَ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ حَصَلَ لَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَحَصَلَ لَهُ السُّجُودُ مِنْ الثَّانِيَةِ، وَهَلْ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَكُونُ مُدْرِكًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَكُونُ مُدْرِكًا فَإِذَا قلنا: بِقَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى وَسَلَّمَ، وَإِذَا قلنا: بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَامَ وَصَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَجَعَلَهَا ظُهْرًا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ، وَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الظُّهْرَ بَعْدَ فَرَاغِهِ وَقَالَ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: الصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَالْمَزْحُومُ مَعْذُورٌ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الرَّكْعَةِ الَّتِي صَلَّاهَا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ وَصَلَّى الظُّهْرَ مُنْفَرِدًا؛ وَهَذَا قَدْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْجُمُعَةِ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا فَعَلَ؛ كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَإِنَّهُ يُتَابِعُهُ ثُمَّ يُبْنَى الظُّهْرَ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْرَامِ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ.
وَإِنْ خَالَفَ مَا قُلْنَاهُ وَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ السُّجُودَ فَرْضُهُ لَمْ يُعِدْ سُجُودَهُ؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِيهَا زِيَادَةً مِنْ جِنْسِهَا جَاهِلًا فَهُوَ كَمَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ مِنْ جِنْسِهَا سَاهِيًا، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ فَرْضَهُ الْمُتَابَعَةُ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ مُفَارَقَتَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ عَامِدًا، وَإِنْ نَوَى مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ. أحدهما: تَبْطُلُ

 

ج / 4 ص -304-       صَلَاتُهُ. والثاني: لَا تَبْطُلُ وَيَكُونُ فَرْضُهُ الظُّهْرَ. وَهَلْ يَبْنِي أَوْ يَسْتَأْنِفُ الْإِحْرَامَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَأَمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ فَرْضَهُ الِاشْتِغَالُ بِمَا فَاتَهُ نَظَرْتَ فَإِنْ فَعَلَ مَا قُلْنَاهُ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا تَبِعَهُ فِيهِ وَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَتَيْنِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا فَهَلْ يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ؟ أَوْ يَتْبَعُهُ فِي السُّجُودِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
أحدهما: يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ؛ لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الِاشْتِغَالَ بِالْقَضَاءِ أُولَى مِنْ الْمُتَابَعَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتْبَعُهُ فِي السُّجُودِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرَّكْعَةَ لَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا شَيْئًا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ فَهُوَ كَالْمَسْبُوقِ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا، بِخِلَافِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ هُنَاكَ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ وَمَا قَبْلَهُ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا بَعْدَهُ مِنْ السُّجُودِ. فَإِذَا قُلْنَا: يَسْجُدُ كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ الْأُولَى إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا أَدْرَكَهُ فِعْلًا، وَبَعْضَهَا أَدْرَكَهُ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ تَابَعَهُ إلَى السُّجُودِ، ثُمَّ انْفَرَدَ بِفِعْلِ السَّجْدَتَيْنِ، وَهَلْ يُدْرِكُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ الْجُمُعَةَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إدْرَاكٌ نَاقِصٌ فَهُوَ كَالتَّلْفِيقِ فِي الرَّكْعَةِ، وَإِنْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ الْمَأْمُومُ السَّجْدَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ - قَوْلًا وَاحِدًا - وَهَلْ يَسْتَأْنِفُ الْإِحْرَامَ؟ أَوْ يَبْنِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ؟ فَإِنْ خَالَفَ مَا قُلْنَاهُ وَتَبِعَهُ فِي الرُّكُوعِ - فَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا أَنَّ فَرْضَهُ الِاشْتِغَالُ بِالسُّجُودِ - بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ رَكَعَ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ عَامِدًا، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ فَرْضَهُ الْمُتَابَعَةُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا جَاهِلًا، وَيُحْتَسَبُ بِهَذَا السُّجُودُ وَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ. وَهَلْ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ وَإِنْ زُوحِمَ عَنْ السُّجُودِ وَزَالَتْ الزَّحْمَةُ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَضَى مَا عَلَيْهِ وَأَدْرَكَهُ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا فَتَابَعَهُ فَلَمَّا سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ زَحَمَ عَنْ السُّجُودِ فَزَالَ الزِّحَامُ، وَسَجَدَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَتَيْنِ، بَعْضَهُمَا فِعْلًا وَبَعْضَهُمَا حُكْمًا، وَهَلْ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى ثُمَّ سَهَا حَتَّى صَلَّى الْإِمَامُ هَذِهِ الرَّكْعَةَ وَحَصَّلَ فِي الرُّكُوعِ فِي الثَّانِيَةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالزِّحَامِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَتْبَعُهُ - قَوْلًا وَاحِدًا -؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي السَّهْوِ، فَلَمْ يُعْذَرْ فِي الِانْفِرَادِ عَنْ الْإِمَامِ وَفِي الزِّحَامِ غَيْرُ مُفَرِّطٍ، فَعُذِرَ فِي الِانْفِرَادِ عَنْ الْإِمَامِ".
الشرح:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَوْصُوفَةٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ بِالْإِعْضَالِ لِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا وَتَشْعِيبِهَا وَاسْتِمْدَادِهَا مِنْ أُصُولٍ، فَاخْتِصَارُ الْأَحْكَامِ مُلَخَّصَةً فِيهَا مَعَ الْإِشَارَةِ إلَى أَطْرَافِ خَفِيِّ الْأَدِلَّةِ أَقْرَبُ إلَى ضَبْطِهَا، وَالِاحْتِوَاءِ عَلَيْهَا، فَلِهَذَا أَسْلُكُ هَذَا الطَّرِيقَ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى وَهَذَا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا مَنَعَتْهُ الزَّحْمَةُ مِنْ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ - فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ أَوْ رِجْلِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْضَائِهِ - قَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوْ ظَهْرِ بَهِيمَةٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَمَنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: هَذَا والثاني: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ سَجَدَ عَلَى الظَّهْرِ وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ لِيَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ وُجُوبُ السُّجُودِ عَلَى الظَّهْرِ وَنَحْوِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
"وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَلِأَثَرِ عُمَرَ وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّمَا يَسْجُدُ عَلَى الظَّهْرِ وَنَحْوِهِ إذَا أَمْكَنَهُ

 

ج / 4 ص -305-       رِعَايَةُ هَيْئَةِ السُّجُودِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمَأْتِيُّ بِهِ لَيْسَ بِسُجُودٍ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ هُنَا ارْتِفَاعُ رَأْسِهِ وَخُرُوجُهُ عَنْ هَيْئَةِ السَّاجِدِ لِلْعُذْرِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ فَإِذَا أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرٍ وَنَحْوِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ فَهُوَ مُتَخَلِّفٌ بِلَا عُذْرٍ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ. وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ مُتَخَلِّفٌ بِعُذْرٍ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا عَلَى ظَهْرٍ وَلَا غَيْرِهِ فَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ لِهَذَا الْعُذْرِ وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا فَفِي صِحَّتِهَا الْقَوْلَانِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَظْهَرُ مَنْعُهُ مِنْ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ فَالْخُرُوجُ مِنْهَا مَعَ تَوَقُّعِ إدْرَاكِهَا لَا وَجْهَ لَهُ، أَمَّا إذَا عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ وَالظَّهْرِ وَدَامَ عَلَى الْمُتَابَعَةِ فَمَاذَا يَصْنَعُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصحيح: أَنَّهُ يَنْتَظِرُ التَّمَكُّنَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ لِيَلْحَقَهُ مُنْتَظِرَ السُّجُودِ والثاني: يُومِئُ بِالسُّجُودِ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُهُ كَالْمَرِيضِ والثالث: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فَإِذَا قلنا: بِالصَّحِيحِ فَلَهُ حَالَانِ إحداهما: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ رُكُوعِ الْإِمَامِ فِي الثَّانِيَةِ فَيَسْجُدُ عِنْدَ تَمَكُّنِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ سُجُودِهِ فَلِلْإِمَامِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أحدها: أَنْ يَكُونَ بَعُدَ فِي الْقِيَامِ فَيَفْتَتِحُ الْمَزْحُومُ الْقِرَاءَةَ، فَإِنْ أَتَمَّهَا قَبْل رُكُوعِ الْإِمَامِ رَكَعَ مَعَهُ وَجَرَى عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَحَصَلَتْ لَهُ الْجُمُعَةُ فَيُسَلِّمُ مَعَهُ، وَلَا يَضُرُّهُ هَذَا التَّخَلُّفُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ رَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ إتْمَامِهَا فَهَلْ لَهُ حُكْمُ الْمَسْبُوقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمَسْبُوقِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أصحهما عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَهُ حُكْمُهُ، فَيَقْطَعُ الْقِرَاءَةَ وَيَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي التَّخَلُّفِ فَأَشْبَهَ الْمَسْبُوقَ، وَمِمَّنْ صَحَّحَ هَذَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ والثاني: يَلْزَمُهُ أَنْ يُتِمَّ الْفَاتِحَةَ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: فَإِذَا قُلْنَا: يَقْرَأُ لَمْ يَقْطَعْ الْقُدْوَةَ، بَلْ يَقْرَأُ وَيَتْبَعُ الْإِمَامَ جَهْدَهُ فَيَرْكَعُ وَيَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِ صَلَاةِ نَفْسِهِ قَاصِدًا لُحُوقَ الْإِمَامِ وَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَتَيْنِ عَلَى حُكْمِ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَضُرُّهُ التَّخَلُّفُ بِأَرْكَانٍ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْقُدْوَةِ جَارِيًا عَلَيْهِ، فَيَلْحَقُهُ سَهْوُ الْإِمَامِ وَيَحْمِلُ الْإِمَامُ سَهْوَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: إذَا قُلْنَا: يَقْرَأُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ إذَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الرُّكُوعِ؛ فَإِنْ خَافَ فَوْتَهُ قَبْلَ فَرَاغِ الْفَاتِحَةِ فَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ ضَعِيفٌ، وَخِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
الْحَالُ الثاني: لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ رَاكِعًا فَوَجْهَانِ: أصحهما عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ وَيَرْكَعَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ فَسَقَطَتْ عَنْهُ كَالْمَسْبُوقِ والثاني: يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَيَسْعَى وَرَاءَ الْإِمَامِ، وَهُوَ مُتَخَلِّفٌ بِعُذْرٍ.
الْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ رَافِعًا مِنْ الرُّكُوعِ وَلَمْ يُسَلِّمْ بَعْدُ، فَإِنْ قلنا: فِي الْحَالِ الثَّانِي هُوَ كَالْمَسْبُوقِ تَابَعَ الْإِمَامَ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَلَا يُحْسَبُ لَهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ رَكْعَةٌ ثَانِيَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ كَالْمَسْبُوقِ اشْتَغَلَ بِتَرْتِيبِ صَلَاةِ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ وَجْهًا وَاحِدًا لِكَثْرَةِ مَا فَاتَهُ.

