المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ غُسْل المَيِّتِ
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَغُسْلهُ فَرْضٌ عَلى الكِفَايَةِ "لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم فِي الذِي سَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ:
اغْسِلوهُ بِمَاءٍ وَسِدْر".
 الشرح: هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَغُسْل المَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِإِجْمَاعِ المُسْلمِينَ، وَمَعْنَى فَرْضِ الكِفَايَةِ أَنَّهُ إذَا فَعَلهُ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ الحَرَجُ عَنْ البَاقِينَ، وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلهُمْ أَثِمُوا كُلهُمْ.
وَاعْلمْ أَنَّ غُسْل المَيِّتِ وَتَكْفِينَهُ وَالصَّلاةَ عَليْهِ وَدَفْنَهُ فُرُوضُ كِفَايَةٍ بِلا خِلافٍ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ كَانَ المَيِّتُ رَجُلًا لا زَوْجَةَ لهُ فَأَوْلى النَّاسِ بِغُسْلهِ الأَبُ ثُمَّ الجَدُّ ثُمَّ الابْنُ ثُمَّ ابْنُ الابْنِ ثُمَّ الأَخُ ثُمَّ ابْنُ الأَخِ ثُمَّ العَمُّ ثُمَّ ابْنُ العَمِّ لأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالصَّلاةِ عَليْهِ، فَكَانُوا أَحَقَّ بِغُسْلهِ، فَإِنْ كَانَ لهُ زَوْجَةٌ جَازَ لهَا غُسْلهُ، لمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَوْصَى أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ لتُغَسِّلهُ "وَهَل تُقَدَّمُ عَلى العَصَبَاتِ؟، فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهَا تُقَدَّمُ لأَنَّهَا تَنْظُرُ مِنْهُ إلى مَا لا يَنْظُرُ العَصَبَاتُ وَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ والثاني: يُقَدَّمُ العَصَبَاتُ لأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالصَّلاةِ عَليْهِ".
 الشرح:
حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الوَاقِدِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ. قَال البَيْهَقِيُّ: وَرِوَايَةُ الوَاقِدِيِّ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَلهُ شَوَاهِدُ مَرَاسِيل.

 

ج / 5 ص -82-         قُلت: وَرَوَاهُ مَالكٌ فِي المُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ "أَنَّهَا غَسَّلتْ أَبَا بَكْرٍ حِينَ تُوُفِّيَ، فَسَأَلتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنْ المُهَاجِرِينَ، فَقَالتْ: إنِّي صَائِمَةٌ وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ البَرْدِ فَهَل عَليَّ مِنْ غُسْلٍ، فَقَالوا: لا "وَهَذَا الإِسْنَادُ مُنْقَطِعٌ. وَعُمَيْسٌ بِعَيْنٍ مُهْمَلةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ مِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلةٍ، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ مِنْ السَّابِقَاتِ إلى الإِسْلامِ، أَسْلمَتْ قَدِيمًا بِمَكَّةَ قَبْل دُخُول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَارَ الأَرْقَمِ.
قَال أَصْحَابُنَا: الأَصْل فِي غُسْل المَيِّتِ أَنْ يُغَسِّل الرِّجَال الرِّجَال وَالنِّسَاءُ النِّسَاءَ فَإِنْ كَانَ المَيِّتُ رَجُلًا فَأَوْلى النَّاسِ بِهِ أَوْلاهُمْ بِالصَّلاةِ عَليْهِ، وَزَوْجَتُهُ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ زَوْجَةٌ فَأَوْلاهُمْ الأَبُ ثُمَّ الجَدُّ ثُمَّ الابْنُ ثُمَّ ابْنُ الابْنِ ثُمَّ الأَخُ ثُمَّ العَمُّ ثُمَّ ابْنُ العَمِّ ثُمَّ عَمُّ الأَبِ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ عَمُّ الجَدِّ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ عَمُّ أَبِ الجَدِّ ثُمَّ ابْنُهُ وَعَلى هَذَا التَّرْتِيبِ. وَإِنْ كَانَ لهُ زَوْجَةٌ جَازَ لهَا غُسْلهُ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالتْ الأَئِمَّةُ كُلهَا إلا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَهَل تُقَدَّمُ عَلى رِجَال العَصَبَاتِ؟ فِيهِ الوَجْهَانِ اللذَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ وَهُمَا مَشْهُورَانِ أصحهما: عِنْدَ الأَكْثَرِينَ لا تُقَدَّمُ، بَل يُقَدَّمُ رِجَال العَصَبَاتِ ثُمَّ الرِّجَال الأَقَارِبُ ثُمَّ الأَجَانِبُ ثُمَّ الزَّوْجَةُ ثُمَّ النِّسَاءُ المَحَارِمُ. وَبِهَذَا قَطَعَ المُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ.
والثاني: تُقَدَّمُ الزَّوْجَةُ عَليْهِمْ، وَصَحَّحَهُ البَنْدَنِيجِيُّ، وَفِي المَسْأَلةِ وَجْهٌ ثَالثٌ ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَالي وَغَيْرُهُ مِنْ الأَصْحَابِ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الرِّجَال الأَقَارِبُ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ ثُمَّ الرِّجَال الأَجَانِبُ ثُمَّ النِّسَاءُ المَحَارِمُ، وَإِلى مَتَى تُغَسِّل زَوْجَهَا؟ فِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالبَغَوِيُّ وَالمُتَوَلي وَآخَرُونَ. أصحها: تُغَسِّلهُ أَبَدًا وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الحَمْل فِي الحَال وَتَزَوَّجَتْ، لأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لهَا فَلا يَسْقُطُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلكَ كَالمِيرَاثِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الغَزَاليُّ فِي كِتَابِ العُدَّةِ وَغَيْرُهُ مِنْ الأَصْحَابِ، وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلاقِ المُصَنِّفِ وَالأَكْثَرِينَ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. والثاني: لهَا غُسْلهُ مَا لمْ تَتَزَوَّجْ، وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، لأَنَّهَا بِالزَّوَاجِ صَارَتْ صَالحَةً لغُسْل الثَّانِي لوْ مَاتَ، وَلا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَاسِلةً لزَوْجَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. والثالث: لهَا غُسْلهُ مَا لمْ تَنْقَضِ العِدَّةُ، لأَنَّ بِانْقِضَاءِ العِدَّةِ تَنْقَطِعُ عَلائِقُ النِّكَاحِ، وَلوْ كَانَ لهُ زَوْجَتَانِ فَأَكْثَرُ وَتَنَازَعْنَ فِي غُسْلهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ بِلا خِلافٍ، وَكَذَا لوْ مَاتَ لهُ زَوْجَاتٌ فِي وَقْتٍ بِهَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا غَسَّلهَا أَوَّلًا ذَكَرَهُ صَاحِبَا التَّتِمَّةِ وَالعُدَّةِ وَغَيْرُهُمَا.
فرع: لمْ يَذْكُرْ المُصَنِّفُ النِّسَاءَ المَحَارِمَ، وَقَدْ ذَكَرَهُنَّ المُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ، وَسَائِرُ الأَصْحَابِ فَقَالوا: يَجُوزُ للنِّسَاءِ المَحَارِمِ غُسْلهُ، وَهُنَّ مُؤَخَّرَاتٌ عَنْ الرِّجَال الأَقَارِبِ وَالأَجَانِبِ وَالزَّوْجِ، لأَنَّهُنَّ فِي حَقِّهِ كَالرِّجَال. فرع: ذَكَرَ المُصَنِّفُ أَنَّ دَليل غُسْل الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا قِصَّةُ أَسْمَاءَ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ فَالصَّوَابُ الاحْتِجَاجُ بِالإِجْمَاعِ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ المُنْذِرِ فِي كِتَابَيْهِ الإِشْرَافِ وَكِتَابِ الإِجْمَاعِ أَنَّ الأُمَّةَ

 

ج / 5 ص -83-         أَجْمَعَتْ أَنْ للمَرْأَةِ غُسْل زَوْجِهَا، وَكَذَا نَقَل الإِجْمَاعَ غَيْرُهُ وَأَمَّا: الرِّوَايَةُ التِي نَقَلهَا صَاحِبُ الشَّامِل وَغَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا ليْسَ لهَا غُسْلهُ، فَإِنْ ثَبَتَتْ عَنْهُ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالإِجْمَاعِ قَبْلهُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَلمْ يَكُنْ لهَا زَوْجٌ غَسَّلهَا النِّسَاءُ، وَأَوْلاهُنَّ ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ، ثُمَّ ذَاتُ رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ، ثُمَّ الأَجْنَبِيَّةُ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ نِسَاءٌ غَسَّلهَا الأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ مِنْ الرِّجَال عَلى مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَ لهَا زَوْجٌ جَازَ لهُ غُسْلهَا، لمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالتْ:
"رَجَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ البَقِيعِ فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا وَأَقُول: وَا رَأْسَاهْ فَقَال: بَل أَنَا يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهْ، ثُمَّ قَال: وَمَا ضَرَّك لوْ مُتِّ قَبْلي لغَسَّلتُك وَكَفَّنْتُك وَصَليْتُ عَليْك وَدَفَنْتُك"وَهَل يُقَدَّمُ عَلى النِّسَاءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يُقَدَّمُ لأَنَّهُ يَنْظُرُ إلى مَا لا يَنْظُرُ النِّسَاءُ مِنْهَا والثاني: يُقَدَّمُ النِّسَاءُ عَلى التَّرْتِيبِ الذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ نِسَاءٌ فَأَوْلى الأَقْرِبَاءِ بِالصَّلاةِ فَإِنْ لمْ يَكُنْ فَالزَّوْجُ، وَإِنْ طَلقَ زَوْجَتَهُ طَلقَةً رَجْعِيَّةً ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل الرَّجْعَةِ فَإِنْ لمْ يَكُنْ للآخَرِ غُسْلهُ لأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَليْهِ تَحْرِيمَ المَبْتُوتَةِ".
الشَّرْحُ:
حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ المَغَازِي، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مُدَلسٌ، وَإِذَا قَال المُدَلسُ: عَنْ لا يُحْتَجُّ بِهِ، وَوَقَعَ فِي المُهَذَّبِ "لوْ مُتِّ قَبْلي لغَسَّلتُك "بِاللامِ، وَاَلذِي رَأَيْتُهُ فِي كُتُبِ الحَدِيثِ "فَغَسَّلتُك "بِالفَاءِ وَيُقَال: مِتّ بِضَمِّ المِيمِ وَكَسْرِهَا لغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَالبَقِيعُ بِالبَاءِ فِي أَوَّلهِ وَهُوَ بَقِيعُ الغَرْقَدِ مَدْفَنُ أَهْل المَدِينَةِ.
أَمَّا الأَحْكَامُ: فَفِي الفَصْل مَسَائِل:
إحداها: إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ ليْسَ لهَا زَوْجٌ غَسَّلهَا النِّسَاءُ ذَوَاتُ الأَرْحَامِ المَحَارِمِ كَالأُمِّ وَالبِنْتِ وَبِنْتِ الابْنِ وَبِنْتِ البِنْتِ وَالأُخْتِ وَالعَمَّةِ وَالخَالةِ وَأَشْبَاهِهِنَّ، ثُمَّ ذَوَاتُ الأَرْحَامِ غَيْرِ المَحَارِمِ كَبِنْتِ العَمِّ وَبِنْتِ العَمَّةِ وَبِنْتِ الخَال وَبِنْتِ الخَالةِ يُقَدَّمُ أَقْرَبُهُنَّ فَأَقْرَبُهُنَّ، قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: وَبَعْدَ هَؤُلاءِ يُقَدَّمُ ذَوَاتُ الوَلاءِ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ فَالأَجْنَبِيَّات، وَيَرِدُ عَلى المُصَنِّفِ إهْمَالهُ ذَوَاتَ الوَلاءِ، قَال البَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: فَإِنْ اجْتَمَعَ امْرَأَتَانِ كُل وَاحِدَةٍ ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَأَوْلاهُمَا مَنْ هِيَ فِي مَحَل العُصُوبَةِ، لوْ كَانَتْ ذَكَرًا فَتُقَدَّمُ العَمَّةُ عَلى الخَالةِ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ نِسَاءٌ أَصْلًا غَسَّلهَا الأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ مِنْ رِجَال المَحَارِمِ عَلى مَا سَبَقَ فِيمَا إذَا مَاتَ رَجُلٌ فَيُقَدَّمُ الأَبُ ثُمَّ الجَدُّ ثُمَّ الابْنُ عَلى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ.
وَفِي كَلامِ المُصَنِّفِ إشْكَالٌ، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي غُسْلهَا كُل مَنْ يُقَدَّمُ فِي غُسْل الرَّجُل مِنْ الرِّجَال. فَيَدْخُل فِي ذَلكَ ابْنُ العَمِّ وَلا خِلافَ أَنَّهُ لا حَقَّ لهُ فِي غُسْلهَا فَإِنَّهُ ليْسَ مَحْرَمًا، وَإِنْ كَانَ لهُ حَقٌّ فِي الصَّلاةِ فَمُرَادُهُ الأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ مِنْ الرِّجَال المَحَارِمِ، وَلقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ البَيَانِ فِي مُشْكِلاتِ المُهَذَّبِ وَغَيْرِهِمَا، فَرَتَّبَهُ عَلى أَنَّ ابْنَ العَمِّ لا يَجُوزُ لهُ غُسْلهَا بَل هُوَ كَالأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الأَكْثَرُونَ قَدْ أَهْمَلوا بَيَانَهُ وَاَللهُ أَعْلمُ.

 

ج / 5 ص -84-         الثانية: يَجُوزُ للزَّوْجِ غُسْل زَوْجَتِهِ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا، وَسَنُوَضِّحُ دَليلهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ العُلمَاءِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى، وَهَل يُقَدَّمُ عَلى النِّسَاءِ؟ فِيهِ الوَجْهَانِ اللذَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ وَهُمَا مَشْهُورَانِ أصحهما: عِنْدَ الأَصْحَابِ أَنَّ النِّسَاءَ يُقَدَّمْنَ عَليْهِ، وَنَقَلهُ الرَّافِعِيُّ. والثاني: يُقَدَّمُ عَليْهِنَّ، وَصَحَّحَهُ البَنْدَنِيجِيُّ وَدَليلهُ فِي الكِتَابِ، وَهَل يُقَدَّمُ الزَّوْجُ عَلى الرِّجَال المَحَارِمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا بِالاتِّفَاقِ يُقَدَّمُ الزَّوْجُ عَليْهِمْ صَحَّحَهُ المَحَامِليُّ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَنَقَلهُ صَاحِبُ الحَاوِي عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَقَطَعَ المُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ القَفَّال بِتَقْدِيمِ الزَّوْجِ عَلى الرِّجَال المَحَارِمِ وَتَأْخِيرِهِ عَنْ النِّسَاءِ، فَيَحْصُل فِي المَسْأَلتَيْنِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: أحدها: يُقَدَّمُ الزَّوْجُ عَلى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ. والثاني: يُقَدَّمُ النِّسَاءُ وَالمَحَارِمُ مِنْ الرِّجَال عَليْهِ. والثالث: وَهُوَ الأَصَحُّ يُقَدَّمُ عَلى الرِّجَال وَيُؤَخَّرُ عَنْ النِّسَاءِ كَمَا قَطَعَ بِهِ المُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَمُوَافِقُوهُ.
 المسألة الثالثة إذَا طَلقَ زَوْجَتَهُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا أَوْ فَسَخَ نِكَاحَهَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي العِدَّةِ لمْ يَجُزْ للآخَرِ غُسْلهُ، لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَإِنَّمَا قَاسَهُ عَلى البَائِنِ لأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالفَ فِي الرَّجْعِيَّةِ وَوَافَقَ فِي البَائِنِ، وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ، وَعَنْ مَالكٍ رِوَايَتَانِ كَالمَذْهَبَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّهُ لا يُغَسِّل البَائِنَ.
 فرع: لوْ مَاتَتْ امْرَأَتُهُ فَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا جَازَ لهُ غُسْلهَا عَلى المَذْهَبِ، وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلاقِ المُصَنِّفِ وَالجُمْهُورِ. وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ أصحهما: جَوَازُهُ والثاني: مَنْعُهُ لأَنَّ أُخْتَهَا أَوْ الأَرْبَعَ لوْ مُتْنَ فِي الحَال لغَسَّلهُنَّ فَلوْ جَوَّزْنَا غُسْل هَذِهِ لزِمَ مِنْهُ جَوَازُ غُسْل امْرَأَةٍ وَأُخْتِهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِالزَّوْجِيَّةِ.
 فرع: ظَاهِرُ كَلامِ الغَزَاليِّ وَبَعْضِهِمْ أَنَّ الرِّجَال المَحَارِمَ لهُمْ الغُسْل مَعَ وُجُودِ النِّسَاءِ، قَال الرَّافِعِيُّ: وَلكِنْ لمْ أَرَ لعَامَّةِ الأَصْحَابِ تَصْرِيحًا بِذَلكَ، وَإِنَّمَا يَتَكَلمُونَ فِي التَّرْتِيبِ وَيَقُولونَ: المَحَارِمُ بَعْدَ النِّسَاءِ.
 فرع: قَال أَصْحَابُنَا: للسَّيِّدِ غُسْل أَمَتِهِ، وَمُدَبَّرَتِهِ، وَأُمِّ وَلدِهِ، وَمُكَاتَبَتِهِ وَلا خِلافَ فِي هَذَا لأَنَّهَا مَمْلوكَةٌ لهُ فَأَشْبَهَتْ الزَّوْجَةَ، بَل هَذِهِ أَوْلى، فَإِنَّهُ يَمْلكُ الرَّقَبَةَ وَالبُضْعَ جَمِيعًا فإن قيل فَالمُكَاتَبَةُ لا يَمْلكُ بُضْعَهَا (قُلنَا) بِالمَوْتِ تَنْفَسِخُ الكِتَابَةُ فَيَعُودُ البُضْعُ كَمَا كَانَ قَبْل الكِتَابَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ مِنْ هَؤُلاءِ المَذْكُورَاتِ مُزَوَّجَةً أَوْ مُعْتَدَّةً أَوْ مُسْتَبْرَأَةً فَلا يَجُوزُ لهُ غُسْلهَا بِالاتِّفَاقِ لأَنَّهُ لا يَسْتَبِيحُ بُضْعَهَا، وَهَل يَجُوزُ للأَمَةِ وَالمُدَبَّرَةِ وَالمُسْتَوْلدَة غُسْل السَّيِّدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا أصحهما: لا يَجُوزُ، لأَنَّهَا بِالمَوْتِ صَارَتْ لغَيْرِهِ أَوْ حُرَّةً والثاني: جَوَازُهُ كَعَكْسِهِ، وَأَمَّا المُكَاتَبَةُ وَالمُزَوَّجَةُ وَالمُعْتَدَّةُ وَالمُسْتَبْرَأَة فَلا يَجُوزُ لهُنَّ غُسْلهُ بِلا خِلافٍ كَعَكْسِهِ، صَرَّحَ بِهِ البَغَوِيّ وَغَيْرُهُ.
 فرع: إذَا غَسَّل أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الآخَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلفَّ عَلى يَدِهِ خِرْقَةً لئَلا يَمَسَّ بَشَرَتَهُ فَإِنْ لم.

