المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَصَلاةُ الاسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ لمَا رَوَى عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَال:
"خَرَجَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي فَصَلى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ بِالقِرَاءَةِ فِيهِمَا وَحَوَّل رِدَاءَهُ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاسْتَسْقَى"وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ فِي المُصَلى لمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالتْ: "شَكَا النَّاسُ إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ المَطَرِ فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لهُ فِي المُصَلى"وَلأَنَّ الجَمْعَ يَكْثُرُ فَكَانَ المُصَلى أَرْفَقَ بِهِمْ".
 الشرح: حَدِيثُ عَبَّادٍ عَنْ عَمِّهِ صَحِيحٌ، رَوَاهُ هَكَذَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَليْسَ فِي رِوَايَتِهِمَا: وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَلا فِي رِوَايَةِ مُسْلمٍ الجَهْرُ بِالقِرَاءَةِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ البُخَارِيِّ وَعَمُّ عَبَّادٍ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الأَنْصَارِيُّ المَازِنِيُّ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي صِفَةِ الوُضُوءِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَقَال: هُوَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَقَال: صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ، وَالاسْتِسْقَاءُ طَلبُ السُّقْيَا، وَيُقَال سَقَى وَأَسْقَى لغَتَانِ بِمَعْنًى، وَقِيل سَقَى نَاوَلهُ ليَشْرَبَ، وَأَسْقَيْتُهُ جَعَلت لهُ سَقْيًا، وَ قُحُوطُ المَطَرِ بِضَمِّ القَافِ وَالحَاءِ امْتِنَاعُهُ وَعَدَمُ نُزُولهِ، وَمُرَادُ الفُقَهَاءِ بِهِ سُؤَال اللهِ تَعَالى أَنْ يَسْقِيَ عِبَادَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ قَال فِي الأُمِّ وَأَصْحَابُنَا: وَالاسْتِسْقَاءُ أَنْوَاعٌ أَدْنَاهَا الدُّعَاءُ بِلا صَلاةٍ وَلا خَلفَ صَلاةٍ فُرَادَى وَمُجْتَمِعِينَ لذَلكَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَحْسَنُهُ مَا كَانَ مِنْ أَهْل الخَيْرِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَوْسَطُهَا الدُّعَاءُ خَلفَ صَلاةِ الجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلوَاتِ وَفِي خُطْبَةِ الجُمُعَةِ وَنَحْوِ ذَلكَ قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يُقِيمُ مُؤَذِّنًا فَيَأْمُرُهُ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ وَالمَغْرِبِ أَنْ يَسْتَسْقِيَ، وَيَحُضَّ النَّاسَ عَلى الدُّعَاءِ، فَمَا كَرِهْت مَا صَنَعَ مِنْ ذَلكَ.
النَّوْعُ الثَّالثُ: أَفْضَلهَا وَهُوَ الاسْتِسْقَاءُ بِصَلاةِ رَكْعَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ وَتَأَهُّبٍ لهَا قَبْل ذَلكَ، وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الأَنْوَاعِ أَهْل القُرَى وَالأَمْصَارِ وَالبَوَادِي وَالمُسَافِرُونَ، وَيُسَنُّ لهُمْ جَمِيعًا الصَّلاةُ وَالخُطْبَتَانِ، يُسْتَحَبُّ ذَلكَ للمُنْفَرِدِ إلا الخُطْبَةَ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَأَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يُشْرَعُ الاسْتِسْقَاءُ إذَا أَجْدَبَتْ الأَرْضُ وَانْقَطَعَ الغَيْثُ أَوْ النَّهْرُ أَوْ العُيُونُ المُحْتَاجُ إليْهَا، وَقَدْ ثَبَتَتْ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي اسْتِسْقَاءِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلاةِ وَبِالدُّعَاءِ قَال أَصْحَابُنَا: وَلوْ انْقَطَعَتْ المِيَاهُ وَلمْ يَدْعُ إليْهَا حَاجَةٌ فِي ذَلكَ الوَقْتِ لمْ يُسْتَسْقَوْا لعَدَمِ الحَاجَةِ، وَلوْ انْقَطَعَتْ المِيَاهُ عَنْ طَائِفَةٍ دُونَ طَائِفَةٍ أَوْ أَجْدَبَتْ طَائِفَةٌ وَأَخْصَبَتْ طَائِفَةٌ اُسْتُحِبَّ لأَهْل

 

ج / 5 ص -51-         الخِصْبِ أَنْ يَسْتَسْقُوا لأَهْل الجَدْبِ بِالصَّلاةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ يَنْبَغِي للمُصَنِّفِ أَنْ يُنَبِّهَ عَلى سَبَبِ الاسْتِسْقَاءِ، كَمَا نَبَّهَ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ الأَصْحَابِ، قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: يَنْبَغِي للإِمَامِ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِالنَّاسِ عِنْدَ الحَاجَةِ، فَإِنْ تَخَلفَ عَنْهُ فَقَدْ أَسَاءَ بِتَرْكِهِ السُّنَّةَ، وَلا قَضَاءَ عَليْهِ وَلا كَفَّارَةَ، وَتُقِيمُ الرَّعِيَّةُ الاسْتِسْقَاءَ لأَنْفُسِهِمْ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا أَرَادَ الإِمَامُ الخُرُوجَ للاسْتِسْقَاءِ وَعَظَ النَّاسَ، وَأَمَرَهُمْ بِالخُرُوجِ مِنْ المَظَالمِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ المَعَاصِي، [قَبْل أَنْ يَخْرُجَ]1 لأَنَّ المَظَالمَ وَالمَعَاصِيَ تَمْنَعُ القَطْرَ، وَالدَّليل عَليْهِ مَا رَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ2 [أَنَّهُ] قَال:
"إذَا بُخِسَ المِكْيَال حُبِسَ القَطْرُ "وَقَال مُجَاهِدٌ فِي قوله تعالى  {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة: من الآية159] "قَال دَوَابُّ الأَرْضِ تَلعَنُهُمْ، يَقُولونَ: يُمْنَعُ القَطْرُ بِخَطَايَاهُمْ3 وَيَأْمُرُهُمْ بِصَوْمِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ قَبْل الخُرُوجِ وَيَخْرُجُونَ فِي اليَوْمِ الرَّابِعِ وَهُمْ صِيَامٌ، لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "دَعْوَةُ الصَّائِمِ لا تُرَدُّ"وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ لأَنَّهُ أَرْجَى للإِجَابَةِ وَيَسْتَسْقِي بِالخِيَارِ مِنْ أَقْرِبَاءِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ وَقَال: "اللهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا قَحَطْنَا تَوَسَّلنَا إليْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّل إليْك اليَوْمَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، فَيُسْقَوْنَ "وَيَسْتَسْقِي بِأَهْل الصَّلاحِ لمَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَسْقَى بِيَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ فَقَال: "اللهُمَّ إنَّا نَسْتَسْقِي إليْك بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلنَا، اللهُمَّ إنَّا نَسْتَسْقِي إليْك بِيَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ، يَا يَزِيدُ ارْفَعْ يَدَيْك إلى اللهِ تَعَالى، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ، فَثَارَتْ سَحَابَةٌ مِنْ المَغْرِبِ كَأَنَّهَا تُرْسٌ4 وَهَبَّتْ لهَا رِيحٌ فَسُقُوا حَتَّى كَادَ النَّاسُ أَنْ لا يَبْلغُوا مَنَازِلهُمْ "وَيُسْتَسْقَى بِالشُّيُوخِ وَالصِّبْيَانِ لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "لوْلا صِبْيَانٌ رُضَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ وَعِبَادٌ للهِ رُكَّعٌ لصُبَّ عَليْكُمْ العَذَابُ صَبًّا".
قَال فِي الأُمِّ: وَلا آمُرُ بِإِخْرَاجِ البَهَائِمِ وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ: اُسْتُحِبَّ إخْرَاجُ البَهَائِمِ لعَل اللهُ تَعَالى يَرْحَمُهَا، لمَا رُوِيَ
"أَنَّ سُليْمَانَ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ ليَسْتَسْقِيَ فَرَأَى نَمْلةً تَسْتَسْقِي فَقَال: ارْجِعُوا فَإِنَّ اللهَ تَعَالى سَقَاكُمْ بِغَيْرِكُمْ"وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ الكُفَّارِ للاسْتِسْقَاءِ لأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللهِ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَسَّل بِهِمْ إليْهِ، فَإِنْ حَضَرُوا وَتَمَيَّزُوا لمْ يُمْنَعُوا لأَنَّهُمْ جَاءُوا فِي طَلبِ الرِّزْقِ، وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ للاسْتِسْقَاءِ بِغُسْلٍ وَسِوَاكٍ لأَنَّهَا صَلاةٌ يُسَنُّ لهَا الاجْتِمَاعُ وَالخُطْبَةُ فَشُرِعَ لهَا الغُسْل كَصَلاةِ الجُمُعَةِ، وَلا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَيَّبَ لهَا؛ لأَنَّ الطِّيبَ للزِّينَةِ، وَليْسَ هَذَا وَقْتَ الزِّينَةِ وَيَخْرُجُ مُتَوَاضِعًا مُتَبَذِّلًا لمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: "خَرَجَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مابين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط).
2 قال النووي في "التهذيب": عبد الله المذكور في "المهذب" في وقت الصلاة هو ابن مسعود وهو المذكور في أول الاستسقاء وفي فصل كراهة النعي من باب صلاة الميت وفي ذكر التكبيرة الرابعة منه و في الصيام في مسألة السجود وفي صفة الحج والتكبير بصلاة الصبح بمزدلفة يوم النحر وفي أول النكاح,ونكاح التحليل وآخر الرجعة ا ه من "تهذيب الأسماء" و "اللغات".
3 في النسخة المطبوعة (تقول تمنع القطر خطاياهم) وهو من تصحيف المصححين والذي ورد في "المهذب" ما أثبته لإمام النووي هنا وانظر شرحه للفصل (ط).
4 في النسخة المطبوعة من "المهذب" (ارش) بالشين المعجمة (ط).

 

ج / 5 ص -52-         مُتَضَرِّعًا"وَلا يُؤَذِّنُ لهَا وَلا يُقِيمُ، لمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال "خَرَجَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي فَصَلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ بِلا أَذَانٍ وَلا إقَامَةٍ ثُمَّ خَطَبَنَا"وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَادَى لهَا (الصَّلاةَ جَامِعَةً) لأَنَّهَا صَلاةٌ يُشْرَعُ لهَا الاجْتِمَاعُ وَالخُطْبَةُ وَلا يُسَنُّ لهَا الأَذَانُ وَالإِقَامَةُ، فَيُسَنُّ لهَا (الصَّلاةُ جَامِعَةً) كَصَلاةِ الكُسُوفِ".
 الشرح: حَدِيثُ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ لا تُرَدُّ؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَال: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلفْظُهُ "ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ، الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِل، وَالمَظْلومُ"وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ وَقَال "دَعْوَةُ الصَّائِمِ وَالوَالدِ وَالمُسَافِرِ"وَحَدِيثُ اسْتِسْقَاءِ عُمَرَ بِالعَبَّاسِ رضي الله عنهما رَوَاهُ البُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَفْعَلهُ، وَحَدِيثُ اسْتِسْقَاءِ مُعَاوِيَةَ بِيَزِيدَ مَشْهُورٌ وَحَدِيثُ "لوْلا صِبْيَانٌ رُضَّعٌ "رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ وَقَال: إسْنَادُهُ غَيْرُ قَوِيٍّ وَلفْظُهُ "مَهْلًا عَنْ اللهِ مَهْلًا، فَإِنَّهُ لوْلا شَبَابٌ خُشَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ، وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ لصُبَّ عَليْكُمْ العَذَابُ صَبًّا"وَأَمَّا حَدِيثُ اسْتِسْقَاءِ النَّمْلةِ، فَرَوَاهُ الحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي المُسْتَدْرَكِ عَلى الصَّحِيحَيْنِ بِمَعْنَاهُ، فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "خَرَجَ نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ يَسْتَسْقِي، فَإِذَا هُوَ بِنَمْلةٍ رَافِعَةٍ بَعْضَ قَوَائِمِهَا إلى السَّمَاءِ، فَقَال: ارْجِعُوا فَقَدْ اُسْتُجِيبَ لكُمْ مِنْ أَجْل شَأْنِ النَّمْلةِ"قَال الحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، قَال التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَقَوْلهُ وَعَظَ الإِمَامُ: قَال أَهْل اللغَةِ: الوَعْظُ التَّخْوِيفُ، وَالعِظَةُ الاسْمُ مِنْهُ وَقَال الخَليل: هُوَ التَّذْكِيرُ بِالخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لهُ القَلبُ وَقَال الجَوْهَرِيُّ: هُوَ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالعَوَاقِبِ، يُقَال: وَعَظْتُهُ وَعْظًا وَعِظَةً فَاتَّعَظَ، أَيْ قَبِل المَوْعِظَةَ وَقَال الزُّبَيْدِيُّ: الوَعْظُ وَالمَوْعِظَةُ وَالعِظَةُ سَوَاءٌ.
قَوْلهُ: (الخُرُوجُ مِنْ المَظَالمِ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ المَعَاصِي) مُرَادُهُ بِالمَظَالمِ حُقُوقُ العِبَادِ، وَبِالمَعَاصِي حُقُوقُ اللهِ تَعَالى قَوْلهُ (لمَا رَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ) فَأَبُو وَائِلٍ هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلمَةَ الأَسَدِيُّ الكُوفِيُّ، وَهُوَ مِنْ فُضَلاءِ التَّابِعِينَ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلمْ يَرَهُ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَعَبْدُ اللهِ هُوَ بْنُ مَسْعُودٍ الصَّحَابِيُّ رضي الله عنه
قَوْلهُ: وَقَال مُجَاهِدٌ: إلى آخِرِهِ هَذَا مَنْقُولٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ فِي كِتَابِ الفِتَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَقِيل فِي الآيَةِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ اللاعِنِينَ كُل شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ إلا الجِنَّ وَالإِنْسَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَقِيل: هُمْ المُؤْمِنُونَ مِنْ المَلائِكَةِ وَالإِنْسُ وَالجِنُّ وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ المَلائِكَةُ، وَقِيل غَيْرُهُ وَقَوْلهُ (يَقُولونَ يَمْنَعُ القَطْرَ) كَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ، يَقُولونَ: وَالأَصْل فِي الدَّوَابِّ تَقُول، لأَنَّ الجَمْعَ بِالوَاوِ وَالنُّونِ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ العُقَلاءِ، وَكَأَنَّهَا لمَّا أُضِيفَ اللعْنُ إليْهَا كَمَا يُضَافُ إلى العُقَلاءِ حَسُنَ إجْرَاءُ لفْظِهِمْ عَليْهَا كَقَوْلهِ تَعَالى
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} الآيَةَ، وَكَذَا قوله تعالى {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}. وَنَظَائِرُهُ قَوْلهُ: قُحِطْنَا: هُوَ - بِضَمِّ القَافِ وَكَسْرِ الحَاءِ - وَالقَحْطُ الجُدُوبَةُ وَاحْتِبَاسُ المَطَرِ. وَقَوْلهُ (فَتَسْقِينَا) بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّهَا لغَتَانِ، كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّل البَابِ