 

ج / 4 ص -306-       الْحَالُ الرَّابِعُ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَلِّلًا مِنْ صَلَاتِهِ فَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتِمَّ لَهُ رَكْعَةٌ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَلَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ ثُمَّ سَلَّمَ الْإِمَامُ عَقِبَهُ كَانَ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ التَّخَلُّفَ وَأَمَرْنَاهُ بِالْجَرَيَانِ عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ فَالْوَجْهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرَائِضِ فَعَسَاهُ يُدْرِكُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ فِعْلُ السُّنَنِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْوَسَطِ مِنْهَا: الْحَالُ الثاني: لِلْمَأْمُومِ أَلَّا يَتَمَكَّنَ مِنْ السُّجُودِ حَتَّى يَرْكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما، وَهُوَ نَصُّهُ في"الأم" وَالْمُخْتَصَرِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ: يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فَيَرْكَعُ مَعَهُ، صَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ. قَالَ الْبَغَوِيّ: هُوَ الْقَوْلُ الْجَدِيدُ وَدَلِيلُهُ أَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ آكَدُّ، وَلِهَذَا يُتَابِعُهُ الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا وَيَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ وَالْقِيَامَ والثاني: لَا يَجُوزُ مُتَابَعَتُهُ فِي الرُّكُوعِ بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْجُدَ وَيَجْرِيَ عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَصَحَّحَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ؛ فَإِنْ قُلْنَا: يُتَابِعُهُ فَقَدْ يَمْتَثِلُ ذَلِكَ وَقَدْ يُخَالِفُهُ، فَإِنْ امْتَثَلَ وَرَكَعَ مَعَهُ فَهَلْ يُحْسَبُ لَهُ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ أَمْ الثَّانِي؟ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ، قَوْلَيْنِ. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ وَجْهَيْنِ: أصحهما: عِنْدَ الْأَصْحَابِ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، صَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ تَصْحِيحَهُ عَنْ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّهُ رُكُوعٌ صَحَّ فَلَا يَبْطُلُ بِرُكُوعٍ آخَرَ كَمَا لَوْ رَكَعَ وَنَسِيَ السُّجُودَ وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَرَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَإِنَّ الْمَحْسُوبَ لَهُ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني: يُحْسَبُ لَهُ الرُّكُوعُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ الْمَحْسُوبُ لِلْإِمَامِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمَحْسُوبُ الثَّانِي حَصَلَتْ لَهُ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا، وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ ضَمَّ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى وَتَمَّتْ جُمُعَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قلنا: الْمَحْسُوبُ الْأَوَّلُ حَصَلَتْ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ مِنْ رُكُوعِ الْأُولَى وَسُجُودِ الثَّانِيَةِ.
وَفِي إدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالْمُلَفَّقَةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أصحهما عِنْدَ الْأَصْحَابِ: يُدْرِك بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ؛ لِأَنَّهَا رَكْعَةٌ صَحِيحَةٌ. والثاني: لَا يُدْرِك بِهَا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا كمَالُ1 الْمُصَلِّينَ وَلَا تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ فِيهَا نَقْصٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنْ قُلْنَا: يُدْرِكُ بِهَا ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَتَمَّتْ جُمُعَتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُدْرِكُ بِهَا فَقَدْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ؛ وَهَلْ تُحْسَبُ لَهُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ مِنْ الظُّهْرِ وَيَبْنِي عَلَيْهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أصحهما: تُحْسَبُ قَوْلًا وَاحِدًا فَيَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ والثاني: فِيهِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا الطَّرِيقُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل الْجُمُعَةِ بِلَا عُذْرٍ، وَهَذَا مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ فَجَازَ لَهُ الْبِنَاءُ ظُهْرًا بِلَا خِلَافٍ، كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ الْجُمُعَةِ فَأَحْرَمَ مَعَهُ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كمال بضم الكاف وبشديد الميم (ط)

 

ج / 4 ص -307-       قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: الطَّرِيقَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الزِّحَامَ عُذْرٌ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عُذْرٌ، أَمَّا إذَا خَالَفَ وَاجِبَهُ فَاشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ وَتَرْتِيبِ نَفْسِهِ - فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ وَاجِبَهُ الْمُتَابَعَةُ، وَلَمْ يَنْوِ مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ - بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْجُدُ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ عَمْدًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، وَيَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِالْجُمُعَةِ إنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدُ فِي الرُّكُوعِ، وَإِنْ نَوَى مُفَارَقَتَهُ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِيُتِمَّ مُنْفَرِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَإِنْ قلنا: يَبْطُلُ - لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِالْجُمُعَةِ إنْ أَدْرَكَهَا، وَإِلَّا كَانَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ، وَيَجِبُ اسْتِئْنَافُهَا وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ لَمْ تَصِحُّ جُمُعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ مِنْهَا رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ، وَهَلْ تَصِحُّ ظُهْرًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ صَلَّاهَا قَبْلَ فَرَاغِ الْجُمُعَةِ، وَقَوْلٌ حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْجُمُعَةَ إذَا فَاتَتْ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا بَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الظُّهْرِ هَذَا كُلُّهُ إذَا خَالَفَ عَالِمًا بِأَنَّ فَرْضَهُ الْمُتَابَعَةُ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يَعْتَقِدُ فَرْضَهُ السُّجُودَ وَتَرْتِيبَ نَفْسِهِ أَوْ نَاسِيًا فِيمَا أَتَى بِهِ مِنْ السُّجُودِ وَغَيْرِهِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا تَبْطُلُ بِهِ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِجَهْلِهِ أَوْ نِسْيَانِهِ، ثُمَّ إنْ فَرَغَ، وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي الرُّكُوعِ لَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ فَإِنْ تَابَعَهُ فَرَكَعَ مَعَهُ، فَالتَّفْرِيعُ كَمَا سَبَقَ فِيمَا إذَا لَمْ يَسْجُدْ، وَإِنْ لَمْ يَرْكَعْ مَعَهُ أَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ نَظَرَ - إنْ رَاعَى تَرْتِيبَ نَفْسِهِ بِأَنْ قَامَ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ - فَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا أَتَى بِهِ. فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ لِتَمَامِ الرَّكْعَةِ، وَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى قَوْلِ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ بِكُلِّ حَالٍ، فَكَمَا لَا يُحْتَسَبُ لَهُ السُّجُودُ، وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ لِكَوْنِ فَرْضِهِ الْمُتَابَعَةَ لَا يُحْسَبُ، وَالْإِمَامُ فِي رُكْنٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: إذَا فَعَلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَمَّتْ لَهُ مِنْهُمَا رَكْعَةٌ لَكِنَّهَا نَاقِصَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: التَّلْفِيقُ فَإِنَّ رُكُوعَهَا مِنْ الْأُولَى وَسُجُودَهَا مِنْ الثَّانِيَةِ، وَفِي إدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالْمُلَفَّقَةِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ أصحهما: الْإِدْرَاكُ وَالنَّقْصُ الثاني: كَوْنُهَا رَكْعَةً حُكْمِيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَابِعْ الْإِمَامَ فِي مُعْظَمِهَا مُتَابَعَةً حِسِّيَّةً بَلْ حُكْمِيَّةً.
وَفِي إدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالرَّكْعَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَجْهَانِ كَالْمُلَفَّقَةِ أَصَحُّهُمَا: الْإِدْرَاكُ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ الْقُدْوَةِ الْحُكْمِيَّةِ، فَإِنَّ السُّجُودَ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِمَامِ فِي قُدْوَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تُدْرَكُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ مُعْظَمُ الرَّكْعَةِ فِي قُدْوَةٍ حُكْمِيَّةٍ، هَذَا كُلُّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِمَا وَجَرَى عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا فَرَغَ مِنْهُمَا، وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ - يُتَابِعُهُ فِي سَجْدَتَيْهِ، هَذِهِ وَظِيفَتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَيُحْسَبَانِ لَهُ، وَيَكُونُ الْحَاصِلُ رَكْعَةً مُلَفَّقَةً بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ وَافَقَهُ، فَإِذَا سَلَّمَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَتَمَّتْ لَهُ رَكْعَةٌ وَلَا جُمُعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الرَّكْعَةَ فِي حَالِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَصَارَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ، وَهَلْ يَسْتَأْنِفُهَا أَمْ يَبْنِي عَلَى هَذِهِ الرَّكْعَةِ؟ فِيهِ الطَّرِيقَانِ السَّابِقَانِ أصحهما: يَبْنِي والثاني: عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ لَوْ وَجَدَهُ قَدْ سَلَّمَ، هَذَا كُلُّهُ إذَا قُلْنَا: يُتَابِعُ الْإِمَامَ، أَمَّا إذَا قُلْنَا: لَا يُتَابِعُهُ بَلْ يَسْجُدُ وَيُرَاعِي تَرْتِيبَ نَفْسِهِ فَلَهُ حَالَانِ أحدهما: أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا أَمَرْنَاهُ فَيَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنْ تَعَمَّدَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَيَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِالْجُمُعَةِ إنْ أَمْكَنَهُ إدْرَاكُ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا يَعْتَقِدُ أَنَّ وَاجِبَهُ الرُّكُوعُ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَيَكُونُ رُكُوعُهُ هَذَا لَغْوًا فَإِذَا

