المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 5 ص -70-         كِتَابُ الجَنَائِزِ
بَابُ مَا يُفْعَل بِالمَيِّتِ

الجِنَازَةُ بِكَسْرِ الجِيمِ وَفَتْحِهَا لغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَقِيل بِالفَتْحِ للمَيِّتِ وَبِالكَسْرِ للنَّعْشِ وَعَليْهِ المَيِّتُ، وَقِيل عَكْسُهُ، حَكَاهُ صَاحِبُ مَطَالعِ الأَنْوَارِ، وَالجَمْعُ جَنَائِزُ بِفَتْحِ الجِيمِ لا غَيْرُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ "جَنَزَ "- بِفَتْحِ الجِيمِ - "يَجْنِزُ "- بِكَسْرِ النُّونِ - إذَا سُتِرَ قَالهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَللمَوْتِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الجَسَدَ، وَقَدْ مَاتَ الإِنْسَانُ يَمُوتُ وَيُمَاتُ بِفَتْحِ اليَاءِ وَتَخْفِيفِ المِيمِ فَهُوَ مَيِّتٌ، وَمَيْتٌ بِتَشْدِيدِ اليَاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَقَوْمٌ مَوْتَى وَأَمْوَاتٌ وَمَيِّتُونَ وَمَيْتُونَ، بِتَشْدِيدِ اليَاءِ وَتَخْفِيفِهَا. قَال الجَوْهَرِيُّ: وَيَسْتَوِي فِي مَيِّتٍ وَمَيْتٍ المُذَكَّرُ وَالمُؤَنَّثُ. قَال اللهُ تَعَالى
{لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً}[الفرقان: 49]وَلمْ يَقُل مَيْتَةً، وَيُقَال أَيْضًا مَيْتَةٌ كَمَا قَال تَعَالى {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ}[يّس: 33]وَيُقَال أَمَاتَهُ اللهُ وَمَوَّتَهُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"المُسْتَحَبُّ لكُل أَحَدٍ أَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ المَوْتِ لمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ
"أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال لأَصْحَابِهِ اسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ. قَالوا: إنَّا نَسْتَحْيِي يَا نَبِيَّ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ، قَال: ليْسَ كَذَلكَ، وَلكِنْ مَنْ اسْتَحْيَا مِنْ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ، فَليَحْفَظْ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَليَحْفَظْ البَطْنَ وَمَا حَوَى، وَليَذْكُرْ المَوْتَ وَالبِلى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَمَنْ فَعَل ذَلكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ"وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعِدَّ للمَوْتِ بِالخُرُوجِ مِنْ المَظَالمِ وَالإِقْلاعِ عَنْ المَعَاصِي وَالإِقْبَال عَلى الطَّاعَاتِ لمَا رَوَى البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ جَمَاعَةً يَحْفِرُونَ قَبْرًا، فَبَكَى حَتَّى بَل الثَّرَى بِدُمُوعِهِ، وَقَال: إخْوَانِي لمِثْل هَذَا فَأَعِدُّوا".
 الشرح: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ جَامِعِهِ، وَحَدِيثُ البَرَاءِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال
"أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللذَّاتِ، يَعْنِي المَوْتَ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ كُلهَا عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ، وَمَعْنَى فَأَعِدُّوا أَيْ تَأَهَّبُوا وَاتَّخِذُوا لهُ عُدَّةً، وَهِيَ مَا يُعَدُّ للحَوَادِثِ، وَقَوْلهُ: الخُرُوجِ مِنْ المَظَالمِ، وَالإِقْلاعِ عَنْ المَعَاصِي، المُرَادُ بِالأَوَّل المَظَالمُ التِي للعِبَادِ عَليْهِ، وَبِالثَّانِي المَعَاصِي التِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالى.
أما الأحكام: فَيُسْتَحَبُّ لكُل أَحَدٍ أَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ المَوْتِ. قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: وَحَالةُ المَرَضِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا لأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ المَوْتَ رَقَّ قَلبُهُ وَخَافَ فَيَرْجِعُ عَنْ المَظَالمِ وَالمَعَاصِي، وَيُقْبِل عَلى الطَّاعَاتِ وَيُكْثِرُ مِنْهَا. قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَيُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ حَدِيثِ
"اسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ"

 

ج / 5 ص -71-         وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال "أَخَذَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَيَّ فَقَال: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُول "إذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرْ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِك لمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لمَوْتِكَ".
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ مَرِضَ اُسْتُحِبَّ لهُ أَنْ يَصْبِرَ لمَا رُوِيَ:
"أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ اُدْعُ اللهَ أَنْ يَشْفِيَنِي فَقَال إنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكِ، وَإِنْ شِئْتِ فَاصْبِرِي وَلا حِسَابَ عَليْكِ، قَالتْ: أَصْبِرُ وَلا حِسَابَ عَليَّ"1وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَدَاوَى لمَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "إنَّ اللهَ تَعَالى أَنْزَل الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَل لكُل دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلا تَدَاوَوْا بِالحَرَامِ"وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَمَنَّى المَوْتَ لمَا رَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ المَوْتَ لضُرٍّ2 نَزَل بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَليَقُل: اللهُمَّ أَحْيِنِي مَا دَامَتْ الحَيَاةُ خَيْرًا لي، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الوَفَاةُ خَيْرًا لي".
 الشرح: حَدِيثُ المَرْأَةِ التِي طَلبَتْ رَوَاهُ البَغَوِيّ بِلفْظِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ
"أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالتْ إنِّي امْرَأَةٌ أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ لي، فَقَال: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلكِ الجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ، فَقَالتْ: أَصْبِرُ".
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَرَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَلمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَا لمْ يُضَعِّفْهُ فَهُوَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ.
قَال أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: يُسْتَحَبُّ للمَرِيضِ وَمَنْ بِهِ سَقَمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ عَوَارِضِ الأَبَدَانِ أَنْ يَصْبِرَ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ دَلائِل الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلى فَضْل الصَّبْرِ، وَقَدْ جَمَعْتُ جُمْلةً مِنْ ذَلكَ فِي بَابِ الصَّبْرِ فِي أَوَّل كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالحِينَ وَيَكْفِي فِي فَضِيلتِهِ قوله تعالى
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "تهذيب الأسماء"و "اللغات" يقول النووي رحمه الله: في أول الجنائز من "المهذب" إن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالشفاء فقال : إن شئت دعوت لك – الحديث هذه المرأة هي ام زفر كذا قاله ابن با طيش. قلت قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" أم زفر السوداء لها ذكر في حديث عطاء قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى, فقال: هذه المرأة السوداء, أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني انكشف فذكر الحديث. وقال بن جريج أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر تلك المرأة طويلة سوداء على سلم الكعبة. قلت: زعم ابن طاهر إنها هي المرأة التي تأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيكرمها, وقال الزبير: العجوز التي دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فحياها وقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة. قات فغايته أن تكون تلك المرأة تكنى أم زفر وأما كونها هي العجوز السوداء التي بقيت إلى أن رآها عطاء, فهذا يحتاج فيه ابن طاهر إلى دليل واضح, والذي عندي إنهما اثنتان ا ه من "تهذيب التهذيب".
2 في بعض نسخ المهذب (لضيق نزل به) (ط).