 

ج / 5 ص -53-         وَكَذَا قَوْلهُ فَاسْقِنَا: بِوَصْل الهَمْزَةِ وَقَطْعِهَا، وَقَوْلهُ (كَادَ النَّاسُ أَنْ لا يَبْلغُوا مَنَازِلهُمْ) كَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ: أَنْ لا يَبْلغُوا، وَهِيَ لغَةٌ قَليلةٌ، وَالفَصِيحُ حَذْفُ (أَنْ) عَكْسُ عَسَى فَإِنَّ الفَصِيحَ فِيهَا عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ، وَيَجُوزُ عَسَى زَيْدٌ يَقُومُ.
قَوْلهُ الصِّبْيَان: بِكَسْرِ الصَّادِ وَضَمِّهَا لغَتَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ أَفْصَحُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: الكَسْرُ، وَمِثْلهُ قُضْبَانٌ وَرِضْوَانٌ، قَوْلهُ شُيُوخٌ رُكَّعٌ: قَال القَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْليقِهِ: قِيل: هُوَ جَمْعُ رَاكِعٍ أَيْ المُصَلي قَال: وَقِيل: أَرَادَ بِهِ الشُّيُوخَ الذِينَ انْحَنَتْ ظُهُورُهُمْ مِنْ الشَّيْخُوخَةِ.
قَوْلهُ مُتَبَذِّلًا: أَيْ فِي ثِيَابِ البِذْلةِ - بِكَسْرِ البَاءِ - وَهِيَ التِي تُلبَسُ فِي حَال الشُّغْل وَمُبَاشَرَةِ الخِدْمَةِ، وَتَصَرُّفِ الإِنْسَانِ فِي بَيْتِهِ، وَالتَّخَشُّعُ التَّذَلل وَالتَّضَرُّعُ وَالخُضُوعُ فِي الدُّعَاءِ، وَإِظْهَارُ الفَقْرِ قَوْلهُ (لأَنَّهَا صَلاةٌ يُسَنُّ لهَا الاجْتِمَاعُ وَالخُطْبَةُ فَشُرِعَ لهَا الغُسْل) احْتِرَازٌ مِنْ الصَّلوَاتِ الخَمْسِ قَوْلهُ (لأَنَّهَا صَلاةٌ يُشْرَعُ لهَا الاجْتِمَاعُ وَالخُطْبَةُ لا يُسَنُّ لهَا الأَذَانُ وَالإِقَامَةُ) احْتَرَزَ بِقَوْلهِ: يُشْرَعُ لهَا الاجْتِمَاعُ عَنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَبِقَوْلهِ وَالخُطْبَةُ عَنْ المَكْتُوبَاتِ، وَبِقَوْلهِ (لا يُسَنُّ لهَا الأَذَانُ وَالإِقَامَةُ) عَنْ الجُمُعَةِ وَقَوْلهُ كَصَلاةِ الكُسُوفِ وَإِنَّمَا قَاسَ عَليْهَا دُونَ العِيدِ، لأَنَّ الكُسُوفَ فِيهَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَليْسَ فِي العِيدِ حَدِيثٌ ثَابِتٌ.
أما الأحكام: فَقَال أَصْحَابُنَا: أَقَل هَذِهِ الصَّلاةِ رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِل، وَأَمَّا الأَكْمَل فَلهَا آدَابٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَليْسَتْ شَرْطًا.
أحدها: إذَا أَرَادَ الإِمَامُ الاسْتِسْقَاءَ خَطَبَ النَّاسَ، وَوَعَظَهُمْ، وَذَكَّرَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالخُرُوجِ مِنْ المَظَالمِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ المَعَاصِي، وَمُصَالحَةِ المُتَشَاحِنِينَ، وَالصَّدَقَةِ وَالإِقْبَال عَلى الطَّاعَاتِ، وَصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فِي الرَّابِعِ، وَكُلهُمْ صِيَامٌ هَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي الرَّابِعِ صِيَامًا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ مَعَ الشَّافِعِيِّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالمَحَامِليُّ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالمَاوَرْدِيُّ وَسُليْمٌ الرَّازِيّ وَالمُصَنِّفُ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالبَغَوِيُّ وَالمُتَوَلي، وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ وَخَلائِقُ لا يُحْصَوْنَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَؤُلاءِ لأَنِّي رَأَيْت مَنْ يَسْتَغْرِبُ النَّقْل فِيهَا لعَدَمِ أُنْسِهِ، قَال الأَصْحَابُ: وَالفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ للوَاقِفِ بِهَا تَرْكُ صَوْمِهِ لئَلا يَضْعُفَ عَنْ الدُّعَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّ صَلاةَ الاسْتِسْقَاءِ تَكُونُ أَوَّل النَّهَارِ قَبْل ظُهُورِ أَثَرِ الصَّوْمِ فِي الضَّعْفِ، بِخِلافِ الوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، فَإِنَّهُ آخِرَ النَّهَارِ.
والثاني: أَنَّ الوَاقِفَ بِعَرَفَاتٍ يَجْتَمِعُ عَليْهِ مَشَاقُّ السَّفَرِ وَالشُّعْثُ وَقِلةُ التَّرَفُّهِ وَمُعَالجَةُ وَعْثَاءِ السَّفَرِ فَإِذَا انْضَمَّ إلى ذَلكَ الصَّوْمُ اشْتَدَّ ضَعْفُهُ، وَضَعُفَ عَنْ الدُّعَاءِ بِخِلافِ المُسْتَسْقِي فَإِنَّهُ فِي وَطَنِهِ لمْ يَنَلهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلكَ.
الأَدَبُ الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَسْقَى بِالخِيَارِ مِنْ أَقَارِبِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَهْل الصَّلاحِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَبِالشُّيُوخِ وَالضُّعَفَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالعَجَائِزِ وَغَيْرِ ذَوَاتِ الهَيْئَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَدَليلهُ مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:
"وَهَل تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلا بِضُعَفَائِكُمْ؟"قَال القَاضِي حُسَيْنٌ

 

ج / 5 ص -54-         َالرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَ كُل وَاحِدٍ مِنْ القَوْمِ فِي نَفْسِهِ مَا فَعَلهُ مِنْ الطَّاعَةِ الجَليلةِ وَيَتَشَفَّعُ بِهِ وَيَتَوَسَّل وَاسْتَدَلوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الغَارِ الثَّلاثَةِ الذِينَ أَوَوْا إلى غَارٍ، فَأَطْبَقَتْ عَليْهِمْ صَخْرَةٌ فَتَوَسَّل كُل وَاحِدٍ بِصَالحِ عَمَلهِ. فَأَزَال اللهُ عَنْهُمْ بِسُؤَال كُل وَاحِدٍ ثُلثًا مِنْ الصَّخْرَةِ وَخَرَجُوا يَمْشُونَ"قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: وَلوْ تَرَكَ سَادَةُ العَبِيدِ العَبِيدَ يَخْرُجُونَ للاسْتِسْقَاءِ كَانَ أَحَبَّ إليَّ، وَلا يَلزَمُهُمْ ذَلكَ قَال: وَالإِمَاءُ مِثْل الحَرَائِرِ أُحِبُّ أَنْ يُؤْذَنَ لعَجَائِزِهِنَّ وَمَنْ لا هَيْئَةَ لهَا مِنْهُنَّ يَخْرُجْنَ، وَلا أُحِبُّ ذَلكَ فِي ذَوَاتِ الهَيْئَةِ وَلا يَجِبُ عَلى سَادَتِهِنَّ الإِذْنُ فِي ذَلكَ، قَال: وَأُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ الصِّبْيَانُ، وَيُنَظَّفُوا للاسْتِسْقَاءِ، وَكِبَارُ النِّسَاءِ وَمَنْ لا هَيْئَةَ لهَا مِنْهُنَّ. هَذَا نَصُّهُ وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَليْهِ.
والثالث: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَلا آمُرُ بِإِخْرَاجِ البَهَائِمِ هَذَا نَصُّهُ وَللأَصْحَابِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ أحدها: لا يُسْتَحَبُّ وَلا يُكْرَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ وَبِهِ جَزَمَ سُليْمٌ الرَّازِيّ وَالمَحَامِليُّ وَآخَرُونَ. والثاني: يَكْرَهُ إخْرَاجَهَا صَاحِبُ الحَاوِي عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا والثالث: يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهَا وَتُوقَفُ مَعْزُولةً عَنْ النَّاسِ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ. وَهَذَا الوَجْهُ قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ حَكَاهُ أَيْضًا صَاحِبُ الحَاوِي عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَطَعَ البَغَوِيّ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ.
الرَّابِعُ: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: وَأَكْرَهُ إخْرَاجَ الكُفَّارِ وَنِسَاؤُهُمْ فِيمَا أَكْرَهُ مِنْ هَذَا كَرِجَالهِمْ، قَال: وَلا أَكْرَهُ مِنْ خُرُوجِ صِبْيَانِهِمْ مَعَ المُسْلمِينَ مَا أَكْرَهُ مِنْ خُرُوجِ بَالغِيهِمْ. وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلى هَذَا قَالوا: وَإِنَّمَا خَفَّ أَمْرُ الصِّبْيَانِ لأَنَّ كُفْرَهُمْ ليْسَ عِنَادًا بِخِلافِ الكِبَارِ. هَكَذَا عَللهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا. وَقَال القَاضِي حُسَيْنٌ؛ لأَنَّ ذَنْبَهُمْ أَخَفُّ وَالعُلمَاءُ مُخْتَلفُونَ فِي حُكْمِهِمْ إذَا مَاتُوا قَبْل بُلوغِهِمْ. وَقَال البَغَوِيّ: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الكَبِيرِ يَعْنِي الجَامِعَ الكَبِيرَ (لا أَكْرَهُ مِنْ إخْرَاجِ صِبْيَانِهِمْ مَا أَكْرَهُ مِنْ خُرُوجِ كِبَارِهِمْ، لأَنَّ ذُنُوبَهُمْ أَقَل، وَلكِنْ يُكْرَهُ لكُفْرِهِمْ) وَهَذَا كُلهُ يَقْتَضِي أَنَّ أَطْفَال الكُفَّارِ كُفَّارٌ، وَقَدْ اخْتَلفَ العُلمَاءُ فِيهِمْ إذَا مَاتُوا قَبْل بُلوغِهِمْ فَقَال الأَكْثَرُونَ: هُمْ فِي النَّارِ وَقَالتْ طَائِفَةٌ: لا يُحْكَمُ لهُمْ بِجَنَّةٍ وَلا نَارٍ، وَلا نَعْلمُ حُكْمَهُمْ وَقَال المُحَقِّقُونَ هُمْ فِي الجَنَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ المُخْتَارُ وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ بِدَلائِلهِ1.
وَالجَوَابُ: عَمَّا يُعَارِضُهَا فِي كِتَابِ الجَنَائِزِ مِنْ شَرْحِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ2 وَسَأَذْكُرُهُ مُخْتَصَرًا فِي هَذَا الشَّرْحِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى فِي آخِرِ كِتَابِ الجَنَائِزِ، أَوْ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ. قَال: أَصْحَابُنَا فَإِخْرَاجُ الكُفَّارِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذهب ابن القيم في كتابه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" إلى أن الله يعلم معساه يؤول إليه أمر كل منهم لو أمهله الله حتى بلغ فيعامله الله بحسب ذلك وهذا ترده أدلة كثيرة كقوله تعالى:
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} (ط).
2 للإمام النووي شرح على البخاري لم يتم وقد حدثني الثقة أن شرحه طبع وإنه لم يزد على بدء الوحي وكتاب الإيمان هنا يدل على انه شرح فعلا كتاب "الجنائز"وعبارته هنا تفيد حصول الشرح وليست كعباراته فيما لم يدركه من "شرح المهذب"حين يقول وسأذكره في كتاب كذا كقوله هنا وسأذكره في كتاب "الردة" (ط).