 

ج / 4 ص -308-       سَجَدَ مَعَهُ بَعْدَ هَذَا الرُّكُوعِ فَوَجْهَانِ أحدهما: لَا يُحْسَبُ هَذَا السُّجُودُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ يُحْسَبُ؛ لِأَنَّهُ سُجُودٌ فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ بِجِهَةِ وُجُوبِهِ، كَمَا لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَإِنَّهَا تُحْسَبُ لَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ فِعْلَهَا لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَى هَذَا يَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ. وَفِي إدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِهَا الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ أَصَحُّهُمَا الْإِدْرَاكُ (الْحَالُ الثاني: أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرْنَاهُ فَيَسْجُدَ وَيَحْصُلَ لَهُ رَكْعَةٌ فِي قُدْوَةٍ حُكْمِيَّةٍ وَفِي الْإِدْرَاكِ بِهَا الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ أصحهما: الْإِدْرَاكُ.
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ السُّجُودِ فَلِلْإِمَامِ حَالَانِ أحدهما: أَنْ يَكُونَ فَارِغًا مِنْ الرُّكُوعِ بِأَنْ يَكُونَ فِي السُّجُودِ أَوْ التَّشَهُّدِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أحدهما: وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيّ يَشْتَغِلُ بِمَا فَاتَهُ، وَيُجْرَى عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ، فَيَقُومُ وَيَقْرَأُ وَيَرْكَعُ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَائِتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَوْلَى مِنْ الْمُتَابَعَةِ وأصحهما عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَجُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا هُوَ فِيهِ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ اشْتَغَلَ بِتَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرَّكْعَةَ لَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا قَدْرًا يُحْسَبُ لَهُ، فَلَزِمَهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، كَمَسْبُوقٍ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ عِنْدَ فَرَاغِ الْمَزْحُومِ مِنْ السُّجُودِ قَدْ هَوَى لِلسُّجُودِ فَتَابَعَهُ فَقَدْ وَالَى بَيْنَ أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ.
وَهَلْ يُحْسَبُ لِإِتْمَامِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى السَّجْدَتَانِ الْأُولَيَانِ؟ أَوْ الْأُخْرَيَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقِينَ، هَلْ الْمَحْسُوبُ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ أَمْ الثَّانِي؟ أَصَحُّهُمَا الْأُولَيَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْأُولَيَانِ فَهِيَ رَكْعَةٌ فِي قُدْوَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَإِنْ قُلْنَا: الْأُخْرَيَانِ فَهِيَ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ، وَفِي إدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالْحُكْمِيَّةِ وَالْمُلَفَّقَةِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْإِدْرَاكُ الْحَالُ الثَّانِيَةُ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ رَاكِعًا بَعْدُ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ كَالْمَسْبُوقِ؟ أَمْ يَشْتَغِلُ بِتَرْتِيبِ نَفْسِهِ فَيَقْرَأُ وَيَأْتِي بِالْبَاقِي؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُمَا هُنَا مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ الرُّكُوعُ مَعَهُ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْأَصَحِّ، وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ الْوَجْهَيْنِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَجَزَمَ هُنَا بِأَصَحِّهِمَا، وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ مَنْ لَا أُنْسَ لَهُ أَنَّ الصُّورَةَ غَيْرُ الصُّورَةِ وَطَلَبَ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الصُّورَةُ هِيَ الْأُولَى بِحَالِهَا، وَلَا فَرْقَ فَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ مُتَابَعَتُهُ وَتَسْقُطُ الْقِرَاءَةُ تَابَعَهُ، وَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَتَيْنِ، فَسَلَّمَ مَعَ الْإِمَامِ وَتَمَّتْ جُمُعَتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَشْتَغِلُ بِتَرْتِيبِ نَفْسِهِ اشْتَغَلَ بِهِ، وَهُوَ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ.
فرع: لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمَزْحُومُ مِنْ السُّجُودِ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ تَابَعَهُ بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ إنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فَالْحَاصِلُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ، وَفِي إدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِهَا الْوَجْهَانِ أصحهما: الْإِدْرَاكُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ تَرْتِيبُ نَفْسِهِ فَرَكْعَةٌ غَيْرُ مُلَفَّقَةٍ فَيُدْرِكُ الْجُمُعَةَ قَطْعًا، أَمَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ السُّجُودِ حَتَّى تَشَهَّدَ الْإِمَامُ فَيَسْجُدُ، ثُمَّ إنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ، وَإِلَّا فَلَا جُمُعَةَ لَهُ، وَهَلْ يَبْنِي عَلَى الرَّكْعَةِ لِإِتْمَامِ الظُّهْرِ؟ أَمْ يَسْتَأْنِفُهَا؟ فِيهِ الطَّرِيقَانِ السَّابِقَانِ.

 

ج / 4 ص -309-       قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَلَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَعْتَدِلَ الْمَزْحُومُ قَاعِدًا فَفِيهِ احْتِمَالٌ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُدْرِكُ لِلْجُمُعَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ الزِّحَامُ فِي سُجُودِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ صَلَّى الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ فَيَسْجُدُ مَتَى تَمَكَّنَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ، وَجُمُعَتُهُ صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ كَانَ مَسْبُوقًا أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ تَمَكَّنَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ سَجَدَ وَأَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَيَضُمَّ إلَيْهَا أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ حَتَّى سَلَّمَ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ، فَيَسْجُدُ وَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ مِنْ الظُّهْرِ عَلَى الْمَذْهَبِ. أَمَّا إذَا زُحِمَ عَنْ رُكُوعِ الْأُولَى حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ فَيَرْكَعُ وَيُتَابِعُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَفِي الْحَاصِلِ لَهُ وَجْهَانِ أصحهما: وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: تُحْسَبُ لَهُ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ وَتَسْقُطُ الْأُولَى، وَيُدْرِكُ الْجُمُعَةَ قَوْلًا وَاحِدًا والثاني: تُحْسَبُ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ، وَفِي إدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِهَا الْوَجْهَانِ؛ وَبِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ.
فرع: لَوْ زُحِمَ عَنْ السُّجُودِ وَزَالَتْ الزَّحْمَةُ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ فِي الثَّانِيَةِ فَسَجَدَ وَقَامَ وَأَدْرَكَهُ قَائِمًا وَقَرَأَ، أَوْ رَاكِعًا فَقَرَأَ وَلَحِقَهُ، أَوْ قُلْنَا: تَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ فَرَكَعَ مَعَهُ ثُمَّ زُحِمَ عَنْ السُّجُودِ فِي الثَّانِيَةِ، وَزَالَ الزِّحَامُ وَسَجَدَ وَرَفَعَ، وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَفِي إدْرَاكِهِ بِهِمَا الْجُمُعَةَ طَرِيقَانِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ وَشَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: فِي إدْرَاكِهَا الْوَجْهَانِ فِي الرَّكْعَةِ الْحُكْمِيَّةِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالْأَكْثَرُونَ: يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَيُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَضَعَّفَ قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ.
فرع: لَوْ رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ وَنَسِيَ السُّجُودَ وَبَقِيَ وَاقِفًا فِي الِاعْتِدَالِ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أحدهما: قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الْمَزْحُومِ هَلْ يَتْبَعُ الْإِمَامَ أَمْ يَشْتَغِلُ بِمَا عَلَيْهِ؟ وَالطَّرِيقُ الثاني: يَلْزَمُهُ إتْبَاعُ الْإِمَامِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي النِّسْيَانِ بِخِلَافِ الزَّحْمَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْمُتَابَعَةِ، وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ هَذَا الطَّرِيقَ وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الرُّويَانِيِّ، وَصَحَّحَ الْبَغَوِيّ الْأَوَّلَ. هَكَذَا أَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ الْمَسْأَلَةَ.
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: التَّخَلُّفُ بِالنِّسْيَانِ هَلْ هُوَ كَالتَّخَلُّفِ بِالزِّحَامِ؟ قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: نَعَمْ لِعُذْرِهِ والثاني: لَا لِنُدُورِهِ وَتَفْرِيطِهِ قَالَ: وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا، فَإِنْ تَأَخَّرَ سُجُودُهُ عَنْ سَجْدَتَيْ الْإِمَامِ بِالنِّسْيَانِ ثُمَّ سَجَدَ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِمَامِ فَهُوَ كَالزِّحَامِ، وَكَذَا لَوْ تَأَخَّرَ لِمَرَضٍ، وَإِنْ بَقِيَ ذَاهِلًا حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ فَطَرِيقَانِ أحدهما: كَالْمَزْحُومِ، فَفِي قَوْلٍ: يَرْكَعُ مَعَهُ وَفِي قَوْلٍ: يُرَاعِي تَرْتِيبَ نَفْسِهِ (وَالطَّرِيقُ الثاني: يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيِّ.
فرع: الزِّحَامُ يُتَصَوَّرُ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ فِيهَا أَغْلَبُ، وَلِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْإِشْكَالِ وَالْخِلَافِ وَالتَّفْرِيعِ لَا يُتَصَوَّرُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا، كَالْخِلَافِ فِي إدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِرَكْعَةٍ مُلَفَّقَةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِيهَا فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُفَارَقَةُ مَا دَامَ يَتَوَقَّعُ إدْرَاكَهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا، فَإِذَا زُحِمَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ عَنْ السُّجُودِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ حَكَاهَا الرَّافِعِيُّ الصحيح: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ أصحهما:

 

ج / 4 ص -310-       يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ والثاني: الِاشْتِغَالُ بِمَا عَلَيْهِ، وَيَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ (وَالطَّرِيقُ الثاني: يُتَابِعُهُ قَطْعًا والثالث: يَشْتَغِلُ بِمَا عَلَيْهِ قَطْعًا.
فرع: إذَا عَرَضَتْ فِي الصَّلَاةِ حَالَةٌ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهَا جُمُعَةً فِي صُورَةِ الزِّحَامِ أَوْ غَيْرِهَا، فَهَلْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ ظُهْرًا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ أصحهما وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ هَذَا والثاني: حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِيهِ قَوْلَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِالْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مَبْسُوطًا فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، أَنَّ الْجُمُعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ أَمْ صَلَاةٌ عَلَى حِيَالِهَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ مُسْتَنْبَطَانِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فَإِنْ قُلْنَا: ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ فَفَاتَ بَعْضُ شُرُوطِ الْجُمُعَةِ أَتَمَّهَا ظُهْرًا كَالْمُسَافِرِ إذَا فَاتَ بَعْضَ شُرُوطِ الْقَصْرِ. وَإِنْ قُلْنَا: صَلَاةٌ عَلَى حِيَالِهَا فَهَلْ يُتِمُّهَا ظُهْرًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الصحيح يُتِمُّهَا ظُهْرًا؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْهَا أَوْ كَالْبَدَلِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ الْخِلَافِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ قَلْبَهَا ظُهْرًا؟ أَمْ تَنْقَلِبُ بِنَفْسِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أصحهما وَأَشْهُرُهُمَا لَا يُشْتَرَطُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُتِمُّهَا ظُهْرًا فَهَلْ تَبْطُلُ؟ أَمْ تَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي أَوَّلِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَظَائِرِهَا الصحيح تَنْقَلِبُ نَفْلًا، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَوْلُ الْبُطْلَانِ لَا يَنْتَظِمُ تَفْرِيعُهُ إذَا أَمَرْنَاهُ فِي صُورَةِ الزِّحَامِ بِشَيْءٍ فَامْتَثَلَ، فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِمَا إذَا خَالَفَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الزِّحَامِ.
أَمَّا إذَا زُحِمَ عَنْ السُّجُودِ، وَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَكَمُ وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَلْ يَنْتَظِرُ زَوَالَ الزَّحْمَةِ. فَلَوْ سَجَدَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِهِ وَالِانْتِظَارِ، وَقَالَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: يُومِئُ إلَى السُّجُودِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَزَلْ الزِّحَامُ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ فَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَشْتَغِلُ بِالسُّجُودِ. أَمَّا إذَا زُحِمَ عَنْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ فَمَذْهَبُنَا: أَنَّ الْمَأْمُومَ الْمَزْحُومَ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا وَبِهِ قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَقَتَادَةُ وَيُونُسُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يُصَلِّي الْجُمُعَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا
قال المصنف رحمه الله تعالى:"إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يَسْتَخْلِفُ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَسْتَخْلِفُ. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
فإن قلنا: لَا يَسْتَخْلِفُ نَظَرْتَ فَإِنْ أَحْدَثَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ كَالصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْخُطْبَتَيْنِ. وَإِنْ أَحْدَثَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يُتِمُّونَ الْجُمُعَةَ فُرَادَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِخْلَافُ بَقُوا عَلَى حُكْمِ الْجَمَاعَةِ فَجَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى. والثاني: أَنَّهُ إذَا كَانَ الْحَدَثُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ رَكْعَةً صَلَّوْا الظُّهْرَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ

 

ج / 4 ص -311-        الرَّكْعَةِ صَلَّوْا رَكْعَةً أُخْرَى فُرَادَى كَالْمَسْبُوقِ إذَا لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً أَتَمَّ الظُّهْرَ، وَإِنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَتَمَّ الْجُمُعَةَ. وَإِنْ قلنا: بِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ بَعْدَ الْخُطْبَتَيْنِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ جَازَ. وَإِنْ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَنْ حَضَرَ كَمَّلَ بِالسَّمَاعِ فَانْعَقَدَتْ بِهِ الْجُمُعَةُ، وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ لَمْ يُكَمِّلْ فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْجُمُعَةُ وَلِهَذَا لَوْ خَطَبَ بِأَرْبَعِينَ فَقَامُوا وَصَلَّوْا الْجُمُعَةَ جَازَ، وَلَوْ حَضَرَ أَرْبَعُونَ لَمْ يَحْضُرُوا الْخُطْبَةَ فَصَلَّوْا الْجُمُعَةَ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَاسْتَخْلَفَ مَنْ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْحَدَثِ جَازَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قَبْلَ الْحَدَثِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ، وَلِهَذَا لَوْ صَلَّى بِانْفِرَادِهِ الْجُمُعَةَ لَمْ تَصِحَّ وَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْحَدَثِ جَازَ وَإِنْ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قَبْلَ الْحَدَثِ لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ قَبْلَ الْحَدَثِ لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْحَدَثِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَإِنَّ فَرْضَهُ الظُّهْرُ، وَفِي جَوَازِ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ".
 الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ بِحَدَثٍ تَعَمَّدَهُ أَوْ نَسِيَهُ أَوْ سَبَقَهُ أَوْ بِرُعَافٍ أَوْ سَبَبٍ آخَرَ أَوْ بِلَا سَبَبٍ - فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ - فَفِي جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ قَوْلَانِ أظهرهما: وَهُوَ الْجَدِيدُ: جَوَازُهُ، وَالْقَدِيمُ وَالْإِمْلَاءُ: مَنْعُهُ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ بِتَفْرِيعِهِ. وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. وَأَمَّا الِاسْتِخْلَافُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ نَظَرْتُ فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِخْلَافُ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ كَالرَّكْعَتَيْنِ. فَكَمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ لَكِنْ يُنَصِّبُونَ مَنْ يَسْتَأْنِفُ الْخُطْبَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ. وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَفِيمَا يَفْعَلُونَ قَوْلَانِ فِي الْقَدِيمِ الصحيح: أَنَّهُ إنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَتَمَّ الْقَوْمُ صَلَاتَهُمْ ظُهْرًا. وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَتَمَّهَا جُمُعَةً كُلُّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فُرَادَى؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ لَا بِدُونِهَا. الثاني: يُتِمُّونَهَا جُمُعَةً فِي الْحَالَيْنِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا فِي الْحَالَيْنِ.
هَكَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا جُمُعَةً أَمْ ظُهْرًا؟ وَكَانَ يَنْبَغِي إذَا قُلْنَا: لَا يُتِمُّونَهَا جُمُعَةً أَنْ يَسْتَأْنِفُوا جُمُعَةً إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ هَذَا كُلُّهُ إذَا مَنَعْنَا الِاسْتِخْلَافَ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ نُظِرَ - إنْ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ - لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْخَلِيفَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ. لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ افْتِتَاحُ جُمُعَةٍ بَعْدَ جُمُعَةٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ رحمه الله، وَفِي صِحَّةِ ظُهْرِ هَذَا الْخَلِيفَةِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الظُّهْرَ هَلْ تَصِحُّ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ فَهَلْ تَبْطُلُ أَمْ تَبْقَى نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ قَرِيبًا. فَإِنْ قُلْنَا: تَبْطُلُ فَاقْتَدَى بِهِ الْقَوْمُ عَالِمِينَ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ. وَإِنْ صَحَّحْنَاهَا - وَكَانَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى - فَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا مِنْهَا رَكْعَةً وَفِي صِحَّةِ الظُّهْرِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الظُّهْرِ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَفِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ هَذَا اقْتِدَاءً طَارِئًا فِي أَثْنَاءِ