 

ج / 5 ص -72-         وَيُسْتَحَبُّ التَّدَاوِي لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الأَحَادِيثِ المَشْهُورَةِ فِي التَّدَاوِي وَإِنْ تَرَكَ التَّدَاوِيَ تَوَكُّلًا فَهُوَ فَضِيلةٌ. وَيُكْرَهُ تَمَنِّي المَوْتِ لضُرٍّ فِي بَدَنِهِ أَوْ ضِيقٍ فِي دُنْيَاهُ وَنَحْوِ ذَلكَ للحَدِيثِ المَذْكُورِ، وَلا يُكْرَهُ لخَوْفِ فِتْنَةٍ فِي دِينِهِ، ذَكَرَهُ البَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَآخَرُونَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مَفْهُومٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ المَذْكُورِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ كَثِيرِينَ مِنْ السَّلفِ تَمَّنِي المَوْتِ للخَوْفِ عَلى دِينِهِ.

فرع: فِي جُمْلةٍ مِنْ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي الدَّوَاءِ وَالتَّدَاوِي
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إنَّ اللهَ لمْ يُنْزِل دَاءً إلا أَنْزَل لهُ شِفَاءً"رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال "لكُل دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَل"رَوَاهُ مُسْلمٌ.
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَال
"أَتَيْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَأَنَّمَا عَلى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ فَسَلمْتُ ثُمَّ قَعَدْتُ فَجَاءَ الأَعْرَابُ مِنْ هَاهُنَا وَهَا هُنَا فَقَالوا: يَا رَسُول اللهِ نَتَدَاوَى؟ قَال: تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللهَ لمْ يَضَعْ دَاءً إلا وَضَعَ لهُ دَوَاءً غَيْرَ الهَرَمِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. قَال التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ
"أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال إنَّ بَطْنَ أَخِي قَدْ اسْتَطْلقَ فَقَال اسْقِهِ العَسَل، فَأَتَاهُ فَقَال: قَدْ سَقَيْتُهُ فَلمْ يَزِدْهُ إلا اسْتِطْلاقًا، فَقَال: اسْقِهِ عَسَلًا فَقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّالثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ: صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اسْقِهِ عَسَلًا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "سَمِعْت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول للشُّونِيزِ عَليْكُمْ بِهَذِهِ الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ كُل دَاءٍ إلا السَّامَ، يُرِيدُ بِهِ المَوْتَ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال
"الكَمْأَةُ مِنْ المَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ للعَيْنِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَعَنْ عَائِشَةَ سَمِعْت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول "التَّلبِينَةُ مُجِمَّةٌ لفُؤَادِ المَرِيضِ وَتُذْهِبُ بَعْضَ الحُزْنِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ التَّلبِينَةُ حَسَاءٌ مِنْ دَقِيقٍ، وَيُقَال لهُ التَّلبِينُ أَيْضًا لأَنَّهُ يُشْبِهُ بَيَاضَ اللبَنِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"لا تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ اللهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ"فَضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ البُخَارِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ، وَادَّعَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَسَنَذْكُرُ فِي آخِرِ بَابِ الأَطْعِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى جُمَلًا تَتَعَلقُ بِالتَّدَاوِي وَنَحْوِهِ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الظَّنِّ بِاَللهِ تَعَالى، لمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:
"لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللهِ تَعَالى".
الشَّرْحُ: حَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ فِي مُسْلمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال ذَلكَ قَبْل وَفَاتِهِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَعْنَى يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللهِ تَعَالى أَنْ يَظُنَّ أَنَّ اللهَ تَعَالى يَرْحَمُهُ، وَيَرْجُو ذَلكَ، وَيَتَدَبَّرُ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثَ الوَارِدَةَ فِي كَرَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، وَعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَا وَعَدَ بِهِ أَهْل التَّوْحِيدِ، وَمَا يَنْشُرُهُ مِنْ الرَّحْمَةِ لهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالى فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي"

 

ج / 5 ص -73-         هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى الحَدِيثِ، وَهُوَ الذِي قَالهُ جُمْهُورُ العُلمَاءِ وَشَذَّ الخَطَّابِيُّ فَذَكَرَ مَعَهُ تَأْوِيلًا آخَرَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْسِنُوا أَعْمَالكُمْ حَتَّى يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِرَبِّكُمْ، فَمَنْ حَسُنَ عَمَلهُ حَسُنَ ظَنُّهُ وَمَنْ سَاءَ عَمَلهُ سَاءَ ظَنُّهُ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ نَبَّهْت عَليْهِ لئَلا يُغْتَرَّ بِهِ.
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ للمَرِيضِ وَمَنْ حَضَرَتْهُ أَسْبَابُ المَوْتِ وَمُعَانَاتُهُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الظَّنِّ بِاَللهِ تَعَالى، بِالمَعْنَى الذِي ذَكَرْنَاهُ، رَاجِيًا رَحْمَتَهُ، وَأَمَّا فِي حَال الصِّحَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا القَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُهُ المُتَوَلي وَغَيْرُهُمَا أحدهما: يَكُونُ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ سَوَاءً والثاني: يَكُونُ خَوْفُهُ أَرْجَحَ، قَال القَاضِي: هَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ هَذَا قَوْل القَاضِي وَالأَظْهَرُ: أَنَّ الأَوَّل أَصَحُّ، وَدَليلهُ ظَوَاهِرُ القُرْآنِ العَزِيزِ، فَإِنَّ الغَالبَ فِيهِ ذِكْرُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَقْرُونَيْنِ كَقَوْلهِ تَعَالى
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}[آل عمران: 106]. {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14-13] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}[الانشقاق:7] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: من الآية25] وَنَظَائِرُهُ مَشْهُورَةٌ وَقَال {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[لأعراف: 99] وَقَال {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}. وَقَدْ تَتَبَّعْت الأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الوَارِدَةَ فِي الخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَجَمَعْتُهَا فِي كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالحِينَ، فَوَجَدْت أَحَادِيثَ الرَّجَاءِ أَضْعَافَ الخَوْفِ، مَعَ ظُهُورِ الرَّجَاءِ فِيهَا، وَبِاَللهِ التَّوْفِيقُ.
وَيُسْتَحَبُّ للحَاضِرِ عِنْدَ المُحْتَضَرِ أَنْ يُطْمِعَهُ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَعَالى، وَيَحُثَّهُ عَلى تَحْسِينِ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، وَأَنْ يَذْكُرَ لهُ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثَ فِي الرَّجَاءِ وَيُنَشِّطَهُ لذَلكَ، وَدَلائِل مَا ذَكَرْته كَثِيرَةٌ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ ذَكَرْت مِنْهَا جُمْلةً فِي كِتَابِ الجَنَائِزِ مِنْ كِتَابِ الأَذْكَارِ، وَفَعَلهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنهم عِنْدَ احْتِضَارِهِ، وَبِعَائِشَةَ أَيْضًا، وَفَعَلهُ ابْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ بِأَبِيهِ وَكُلهُ فِي "الصَّحِيحِ".
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وتستحب عيادة المريض لما روى البراء بن عازب رضي الله عنهما قال:
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وعيدة المريض. فإن رجاه دعا له والمستحب أن يقول:(أسأل الله رب العرش العظيم أن يشفيك) سبع مرات لم روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من عاد مريضا لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك عافاه الله من ذلك المرض) وإن رآه منزولا به فالمستحب أن يلقنه قول لا إله إلا الله لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لقنو موتاكم لا إله إلا الله وروي معذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة ويستحب أن يقرأ عنده سورة يس لما روى معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اقرءوا على موتاكم يعني يس"، ويستحب أن يضجع1 على جنبه الأيمن مستقبل القبلة لما روت أم سلمى أم ولد رافع قالت: قالت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (يضطجع) (ط).