 

ج / 5 ص -85-         يَلفَّ، قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَمُتَابِعُوهُ: يَصِحُّ الغُسْل بِلا خِلافٍ وَلا يُبْنَى عَلى الخِلافِ فِي انْتِقَاضِ طُهْرِ المَلمُوسِ، لأَنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ لهُ مَعَ مَسِيسِ الحَاجَةِ إليْهِ، وَأَمَّا اللامِسُ فَقَطَعَ القَاضِي بِانْتِقَاضِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ سَبَقَ فِي بَابِ مَا يَنْقُضُ الوُضُوءَ.
 فرع: قَال أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ فِيمَنْ نُقَدِّمُهُ فِي الغُسْل شَرْطَانِ أحدهما: كَوْنُهُ مُسْلمًا، إنْ كَانَ المَغْسُول مُسْلمًا، فَلوْ كَانَ المَحْكُومُ بِتَقْدِيمِ دَرَجَتِهِ كَافِرًا فَهُوَ كَالمَعْدُومِ وَنُقَدِّمُ مَنْ بَعْدَهُ، حَتَّى يُقَدَّمَ المُسْلمُ الأَجْنَبِيُّ عَلى القَرِيبِ الكَافِرِ الثاني أَنْ لا يَكُونَ قَاتِلًا، قَال المُتَوَلي وَآخَرُونَ: إذَا قَتَل قَرِيبَهُ فَليْسَ لهُ حَقٌّ فِي غُسْلهِ وَلا الصَّلاةِ عَليْهِ، وَلا فِي دَفْنِهِ لأَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ، وَلأَنَّهُ لمْ يَرْعَ حَقَّ القَرَابَةِ، بَل بَالغَ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ، هَذَا إذَا قَتَلهُ ظُلمًا فَإِنْ قَتَلهُ بِحَقٍّ، قَال المُتَوَلي وَآخَرُونَ: فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلى إرْثِهِ إنْ وَرَّثْنَاهُ ثَبَتَ لهُ حَقُّ الغُسْل وَغَيْرِهِ وَإِلا فَلا.
 فرع: لوْ تَرَكَ المُقَدَّمُ فِي الغُسْل حَقَّهُ وَسَلمَهُ لمَنْ بَعْدَهُ، فَللذِي بَعْدَهُ تَعَاطِيهِ بِشَرْطِ اتِّحَادِ الجِنْسِ فَليْسَ للرِّجَال أَنْ يَتْرُكُوهُ كُلهُمْ وَيُفَوِّضُوهُ إلى النِّسَاءِ إذَا كَانَ المَيِّتُ رَجُلًا، وَكَذَا ليْسَ لهُنَّ تَفْوِيضُهُ إلى الرِّجَال إذَا كَانَتْ المَيِّتَةُ امْرَأَةً، هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ، وَنَقَلهُ عَنْهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ، وَجَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: عِنْدِي فِي جَوَازِ تَفْوِيضِ المُقَدَّمِ إلى غَيْرِهِ احْتِمَالانِ.
 فرع: قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْليقِهِ: مَذْهَبُنَا أَنَّ المَرْأَةَ إذَا مَاتَتْ كَانَ حُكْمُ نَظَرِ الزَّوْجِ إليْهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ بَاقِيًا، وَزَال حُكْمُ نَظَرِهِ بِشَهْوَةٍ، ثُمَّ قَال بَعْدَهُ، فَإِنْ قِيل: قُلتُمْ فُرْقَةُ الطَّلاقِ يَنْقَطِعُ بِهَا حُكْمُ النَّظَرِ، وَلا يَنْقَطِعُ بِفُرْقَةِ المَوْتِ فَمَا الفَرْقُ؟ قُلنَا: مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّ فُرْقَةَ الطَّلاقِ بِرِضَاهُمَا أَوْ بِرِضَاهُ، وَفُرْقَةَ المَوْتِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا. والثاني: أَنَّ زَوَال المِلكِ بِالمَوْتِ يَبْقَى مِنْ آثَارِهِ مَا لا يَبْقَى إذَا زَال فِي الحَيَاةِ وَلهَذَا لوْ قَال: إذَا بِعْت عَبْدِي فَقَدْ أَوْصَيْت بِهِ لفُلانٍ فَبَاعَهُ لمْ تَصِحَّ الوَصِيَّةُ، وَلوْ قَال: إذَا مِتّ فَعَبْدِي مُوصًى بِهِ لفُلانٍ صَحَّتْ الوَصِيَّةُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فُرْقَةَ الطَّلاقِ تَمْنَعُ الإِرْثَ بِخِلافِ فُرْقَةِ المَوْتِ. هَذَا آخِرُ كَلامِ أَبِي حَامِدٍ، وَكَانَ حَقِيقَةُ الفَرْقِ الأَوَّل أَنَّ الحَاجَةَ تَدْعُو إلى النَّظَرِ بَعْدَ المَوْتِ للغُسْل وَنَحْوِهِ، وَلا يُعَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُقَصِّرًا فِي هَذِهِ الفُرْقَةِ بِخِلافِ الفُرْقَةِ فِي الحَيَاةِ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ وَليْسَ هُنَاكَ إلا امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ أَوْ مَاتَتْ وَليْسَ هُنَاكَ إلا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ، فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يُيَمَّمُ والثاني: يُسْتَرُ بِثَوْبٍ وَيَجْعَل الغَاسِل عَلى يَدِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يُغَسِّلهُ. وَإِنْ مَاتَ كَافِرٌ فَأَقَارِبُهُ الكُفَّارُ أَحَقُّ بِغُسْلهِ مِنْ أَقَارِبِهِ المُسْلمِينَ، لأَنَّ للكَافِرِ عَليْهِ وِلايَةً، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ أَقَارِبُ مِنْ الكُفَّارِ جَازَ لأَقَارِبِهِ مِنْ المُسْلمِينَ، غُسْلهُ
"لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَليًّا رضي الله عنه أَنْ يُغَسِّل أَبَاهُ "وَإِنْ مَاتَتْ ذِمِّيَّةٌ وَلهَا زَوْجٌ مُسْلمٌ كَانَ لهُ غُسْلهَا، لأَنَّ النِّكَاحَ كَالنَّسَبِ فِي الغُسْل وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ قَال فِي الأُمِّ: كَرِهْت لهَا أَنْ تُغَسِّلهُ، فَإِنْ غَسَّلتْهُ أَجْزَأَ لأَنَّ القَصْدَ مِنْهُ التَّنْظِيفُ وَذَلكَ يَحْصُل بِغُسْلهَا، وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ وَلدٍ كَانَ للسَّيِّدِ غُسْلهَا، لأَنَّهُ يَجُوزُ لهُ غُسْلهَا فِي حَال الحَيَاةِ فَجَازَ لهُ غُسْلهَا بَعْدَ المَوْتِ كَالزَّوْجَةِ. وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ فَهَل

 

ج / 5 ص -86-         يَجُوزُ لهَا غُسْلهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَال أَبُو عَليٍّ الطَّبَرِيُّ: لا يَجُوزُ لأَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ فَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً والثاني: يَجُوزُ لأَنَّهُ لمَّا جَازَ لهُ غُسْلهَا جَازَ لهَا غُسْلهُ كَالزَّوْجَةِ".
 الشرح: فِيهِ مَسَائِل:
إحداها: إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَليْسَ هُنَاكَ إلا امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَليْسَ هُنَاكَ إلا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ، فَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: "أَصَحُّهَا "عِنْدَ الجُمْهُورِ يُيَمَّمُ وَلا يُغَسَّل، وَبِهَذَا قَطَعَ المُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالمَحَامِليُّ فِي المُقْنِعِ وَالبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَنَقَلهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَآخَرُونَ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَصْحَابِ الوُجُوهِ وَنَقَلهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ، لأَنَّهُ تَعَذَّرَ غُسْلهُ شَرْعًا بِسَبَبِ اللمْسِ وَالنَّظَرِ، فَيُيَمَّمُ كَمَا لوْ تَعَذَّرَ حِسًّا. والثاني: يَجِبُ غُسْلهُ مِنْ فَوْقِ ثَوْبٍ، وَيَلفُّ الغَاسِل عَلى يَدِهِ خِرْقَةً وَيَغُضُّ طَرْفَهُ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلى النَّظَرِ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، صَرَّحَ بِهِ البَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا، كَمَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلى عَوْرَتِهَا للمُدَاوَاةِ، وَبِهَذَا قَال القَفَّال، وَنَقَلهُ السَّرَخْسِيُّ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الزِّيَادِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلهُ صَاحِبُ الحَاوِي عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الحَاوِي وَالدَّارِمِيُّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ، لأَنَّ الغُسْل وَاجِبٌ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَلا يُتْرَكُ. والثالث: لا يُغَسَّل وَلا يُيَمَّمُ، بَل يُدْفَنُ بِحَالهِ، حَكَاهُ صَاحِبُ البَيَانِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا بَل بَاطِلٌ.
الثانية: لا يَجِبُ عَلى المُسْلمِينَ وَلا غَيْرِهِمْ غُسْل الكَافِرِ بِلا خِلافٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَمْ غَيْرَهُ، لأَنَّهُ ليْسَ مِنْ أَهْل العِبَادَةِ وَلا مِنْ أَهْل التَّطْهِيرِ، وَيَجُوزُ للمُسْلمِينَ وَغَيْرِهِمْ غُسْلهُ، وَأَقَارِبُهُ الكُفَّارُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ المُسْلمِينَ.
وَأَمَّا تَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَفِي وُجُوبِهِمَا عَلى المُسْلمِينَ إذَا لمْ يَكُنْ. لهُ مَالٌ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَمُتَابِعُوهُ وَالبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ "أَصَحُّهُمَا "الوُجُوبُ وَفَاءً بِذِمَّتِهِ، كَمَا يَجِبُ إطْعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَهَذَا الوَجْهُ قَوْل الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيِّ، وَاخْتَارَهُ القَاضِي حُسَيْنٌ والثاني: وَهُوَ الذِي نَقَلهُ القَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ الأَصْحَابِ: لا يَجِبَانِ بَل يُنْدَبَانِ وَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا لمْ يَجِبْ تَكْفِينُهُ بِلا خِلافٍ وَلا يَجِبُ دَفْنُهُ عَلى المَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الأَكْثَرُونَ، بَل يَجُوزُ إغْرَاءُ الكِلابِ عَليْهِ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ البَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا لكِنْ يَجُوزُ دَفْنُهُ لئَلا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِرَائِحَتِهِ - وَقِيل فِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ.
وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ: فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ أَقَارِبُ مِنْ الكُفَّارِ جَازَ لأَقَارِبِهِ مِنْ المُسْلمِينَ غُسْلهُ، فَيُوهِمُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ للمُسْلمِينَ غُسْلهُ مَعَ وُجُودِ أَقَارِبِهِ الكُفَّارِ، وَليْسَ هَذَا مُرَادَهُ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ فِي كِتَابَيْهِ، وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالقَاضِي حُسَيْنٌ وَخَلائِقُ مِنْ الأَصْحَابِ أَنَّ الكَافِرَ إذَا مَاتَ وَتَنَازَعَ فِي غُسْلهِ أَقَارِبُهُ الكُفَّارُ وَأَقَارِبُهُ المُسْلمُونَ فَالكُفَّارُ أَحَقُّ، فَإِذَا لمْ يَكُنْ قَرَابَةٌ مِنْ الكُفَّارِ أَوْ كَانُوا وَتَرَكُوا حَقَّهُمْ مِنْ غُسْلهِ، جَازَ لقَرِيبِهِ المُسْلمِ، وَلغَيْرِ قَرِيبِهِ مِنْ المُسْلمِينَ غُسْلهُ وَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ.

 

ج / 5 ص -87-         وَأَمَّا الصَّلاةُ عَلى الكَافِرِ وَالدُّعَاءُ لهُ بِالمَغْفِرَةِ فَحَرَامٌ بِنَصِّ القُرْآنِ وَالإِجْمَاعِ، وَقَدْ ذَكَرَ المُصَنِّفُ مَسْأَلةَ الصَّلاةِ فِي آخِرِ بَابِ الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ وَالأَصْحَابُ: وَيَجُوزُ للمُسْلمِ اتِّبَاعُ جِنَازَةِ قَرِيبِهِ الكَافِرِ وَأَمَّا زِيَارَةُ قَبْرِهِ فَالصَّوَابُ جَوَازُهَا وَبِهِ قَطَعَ الأَكْثَرُونَ. وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: لا يَجُوزُ، وَهَذَا غَلطٌ، لحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: "قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلمْ يَأْذَنْ لي وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لي"رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ لهُ: "فَزُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ المَوْتَ". وَأَمَّا حَدِيثُ عَليٍّ المَذْكُورُ فِي الكِتَابِ فِي غُسْلهِ أَبَاهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ البَيْهَقِيُّ.
المسألة الثالثة: إذَا مَاتَتْ ذِمِّيَّةٌ جَازَ لزَوْجِهَا المُسْلمِ غُسْلهَا، وَكَذَا لسَيِّدِهَا إنْ لمْ تَكُنْ مُزَوَّجَةً وَلا مُعْتَدَّةً وَلا مُسْتَبْرَأَةً، فَإِنْ مَاتَ زَوْجُهَا المُسْلمُ فَغَسَّلتْهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ، وَفِي صِحَّتِهِ طَرِيقَانِ المَذْهَبُ وَالمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ العِرَاقِيِّينَ صِحَّتُهُ. والثاني: فِي صِحَّتِهِ قَوْلانِ المَنْصُوصُ جَوَازُهُ وَصِحَّتُهُ، وَالمَخْرَجُ بُطْلانُهُ حَكَاهُ الخُرَاسَانِيُّونَ بِنَاءً عَلى اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الغَاسِل، قَالوا: نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّ غُسْل الكَافِرِ المُسْلمَ صَحِيحٌ، وَلا يَجِبُ عَلى المُسْلمِينَ إعَادَتُهُ، وَنَصَّ فِي الغَرِيقِ أَنَّهُ يَجِبُ إعَادَةُ غُسْلهِ، وَلا يَكْفِي انْغِسَالهُ بِالغَرَقِ، وَمِمَّنْ نَقَل النَّصَّ مِنْ العِرَاقِيِّينَ فِي الغَرَقِ صَاحِبُ الشَّامِل، فَجَعَل الخُرَاسَانِيُّونَ المَسْأَلةَ عَلى طَرِيقَيْنِ. أحدهما: أَنَّ فِي الاكْتِفَاءِ بِغُسْل الكَافِرِ وَانْغِسَال الغَرِيقِ قَوْليْنِ بِالنَّقْل وَالتَّخْرِيجِ والثاني: وَهُوَ المَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَبِهِ قَطَعَ العِرَاقِيُّونَ يَكْفِي غُسْل الكَافِرِ دُونَ الغَرِيقِ، وَالفَرْقُ بِأَنَّهُ لا بُدَّ فِي الغُسْل مِنْ فِعْل آدَمِيٍّ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الكَافِرِ دُونَ الغَرِيقِ، هَذَا هُوَ الفَرْقُ المُعْتَمَدُ، وَبِهِ فَرَّقَ المَاوَرْدِيُّ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ الشَّامِل وَسَائِرُ الأَصْحَابِ.
وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ: لأَنَّ القَصْدَ مِنْهُ التَّنْظِيفُ فَضَعِيفٌ لأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِالغَرَقِ قَال الدَّارِمِيُّ: قَال الشَّافِعِيُّ: وَلوْ مَاتَ رَجُلٌ وَهُنَاكَ نِسَاءٌ مُسْلمَاتٌ وَرِجَالٌ كُفَّارٌ أَمَرْنَ الكُفَّارَ بِغُسْلهِ، وَصَليْنَ عَليْهِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلى المَذْهَبِ فِي صِحَّةِ غُسْل الكَافِرِ.
الرَّابِعَةُ: إذَا مَاتَتْ أُمُّ الوَلدِ فَلسَيِّدِهَا غُسْلهَا بِلا خِلافٍ، لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلمَةً أَوْ كَافِرَةً، لكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لا تَكُونَ مُزَوَّجَةً وَلا مُعْتَدَّةً، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا، وَهَل لهَا غُسْل سَيِّدِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ وَسَبَقَا أصحهما: لا يَجُوزُ، وَبِهِ قَال أَبُو عَليٍّ الطَّبَرِيُّ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الحَاوِي وَالدَّارِمِيُّ، وَصَحَّحَهُ البَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَالأَكْثَرُونَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجَةِ بِأَنَّهَا بِالمَوْتِ صَارَتْ حُرَّةً. والثاني: يَجُوزُ، وَصَحَّحَهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ وَنَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ، وَالوَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي غُسْل الأَمَةِ القِنَّةِ وَالمُدَبَّرَةِ سَيِّدَهَا لكِنَّ الصَّحِيحَ هُنَا عِنْدَ جَمِيعِ الأَصْحَابِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لهَا غُسْلهُ، لأَنَّهَا صَارَتْ الوَارِثَ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ، وَصَاحِبُ الحَاوِي وَآخَرُونَ إلا القَفَّال، فَشَذَّ عَنْ الأَصْحَابِ، فَقَال فِي شَرْحِ التَّلخِيصِ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ لهَا غُسْلهُ.