 

ج / 5 ص -55-         مَعَ المُسْلمِينَ للاسْتِسْقَاءِ مَكْرُوهٌ كَمَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ قَال فِي الأُمِّ وَآمُرُ بِمَنْعِهِمْ مِنْ الخُرُوجِ قَال: فَإِنْ خَرَجُوا مُتَمَيِّزِينَ عَلى حِدَةٍ لمْ يَمْنَعْهُمْ، قَال أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ خَرَجُوا مُتَمَيِّزِينَ فِي يَوْمِ خُرُوجِ المُسْلمِينَ أَوْ فِي غَيْرِهِ لا يُمْنَعُونَ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الشَّامِل وَالبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ وَحَكَى صَاحِبُ الحَاوِي وَجْهَيْنِ أصحهما: هَذَا والثاني: يُمْنَعُونَ مِنْ خُرُوجِهِمْ فِي يَوْمِ خُرُوجِ المُسْلمِينَ، وَلا يُمْنَعُونَ فِي غَيْرِهِ.
الخَامِسُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ للاسْتِسْقَاءِ بِغُسْلٍ وَسِوَاكٍ، وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ الكَرِيهَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَتَطَيَّبَ وَأَنْ لا يَخْرُجَ فِي زِينَةٍ، بَل يَخْرُجُ فِي ثِيَابِ بِذْلةٍ - بِكَسْرِ البَاءِ - وَهِيَ ثِيَابُ المِهْنَةِ، وَأَنْ يَخْرُجَ مُتَوَاضِعًا خَاشِعًا مُتَذَللًا مُتَضَرِّعًا مَاشِيًا، وَلا يَرْكَبُ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ ذَهَابِهِ إلا لعُذْرٍ كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، وَدَليل هَذِهِ المَسَائِل فِي الكِتَابِ.
السَّادِسُ: لا يُؤَذِّنُ لهَا وَلا يُقِيمُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَال: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ.
السَّابِعُ: السُّنَّةُ أَنْ يُصَليَ فِي الصَّحْرَاءِ بِلا خِلافٍ،
لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلاهَا فِي الصَّحْرَاءِ، وَلأَنَّهُ يَحْضُرُهَا غَالبُ النَّاسِ وَالصِّبْيَانُ وَالحُيَّضُ وَالبَهَائِمُ وَغَيْرُهُمْ، فَالصَّحْرَاءُ أَوْسَعُ لهُمْ وَأَرْفَقُ بِهِمْ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي خُرُوجِ أَهْل الذِّمَّةِ للاسْتِسْقَاءِ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ الخُرُوجِ مُخْتَلطِينَ بِالمُسْلمِينَ، وَلا يُمْنَعُونَ مِنْ الخُرُوجِ مُتَمَيِّزِينَ. وَبِهِ قَال الزُّهْرِيُّ وَابْنُ المُبَارَكِ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَال مَكْحُولٌ: لا بَأْسَ بِإِخْرَاجِهِمْ وَقَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: لا يُؤْمَرُونَ وَلا يُنْهَوْنَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَصَلاتُهُ رَكْعَتَانِ كَصَلاةِ العِيدِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: يَقْرَأُ فِي الأُولى بِ (ق) وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ (نُوحٍ) صلى الله عليه وسلم لأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الاسْتِسْقَاءِ، وَالمَذْهَبُ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهَا مَا يَقْرَأُ فِي العِيدِ لمَا رُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَل إلى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلهُ عَنْ سُنَّةِ الاسْتِسْقَاءِ فَقَال:
"سُنَّةُ الاسْتِسْقَاءِ الصَّلاةُ فِي العِيدَيْنِ، إلا أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَلبَ رِدَاءً فَجَعَل يَمِينَهُ يَسَارَهُ، وَيَسَارَهُ يَمِينَهُ وَصَلى رَكْعَتَيْنِ كَبَّرَ فِي الأُولى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ وَقَرَأَ بِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلى، وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ هَل أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ، وَكَبَّرَ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ".
 الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفٌ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْفٍ قَال: أَرْسَلنِي مَرْوَانُ فَذَكَرَهُ. وَمُحَمَّدٌ هَذَا ضَعِيفٌ، قَال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِهِ: سَأَلت أَبِي عَنْهُ فَقَال هُمْ ثَلاثَةُ إخْوَةٍ: مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ اللهِ وَعِمْرَانُ بَنُو عَبْدِ العَزِيزِ وَالثَّلاثَةُ ضُعَفَاءُ ليْسَ لهُمْ حَدِيثٌ مُسْتَقِيمٌ، وَقَدْ يُقَال: لا دَلالةَ فِي الحَدِيثِ لوْ صَحَّ فَإِنَّهُ ليْسَ مُطَابِقًا لمَا ادَّعَاهُ المُصَنِّفُ، فَإِنَّهُ قَال: قَرَأَ بِ سَبِّحْ وَ هَل أَتَاكَ، وَدَعْوَى المُصَنِّفِ أَنَّهُ يَقْرَأُ ق وَ اقْتَرَبَتْ. وَجَوَابُهُ أَنَّ صَلاةَ العِيدِ شُرِعَ فِيهَا ق وَ اقْتَرَبَتْ، وَشُرِعَ أَيْضًا سَبِّحْ وَ هَل أَتَاكَ، وَكِلاهُمَا سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي صَلاةِ العِيدِ، فَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَحَدَ المَشْرُوعَيْنِ فِي صَلاةِ العِيدِ وَلمْ يَذْكُرْ سُورَةَ نُوحٍ، بِخِلافِ مَا ادَّعَاهُ صَاحِبُ الوَجْهِ الآخَرِ وَاَللهُ أَعْلمُ.

 

ج / 5 ص -56-         أَمَّا الأَحْكَامُ:فَقَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: صِفَةُ هَذِهِ الصَّلاةِ أَنْ يَنْوِيَ صَلاةَ الاسْتِسْقَاءِ وَيُكَبِّرَ رَكْعَتَيْنِ مِثْل صَلاةِ العِيدِ، فَيَأْتِيَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ بِدُعَاءِ الاسْتِفْتَاحِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ زَائِدَةٍ ثُمَّ يَتَعَوَّذَ ثُمَّ يَقْرَأَ الفَاتِحَةَ، وَيَذْكُرَ اللهَ تَعَالى بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ مِنْ السَّبْعِ وَالخَمْسِ الزَّوَائِدِ كَمَا سَبَقَ فِي صَلاةِ العِيدِ، وَيَرْفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ مَعَ كُل تَكْبِيرَةٍ وَيَجْهَرَ بِالقِرَاءَةِ وَيَقْرَأَ فِي الأُولى بَعْدَ الفَاتِحَةِ سُورَةَ قَافٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ. هَكَذَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَالهُ جُمْهُورُ الأَصْحَابِ. وَحَكَى المُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ وَجْهًا لبَعْضِ الأَصْحَابِ يُسْتَحَبُّ فِي الأُولى قَافٌ وَفِي الثَّانِيَةِ {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً}1، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهِمَا مَا يَقْرَأُ فِي العِيدِ. قَال: وَإِنْ قَرَأَ {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً} كَانَ حَسَنًا. هَذَا نَصُّهُ فِي الأُمِّ: وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الأَصْحَابِ عَنْ نَصِّهِ. قَال الرَّافِعِيُّ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لا خِلافَ فِي المَسْأَلةِ، وَأَنَّ كُلًّا سَائِغٌ، قَال: وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: فِي الأَفْضَل خِلافُ الأَصَحِّ أَنَّهُ يَقْرَأُ مَا يَقْرَأُ فِي العِيدِ قُلت اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا المُصَنِّفُونَ عَلى أَنَّ الأَفْضَل أَنْ يَقْرَأَ مَا يَقْرَأُ فِي العِيدِ. وَأَمَّا قَوْل صَاحِبِ الحَاوِي قَال أَصْحَابُنَا: لوْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ "إنَّا أَرْسَلنَا نُوحًا"كَانَ حَسَنًا فَلا يُخَالفُ مَا ذَكَرْنَاهُ لأَنَّهُ بِلفْظِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. وَمَعْنَى قَوْلهِ: إنَّهُ كَانَ حَسَنًا. أَنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ لا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَليْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَفْضَل مِنْ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ.
قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ: لوْ حَذَفَ التَّكْبِيرَاتِ أَوْ زَادَ فِيهِنَّ أَوْ نَقَصَ مِنْهُنَّ صَحَّتْ صَلاتُهُ وَلا يَسْجُدُ للسَّهْوِ، وَلوْ أَدْرَكَهُ مَسْبُوقٌ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرَاتِ الزَّائِدَةِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهَا، فَهَل يَقْضِي المَأْمُومُ التَّكْبِيرَاتِ؟ فِيهِ القَوْلانِ السَّابِقَانِ فِي صَلاةِ العِيدِ، الصَّحِيحُ الجَدِيدُ لا يَقْضِي، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالأَصْحَابُ، وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: حُكْمُ التَّكْبِيرَاتِ هُنَا عَلى مَا سَبَقَ فِي تَكْبِيرَاتِ صَلاةِ العِيدِ وِفَاقًا وَخِلافًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الآية الأولى من صورة نوح.

فرع: فِي وَقْتِ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ
 أحدها: وَقْتُهَا وَقْتُ صَلاةِ العِيدِ، وَبِهَذَا قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسْفَرايِينِيّ وَصَاحِبُهُ المَحَامِليُّ فِي كُتُبِهِ الثَّلاثَةِ، المَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ وَالمُقْنِعِ، وَأَبُو عَليٍّ السِّنْجِيُّ وَالبَغَوِيُّ، وَقَدْ يُسْتَدَل لهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ وَلكِنَّهُ ضَعِيفٌ.
والوجه الثاني: أَوَّل وَقْتِ صَلاةِ العِيدِ وَيَمْتَدُّ إلى أَنْ يُصَليَ العَصْرَ وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ البَنْدَنِيجِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ.
والثالث: وَهُوَ الصَّحِيحُ بَل الصَّوَابُ أَنَّهَا لا تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ بَل تَجُوزُ وَتَصِحُّ فِي كُل وَقْتٍ مِنْ ليْلٍ وَنَهَارٍ، إلا أَوْقَاتَ الكَرَاهَةِ عَلى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. وَهَذَا هُوَ المَنْصُوصُ للشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ وَصَحَّحَهُ المُحَقِّقُونَ، مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ صَاحِبَا الحَاوِي وَالشَّامِل وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَآخَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي المُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ، وَنَقَلهُ صَاحِبُ الشَّامِل وَصَاحِبُ جَمْعِ الجَوَامِعِ فِي نُصُوصِ

 