 

ج / 5 ص -74-         ورضي عنها: صعي فراشي ها هنا واستقبلي بي القبلة ثم قامت فاغتسلت كأحسن ما يغتسل ولبست ثيابا جددا ثم قالت: تعلمين أني مقبوضة الآن ثم استقبلت القبلة وتوسدت يمينها".
 الشرح: حَدِيثُ البَرَاءِ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ: "أَسْأَل اللهَ العَظِيمَ "فَحَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي كِتَابِ الجَنَائِزِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الطِّبِّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي اليَوْمِ وَالليْلةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَال الحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ: يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي خَالدٍ الدَّالانِيُّ، وَهُوَ مُخْتَلفٌ فِي الاحْتِجَاجِ بِهِ وَلمْ يَرْوِ لهُ البُخَارِيُّ، وَيُنْكَرُ عَلى الحَاكِمِ كَوْنُهُ قَال فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ: إنَّهُ عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَلكِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فِيهِ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ بَدَل ابْنِ أَبِي خَالدٍ الدَّالانِيِّ، وَعَبْدُ رَبِّهِ عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَرَوَاهُ مُسْلمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَقَال: هُوَ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلفْظُهُمَا دَخَل الجَنَّةَ: بَدَل (وَجَبَتْ لهُ الجَنَّةُ) وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْقِلٍ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَجْهُولانِ، وَلمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد وَأَمَّا: حَدِيثُ سَلمَى1 فَغَرِيبٌ، لا ذِكْرَ لهُ فِي هَذِهِ الكُتُبِ المُعْتَمَدَةِ، وَأَمَّا أَلفَاظُ. الفَصْل فَالبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ مَمْدُودٌ عَلى المَشْهُورِ، وَحُكِيَ قَصْرُهُ، وَعَازِبٌ صَحَابِيٌّ وقوله: أَمَرَنَا أَيْ أَمْرَ نَدْبٍ، وَهَذَا الحَدِيثُ بَعْضُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ مَشْهُورٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ "أَمَرَنَا بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ فَذَكَرَ مِنْهَا اتِّبَاعَ الجِنَازَةِ وَعِيَادَةَ المَرِيضِ"وَقَوْلهُ "مَنْزُولًا بِهِ "أَيْ قَدْ حَضَرَهُ المَوْتُ.
وَقَوْلهُ صلى الله عليه وسلم
"لقِّنُوا مَوْتَاكُمْ "أَيْ مَنْ قَرُبَ مَوْتُهُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا يَصِيرُ إليْهِ، وَمِنْهُ (إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) وَمَعْقِلٌ بِفَتْحِ المِيمِ وَإِسْكَانِ العَيْنِ المُهْمَلةِ، وَأَبُوهُ يَسَارٌ بِيَاءٍ ثُمَّ سِينٍ، وَمَعْقِلٌ مِنْ أَهْل بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كُنْيَتُهُ أَبُو عَليٍّ. وَقِيل أَبُو عَبْدِ اللهِ وَأَبُو يَسَارٍ، وَسَلمَى بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَوْلهُ "أُمُّ وَلدِ رَافِعٍ "هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ المُهَذَّبِ وَهُوَ غَلطٌ، وَصَوَابُهُ أُمُّ رَافِعٍ أَوْ أُمُّ وَلدِ أَبِي رَافِعٍ، وَهِيَ سَلمَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في "التهذيب": قوله في أول الجنائز من"المهذب" لما روت أم سلمى – وتلاحظ أن أم هنا غير مذكورة لا في "المهذب" ولا في "الشرح"- أم ولد رافع كذا وقع وهو غلط والصواب أم رافع أو أم ولد أبي رافع رافع وقد تقدم في ترجمة أبي سلمى قلت: وليس في كنى "التهذيب" للنووي من اسمه أبو سلمى ولعله في حرف آخر, بلى,وجدته في سلمى من أسماء النساء فقال رحمه الله: سلمى أم رافع ذكرها في "المهذب" في كتاب "الجنائز" وهي بفتح السين بلا خلاف وقد غلط بعض المصنفين في الفاظ المهذب, حيث قال: هي بالضم,وهي مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: مولاة صفية بنت عبد المطلب وهي إمراة أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم أم ولده وكانت قابلة بني فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم ولدهوقابلة بن الرسول صلى الله عليه وسلم وشهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" ترجمة لأم سلمى وذكر فيها الحديث المذكور في "المهذب" عن سلمى هذه. وقال الإمام ابونعيم الأصبهاني: هي فيما أرى امرأة أبي رافع  ا ه من "التهذيب" الأسماءواللغات للنووي.