 

ج / 5 ص -88-         فرع: إذَا مَاتَ الخُنْثَى المُشْكِل فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَحْرَمٌ لهُ مِنْ الرِّجَال أَوْ النِّسَاءِ غَسَّلهُ بِالاتِّفَاقِ، وَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ مَحْرَمٌ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ الخُنْثَى صَغِيرًا جَازَ للرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا غُسْلهُ بِالاتِّفَاقِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الصَّغِيرِ الوَاضِحِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَفِيهِ طَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الشَّامِل وَالجُمْهُورُ وَصَحَّحَهُ المُتَوَلي وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ عَلى الوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَليْسَ عِنْدَهُ إلا امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ. أحدهما: يُيَمَّمُ، قَال صَاحِبُ الحَاوِي: وَهُوَ قَوْل أَبِي عَبْدِ اللهِ الزُّبَيْرِيِّ وَأَصَحُّهُمَا هُنَا بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ يُغَسَّل فَوْقَ ثَوْبٍ.
والطريق الثاني: وَهُوَ الذِي اخْتَارَهُ المَاوَرْدِيُّ، أَنَّهُ يُغَسِّلهُ أَوْثَقُ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ الرِّجَال أَوْ النِّسَاءِ، فَإِذَا قُلنَا بِالمَذْهَبِ أَنَّهُ يُغَسَّل فَفِيمَنْ يُغَسِّلهُ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا وَبِهِ قَال أَبُو زَيْدٍ المَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالمُتَوَلي وَالبَغَوِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ الشَّامِل وَآخَرُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ للرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا غُسْلهُ فَوْقَ ثَوْبٍ، وَيَحْتَاطُ الغَاسِل فِي غَضِّ البَصَرِ وَالمَسِّ، وَاسْتَدَلوا لهُ بِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَبِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لهُ حُكْمُ مَا كَانَ فِي الصِّغَرِ والثاني: أَنَّهُ فِي حَقِّ الرِّجَال كَالمَرْأَةِ وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ كَالرَّجُل أَخْذًا بِالأَحْوَطِ.
والثالث: وَهُوَ مَشْهُورٌ يُشْتَرَى مِنْ تَرِكَتِهِ جَارِيَةٌ لتُغَسِّلهُ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ تَرِكَةٌ اُشْتُرِيَتْ مِنْ بَيْتِ المَال وَاتَّفَقُوا عَلى تَضْعِيفِ هَذَا الوَجْهِ قَالوا: لأَنَّ إثْبَاتَ المِلكِ ابْتِدَاءً بَعْدَ المَوْتِ مُسْتَبْعَدٌ. قَال أَبُو زَيْدٍ: هُوَ بَاطِلٌ لا أَصْل لهُ. وَلوْ ثَبَتَ فَالأَصَحُّ أَنَّ الأَمَةَ لا يَجُوزُ لهَا غُسْل سَيِّدِهَا فَلا فَائِدَةَ فِي شِرَائِهَا. قَال الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَليْسَ المُرَادُ بِالكَبِيرِ البَالغَ وَلا بِالصَّغِيرِ مَنْ دُونَهُ بَل المُرَادُ بِالصَّغِيرِ مَنْ لمْ يَبْلغْ حَدًّا يُشْتَهَى مِثْلهُ وَبِالكَبِيرِ مَنْ بَلغَهُ.
 فرع: قَال المُتَوَلي وَصَاحِبُ البَيَانِ وَخَلائِقُ مِنْ الأَصْحَابِ: بَل كُلهُمْ إذَا مَاتَ صَبِيٌّ أَوْ صَبِيَّةٌ لمْ يَبْلغَا حَدًّا يُشْتَهَيَانِ فِيهِ جَازَ للرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا غُسْلهُ، فَإِنْ بَلغَتْ الصَّبِيَّةُ حَدًّا تُشْتَهَى فِيهِ لمْ يُغَسِّلهَا إلا النِّسَاءُ، وَكَذَا الغُلامُ إذَا بَلغَ حَدًّا يُجَامِعُ أُلحِقَ بِالرِّجَال.

فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي غُسْل أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ
 نَقَل ابْنُ المُنْذِرِ فِي كِتَابَيْهِ الإِجْمَاعِ وَالإِشْرَافِ، وَالعَبْدَرِيُّ وَآخَرُونَ إجْمَاعَ المُسْلمِينَ أَنَّ للمَرْأَةِ غُسْل زَوْجِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ بِمَنْعِهِ، وَأَمَّا غُسْلهُ زَوْجَتَهُ فَجَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ جُمْهُورِ العُلمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَلقَمَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ وَسُليْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَأَبِي سَلمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَتَادَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُليْمَانَ وَمَالكٍ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَدَاوُد وَابْنِ المُنْذِرِ وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: ليْسَ لهُ غُسْلهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ وَاحْتَجَّ لهُمْ بِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ زَالتْ فَأَشْبَهَ المُطَلقَةَ البَائِنَ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ، وَالمُعْتَمَدُ عَلى القِيَاسِ عَلى غُسْلهَا لهُ فإن قيل الفَرْقُ أَنَّ عَلائِقَ النِّكَاحِ فِيهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ العِدَّةُ بِخِلافِ الزَّوْجِ. (قُلنَا) لا اعْتِبَارَ بِالعِدَّةِ، فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلى أَنَّهُ لوْ طَلقَهَا طَلاقًا بَائِنًا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي العِدَّةِ لا يَجُوزُ لهَا غُسْلهُ مَعَ بَقَاءِ العَلائِقِ، وَهَكَذَا فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالأَصْحَابُ قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي

 

ج / 5 ص -89-         الأَسَاليبِ: تَعَلقُهُمْ بِأَنَّهَا لا تُغَسِّلهُ تَبَعًا للعِدَّةِ لا يَتَحَصَّل مِنْهُ شَيْءٌ لأَنَّ هَذِهِ العِدَّةَ وَاقِعَةٌ بَعْدَ النِّكَاحِ قَطْعًا فَاعْتِبَارُهَا خَطَأٌ صَرِيحٌ.

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي غُسْل الرَّجُل أُمَّهُ وَبِنْتَهُ وَغَيْرَهُمَا مِنْ مَحَارِمِهِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُهُ بِشَرْطِهِ السَّابِقِ، وَبِهِ قَال أَبُو قِلابَةَ وَالأَوْزَاعِيُّ وَمَالكٌ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ. دَليلنَا أَنَّهَا كَالرَّجُل بِالنِّسْبَةِ إليْهِ فِي العَوْرَةِ وَالخَلوَةِ.
 فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الأَجْنَبِيِّ لا يَحْضُرُهُ إلا أَجْنَبِيَّةٌ وَالأَجْنَبِيَّةِ لا يَحْضُرُهَا إلا أَجْنَبِيٌّ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُيَمَّمُ وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ المُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُليْمَانَ وَمَالكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَحْمَدَ، وَرَوَى فِيهِ البَيْهَقِيُّ حَدِيثًا مُرْسَلًا مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ، وَعَنْ الحَسَنِ البَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ وَرِوَايَةٌ عَنْ النَّخَعِيِّ يُغَسَّل فِي ثَوْبٍ وَيَلفُّ الغَاسِل خِرْقَةً. وَعَنْ الأَوْزَاعِيِّ تُدْفَنُ كَمَا هِيَ بِلا تَيَمُّمٍ وَلا غُسْلٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَنَافِعٍ.
 فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي غُسْل المَرْأَةِ الصَّبِيَّ وَغُسْل الرَّجُل الصَّبِيَّةَ، وَقَدْرِ سِنِّهِ.
قَال ابْنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ العُلمَاءُ عَلى أَنَّ للمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّل الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ. ثُمَّ قَال الحَسَنُ: تُغَسِّلهُ إذَا كَانَ فَطِيمًا أَوْ فَوْقَهُ بِقَليلٍ. وَقَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ: ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. وَقَال الأَوْزَاعِيُّ: ابْنُ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ. وَقَال إِسْحَاقُ: ثَلاثٍ إلى خَمْسٍ. قَال: وَضَبَطَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ بِالكَلامِ فَقَالوا: تُغَسِّلهُ مَا لمْ يَتَكَلمْ وَيُغَسِّلهَا مَا لمْ تَتَكَلمْ (قُلتُ) وَمَذْهَبُنَا يُغَسَّلانِ مَا لمْ يَبْلغَا حَدًّا يُشْتَهَيَانِ كَمَا سَبَقَ.
 فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّ الجُنُبَ وَالحَائِضَ إذَا مَاتَا غُسِّلا غُسْلًا وَاحِدًا، وَبِهِ قَال العُلمَاءُ كَافَّةً إلا الحَسَنَ البَصْرِيَّ فَقَال: يُغَسَّلانِ غُسْليْنِ. قَال ابْنُ المُنْذِرِ: لمْ يَقُل بِهِ غَيْرُهُ.

فرع: فِي غُسْل الكَافِرِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ للمُسْلمِ غُسْلهُ وَدَفْنَهُ وَاتِّبَاعَ جِنَازَتِهِ، وَنَقَلهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ: ليْسَ للمُسْلمِ غُسْلهُ وَلا دَفْنُهُ، لكِنْ قَال مَالكٌ لهُ: مُوَارَاتُهُ.
 فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ لهُ غُسْل أَمَتِهِ وَأُمِّ وَلدِهِ، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لا يَجُوزُ، وَالأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّ أُمَّ الوَلدِ لا يَجُوزُ لهَا غُسْل سَيِّدِهَا وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَجَوَّزَهُ مَالكٌ وَأَحْمَدُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الغَاسِل أَمِينًا لمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: "لا يُغَسِّل مَوْتَاكُمْ إلا المَأْمُونُونَ"وَلأَنَّهُ إذَا لمْ يَكُنْ أَمِينًا لمْ نَأْمَنْ أَنْ لا يَسْتَوْفِيَ الغُسْل، وَرُبَّمَا سَتَرَ مَا يَظْهَرُ مِنْ جَمِيلٍ أَوْ يُظْهِرُ مَا يَرَى مِنْ قَبِيحٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتُرَ المَيِّتَ مِنْ العُيُونِ، لأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي بَدَنِهِ عَيْبٌ كَانَ يَكْتُمُهُ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ دَمٌ فَيَرَاهُ مَنْ لا يَعْرِفُ ذَلكَ فَيَظُنُّهُ عُقُوبَةً وَسُوءَ عَاقِبَةٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ إنْ كَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ فَإِنْ احْتَاجَ إلى

 

ج / 5 ص -90-         مُعِينٍ اسْتَعَانَ بِمَنْ لا بُدَّ لهُ مِنْهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ بِقِرْبَةِ مِجْمَرَةٍ حَتَّى إنْ كَانَتْ لهُ رَائِحَةٌ لمْ تَظْهَرْ وَالأَوْلى أَنْ يُغَسَّل فِي قَمِيصٍ، لمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "غَسَّلوهُ وَعَليْهِ قَمِيصٌ يَصُبُّونَ عَليْهِ المَاءَ وَيَدْلكُونَهُ مِنْ فَوْقِهِ "وَلأَنَّ ذَلكَ أَسْتَرُ فَكَانَ أَوْلى، وَالمَاءُ البَارِدُ أَوْلى مِنْ المُسَخَّنِ، لأَنَّ البَارِدَ يُقَوِّيهِ وَالمُسَخَّنَ يُرْخِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ وَسَخٌ لا يُزِيلهُ إلا المُسَخَّنُ، أَوْ البَرْدُ شَدِيدٌ - وَيَخَافُ الغَاسِل مِنْ اسْتِعْمَال البَارِدِ - غَسَّلهُ بِالمُسَخَّنِ، وَهَل يَجِبُ نِيَّةُ الغُسْل؟ فِيهِ وَجْهَانِ (إحْدَاهُمَا) لا يَجِبُ لأَنَّ القَصْدَ مِنْهُ التَّنْظِيفُ فَلمْ يَجِبْ فِيهِ النِّيَّةُ كَإِزَالةِ النَّجَاسَةِ والثاني: يَجِبُ لأَنَّهُ تَطْهِيرٌ لا يَتَعَلقُ بِإِزَالةِ عَيْنٍ فَوَجَبَ فِيهِ النِّيَّةُ كَغُسْل الجَنَابَةِ، وَلا يَجُوزُ للغَاسِل أَنْ يَنْظُرَ إلى عَوْرَتِهِ، لقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لعَليٍّ رضي الله عنه "لا تَنْظُرْ إلى فَخِذِ حَيٍّ وَلا مَيِّتٍ "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَنْظُرَ إلى سَائِرِ بَدَنِهِ إلا فِيمَا لا بُدَّ لهُ مِنْهُ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ عَوْرَتَهُ لأَنَّهُ إذَا لمْ يَجُزْ النَّظَرُ فَالمَسُّ أَوْلى، وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَمَسَّ سَائِرَ بَدَنِهِ، لمَا رُوِيَ أَنْ عَليًّا رضي الله عنه "غَسَّل النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَبِيَدَيْهِ خِرْقَةٌ يَتَتَبَّعُ بِهَا تَحْتَ القَمِيصِ".
 الشرح: الأَثَرُ المَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"ليُغَسِّل مَوْتَاكُمْ المَأْمُونُونَ"إلا أَنَّ إسْنَادَهُ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، إلا أَنَّ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ صَاحِبَ المَغَازِي، قَال: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ ابْنِ عَبَّادٍ، وَقَدْ اخْتَلفُوا فِي الاحْتِجَاجِ بِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَرَّحَهُ، وَاَلذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ حَدِيثَهُ حَسَنٌ إذَا قَال حَدَّثَنِي وَرَوَى عَنْ ثِقَةٍ، فَحَدِيثُهُ هَذَا حَسَنٌ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَليٍّ رضي الله عنه
"لا تَنْظُرْ إلى فَخِذِ حَيٍّ وَلا مَيِّتٍ"فَسَبَقَ فِي بَابِ سَتْرِ العَوْرَةِ أَنَّ أَبَا دَاوُد وَغَيْرَهُ رَوَوْهُ وَأَنَّهُ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُهُ الآخَرُ فَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ، وَالمِجْمَرَةُ بِكَسْرِ المِيمِ الأُولى وَقَوْلهُ (تَطْهِيرٌ لا يَتَعَلقُ بِإِزَالةِ عَيْنٍ) احْتِرَازٌ مِنْ إزَالةِ النَّجَاسَةِ. وَالفَخِذُ بِفَتْحِ الفَاءِ وَكَسْرِ الخَاءِ وَيَجُوزُ إسْكَانُ الخَاءِ مَعَ فَتْحِ الفَاءِ وَكَسْرِهَا وَيَجُوزُ كَسْرُهُمَا جَمِيعًا، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي الفَخِذِ، وَمَا كَانَ عَلى وَزْنِهِ مِمَّا ثَانِيهِ وَثَالثُهُ حَرْفُ حَلقٍ.
أما الأحكام: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الغَاسِل أَمِينًا، فَإِنْ غَسَّل الفَاسِقُ وَقَعَ المَوْقِعَ وَلا يَجِبُ إعَادَتُهُ، وَيُسْتَحَبُّ نَقْلهُ إلى مَوْضِعٍ خَالٍ وَسَتْرُهُ عَنْ العُيُونِ، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، وَهَل يُسْتَحَبُّ غُسْلهُ تَحْتَ السَّمَاءِ؟ أَمْ تَحْتَ سَقْفٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ الصَّحِيحُ: مِنْهُمَا تَحْتَ سَقْفٍ، وَليْسَ للغُسْل تَحْتَ السَّمَاءِ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ احْتَجَّ لهُ بِمَا لا حُجَّةَ فِيهِ، وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ الأَفْضَل تَحْتَ سَقْفٍ، وَهُوَ المَنْصُوصُ فِي الأُمِّ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَحْضُرَهُ إلا الغَاسِل، وَمَنْ لا بُدَّ لهُ مِنْ مَعُونَتِهِ عِنْدَ الغُسْل، قَال أَصْحَابُنَا: وَللوَليِّ أَنْ يَدْخُل، وَإِنْ لمْ يُغَسِّل وَلمْ يُعِنْ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِجْمَرَةٌ فِيهَا بَخُورٌ تَتَوَقَّدُ مِنْ حِينِ يَشْرَعُ فِي الغُسْل إلى آخِرِهِ.