 

ج / 4 ص -312-       صَلَاةِ مُنْفَرِدٍ، وَفِي صِحَّتِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَفِيهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ فِي الْجُمُعَةِ بِمَنْ يُصَلِّي ظُهْرًا أَوْ نَافِلَةً، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ، وَالْأَصَحُّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْجَوَازُ.
أَمَّا إذَا اسْتَخْلَفَ مَنْ اقْتَدَى بِهِ قَبْلَ الْحَدَثِ فَيُنْظَرُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ الْخُطْبَةَ فَوَجْهَانِ أحدهما: لَا يَصِحُّ اسْتِخْلَافُهُ، كَمَا لَوْ اسْتَخْلَفَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا لِيُصَلِّيَ بِهِمْ وأصحهما: الْجَوَازُ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْأَكْثَرِينَ، وَنَقَلَ الصَّيْدَلَانِيُّ هَذَا الْخِلَافَ قَوْلَيْنِ: الْمَنْعُ عَنْ نَصِّهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَالْجَوَازُ عَنْ نَصِّهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ، وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي مُجَرَّدِ حُضُورِ الْخُطْبَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ سَمَاعُهُ لَهَا بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ، فَإِنْ كَانَ حَضَرَ الْخُطْبَةَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْهَا وَجَوَّزْنَا اسْتِخْلَافَهُ نُظِرَ - إنْ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى - جَازَ وَتَمَّتْ لَهُمْ الْجُمُعَةُ سَوَاءٌ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي الْأُولَى أَمْ فِي الثَّانِيَةِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا أَنَّ الْخَلِيفَةَ يُصَلِّي ظُهْرًا وَالْقَوْمَ جُمُعَةً، وَلَعَلَّهُ فِيمَا إذَا لَمْ يُدْرِكْ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، وَإِنْ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَدْرَكَهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَأَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ قَبْلَ حَدَثِهِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ اسْتِخْلَافُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ اسْتِخْلَافُ هَذَا، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ: يَجُوزُ، فَعَلَى هَذَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ.
وَفِي الْخَلِيفَةِ وَجْهَانِ: أحدهما: يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَنَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمُسْتَظْهِرِيِّ والثاني: ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَقَطَعَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالرَّافِعِيُّ، فَعَلَى هَذَا يُتِمُّهَا ظُهْرًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يُتِمُّهَا ظُهْرًا والثاني: لَا، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَبْطُلُ أَمْ تَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي مَوَاضِعَ أصحهما: تَنْقَلِبُ نَفْلًا، فَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا امْتَنَعَ اسْتِخْلَافُ الْمَسْبُوقِ، هَذَا إذَا اسْتَخْلَفَ فِي الثَّانِيَةِ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ، فَلَوْ اسْتَخْلَفَ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ مَنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَقَبْلَ الْحَدَثِ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ هُنَا، وَفِي التَّنْبِيهِ، وَحَكَاهُمَا غَيْرُهُ الصحيح الْمَنْصُوج / 4 ص - وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ-جَوَازُهُ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا والثاني: مَنْعُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: سَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ فَرْضَهُ الظُّهْرُ، وَفِي جَوَازِ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَجْهَانِ - إنْ جَوَّزْنَاهَا جَازَ اسْتِخْلَافُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِذَا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ - وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَصَحَّ جَوَازُهَا وَالْخَلِيفَةُ مَسْبُوقٌ - لَزِمَهُ مُرَاعَاةُ نَظْمِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَيَجْلِسُ إذَا صَلَّى رَكْعَةً وَيَتَشَهَّدُ، فَإِذَا بَلَغَ مَوْضِعَ السَّلَامِ أَشَارَ إلَى الْقَوْمِ وَقَامَ إلَى بَاقِي صَلَاتِهِ، وَهُوَ رَكْعَةٌ إنْ جَعَلْنَاهُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ أَوْ ثَلَاثٌ إنْ قلنا: فَرْضُهُ الظُّهْرُ وَجَوَّزْنَا لَهُ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا، وَالْقَوْمُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا فَارَقُوهُ وَسَلَّمُوا وَإِنْ شَاءُوا ثَبَتُوا جَالِسِينَ يَنْتَظِرُونَهُ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَلَوْ دَخَلَ مَسْبُوقٌ وَاقْتَدَى بِهِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي اسْتَخْلَفَ فِيهَا صَحَّتْ لَهُ الْجُمُعَةُ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ لِلْخَلِيفَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى صِحَّةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مُصَلِّي الظُّهْرِ، وَتَصِحُّ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ لِلَّذِينَ أَدْرَكُوا مَعَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ رَكْعَةً بِكُلِّ حَالٍ؛

 

ج / 4 ص -313-       لِأَنَّهُمْ لَوْ انْفَرَدُوا بِالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَانُوا مُدْرِكِينَ لِلْجُمُعَةِ فَلَا يَضُرُّ اقْتِدَاؤُهُمْ فِيهَا بِمُصَلِّي الظُّهْرِ أَوْ النَّفْلِ. هَذَا كُلُّهُ إذَا أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ؛ فَلَوْ أَحْدَثَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ فَأَرَادَ اسْتِخْلَافَ مَنْ يُصَلِّي فَثَلَاثُ طُرُقٍ أصحها وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: إنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، بَلْ إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ خَطَبَ بِهِمْ آخَرُ وَصَلَّى وَإِلَّا صَلَّوْا الظُّهْرَ.
وَالطَّرِيقُ الثاني: إنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، وَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ سَمِعَ الْخُطْبَةَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَلِهَذَا لَوْ بَادَرَ أَرْبَعُونَ مِنْ السَّامِعِينَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ فَعَقَدُوا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ انْعَقَدَتْ لَهُمْ، وَلَوْ صَلَّاهَا غَيْرُهُمْ لَمْ تَنْعَقِدْ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَإِنَّمَا يَصِيرُ غَيْرُ السَّامِعِ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَحَكَى الْمُتَوَلِّي وَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ اسْتِخْلَافِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ الْخُطْبَةَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَالْمُرَادُ بِسَمَاعِهَا حُضُورُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: إنْ اسْتَخْلَفَ مَنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ جَازَ، وَإِنْ اسْتَخْلَفَهُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، وَشَرْطُنَا الطَّهَارَةُ فِيهَا؛ فَهَلْ يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ؟ إنْ مَنَعْنَا فِي الصَّلَاةِ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ الصحيح: جَوَازُهُ كَالصَّلَاةِ.
فرع: إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ ثُمَّ فَارَقَهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ وَقُلْنَا: لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِالْمُفَارَقَةِ أَتَمَّهَا جُمُعَةً، كَمَا لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
فرع: إذَا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ وَفِي الْقَوْمِ مَسْبُوقُونَ فَأَرَادُوا الِاسْتِخْلَافَ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِمْ فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِخْلَافَ لِلْإِمَامِ - لَمْ يَجُزْ لَهُمْ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ - فَإِنْ كَانَ فِي الْجُمُعَةِ - لَمْ يَجُزْ. لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْشَاءُ جُمُعَةٍ بَعْدَ جُمُعَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا فَوَجْهَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ حَيْثُ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ.
فرع: إذَا اسْتَخْلَفَ هَلْ يُشْتَرَطُ عَلَى الْمَأْمُومِينَ نِيَّةُ الْقُدْوَةِ بِالْخَلِيفَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ الصحيح لَا يُشْتَرَطُ وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ الْإِمَامُ فَقَدَّمَ الْقَوْمُ وَاحِدًا بِالْإِشَارَةِ، أَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ بِنَفْسِهِ جَازَ، وَتَقْدِيمُ الْقَوْمِ أَوْلَى مِنْ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُصَلُّونَ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ وَاحِدًا، وَالْقَوْمُ آخَرَ فَأَظْهَرُ الِاحْتِمَالَيْنِ: أَنَّ مَنْ قَدَّمَهُ الْقَوْمُ أَوْلَى، فَلَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ الْإِمَامُ وَلَا الْقَوْمُ وَلَا تَقَدَّمَ أَحَدٌ فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعًا عَلَى مَنْعِ الِاسْتِخْلَافِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجِبُ عَلَى الْقَوْمِ تَقْدِيمُ وَاحِدٍ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إنْ كَانَ خُرُوجُ الْإِمَامِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّانِيَةِ جَازَ التَّقْدِيمُ، وَلَمْ يَجِبْ بَلْ لَهُمْ الِانْفِرَادُ بِهَا، وَتَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ كَالْمَسْبُوقِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقَدْ سَبَقَ خِلَافٌ فِي الصُّورَتَيْنِ تَفْرِيعًا عَلَى مَنْعِ الِاسْتِخْلَافِ؛ فَيَتَّجِهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ خِلَافٌ فِي مُوجِبِ التَّقْدِيمِ وَعَدَمِهِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا تُقَامَ الْجُمُعَةُ بِغَيْرِ إذْنِ السُّلْطَانِ فَإِنَّ فِيهِ افْتِئَاتًا عَلَيْهِ، فَإِنْ أُقِيمَتْ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ جَازَ. لِمَا رُوِيَ "أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه صَلَّى الْعِيدَ وَعُثْمَانُ رضي

 

ج / 4 ص -314-       الله عنه مَحْصُورٌ" وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ لِلَّهِ تعالى لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلِهِ الْإِمَامُ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى إذْنِهِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ".
 الشرح:
هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما صَحِيحٌ رَوَاهُ مَالِكٌ الْمُوَطَّأ فِي بَابِ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ في"الأم" بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: وَلَا يُعْلَمُ عُثْمَانُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ وفوله: وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ لِلَّهِ احْتِرَازٌ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ بِالْعَيْبِ وَغَيْرِهِ وفوله: لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلِهِ الْإِمَامُ، احْتِرَازٌ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَالَ الْقَلَعِيُّ: هُوَ مُنْتَقَضٌ بِهِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تُقَامَ الْجُمُعَةُ إلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِنْ أُقِيمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا حُضُورِهِ جَازَ وَصَحَّتْ هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، عِنْدَنَا إلَّا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ حَكَى قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ السُّلْطَانِ أَوْ إذْنِهِ فِي الْجُمُعَةِ.
 ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَحُضُورِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ السُّلْطَانُ فِي الْبَلَدِ أَمْ لَا، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا خَلْفَ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ جَازَ لِلْقَاضِي وَوَالِي الشُّرْطَةِ إقَامَتُهَا، وَمَتَى قُدِرَ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهَا لَمْ تَقُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْآنَ إلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، وَلِأَنَّ تَجْوِيزَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ يُؤَدِّي إلَى فِتْنَةٍ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقِصَّةِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ كَمَا سَبَقَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَالْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِمَامَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
والجواب: عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا خَرَجَ لِلْبَيَانِ اُعْتُبِرَ فِيهِ صِفَةُ الْفِعْلِ لَا صِفَاتُ الْفَاعِلِ، وَلِهَذَا لَا تُشْتَرَطُ النُّبُوَّةُ فِي إمَامِ الْجُمُعَةِ، وَكَوْنُ النَّاسِ فِي الْأَعْصَارِ يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُهَا إذَا أُقِيمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وقولهم: يُؤَدِّي إلَى فِتْنَةٍ لَا نُسَلِّمُهُ؛ لِأَنَّ الِافْتِئَاتَ الْمُؤَدِّي إلَى فِتْنَةٍ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَلَيْسَتْ الْجُمُعَةُ مِمَّا تُؤَدِّي إلَى فِتْنَةٍ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ في"الأم" وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: تَصِحُّ الْجُمُعَةُ خَلْفَ كُلِّ إمَامٍ صَلَّاهَا مِنْ أَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ وَمُتَغَلِّبٍ، وَغَيْرِ أَمِيرٍ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْأَصْحَابُ: أَرَادَ بِالْأَمِيرِ السُّلْطَانَ وَبِالْمَأْمُورِ نَائِبَهُ، وَبِالْمُتَغَلِّبِ الْخَارِجِيَّ، وَبِغَيْرِ الْأَمِيرِ آحَادَ الرَّعِيَّةِ، فَتَصِحُّ الْجُمُعَةُ خَلْفَ جَمِيعِهِمْ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا: صَلَّى عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَاسِدِينَ، وَقَالَ: مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ عَلِيًّا مُتَغَلِّبٌ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: كَذَبَ هَذَا الْمُعْتَرِضُ وَجَهِلَ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا مَثَّلَ بِذَلِكَ لِيَسْتَدِلَّ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَ غَيْرِ الْأَمِيرِ وَالْمَأْمُورِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ أَمِيرًا فِي حَيَاةِ عُثْمَانَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 4 ص -315-       قال المصنف رحمه الله تعالى:"قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَلَا يُجَمَّعُ فِي مِصْرٍ-وَإِنْ عَظُمَ وَكَثُرَتْ مَسَاجِدُهُ - إلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُقِمْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَغْدَادَ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يَجُوزُ فِي مَوَاضِعَ؛ لِأَنَّهُ بَلَدٌ عَظِيمٌ، وَيَشُقُّ الِاجْتِمَاعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ: يَجُوزُ فِي كُلِّ جَانِبٍ جُمُعَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَلَدَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ قُرًى مُتَفَرِّقَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا جُمُعَةٌ، ثُمَّ اتَّصَلَتْ الْعِمَارَةُ فَبَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ[وَإِنْ1 عُقِدَتْ جُمُعَتَانِ فِي بَلَدٍ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى وَعُرِفَتْ الْأُولَى مِنْهُمَا نَظَرْتَ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إمَامٌ أَوْ كَانَ الْإِمَامُ مَعَ الْأُولَى -فَالْجُمُعَةُ هِيَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يُعْتَبَرُ السَّبْقُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: بِالْفَرَاغِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِصَلَاتِهَا إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ السَّبْقُ بِالْفَرَاغِ. والثاني: يُعْتَبَرُ بِالْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهَا بِالْإِحْرَامِ تَنْعَقِدُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْعَقِدَ بَعْدَهَا جُمُعَةٌ - فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَعَ الثَّانِيَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُمُعَةَ هِيَ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا جُمُعَةٌ أُقِيمَتْ شُرُوطُهَا فَكَانَتْ هِيَ الْجُمُعَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجُمُعَةَ هِيَ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ الْأُولَى افْتِيَاتًا عَلَى الْإِمَامِ وَتَفْوِيتًا لِلْجُمُعَةِ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَتْ الْجُمُعَتَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ إمَامٍ بَطَلَتَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَوَجَبَ إبْطَالُهُمَا كَمَا نَقُولُ فِيمَنْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي وَقْتَيْنِ بَطَلَتَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَوْنُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِأَوْلَى مِنْ تَقَدُّمِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَحُكِمَ بِبُطْلَانِهِمَا، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى، وَلَمْ تَتَعَيَّنْ حُكِمَ بِبُطْلَانِهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ شَكَّ فِي إسْقَاطِ الْفَرْضِ، وَالْفَرْضُ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ. وَفِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ أحدهما: تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ إنْ كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا؛ لِأَنَّ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا فَصَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ والثاني: يُصَلُّونَ الظُّهْرَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ مِنْهُمَا جُمُعَةٌ صِحِّيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ احْتِيَاطًا، وَإِنْ عُلِمَتْ السَّابِقَةُ مِنْهُمَا ثُمَّ أَشْكَلَتْ حُكِمَ بِبُطْلَانِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّوَقُّفُ إلَى أَنْ تُعْرَفَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْوَقْتِ أَوْ فَوَاتِهِمَا بِالْمَوْتِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِهِمَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ]".
 الشرح:
قَوْلُهُ: يُجَمَّعُ هُوَ - بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَفِي بَغْدَادَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ وَبِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَبَغْدَانُ وَمَغْدَانُ، وَيُقَالُ لَهَا: مَدِينَةُ السَّلَامِ، وَسَبَقَ فِي بَيَانِهَا زِيَادَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الْقُلَّتَيْنِ، وَهَذَا النَّصُّ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في"الأم" وَفِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَشَرْطُ الْجُمُعَةِ أَنْ لَا يَسْبِقَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ جُمُعَةٌ أُخْرَى، وَلَا يُقَارِنَهَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَقَدْ دَخَلَ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ وَهُمْ يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ وَقِيلَ فِي ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ، وَفِي حُكْمِ بَغْدَادَ فِي الْجُمُعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الثَّلَاثَةَ الْأُولَى مِنْهَا هُنَا، وَكَلَامُهُ فِي التَّنْبِيهِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِالرَّابِعِ. أحدها: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى جُمُعَةٍ فِي بَغْدَادَ جَائِزَةٌ وَإِنَّمَا جَازَتْ؛ لِأَنَّهُ بَلَدٌ كَبِيرٌ يَشُقُّ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى جُمُعَةٍ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الَّتِي تَكْثُرُ النَّاسُ فِيهَا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه القطعة الكبيرة ساقطة من ش و ق (ط)

 

ج / 4 ص -316-       وَيَعْسُرُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَوْضِعٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا، وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْحَنَّاطِيُّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ الْمُجَرَّدِ وَالرُّويَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَدَلِيلُهُ قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج: من الآية78).
والثاني: إنَّمَا جَازَتْ الزِّيَادَةُ فِيهَا؛ لِأَنَّ نَهْرَهَا يَحُولُ بَيْنَ جَانِبَيْهَا فَيَجْعَلُهَا كَبَلَدَيْنِ. قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، فَعَلَى هَذَا لَا تُقَامُ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ بَغْدَادَ إلَّا جُمُعَةٌ، وَكُلُّ بَلَدٍ حَالَ بَيْنَ جَانِبَيْهَا نَهْرٌ يُحْوِجُ إلَى السِّبَاحَةِ فَهُوَ كَبَغْدَادَ، وَاعْتُرِضَ عَلَى ابْنِ سَلَمَةَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَانِبَانِ كَبَلَدَيْنِ لَقَصَرَ مَنْ عَبَرَ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخِرِ مُسَافِرًا إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَالْتَزَمَ ابْنُ سَلَمَةَ وُجُوبَ الْقَصْرِ.
والثالث: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَإِنَّمَا جَازَتْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ قُرًى مُتَفَرِّقَةً قَدِيمَةً اتَّصَلَتْ الْأَبْنِيَةُ فَأَجْرَى عَلَيْهَا حُكْمَهَا الْقَدِيمَ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ تَعَدُّدُ الْجُمُعَةِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، هَذَا شَأْنُهُ1، وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِمَا اُعْتُرِضَ عَلَى ابْنِ سَلَمَةَ، وَأُجِيبَ بِجَوَابِهِ وَأَشَارَ إلَى هَذَا الْجَوَابِ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ.
والرابع: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى جُمُعَةٍ فِي بَغْدَادَ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ الْمَذْكُورِ، وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَيْسَ لِمُجْتَهِدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مُجْتَهِدٍ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُنْكِرَهَا بِقَلْبِهِ وَسَطَّرَهَا فِي كُتُبِهِ، وَالصَّحِيحُ: هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْجَوَازُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ وَعُسْرِ الِاجْتِمَاعِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: طُرُقُ الْأَصْحَابِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى جُمُعَةٍ بِبَغْدَادَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحَيْثُ مَنَعْنَا الزِّيَادَةَ عَلَى جُمُعَةٍ فَعُقِدَتْ جُمُعَتَانِ فَلَهُ صُوَرٌ: إحداها: أَنْ تَسْبِقَ إحْدَاهُمَا، وَلَا يَكُونَ الْإِمَامُ مَعَ الثَّانِيَةِ، فَالْأُولَى هِيَ الصَّحِيحَةُ وَالثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَفِيمَ يُعْتَبَرُ بِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَتَيْنِ لِلْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ أصحهما: بِالْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ والثاني: بِالسَّلَامِ مِنْهَا، هَكَذَا حَكَاهُمَا الْأَصْحَابُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ وَجْهَيْنِ، وَحَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ قَوْلَيْنِ؛ وَأَنْكَرَ صَاحِبُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك مثل مدينة القاهرة عاصمة الديار المصرية حماها الله وطهر ثراها من أعداء الملة فإنها كانت مدن الفسطاط والقطائع والعسكر والقاهرة وبعض القرى الصغيرة ثم امتد العمران حتى اتصلت ببعضها فصارت مدينة كبرى وقد كثرت المساجد والزوايا والجوامع واتجه بعض الناس إلى اتخاذ الأدوار  الأولى من العمارات مساجد تقام فيها الجمع والجماعات وصار الانتقال بين الاحياء والنواحي والضواحي بوسائل النقل التي تتحرك بالبخار أو الكهرباء تسير كالبرق الخاطف وقد يأتي وقت تسير فيه تلك الوسائل في باطن الأرض ومع سرعتها وتوفرأسباب الراحة فيها فإنها تبلغ بالناس مقاصدهم وهم في مشقة وعناء من طول المسافاة (ط)

 

ج / 4 ص -317-       الْبَيَانِ وَغَيْرُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالشُّرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ فَحَصَلَتْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ فَأَيَّتُهُمَا أُحْرِمَ بِهَا أَوَّلًا فَهِيَ الصَّحِيحَةَ وَإِنْ تَقَدَّمَ سَلَامُ الثَّانِيَةِ وَخُطْبَتُهَا، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَصَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ وَآخَرُونَ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْمُزَنِيِّ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ أُحْرِمَ بِهِمَا مَعًا وَتَقَدَّمَ سَلَامُ إحْدَاهُمَا وَخُطْبَتُهَا فَهُمَا بَاطِلَتَانِ وَالِاعْتِبَارُ عَلَى هَذَا بِالْفَرَاغِ مِنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَوْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا بِهَمْزَةِ التَّكْبِيرَةِ وَالْأُخْرَى بِالرَّاءِ مِنْهَا، فَالصَّحِيحَةُ هِيَ السَّابِقَةُ بِالرَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّ السَّابِقَةَ بِالْهَمْزَةِ هِيَ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا افْتِتَاحُ أُخْرَى، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ دَاخِلًا فِي الْجُمُعَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ التَّكْبِيرَةِ بِكَمَالِهَا. وَلَوْ أَحْرَمَ إمَامٌ بِهَا وَفَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ آخَرُ بِالْجُمُعَةِ إمَامًا ثُمَّ أَحْرَمَ أَرْبَعُونَ مُقْتَدِينَ بِالثَّانِي ثُمَّ أَحْرَمَ أَرْبَعُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ: أَنَّ الصَّحِيحَةَ هِيَ جُمُعَةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ بِإِحْرَامِهِ بِهَا تَعَيَّنَتْ جُمُعَتُهُ لِلسَّبْقِ وَامْتَنَعَ عَلَى غَيْرِهِ افْتِتَاحُ جُمُعَةٍ أُخْرَى.
وَعَلَى جَمِيعِ الْأَوْجُهِ لَوْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا وَكَانَ السُّلْطَانُ مَعَ الثَّانِيَةِ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ: أَنَّ الْجُمُعَةَ هِيَ السَّابِقَةُ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَالرَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهَا جُمُعَةٌ وُجِدَتْ شُرُوطُهَا فَلَا تَنْعَقِدُ بِهَا أُخْرَى، وَالسُّلْطَانُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ. والثاني: أَنَّ الْجُمُعَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ الَّتِي فِيهَا الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ الْأُولَى افْتِئَاتًا عَلَيْهِ وَتَفْوِيتًا لَهَا عَلَى غَالِبِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُمْ يَكُونُ مَعَ الْإِمَامِ. وَلَوْ دَخَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الْجُمُعَةِ فَأُخْبِرُوا فِي أَثْنَائِهَا بِأَنَّ جُمُعَتَهُمْ سَبَقَتْهُمْ اُسْتُحِبَّ لَهُمْ اسْتِئْنَافُ الظُّهْرِ، وَهَلْ لَهُمْ الْبِنَاءُ عَلَى صَلَاتِهِمْ ظُهْرًا؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالظُّهْرِ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى مَا إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمَسْأَلَتَيْنِ
 الصورة الثانية: أَنْ تَقَعَ الْجُمُعَتَانِ مَعًا فَهُمَا بَاطِلَتَانِ وَيَجِبُ اسْتِئْنَافُ جُمُعَةٍ إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لَهَا.
الثالثة: أَنْ يُشْكَلَ الْحَالُ فَلَا يُدْرَى أَوَقَعَتَا مَعًا أَوْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا، فَيَجِبُ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ أَيْضًا وَتُجْزِئُهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جُمُعَةٍ مُجْزِئَةٍ. هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ وَشَذَّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فَقَالَ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ. وَفِي جَوَازِهَا قَوْلَانِ أصحهما: الْجَوَازُ، وَهُوَ نَصُّهُ في"الأم" وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ عَنْ الْأَصْحَابِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَدْ حَكَمَ الْأَئِمَّةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنَّهُمْ إذَا أَعَادُوا جُمُعَةً بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمْ، وَفِيهِ إشْكَالٌ لِاحْتِمَالِ تَقَدُّمِ إحْدَاهُمَا، وَحِينَئِذٍ لَا تَنْعَقِدُ هَذِهِ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُمْ بِهَا، فَطَرِيقُهُمْ فِي الْبَرَاءَةِ بِيَقِينٍ أَنْ يُصَلُّوا جُمُعَةً ثُمَّ ظُهْرًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُسْتَحَبٌّ وَإِلَّا فَالْجُمُعَةُ كَافِيَةٌ فِي الْبَرَاءَةِ كَمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جُمُعَةٍ مُجْزِئَةٍ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ.
الرابعة: أَنْ يُعْلَمَ سَبْقُ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا ثُمَّ تَلْتَبِسَ. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَشُكُّ فِي بَرَاءَتِهَا مِنْ الْفَرْضِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْبَرَاءَةِ، وَفِيمَا يَلْزَمهُمْ

 

ج / 4 ص -318-       طَرِيقَانِ أصحهما: يَلْزَمُهُمْ الظُّهْرُ - قَوْلًا وَاحِدًا - لِأَنَّ الْجُمُعَةَ صَحَّتْ، فَلَا يَجُوزُ عَقْدُ جُمُعَةٍ أُخْرَى بَعْدَهَا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَصَحَّحَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ والثاني: فِيهِ قَوْلَانِ كَالصُّورَةِ الْخَامِسَةِ أحدهما: الظُّهْرُ والثاني: الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ تَحْصُلْ بِهَا الْبَرَاءَةُ، فَهِيَ كَجُمُعَةٍ فَاسِدَةٍ لِفَوَاتِ بَعْضِ شُرُوطِهَا أَوْ أَرْكَانِهَا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
الخامسة: أَنْ تَسْبِقَ إحْدَاهُمَا وَنَعْلَمَ السَّبْقَ وَلَا نَعْلَمَ عَيْنَ السَّابِقَةِ بِأَنْ سَمِعَ مَرِيضَانِ أَوْ مُسَافِرَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ تَكْبِيرَتَيْنِ لِلْإِمَامَيْنِ مُتَلَاحِقَتَيْنِ، وَهُمَا خَارِجُ الْمَسْجِدِ فَأَخْبَرَاهُمْ بِالْحَالِ وَلَمْ يَعْرِفَا الْمُتَقَدِّمَةَ فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ، خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ أَيْضًا، وَفِيمَا يَلْزَمُهُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أحدهما: الْجُمُعَةُ وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ والثاني: الظُّهْرُ، وَصَحَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ، قَالُوا: وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَدَلِيلُ الْقَوْلَيْنِ مَا سَبَقَ فِي الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ. وَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ مَعَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ - فَإِنْ قلنا: فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: الْجُمُعَةُ هِيَ السَّابِقَةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ - فَلَا أَثَرَ لِحُضُورِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْجُمُعَةُ هِيَ الَّتِي فِيهَا السُّلْطَانُ فَهُنَا أُولَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ ثُمَّ أُخْبِرَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَنَّ أَرْبَعِينَ أَقَامُوهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْبَلَدِ وَفَرَغُوا مِنْهَا قَبْلَ إحْرَامِهِ أَتَمَّهَا ظُهْرًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ اسْتَأْنَفُوا الظُّهْرَ كَانَ أَفْضَلَ.
 فرع: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ"وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ حُكِمَ بِبُطْلَانِهِمَا" ، وَفِيمَا يَلْزَمُهُمْ قَوْلَانِ أحدهما: الْجُمُعَةُ والثاني: الظُّهْرُ، قَالَ:"وَإِنْ عُلِمَتْ السَّابِقَةُ مِنْهُمَا ثُمَّ أَشْكَلَتْ، حُكِمَ بِبُطْلَانِهِمَا" هَذَا مِمَّا يُنْكَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِبُطْلَانِهِمَا فِي الصُّورَتَيْنِ مَعَ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي الصُّورَتَيْنِ وُجُوبُ الظُّهْرِ، وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ الظُّهْرَ فَكَيْفَ تَكُونُ الْجُمُعَةُ بَاطِلَةً، فَإِنَّهَا لَوْ بَطَلَتْ وَجَبَ إعَادَتُهَا قَطْعًا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: لَمْ تُجْزِئْ الْجُمُعَةُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ. وَفِيمَا يَلْزَمُهُمْ قَوْلَانِ أصحهما: الظُّهْرُ لِوُقُوعِ جُمُعَةٍ صَحِيحَةٍ والثاني: الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ تُجْزِئْ فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ، وَهَذَا مُرَادُ الْمُصَنِّفِ، وَلَكِنْ فِي عِبَارَتِهِ إبْهَامٌ وَضَرْبُ تَنَاقُضٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: لَوْ كَانَ إمَامُ الْجُمُعَةِ جُنُبًا وَتَمَّ الْعَدَدُ بِغَيْرِهِ - فَعَلِمَ الْجَنَابَةَ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ - فَإِنَّ جُمُعَةَ الْقَوْمِ صَحِيحَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الظُّهْرَ، فَلَوْ ذَهَبَ وَتَطَهَّرَ وَاسْتَأْنَفَ الْخُطْبَةَ وَصَلَاةَ الْجُمُعَةِ ظَانًّا أَنَّهَا تُجْزِئُهُ ثُمَّ عَلِمَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جُمُعَةٌ بَعْدَ جُمُعَةٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الظُّهْرَ، قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الِاسْتِئْنَافُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا يَجِبُ، بَلْ إذَا أَضَافَ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بِنِيَّةِ الظُّهْرِ أَجْزَأَهُ. كَمَا إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ، وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا، وَلَا يَجِبُ اسْتِئْنَافُهَا.

فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي إقَامَةِ جُمُعَتَيْنِ أَوْ جُمَعٍ فِي بَلَدٍ
مَذْهَبُنَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جُمُعَتَانِ فِي بَلَدٍ لَا يَعْسُرُ الِاجْتِمَاعُ فِيهِ فِي مَكَان كَمَا سَبَقَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي بَغْدَادَ دُونَ غَيْرِهَا،

 

ج / 4 ص -319-       وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ لِلْبَلَدِ جَانِبَانِ جَازَ فِي كُلِّ جَانِبٍ جُمُعَةٌ، وَإِلَّا فَلَا وَلَمْ يَخُصَّهُ بِبَغْدَادَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ جُمُعَتَانِ سَوَاءٌ كَانَ جَانِبَانِ أَمْ لَا، وَقَالَ عَطَاءٌ وَدَاوُد: يَجُوزُ فِي الْبَلَدِ جُمَعٌ وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا عَظُمَ الْبَلَدُ كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ جَازَ جُمُعَتَانِ فَأَكْثَرَ إنْ احْتَاجُوا وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ جُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: لَا يَصِحُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: حَكَى عَامَّةُ أَهْلِ الْخِلَافِ كَابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَذْهَبِنَا، وَحَكَى عَنْهُ السَّاجِيُّ كَمَذْهَبِ مُحَمَّدٍ دَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُقِيمُوهَا فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ مَعَ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الْعِيدَ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْبَلَدِ الصَّغِيرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فصل: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْجُمُعَةِ إحداها: قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ بِلَا عُذْرٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ؛ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ" قَالَ: وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ "مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ دِينَارٍ" وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ مُضْطَرِبٌ مُنْقَطِعٌ وَرُوِيَ "فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ صَاعِ حِنْطَةٍ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ "وَفِي رِوَايَةٍ" مُدٌّ أَوْ نِصْفُ مُدٍّ" وَاتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَاكِمِ: إنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَمَرْدُودٌ فَإِنَّهُ مُتَسَاهِلٌ.
الثانية: يُسْتَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا، وَتُجْزِئُ رَكْعَتَانِ قَبْلَهَا وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَقَدْ سَبَقَ إيضَاحُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ.
الثالثة: قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا.
الرابعة: يُكْرَهُ تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةٍ وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ بِدَلِيلِهَا فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ.
الخامسة: الِاحْتِبَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي الزُّبَيْرِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ وَنَافِعٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ قَالَ: وَكَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لِحَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ شِدَادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ
"شَهِدْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَجَمَّعَ بِنَا فَنَظَرْت فَإِذَا جُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُهُمْ مُحْتَبِينَ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ" قَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَبِي وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَشُرَيْحٌ وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ وَنُعَيْمُ بْنُ سَلَامَةَ، قَالَ أَبُو دَاوُد: وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَدًا كَرِهَهَا إلَّا عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ. هَذَا كَلَامُ أَبِي دَاوُد وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْحَبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ كَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ

 

ج / 4 ص -320-       حَسَنٌ، لَكِنْ فِي إسْنَادِهِ ضَعِيفَانِ1 فَلَا نُسَلِّمُ حُسْنَهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ نُهِيَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَجْلِبُ النَّوْمَ فَتُعَرِّضُ طَهَارَتَهُ لِلنَّقْضِ وَيُمْنَعُ مِنْ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ.
السادسة: قَالَ فِي الْبَيَانِ: إذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}(الأحزاب: من الآية56)فَجَازَ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَرْفَعَ بِهَا صَوْتَهُ.
السابعة: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"إنَّ لَكُمْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ حَجَّةً وَعُمْرَةً فَالْحَجَّةُ التَّهْجِيرُ إلَى الْجُمُعَةِ، وَالْعُمْرَةُ انْتِظَارُ الْعَصْرِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قلت إسناد الترمذي هكذا حدثنا محمد بن حميد الرازي وعباس ين محمد الدروري قالا حدثنا أو عبد الرحمن المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب قال أو عيسى هذا حديث حسن وأبو مرحوم اسمه عبد الرحيم بن ميمون ثم قال وقد كره قوم من أهل العلم الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب ورخص في ذلك بعضهم منهم عبد الله بن عمر وغيره وأما الرجلان في هذا الإسناد اللذان أبهمهما النووي فهما عبد الرحيم بن ميمون أبو رحيم ضعفه ابن معين وقال النسائي ليس شيء والآخر سهل بن معاذ بن أنس الجهني ضعفه ابن معين ووثقه ابن حبان والحديث رواه أبو داود والبيهقي كلاهما من طريق المقرئ ومن طريق رشدين بن سعد عن زبان بن قائد عن سهل بن معاذ وهو إسناد أوهى من إسناد الترمذي والله أعلم (ط)