 

ج / 5 ص -75-         مَوْلاةُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقِيل مَوْلاةُ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ المُطَّلبِ، وَالصَّحِيحُ المَشْهُورُ هُوَ الأَوَّل. وَكَانَتْ سَلمَى قَابِلةَ بَنِي فَاطِمَةَ، وَقَابِلةَ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي رَافِعٍ مَوْلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأُمُّ وَلدِهِ.
وَقَوْلهَا "ثِيَابًا جُدُدًا "هُوَ بِضَمِّ الدَّال جَمْعُ جَدِيدٍ. هَذَا هُوَ المَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللغَةِ وَغَيْرِهَا، وَيَجُوزُ فَتْحُ الدَّال عِنْدَ مُحَقِّقِي العَرَبِيَّةِ وَحُذَّاقِ أَهْل اللغَةِ، وَكَذَلكَ الحُكْمُ فِي كُل مَا كَانَ مُشَدَّدًا مِنْ هَذَا الوَزْنِ مِمَّا ثَانِيهِ وَثَالثُهُ سَوَاءٌ، الأَجْوَدُ ضَمُّ ثَانِي جَمْعِهِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُ كَسُوَرٍ، وَذُللٍ وَنَظَائِرِهِمَا، وَقَدْ بَسَطْت القَوْل فِي تَحْقِيقِ هَذَا بِشَوَاهِدِهِ مِنْ كَلامِ أَهْل العَرَبِيَّةِ وَاللغَةِ وَنَقْلهِمْ فِيهِ فِي تَهْذِيبِ الأَسْمَاءِ وَاللغَاتِ.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: عِيَادَةُ المَرِيضِ سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ وَالأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مَشْهُورَةٌ فِي ذَلكَ. قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُمَّ بِعِيَادَتِهِ الصَّدِيقَ وَالعَدُوَّ وَمَنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ لا يَعْرِفُهُ لعُمُومِ الأَحَادِيثِ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الشَّامِل إلى أَنَّهُ لا يُسْتَحَبُّ عِيَادَتُهُ فَقَال: يُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ المَرِيضِ إنْ كَانَ مُسْلمًا. وَذَكَرَ صَاحِبُ المُسْتَظْهِرِيِّ قَوْل صَاحِبِ الشَّامِل، ثُمَّ قَال: وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّ عِيَادَةَ الكَافِرِ جَائِزَةٌ، وَالقُرْبَةَ فِيهَا مَوْقُوفَةٌ عَلى نَوْعِ حُرْمَةٍ يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ جِوَارٍ أَوْ قَرَابَةٍ وَهَذَا الذِي قَالهُ صَاحِبُ المُسْتَظْهِرِيِّ مُتَعَيَّنٌ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ، وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ، أَنَسٍ قَال
"كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَال لهُ: أَسْلمْ، فَنَظَرَ إلى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَال لهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ فَأَسْلمَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُول: الحَمْدُ للهِ الذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ". قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ العِيَادَةُ غِبًّا لا يُوَاصِلهَا كُل يَوْمٍ إلا أَنْ يَكُونَ مَغْلوبًا. قُلت: هَذَا لآحَادِ النَّاسِ، أَمَّا أَقَارِبُ المَرِيضِ وَأَصْدِقَاؤُهُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يَأْتَنِسُ بِهِمْ أَوْ يَتَبَرَّكُ بِهِمْ أَوْ يَشُقُّ عَليْهِمْ إذَا لمْ يَرَوْهُ كُل يَوْمٍ فَليُوَاصِلوهَا مَا لمْ يُنْهَ أَوْ يَعْلمْ كَرَاهَةَ المَرِيضِ لذَلكَ، قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ: وَإِذَا عَادَهُ كُرِهَ إطَالةُ القُعُودِ عِنْدَهُ لمَا فِيهِ مِنْ إضْجَارِهِ وَالتَّضْيِيقِ عَليْهِ، وَمَنْعِهِ مِنْ بَعْضِ تَصَرُّفَاتِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ العِيَادَةُ مِنْ وَجَعِ العَيْنِ بِرَمَدٍ أَوْ غَيْرِهِ، لحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَال
"عَادَنِي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالحَاكِمُ وَقَال: صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالمَسْأَلةِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ رحمه الله.
المسألة الثانية: يُسْتَحَبُّ للعَائِدِ إذَا طَمِعَ فِي حَيَاةِ المَرِيضِ أَنْ يَدْعُوَ لهُ سَوَاءٌ رَجَا حَيَاتَهُ أَوْ كَانَتْ مُحْتَمَلةً. وَهَذِهِ العِبَارَةُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْل المُصَنِّفِ (إنْ رَجَاهُ) وَجَاءَ فِي الدُّعَاءِ للمَرِيضِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ جَمَعْتُهَا فِي كِتَابِ الأَذْكَارِ، مِنْهَا الحَدِيثُ المَذْكُورُ فِي الكِتَابِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ
"أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَزَلوا عَلى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَلدِغَ سَيِّدُهُمْ، فَجَعَل بَعْضُ الصَّحَابَةِ يَقْرَأُ

 

ج / 5 ص -76-         الفَاتِحَةَ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِل، فَبَرَأَ الرَّجُل"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَنْفُثُ عَلى نَفْسِهِ فِي المَرَضِ الذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالمُعَوِّذَاتِ وَفِي رِوَايَةٍ: قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَقُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلقِ، وَقُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَال لثَابِتٍ: "أَلا أَرْقِيك بِرُقْيَةِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَال: بَلى، قَال اللهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ البَأْسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لا شَافِيَ إلا أَنْتَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ أَنَّهُ "شَكَا إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ، فَقَال لهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: ضَعْ يَدَكَ عَلى الذِي يَأْلمُ مِنْ جَسَدِك وَقُل: بِسْمِ اللهِ ثَلاثًا، وَقُل سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاَللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ"رَوَاهُ مُسْلمٌ.
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَال:
"عَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: اللهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللهُمَّ اشْفِ سَعْدًا"رَوَاهُ مُسْلمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَل عَلى مَنْ يَعُودُهُ قَال لا بَأْسَ، طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللهُ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ "أَنَّ جِبْرِيل أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا مُحَمَّدُ أَشْتَكَيْتَ؟ قَال نَعَمْ. قَال: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُل شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُل نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ"رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الثَّالثَةُ" إذَا رَآهُ مَنْزُولًا بِهِ قَدْ أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُلقَّنَ قَوْل لا إلهَ إلا اللهُ للحَدِيثِ المَذْكُورِ فِي الكِتَابِ، هَكَذَا قَال المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ: يُلقِّنُهُ لا إلهَ إلا اللهُ. وَقَال جَمَاعَاتٌ يُلقِّنُهُ الشَّهَادَتَيْنِ: لا إلهَ إلا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ، وَصَاحِبُ الحَاوِي وَسُليْمٌ الرَّازِيّ وَنَصْرٌ المَقْدِسِيُّ فِي الكَافِي، وَالجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ، وَالشَّاشِيُّ فِي المُعْتَمَدِ وَغَيْرُهُمْ، وَدَليلهُمْ أَنَّ المَقْصُودَ تَذَكُّرُ التَّوْحِيدِ، وَذَلكَ يَقِفُ عَلى الشَّهَادَتَيْنِ، وَدَليل الجُمْهُورِ أَنَّ هَذَا مُوَحِّدٌ وَيَلزَمُ مِنْ قَوْلهِ: لا إلهَ إلا اللهُ الاعْتِرَافُ بِالشَّهَادَةِ الأُخْرَى، فَيَنْبَغِي الاقْتِصَارُ عَلى لا إلهَ إلا اللهُ لظَاهِرِ الحَدِيثِ.
قَال أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ العُلمَاءِ: وَيَنْبَغِي أَنْ لا يُلحَّ عَليْهِ فِي ذَلكَ، وَأَنْ لا يَقُول لهُ قُل: لا إلهَ إلا اللهُ خَشْيَةَ أَنْ يَضْجَرَ فَيَقُول: لا أَقُول أَوْ يَتَكَلمُ بِغَيْرِ هَذَا مِنْ الكَلامِ القَبِيحِ، وَلكِنْ يَقُولهَا بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ مُعَرِّضًا لهُ ليَفْطِنَ فَيَقُولهَا. وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَوْ يَقُول: ذِكْرُ اللهِ تَعَالى مُبَارَكٌ فَنَذْكُرُ اللهَ تَعَالى جَمِيعًا، سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ وَلا إلهَ إلا اللهُ وَاَللهُ أَكْبَرُ. قَالوا: وَإِذَا أَتَى بِالشَّهَادَةِ مَرَّةً لا يُعَاوِدُ مَا لمْ يَتَكَلمْ بَعْدَهَا بِكَلامٍ آخَرَ. هَكَذَا قَال الجُمْهُورُ: لا يُزَادُ عَلى مَرَّةٍ. وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُكَرِّرُهَا عَليْهِ ثَلاثًا وَلا يُزَادُ عَلى ثَلاثٍ. مِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا سُليْمٌ الرَّازِيّ فِي الكِفَايَةِ وَالمَحَامِليُّ وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَغَيْرُهُمْ. قَال أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ المُلقِّنُ غَيْرَ وَارِثٍ، لئَلا يَتَّهِمَهُ وَيَخْرُجَ مِنْ تَلقِينِهِ، فَإِنْ لمْ يَحْضُرْهُ إلا الوَرَثَةُ لقَّنَهُ أَشْفَقُهُمْ عَليْهِ، هَكَذَا قَالوهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَال: لا يُلقِّنُهُ مَنْ يَتَّهِمُهُ لكَوْنِهِ وَارِثًا أَوْ عَدُوًّا أَوْ حَاسِدًا أَوْ نَحْوَهُمْ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
الرابعة" يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ المُحْتَضَرِ سُورَةَ (يس) هَكَذَا قَالهُ أَصْحَابُنَا وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ التَّابِعِينَ سُورَةَ الرَّعْدِ أَيْضًا.

 

ج / 5 ص -77-         الخامسة: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِل بِهِ القِبْلةَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَليْهِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ المُسْتَحَبَّةِ وَجْهَانِ أحدهما: عَلى قَفَاهُ، وَأَخْمَصَاهُ إلى القِبْلةِ، وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ قَليلًا ليَصِيرَ وَجْهُهُ إلى القِبْلةِ، حَكَاهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ وَصَاحِبَا الحَاوِي وَالمُسْتَظْهَرَيْ مِنْ العِرَاقِيِّينَ، وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ وَالغَزَاليُّ وَغَيْرُهُمَا، قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: وَعَليْهِ عَمَل النَّاسِ.
والوجه الثاني وَهُوَ الصَّحِيحُ المَنْصُوصُ للشَّافِعِيِّ فِي البُوَيْطِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ العِرَاقِيِّينَ، وَهُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: يُضْجَعُ عَلى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ مُسْتَقْبِل القِبْلةِ كَالمَوْضُوعِ فِي اللحْدِ، فَإِنْ لمْ يُمْكِنْ لضِيقِ المَكَانِ أَوْ غَيْرِهِ فَعَلى جَنْبِهِ الأَيْسَرِ إلى القِبْلةِ، فَإِنْ لمْ يُمْكِنْ فَعَلى قَفَاهُ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَاحْتَجَّ للمَسْأَلةِ الحَاكِمُ وَالبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ المَدِينَةَ سَأَل عَنْ البَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ رضي الله عنه فَقَالوا: تُوُفِّيَ وَأَوْصَى بِثُلثِهِ لك يَا رَسُول اللهِ وَأَوْصَى أَنْ يُوَجَّهَ إلى القِبْلةِ لمَّا اُحْتُضِرَ فَقَال رَسُول صلى الله عليه وسلم أَصَابَ الفِطْرَةَ، وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلثَهُ عَلى وَلدِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلى عَليْهِ، وَقَال: اللهُمَّ اغْفِرْ لهُ وَارْحَمْهُ وَأَدْخِلهُ جَنَّتَكَ وَقَدْ فَعَلت"قَال الحَاكِمُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَال: وَلا أَعْلمُ فِي تَوْجِيهِ المُحْتَضَرِ إلى القِبْلةِ غَيْرَهُ.
 فرع: يُسْتَحَبُّ لأَهْل المَرِيضِ وَمَنْ يَخْدُمُهُ الرِّفْقُ بِهِ وَاحْتِمَال الصَّبْرِ عَلى مَا يَشُقُّ مِنْ أَمْرِهِ، وَكَذَلكَ مَنْ قَرُبَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ وَنَحْوِهِمَا. وَيُسْتَحَبُّ للأَجْنَبِيِّ أَنْ يُوصِيَهُمْ بِذَلكَ لحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ
"أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حُبْلى مِنْ الزِّنَا، فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَليَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَليَّهَا فَقَال: أَحْسِنْ إليْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا، فَفَعَل، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَشُدَّتْ عَليْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلى عَليْهَا".
 فرع: يُسْتَحَبُّ طَلبُ المَوْتِ فِي بَلدٍ شَرِيفٍ، لحَدِيثِ حَفْصَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قَال عُمَرُ رضي الله عنه
"اللهُمَّ اُرْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلك، وَاجْعَل مَوْتِي فِي بَلدِ رَسُولك صلى الله عليه وسلم فَقُلت أَنَّى يَكُونُ هَذَا؟ فَقَال: يَأْتِينِي بِهِ اللهُ إذَا شَاءَ "رَوَاهُ البُخَارِيُّ
 فرع: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يُكْرَهَ المَرِيضُ عَلى الدَّوَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الطَّعَامِ.
 فرع: يُسْتَحَبُّ طَلبُ الدُّعَاءِ مِنْ المَرِيضِ، لحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم
"إذَا دَخَلت عَلى مَرِيضٍ فَمُرْهُ فَليَدْعُ لك، فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ المَلائِكَةِ"رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
 فرع: يُسْتَحَبُّ وَعْظُ المَرِيضِ بَعْدَ عَافِيَتِهِ، وَتَذْكِيرُهُ الوَفَاءَ بِمَا عَاهَدَ اللهَ تَعَالى عَليْهِ مِنْ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الخَيْرِ، وَيَنْبَغِي لهُ هُوَ المُحَافَظَةُ عَلى ذَلكَ، قَال اللهُ تَعَالى
:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}[الاسراء: 34].