 

ج / 5 ص -91-         قَال صَاحِبُ البَيَانِ: قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَخِّرَ عِنْدَ المَيِّتِ مِنْ حِينِ يَمُوتُ، لأَنَّهُ رُبَّمَا ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَغْلبُهُ رَائِحَةُ البَخُورِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّل فِي قَمِيصٍ يَلبَسُهُ عِنْدَ إرَادَةِ غُسْلهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، الذِي نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ فِي كُل طُرُقِهِمْ.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ كَجٍّ أَنَّ الأَفْضَل أَنْ يُجَرَّدَ وَيُغَسَّل بِلا قَمِيصٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّوَابُ الأَوَّل، قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَليَكُنْ القَمِيصُ رَقِيقًا سَخِيفًا، قَال أَصْحَابُنَا وَيُدْخِل الغَاسِل يَدَهُ فِي كُمَّيْهِ وَيَصُبُّ المَاءَ مِنْ فَوْقِ القَمِيصِ، وَيَغْسِل مِنْ تَحْتِهِ، قَالوا: فَإِنْ لمْ تَكُنْ أَكْمَامُ القَمِيصِ وَاسِعَةً فَتَقَ فَوْقَ الدَّخَارِيصِ مَوْضِعًا، وَأَدْخَل يَدَهُ فِيهِ وَغَسَلهُ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ القَمِيصُ وَاسِعًا يُمْكِنُ تَقْليبُهُ فِيهِ نُزِعَ عَنْهُ وَطُرِحَ عَليْهِ مِئْزَرٌ يُغَطِّي مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ إذَا لمْ يَكُنْ قَمِيصٌ طُرِحَ عَليْهِ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ البَدَنِ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ طُرِحَ عَليْهِ مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلى وُجُوبِ تَغْطِيَةِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ.
فإن قيل مُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ فِي اسْتِحْبَابِ الغُسْل فِي قَمِيصٍ، حَدِيثُ عَائِشَةَ المَذْكُورُ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَدَليلهُ أَنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد فِي هَذَا قَالوا: نُجَرِّدُهُ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، فَهَذَا إشَارَةٌ إلى أَنَّ عَادَتَهُمْ تَجْرِيدُ مَوْتَاهُمْ. فالجواب:  مَا أَجَابَ بِهِ الأَصْحَابُ أَنَّ مَا ثَبَتَ كَوْنُهُ سُنَّةً فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ سُنَّةٌ أَيْضًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى يَثْبُتَ التَّخْصِيصُ وَاَلذِي فُعِل بِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الأَكْمَل وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَغُسْلهُ بِالمَاءِ البَارِدِ أَفْضَل مِنْ المُسَخَّنِ إلا أَنْ يَحْتَاجَ إلى المُسَخَّنِ لخَوْفِ الغَاسِل مِنْ البَرْدِ أَوْ الوَسَخِ عَلى المَيِّتِ وَنَحْوِهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلكَ، فَيُغَسَّل بِالمُسَخَّنِ. قَال السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلا يُبَالغُ فِيهِ لئَلا يُسْرِعَ إليْهِ الفَسَادُ. قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَيُحْضِرُ الغَاسِل أَوْ غَيْرُهُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الغُسْل ثَلاثَةَ آنِيَةٍ فَيَجْعَل المَاءَ فِي إنَاءٍ كَبِيرٍ، وَيُبْعِدُهُ عَنْ المُغْتَسَل بِحَيْثُ لا يُصِيبُهُ رَشَاشُ المَاءِ عِنْدَ الغُسْل وَيَكُونُ مَعَهُ إنَاءَانِ آخَرَانِ صَغِيرٌ وَمُتَوَسِّطٌ. يَغْرِفُ بِالصَّغِيرِ مِنْ الكَبِيرِ وَيَصُبُّهُ فِي المُتَوَسِّطِ ثُمَّ يَغْسِلهُ بِالمُتَوَسِّطِ وَفِي وُجُوبِ نِيَّةِ الغُسْل وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ المُصَنِّفُ دَليلهُمَا. وَالمُرَادُ بِهِمَا أَنَّهُ هَل يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ غُسْلهِ أَنْ يَنْوِيَ الغَاسِل غُسْلهُ؟ وَاخْتُلفَ فِي أَصَحِّهِمَا فَالأَصَحُّ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ أَنَّهَا لا تُشْتَرَطُ وَلا تَجِبُ وَهُوَ المَنْصُوصُ للشَّافِعِيِّ فِي آخِرِ غُسْل الذِّمِّيَّةِ زَوْجَهَا المُسْلمَ وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ البَنْدَنِيجِيُّ وَالمَاوَرْدِيُّ هُنَا وَالرُّويَانِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. وَصَحَّحَ جَمَاعَةٌ الاشْتِرَاطَ مِنْهُمْ المَاوَرْدِيُّ وَالفُورَانِيُّ وَالمُتَوَلي، ذَكَرُوهُ فِي بَابِ نِيَّةِ الوُضُوءِ وَقَطَعَ بِهِ المَحَامِليُّ فِي المُقْنِعِ، وَالمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالصَّحِيحُ تَصْحِيحُ الأَوَّل.
قَال الشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَصَاحِبُ البَيَانِ: صِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلبِهِ عِنْدَ إفَاضَةِ المَاءِ القَرَاحِ أَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ المُجَرَّدِ: يَنْوِي الغُسْل الوَاجِبَ أَوْ الفَرْضَ أَوْ غُسْل المَيِّتِ.

 

ج / 5 ص -92-         فرع: قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: لا يَجُوزُ للغَاسِل أَوْ لغَيْرِهِ مَسُّ شَيْءٍ مِنْ عَوْرَةِ المَغْسُول، وَلا النَّظَرُ إليْهَا، بَل يَلفُّ عَلى يَدِهِ خِرْقَةً، وَيَغْسِل فَرْجَهُ وَسَائِرَ بَدَنِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَنْظُرَ إلى غَيْرِ العَوْرَةِ إلا إلى مَا لا بُدَّ لهُ مِنْهُ فِي تَمَكُّنِهِ مِنْ غُسْلهِ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَمَسَّهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ نَظَرَ إليْهِ أَوْ مَسَّهُ بِلا شَهْوَةٍ لمْ يَحْرُمْ بَل هُوَ تَارِكٌ للأَوْلى.
وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ لهُ ذَلكَ، وَأَمَّا غَيْرُ الغَاسِل مِنْ المُعِينِ وَغَيْرِهِ فَيُكْرَهُ لهُمْ النَّظَرُ إلى مَا سِوَى العَوْرَةِ إلا لضَرُورَةٍ، لأَنَّهُ لا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْكَشِفَ مِنْ العَوْرَةِ فِي حَال نَظَرِهِ، أَوْ يَرَى فِي بَدَنِهِ شَيْئًا كَانَ يَكْرَهُهُ، أَوْ يَرَى سَوَادًا أَوْ دَمًا مُجْتَمِعًا وَنَحْوَ ذَلكَ فَيَظُنَّهُ عُقُوبَةً، قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَنْظُرَ إلى بَدَنِ الحَيِّ فَالمَيِّتُ أَوْلى، هَذَا تَلخِيصُ أَحْكَامِ الفَصْل وَدَلائِلهُ تُعْرَفُ مِمَّا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ مَعَ مَا أَشَرْتُ إليْهِ، وَبِاَللهِ التَّوْفِيقُ.
 فرع: قَال ابْنُ المُنْذِرِ: اخْتَلفُوا فِي تَغْطِيَةِ وَجْهِ المَيِّتِ، يَعْنِي حَال غُسْلهِ فَاسْتَحَبَّ ابْنُ سِيرِينَ وَسُليْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ تَغْطِيَتَهُ بِخِرْقَةٍ، وَقَال مَالكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: يُغَطِّي فَرْجَهُ وَلمْ يَذْكُرُوا وَجْهَهُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي الغُسْل فِي قَمِيصٍ.
مَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُهُ، وَبِهِ قَال أَحْمَدُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالكٌ: المُسْتَحَبُّ غُسْلهُ مُجَرَّدًا، وَقَال دَاوُد: هُمَا سَوَاءٌ، وَمَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ غُسْلهِ بِالمَاءِ البَارِدِ إلا لحَاجَةٍ إلى المُسَخَّنِ وَبِهِ قَال أَحْمَدُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: المُسَخَّنُ أَفْضَل، وَليْسَ عَنْ مَالكٍ تَفْصِيلٌ، دَليلنَا مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْلسَهُ إجْلاسًا رَفِيقًا، وَيَمْسَحَ بَطْنَهُ مَسْحًا بَليغًا، لمَا رَوَى القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَال "تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَغَسَّلهُ ابْنُ عُمَرَ فَنَفَضَهُ نَفْضًا شَدِيدًا، وَعَصَرَهُ عَصْرًا شَدِيدًا، ثُمَّ غَسَّلهُ "وَلأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ. فَإِذَا لمْ يَعْصِرْهُ قَبْل الغُسْل خَرَجَ بَعْدَهُ، وَرُبَّمَا خَرَجَ بَعْدَمَا كُفِّنَ فَيُفْسِدُ الكَفَنَ، وَكُلمَا أَمَرَّ اليَدَ عَلى البَطْنِ صَبَّ عَليْهِ مَاءً كَثِيرًا، حَتَّى إنْ خَرَجَ شَيْءٌ لمْ تَظْهَرْ رَائِحَتُهُ، ثُمَّ يَبْدَأُ فَيَغْسِل أَسَافِلهُ كَمَا يَفْعَل الحَيُّ إذَا أَرَادَ الغُسْل، ثُمَّ يُوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ الحَيُّ لمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ قَالتْ "لمَّا غَسَّلنَا ابْنَةَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال لنَا: ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ"لأَنَّ الحَيَّ يَتَوَضَّأُ إذَا أَرَادَ الغُسْل، وَيُدْخِل أُصْبُعَهُ فِي فِيهِ، وَيُسَوِّكُ بِهَا أَسْنَانَهُ، وَلا يَفْغَرُ فَاهُ، وَيَتَتَبَّعُ مَا تَحْتَ أَظْفَارِهِ - إنْ لمْ يَكُنْ قَدْ قَلمَ أَظْفَارَهُ - وَيَكُونُ ذَلكَ بِعُودٍ ليِّنٍ لا يَجْرَحُهُ، ثُمَّ يَغْسِلهُ، وَيَكُونُ كَالمُنْحَدِرِ قَليلًا حَتَّى لا يَجْتَمِعَ المَاءُ تَحْتَهُ فَيَسْتَنْقِعَ فِيهِ وَيُفْسِدَ بَدَنَهُ، وَيُغَسِّلهُ ثَلاثًا كَمَا يَفْعَل الحَيُّ فِي وُضُوئِهِ وَغُسْلهِ فَيَبْدَأُ بِرَأْسِهِ وَلحْيَتِهِ كَمَا يَفْعَل الحَيُّ، فَإِنْ كَانَتْ اللحْيَةُ مُتَلبِّدَةً سَرَّحَهَا حَتَّى يَصِل المَاءُ إلى الجَمِيعِ، وَيَكُونَ بِمُشْطٍ مُنْفَرِجِ الأَسْنَانِ وَيُمَشِّطُهُ بِرِفْقٍ حَتَّى لا يَنْتِفَ شَعْرَهُ، ثُمَّ يُغَسِّل شِقَّهُ الأَيْمَنَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى رِجْلهِ، ثُمَّ شِقَّهُ الأَيْسَرَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى رِجْلهِ، ثُمَّ يُحَرِّفُهُ عَلى جَنْبِهِ الأَيْسَرِ، فَيَغْسِل جَانِبَ ظَهْرِهِ كَذَلكَ لحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ.

 

ج / 5 ص -93-         وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الغَسْلةُ الأُولى بِالمَاءِ وَالسِّدْرِ، لمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَال فِي المُحْرِمِ الذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ: اغْسِلوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ"وَلأَنَّ السِّدْرَ يُنَظِّفُ الجِسْمَ؛ ثُمَّ يُغَسَّل بِالمَاءِ القَرَاحِ وَيَجْعَل فِي الغَسْلةِ الأَخِيرَةِ شَيْئًا مِنْ الكَافُورِ، لمَا رَوَتْ أُمُّ سُليْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال "إذَا كَانَ فِي آخِرِ غَسْلةٍ مِنْ الثَّلاثِ أَوْ غَيْرِهَا فَاجْعَلي فِيهِ شَيْئًا مِنْ الكَافُورِ"وَلأَنَّ الكَافُورَ يُقَوِّيهِ، وَهَل يُحْتَسَبُ الغُسْل بِالسِّدْرِ مِنْ الثَّلاثِ أَمْ لا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَال أَبُو إِسْحَاقَ: يَعْتَدُّ بِهِ لأَنَّهُ غُسْلٌ بِمَا لمْ يُخَالطْهُ شَيْءٌ، وَمَنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: لا يُعْتَدُّ بِهِ لأَنَّهُ رُبَّمَا غَلبَ عَليْهِ السِّدْرُ، فَعَلى هَذَا يُغَسَّل ثَلاثَ مَرَّاتٍ أُخَرَ بِالمَاءِ القَرَاحِ وَالوَاجِبُ مِنْهَا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا قُلنَا فِي الوُضُوءِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَعَاهَدَ إمْرَارَ اليَدِ عَلى البَطْنِ فِي كُل مَرَّةٍ، فَإِنْ غَسَّل الثَّلاثَ وَلمْ يَتَنَظَّفْ زَادَ حَتَّى يَتَنَظَّفَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْعَلهُ وِتْرًا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، لمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال اغْسِلنَهَا وِتْرًا، ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ إنْ رَأَيْتُنَّ"وَالفَرْضُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ النِّيَّةُ، وَغُسْل مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ غُسْلهِ أُعِيدَ تَليِينُ أَعْضَائِهِ وَيُنَشَّفُ بِثَوْبٍ لأَنَّهُ إذَا كُفِّنَ وَهُوَ رَطْبٌ ابْتَل الكَفَنُ وَفَسَدَ وَإِنْ غُسِّل ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: أحدها: يَكْفِيه غَسْل المَوْضِعِ كَمَا لوْ غَسَل ثُمَّ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ مِنْ غَيْرِهِ. والثاني: يَجِبُ مِنْهُ الوُضُوءُ لأَنَّهُ حَدَثٌ فَأَوْجَبَ الوُضُوءَ، كَحَدَثِ الحَيِّ. والثالث: يَجِبُ الغُسْل مِنْهُ، لأَنَّهُ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ، فَكَانَ بِطَهَارَةٍ كَامِلةٍ وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلهُ لعَدَمِ المَاءِ أَوْ غَيْرِهِ يُمِّمَ لأَنَّهُ تَطْهِيرٌ لا يَتَعَلقُ بِإِزَالةِ عَيْنٍ، فَانْتُقِل فِيهِ عِنْدَ العَجْزِ إلى التَّيَمُّمِ كَالوُضُوءِ وَغُسْل الجَنَابَةِ".
 الشرح: فِيهِ مَسَائِل:
 إحداها: فِي أَحَادِيثِ الفَصْل، ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الصَّحَابِيَّةِ رضي الله عنها نَسِيبَةُ - بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا - قَالتْ "دَخَل عَليْنَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّل ابْنَتَهُ فَقَال اغْسِلنَهَا ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ، إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلقَى إليْنَا حَقْوَهُ وَقَال:
أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ"وَفِي رِوَايَةٍ لهُمَا "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا"وَفِي رِوَايَةٍ "فَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلاثَةَ أَثْلاثٍ، قَرْنَيْهَا وَنَاصِيَتَهَا"وَفِي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ "فَأَلقَيْنَاهَا خَلفَهَا "وَفِي رِوَايَةٍ لهُ "اغْسِلنَهَا ثَلاثَةً أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ"وَفِي رِوَايَةٍ لمُسْلمٍ "أَنَّ اسْمَ هَذِهِ البِنْتِ زَيْنَبُ رضي الله عنها "وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال "بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ، إذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلتِهِ، فَأَوْقَصَتْهُ أَوْ قَال: فَوَقَصَتْهُ، أَوْ قَال فَأَقْصَعَتْهُ فَقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم اغْسِلوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلا تَخِيطُوهُ وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلبِّيًا"وَفِي رِوَايَةٍ "وَلا تَمَسُّوهُ طِيبًا، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلبَّدًا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.
(وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ) لمَا رَوَتْ أُمُّ سُليْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ غَسْلةٍ مِنْ الثَّلاثِ أَوْ غَيْرِهَا فَاجْعَلي فِيهِ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ "فَهَكَذَا وَقَعَ فِي المُهَذَّبِ (أُمُّ سُليْمٍ) وَالمَشْهُورُ المَعْرُوفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الحَدِيثِ وَغَيْرِهَا أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ عَطِيَّةَ، كَمَا سَبَقَ، لا أُمِّ

 