ج / 5 ص -57-         الشَّافِعِيِّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَصْوَبَهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَقَال: لمْ أَرَ التَّخْصِيصَ بِوَقْتٍ لغَيْرِ الشَّيْخِ أَبِي عَليٍّ السِّنْجِيِّ، وَاسْتَدَلوا لهُ بِأَنَّهَا لا تَخْتَصُّ بِيَوْمٍ فَلا تَخْتَصُّ كَصَلاةِ الاسْتِخَارَةِ وَرَكْعَتَيْ الإِحْرَامِ وَغَيْرِهِمَا، وَليْسَ لتَخْصِيصِهَا بِوَقْتِ صَلاةِ العِيدِ وَجْهٌ أَصْلًا فَلا يُغْتَرُّ بِوُجُودِهِ فِي الكُتُبِ التِي أَضَافَتْهُ إليْهَا، فَإِنَّهُ مُخَالفٌ للدَّليل وَلنَصِّ الشَّافِعِيِّ وَلأَكْثَرِ الأَصْحَابِ.
فَإِنْ قِيل: فَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ فِي آخِرِ بَابِ "كَيْفَ صَلاةُ الاسْتِسْقَاءِ قَبْل الزَّوَال؟ "يُصَليهَا بَعْدَ الظُّهْرِ وَقَبْل العَصْرِ، هَذَا نَصُّهُ، وَظَاهِرُهُ مُخَالفٌ للأَصَحِّ. وَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا لا تَخْتَصُّ بِوَقْتِ صَلاةِ العِيدِ، وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُصَليهَا بَعْدَ الظُّهْرِ وَلا يُصَليهَا بَعْدَ العَصْرِ لأَنَّهُ وَقْتُ كَرَاهَةِ الصَّلاةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ صَلاةَ الاسْتِسْقَاءِ لا تُصَلى فِي وَقْتِ النَّهْيِ عَلى الأَصَحِّ فَنَصُّهُ مُوَافِقٌ للصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّهَا لا تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ أَصْلًا.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ لهَا بَعْدَ الصَّلاةِ، لحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ فِي الخُطْبَةِ الأُولى فَيَقُول:
(اللهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئًا مَرِيئًا، مَرِيعًا غَدَقًا، مُجَللًا طَبَقًا سَحًّا [عَامًّا] دَائِمًا، اللهُمَّ اسْقِنَا الغَيْثَ وَلا تَجْعَلنَا مِنْ القَانِطِينَ، اللهُمَّ إنَّ بِالعِبَادِ وَالبِلادِ مِنْ اللأْوَاءِ وَالجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لا نَشْكُو إلا إليْك، اللهُمَّ أَنْبِتْ لنَا الزَّرْعَ وَأَدِرَّ لنَا الضَّرْعَ وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، [وَأَنْبِتْ لنَا مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ]1 اللهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الجَهْدَ وَالجُوعَ وَالعُرْيَ وَاكْشِفْ عَنَّا [مِنْ البَلاءِ] مَا لا يَكْشِفُهُ غَيْرُك، اللهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُك إنَّك كُنْتَ غَفَّارًا، فَأَرْسِل السَّمَاءَ عَليْنَا مِدْرَارًا) وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِل القِبْلةَ فِي أَثْنَاءِ الخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ وَيُحَوِّل مَا عَلى الأَيْمَنِ إلى الأَيْسَرِ، وَمَا عَلى الأَيْسَرِ إلى الأَيْمَنِ، لمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ "أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلى المُصَلى يَسْتَسْقِي فَاسْتَقْبَل القِبْلةَ وَدَعَا وَحَوَّل رِدَاءَهُ، وَجَعَل الأَيْمَنَ عَلى الأَيْسَرِ وَالأَيْسَرَ عَلى الأَيْمَنِ"فَإِنْ كَانَ الرِّدَاءُ مُرَبَّعًا نَكَسَهُ فَجَعَل أَعْلاهُ أَسْفَلهُ وَأَسْفَلهُ أَعْلاهُ، وَإِنْ كَانَ مُدَوَّرًا اقْتَصَرَ عَلى التَّحْوِيل، لمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى وَعَليْهِ خَمِيصَةٌ لهُ سَوْدَاءُ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِأَسْفَلهَا فَيَجْعَلهُ أَعْلاهَا، فَلمَّا ثَقُلتْ عَليْهِ قَلبَهَا عَلى عَاتِقِهِ"وَيُسْتَحَبُّ للنَّاسِ أَنْ يَفْعَلوا مِثْل ذَلكَ لمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ "أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَوَّل رِدَاءَهُ وَقَلبَهُ ظَهْرًا لبَطْنٍ وَحَوَّل النَّاسُ مَعَهُ"قَال الشَّافِعِيُّ [رحمه الله]: وَإِذَا حَوَّلوا أَرْدِيَتَهُمْ تَرَكُوهَا مُحَوَّلةً ليَنْزِعُوهَا مَعَ الثِّيَابِ لأَنَّهُ لمْ يُنْقَل أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَيَّرَهَا بَعْدَ التَّحْوِيل، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ فِي الخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ سِرًّا ليَجْمَعَ فِي الدُّعَاءِ بَيْنَ الجَهْرِ وَالإِسْرَارِ ليَكُونَ أَبْلغَ، وَلهَذَا قَال اللهُ تَعَالى {إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً}[نوح:9] وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ اليَدَ فِي الدُّعَاءِ، لمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الدُّعَاءِ إلا عِنْدَ الاسْتِسْقَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبِطَيْهِ"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الاسْتِغْفَارِ وَمِنْ قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}[نوح: 10-11] لمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه خَرَجَ يَسْتَسْقِي فَصَعِدَ المِنْبَرَ فَقَال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين ساقط من ش و ق (ط).

 

ج / 5 ص -58-         وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}[نوح: 10-12]. اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، ثُمَّ نَزَل فَقِيل لهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لوْ اسْتَسْقَيْت؟ فَقَال طَلبْتُ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ التِي يُسْتَنْزَل بِهَا القَطْرُ".
 الشرح: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ فِي صَحِيحَيْ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ إلى قَوْلهِ (وَحَوَّل رِدَاءَهُ)، وَأَمَّا تَمَامُهُ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَحَدِيثُهُ الآخَرُ حَدِيثُ الخَمِيصَةِ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ أَوْ حَسَنَةٍ. قَال الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ: هُوَ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ وَحَدِيثُهُ الآخَرُ. وَقَوْلهُ "وَحَوَّل النَّاسُ مَعَهُ "رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُمَرَ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ.
وَأَمَّا قَوْلهُ
"اللهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا "إلى آخِرِهِ فَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَمُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ عَنْ سَالمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إذَا اسْتَسْقَى قَالهُ إلى آخِرِهِ، وَقَوْلهُ "اللهُمَّ اسْقِنَا "يَجُوزُ وَصْل الهَمْزَةِ وَقَطْعُهَا كَمَا سَبَقَ وَقَوْلهُ "غَيْثًا "هُوَ المَطَرُ قَوْلهُ "مُغِيثًا "بِضَمِّ المِيمِ وَكَسْرِ الغَيْنِ، وَهُوَ الذِي يُغِيثُ الخَلقَ فَيَرْوِيهِمْ وَيُشْبِعُهُمْ. قَالهُ الأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَال غَيْرُهُ: مُنْقِذًا لنَا مِمَّا اسْتَسْقَيْنَا مِنْهُ، قَال أَهْل اللغَةِ: يُقَال: غَاثَ الغَيْثُ الأَرْضَ أَيْ أَصَابَهَا، وَغَاثَ اللهُ البِلادَ أَيْ أَصَابَهَا بِهِ، يَغِيثُهَا بِفَتْحِ اليَاءِ غَيْثًا، وَغِيثَتْ الأَرْضُ تُغَاثُ غَيْثًا فَهِيَ مَغِيثَةٌ وَمَغُوثَةٌ، هَذَا هُوَ المَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللغَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَال: غَاثَ اللهُ النَّاسَ وَالأَرْضَ يَغِيثُهُمْ بِفَتْحِ اليَاءِ ثُلاثِيٌّ، أَيْ أَنْزَل المَطَرَ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال فِي الاسْتِسْقَاءِ "اللهُمَّ أَغِثْنَا "بِالأَلفِ رُبَاعِيٌّ. قَال القَاضِي عِيَاضٌ: قَال بَعْضُهُمْ هَذَا المَذْكُورُ فِي الحَدِيثِ هُوَ مِنْ الإِغَاثَةِ. بِمَعْنَى المَعُونَةِ. وَليْسَ مِنْ طَلبِ الغَيْثِ، إنَّمَا يُقَال فِي طَلبِ الغَيْثِ غِثْنَا. قَال القَاضِي: وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مِنْ طَلبِ الغَيْثِ، أَيْ هَبْ لنَا غَيْثًا أَوْ اُرْزُقْنَا غَيْثًا كَمَا يُقَال: سَقَاهُ اللهُ وَأَسْقَاهُ، أَيْ جَعَل لهُ سَقْيًا عَلى لغَةِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قَوْلهُ "هَنِيئًا "هُوَ الذِي لا ضَرَرَ فِيهِ وَلا تَعَبَ، وَقِيل، هُوَ الطَّيِّبُ الذِي لا يَنْقُصُهُ شَيْءٌ، قَوْلهُ "مَرِيئًا "مَهْمُوزٌ هُوَ المَحْمُودُ العَاقِبَةِ مُسَمِّنًا للحَيَوَانِ مُنَمِّيًا لهُ. قَوْلهُ "مَرِيعًا "ضَبَطْنَاهُ فِي المُهَذَّبِ بِفَتْحِ المِيمَ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتُ سَاكِنَةٌ وَهُوَ مِنْ المَرَاعَةِ وَهِيَ الخِصْبُ، قَال الأَزْهَرِيُّ: المَرِيعُ ذُو المَرَاعَةِ، وَأَمْرَعَتْ الأَرْضُ أَخْصَبَتْ، وَقِيل: المَرِيعُ الذِي يُمْرِعُ الأَرْضَ أَيْ تُنْبِتُ عَليْهِ، وَرَوَى مُرْبِعًا بِضَمِّ المِيمِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَكَسْرِ البَاءِ المُوَحَّدَةِ. وَرُوِيَ: مُرْتِعًا مِثْلهُ إلا أَنَّهُ بِالتَّاءِ المُثَنَّاةِ فَوْقُ، وَهُمَا بِمَعْنَى الأَوَّل. قَوْلهُ "غَدَقًا "هُوَ بِفَتْحِ الدَّال. قَال الأَزْهَرِيُّ: هُوَ الكَثِيرُ المَاءِ وَالخَيْرِ، وَقِيل: الذِي قَطْرُهُ كِبَارٌ. قَوْلهُ "مُجَللًا "فَهُوَ بِكَسْرِ اللامِ. قَال الأَزْهَرِيُّ: هُوَ الذِي يُجَلل البِلادَ وَالعِبَادَ نَفْعُهُ وَيَتَغَشَّاهُمْ خَيْرُهُ، وَقَال غَيْرُهُ: يُجَلل الأَرْضَ أَنْ يَعُمَّهَا، كَجُل الفَرَسِ. قَوْلهُ "طَبَقًا بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالبَاءِ. قَال الأَزْهَرِيُّ: وَهُوَ الذِي يُطْبِقُ البِلادَ مَطَرُهُ فَيَصِيرُ كَالطَّبَقِ عَليْهَا، وَفِيهِ مُبَالغَةٌ، وَوَقَعَ فِي هَذَا الحَدِيثِ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ وَالمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ عَامًّا. قَالوا بَدَأَ بِالعَامِّ ثُمَّ أَتْبَعَهُ الطَّبَقَ لأَنَّهُ صِفَةُ زِيَادَةٍ فِي العَامِّ فَقَدْ يَكُونُ عَامًّا وَهُوَ طَلٌّ يَسِيرٌ.
قَوْله "سَحًّا "هُوَ شَدِيدُ الوَقْعِ عَلى الأَرْضِ، يُقَال سَحَّ المَاءُ يَسُحُّ - بِضَمِّ السِّينِ فِي المُضَارِعِ - إذَا

 