 

ج / 5 ص -78-         فرع: يَنْبَغِي للمَرِيضِ أَنْ يَحْرِصَ عَلى تَحْسِينِ خُلقِهِ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ المُخَاصَمَةَ وَالمُنَازَعَةَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ هَذَا آخِرُ أَوْقَاتِهِ فِي دَارِ الأَعْمَال فَيَخْتِمَهَا بِخَيْرٍ، وَأَنْ يَسْتَحِل زَوْجَتَهُ وَأَوْلادَهُ وَسَائِرَ أَهْلهِ وَغِلمَانِهِ وَجِيرَانِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَكُل مَنْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلةٌ أَوْ مُصَاحَبَةٌ أَوْ تَعَلقٌ، وَيُرْضِيَهُمْ وَأَنْ يَتَعَاهَدَ نَفْسَهُ بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَحِكَايَاتِ الصَّالحِينَ وَأَحْوَالهِمْ عِنْدَ المَوْتِ، وَأَنْ يُحَافِظَ عَلى الصَّلوَاتِ وَاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ وَظَائِفِ الدِّينِ، وَلا يَقْبَل قَوْل مَنْ يُخَذِّلهُ عَنْ ذَلكَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُبْتَلى بِهِ، وَهَذَا المُخَذِّل هُوَ الصَّدِيقُ الجَاهِل، العَدُوُّ الخَفِيُّ. وَأَنْ يُوصِيَ أَهْلهُ بِالصَّبْرِ عَليْهِ وَبِتَرْكِ النَّوْحِ عَليْهِ وَكَذَا إكْثَارُ البُكَاءِ، وَيُوصِيَهُمْ بِتَرْكِ مَا جَرَتْ العَادَةُ بِهِ مِنْ البِدَعِ فِي الجَنَائِزِ، وَيَتَعَاهَدَهُ بِالدُّعَاءِ لهُ، وَبِاَللهِ التَّوْفِيقُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِذَا مَاتَ تَوَلى أَرْفَقُهُمْ بِهِ إغْمَاضَ عَيْنَيْهِ، لمَا رَوَتْ أُمُّ سَلمَةَ رضي الله عنها قَالتْ:
"دَخَل رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى أَبِي سَلمَةَ [فَأَغْمَضَ بَصَرَهُ ثُمَّ قَال: إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ البَصَرُ"وَلأَنَّهَا إذَا لمْ تُغْمَضْ بَقِيَتْ مَفْتُوحَةً، فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ، وَيَشُدُّ لحْيَيْهِ بِعِصَابَةٍ1 عَرِيضَةٍ] تَجْمَعُ جَمِيعَ لحْيَيْهِ، ثُمَّ يَشُدُّ العِصَابَةَ عَلى رَأْسِهِ لأَنَّهُ إذَا لمْ يَفْعَل ذَلكَ اسْتَرْخَى لحْيَاهُ وَانْفَتَحَ فَمُهُ، فَقَبُحَ مَنْظَرُهُ، وَرُبَّمَا دَخَل إلى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الهَوَامِّ، وَتُليَّنُ مَفَاصِلهُ لأَنَّهُ أَسْهَل فِي الغُسْل، وَلأَنَّهَا تَبْقَى جَافِيَةً فَلا يُمْكِنُ تَكْفِينُهُ، وَتُخْلعُ ثِيَابُهُ، لأَنَّ الثِّيَابَ تُحْمِي الجِسْمَ فَيُسْرِعُ إليْهِ التَّغَيُّرُ وَالفَسَادُ، وَيُجْعَل عَلى سَرِيرٍ أَوْ لوْحٍ حَتَّى لا تُصِيبَهُ نَدَاوَةُ الأَرْضِ فَتُغَيِّرَهُ، وَيُجْعَل عَلى بَطْنِهِ حَدِيدَةٌ، لمَا رُوِيَ أَنَّ مَوْلى أَنَسٍ مَاتَ فَقَال رضي الله عنه "ضَعُوا عَلى بَطْنِهِ حَدِيدَةً "2لأَنَّهُ يَنْتَفِخُ، فَإِنْ لمْ يُمْكِنْ حَدِيدَةٌ جُعِل عَليْهِ طِينٌ رَطْبٌ، وَيُسَجَّى بِثَوْبٍ، لمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "سُجِّيَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ"وَيُسَارَعُ إلى قَضَاءِ دَيْنِهِ وَالتَّوَصُّل إلى إبْرَائِهِ مِنْهُ، لمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى"وَيُبَادَرُ إلى تَجْهِيزِهِ، لمَا رَوَى عَليٌّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "ثَلاثٌ لا تُؤَخِّرُوهُنَّ: الصَّلاةُ وَالجِنَازَةُ، وَالأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ كُفْئًا"فَإِنْ مَاتَ فُجْأَةً تُرِكَ حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ".
 الشرح: حَدِيثُ أُمِّ سَلمَةَ رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَحَدِيثُ مَوْلى أَنَسٍ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ، قَال التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَحَدِيثُ عَليٍّ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِ الجَنَائِزِ وَالبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَأَشَارَ إلى تَضْعِيفِهِ يُقَال: أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ وَغَمَّضَهَا - بِتَشْدِيدِ المِيمِ - وَفِي الرُّوحِ لغَتَانِ، التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وقوله: يُسَجَّى أَيْ يُغَطَّى وقوله: بِثَوْبِ حِبَرَةٍ، هُوَ بِإِضَافَةِ حَدِيثٍ إلى حِبَرَةٍ، وَهِيَ - بِكَسْرِ الحَاءِ وَفَتْحِ البَاءِ - نَوْعٌ مِنْ البُرُدِ (قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم)
"نَفْسُ المُؤْمِنِ "قَال الأَزْهَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الحَدِيثِ: نَفْسُ الإِنْسَانِ لهَا ثَلاثَةُ مَعَانٍ: أحدها: بَدَنُهُ قَال اللهُ تَعَالى {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة: 45]. الثاني: الدَّمُ فِي جَسَدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين ساقط من النسخة المطبوعة من "المهذب" (ط).
2 في النسخة المطبوعة: لئلا ينتفخ (ط).

 

ج / 5 ص -79-         الحَيَوَانِ. الثَّالثُ: الرُّوحُ الذِي إذَا فَارَقَ البَدَنَ لمْ يَكُنْ بَعْدَهُ حَيَاةٌ. قَال وَهُوَ المُرَادُ بِالنَّفْسِ فِي هَذَا الحَدِيثِ، قَال: كَأَنَّ نَفْسَ المُؤْمِنِ تُعَذَّبُ بِمَا عَليْهِ مِنْ الدَّيْنِ حَتَّى يُؤَدَّى، هَكَذَا قَالهُ الأَزْهَرِيُّ، وَالمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ نَفْسَهُ مُطَالبَةٌ بِمَا عَليْهِ وَمَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الكَرِيمِ حَتَّى يُقْضَى لا أَنَّهُ يُعَذَّبُ، لا سِيَّمَا إنْ كَانَ خَلفَهُ وَفَاءٌ وَأَوْصَى بِهِ، وَقَوْلهُ "الأَيِّمُ "هِيَ التِي لا زَوْجَ لهَا، بِكْرًا كَانَتْ أَمْ ثَيِّبًا. وَقَوْلهُ "فُجْأَةً "أَيْ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلا نَزْعٍ وَنَحْوِهِ، وَفِيهَا لغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا بِضَمِّ الفَاءِ وَفَتْحِ الجِيمِ وَبِالمَدِّ، الثَّانِيَةُ فَجْأَةٌ بِفَتْحِ الفَاءِ وَإِسْكَانِ الجِيمِ.
أَمَّا الأَحْكَامُ: فَقَال الأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ إذَا مَاتَ أَنْ يُغَمَّضَ عَيْنَاهُ وَتُشَدَّ لحْيَاهُ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ تَجْمَعُهُمَا، ثُمَّ يَرْبِطَ فَوْقَ رَأْسِهِ وَيُليِّنَ مَفَاصِلهُ، فَيَمُدَّ سَاعِدَهُ إلى عَضُدِهِ ثُمَّ يَرُدَّهُ وَيَرُدَّ سَاقَهُ إلى فَخِذِهِ، وَفَخِذَهُ إلى بَطْنِهِ، وَيَرُدَّهُمَا وَيُليِّنَ أَصَابِعَهُ وَيَخْلعَ ثِيَابَهُ التِي مَاتَ فِيهَا بِحَيْثُ لا يُرَى بَدَنُهُ، ثُمَّ يَسْتُرَ جَمِيعَ بَدَنِهِ بِثَوْبٍ خَفِيفٍ وَلا يَجْمَعَ عَليْهِ أَطْبَاقَ الثِّيَابِ، وَيَجْعَل طَرَفَ هَذَا الثَّوْبِ تَحْتَ رَأْسِهِ، وَطَرَفَهُ الآخَرَ تَحْتَ رِجْليْهِ لئَلا يَنْكَشِفَ وَيُوضَعَ عَلى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ كَسَرِيرٍ وَلوْحٍ وَنَحْوِهِمَا وَيُوضَعَ عَلى بَطْنِهِ شَيْءٌ ثَقِيلٌ كَسَيْفٍ أَوْ مِرْآةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الحَدِيدِ، فَإِنْ عُدِمَ فَطِينٌ رَطْبٌ، وَلا يُجْعَل عَليْهِ مُصْحَفٌ، وَيَسْتَقْبِل بِهِ القِبْلةَ كَالمُحْتَضَرِ، وَيَتَوَلى هَذِهِ الأُمُورَ أَرْفَقُ مَحَارِمِهِ بِأَسْهَل مَا يَقْدِرُ عَليْهِ.
قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ: وَيَتَوَلاهَا الرَّجُل مِنْ الرَّجُل، وَالمَرْأَةُ مِنْ المَرْأَةِ، فَإِنْ تَوَلاهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ مَحْرَمٌ مِنْ النِّسَاءِ، أَوْ تَوَلاهَا أَجْنَبِيَّةٌ أَوْ مَحْرَمٌ مِنْ الرِّجَال جَازَ وَيُسَارِعُ إلى قَضَاءِ دَيْنِهِ وَالتَّوَصُّل إلى إبْرَائِهِ مِنْهُ. هَكَذَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ. وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَإِنْ كَانَ للمَيِّتِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ قُضِيَ الدَّيْنُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يُبَاعُ سَأَل غُرَمَاءَهُ أَنْ يَحْتَالوا عَليْهِ ليَصِيرَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ وَليِّهِ وَتَبْرَأَ ذِمَّةُ المَيِّتِ، هَذَا لفْظُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَنَحْوُهُ فِي المَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ للمَحَامِليِّ، وَالعُدَّةِ للطَّبَرِيِّ، وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِنَا. وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ فِي آخِرِ بَابِ القَوْل عِنْدَ الدَّفْنِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ يَسْتَأْخِرُ سَأَل غُرَمَاءَهُ أَنْ يُحَللوهُ وَيَحْتَالوا بِهِ عَليْهِ وَإِرْضَاؤُهُمْ مِنْهُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، هَذَا نَصُّهُ وَهُوَ نَحْوُ مَا قَالهُ أَبُو حَامِدٍ وَمُتَابِعُوهُ، وَفِيهِ إشْكَالٌ لأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَرَاضِيهِمْ عَلى مَصِيرِهِ فِي ذِمَّةِ الوَليِّ يَبْرَأُ المَيِّتُ. وَمَعْلومٌ أَنَّ الحَوَالةَ لا تَصِحُّ إلا بِرِضَاءِ المُحِيل وَالمُحْتَال، وَإِنْ كَانَ ضَمَانًا فَكَيْفَ يَبْرَأُ المَضْمُونُ عَنْهُ ثُمَّ يُطَالبُ الضَّامِنُ. ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ لمَّا ضَمِنَ الدَّيْنَ عَنْ المَيِّتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال
"الآنَ بَرَدَتْ جِلدَتُهُ"حِينَ وَفَّاهُ لا حِينَ ضَمِنَهُ، وَيُحْتَمَل أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَالأَصْحَابَ رَأَوْا هَذِهِ الحَوَالةَ جَائِزَةً مُبَرِّئَةً للمَيِّتِ فِي الحَال للحَاجَةِ وَالمَصْلحَةِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال الأَصْحَابُ: وَيُبَادَرُ أَيْضًا بِتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ وَبِتَجْهِيزِهِ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ أُحِبُّ المُبَادَرَةَ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الجِنَازَةِ، فَإِنْ مَاتَ فُجْأَةً لمْ يُبَادَرْ بِتَجْهِيزِهِ لئَلا تَكُونَ بِهِ سَكْتَةٌ وَلمْ يَمُتْ، بَل يُتْرَكُ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ للمَوْتِ عَلامَاتٌ، وَهِيَ أَنْ تَسْتَرْخِيَ قَدَمَاهُ وَيَنْفَصِل زَنْدَاهُ، وَيَمِيل أَنْفُهُ وَتَمْتَدَّ جِلدَةُ وَجْهِهِ، زَادَ الأَصْحَابُ وَأَنْ يَنْخَسِفَ صُدْغَاهُ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَتَتَقَلصَ خُصْيَاهُ مَعَ تَدَلي الجِلدَةِ، فَإِذَا ظَهَرَ هَذَا عُلمَ مَوْتُهُ، فَيُبَادَرُ حِينَئِذٍ إلى تَجْهِيزِهِ. قَال الشَّافِعِيُّ: فَأَمَّا إذَا مَاتَ مَصْعُوقًا أَوْ غَرِيقًا أَوْ حَرِيقًا، أَوْ خَافَ مِنْ حَرْبٍ أَوْ سَبُعٍ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، أَوْ فِي بِئْرٍ فَمَاتَ، فَإِنَّهُ لا

 