ج / 5 ص -94-         سُليْمٍ، وَقَدْ كَرَّرَهَا المُصَنِّفُ عَلى الصَّوَابِ إلا فِي هَذَا المَوْضِعِ، وَقَدْ بَحَثْتُ عَنْهُ فَلمْ أَجِدْهُ عَنْ أُمِّ سُليْمٍ، فَلعَلهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ غَرِيبَةٍ عَنْ أُمِّ سُليْمٍ أَيْضًا، وَليْسَ هَذَا بَعِيدًا، فَإِنَّ أُمَّ سُليْمٍ أَشَدُّ قُرْبًا إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَمَعْلومٌ أَنْ أُمَّ عَطِيَّةَ لمْ تَنْفَرِدْ بِالغُسْل، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم "وَاجْعَلنَ "، "إنْ رَأَيْتُنَّ "، "اغْسِلنَهَا "، "وَابْدَأْنَ "، وَقَوْلهَا "فَضَفَّرْنَا "وَغَيْرُ ذَلكَ مِنْ ضَمَائِرِ الجَمْعِ المَوْجُودَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَلعَل أُمَّ سُليْمٍ كَانَتْ مِنْ الغَاسِلاتِ، فَخَاطَبَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَارَةً وَخَاطَبَ أُمَّ عَطِيَّةَ تَارَةً.
المسألة الثانية فِي أَلفَاظِ الفَصْل قوله لمَّا رَوَى القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (أَمَّا) القَاسِمُ فَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَقِيل أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهم القُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ المَدَنِيُّ التَّابِعِيُّ الجَليل أَحَدُ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ السَّبْعَةِ، أَجْمَعُوا عَلى جَلالتِهِ.
وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهم، فَهُوَ ابْنُ عَمِّ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَاتَّفَقُوا عَلى تَوْثِيقِهِ. قَال البُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: وَرِثَ عَبْدُ اللهِ هَذَا عَمَّتَهُ عَائِشَةَ رضي الله عنها. قَوْلهُ "قَال لنَا:
ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا "كَذَا هُوَ فِي نُسَخِ المُهَذَّبِ ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا، وَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ البُخَارِيِّ، وَهُوَ فِي رِوَايَاتِ مُسْلمٍ وَبَاقِي رِوَايَاتِ البُخَارِيِّ: (ابْدَأْنَ) خِطَابًا للنِّسْوَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالأَوَّل مُؤَوَّلٌ عَليْهِ. قَوْلهُ "وَيَسُوكُ بِهَا أَسْنَانَهُ "هُوَ بِفَتْحِ اليَاءِ وَضَمِّ السِّينِ، قَوْلهُ "وَيُدْخِل أُصْبُعَهُ فِي فَمِهِ وَيَسُوكُ بِهَا أَسْنَانَهُ "مَعْنَى إدْخَالهَا فَمَهُ أَنْ يَجْعَلهَا بَيْنَ شَفَتَيْهِ عَلى أَسْنَانِهِ هَكَذَا قَالهُ الأَصْحَابُ، وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ كَلامِ المُصَنِّفِ.
 قَوْلهُ "وَلا يَفْغَرُ فَاهُ "هُوَ بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ فَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ أَيْ لا يَفْتَحُهُ وَلا يَرْفَعُ أَسْنَانَهُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ، بَل يُمَضْمِضُهُ فَوْقَهَا. المُشْطُ مَعْرُوفٌ - بِضَمِّ المِيمِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ - وَبِضَمِّهِمَا وَبِكَسْرِ المِيمِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ وَيُقَال: لهُ مِمْشَطٌ - بِكَسْرِ المِيمِ الأُولى - وَمِشْقَأٌ مَقْصُورٌ مَهْمُوزٌ وَغَيْرُ مَهْمُوزٍ وَمَمْدُودٌ أَيْضًا وَمِكَدٌّ وَقَيْلمٌ وَمُرْجِلٌ حَكَاهُنَّ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي أَوَّل شَرْحِ الفَصِيحِ قوله خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ أَيْ سَقَطَ قوله فَاجْعَلي فِيهِ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، هَكَذَا هُوَ فِي المُهَذَّبِ: فَاجْعَلي، خِطَابًا لأُمِّ عَطِيَّةَ وَحْدَهَا، وَالمَشْهُورُ فِي رِوَايَاتِ الحَدِيثِ وَاجْعَلنَ بِالنُّونِ، خِطَابًا للنِّسْوَةِ وَالمَاءُ القَرَاحُ بِفَتْحِ القَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ - وَهُوَ الخَالصُ الذِي لمْ يُخَالطْهُ سِدْرٌ وَلا غَيْرُهُ قوله لأَنَّهُ تَطْهِيرٌ لا يَتَعَلقُ بِإِزَالةِ عَيْنٍ احْتِرَازٌ مِنْ إزَالةِ النَّجَاسَةِ.
 المسألة الثالثة فِي صِفَةِ الغُسْل قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِدَّ قَبْل الغُسْل خِرْقَتَيْنِ نَظِيفَتَيْنِ، وَأَوَّل مَا يَبْدَأُ بِهِ إذَا وَضَعَهُ عَلى المُغْتَسَل أَنْ يُجْلسَهُ إجْلاسًا رَفِيقًا بِحَيْثُ يَكُونُ مَائِلًا إلى وَرَائِهِ، لا مُعْتَدِلًا.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالأَصْحَابُ إنْ احْتَاجَ إلى دُهْنٍ

 

ج / 5 ص -95-         ليُليِّنَ، دَهَنَهُ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي غُسْلهِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَيَضَعُ يَدَهُ اليُمْنَى عَلى كَتِفِهِ، وَإِبْهَامَهُ فِي نُقْرَةِ قَفَاهُ، لئَلا يُمِيل رَأْسَهُ، وَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إلى رُكْبَتِهِ اليُمْنَى وَيُمِرُّ يَدَهُ اليُسْرَى عَلى بَطْنِهِ إمْرَارًا بَليغًا ليُخْرِجَ الفَضَلاتِ وَيَكُونُ عِنْدَهُ مِجْمَرَةٌ كَمَا سَبَقَ، وَيَصُبُّ عَليْهِ المُعِينُ مَاءً كَثِيرًا لئَلا يُظْهِرَ رَائِحَةَ مَا يَخْرُجُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إلى هَيْئَةِ الاسْتِلقَاءِ، وَيُلقِيه عَلى ظَهْرِهِ وَرِجْلاهُ إلى القِبْلةِ وَيَكُونُ المَوْضِعُ مُنْحَدِرًا بِحَيْثُ يَكُونُ رَأْسُهُ أَعْلى، ليَنْحَدِرَ المَاءُ عَنْهُ، وَلا يَقِفُ تَحْتَهُ ثُمَّ يَغْسِل بِيَسَارِهِ وَهِيَ مَلفُوفَةٌ بِإِحْدَى الخِرْقَتَيْنِ دُبُرَهُ وَمَذَاكِيرَهُ، وَمَا حَوْلهَا، وَيُنَجِّيهِ كَمَا يَسْتَنْجِي الحَيُّ ثُمَّ يُلقِي تِلكَ الخِرْقَةَ وَيَغْسِل يَدَهُ بِمَاءٍ وَأُشْنَانٍ، هَكَذَا قَال الجُمْهُورُ: إنَّهُ يَغْسِل الفَرْجَيْنِ بِخِرْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ وَالوَسِيطِ أَنَّهُ يَغْسِل كُل فَرْجٍ بِخِرْقَةٍ أُخْرَى، فَتَكُونُ الخِرَقُ ثَلاثًا، وَالمَشْهُورُ خِرْقَتَانِ، خِرْقَةٌ للفَرْجَيْنِ، وَخِرْقَةٌ لبَاقِي البَدَنِ وَكَذَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَمُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ وَالقَدِيمِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الجَنَائِزِ الصَّغِيرِ يَغْسِل بِإِحْدَاهُمَا أَعْلى بَدَنِهِ وَوَجْهَهُ وَصَدْرَهُ ثُمَّ يَغْسِل بِهَا مَذَاكِيرَهُ وَمَا بَيْنَ رِجْليْهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الأُخْرَى فَيَصْنَعُ بِهَا مِثْل ذَلكَ.
قَال البَنْدَنِيجِيُّ: وَللأَصْحَابِ طَرِيقَانِ أحدهما: قَالهُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي المَسْأَلةِ قولان: أحدهما: يَغْسِل بِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُل بَدَنِهِ والثاني: يَغْسِل بِإِحْدَاهُمَا فَرْجَيْهِ، وَبِالأُخْرَى كُل بَدَنِهِ.
والطريق الثاني: يَغْسِل بِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُل بَدَنِهِ، قَال وَهَذَا هُوَ المَذْهَبُ وَليْسَ كَمَا ادَّعَى، بَل المَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الأَصْحَابِ، وَمُعْظَمِ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ قَال أَصْحَابُنَا: ثُمَّ يَتَعَهَّدُ مَا عَلى بَدَنِهِ مِنْ قَذَرٍ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِمَّا ذَكَّرْنَاهُ لفَّ الخِرْقَةَ الأُخْرَى عَلى يَدِهِ، وَأَدْخَل أُصْبُعَهُ فِي فِيهِ، وَأَمَرَّهَا عَلى أَسْنَانِهِ بِمَاءٍ، وَلا يَفْتَحُ أَسْنَانَهُ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ مَعَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ بَل يُمِرُّهَا فَوْقَ الأَسْنَانِ وَيُنْشِقُهُ بِأَنْ يُدْخِل المَاءَ فِي أَنْفِهِ وَلا يُبَالغَ، هَذَا مَذْهَبُنَا. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لا يُمَضْمَضُ المَيِّتُ وَلا يُنْشَقُ، لأَنَّ المَضْمَضَةَ إدَارَةُ المَاءِ فِي الفَمِ وَالاسْتِنْشَاقَ جَذْبُهُ بِالنَّفَسِ، وَلا يَتَأَتَّى وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ المَيِّتِ، وَاسْتَدَل أَصْحَابُنَا بِقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "وَمَوْضِعُ الوُضُوءِ مِنْهَا "وَهَذَا مِنْهَا، وَبِالقِيَاسِ عَلى وُضُوءِ الحَيِّ.
وَأَمَّا: دَليلهُمْ فَمَمْنُوعٌ بَل المَضْمَضَةُ جَعْل المَاءِ فِي فِيهِ فَقَطْ وَكَذَا الاسْتِنْشَاقُ قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَلهَذَا لوْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ بَلعَ المَاءَ جَازَ وَحَصَلتْ المَضْمَضَةُ وَإِنَّمَا الإِدَارَةُ مِنْ كَمَال المَضْمَضَةِ لا شَرْطٌ لصِحَّتِهَا وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَقِيقَةِ المَضْمَضَةِ فِي صِفَةِ الوُضُوءِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَيُدْخِل أُصْبُعَهُ بِشَيْءٍ مِنْ المَاءِ فِي مَنْخَرَيْهِ ليُخْرِجَ مَا فِيهِمَا مِنْ أَذًى ثُمَّ يُوَضِّئُهُ كَوُضُوءِ الحَيِّ ثَلاثًا ثَلاثًا مَعَ المَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ، قَال الرَّافِعِيُّ: وَلا يَكْفِي مَا سَبَقَ مِنْ إدْخَال الأُصْبُعَيْنِ عَنْ المَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ، بَل ذَاكَ كَالسِّوَاكِ قَال: هَذَا مُقْتَضَى كَلامِ الجُمْهُورِ. قَال: وَفِي الشَّامِل وَغَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي الاكْتِفَاءَ وَالأَوَّل أَصَحُّ قَال: وَيُمِيل رَأْسَهُ فِي المَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ لئَلا يَصِل المَاءُ بَاطِنَهُ. قَال: وَهَل يَكْفِي وُصُول المَاءِ إلى مَقَادِيمِ الثَّغْرِ وَالمَنْخِرَيْنِ أَمْ يُوصِلهُ الدَّاخِل؟. حَكَى إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِيهِ خِلافًا لخَوْفِ الفَسَادِ وَجَزَمَ بِأَنَّ أَسْنَانَهُ لوْ كَانَتْ مُتَرَاصَّةً لا تُفْتَحُ قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: وَيَتَّبِعُ مَا تَحْتَ أَظْفَارِهِ إنْ لمْ يَكُنْ قَلمَهَا وَيَكُونُ ذَلكَ بِعُودٍ ليِّنٍ لئَلا يَجْرَحَهُ. وَهَكَذَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالمُخْتَصَرِ. قَال

 

ج / 5 ص -96-         الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَيَتَّبِعُ بِهَذَا العُودِ مَا تَحْتَ أَظَافِرِ يَدَيْهِ وَرِجْليْهِ، وَظَاهِرِ أُذُنَيْهِ وَصِمَاخَيْهِمَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ جَعَلهُ كَالمُنْحَدِرِ قَليلًا، حَتَّى لا يَجْتَمِعَ المَاءُ تَحْتَهُ وَيُغَسِّل ثَلاثًا كَمَا يَفْعَل الحَيُّ فِي طَهَارَتِهِ، فَيَبْدَأُ بِغَسْل رَأْسِهِ ثُمَّ لحْيَتِهِ بِالسِّدْرِ وَالخِطْمِيِّ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الرَّأْسِ فِي هَذَا عَلى اللحْيَةِ. وَقَال النَّخَعِيُّ: عَكْسُهُ.
وَاحْتَجَّ الأَصْحَابُ بِأَنَّهُ إذَا غَسَل اللحْيَةَ أَوَّلًا ثُمَّ غَسَل الرَّأْسَ نَزَل مِنْهُ المَاءُ وَالسِّدْرِ إلى لحْيَتِهِ فَيَحْتَاجُ إلى غَسْلهَا ثَانِيًا، فَعَكْسُهُ أَرْفَقُ. وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ: وَيَبْدَأُ بِرَأْسِهِ وَلحْيَتِهِ فَصَحِيحٌ وَمُرَادُهُ تَقْدِيمُ الرَّأْسِ. وَلوْ قَال: رَأْسُهُ ثُمَّ لحْيَتُهُ. كَمَا قَال الأَصْحَابُ لكَانَ أَحْسَنَ وَأَبْيَنَ. قَال أَصْحَابُنَا: وَيُسَرِّحُ رَأْسَهُ وَلحْيَتَهُ إنْ كَانَا مُتَلبِّدَيْنِ بِمُشْطٍ وَاسِعِ الأَسْنَانِ. وَقَال المُصَنِّفُ وَجَمَاعَةٌ: مُنْفَرِجِ الأَسْنَانِ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، قَالوا وَيَرْفُقُ فِي ذَلكَ لئَلا يُنْتَتَفَ شَعْرُهُ فَإِنْ اُنْتُتِفَ رَدَّهُ إليْهِ وَدَفَنَهُ مَعَهُ. قَال أَصْحَابُنَا: فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذَا كُلهِ غَسَل شِقَّهُ الأَيْمَنَ المُقْبِل مِنْ عُنُقِهِ وَصَدْرِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ وَقَدَمِهِ، ثُمَّ يَغْسِل شِقَّهُ الأَيْسَرَ كَذَلكَ، ثُمَّ يُحَوِّلهُ إلى جَنْبِهِ الأَيْسَرِ فَيَغْسِل شِقَّهُ الأَيْمَنَ مِمَّا يَلي القَفَا وَالظَّهْرَ مِنْ الكَفَّيْنِ إلى القَدَمِ، ثُمَّ يُحَوِّلهُ إلى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ فَيَغْسِل شِقَّهُ الأَيْسَرَ كَذَلكَ، هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي المُخْتَصَرِ وَبِهِ قَال جُمْهُورُ الأَصْحَابِ.
وَحَكَى العِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يَغْسِل جَانِبَهُ الأَيْمَنَ مِنْ مُقَدَّمِهِ، ثُمَّ يُحَوِّلهُ فَيَغْسِل جَانِبَهُ الأَيْسَرَ مِنْ مُقَدَّمِهِ، ثُمَّ يُحَوِّلهُ فَيَغْسِل جَانِبَ ظَهْرِهِ الأَيْمَنَ ثُمَّ يُلقِيهِ عَلى ظَهْرِهِ فَيَغْسِل جَانِبَهُ الأَيْسَرَ مِنْ مُقَدَّمِهِ ثُمَّ يُحَوِّلهُ ليَغْسِل جَانِبَ ظَهْرِهِ الأَيْسَرَ قَال الأَصْحَابُ: وَكُل وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ سَائِغٌ، وَالأَوَّل أَفْضَل. وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَجَمَاعَةٌ: يُضْجَعُ أَوَّلًا عَلى جَنْبِهِ الأَيْسَرِ فَيُصَبُّ المَاءُ عَلى شِقِّهِ الأَيْمَنِ مِنْ رَأْسِهِ إلى قَدَمِهِ ثُمَّ يُضْجَعُ عَلى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ فَيَصُبُّهُ عَلى شِقِّهِ الأَيْسَرِ وَالمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ.
قَال الجُمْهُورُ: وَلا يُعَادُ غَسْل الرَّأْسِ، بَل يَبْدَأُ بِصَفْحَةِ العُنُقِ فَمَا تَحْتَهَا، وَقَدْ حَصَل الرَّأْسُ أَوَّلًا، قَال أَصْحَابُنَا وَلا يُكَبُّ عَلى وَجْهِهِ قَالوا: وَكُل هَذِهِ الصِّفَاتِ المَذْكُورَةِ غَسْلةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ الغَسْلةُ يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ بِالمَاءِ وَالسِّدْرِ وَالخِطْمِيِّ وَنَحْوِهِمَا، ثُمَّ يَصُبُّ عَليْهِ القَرَاحَ، مِنْ قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّل ثَلاثًا، فَإِنْ لمْ تَحْصُل النَّظَافَةُ زَادَ حَتَّى تَحْصُل، فَإِنْ حَصَلتْ بِوِتْرٍ فَلا زِيَادَةَ وَإِنْ حَصَلتْ بِشَفْعٍ اُسْتُحِبَّ الإِيتَارُ، وَدَليل المَسْأَلةِ حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ السَّابِقُ. وَقَوْلهُ صلى الله عليه وسلم "أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ إنْ رَأَيْتُنَّ "وَمَعْنَاهُ إنْ احْتَجْتُنَّ، وَهَل يَسْقُطُ الفَرْضُ بِالغَسْلةِ المُتَغَيِّرَةِ بِالسِّدْرِ وَالخِطْمِيِّ وَنَحْوِهِمَا؟ فِيهِ الوَجْهَانِ المَذْكُورَانِ فِي الكِتَابِ أصحهما: لا يَسْقُطُ، هَذَا مُخْتَصَرُ القَوْل فِي الغَسْلةِ المُتَغَيِّرَةِ بِالسِّدْرِ، وَقَدْ اضْطَرَبَ كَلامُ الأَصْحَابِ فِيهَا، وَقَدْ أَوْضَحَهَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْليقِهِ فَقَال: قَال الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ عَليْهِ وَسَخٌ غَسَلهُ بِالأُشْنَانِ وَالسِّدْرِ، فَيَطْرَحُ عَليْهِ الأُشْنَانَ وَالسِّدْرَ، فَيُدَلكُهُ بِهِ ثُمَّ يَغْسِل السِّدْرَ عَنْهُ، ثُمَّ يَغْسِلهُ بَعْدَ ذَلكَ بِالمَاءِ القَرَاحِ، فَيَكُونُ هَذَا غُسْلًا وَاحِدًا وَمَا تَقَدَّمَهُ تَنْظِيفٌ. هَذَا لفْظُ الشَّافِعِيِّ.
قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: (وَهَذَا صَحِيحٌ لأَنَّ المَاءَ إذَا صُبَّ عَلى السِّدْرِ وَالأُشْنَانِ كَانَا غَالبَيْنِ للمَاءِ