ج / 5 ص -59-         سَال مِنْ فَوْقُ إلى أَسْفَل، وَسَاحَ يَسِيحُ إذَا جَرَى عَلى وَجْهِ الأَرْضِ وَالقُنُوطُ اليَأْسُ، "اللأْوَاءُ "بِالهَمْزِ وَالمَدِّ شِدَّةُ المَجَاعَةِ، قَالهُ الأَزْهَرِيُّ (الجَهْدُ) بِفَتْحِ الجِيمِ وَقِيل يَجُوزُ ضَمُّهَا: قِلةُ الخَيْرِ وَالهُزَال وَسُوءُ الحَال، وَأَرْض جِهَادٌ أَيْ لا تُنْبِتُ شَيْئًا الضَّنْكُ: الضِّيقُ (مَا لا نَشْكُو إلا إليْك) بِالنُّونِ (وَبَرَكَاتُ السَّمَاءِ) كَثْرَةُ مَطَرِهَا مَعَ الرِّيعِ وَالنَّمَاءِ (وَبَرَكَاتُ الأَرْضِ) مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ وَمَرْعًى، وَلمْ يَذْكُرْ المُصَنِّفُ هُنَا بَرَكَاتِ الأَرْضِ1، وَذَكَرَهُ فِي التَّنْبِيهِ، وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ، وَهُوَ فِي الحَدِيثِ المَذْكُورِ.
قَوْلهُ:
"فَأَرْسِل السَّمَاءَ عَليْنَا مِدْرَارًا" كَذَا وَقَعَ فِي المُهَذَّبِ وَفِي الحَدِيثِ وَفِي التَّنْبِيهِ وَسَائِرِ كُتُبِ الأَصْحَابِ: فَأَرْسِل. قَال الأَزْهَرِيُّ وَالسَّمَاءُ هُنَا السَّحَابُ وَجَمْعُهَا سُمِيٌّ وَأَسْمِيَةٌ، وَقَال الزَّمَخْشَرِيُ فِي تَفْسِيرِهِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِالسَّمَاءِ هُنَا المَطَرَ أَوْ السَّحَابَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّمَاءَ المُظِلةَ، لأَنَّ المَطَرَ يَنْزِل مِنْهَا إلى السَّحَابِ2، وَالمِدْرَارُ الكَثِيرُ الدَّرِّ وَالقَطْرِ، قَالهُ الأَزْهَرِيُّ، وَقِيل مَعْنَاهُ غَيْثًا مُغِيثًا. قَوْلهُ (فَإِنْ كَانَ الرِّدَاءُ مُرَبَّعًا نَكَسَهُ) هُوَ بِتَخْفِيفِ الكَافِ، هَذِهِ اللغَةُ المَشْهُورَةُ وَيَجُوزُ بِتَشْدِيدِهَا، وَمِنْ الأَوَّل قوله تعالى {نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ}[السجدة: من الآية12] وَقُرِئَ قوله تعالى {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ}[يّس: من الآية68] بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، وَالخَمِيصَةُ كِسَاءٌ أَسْوَدُ لهُ عَلمَانِ فِي طَرَفَيْهِ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ أَهْل الحِجَازِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: كِسَاءٌ مُرَبَّعٌ، وَقَال الأَصْمَعِيُّ: كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ وَخَزٍّ، وَقِيل: كِسَاءٌ رَقِيقٌ أَصْفَرُ أَوْ أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ وَهَذَا يُوَافِقُ مُقْتَضَى هَذَا الحَدِيثِ، فَإِنَّ قَوْلهُ: خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ يَقْتَضِي أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ غَيْرَ سَوْدَاءَ. وَقَوْلهُ (بِمَجَادِيحِ) وَاحِدُهَا مِجْدَحٌ بِكَسْرِ المِيمِ وَإِسْكَانِ الجِيمِ وَفَتْحِ الدَّال وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: يَجُوزُ كَسْرُ المِيمِ وَضَمُّهَا، قَال أَهْل اللغَةِ: المِجْدَحُ كُل نَجْمٍ كَانَتْ العَرَبُ تَقُول يُمْطَرُ بِهِ، فَأَخْبَرَ عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ الاسْتِغْفَارَ هُوَ المَجَادِيحُ الحَقِيقِيَّةُ التِي يُسْتَنْزَل بِهَا القَطْرُ لا الأَنْوَاءُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ التَّشْبِيهَ، وَقِيل: مَجَادِيحُهَا مَفَاتِيحُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ بِمَفَاتِيحِ السَّمَاءِ.
وَقَوْلهُ (كَانَ لا يَرْفَعُ يَدَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الدُّعَاءِ إلا عِنْدَ الاسْتِسْقَاءِ) وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي أَحَدِهِمَا
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ"وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثِينَ حَدِيثًا سَبَقَ ذِكْرُ أَكْثَرِهَا فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلاةِ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ. وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيل حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا، وَفِيهِ تَأْوِيلانِ مَشْهُورَانِ أحدهما: أَنَّ مُرَادَ أَنَسٍ لمْ أَرَهُ يَرْفَعُ، وَقَدْ رَآهُ غَيْرُهُ يَرْفَعُ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولةٌ وَالإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلى النَّفْيِ والثاني: مَعْنَاهُ لمْ يَرْفَعْ كَمَا يَرْفَعُ فِي الاسْتِسْقَاءِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ فِيهِ رَفْعًا بَليغًا، وَفِي صَحِيحِ، مُسْلمٍ "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ بِظُهُورِ كَفَّيْهِ إلى السَّمَاءِ"وَاَللهُ أَعْلمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في بعض نسخ المهذب (بركات الأرض) وقد أثبتناه بين معقوفين نقلا من نسخة الركبي. (ط).
2 المطر من السحاب وليس المطر شيئا ينزل إلى السحاب وإنما هو نتيجة أبخرة تثور من الأرض فتصير سحابا وتسوقها الرياح وتلقحها لقوله تعالى:
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} وقد ثبت أن الرياح تلقح السحاب بدرات تنقلها إليه فتذيبه (ط).

 

ج / 5 ص -60-         أَمَّا الأَحْكَامُ: فَقَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ خُطْبَتَيْنِ أَرْكَانُهُمَا وَشُرُوطُهُمَا وَهَيْئَاتُهُمَا كَمَا سَبَقَ فِي العِيدِ، وَفِي اسْتِحْبَابِ الجُلوسِ إذَا صَعِدَ المِنْبَرَ الوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي العِيدِ، وَالصَّحِيحُ المَنْصُوصُ اسْتِحْبَابُهُ، لكِنْ يُخَالفُهَا فِي ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ أحدها: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُبْدِل التَّكْبِيرَاتِ المَشْرُوعَةَ فِي أَوَّل خُطْبَتَيْ العِيدِ بِالاسْتِغْفَارِ، فَيَسْتَغْفِرَ اللهَ تَعَالى فِي افْتِتَاحِ الأُولى تِسْعَ مَرَّاتٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعًا وَلا يُكَبِّرَ. قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَقُول "أَسْتَغْفِرُ اللهَ الذِي لا إلهَ إلا هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وَأَتُوبُ إليْهِ "وَيَخْتِمُ كَلامَهُ بِالاسْتِغْفَارِ وَيُكْثِرُ مِنْهُ فِي الخُطْبَةِ وَمِنْ قوله تعالى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}[نوح: 10] الآية.
وَذَكَرَ المَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي افْتِتَاحِ الخُطْبَةِ كَمَا فِي خُطْبَةِ العِيدِ وَحَكَاهُ عَنْهُ أَيْضًا صَاحِبُ البَيَانِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ فَإِنَّهُ قَال: وَيَخْطُبُ الإِمَامُ فِي الاسْتِسْقَاءِ خُطْبَتَيْنِ كَمَا يَخْطُبُ فِي صَلاةِ العِيدَيْنِ، يُكَبِّرُ اللهَ فِيهِمَا وَيَحْمَدُهُ، وَيُصَلي عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُكْثِرُ فِيهِمَا الاسْتِغْفَارَ، حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ كَلامِهِ. هَذَا نَصُّهُ. وَمُقْتَضَى إطْلاقِ المُصَنِّفِ أَنَّهُ لا يَأْتِي بِالاسْتِغْفَارِ، وَالمَشْهُورُ اسْتِحْبَابُ الاسْتِغْفَارِ تِسْعًا فِي افْتِتَاحِ الخُطْبَةِ الأُولى، وَسَبْعًا فِي الثَّانِيَةِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِمْ.
والثاني: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ فِي الخُطْبَةِ الأُولى بِهَذَا الدُّعَاءِ المَذْكُورِ فِي الكِتَابِ وَإِنْ عَدَل إلى دُعَاءٍ غَيْرِهِ جَازَ، لكِنَّ هَذَا أَفْضَل، وَمِنْ الدُّعَاءِ المُسْتَحَبِّ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"اللهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ، اللهُمَّ اسْقِ عِبَادَك وَبَهَائِمَك، وَانْشُرْ رَحْمَتَك وَأَحْيِ بَلدَك المَيِّتَ، اللهُمَّ أَنْتَ اللهُ لا إلهَ إلا أَنْتَ الغَنِيُّ وَنَحْنُ الفُقَرَاءُ، أَنْزِل عَليْنَا الغَيْثَ، وَاجْعَل مَا أَنْزَلتَ لنَا قُوَّةً وَبَلاغًا إلى حِينٍ".
الثَّالثُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي الخُطْبَةِ الأُولى وَصَدْرِ الثَّانِيَةِ مُسْتَقْبِل النَّاسِ مُسْتَدْبِرَ القِبْلةِ، ثُمَّ مُسْتَقْبِل القِبْلةِ وَيُبَالغُ فِي الدُّعَاءِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَإِذَا أَسَرَّ دَعَا النَّاسُ سِرًّا، وَإِذَا جَهَرَ أَمَّنُوا، وَيَرْفَعُونَ كُلهُمْ أَيْدِيَهُمْ فِي الدُّعَاءِ، وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إلى السَّمَاءِ"قَال الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: قَال العُلمَاءُ: السُّنَّةُ لكُل مَنْ دَعَا لدَفْعِ بَلاءٍ أَنْ يَجْعَل ظَهْرَ كَفَّيْهِ إلى السَّمَاءِ، وَإِنْ دَعَا لطَلبِ شَيْءٍ جَعَل بَطْنَ كَفَّيْهِ إلى السَّمَاءِ.
قَال الشَّافِعِيُّ: وَليَكُنْ مِنْ دُعَائِهِمْ فِي هَذِهِ الحَالةِ "اللهُمَّ أَنْتَ أَمَرْتَنَا بِدُعَائِك، وَوَعَدْتَنَا إجَابَتَك، وَقَدْ دَعَوْنَاك كَمَا أَمَرْتَنَا فَأَجِبْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا، اللهُمَّ اُمْنُنْ عَليْنَا بِمَغْفِرَةِ مَا قَارَفْنَا، وَإِجَابَتِك فِي سُقْيَانَا، وَسَعَةِ رِزْقِنَا "فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الدُّعَاءِ أَقْبَل بِوَجْهِهِ عَلى النَّاسِ وَحَثَّهُمْ عَلى طَاعَةِ اللهِ تَعَالى، وَصَلى عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا للمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، وَقَرَأَ آيَةً مِنْ القُرْآنِ أَوْ آيَتَيْنِ، وَيَقُول: أَسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَلكُمْ. هَذَا لفْظُ الشَّافِعِيِّ. قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَيُكْثِرُ مِنْ الاسْتِغْفَارِ وَمَنْ قَوْل
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}.

 

ج / 5 ص -61-         قَال الشَّافِعِيُّ: وَيُكْثِرُ الاسْتِغْفَارَ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ كَلامِهِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ اسْتَسْقَى "فَكَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ الاسْتِغْفَارَ "قَال الشَّافِعِيُّ: فَيَكُونُ أَكْثَرُ دُعَائِهِ الاسْتِغْفَارَ يَبْدَأُ بِهِ دُعَاءَهُ، وَيَفْصِل بِهِ بَيْنَ كَلامِهِ، وَيَخْتِمُ بِهِ وَيَكُونُ هُوَ أَكْثَرَ كَلامِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الكَلامُ.
قُلت: وَيُكْثِرُ مِنْ دُعَاءِ الكَرْبِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولهُ عِنْدَ الكَرْبِ لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ، رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ، رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ"وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا (اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) لحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ فِيهِ، وَيُسْتَحَبُّ للإِمَامِ عِنْدَ تَحَوُّلهِ فِي صَدْرِ الخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ إلى القِبْلةِ أَنْ يُحَوِّل رِدَاءَهُ للأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ، وَهَل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْكُسَهُ مَعَ التَّحْوِيل؟ قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: إنْ كَانَ مُدَوَّرًا  وَيُقَال لهُ المُقَوَّرُ وَالمُثَلثُ لمْ يُسْتَحَبَّ، بَل يَقْتَصِرُ عَلى التَّحْوِيل بِالاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُرَبَّعًا فَفِيهِ قَوْلانِ حَكَاهُمَا الخُرَاسَانِيُّونَ (الجَدِيدُ الصَّحِيحُ) وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَآخَرُونَ: يُسْتَحَبُّ نَكْسُهُ، نَصَّ عَليْهِ فِي الأُمِّ وَغَيْرِهِ، وَالقَدِيمُ لا يُسْتَحَبُّ، وَدَليل الجَمِيعِ يُعْرَفُ مِمَّا سَبَقَ
قَال الأَصْحَابُ: التَّحْوِيل أَنْ يَجْعَل مَا عَلى عَاتِقِهِ الأَيْمَنِ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ وَبِالعَكْسِ، وَالنَّكْسُ أَنْ يَجْعَل أَعْلاهُ أَسْفَلهُ، وَمَتَى جَعَل الطَّرَفَ الأَسْفَل الذِي عَلى شِقِّهِ الأَيْسَرِ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْمَنِ، وَالطَّرَفَ الأَسْفَل الذِي عَلى شِقِّهِ الأَيْمَنِ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ، حَصَل التَّحْوِيل وَالنَّكْسُ جَمِيعًا. قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَيَتْرُكُونَهَا مُحَوَّلةً حَتَّى يَنْزِعُوا الثِّيَابَ، وَقَال جَمَاعَةٌ: يَتْرُكُونَهَا مُحَوَّلةً حَتَّى يَرْجِعُوا إلى مَنَازِلهِمْ، وَليْسَ هَذَا اخْتِلافًا، بَل يُسْتَحَبُّ تَرْكُهَا مُحَوَّلةً حَتَّى يَرْجِعُوا إلى مَنَازِلهِمْ، وَتَبْقَى كَذَلكَ فِي مَنَازِلهِمْ حَتَّى يَنْزِعُوا ثِيَابَهُمْ تِلكَ، سَوَاءٌ نَزَعُوهَا أَوَّل وُصُولهِمْ المَنَازِل أَمْ بَعْدَهُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"قَال فِي الأُمِّ: فَإِنْ صَلوْا وَلمْ يُسْقَوْا عَادُوا مِنْ الغَدِ، وَصَلوْا وَاسْتَسْقَوْا وَإِنْ سُقُوا قَبْل أَنْ يُصَلوا صَلوْا شُكْرًا [للهِ] وَطَلبًا للزِّيَادَةِ".
 الشرح: فِي هَذَا مَسْأَلتَانِ إحْدَاهُمَا: قَال أَصْحَابُنَا: إذَا اسْتَسْقَوْا بِالصَّلاةِ فَسُقُوا لمْ يُشْرَعْ صَلاةٌ ثَانِيَةٌ، وَإِنْ لمْ يُسْقَوْا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَسْتَسْقُوا ثَانِيًا وَثَالثًا وَأَكْثَرَ حَتَّى يُسْقَوْا، وَهَل يَخْرُجُونَ مِنْ الغَدِ للاسْتِسْقَاءِ؟ أَمْ يَتَأَهَّبُونَ بِالصِّيَامِ وَغَيْرِهِ مَرَّةً أُخْرَى؟ فِيهِ للشَّافِعِيِّ نَصَّانِ أحدهما: نَصَّ عَليْهِ فِي مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ وَالبُوَيْطِيِّ: يَخْرُجُونَ مِنْ الغَدِ، وَيُصَلونَ وَيَسْتَسْقُونَ. وَقَال فِي القَدِيمِ وَالأُمِّ: يَأْمُرُهُمْ الإِمَامُ بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أُخَرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ إلى الاسْتِسْقَاءِ، وَلفْظُهُ فِي الأُمِّ: وَأُحِبُّ كُلمَا أَرَادَ الإِمَامُ العَوْدَ إلى الاسْتِسْقَاءِ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يَصُومُوا قَبْل عَوْدِهِ ثَلاثًا، هَذَا نَصُّهُ فِي الأُمِّ ذَكَرَهُ فِي بَابِ كَيْفَ يَبْتَدِئُ الاسْتِسْقَاءَ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَليْهِ لأَنَّ الأَكْثَرِينَ يُضِيفُونَ هَذَا النَّصَّ إلى القَدِيمِ فَقَطْ. فَهَذَا كَلامُ الشَّافِعِيِّ.
وَللأَصْحَابِ فِيهِ ثَلاثَةُ طُرُقٍ
أحدها: نَقَلهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ وَآخَرُونَ عَنْ أَبِي الحُسَيْنِ بْنِ القَطَّانِ فِي المَسْأَلةِ قَوْلانِ أصحهما: وَهُوَ الجَدِيدُ: يَخْرُجُونَ مِنْ الغَدِ والثاني: يَتَأَهَّبُونَ بِالصِّيَامِ

 

ج / 5 ص -62-         ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَغَيْرَهُ. والطريق الثاني أَنَّ المَسْأَلةَ عَلى حَاليْنِ، فَإِنْ لمْ يَشُقَّ عَلى النَّاسِ الخُرُوجُ مِنْ الغَدِ وَلمْ يَنْقَطِعُوا عَنْ مَعَايِشِهِمْ خَرَجَ مِنْ الغَدِ، وَإِلا أَخَّرَهُ وَتَأَهَّبُوا، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسْفَرايِينِيّ وَالمَحَامِليُّ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ، وَنَقَلهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَالي عَنْ الأَصْحَابِ مُطْلقًا.
وَالطَّرِيقُ الثَّالثُ: نَقَلهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ عَنْ عَامَّةِ الأَصْحَابِ أَنَّ المَسْأَلةَ عَلى قَوْلٍ وَاحِدٍ، نَقَل المُزَنِيّ الجَوَازَ، وَالقَدِيمُ الاسْتِحْبَابُ.
وَاعْلمْ:أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَجَمَاهِيرَ الأَصْحَابِ قَطَعُوا بِاسْتِحْبَابِ الاسْتِسْقَاءِ ثَانِيَةً وَثَالثَةً وَأَكْثَرَ حَتَّى يُسْقَوْا، لكِنْ قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ. الاسْتِحْبَابُ فِي المَرَّةِ الأُولى آكَدُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُمْ لا يَفْعَلونَ ذَلكَ إلا مَرَّةً، وَهَذَا الوَجْهُ غَلطٌ مُخَالفٌ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ، وَالدَّليل.
واعلم:أَنَّ ابْنَ القَطَّانِ قَال: ليْسَ فِي بَابِ الاسْتِسْقَاءِ مَسْأَلةٌ فِيهَا قَوْلانِ غَيْرُ هَذِهِ، وَأَنْكَرَ عَليْهِ الأَصْحَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: مَا قَالهُ الجُمْهُورُ أَنَّ هَذِهِ المَسْأَلةَ ليْسَتْ عَلى قَوْليْنِ، بَل عَلى حَاليْنِ كَمَا سَبَقَ والثاني: أَنَّ للشَّافِعِيِّ قَوْليْنِ فِي مَسْأَلةِ تَحْوِيل الرِّدَاءِ كَمَا سَبَقَ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
المسألة الثانية: إذَا تَأَهَّبُوا للصَّلاةِ وَالاسْتِسْقَاءِ فَسُقُوا قَبْل ذَلكَ اُسْتُحِبَّ لهُمْ الخُرُوجُ إلى مَوْضِعِ الاسْتِسْقَاءِ للوَعْظِ وَالدُّعَاءِ وَالشُّكْرِ بِلا خِلافٍ. وَأَمَّا الصَّلاةُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ كَمَا ذَكَرَ المُصَنِّفُ أَنَّهُمْ يُصَلونَ شُكْرًا للهِ تَعَالى عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَطَلبًا للزِّيَادَةِ، قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: سَوَاءٌ سُقُوا قَليلًا أَوْ كَثِيرًا، وَتَكُونُ هَذِهِ الصَّلاةُ بِصِفَةِ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ، وَذَكَرَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ فِي اسْتِحْبَابِ الصَّلاةِ وَجْهَيْنِ أصحهما: الاسْتِحْبَابُ والثاني: لا، قَال الرَّافِعِيُّ: وَأُجْرِيَ الوَجْهَانِ: فِيمَا إذَا لمْ تَنْقَطِعْ المِيَاهُ، وَأَرَادُوا الصَّلاةَ للاسْتِزَادَةِ وَالصَّوَابُ الجَزْمُ بِالصَّلاةِ كَمَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ. وَلا تَغْتَرَّ بِمَا وَقَعَ فِي كَلامِ بَعْضِ المُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَنَّ الأَشْهَرَ تَرْكُ الصَّلاةِ فَإِنَّهُ غَلطٌ فَاحِشٌ، وَسَبْقُ قَلمٍ أَوْ غَبَاوَةٌ، وَإِلا فَكُتُبُ الأَصْحَابِ مُتَظَاهِرَةٌ عَلى اسْتِحْبَابِ الصَّلاةِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالمَحَامِليُّ فِي كُتُبِهِ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسُليْمٌ الرَّازِيّ وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَالبَغَوِيُّ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ فِي كُتُبِهِ وَخَلائِقُ لا يُحْصَوْنَ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: فَلوْ كَانُوا يُمْطَرُونَ فِي الوَقْتِ الذِي يُرِيدُ الخُرُوجَ بِهِمْ فِيهِ اسْتَسْقَى فِي المَسْجِدِ أَوْ أَخَّرَ ذَلكَ إلى انْقِطَاعِ المَطَرِ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجُوزُ الاسْتِسْقَاءُ بِالدُّعَاءِ مِنْ غَيْرِ صَلاةٍ، لحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه وَيُسْتَحَبُّ لأَهْل الخِصْبِ أَنْ يَدْعُوا لأَهْل الجَدْبِ، وَيُسْتَحَبُّ إذَا جَاءَ المَطَرُ أَنْ يَقُولوا:
اللهُمَّ صَيِّبًا هَنِيئًا، لمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا رَأَى المَطَرَ قَال ذَلكَ "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَمَطَّرَ لأَوَّل مَطَرٍ، لمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه قَال: "أَصَابَنَا مَطَرٌ وَنَحْنُ مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَحَسَرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَصَابَهُ المَطَرُ، فَقُلنَا يَا رَسُول اللهِ لمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَال: إنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ"وَيُسْتَحَبُّ إذَا سَال الوَادِي أَنْ يَغْتَسِل فِيهِ، وَيَتَوَضَّأَ مِنْهُ لمَا رُوِيَ أَنَّهُ "جَرَى الوَادِي فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اُخْرُجُوا بِنَا إلى هَذَا الذِي سَمَّاهُ اللهُ طَهُورًا حَتَّى نَتَوَضَّأَ مِنْهُ وَنَحْمَدَ اللهَ عَليْهِ"وَيُسْتَحَبُّ لمَنْ سَمِعَ الرَّعْدَ أَنْ يُسَبِّحَ لمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: "كُنَّا مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه

 

ج / 5 ص -63-         فِي سَفَرٍ فَأَصَابَنَا رَعْدٌ وَبَرْقٌ وَبَرَدٌ فَقَال لنَا كَعْبٌ: مَنْ قَال حِينَ يَسْمَعُ الرَّعْدَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ثَلاثًا عُوفِيَ مِنْ ذَلكَ، فَقُلنَا فَعُوفِينَا".
 الشرح: حَدِيثُ عُمَرَ سَبَقَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَحَدِيثُ الوَادِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ ضَعِيفٍ مُرْسَلًا وَالخِصْبُ بِكَسْرِ الخَاءِ، وَالجَدْبُ بِإِسْكَانِ الدَّال المُهْمَلةِ، وَهُوَ القَحْطُ. قَوْلهُ: اللهُمَّ صَيِّبًا، هُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، هَكَذَا صَوَابُهُ وَهَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي المُهَذَّبِ اللهُمَّ صَبًّا بِحَذْفِ المُثَنَّاةِ وَبِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَلكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهٌ، فَالصَّيِّبُ الذِي فِي البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ هُوَ المَطَرُ، قَالهُ البُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَال الوَاحِدِيُّ: الصَّيِّبُ المَطَرُ الشَّدِيدُ مِنْ قَوْلهِمْ: صَابَ يَصُوبُ إذَا نَزَل مِنْ عُلوٍّ إلى أَسْفَل، وَقِيل الصَّيِّبُ السَّحَابُ، وَأَمَّا الذِي فِي المُهَذَّبِ فَمَعْنَاهُ اللهُمَّ صُبَّهُ عَليْنَا صَبًّا، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ لابْنِ مَاجَهْ
"اللهُمَّ سَيْبًا نَافِعًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا "ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ، وَالسَّيْبُ بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ اليَاءِ وَهُوَ العَطَاءُ.
وَقَوْلهُ "يَتَمَطَّرُ "يَتَفَعَّل مِنْ المَطَرِ وَمَعْنَاهُ يَتَطَلبُ وَيَتَحَرَّى نُزُول المَطَرِ عَليْهِ بِبُرُوزِهِ عَليْهِ. وَقَوْلهُ حَسَرَ بِفَتْحِ الحَاءِ وَالسِّينِ المُهْمَلتَيْنِ وَالسِّينُ مُخَفَّفَةٌ أَيْ كَشَفَ وَفِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ حَسَرَ بَعْضَ بَدَنِهِ. وَقَوْلهُ صلى الله عليه وسلم:
"حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ"أَيْ بِتَكْوِينِ رَبِّهِ أَوْ تَنْزِيلهِ، وَالحَدِيثُ القَرِيبُ. وَقَوْلهُ (رَعْدٌ وَبَرْقٌ وَبَرَدٌ) فَالبَرَدُ هُنَا بِفَتْحِ البَاءِ وَالرَّاءِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ لئَلا يُصَحَّفَ بِبَرْدٍ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ.
أما الأحكام: فَفِيمَا ذَكَرَهُ مَسَائِل:
إحداها: يُسْتَحَبُّ الاسْتِسْقَاءُ فِي الدُّعَاءِ مِنْ غَيْرِ صَلاةٍ بِالاتِّفَاقِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّل البَابِ أَنَّ الاسْتِسْقَاءَ ثَلاثَةُ أَضْرُبٍ هَذَا أَحَدُهَا، وَدَليل هَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"اسْتَسْقَى يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلى المِنْبَرِ بِالدُّعَاءِ مِنْ غَيْرِ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، قَال الشَّافِعِيُّ وَكَذَلكَ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ لكُل نَازِلةٍ تَنْزِل بِأَحَدٍ مِنْ المُسْلمِينَ.
الثانية: يُسْتَحَبُّ لأَهْل الخِصْبِ أَنْ يَدْعُوا لأَهْل الجَدْبِ، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ، وَهَكَذَا عِبَارَةُ الأَصْحَابِ: يُسْتَحَبُّ لأَهْل الخِصْبِ أَنْ يَدْعُوا لأَهْل الجَدْبِ، وَلمْ يَتَعَرَّضُوا للصَّلاةِ، وَظَاهِرُ كَلامِهِمْ أَنَّهُ لا تُشْرَعُ الصَّلاةُ. وَقَال فِي الأُمِّ: يَسْتَسْقِي أَهْل الخِصْبِ لأَهْل الجَدْبِ.
الثالثة: السنة أن يدعو عند نزول المطربما سبق من الحديث، وستحب أن يجمع بين روايتي البخاري وابن ماحه فيقول:
"اللهم صيبا هنيا وسيبا نافعا" ويكرره.
الرابعة: السُّنَّةُ أَنْ يَكْشِفَ بَعْضَ بَدَنِهِ ليُصِيبَهُ أَوَّل المَطَرِ للحَدِيثِ السَّابِقِ، وَالمُرَادُ أَوَّل مَطَرٍ يَقَعُ فِي السَّنَةِ، كَذَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَالهُ الأَصْحَابُ. قَال سُليْمٌ الرَّازِيّ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَصَاحِبُ

 

ج / 5 ص -64-         العُدَّةِ: يُسْتَحَبُّ إذَا جَاءَ المَطَرُ فِي أَوَّل السَّنَةِ أَنْ يَخْرُجَ الإِنْسَانُ إليْهِ وَيَكْشِفَ مَا عَدَا عَوْرَتَهُ ليُصِيبَهُ مِنْهُ، وَلفْظُ الشَّافِعِيِّ: فِي أَوَّل قَطْرَةٍ، وَكَذَا لفْظُ المَحَامِليِّ وَصَاحِبِ الشَّامِل وَالبَاقِينَ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَال لغُلامِهِ وَقَدْ مُطِرَتْ السَّمَاءُ "أَخْرِجْ فِرَاشِي وَرَحْلي يُصِيبُهُ المَطَرُ، فَقِيل لهُ: لمَ تَفْعَل هَذَا؟ فَقَال أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ؟ "وَنَزَّلنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا"، فَأُحِبُّ أَنْ تُصِيبَ البَرَكَةُ فِرَاشِي وَرَحْلي".
الخامسة: يُسْتَحَبُّ إذَا سَال الوَادِي أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ وَيَغْتَسِل فَإِنْ لمْ يَجْمَعْهُمَا فَليَتَوَضَّأْ.
السادسة: يُسْتَحَبُّ لسَامِعِ الرَّعْدِ أَنْ يُسَبِّحَ لمَا رَوَى مَالكٌ فِي المُوَطَّأِ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الحَدِيثَ وَقَال:
"سُبْحَانَ الذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ".

فرع: فِي مَسَائِل تَتَعَلقُ بِبَابِ الاسْتِسْقَاءِ
إحداها: ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَخْطُبُ للاسْتِسْقَاءِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَلوْ خَطَبَ قَبْلهَا صَحَّتْ خُطْبَتُهُ وَكَانَ تَارِكًا للأَكْمَل، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَغَيْرُهُ، وَأَشَارَ ابْنُ المُنْذِرِ إلى اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ الخُطْبَةِ، وَحَكَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ، وَحَكَاهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَالليْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَال: وَمَذْهَبُ العُلمَاءِ كَافَّةً سِوَى هَؤُلاءِ: تَقْدِيمُ الصَّلاةِ عَلى الخُطْبَةِ. وَدَليل جَوَازِ تَقْدِيمِ الخُطْبَةِ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ قَال
"خَرَجَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المُصَلى فَاسْتَسْقَى وَحَوَّل رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَل القِبْلةَ، ثُمَّ صَلى رَكْعَتَيْنِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ "شَكَا النَّاسُ إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ المَطَرِ فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لهُ بِالمُصَلى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَخَرَجَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلى المِنْبَرِ. وَذَكَرَتْ الخُطْبَةَ وَالدُّعَاءَ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ فَلمْ يَزَل فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إبِطَيْهِ ثُمَّ حَوَّل إلى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَقَلبَ أَوْ حَوَّل رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَل عَلى النَّاسِ وَنَزَل فَصَلى رَكْعَتَيْنِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: قَال أَصْحَابُنَا: تَقْدِيمُ الخُطْبَةِ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ مَحْمُولٌ عَلى بَيَانِ الجَوَازِ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ.
الثانية: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: إذَا تَرَكَ الإِمَامُ الاسْتِسْقَاءَ لمْ يَتْرُكْهُ النَّاسُ. وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: إذَا كَانَ جَدْبٌ أَوْ قِلةُ مَاءٍ فِي نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ فِي حَاضِرٍ أَوْ بَادٍ مِنْ المُسْلمِينَ لمْ أُحِبَّ للإِمَامِ التَّخَلفَ عَنْ الاسْتِسْقَاءِ، فَإِنْ تَخَلفَ فَقَدْ أَسَاءَ فِي تَخَلفِهِ وَتَرْكِهِ السُّنَّةَ وَلا قَضَاءَ عَليْهِ وَلا كَفَّارَةَ. وَقَال فِي الأُمِّ أَيْضًا: إذَا خَلتْ الأَمْصَارُ مِنْ الوُلاةِ قَدَّمُوا أَحَدَهُمْ للجُمُعَةِ وَالعِيدِ وَالكُسُوفِ وَالاسْتِسْقَاءِ كَمَا قَدَّمَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه حِين ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ليُصْلحَ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَقَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ تَأَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لحَاجَتِهِ، وَكَانَ ذَلكَ فِي الصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ "وَهَذَانِ الحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَال الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا جَازَ ذَلكَ فِي المَكْتُوبَةِ فَغَيْرُهَا أَوْلى.
الثالثة: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ فِي بَابِ المَطَرِ قَبْل الاسْتِسْقَاءِ: لوْ نَذَرَ الإِمَامُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ ثُمَّ

 

ج / 5 ص -65-         سُقِيَ النَّاسُ وَجَبَ عَليْهِ أَنْ يَخْرُجَ فَيُوَفِّيَ نَذْرَهُ، فَإِنْ لمْ يَفْعَل فَعَليْهِ قَضَاؤُهُ، قَال: وَليْسَ عَليْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ لأَنَّهُ لا يَمْلكُهُمْ، وَلا نَذْرَ فِيمَا لا يَمْلكُ ابْنُ آدَمَ، وَليْسَ لهُ أَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلى الاسْتِسْقَاءِ مِنْ غَيْرِ جَدْبٍ، قَال: وَلوْ نَذَرَ رَجُلٌ أَنْ يَخْرُجَ ليَسْتَسْقِيَ كَانَ عَليْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ كَانَ عَليْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِنَفْسِهِ وَلمْ يَكُنْ عَليْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ، قَال: وَأُحِبُّ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ مِنْ وَلدِهِ وَغَيْرِهِمْ. قَال فَإِنْ كَانَ فِي نَذْرِهِ أَنْ يَخْطُبَ خَطَبَ وَذَكَرَ اللهَ تَعَالى، وَلهُ أَنْ يَدْعُوَ جَالسًا لأَنَّهُ ليْسَ فِي قِيَامِهِ - إذَا لمْ يَكُنْ وَاليًا وَلا مَعَهُ جَمَاعَةٌ - بِالذِّكْرِ طَاعَةٌ، قَال: وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَخْطُبَ عَلى مِنْبَرٍ فَلهُ أَنْ يَخْطُبَ جَالسًا، وَليْسَ عَليْهِ أَنْ يَخْطُبَ عَلى مِنْبَرٍ، لأَنَّهُ لا طَاعَةَ فِي رُكُوبِهِ المِنْبَرَ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَذَا الإِمَامُ ليُسْمِعَ النَّاسَ. قَال: فَإِنْ كَانَ إمَامًا وَمَعَهُ نَاسٌ لمْ يَحْصُل الوَفَاءُ بِنَذْرِهِ إلا بِالخُطْبَةِ قَائِمًا لأَنَّ الطَّاعَةَ فِيهَا إذَا كَانَ مَعَهُ نَاسٌ أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا، فَإِذَا وَقَفَ عَلى مِنْبَرٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ قَائِمًا أَجْزَأَهُ عَنْ نَذْرِهِ. قَال وَلوْ نَذَرَ أَنْ يَخْرُجَ وَيَسْتَسْقِيَ أَحْبَبْت لهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فِي المَسْجِدِ، وَلوْ اسْتَسْقَى فِي بَيْتِهِ أَجْزَأَهُ. هَذَا آخِرُ نَصِّهِ.
وَقَال صَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِي هَذَا البَابِ: لوْ نَذَرَ الإِمَامُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لزِمَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ وَيُصَليَ بِهِمْ، قَال: وَلوْ نَذَرَهُ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ لزِمَهُ أَنْ يُصَليَ مُنْفَرِدًا وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِالنَّاسِ لمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ لأَنَّهُمْ لا يُطِيعُونَهُ، قَال: وَلوْ نَذَرَ أَنْ يَخْطُبَ وَهُوَ مِنْ أَهْلهِ لزِمَهُ، وَهَل لهُ أَنْ يَخْطُبَ قَاعِدًا مَعَ القُدْرَةِ؟ فِيهِ خِلافٌ مَبْنِيٌّ عَلى أَنَّ النَّذْرَ يَسْلكُ مَسْلكَ جَائِزِ الشَّرْعِ أَمْ مَسْلكَ وَاجِبِهِ؟.
الرابعة: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَإِذَا كَثُرَتْ الأَمْطَارُ وَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِهِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَدْعُوَ بِرَفْعِهَا: اللهُمَّ حَوَاليْنَا وَلا عَليْنَا. قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالأَصْحَابُ: وَلا يُشْرَعُ لذَلكَ صَلاةٌ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يُصَل لذَلكَ وَدَليل هَذِهِ المَسْأَلةِ حَدِيثُ أَنَسٍ قَال
"دَخَل رَجُلٌ المَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَقَال: يَا رَسُول اللهِ هَلكَتْ الأَمْوَال وَانْقَطَعَتْ السُّبُل فَادْعُ اللهَ يُغِثْنَا، فَرَفَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَال اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا قَال أَنَسٌ: وَاَللهِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلا قَزَعَةٍ وَلا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلعٍ، يَعْنِي الجَبَل المَعْرُوفَ بِقُرْبِ المَدِينَةِ، مِنْ بَيْتٍ وَلا دَارٍ فَطَلعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْل التُّرْسِ، فَلمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلا وَاَللهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا، ثُمَّ دَخَل رَجُلٌ مِنْ ذَلكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلةِ، وَرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَقَال: يَا رَسُول اللهِ هَلكَتْ الأَمْوَال وَانْقَطَعَتْ السُّبُل فَادْعُ اللهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَليْنَا، فَرَفَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فَقَال: اللهُمَّ حَوَاليْنَا وَلا عَليْنَا، اللهُمَّ عَلى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.
وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ فِي التَّنْبِيهِ فِي أَثْنَاءِ دُعَاءِ الاسْتِسْقَاءِ لطَلبِ المَطَرِ: اللهُمَّ حَوَاليْنَا وَلا عَليْنَا، فَمَا أَنْكَرُوهُ عَليْهِ، وَإِنَّمَا يُقَال هَذَا عِنْدَ كَثْرَةِ الأَمْطَارِ وَحُصُول الضَّرَرِ بِهَا، كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الحَدِيثِ وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله.
الخامسة: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَال
"صَلى بِنَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلى إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ الليْل، فَلمَّا انْصَرَفَ أَقْبَل عَلى النَّاسِ فَقَال:

 

ج / 5 ص -66-         هَل تَدْرُونَ مَاذَا قَال رَبُّكُمْ؟ قَالوا: اللهُ وَرَسُولهُ أَعْلمُ قَال: قَال أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ. فَأَمَّا مَنْ قَال: مُطِرْنَا بِفَضْل اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَال: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا فَذَلكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ".
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَأَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ العُلمَاءِ: إنَّمَا قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا لأَنَّهُ كَانَ فِي بِلادِ الكُفَّارِ المُلحِدِينَ فِي دِينِ اللهِ تَعَالى، فَأَخْبَرَ أَنَّ العِبَادَ قِسْمَانِ، قَالوا فَيُسَنُّ أَنْ يَقُول فِي إثْرِ المَطَرِ: مُطِرْنَا بِفَضْل اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنْ قَال: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَأَرَادَ أَنَّ النَّوْءَ هُوَ الفَاعِل حَقِيقَةً وَليْسَ للهِ فِيهِ صُنْعٌ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ خَارِجٌ مِنْ المِلةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ النَّوْءَ وَقْتٌ يُوقِعُ اللهُ المَطَرَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ للنَّوْءِ، وَإِنَّمَا الفِعْل للهِ تَعَالى فَليْسَ بِكَافِرٍ كُفْرَ جُحُودٍ بَل هُوَ لفْظٌ مَكْرُوهٌ وَليْسَ بِحَرَامٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يُطْلقَ عَليْهِ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
السادسة: يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ نُزُول المَطَرِ، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا ضَعِيفًا مُرْسَلًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال
"اُطْلبُوا اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ التِقَاءِ الجُيُوشِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَنُزُول الغَيْثِ".
قَال الشَّافِعِيُّ: وَحَفِظْت عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ طَلبَ الإِجَابَةِ عِنْدَ نُزُول الغَيْثِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ.
السابعة: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: لمْ تَزَل العَرَبُ تَكْرَهُ الإِشَارَةَ إلى البَرْقِ وَالمَطَرِ قَال الشَّافِعِيُّ "أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ أَنَّ مُجَاهِدًا كَانَ يَقُول الرَّعْدُ مَلكٌ وَالبَرْقُ أَجْنِحَتُهُ يَسُقْنَ السَّحَابَ "قَال الشَّافِعِيُّ "مَا أَشْبَهَ مَا قَال مُجَاهِدٌ بِظَاهِرِ القُرْآنِ ".
الثَّامِنَةُ: يُكْرَهُ سَبُّ الرِّيحِ قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: وَلا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَسُبَّ الرِّيَاحَ فَإِنَّهَا خَلقٌ للهِ تَعَالى مُطِيعٌ، وَجُنْدٌ مِنْ أَجْنَادِهِ يَجْعَلهَا رَحْمَةً وَنِقْمَةً إذَا شَاءَ.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُول عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالتْ
"كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا عَصَفَتْ الرِّيحُ قَال: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلك خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلتْ بِهِ"رَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال:
سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: "الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ تَعَالى تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلا تَسُبُّوهَا، وَاسْأَلوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا بِاَللهِ مِنْ شَرِّهَا"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم) مِنْ رَوْحِ اللهِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - قَال العُلمَاءُ مَعْنَاهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ.
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَال قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم
"لا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولوا: اللهُمَّ إنَّا نَسْأَلكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَال وَفِي البَابِ عَنْ عَائِشَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِي وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ.

 

ج / 5 ص -67-         وَعَنْ سَلمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَال "كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اشْتَدَّتْ الرِّيحُ يَقُول: اللهُمَّ لقَحًا لا عَقِيمًا"رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَمَعْنَى لقَحًا حَامِلٌ للمَاءِ كَاللقْحَةِ مِنْ الإِبِل وَالعَقِيمُ التِي لا مَاءَ فِيهَا كَالعَقِيمِ مِنْ الحَيَوَانِ لا وَلدَ فِيهَا، وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال "إذَا وَقَعَتْ كَبِيرَةٌ أَوْ هَاجَتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ فَعَليْكُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَإِنَّهُ يُجْلي العَجَاجَ الأَسْوَدَ"رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: أَخْبَرَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ وَذَكَرَ إسْنَادَهُ إلى ابْنِ عَبَّاسٍ قَال
"مَا هَبَّتْ رِيحٌ إلا جَثَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلى رُكْبَتَيْهِ وَقَال: اللهُمَّ اجْعَلهَا رَحْمَةً وَلا تَجْعَلهَا عَذَابًا، اللهُمَّ اجْعَلهَا رِيَاحًا وَلا تَجْعَلهُمَا رِيحًا."
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالى
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً}[القمر: 19]. {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}[الذريات: 41]. وَقَال اللهُ تَعَالى {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}[الحجر: 22]{أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}[الروم: 46]
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"نُصِرْت بِالصَّبَا وَأُهْلكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.
التَّاسِعَةُ: رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ بِإِسْنَادٍ ليْسَ بِثَابِتٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: "أُمِرْنَا أَنْ لا نُتْبِعَ أَبْصَارَنَا الكَوْكَبَ إذَا انْقَضَّ وَأَنْ نَقُول عِنْدَ ذَلكَ: مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلا بِاَللهِ "وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مُرْسَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال
"مَا مِنْ سَاعَةٍ مِنْ ليْلٍ وَلا نَهَارٍ إلا وَالسَّمَاءُ تُمْطِرُ فِيهَا يَصْرِفُهُ اللهُ حَيْثُ يَشَاءُ"وَبِإِسْنَادٍ لهُ ضَعِيفٍ عَنْ كَعْبٍ "أَنَّ السُّيُول سَتَعْظُمُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ"قَال الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ المُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال "جَاءَ مَكَّةَ سَيْلٌ طَبَقٌ مَا بَيْنَ الجَبَليْنِ "هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ.
العَاشِرَةُ: قَال صَاحِبُ الحَاوِي: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُقَال: اللهُمَّ أَمْطِرْنَا لأَنَّ اللهَ تَعَالى لمْ يَذْكُرْ الإِمْطَارَ فِي كِتَابِهِ إلا للعَذَابِ، قَال اللهُ تَعَالى
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}[الشعراء:173]قَال وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ. هَذَا كَلامُ صَاحِبِ الحَاوِي، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لا يُكْرَهُ كَمَا اخْتَارَهُ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه فِي حَدِيثِهِ المُتَقَدِّمِ فِي المَسْأَلةِ الرَّابِعَةِ.
قَوْلهُ "ثُمَّ أَمْطَرَتْ "هَكَذَا هُوَ: أَمْطَرَتْ بِالأَلفِ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ، وَفِي ثَلاثَةِ أَبْوَابٍ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الاسْتِسْقَاءِ.
وَأَمَّا قَوْل المُخَالفِ إنَّهُ لمْ يَأْتِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالى (أَمْطَرَ) إلا فِي العَذَابِ، فَليْسَ كَمَا زَعَمَ، بَل قَدْ جَاءَ فِي القُرْآنِ العَزِيزِ أَمْطَرَ فِي المَطَرِ الذِي هُوَ الغَيْثُ، وَهُوَ قَوْلهُ عَزَّ وَجَل
{قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الاحقاف: 24]. وَهُوَ مِنْ أَمْطَرَ، وَمَعْلومٌ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الغَيْثَ، وَلهَذَا رَدَّ اللهُ تَعَالى قَوْلهُمْ، فَقَال تَعَالى {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الاحقاف: 24].

 

ج / 5 ص -68-         فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ، وَبِهَذَا قَال الأَئِمَّةُ كَافَّةً إلا أَبَا حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَال ليْسَ فِي الاسْتِسْقَاءِ صَلاةٌ.
قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ: قَال أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: مُرَادُهُ ليْسَ فِيهِ صَلاةٌ مَسْنُونَةٌ كَمَا قَال: ليْسَ سُجُودُ الشُّكْرِ بِشَيْءٍ، أَيْ ليْسَ مَسْنُونًا، وَكَمَا قَال دُعَاءُ النَّاسِ ليْلةَ عَرَفَةَ بِالأَمْصَارِ وَليْسَ بِشَيْءٍ.
وَاحْتَجَّ لهُ بِقَوْلهِ تَعَالى
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}[نوح: 10]. وَلمْ يَذْكُرْ صَلاةً، وَلحَدِيثِ أَنَسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلى المِنْبَرِ"وَبِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه "اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ رضي الله عنه وَلمْ يَذْكُرْ صَلاةً "وَبِالقِيَاسِ عَلى الزَّلازِل وَنَحْوِهَا.
دَليلنَا الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ المَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"صَلى فِي الاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ"مِنْهَا حَدِيثُ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "خَرَجَ إلى المُصَلى فَاسْتَسْقَى وَصَلى رَكْعَتَيْنِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ "خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلى القِبْلةِ يَدْعُو، وَحَوَّل رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالقِرَاءَةِ".
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "شَكَوْا إليْهِ قُحُوطَ المَطَرِ فَذَكَرَتْ الحَدِيثَ إلى قَوْلهَا: فَخَطَبَ ثُمَّ أَقْبَل عَلى النَّاسِ وَنَزَل فَصَلى رَكْعَتَيْنِ. وَذَكَرَتْ الحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال
"خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا مُتَبَذِّلًا مُتَخَشِّعًا مُتَضَرِّعًا فَصَلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلي فِي العِيدِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. قَال التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي المَسْأَلةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ. وَعَنْ القِيَاسِ أَنَّهُ مَعْنَى سُنَّ لهُ الاجْتِمَاعُ وَالخُطْبَةُ فَسُنَّ لهُ الصَّلاةُ كَالعِيدِ وَالكُسُوفِ.
وَالجَوَابُ عَنْ الآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: ليْسَ فِيهَا نَفْيُ الصَّلاةِ وَإِنَّمَا فِيهَا الاسْتِغْفَارُ. وَنَحْنُ نَقُول بِالاسْتِغْفَارِ وَبِالصَّلاةِ بِالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَلمْ نُخَالفْ الآيَةَ الثاني أَنَّ الآيَةَ إخْبَارٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلنَا وَللأُصُوليَّيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ خِلافٌ فِي الاحْتِجَاجِ بِهِ إذَا لمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِمُخَالفَتِهِ، أَمَّا إذَا وَرَدَ بِخِلافِهِ فَلا حُجَّةَ فِيهِ بِالاتِّفَاقِ. وَقَدْ ثَبَتَتْ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالصَّلاةِ.
وَالجَوَابُ عَنْ الحَدِيثِ وَفِعْل عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ لبَيَانِ الجَوَازِ، وَفِعْلٌ لأَحَدِ أَنْوَاعِ الاسْتِسْقَاءِ الثَّلاثَةِ التِي قَدَّمْنَا بَيَانَهَا، وَليْسَ فِيهِ نَفْيٌ للصَّلاةِ، فَفِي هَذَا بَيَانُ نَوْعٍ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ بَيَانُ نَوْعٍ آخَرَ، فَلا تَعَارُضَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا الصَّلاةُ وَالجَوَابُ: عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلى الزَّلازِل أَنَّهَا لمْ يُسَنَّ لهَا الاجْتِمَاعُ وَالخُطْبَةُ بِخِلافِ الاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلى أَنَّهُ يُسَنُّ فِيهِ الاجْتِمَاعُ وَالخُطْبَةُ، وَلأَنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ الصَّلاةَ فِي الاسْتِسْقَاءِ دُونَ الزَّلازِل، فَوَجَبَ اعْتِمَادُهَا دُونَ القِيَاسِ. وَاَللهُ أَعْلمُ.

 

ج / 5 ص -69-         فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي افْتِتَاحِ الرَّكْعَةِ الأُولى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا كَالعِيدِ، وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ.
وَقَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لا يُكَبِّرُ، وَحَكَاهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ المُزَنِيِّ أَيْضًا، وَمَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ تَحْوِيل الرِّدَاءِ فِي الخُطْبَةِ للإِمَامِ وَالمَأْمُومِينَ كَمَا سَبَقَ وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ لا يُسْتَحَبُّ. وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ يُحَوِّل الإِمَامُ دُونَ المَأْمُومِينَ وَحَكَاهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. قَال: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ المُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ وَالثَّوْرِيِّ. وَمَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ خُطْبَتَيْنِ للاسْتِسْقَاءِ بَيْنَهُمَا جَلسَةٌ وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهَا خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا خُطْبَةَ، وَإِنَّمَا يَدْعُو وَيُكْثِرُ الاسْتِغْفَارَ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الاسْتِسْقَاءُ بِالدُّعَاءِ، وَلكِنَّ الأَفْضَل الاسْتِسْقَاءُ بِالصَّلاةِ، كَمَا سَبَقَ، وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ الثَّوْرِيِّ كَرَاهَةَ الاسْتِسْقَاءِ بِدُعَاءٍ مِنْ غَيْرِ صَلاةٍ".