ج / 5 ص -80-         يُبَادَرُ بِهِ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ. قَال الشَّافِعِيُّ فَيُتْرَكُ اليَوْمَ وَاليَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ، حَتَّى يُخْشَى فَسَادُهُ لئَلا يَكُونَ مُغْمًى عَليْهِ أَوْ انْطَبَقَ حَلقُهُ أَوْ غَلبَ المِرَارُ عَليْهِ، قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ "هَذَا الذِي قَالهُ الشَّافِعِيُّ صَحِيحٌ، فَإِذَا مَاتَ مِنْ هَذِهِ الأَسْبَابِ أَوْ أَمْثَالهَا فَلا يَجُوزُ أَنْ يُبَادَرَ بِهِ، وَيَجِبُ تَرْكُهُ وَالتَّأَنِّي بِهِ اليَوْمَ وَاليَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ، لئَلا يَكُونَ مُغْمًى عَليْهِ، أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا قَالهُ الشَّافِعِيُّ، وَلا يَجُوزُ دَفْنُهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مَوْتُهُ ". هَذَا آخِرُ كَلامِ أَبِي حَامِدٍ فِي تَعْليقِهِ، وَقَال غَيْرُهُ: تَحَقُّقُ المَوْتِ يَكُونُ بِتَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ وَغَيْرِهِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: لمْ أَرَ لأَصْحَابِنَا كَلامًا فِيمَا يُقَال حَال إغْمَاضِ المَيِّتِ، وَيُسْتَحْسَنُ مَا رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِي السُّنَنِ الكَبِيرِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ المُزَنِيِّ التَّابِعِيِّ الجَليل رحمه الله قَال "إذَا أَغْمَضْت المَيِّتَ فَقُل بِاسْمِ اللهِ وَعَلى مِلةِ رَسُول اللهِ، وَإِذَا حَمَلتَهُ فَقُل بِاسْمِ اللهِ، ثُمَّ تُسَبِّحُ مَا دُمْتَ تَحْمِلهُ.
 فرع: يُسْتَحَبُّ للنَّاسِ أَنْ يَقُولوا عِنْدَ المَيِّتِ خَيْرًا وَأَنْ يَدْعُوا لهُ، لحَدِيثِ أُمِّ سَلمَةَ رضي الله عنها قَالتْ
"دَخَل رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى أَبِي سَلمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَال: إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ البَصَرُ، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلهِ فَقَال: لا تَدْعُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ إلا بِخَيْرٍ فَإِنَّ المَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلى مَا تَقُولونَ. ثُمَّ قَال: اللهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي المَهْدِيِّينَ وَاخْلفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لنَا وَلهُ يَا رَبَّ العَالمِينَ، وَافْسَحْ لهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لهُ فِيهِ"رَوَاهُ مُسْلمٌ.
قَوْلهَا "شَقَّ بَصَرُهُ "هُوَ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَبَصَرُهُ بِرَفْعِ الرَّاءِ، هَكَذَا الرِّوَايَةُ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الحُفَّاظِ وَأَهْل الضَّبْطِ. قَال صَاحِبُ الأَفْعَال: يُقَال: شَقَّ بَصَرُ المَيِّتِ وَشَقَّ المَيِّتُ بَصَرُهُ إذَا شَخَصَ
فرع: فِيمَا يُقَال عِنْدَ المَيِّتِ وَمَا يَقُولهُ مَنْ مَاتَ لهُ قَرِيبٌ أَوْ صَاحِبٌ
 عَنْ أُمِّ سَلمَةَ قَالتْ: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم
"إذَا حَضَرْتُمْ المَرِيضَ أَوْ المَيِّتَ فَقُولوا خَيْرًا فَإِنَّ المَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلى مَا تَقُولونَ قَالتْ فَلمَّا مَاتَ أَبُو سَلمَةَ أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلت يَا رَسُول اللهِ إنَّ أَبَا سَلمَةَ قَدْ مَاتَ. قَال: قُولي اللهُمَّ اغْفِرْ لي وَلهُ وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً فَقُلت، فَأَعْقَبَنِي اللهُ مَنْ هُوَ لي خَيْرٌ مِنْهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم"رَوَاهُ مُسْلمٌ. هَكَذَا: "المَرِيضُ أَوْ المَيِّتُ "عَلى الشَّكِّ، وَهُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ المَيِّتُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَعَنْهَا قَالتْ سَمِعْت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُول: إنَّا للهِ وَإِنَّا إليْهِ رَاجِعُونَ، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلفْ لي خَيْرًا مِنْهَا إلا آجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَاخْلفْ لهُ خَيْرًا مِنْهَا. قَالتْ: فَلمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلمَةَ قُلت كَمَا أَمَرَنِي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْلفَ اللهُ تَعَالى لي خَيْرًا مِنْهُ، رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم"رَوَاهُ مُسْلمٌ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال
"إذَا مَاتَ وَلدُ العَبْدِ قَال اللهُ تَعَالى لمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولونَ: نَعَمْ، فَيَقُول قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولونَ: نَعَمْ، فَيَقُول: فَمَاذَا قَال عَبْدِي؟ فَيَقُولونَ: حَمِدَك وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُول اللهُ تَعَالى: ابْنُوا لعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

 

ج / 5 ص -81-         وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال يَقُول اللهُ تَعَالى: مَا لعَبْدِي المُؤْمِنِ جَزَاءٌ إذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْل الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلا الجَنَّةُ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
 فرع: يَجُوزُ لأَهْل المَيِّتِ وَأَصْدِقَائِهِ تَقْبِيل وَجْهِهِ، ثَبَتَتْ فِيهِ الأَحَادِيثُ، وَصَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ فِي الاسْتِذْكَارِ وَالسَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَالي.
 فرع: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ للمَرِيضِ الصَّبْرُ. قَال أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ لهُ كَثْرَةُ الشَّكْوَى، فَلوْ سَأَلهُ طَبِيبٌ أَوْ قَرِيبٌ لهُ أَوْ صَدِيقٌ أَوْ نَحْوُهُمْ عَنْ حَالهِ فَأَخْبَرَهُ بِالشِّدَّةِ التِي هُوَ فِيهَا، لا عَلى صُورَةِ الجَزَعِ فَلا بَأْسَ. قَال المُتَوَلي: وَيُكْرَهُ لهُ التَّأَوُّهُ وَالأَنِينُ، وَكَذَا قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ الشَّامِل وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ لهُ الأَنِينُ، لأَنَّ طَاوُسًا رحمه الله كَرِهَهُ. وَهَذَا الذِي قَالوهُ مِنْ الكَرَاهَةِ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ فَإِنَّ المَكْرُوهَ هُوَ الذِي ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ وَلمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا نَهْيٌ، بَل فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ القَاسِمِ قَال "قَالتْ عَائِشَةُ:
وَارَأْسَاهْ، فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَل أَنَا وَارَأْسَاهْ"فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَلكِنَّ الاشْتِغَال بِالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ أَوْلى، فَلعَلهُمْ أَرَادُوا بِالمَكْرُوهِ هَذَا.