 

ج / 5 ص -97-         فَلا يُعْتَدُّ بِهِ غَسْلةً حَتَّى يَغْسِل بِالمَاءِ القَرَاحِ. هَذَا هُوَ المَذْهَبُ. وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ: إذَا غُسِل عَنْهُ السِّدْرُ وَالأُشْنَانُ فَهَذَا غُسْلٌ وَاحِدٌ. قَال أَبُو حَامِدٍ: هَذَا غَلطٌ وَمُخَالفٌ لنَصِّ الشَّافِعِيِّ) هَذَا آخِرُ كَلامِ أَبِي حَامِدٍ. وَهَكَذَا قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ: لا يُعْتَدُّ بِالغُسْل بِالمَاءِ وَالسِّدْرِ مِنْ الثَّلاثِ بِلا خِلافٍ، فَإِذَا غُسِّل بَعْدَ ذَلكَ بِالمَاءِ القَرَاحِ وَزَال بِهِ أَثَرُ السِّدْرِ1 وَالخِطْمِيِّ - فَفِي الاعْتِدَادِ بِهَذِهِ الغَسْلةِ وَجْهَانِ أحدهما: وَهُوَ قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ - تُحْسَبُ مِنْ الثَّلاثِ لأَنَّهَا بِمَاءٍ قَرَاحٍ فَأَشْبَهَتْ مَا بَعْدَهَا. والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ المُصَنِّفِينَ: لا يُحْسَبُ مِنْهَا. لأَنَّ المَاءَ خَالطَ السِّدْرَ فَهُوَ كَمَا قَبْلهَا. وَجَزَمَ صَاحِبُ الحَاوِي وَالمَحَامِليُّ فِي كِتَابَيْهِ وَصَاحِبُ البَيَانِ وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الغَسْلةَ تُحْسَبُ بِلا خِلافٍ، وَأَنَّ خِلافَ أَبِي إِسْحَاقَ إنَّمَا هُوَ فِي الغَسْلةِ الأُولى بِالمَاءِ وَالسِّدْرِ. قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ: الغُسْل بِالمَاءِ مَعَ السِّدْرِ أَوْ الخِطْمِيِّ لا يُحْتَسَبُ مِنْ الثَّلاثِ، قَالا: وَكَذَا الذِي يُزَال بِهِ السِّدْرُ، وَإِنَّمَا المَحْسُوبُ مَا يُصَبُّ عَليْهِ مِنْ المَاءِ القَرَاحِ فَيَغْسِلهُ بَعْدَ زَوَال السِّدْرِ ثَلاثًا. قَال البَغَوِيّ: وَإِذَا لمْ يَتَغَيَّرْ المَاءُ بِالسِّدْرِ حُسِبَ مِنْ الثَّلاثِ. قَال: وَلوْ كَانَ عَلى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ غَسَّلهُ بَعْدَ زَوَالهَا ثَلاثًا. وَاخْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ كَلامَ الأَصْحَابِ فِي المَسْأَلةِ فَقَال: هَل يَسْقُطُ الفَرْضُ بِالغَسْلةِ التِي فِيهَا سِدْرٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: وَهُوَ قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ: يَسْقُطُ، لأَنَّ المَقْصُودَ مِنْ غُسْل المَيِّتِ التَّنْظِيفُ فَالاسْتِعَانَةُ بِمَا يَزِيدُ فِي النَّظَافَةِ لا يَقْدَحُ وأصحهما: لا يَسْقُطُ، لأَنَّ التَّغَيُّرَ بِهِ فَاحِشٌ فَسَلبَ الطَّهُورِيَّةَ، فَعَلى هَذَا فِي الاحْتِسَابِ بِالغَسْلةِ التِي بَعْدَ هَذِهِ وَجْهَانِ أصحهما: عِنْدَ الرُّويَانِيِّ: تُحْسَبُ لأَنَّهُ غَسَّلهُ بِمَا لمْ يُخَالطْهُ شَيْءٌ وأصحهما: عِنْدَ الجُمْهُورِ وَبِهِ قَطَعَ البَغَوِيّ لا تُحْسَبُ، لأَنَّ المَاءَ إذَا أَصَابَ المَحَل اخْتَلطَ بِالسِّدْرِ وَتَغَيَّرَ بِهِ، فَعَلى هَذَا المَحْسُوبِ مَا يُصَبُّ مِنْ المَاءِ القَرَاحِ. هَذَا كَلامُ الرَّافِعِيِّ.
فَحَاصِل المَسْأَلةِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ: أَنَّ غَسْلةَ السِّدْرِ وَالغَسْلةَ التِي بَعْدَهَا لا يُحْسَبَانِ مِنْ الثَّلاثِ. والثاني: يُحْسَبَانِ. والثالث: تُحْسَبُ الثَّانِيَةُ دُونَ الأُولى هَذَا حُكْمُ المَسْأَلةِ. وَأَمَّا: عِبَارَةُ المُصَنِّفِ فَفِيهَا نَوْعُ إشْكَالٍ لأَنَّهُ قَال: وَهَل يُحْسَبُ الغُسْل بِالسِّدْرِ مِنْ الثَّلاثِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ قَال: أَبُو إِسْحَاقَ: يُعْتَدُّ بِهِ لأَنَّهُ غُسْلٌ بِمَا لمْ يُخَالطْهُ شَيْءٌ. وَمَنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: لا يُعْتَدُّ بِهِ، لأَنَّهُ رُبَّمَا غَلبَ عَليْهِ السِّدْرُ، فَعَلى هَذَا يُغَسَّل ثَلاثَ مَرَّاتٍ أُخَرَ بِالمَاءِ القَرَاحِ، وَالوَاجِبُ مِنْهَا مَرَّةٌ، هَذَا لفْظُ المُصَنِّفِ، وَوَجْهُ الإِشْكَال أَنَّهُ قَال: لأَنَّهُ غُسْلٌ بِمَا لمْ يُخَالطْهُ شَيْءٌ وَهَذَا نَوْعُ تَنَاقُضٍ لصُورَةِ المَسْأَلةِ وَجَوَابُهُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الغَسْلةَ التِي بَعْدَ السِّدْرِ هَل تُحْسَبُ؟ فِيهِ الوَجْهَانِ أحدهما: تُحْسَبُ لأَنَّ المَاءَ المَصْبُوبَ قَرَاحٌ، وَلا أَثَرَ لمَا يُصِيبُهُ حَال تَرَدُّدِهِ عَلى البَدَنِ والثاني: لا يُحْسَبُ لأَنَّهُ قَدْ يَكْثُرُ السِّدْرُ بِحَيْثُ يُغَيِّرُهُ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ هَذَا المُغَيِّرِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَإِذَا قُلنَا: لا تُحْسَبُ غَسْلةٌ بَعْدَهَا ثَلاثًا، وَالوَاجِبُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالثَةُ سُنَّةٌ كَمَا قُلنَا فِي الوُضُوءِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويلحق بهما الصابون ومشتقاته من المنظفات المسحوقة فإذا دلك بدنه بشيء منها كان عليه أن يزيل آثارهما بالقراح ثم يغسل على بشرة نقية لآ أثر للرغوة عليها (ط).

 

ج / 5 ص -98-         وَالغُسْل. وَلا خِلافَ هُنَا فِي اسْتِحْبَابِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالثَةِ نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي غُسْل الجَنَابَةِ وَجْهٌ أَنَّهُ لا تُسْتَحَبُّ الثَّانِيَةُ وَالثَّالثَةُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ غُسْل الجَنَابَةِ عَنْ صَاحِبِ الحَاوِي، وَوَافَقَ صَاحِبُ الحَاوِي هُنَا عَلى اسْتِحْبَابِ الثَّلاثِ، لأَنَّهُ خَاتِمَةُ أَمْرِ المَيِّتِ مَعَ قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "اغْسِلنَهَا ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ "وَاَللهُ أَعْلمُ. قَال أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَل فِي كُل مَرَّةٍ مِنْ الغَسَلاتِ كَافُورًا فِي المَاءِ القَرَاحِ، وَهُوَ فِي الغَسْلةِ الأَخِيرَةِ آكَدُ للحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلأَنَّهُ يُقَوِّي البَدَنَ وَليَكُنْ قَليلًا لا يَتَفَاحَشُ التَّغَيُّرُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ صُلبًا وَتَفَاحَشَ التَّغَيُّرُ بِهِ، فَفِيهِ قَوْلانِ سَبَقَا فِي أَوَّل كِتَابِ الطَّهَارَةِ أصحهما: لا يُؤَثِّرُ فِي طَهُورِيَّتِهِ فِي غَيْرِ المَيِّتِ وَأَمَّا فِي غُسْل المَيِّتِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَليْهِ وَالأَصْحَابُ، وَثَبَتَ فِيهِ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ. قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ المُجَرَّدِ: فَإِنْ قِيل هَلا قُلتُمْ إنَّ الكَافُورَ إذَا غَيَّرَ المَاءَ سَلبَ طَهُورِيَّتَهُ؟ قُلنَا قَال الشَّافِعِيُّ: تَغْيِيرُ الكَافُورِ تَغْيِيرُ مُجَاوَرَةٍ لا مُخَالطَةٍ، وَلمْ يَزِدْ القَاضِي فِي الجَوَابِ عَلى هَذَا، وَحَاصِلهُ أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلى الصَّحِيحِ، وَأَحْسَنُ مَنْ ذَكَرَ السُّؤَال وَقَال كَلامًا فِيهِ السَّرَخْسِيُّ؛ فَقَال فِي الأَمَالي: اخْتَلفَ أَصْحَابُنَا فِي الجَوَابِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لا يُحْسَبُ إذَا تَغَيَّرَ بِالكَافُورِ، وَتَأَوَّل الحَدِيثَ وَكَلامَ الشَّافِعِيِّ عَلى كَافُورٍ يَسِيرٍ لا يَفْحُشُ تَغَيُّرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلهُ عَلى مَا إذَا جَعَل الكَافُورَ فِي البَدَنِ ثُمَّ صَبَّ المَاءَ القَرَاحَ عَليْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: هُوَ عَلى إطْلاقِهِ فِي كَافُورٍ يُطْرَحُ فِي المَاءِ وَيُغَيِّرُهُ تَغْيِيرًا كَثِيرًا، وَلكِنْ لا يُحْسَبُ ذَلكَ عَلى الغَسْلةِ الوَاجِبَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: هُوَ عَلى إطْلاقِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَيُحْسَبُ ذَلكَ عَنْ الفَرْضِ فِي غُسْل المَيِّتِ خَاصَّةً لأَنَّ مَقْصُودَهُ التَّنْظِيفُ. هَذَا كَلامُ السَّرَخْسِيِّ.
وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ اسْتِحْبَابِ الكَافُورِ فِي كُل غَسْلةٍ هُوَ المَعْرُوفُ فِي المَذْهَبِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَالبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَخَلائِقُ مِنْ الأَصْحَابِ. وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالمُخْتَصَرِ. قَال فِي المُخْتَصَرِ وَيَجْعَل فِي كُل مَاءٍ قَرَاحٍ كَافُورًا وَإِنْ لمْ يَجْعَل إلا فِي الآخِرَةِ أَجْزَأَ ذَلكَ، هَذَا لفْظُهُ فِي مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ. وَقَال فِي الأُمِّ فِي بَابِ عِدَّةِ غُسْل المَيِّتِ: أَقَل مَا يُجْزِئُ مِنْ غُسْل المَيِّتِ الإِنْقَاءُ. كَمَا يَكُونُ ذَلكَ أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي غُسْل الجَنَابَةِ. قَال: وَأَقَل مَا أُحِبُّ أَنْ يُغَسَّل ثَلاثًا فَإِنْ لمْ يُنَقَّ فَخَمْسًا فَإِنْ لمْ يُنَقَّ فَسَبْعًا. قَال وَلا يَغْسِلهُ بِشَيْءٍ مِنْ المَاءِ إلا أَلقَى فِيهِ كَافُورًا للسُّنَّةِ فَإِنْ لمْ يَفْعَل كَرِهْتُهُ وَرَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَهُ قَال وَلسْت أَعْرِفُ أَنْ يُلقَى فِي المَاءِ وَرَقُ سِدْرٍ وَلا طِيبٌ غَيْرُ كَافُورٍ وَلا غَيْرُهُ. وَلكِنْ يُتْرَكُ المَاءُ عَلى وَجْهِهِ وَيُلقَى فِيهِ الكَافُورُ. هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ. وَهُوَ جَمِيعُ البَابِ المَذْكُورِ.
وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ: وَيَجْعَل فِي الغَسْلةِ الأَخِيرَةِ شَيْئًا مِنْ الكَافُورِ وَتَخْصِيصُهُ بِالأَخِيرَةِ فَغَرِيبٌ فِي المَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لظَاهِرِ الحَدِيثِ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ قَال: يُسْتَحَبُّ غَسْلهُ ثَلاثًا وَأَنْ يَكُونَ فِي الأُولى شَيْءٌ مِنْ سِدْرٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ شَيْءٌ مِنْ كَافُورٍ، وَالثَّالثَةُ بِالمَاءِ القَرَاحِ، وَهَذَا الذِي قَالهُ غَلطٌ مُنَابِذٌ للحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلنُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ.
قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: وَالوَاجِبُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ غُسْل مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا النِّيَّةُ إنْ أَوْجَبْنَاهَا، وَلا يُحْسَبُ الغُسْل حَتَّى يَطْهُرَ مِنْ نَجَاسَةٍ إنْ كَانَتْ هُنَاكَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي غُسْل الجَنَابَةِ وَاَللهُ أَعْلمُ.

 

ج / 5 ص -99-         فرع: قَال الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَعَاهَدَ فِي كُل مَرَّةٍ إمْرَارَ يَدِهِ عَلى بَطْنِهِ وَمَسْحَهُ بِأَرْفَقَ مِمَّا قَبْلهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ المَشْهُورُ، الذِي نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ، وَنَقَل صَاحِبُ الحَاوِي فِيهِ وَجْهَيْنِ: أحدهما: هَذَا والثاني: وَهُوَ الأَصَحُّ عِنْدَهُ أَنَّهُ لا يُمِرُّ يَدَهُ عَلى البَطْنِ إلا فِي ابْتِدَاءِ الغُسْل وَتَأَوَّل نَصَّ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ المُرَادَ تَعَاهُدُهُ هَل خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لا؟ وَهَذَا ضَعِيفٌ مُخَالفٌ للنَّصِّ وَلا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيل.
 فرع: قَال الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: إذَا فَرَغَ مِنْ غُسْلهِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيدَ تَليِينَ مَفَاصِلهِ وَأَعْضَائِهِ ليَسْهُل تَكْفِينُهُ، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، وَنَقَل المُزَنِيّ فِي المُخْتَصَرِ اسْتِحْبَابَ إعَادَةِ التَّليِينِ فِي أَوَّل وَضْعِهِ عَلى المُغْتَسَل، فَقَال بِهِ بَعْضُ الأَصْحَابِ وَأَنْكَرَهُ الجُمْهُورُ، قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ: قَال أَصْحَابُنَا: هَذَا التَّليِينُ ليْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، وَلا يُعْرَفُ للشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَليِينَ المَفَاصِل عَقِبَ المَوْتِ لبَقَاءِ الحَرَارَةِ فِيهَا، فَأَمَّا عِنْدَ الغُسْل فَلا فَائِدَةَ فِيهِ، وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هَذَا النَّقْل غَلطٌ مِنْ المُزَنِيِّ عَلى الشَّافِعِيِّ، فَلمْ يَذْكُرْ الشَّافِعِيُّ تَليِينَ الأَعْضَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ فِي هَذَا المَوْضِعِ، إنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ فَرَاغِ غُسْلهِ.
وَقَال صَاحِبُ الشَّامِل: قَال أَصْحَابُنَا: هَذَا التَّليِينُ هُنَا لا يُعْرَفُ للشَّافِعَيَّ، وَلا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لأَنَّهَا لا تَبْقَى ليِّنَةً إلى هَذَا الوَقْتِ غَالبًا. وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: هَذَا التَّليِينُ لا يُوجَدُ للشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ إلا فِيمَا حَكَاهُ المُزَنِيّ فِي مُخْتَصَرِهِ دُونَ جَامِعِهِ، وَتَرْكُ ذَلكَ أَوْلى مِنْ فِعْلهِ لتَتَمَاسَكَ أَعْضَاؤُهُ، وَإِنَّمَا قَال الشَّافِعِيُّ: أَعَادَ تَليِينَ مَفَاصِلهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، لا عِنْدَ غُسْلهِ، فَلوْ أَعَادَ تَليِينَهَا عِنْدَ غُسْلهِ جَازَ، هَذَا كَلامُ صَاحِبِ الحَاوِي، وَجَزَمَ البَغَوِيّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِاسْتِحْبَابِ إعَادَةِ تَليِينِهَا عِنْدَ الغُسْل، عَمَلًا بِظَاهِرِ نَقْل المُزَنِيِّ.
 فرع: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غُسْلهِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُنَشَّفَ بِثَوْبٍ تَنْشِيفًا بَليغًا، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، قَال الأَصْحَابُ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُسْل الجَنَابَةِ وَالوُضُوءِ حَيْثُ قُلنَا: المَذْهَبُ اسْتِحْبَابُ تَرْكِ التَّنْشِيفِ إنْ كَانَ هُنَا ضَرُورَةٌ أَوْ حَاجَةٌ إلى التَّنْشِيفِ وَهُوَ أَنْ لا يُفْسِدَ الكَفَنَ.
 فرع: إذَا خَرَجَ مِنْ أَحَدِ فَرْجَيْ المَيِّتِ بَعْدَ غُسْلهِ وَقَبْل تَكْفِينِهِ نَجَاسَةٌ وَجَبَ غَسْلهَا بِلا خِلافٍ، وَفِي إعَادَةِ طَهَارَتِهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٌ أصحها: لا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ التَّكْليفِ بِنَقْضِ الطَّهَارَةِ وَقِيَاسًا عَلى مَا لوْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَكْفِي غَسْلهَا بِلا خِلافٍ.
والثاني: يَجِبُ أَنْ يُوَضَّأَ كَمَا لوْ خَرَجَ مِنْ حَيٍّ والثالث: يَجِبُ إعَادَةُ الغُسْل؛ لأَنَّهُ يَنْقُضُ الطُّهْرَ وَطُهْرُ المَيِّتِ غَسْل جَمِيعِهِ، هَذِهِ [هِيَ] العِلةُ المَشْهُورَةُ، وَعَللهُ المُصَنِّفُ وَصَاحِبُ الشَّامِل بِأَنَّهُ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ، وَرَجَّحَ المُصَنِّفُ فِي كِتَابِهِ الخِلافِ، وَفِي التَّنْبِيهِ وَسُليْمٌ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ رُءُوسِ المَسَائِل، وَالغَزَاليُّ فِي الخُلاصَةِ، وَالعَبْدَرِيُّ فِي الكِفَايَةِ وُجُوبَ إعَادَةِ الغُسْل، وَهُوَ قَوْل أَبِي عَليِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَطَعَ سُليْمٌ الرَّازِيّ فِي الكِفَايَةِ، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ فِي الكَافِي وَهُوَ مَذْهَبُ

 

ج / 5 ص -100-       أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَضَعَّفَ المَحَامِليُّ وَآخَرُونَ هَذَا الوَجْهَ، وَنَقَل صَاحِبُ البَيَانِ تَضْعِيفَهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ.
وَإِيجَابُ الوُضُوءِ، هُوَ قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الأَصْحَابِ: لا يَجِبُ غَيْرُ غَسْل النَّجَاسَةِ، صَحَّحَهُ المَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَهُوَ قَوْل المُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالكٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَسَبَبُ اخْتِلافِ الأَصْحَابِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَال فِي مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ: إنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَنْقَاهُ وَأَعَادَ غُسْلهُ، فَقَال المُزَنِيّ وَالأَكْثَرُونَ: إعَادَةُ الغُسْل مُسْتَحَبَّةٌ، وَقَال ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاجِبَةٌ وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ المَرْوَزِيُّ: يَجِبُ الوُضُوءُ.
أَمَّا إذَا خَرَجَتْ النَّجَاسَةُ مِنْ الفَرْجِ بَعْدَ إدْرَاجِهِ فِي الكَفَنِ فَلا يَجِبُ وُضُوءٌ وَلا غُسْلٌ بِلا خِلافٍ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ المَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَالسَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَالي، وَصَاحِبُ العُدَّةِ، وَاحْتَجَّ لهُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ لوْ أُمِرَ بِإِعَادَةِ الغُسْل وَالوُضُوءِ لمْ يَأْمَنْ مِثْلهُ فِي المُسْتَقْبَل، فَيُؤَدِّي إلى مَا لا نِهَايَةَ لهُ، وَلمْ يَتَعَرَّضْ الجُمْهُورُ للفَرْقِ بَيْنَ مَا قَبْل التَّكْفِينِ وَبَعْدَهُ، بَل أَرْسَلوا الخِلافَ وَلكِنَّ إطْلاقَهُمْ مَحْمُولٌ عَلى التَّفْصِيل الذِي ذَكَرَهُ المَحَامِليُّ وَمُوَافِقُوهُ، أَمَّا إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ بَعْدَ الغُسْل نَجَاسَةٌ مِنْ غَيْرِ الفَرْجَيْنِ فَيَجِبُ غَسْلهَا، وَلا يَجِبُ غَيْرُهُ بِلا خِلافٍ.
وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: إذَا أَوْجَبْنَا إعَادَةَ الغُسْل لنَجَاسَةِ السَّبِيليْنِ فَفِي غَيْرِهَا احْتِمَالٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَلا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ النَّجَاسَةِ وَنَجَاسَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ تَقَعُ عَليْهِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلى أَنَّهُ يَكْفِي غَسْلهَا، وَلوْ لمَسَ أَجْنَبِيٌّ مَيِّتَةً بَعْدَ غُسْلهَا أَوْ أَجْنَبِيَّةٌ مَيِّتًا بَعْدَ غُسْلهِ فإن قالنا: خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ السَّبِيل لا يُوجِبُ غَيْرَ غَسْل النَّجَاسَةِ لمْ يَجِبْ هُنَا شَيْءٌ فِي حَقِّ المَيِّتِ وَالمَيِّتَةِ بِلا خِلافٍ إذْ لا نَجَاسَةَ، وَإِنْ أَوْجَبْنَا هُنَاكَ الوُضُوءَ أَوْ الغُسْل أَوْجَبْنَا هُنَا إنْ قُلنَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ المَلمُوسِ وَإِلا فَلا، هَكَذَا قَالهُ القَاضِي حُسَيْنٌ وَالمُتَوَلي وَآخَرُونَ، وَأَطْلقَ البَغَوِيّ وُجُوبَهُمَا، وَمُرَادُهُ إذَا قُلنَا: يُنْتَقَضُ طُهْرُ المَلمُوسِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَيْخُهُ القَاضِي حُسَيْنٌ وَالمُتَوَلي وَمُوَافِقُهُمَا، وَلوْ وُطِئَتْ المَيِّتَةُ أَوْ المَيِّتُ بَعْدَ الغُسْل فَإِنْ قُلنَا: بِإِعَادَةِ الوُضُوءِ أَوْ الغُسْل - وَجَبَ هُنَا الغُسْل؛ لأَنَّهُ مُقْتَضَى الوَطْءِ، وَإِنْ قُلنَا: لا تَجِبُ إلا إزَالةُ النَّجَاسَةِ لمْ يَجِبْ هُنَا شَيْءٌ، هَكَذَا أَطْلقَهُ القَاضِي وَصَاحِبَاهُ وَمُتَابِعُوهُمْ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلافٌ مَبْنِيٌّ عَلى نَجَاسَةِ بَاطِنِ الفَرْجِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
أَمَّا إذَا خَرَجَ مِنْهُ مَنِيٌّ بَعْدَ غُسْلهِ، فَإِنْ قُلنَا: فِي خُرُوجِ النَّجَاسَةِ يَجِبُ غَسْلهَا لمْ يَجِبْ هُنَا شَيْءٌ؛ لأَنَّ المَنِيَّ طَاهِرٌ، وَإِنْ قُلنَا: بِالوَجْهَيْنِ الآخَرَيْنِ وَجَبَ إعَادَةُ غُسْلهِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: قَال المُصَنِّفُ رحمه الله وَالأَصْحَابُ: إذَا تَعَذَّرَ غُسْل المَيِّتِ لفَقْدِ المَاءِ أَوْ احْتَرَقَ بِحَيْثُ لوْ غُسِّل لتَهَرَّى لمْ يُغَسَّل بَل يُيَمَّمُ،، وَهَذَا التَّيَمُّمُ وَاجِبٌ؛ لأَنَّهُ تَطْهِيرٌ لا يَتَعَلقُ بِإِزَالةِ نَجَاسَةٍ، فَوَجَبَ الانْتِقَال فِيهِ عِنْدَ العَجْزِ عَنْ المَاءِ إلى التَّيَمُّمِ كَغُسْل الجَنَابَةِ، وَلوْ كَانَ مَلدُوغًا بِحَيْثُ لوْ غُسِّل لتَهَرَّى أَوْ خِيفَ عَلى الغَاسِل يُمِّمَ لمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَكَرَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَآخَرُونَ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ لوْ كَانَ بِهِ قُرُوحٌ وَخِيفَ مِنْ غُسْلهِ إسْرَاعُ البِلى إليْهِ بَعْدَ الدَّفْنِ، وَجَبَ غُسْلهُ؛ لأَنَّ الجَمِيعَ صَائِرُونَ إلى البِلى،

 

 

ج / 5 ص -101-       هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبِنَا، وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ فِيمَنْ يُخَافُ مِنْ غُسْلهِ تَهَرِّي لحْمِهِ وَلمْ يَقْدِرُوا عَلى غُسْلهِ، عَنْ الثَّوْرِيِّ وَمَالكٍ: يُصَبُّ عَليْهِ المَاءُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ: يُيَمَّمُ قَال: وَبِهِ أَقُول.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَفِي تَقْليمِ أَظْفَارِهِ، وَحَفِّ شَارِبِهِ، وَحَلقِ عَانَتِهِ قَوْلانِ: أحدهما: يُفْعَل ذَلكَ؛ لأَنَّهُ تَنْظِيفٌ، فَشُرِعَ فِي حَقِّهِ كَإِزَالةِ الوَسَخِ والثاني: يُكْرَهُ، وَهُوَ قَوْل المُزَنِيِّ؛ لأَنَّهُ قَطْعُ جُزْءٍ مِنْهُ فَهُوَ كَالخِتَانِ، قَال الشَّافِعِيُّ: وَلا يُحْلقُ شَعْرُ رَأْسِهِ، قَال أَبُو إِسْحَاقَ إنْ لمْ يَكُنْ لهُ جَمَّةٌ حُلقَ رَأْسُهُ؛ لأَنَّهُ تَنْظِيفٌ، فَهُوَ كَتَقْليمِ الأَظْفَارِ، وَالمَذْهَبُ الأَوَّل؛ لأَنَّ حَلقَ الرَّأْسِ يُرَادُ للزِّينَةِ لا للتَّنْظِيفِ".
 الشرح: فِي قَلمِ أَظْفَارِ المَيِّتِ، وَأَخْذِ شَعْرِ شَارِبِهِ، وَإِبْطِهِ، وَعَانَتِهِ قَوْلانِ: الجَدِيدُ: أَنَّهَا تُفْعَل وَالقَدِيمُ: لا تُفْعَل وَللأَصْحَابِ طَرِيقَانِ: أحدهما: أَنَّ القَوْليْنِ فِي الاسْتِحْبَابِ وَالكَرَاهَةِ أحدهما: يُسْتَحَبُّ والثاني: يُكْرَهُ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ المُصَنِّفِ هُنَا، وَشَيْخِهِ القَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ، وَصَاحِبِ الحَاوِي، وَالغَزَاليِّ فِي الوَسِيطِ وَالخُلاصَةِ، وَصَاحِبِ التَّهْذِيبِ، وَالرُّويَانِيِّ فِي الحِليَةِ، وَآخَرِينَ مِنْ الأَصْحَابِ.
قَال صَاحِبُ الحَاوِي: القَوْل الجَدِيدُ: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ وَقَطَعَ المُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ، وَالجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ، بِاسْتِحْبَابِهِ والطريق الثاني: أَنَّ القَوْليْنِ فِي الكَرَاهَةِ وَعَدَمِهَا أحدهما: يُكْرَهُ والثاني: لا يُكْرَهُ وَلا يُسْتَحَبُّ قَطْعًا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ، فَإِنَّهُ قَال: مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ أَخْذَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْل الرَّافِعِيِّ: لا خِلافَ أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ لا تُسْتَحَبُّ، وَإِنَّمَا القَوْلانِ فِي الكَرَاهَةِ (فَمَرْدُودٌ) بِمَا قَدَّمْته مِنْ إثْبَاتِ الخِلافِ فِي الاسْتِحْبَابِ مَعَ جَزْمِ مَنْ جَزَمَ، وَعَجَبٌ قَوْلهُ هَذَا مَعَ شُهْرَةِ هَذِهِ الكُتُبِ، لا سِيَّمَا الوَسِيطُ وَالمُهَذَّبُ وَالتَّنْبِيهُ.
وَأَمَّا الأَصَحُّ مِنْ القَوْليْنِ فَصَحَّحَ المَحَامِليُّ أَنَّهُ لا يُكْرَهُ، وَقَطَعَ بِهِ فِي كِتَابِهِ المُقْنِعِ وَصَحَّحَ غَيْرُهُ الكَرَاهَةَ، وَهُوَ المُخْتَارُ وَنَقَلهُ البَنْدَنِيجِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ، مِنْهَا الأُمُّ وَمُخْتَصَرُ الجَنَائِزِ وَالقَدِيمُ، وَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَأَى حَلقَ الشَّعْرِ وَتَقْليمَ الأَظْفَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لمْ يَرَهُ.
قَال الشَّافِعِيُّ: وَتَرْكُهُ أَعْجَبُ إليَّ. هَذَا نَصُّهُ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَرْجِيحِ تَرْكِهِ وَلمْ يُصَرِّحْ الشَّافِعِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ بِاسْتِحْبَابِهِ جَزْمًا، إنَّمَا حَكَى اخْتِلافَ شُيُوخِهِ فِي اسْتِحْبَابِهِ وَتَرَكَهُ، وَاخْتَارَ هُوَ تَرْكَهُ، فَمَذْهَبُهُ تَرْكُهُ وَمَا سِوَاهُ ليْسَ مَذْهَبًا لهُ، فَيَتَعَيَّنُ تَرْجِيحُ تَرْكِهِ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَال فِي المُخْتَصَرِ وَالأُمِّ: وَيَتَتَبَّعُ الغَاسِل مَا تَحْتَ أَظَافِيرِ المَيِّتِ بِعُودٍ حَتَّى يُخْرِجَ الوَسَخَ.
قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ: قَال أَصْحَابُنَا: هَذَا تَفْرِيعٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ عَلى أَنَّهُ يَتْرُكُ أَظَافِيرَهُ،

 

ج / 5 ص -102-       وَأَمَّا إذَا قُلنَا: تُزَال فَلا حَاجَةَ إلى العُودِ، فَحَصَل أَنَّ المَذْهَبَ أَوْ الصَّوَابَ تَرْكُ هَذِهِ الشُّعُورِ وَالأَظْفَارِ؛ لأَنَّ أَجْزَاءَ المَيِّتِ مُحْتَرَمَةٌ فَلا تُنْتَهَكُ بِهَذَا وَلمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي هَذَا شَيْءٌ فَكُرِهَ فِعْلهُ، وَإِذَا جُمِعَ الطَّرِيقَانِ حَصَل ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: المُخْتَارُ: يُكْرَهُ والثاني: لا يُكْرَهُ وَلا يُسْتَحَبُّ.
والثالث: يُسْتَحَبُّ، وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَمِمَّنْ كَرِهَهُ مَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالمُزَنِيُّ وَابْنُ المُنْذِرِ وَالجُمْهُورُ، وَنَقَلهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ جُمْهُورِ العُلمَاءِ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلنَا: تُزَال هَذِهِ الشُّعُورُ، فَللغَاسِل أَنْ يَأْخُذَ شَعْرَ الإِبْطِ وَالعَانَةِ بِالمِقَصِّ أَوْ المُوسَى أَوْ النُّورَةِ، فَإِنْ نَوَّرَهُ غَسَل مَوْضِعَ النُّورَةِ، هَذَا هُوَ المَذْهَبُ وَالمَنْصُوصُ فِي الأُمِّ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ النُّورَةُ فِي العَانَةِ لئَلا يَنْظُرَ إلى عَوْرَتِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ البَنْدَنِيجِيُّ وَالمَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ.
وَوَجْهٌ ثَالثٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ النُّورَةُ فِي العَانَةِ وَالإِبْطِ جَمِيعًا، وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ الحَاوِي، وَالمَذْهَبُ التَّخْيِيرُ كَمَا سَبَقَ، لكِنْ لا يَمَسُّ وَلا يَنْظُرُ مِنْ العَوْرَةِ إلا قَدْرَ الضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا الشَّارِبُ فَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّهُ إذَا قُلنَا يُزَال أَزَالهُ بِالمِقَصِّ كَمَا يُزِيلهُ فِي الحَيَاةِ. قَال المَحَامِليُّ وَغَيْرُهُ: يُكْرَهُ حَفُّ الشَّارِبِ فِي حَقِّ الحَيِّ وَالمَيِّتِ جَمِيعًا، وَلكِنْ يَقُصُّهُ بِحَيْثُ لا تَنْكَشِفُ شَفَتُهُ. وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ حَفُّ شَارِبِهِ، فَمُرَادُهُ قَصُّهُ لا حَقِيقَةُ الحَفِّ، كَمَا قَالهُ أَصْحَابُنَا، وَإِذَا قُلنَا: يُزِيل هَذِهِ الشُّعُورَ وَالأَظْفَارَ اُسْتُحِبَّ إزَالتُهَا قَبْل الغُسْل، صَرَّحَ بِهِ المَحَامِليُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا. قَال ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي أَوَّل بَابِ غُسْل المَيِّتِ: يَفْعَلهَا قَبْل غُسْلهِ، قَال: وَقَدْ أَخَل المُزَنِيّ بِالتَّرْتِيبِ فَذَكَرَهُ بَعْدَ الغُسْل وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهُ قَبْلهُ. قُلت: وَكَذَا عَمِل المُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ الأَصْحَابِ ذَكَرُوهُ بَعْدَ الغُسْل، وَكَأَنَّهُمْ تَأَسَّوْا بِالمُزَنِيِّ رحمه الله، وَلا يَلزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ يُخَالفُونَ فِي اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِهِ، وَقَدْ أَشَارَ المُصَنِّفُ إلى تَقْدِيمِهِ بِقَوْلهِ قَبْل هَذَا: وَيَتَتَبَّعُ مَا تَحْتَ أَظْفَارِهِ إنْ لمْ يَكُنْ قَلمَهَا.
وَأَمَّا شَعْرُ الرَّأْسِ فَقَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله لا يَحْلقُهُ. قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: إنْ كَانَ لا يَعْتَادُ حَلقَ رَأْسِهِ بِأَنْ كَانَ ذَا جَمَّةٍ وَهِيَ الشَّعْرُ المُسْتَرْسِل الذِي نَزَل إلى المَنْكِبَيْنِ لمْ يُحْلقْ بِلا خِلافٍ، وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُ حَلقَهُ فَطَرِيقَانِ :، المَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ لا: يُحْلقُ.
الثاني: عَلى القَوْليْنِ فِي الأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ وَالإِبْطِ وَالعَانَةِ، وَهَذَا التَّفْصِيل الذِي ذَكَرْته بَيْنَ المُعْتَادِ وَغَيْرِهِ هُوَ المَعْرُوفُ فِي المَذْهَبِ، وَكَلامُ المُصَنِّفِ مَحْمُولٌ عَليْهِ. وَأَمَّا خِتَانُ مَنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يُخْتَنُ فَفِيهِ ثَلاثُ طُرُقٍ (المَذْهَبُ) وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ لا يُخْتَنُ.
والطريق الثاني: فِيهِ قَوْلانِ: كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ، حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ والثالث: فِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: حَكَاهُ صَاحِبُ البَيَانِ، الصَّحِيحُ: لا يُخْتَنُ، وَالثَّانِي: يُخْتَنُ: وَالثَّالثُ: يُخْتَنُ البَالغُ دُونَ الصَّبِيِّ؛ لأَنَّهُ وَجَبَ

 

ج / 5 ص -103-       عَلى البَالغِ دُونَ الصَّبِيِّ وَالصَّحِيحُ: الجَزْمُ بِأَنَّهُ لا يُخْتَنُ مُطْلقًا؛ لأَنَّهُ جُزْءٌ فَلمْ يُقْطَعْ كَيَدِهِ المُسْتَحِقَّةِ فِي قَطْعِ سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ، فَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهَا لا تُقْطَعُ، وَيُخَالفُ الشَّعْرَ وَالظُّفْرَ فَإِنَّهُمَا يُزَالانِ فِي الحَيَاةِ للزِّينَةِ، وَالمَيِّتُ يُشَارِكُ الحَيَّ فِي ذَلكَ، وَالخِتَانُ يُفْعَل للتَّكْليفِ بِهِ، وَقَدْ زَال بِالمَوْتِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: فِي الشُّعُورِ المَأْخُوذَةِ مِنْ شَارِبِهِ وَإِبْطِهِ وَعَانَتِهِ وَأَظْفَارِهِ وَمَا اُنْتُتِفَ مِنْ تَسْرِيحِ رَأْسِهِ وَلحْيَتِهِ وَجِلدَةِ الخِتَانِ إذَا قُلنَا: يُخْتَنُ وَجْهَانِ: أحدهما: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصِرَّ كُل ذَلكَ مَعَهُ فِي كَفَنِهِ وَيُدْفَنَ. وَبِهَذَا قَطَعَ القَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُهُ البَغَوِيّ وَالغَزَاليُّ فِي الوَسِيطِ وَالخُلاصَةِ وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَأَشَارَ إليْهِ المُصَنِّفُ فِي كِتَابِهِ فِي الخِلافِ.
 والثاني: يُسْتَحَبُّ أَنْ لا يُدْفَنَ مَعَهُ بَل يُوَارَى فِي الأَرْضِ غَيْرِ القَبْرِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِهِ. فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ الأَوْزَاعِيِّ اسْتِحْبَابَ دَفْنِهَا مَعَهُ. ثُمَّ قَال: وَالاخْتِيَارُ عِنْدَنَا أَنَّهَا لا تُدْفَنُ مَعَهُ؛ لأَنَّهُ لمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ وَلا أَثَرٌ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَتْ المَرْأَةُ غُسِّلتْ كَمَا يُغَسَّل الرَّجُل فَإِنْ كَانَ لهَا شَعْرٌ جُعِل لهَا ثَلاثُ ذَوَائِبَ وَيُلقَى خَلفَهَا، لمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها فِي وَصْفِ غُسْل بِنْتِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالتْ: "ضَفَّرْنَا نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَاهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ ثُمَّ أَلقَيْنَاهَا خَلفَهَا".
 الشرح: حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَالذَّوَائِبُ وَالضَّفَائِرُ وَالغَدَائِرُ - بِفَتْحِ الغَيْنِ المُعْجَمَةِ - مُتَقَارِبَةُ المَعْنَى. وَهِيَ خُصَل الشَّعْرِ. لكِنَّ الضَّفِيرَةَ لا تَكُونُ إلا مَضْفُورَةً وَأَصْل الضَّفْرِ الفَتْل، وَهَذَا الحُكْمُ الذِي ذَكَرَهُ مُتَّفَقٌ عَليْهِ. نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ. وَبِمِثْل مَذْهَبِنَا فِي اسْتِحْبَابِ تَسْرِيحِ شَعْرِهَا وَجَعْلهِ1 ثَلاثَةَ ضَفَائِرَ خَلفَهَا قَال أَحْمَدُ وَدَاوُد. وَقَال مَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمهما الله (لا يُضَفَّرُ شَعْرُهَا وَلا يُسَرَّحُ بَل يُتْرَكُ مُرْسَلًا مِنْ كَتِفَيْهَا).
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ لمَنْ غَسَّل مَيِّتًا أَنْ يَغْتَسِل، لمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مِنْ غَسَّل مَيِّتًا فَليَغْتَسِل"وَلا يَجِبُ ذَلكَ، وَقَال فِي البُوَيْطِيِّ: إنْ صَحَّ الحَدِيثُ قُلت: بِوُجُوبِهِ، وَالأَوَّل أَصَحُّ لأَنَّ المَيِّتَ طَاهِرٌ، وَمَنْ غَسَّل طَاهِرًا لمْ يَلزَمْهُ بِغُسْلهِ طَهَارَةٌ كَالجُنُبِ، وَهَل هُوَ آكَدُ أَوْ غُسْل الجُمُعَةِ؟ فِيهِ قَوْلان: قَال فِي القَدِيمِ: غُسْل الجُمُعَةِ آكَدُ؛ لأَنَّ الأَخْبَارَ فِيهِ أَصَحُّ، وَقَال فِي الجَدِيدِ: الغُسْل مِنْ غُسْل المَيِّتِ آكَدُ، وَهُوَ الأَصَحُّ؛ لأَنَّ غُسْل الجُمُعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَالغُسْل مِنْ غُسْل المَيِّتِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الوُجُوبِ وَغَيْرِهِ".
 الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَبَسَطَ البَيْهَقِيُّ رحمه الله القَوْل فِي ذِكْرِ طُرُقِهِ، وَقَال: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَال: وَقَال التِّرْمِذِيُّ عَنْ البُخَارِيِّ قَال: إنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَليَّ بْنَ المَدِينِيِّ قَالا: لا يَصِحُّ فِي البَابِ شَيْءٌ، وَكَذَا قَال مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في جميع الأصل (ثلاثة) والقاعدة (ثلاث) حيث أن مفردها ضفيرة (ط).

 

ج / 5 ص -104-       الذُّهْليُّ شَيْخُ البُخَارِيِّ لا أَعْلمُ فِيهِ حَدِيثًا ثَابِتًا، وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا، قَال: وَإِسْنَادُهُ سَاقِطٌ، وَأَمَّا: حَدِيثُ عَليٍّ رضي الله عنه "أَنَّهُ غَسَّل أَبَاهُ أَبَا طَالبٍ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِل"فَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ، وَقَال: هُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ وَأَسَانِيدُهُ كُلهَا ضَعِيفَةٌ وَبَعْضُهَا مُنْكَرٌ، وَفِي حَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَغْتَسِل مِنْ الجَنَابَةِ وَيَوْمَ الجُمُعَةِ وَمِنْ الحِجَامَةِ وَغُسْل المَيِّتِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَهَكَذَا الحَدِيثُ فِي الوُضُوءِ مَنْ حَمْل المَيِّتِ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "مَنْ غَسَّل مَيِّتًا فَليَغْتَسِل، وَمَنْ حَمَلهُ فَليَتَوَضَّأْ"قَال التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ يُنْكَرُ عَليْهِ قَوْلهُ: إنَّهُ حَسَنٌ، بَل هُوَ ضَعِيفٌ قَدْ بَيَّنَ البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ضَعْفَهُ، قَال البَيْهَقِيُّ رحمه الله: الرِّوَايَاتُ المَرْفُوعَةُ فِي هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ قَوِيَّةٍ بَعْضُهَا لجَهَالةِ بَعْضِ رُوَاتِهَا وَضَعْفِ بَعْضِهِمْ1 قَال: وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلهِ مَوْقُوفًا غَيْرَ مَرْفُوعٍ وَضَعَّفَ المَرْفُوعَ بِهِ أَيْضًا مَعَ مَنْ قَدَّمْنَا أَيْضًا الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَاَللهُ أَعْلمُ
وَقَال المُزَنِيّ: هَذَا الغُسْل ليْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَكَذَا الوُضُوءُ مِنْ مَسِّ المَيِّتِ وَحَمْلهِ؛ لأَنَّهُ لمْ يَصِحَّ فِيهِمَا شَيْءٌ، قَال فِي المُخْتَصَرِ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلى أَنَّ مَنْ مَسَّ حَرِيرًا2 أَوْ مَيْتَةً ليْسَ عَليْهِ وُضُوءٌ وَلا غُسْلٌ فَالمُؤْمِنُ أَوْلى، هَذَا كَلامُ المُزَنِيِّ، وَهُوَ قَوِيٌّ وَاَللهُ أَعْلمُ. قَال أَصْحَابُنَا: فِي الغُسْل مِنْ غُسْل المَيِّتِ طَرِيقَانِ: المَذْهَبُ: الصَّحِيحُ الذِي اخْتَارَهُ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ أَنَّهُ سُنَّةٌ سَوَاءٌ صَحَّ فِيهِ حَدِيثٌ أَمْ لا، فَلوْ صَحَّ حَدِيثٌ حُمِل عَلى الاسْتِحْبَابِ والثاني: فِيهِ قَوْلانِ: الجَدِيدُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالقَدِيمُ أَنَّهُ وَاجِبٌ إنْ صَحَّ الحَدِيثُ وَإِلا فَسُنَّةٌ. قَال الخَطَّابِيُّ رحمه الله: لا أَعْلمُ أَحَدًا أَوْجَبَ الغُسْل مِنْ غُسْل المَيِّتِ، قَال: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الحَدِيثُ. للاسْتِحْبَابِ، قَال ابْنُ المُنْذِرِ فِي الإِشْرَافِ رحمه الله: قَال ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لا غُسْل عَليْهِ، وَعَنْ عَليٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ المُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيِّ: يَغْتَسِل وَعَنْ النَّخَعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ: يَتَوَضَّأُ، قَال ابْنُ المُنْذِرِ: لا شَيْءَ عَليْهِ، ليْسَ فِيهِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَغُسْل الجُمُعَةِ وَالغُسْل مِنْ غُسْل المَيِّتِ آكَدُ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الأَغْسَال المَسْنُونَةِ. وَأَيُّهُمَا آكَدُ؟ فِيهِ القَوْلانِ اللذَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ أصحهما: عِنْدَهُ أَنَّ الغُسْل مِنْ غُسْل المَيِّتِ آكَدُ الثاني: وَهُوَ المُخْتَارُ أَنَّ غُسْل الجُمُعَةِ آكَدُ.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ صِفَةِ غُسْل الجَنَابَةِ. وَسَبَقَ بَيَانُ فَائِدَةِ هَذَا الخِلافِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ للغَاسِل إذَا رَأَى مِنْ المَيِّتِ مَا يُعْجِبُهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ. وَإِنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ لمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ. لمَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال
"مَنْ غَسَّل مَيِّتًا فَكَتَمَ عَليْهِ غَفَرَ اللهُ لهُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض الأصل ولعل السقط (لانقطاعها أو وقفها) (ط).
2 كذا بالأصول والنسخ المطبوعة أيضا والصواب (خنزيرا أو ميتة) حتى يستقيم المعنى وهو نصه في "المختصر" (ط).

 

ج / 5 ص -105-       الشرح: حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ، قَال: هُوَ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ وَأَبُو رَافِعٍ اسْمُهُ مُسْلمٌ وَقِيل: إبْرَاهِيمُ. وَقِيل: ثَابِتٌ وَقِيل: هُرْمُزُ تُوُفِّيَ فِي خِلافَةِ عَليٍّ رضي الله عنه وَقِيل غَيْرُ ذَلكَ، وَهَذَا الحُكْمُ الذِي قَالهُ المُصَنِّفُ قَالهُ جُمْهُورُ الأَصْحَابِ. وَقَال صَاحِبُ البَيَانِ رحمه الله: لوْ كَانَ المَيِّتُ مُبْتَدِعًا مُظْهِرًا لبِدْعَتِهِ، وَرَأَى الغَاسِل مَا يَكْرَهُ فَاَلذِي يَقْتَضِيهِ القِيَاسُ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ فِي النَّاسِ؛ للزَّجْرِ عَنْ بِدْعَتِهِ، وَهَذَا الذِي قَالهُ صَاحِبُ البَيَانِ مُتَعَيِّنٌ لا عُدُول عَنْهُ، وَالحَدِيثُ وَكَلامُ الأَصْحَابِ خَرَجَا عَلى الغَالبِ، وَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصٌ فِي هَذَا وَعَكْسِهِ، وَسَنُوَضِّحُهَا إنْ شَاءَ اللهُ فِي آخِرِ بَابِ التَّعْزِيَةِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: فِي مَسَائِل تَتَعَلقُ بِالبَابِ:
إحداها: يَجُوزُ للجُنُبِ وَالحَائِضِ غُسْل المَيِّتِ بِلا كَرَاهَةٍ وَكَرِهَهُمَا الحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَكَرِهَ مَالكٌ الجُنُبَ. دَليلنَا أَنَّهُمَا طَاهِرَانِ كَغَيْرِهِمَا.
الثَّانِيَةُ: قَدْ سَبَقَ فِي بَابِ إزَالةِ النَّجَاسَةِ أَنَّ الآدَمِيَّ هَل يَنْجَسُ بِالمَوْتِ؟ قَوْلانِ: سَوَاءٌ المُسْلمُ وَالكَافِرُ أصحهما: لا يَنْجَسُ والثاني: يَنْجَسُ، وَأَمَّا غُسَالتُهُ فَإِنْ قُلنَا: لا يَنْجَسُ بِالمَوْتِ فَطَاهِرَةٌ، وَإِنْ قُلنَا: يَنْجَسُ فَالقِيَاسُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ وَنَقَل الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ أَنَّ غُسَالتَهُ طَاهِرَةٌ، سَوَاءٌ قُلنَا بِطَهَارَةِ الآدَمِيِّ أَمْ بِنَجَاسَتِهِ، قَال الدَّارِمِيُّ: فِي هَذَا نَظَرٌ.
الثالثة: ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّل المَيِّتُ ثَلاثًا، فَإِنْ لمْ يَحْصُل الإِنْقَاءُ بِهَا زَادَ حَتَّى يَحْصُل الإِنْقَاءُ، قَال السَّرَخْسِيُّ: قَال القَفَّال: وَإِذَا حَصَل الإِنْقَاءُ بِالثَّلاثِ لا بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ عَليْهَا إذَا بَلغَ بِهِ وِتْرًا آخَرَ، بِخِلافِ طَهَارَةِ الحَيِّ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلى ثَلاثٍ، وَالفَرْقُ أَنَّ طَهَارَةَ الحَيِّ مَحْضُ تَعَبُّدٍ، وَهُنَا المَقْصُودُ التَّنْظِيفُ وَإِزَالةُ الشَّعَثِ.
الرابعة: سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ المَضْمَضَةِ فِي غُسْل المَيِّتِ وَالاسْتِنْشَاقُ، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَابْنُ المُنْذِرِ وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ لا يُشْرَعَانِ وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ. دَليلنَا قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم
"وَابْدَأْنَ بِمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا"وَمَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ تَسْرِيحِ شَعْرِ المَيِّتِ، قَال العَبْدَرِيُّ: وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الفُقَهَاءِ: لا يُسَرَّحُ. دَليلنَا حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ السَّابِقُ فِي أَوَّل البَابِ، وَمَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ الكَافُورِ فِي الغَسْلةِ الأَخِيرَةِ، وَفِي غَيْرِهَا الخِلافُ السَّابِقُ. قَال العَبْدَرِيُّ: وَبِهَذَا قَال عَامَّةُ الفُقَهَاءِ وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لا يُسْتَحَبُّ دَليلنَا حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ. وَمَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ غُسْل المَيِّتِ ثَلاثًا فَإِنْ لمْ يَحْصُل الإِنْقَاءُ زِدْنَا حَتَّى يَحْصُل وَيُسْتَحَبُّ بَعْدَهُ الإِيتَارُ وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ. وَقَال مَالكٌ: لا تَقْدِيرَ للاسْتِحْبَابِ دَليلنَا حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها