المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ الكَفَنِ
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"(تَكْفِينُ المَيِّتِ فَرْضٌ عَلى الكِفَايَةِ لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "فِي المُحْرِمِ الذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ:
كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا"وَيَجِبُ ذَلكَ فِي مَالهِ للخَبَرِ وَيُقَدَّمُ عَلى الدَّيْنِ

 

ج / 5 ص -106-       كَمَا تُقَدَّمُ كِسْوَةُ المُفْلسِ عَلى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، فَإِنْ قَال بَعْضُ الوَرَثَةِ: أَنَا أُكَفِّنُهُ مِنْ مَالي، وَقَال بَعْضُهُمْ: بَل يُكَفَّنُ مِنْ التَّرِكَةِ كُفِّنَ مِنْ التَّرِكَةِ؛ لأَنَّ فِي تَكْفِينِ بَعْضِ الوَرَثَةِ مِنْ مَالهِ مِنَّةٌ عَلى البَاقِينَ فَلا يَلزَمُ قَبُولهَا، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ لهَا زَوْجٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قَال أَبُو إِسْحَاقَ: يَجِبُ عَلى الزَّوْجِ؛ لأَنَّ مَنْ لزِمَهُ كِسْوَتُهَا فِي الحَيَاةِ لزِمَهُ كَفَنُهَا بَعْدَ الوَفَاةِ، كَالأَمَةِ مَعَ السَّيِّدِ. وَقَال أَبُو عَليِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجِبُ فِي مَالهَا؛ لأَنَّهَا بِالمَوْتِ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ فَلمْ يَلزَمْهُ كَفَنُهَا، وَالأَوَّل أَصَحُّ؛ لأَنَّ هَذَا يَبْطُل بِالأَمَةِ فَإِنَّهَا صَارَتْ بِالمَوْتِ أَجْنَبِيَّةً مِنْ مَوْلاهَا، ثُمَّ يَجِبُ عَليْهِ تَكْفِينُهَا فَإِنْ يَكُنْ مَالٌ وَلا زَوْجَ فَالكَفَنُ عَلى مَنْ يَلزَمُهُ نَفَقَتُهَا اعْتِبَارًا بِالكِسْوَةِ فِي الحَيَاةِ".
 الشرح: حَدِيثُ المُحْرِمِ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَبَقَ فِي بَابِ غُسْل المَيِّتِ، وَليْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَوْلهُ: اللذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا، وَأَكْثَرُ رِوَايَاتِهِمَا ثَوْبَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا ثَوْبَيْهِ، وَالكِسْوَةُ بِكَسْرٍ الكَافِ وَضَمِّهَا، لغَتَانِ الكَسْرُ أَفْصَحُ. وَفِي الفَصْل مَسَائِل:
إحداها: تَكْفِينُ المَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ وَإِنَّهُ لا يُشْتَرَطُ وُقُوعُهُ مِنْ مُكَلفٍ، حَتَّى لوْ كَفَّنَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ حَصَل التَّكْفِينُ لوُجُودِ المَقْصُودِ.
الثانية: مَحِل الكَفَنِ تَرِكَةُ المَيِّتِ للحَدِيثِ المَذْكُورِ وَالإِجْمَاعِ، فَإِنْ كَانَ عَليْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ قُدِّمَ الكَفَنُ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَاسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا صُوَرًا يُقَدَّمُ فِيهَا الدَّيْنُ عَلى الكَفَنِ، وَضَابِطُهَا أَنْ يَتَعَلقَ الدَّيْنُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ فَمِنْ الصُّوَرِ المُسْتَثْنَاةِ مَالٌ تَعَلقَتْ بِهِ زَكَاةٌ لشَاةٍ بَقِيَتْ مِنْ أَرْبَعِينَ وَالمَرْهُونُ وَالعَبْدُ الجَانِي وَالمَبِيعُ إذَا مَاتَ المُشْتَرِي مُفْلسًا وَشَبَهُهَا، فَيُقَدَّمُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِلا خِلافٍ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الجُرْجَانِيُّ فِي فَرَائِضِهِ، وَالبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ وَالجُوَيْنِيُّ فِي الفُرُوقِ، وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ يَنْبَغِي للمُصَنِّفِ أَنْ يُنَبِّهَ عَليْهِ. قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَحَنُوطُ المَيِّتِ وَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ كَالغُسْل وَالحَمْل وَالدَّفْنِ وَغَيْرِهَا لهَا حُكْمُ الكَفَنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
فرع: تَكْفِينُ المَيِّتِ وَسَائِرُ مُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ يُحْسَبُ مِنْ رَأْسِ مَالهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ غَيْرَهُ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَال الفُقَهَاءُ كَافَّةً إلا مَا سَأَذْكُرُهُ. قَال ابْنُ المُنْذِرِ: الكَفَنُ مِنْ رَأْسِ المَال، سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ غَيْرَهُ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَال الفُقَهَاءُ كَافَّةً إلا مَا سَأَذْكُرُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ العُلمَاءِ، مِمَّنْ قَالهُ ابْنُ المُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، وَبِهِ نَقُول، وَقَال خِلاسُ بْنُ عَمْرٍو بِكَسْرِ الخَاءِ: مِنْ ثُلثِ التَّرِكَةِ. وَقَال طَاوُسٌ: إنْ كَانَ المَال قَليلًا فَمِنْ الثُّلثِ وَإِلا فَمِنْ رَأْسِ المَال، دَليلنَا حَدِيثُ المُحْرِمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يَسْأَل هَل أَوْصَى بِالثُّلثِ أَمْ لا.
الثالثة: إذَا طَلبَ بَعْضُ الوَرَثَةِ تَكْفِينَهُ مِنْ مَالهِ وَآخَرُ مِنْ التَّرِكَةِ كُفِّنَ مِنْ التَّرِكَةِ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
الرابعة: إذَا مَاتَتْ مُزَوَّجَةٌ فَهَل يَلزَمُ الزَّوْجَ كَفَنُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: عِنْدَ جُمْهُورِ الأَصْحَابِ يَجِبُ عَلى زَوْجِهَا، مِمَّنْ صَحَّحَهُ المُصَنِّفُ هُنَا، وَفِي التَّنْبِيهِ وَالمَحَامِليُّ فِي كِتَابَيْهِ

 

ج / 5 ص -107-       المَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ، وَالرَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ المَحَامِليُّ فِي المُقْنِعِ، وَصَحَّحَ المَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فِي الفُرُوقِ، وَالجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وُجُوبَهُ فِي مَالهَا، قَال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَفِي هَذَا النَّقْل نَظَرٌ؛ لأَنَّ الأَكْثَرِينَ إنَّمَا نَقَلوهُ عَنْ أَبِي عَليِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَدَليل الوَجْهَيْنِ: فِي الكِتَابِ قَالهُ البَنْدَنِيجِيُّ وَالعَبْدَرِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَسَائِرُ الأَصْحَابِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الزَّوْجَةُ مُوسِرَةً أَوْ مُعْسِرَةً فَفِيهَا الوَجْهَانِ وَأَمَّا تَقْيِيدُ الغَزَاليِّ فِي الوَسِيطِ الوَجْهَيْنِ: بِمَا إذَا كَانَتْ مُعْسِرَةً فَأَنْكَرُوهُ عَليْهِ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرَ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَلمْ يَتَكَلمْ فِي المُوسِرَةِ.
قَال أَصْحَابُنَا: "وَحُكْمُ مُؤْنَةِ غُسْلهَا وَدَفْنِهَا وَسَائِرِ مُؤَنِ تَجْهِيزِهَا حُكْمُ الكَفَنِ "صَرَّحَ بِهِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ التَّعْليقِ وَالمُجَرَّدِ، وَالدَّارِمِيُّ وَالمَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ وَالمُقْنِعِ وَآخَرُونَ وَلا خِلافَ فِيهِ. قَال المَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ وَالمُقْنِعِ وَآخَرُونَ مِنْ الأَصْحَابِ: إنْ قُلنَا يَجِبُ عَلى الزَّوْجِ فَلمْ يَكُنْ لهُ مَالٌ وَجَبَ فِي مَالهَا، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهَا مَالٌ فَعَلى مَنْ عَليْهِ نَفَقَتُهَا، فَإِنْ لمْ يَكُنْ فَفِي بَيْتِ المَال. وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ فِي الأَمَةِ إنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً بِالمَوْتِ فَقَدْ قَال مِثْلهُ المَحَامِليُّ وَغَيْرُهُ وَأَنْكَرَهُ صَاحِبُ الشَّامِل وَقَال: نَفَقَةُ الأَمَةِ كَانَتْ لسَبَبِ المِلكِ وَلا تَبْطُل أَحْكَامُهُ بِالمَوْتِ، وَلهَذَا كَانَ السَّيِّدُ أَحَقَّ بِدَفْنِهَا وَتَوَليَ تَجْهِيزِهَا.
الخامسة: إذَا لمْ يَكُنْ للمَيِّتِ مَالٌ وَلا زَوْجٌ وَجَبَ كَفَنُهُ وَسَائِرُ مُؤَنِ تَجْهِيزِهِ عَلى مَنْ تَلزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ وَالدٍ وَوَلدٍ وَسَيِّدٍ، فَيَجِبُ عَلى السَّيِّدِ كَفَنُ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَالقِنِّ وَالمُدَبَّرِ وَأُمِّ الوَلدِ وَالمُكَاتَبِ؛ لأَنَّ الكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ بِالمَوْتِ، وَسَوَاءٌ فِي أَوْلادِهِ البَالغُ وَغَيْرُهُ، وَالصَّحِيحُ وَالزَّمِنُ، وَكَذَا الوَالدُونَ؛ لأَنَّهُمْ بِالمَوْتِ صَارُوا عَاجِزِينَ عَنْ الكَسْبِ وَنَفَقَةُ العَاجِزِ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ مَنْ تَلزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَجَبَتْ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ فِي بَيْتِ المَال كَنَفَقَتِهِ، وَهَل يُكَفَّنُ مِنْ بَيْتِ المَال بِثَوْبٍ أَمْ بِثَلاثَةٍ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ.
أحدهما: يُكَفَّنُ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ، قَال الإِمَامُ وَبِهَذَا قَطَعَ الأَئِمَّةُ وأصحهما: وَأَشْهَرُهُمَا فِيهِ وَجْهَانِ، وَمِمَّنْ حَكَاهُمَا صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَالبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ أصحهما: بِثَوْبٍ؛ لأَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَمَّا سِوَاهُ وَبَيْتُ المَال للمُحْتَاجِ فَإِنْ قُلنَا بِثَوْبٍ فَتَرَكَ المَيِّتُ ثَوْبًا لمْ يُزَدْ عَليْهِ مِنْ بَيْتِ المَال. وَإِنْ قُلنَا ثَلاثَةٌ فَهَل يُقْتَصَرُ عَليْهِ أَمْ يُكْمِل ثَلاثَةً؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: يُكْمِل؛ لأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ فِي بَيْتِ المَال، فَإِنْ لمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ المَال مَالٌ وَجَبَ كَفَنُهُ وَسَائِرُ مُؤَنِ تَجْهِيزِهِ عَلى عَامَّةِ المُسْلمِينَ، كَنَفَقَتِهِ فِي مِثْل هَذَا الحَال.
 قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: وَلا يَجِبُ حِينَئِذٍ إلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ؛ لأَنَّ أَمْوَال العَامَّةِ أَضْيَقُ مِنْ بَيْتِ المَال فَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلا الضَّرُورَةُ، وَهَذَا كُلهُ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الأَصْحَابِ، وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْل المُصَنِّفِ: الكَفَنُ عَلى مَنْ تَلزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ مُرَتَّبَةٌ هَكَذَا، وَإِذَا كُفِّنَ مِنْ مَال قَرِيبِهِ الذِي عَليْهِ نَفَقَتُهُ فَهَل يُكَفَّنُ بِثَوْبٍ أَمْ بِثَلاثَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ كَبَيْتِ المَال، حَكَاهُمَا القَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ أصحهما: بِثَوْبٍ.
فرع: قَال البَنْدَنِيجِيُّ: فَإِنْ مَاتَ لهُ أَقَارِبُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بِهَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ وَغَيْرِهِمَا، قَدَّمَ فِي

 

ج / 5 ص -108-       التَّكْفِينِ وَغَيْرِهِ مِنْ يَخَافُ فَسَادَهُ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِيهِ قَدَّمَ الأَبَ ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ، فَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ قَدَّمَ أَسَنَّهُمَا، فَإِنْ كَانَا زَوْجَيْنِ أَقَرَعَ بَيْنَهُمَا إذْ لا مَزِيَّةَ.
 فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي كَفَنِ الزَّوْجَةِ.
ذَكَرْنَا أَنَّ الأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ عَلى الزَّوْجِ، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَال الشَّعْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ وَأَحْمَدُ "فِي مَالهَا "وَرُوِيَ عَنْ مَالكٍ.
 فرع: قَال البَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ: لوْ مَاتَ إنْسَانٌ وَلمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَا يُكَفَّنُ بِهِ إلا ثَوْبٌ مَعَ مَالكٍ لهُ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إليْهِ، لزِمَهُ بَذْلهُ بِقِيمَتِهِ كَالطَّعَامِ للمُضْطَرِّ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَأَقَل مَا يُجْزِئُ مَا يَسْتُرُ العَوْرَةَ كَالحَيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: أَقَلهُ ثَوْبٌ يَعُمُّ البَدَنَ؛ لأَنَّ مَا دُونَهُ لا يُسَمَّى كَفَنًا، وَالأَوَّل أَصَحُّ".
 الشرح: هَذَانِ الوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَاخْتَلفُوا فِي أَصَحِّهِمَا، وَصَحَّحَ المُصَنِّفُ هُنَا وَالمَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ وَصَاحِبَا المُسْتَظْهِرِيِّ وَالبَيَانِ وَآخَرُونَ مِنْ العِرَاقِيِّينَ الاكْتِفَاءَ بِسَاتِرِ العَوْرَةِ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْ العِرَاقِيِّينَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ مِنْهُمْ المَاوَرْدِيُّ، فِي الحَاوِي وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ التَّعْليقِ وَالمُجَرَّدِ، وَسُليْمٌ الرَّازِيّ فِي الكِفَايَةِ، وَالمَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ، وَصَاحِبُ الشَّامِل، وَقَطَعَ بِهِ الخُرَاسَانِيُّونَ المُتَوَلي وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ، فَإِنَّهُ قَال رحمه الله: (وَمَا كُفِّنَ فِيهِ المَيِّتُ أَجْزَأَهُ، وَإِنَّمَا قُلنَا ذَلكَ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَفَّنَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْضَ القَتْلى بِنَمِرَةٍ "فَدَل ذَلكَ عَلى أَنَّهُ ليْسَ فِيهِ حَدٌّ لا يَقْصُرُ عَنْهُ، وَعَلى أَنَّهُ يُجْزِئُ مَا وَارَى العَوْرَةَ) هَذَا لفْظُ نَصِّهِ.
وَقَطَعَ جُمْهُورُ الخُرَاسَانِيِّينَ بِأَنَّهُ يَجِبُ سَاتِرُ جَمِيعِ البَدَنِ، مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ مِنْهُمْ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَالبَغَوِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَصَحَّحَهُ مِنْهُمْ القَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ.
وَحَكَى البَنْدَنِيجِيُّ فِي المَسْأَلةِ ثَلاثَةَ أَوْجُهٍ، هَذَانِ الوَجْهَانِ، وَالثَّالثُ: يَجِبُ ثَلاثَةُ أَثْوَابٍ،، وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ، وَالأَصَحُّ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الأَكْثَرِينَ، وَعَنْ ظَاهِرِ نَصِّهِ وَهُوَ سَاتِرُ العَوْرَةِ، لحَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ الذِي أَشَارَ إليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي اسْتِدْلالهِ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَفَّنَهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِنَمِرَةٍ غَطَّى بِهَا رَأْسَهُ، وَبَدَتْ رِجْلاهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلوا عَلى رِجْليْهِ الإِذْخِرَ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، فَإِنْ قِيل: لعَلهُ لمْ يَكُنْ لهُ سِوَى النَّمِرَةِ فالجواب:  مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ يَبْعُدُ مِمَّنْ خَرَجَ للقِتَال أَنْ لا يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهَا مِنْ سِلاحٍ وَغَيْرِهِ، مِمَّا يُشْتَرَى بِهِ كَفَنٌ والثاني: لوْ ثَبَتَ أَنَّهُ لمْ يَكُنْ لهُ غَيْرُهَا وَالسَّاتِرُ غَيْرُهَا لوَجَبَ تَتْمِيمُهُ مِنْ بَيْتِ المَال، فَإِنْ فُقِدَ فَعَلى المُسْلمِينَ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُل فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ، إزَارٍ وَلفَافَتَيْنِ بِيضٍ لمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالتْ
"كُفِّنَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُوليَّةٍ، ليْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ"فَإِنْ كُفِّنَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ لمْ يُكْرَهْ؛ لأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُكَفِّنُ أَهْلهُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، فِيهَا قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ،؛ وَلأَنَّ أَكْمَل ثِيَابِ الحَيِّ خَمْسَةٌ، قَمِيصَانِ وَسَرَاوِيل، وَعِمَامَةٌ وَرِدَاءٌ، وَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلى ذَلكَ؛ لأَنَّهُ سَرَفٌ، وَإِنْ قَال بَعْضُ الوَرَثَةِ:

 

ج / 5 ص -109-       يُكَفَّنُ بِثَوْبٍ، وَقَال بَعْضُهُمْ: بِثَلاثَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يُكَفَّنُ بِثَوْبٍ؛ لأَنَّهُ يَعُمُّ وَيَسْتُرُ والثاني: يُكَفَّنُ بِثَلاثَةٍ؛ لأَنَّهُ الكَفَنُ المَعْرُوفُ المَسْنُونُ، وَالأَفْضَل أَنْ لا يَكُونَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ، لحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَإِنْ جُعِل فِيهَا قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ لمْ يُكْرَهْ؛ "لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى ابْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلول1 قَمِيصًا ليَجْعَلهُ فِي كَفَنِ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الكَفَنِ قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ جَعَل ذَلكَ تَحْتَ الثِّيَابِ؛ لأَنَّ إظْهَارَهُ زِينَةٌ، وَليْسَ الحَال حَال زِينَةٍ".
 الشرح: حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: "كَفَّنَ أَهْلهُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ "ذَكَرَهُ البَيْهَقِيُّ فَقَال: رَوَيْنَا عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنًا لعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَاتَ فَكَفَّنَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ قَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ وَثَلاثِ لفَائِفَ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ فَرَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. وَاسْمُ ابْنِ أُبَيِّ هَذَا عَبْدُ اللهِ أَيْضًا، وَهُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلول فَأُبَيٌّ بِضَمِّ الهَمْزَةِ وَفَتْحِ البَاءِ وَتَشْدِيدِ اليَاءِ، وَسَلول بِفَتْحِ السِّينِ المُهْمَلةِ، وَبِلامَيْنِ الأُولى مَضْمُومَةٌ، وَهُوَ اسْمُ امْرَأَةٍ، فَلا يَنْصَرِفُ، فَعَبْدُ اللهِ المَيِّتُ هُوَ ابْنُ أُبَيٍّ، وَهُوَ ابْنُ سَلول أَيْضًا فَأُبَيٌّ أَبُوهُ وَسَلول أُمُّهُ، وَسَلول زَوْجَةُ أُبَيِّ، قَال العُلمَاءُ: وَالصَّوَابُ فِي كِتَابَتِهِ وَقِرَاءَتِهِ أَنْ تُنَوَّنَ أُبَيٌّ، وَيُكْتَبُ ابْنُ سَلول بِالأَلفِ فِي ابْنٍ وَلهَذَا نَظَائِرُ كَقَوْلهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَليِّ ابْنُ الحَنَفِيَّةِ وَإِسْمَاعِيل بْنُ إبْرَاهِيمَ ابْنُ عُليَّةَ وَآخَرِينَ، وَقَدْ أَفْرَدْتهمْ فِي جُزْءٍ، وَأَشَرْت إليْهِمْ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ فِي تَهْذِيبِ الأَسْمَاءِ وَاللغَاتِ.
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ المَيِّتُ رَأْسَ المُنَافِقِينَ كَثِيرَ إسَاءَةِ الأَدَبِ، وَالكَلامِ القَبِيحِ، وَأَمَّا ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ الذِي أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم القَمِيصَ، فَكَانَ مُسْلمًا صَالحًا، فَاضِلًا رضي الله عنه وَالقَمِيصُ الذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ هُوَ قَمِيصُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قِيل: أَعْطَاهُ إيَّاهُ ليُطَيِّبَ قَلبَ ابْنِهِ، وَقِيل: لأَنَّ المَيِّتَ المُنَافِقَ كَانَ كَسَا العَبَّاسَ رضي الله عنه عَمَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبًا حِينَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَعْطَاهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبًا بَدَلهُ؛ لئَلا يَبْقَى لكَافِرٍ عِنْدَهُ يَدٌ، وَالأَوَّل أَظْهَرُ، وَلهَذَا صَلى عَليْهِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْل أَنْ يُنْهَى عَنْ الصَّلاةِ عَلى المُنَافِقِينَ، ثَبَتَ ذَلكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا الحَدِيثِ. فَإِنْ قِيل: ليْسَ فِي هَذَا الحَدِيثِ دَليلٌ لمَا قَالهُ المُصَنِّفُ: فَإِنَّهُ اسْتَدَل عَلى القَمِيصِ وَالعِمَامَةِ وَليْسَ للعِمَامَةِ ذِكْرٌ فِيهِ (فَجَوَابُهُ) أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الآخَرُ، إذْ لا فَرْقَ وقوله: سُحُوليَّةٌ رُوِيَ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا، وَالفَتْحُ رِوَايَةُ الأَكْثَرِينَ قَال الأَزْهَرِيُّ: هِيَ بِالفَتْحِ مَدِينَةٌ فِي نَاحِيَةِ اليَمَنِ، مِنْهَا ثِيَابٌ يُقَال لهَا: سَحُوليَّةٌ، قَال: وَأَمَّا السُّحُوليَّةُ بِالضَّمِّ فَهِيَ الثِّيَابُ البِيضُ، وَقَال غَيْرُ الأَزْهَرِيِّ: هِيَ بِالفَتْحِ نِسْبَةٌ إلى قَرْيَةٍ بِاليَمَنِ، وَبِالضَّمِّ ثِيَابُ القُطْنِ، وَقِيل: بِالضَّمِّ ثِيَابٌ نَقِيَّةٌ مِنْ القُطْنِ خَاصَّةً قوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سلول امرأة من خزاعة وثبتت الألف قبل ابن املاه كأبي سلول ومحمد بن الحنفية وعيسى بن مريم وإسماعيل ابن عليه وعبد الله بن مالك ابن بحينة فمالك أبوه وبحينة أمه المقداد بن عمرو ابن الأسود فعمرو أبوه الحقيقي والأسود الذي رباه فنسب إليه إسحاق بن إبراهيم ابن راهويه فراهويه الذي ولدته أمه ولادة مستعصية وهو إبراهيم ولدته في طريق مكة وهي كلمة فارسية ومثله محمد بن يزيد ابن ماجه صاحب "السنن" وماجه وهو يزيد وغيرهم آخرون (ط).

 

ج / 5 ص -110-       وَلأَنَّ أَكْمَل ثِيَابِ الحَيِّ، وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَكْمَل بِالكَافِ، وَفِي بَعْضِهَا أَجْمَل بِالجِيمِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَالكَافُ أَكْثَرُ وَأَحْسَنُ قوله؛ لأَنَّهُ سَرَفٌ قَال الأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: السَّرَفُ مَا جَاوَزَ الحَدَّ المَعْرُوفَ لمِثْلهِ.
أما الأحكام: فَقَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: المُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُل فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ: إزَارٍ وَلفَافَتَيْنِ، وَالمُرَادُ بِالإِزَارِ المِئْزَرُ الذِي يُشَدُّ فِي الوَسَطِ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا البَالغُ وَالصَّبِيُّ، فَيُسْتَحَبُّ تَكْفِينُ الصَّبِيِّ فِي ثَلاثَةٍ كَالبَالغِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُكَفَّنُ الصَّبِيُّ فِي خِرْقَتَيْنِ. دَليلنَا أَنَّهُ ذَكَرٌ فَأَشْبَهَ البَالغَ، وَإِنْ كُفِّنَ الرَّجُل فِي أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ لمْ يُكْرَهْ وَلمْ يُسْتَحَبَّ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي زِيَادَةٍ عَلى خَمْسَةٍ قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: يُكْرَهُ؛ لأَنَّهُ سَرَفٌ وَلمْ يَقُولوا: إنَّ الزِّيَادَةَ حَرَامٌ مَعَ أَنَّهَا إضَاعَةُ مَالٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ وَلوْ قَال بِهِ قَائِلٌ لمْ يَبْعُدْ، وَالأَفْضَل أَنْ لا يَكُونَ فِي الكَفَنِ قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ. فَإِنْ كَانَا لمْ يُكْرَهْ لكِنَّهُ خِلافُ الأَوْلى لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ المَعْرُوفُ فِي المَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الأَصْحَابُ.
وَقَال المُصَنِّفُ فِي كِتَابِهِ عُيُونِ المَسَائِل فِي الخِلافِ: يُكْرَهُ التَّكْفِينُ فِي القَمِيصِ خِلافًا لأَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا الذِي قَالهُ مَعَ أَنَّهُ شَاذٌّ فِي المَذْهَبِ ضَعِيفٌ بَل بَاطِلٌ مِنْ جِهَةِ الدَّليل؛ لأَنَّ المَكْرُوهَ مَا ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ، وَلمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا شَيْءٌ، وَالصَّوَابُ الأَوَّل. قَال أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ اُسْتُحِبَّ جَعْلهَا تَحْتَ الثِّيَابِ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وَإِنْ قَال بَعْضُ الوَرَثَةِ يُكَفَّنُ فِي ثَوْبٍ، وَقَال بَعْضُهُمْ فِي ثَلاثَةٍ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ المُصَنِّفُ دَليلهُمَا وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّ الأَصَحَّ هُنَا تَكْفِينُهُ فِي ثَلاثَةٍ وَفِي المَسْأَلةِ طَرِيقٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ القَطْعُ بِثَلاثَةٍ نَقَلهُ عَنْ مُعْظَمِ الأَصْحَابِ وَلوْ قَال بَعْضُ الوَرَثَةِ: ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ البَدَنِ أَوْ ثَلاثَةٌ. وَقَال بَعْضُهُمْ: بَل سَاتِرُ العَوْرَةِ فَقَطْ. وَقُلنَا بِجَوَازِهِ فَاَلذِي عَليْهِ الأَصْحَابُ أَنَّهُ يُكَفَّنُ فِي ثَوْبٍ أَوْ ثَلاثَةٍ. وَحَكَى صَاحِبُ البَيَانِ وَجْهًا أَنَّهُ يُكَفَّنُ بِسَاتِرِ العَوْرَةِ وَهُوَ غَلطٌ صَرِيحٌ وَلوْ اتَّفَقَتْ الوَرَثَةُ فِيهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَطَرِيقَانِ قَطَعَ البَغَوِيّ بِأَنَّهُ يُكَفَّنُ فِي ثَوْبٍ. وَطَرَدَ المُتَوَلي فِيهِ الوَجْهَيْنِ: وَهُوَ الأَقْيَسُ. وَلوْ كَانَ عَليْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَقَالتْ الوَرَثَةُ: نُكَفِّنُهُ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ، وَقَال الغُرَمَاءُ: فِي ثَوْبٍ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الأَصْحَابِ تَكْفِينُهُ بِثَوْبٍ؛ لأَنَّ تَخْليصَ ذِمَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ أَنْفَعُ لهُ مِنْ إكْمَال الكَفَنِ والثاني: يُكَفَّنُ بِثَلاثَةٍ كَالمُفْلسِ، فَإِنَّهُ يُتْرَكُ لهُ الثِّيَابُ اللائِقَةُ بِهِ، وَمَنْ قَال بِالأَوَّل فَرَّقَ بِأَنَّ ذِمَّةَ المُفْلسِ عَامِرَةٌ فَهُوَ بِصَدَدِ الوَفَاءِ بِخِلافِ المَيِّتِ، وَلوْ قَالتْ الغُرَمَاءُ: يُكَفَّنُ بِسَاتِرِ العَوْرَةِ، وَقَالتْ الوَرَثَةُ بِثَوْبٍ سَاتِرٍ جَمِيعَ البَدَنِ نَقَل صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ الاتِّفَاقَ عَلى سَاتِرِ جَمِيعِ البَدَنِ. وَلوْ اتَّفَقَتْ الوَرَثَةُ وَالغُرَمَاءُ عَلى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ جَازَ بِلا خِلافٍ، صَرَّحَ بِهِ القَاضِي حُسَيْنٌ وَآخَرُونَ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا -؛ لأَنَّهُ رُبَّمَا تَشَكَّكَ فِيهِ إنْسَانٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ ذِمَّتَهُ تَبْقَى مُرْتَهَنَةً بِالدَّيْنِ.
قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: قَال صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: لوْ أَوْصَى المَيِّتُ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ لا غَيْرُ كَفَى ثَوْبٌ سَابِغٌ للبَدَنِ؛ لأَنَّ الكَفَنَ حَقُّهُ، وَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الزِّيَادَةِ قَال: وَلوْ قَال: رَضِيت بِسَاتِرِ العَوْرَةِ، لمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ، وَيَجِبُ تَكْفِينُهُ فِي سَاتِرٍ لجَمِيعِ بَدَنِهِ، قَال الإِمَامُ، وَهَذَا الذِي ذَكَرَ فِي نِهَايَةِ الحُسْنِ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الغَزَاليُّ وَغَيْرُهُ، قَال أَصْحَابُنَا: الثَّوْبُ الوَاحِدُ حَقٌّ للهِ تَعَالى لا تَنْفُذُ وَصِيَّةُ المَيِّتِ

 

ج / 5 ص -111-       فِي إسْقَاطِهِ وَالثَّانِي وَالثَّالثُ حَقٌّ للمَيِّتِ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِإِسْقَاطِهَا، قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ: وَإِذَا اخْتَلفُوا فِي جِنْسِ الكَفَنِ، قَال أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ المَيِّتُ مُوسِرًا كُفِّنَ بِأَعْلى الأَجْنَاسِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا فَبِالأَوْسَطِ، وَبِالأَدْوَنِ إنْ كَانَ فَقِيرًا.
فرع: إنْ قِيل: ذَكَرْتُمْ أَنَّ المُسْتَحَبَّ تَكْفِينُ الرَّجُل فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ، وَهَذَا يُخَالفُ حَدِيثَ المُحْرِمِ الذِي سَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ، فَإِنَّهُ كُفِّنَ فِي ثَوْبَيْنِ، وَجَوَابُهُ مَا أَجَابَ بِهِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لمْ يَكُنْ لهُ مَالٌ غَيْرُهُمَا، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الثَّلاثَةُ المُتَمَكِّنُ مِنْهَا.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الكَفَنُ أَبْيَضَ لحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا، لمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَليُحْسِنْ كَفَنَهُ"وَتُكْرَهُ المُغَالاةُ فِيهِ لمَا رَوَى عَليٌّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال "لا تُغَالوا فِي الكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلبُ سَلبًا سَرِيعًا"وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَخِّرَ الكَفَنَ ثَلاثًا لمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"إذَا جَمَّرْتُمْ المَيِّتَ فَجَمِّرُوهُ ثَلاثًا".
الشَّرْحُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها سَبَقَ بَيَانُهُ أَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحَدِيثُ عَليٍّ رضي الله عنه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلمْ يُضَعِّفْهُ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ الأَوَّل رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَحَدِيثُهُ الآخَرُ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَالحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَالبَيْهَقِيُّ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قَال الحَاكِمُ هُوَ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ، وَلكِنْ رَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَال: لمْ يَرْفَعْهُ إلا يَحْيَى بْنُ آدَمَ. قَال يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: وَلا أَظُنُّهُ إلا غَلطًا، قُلت: كَأَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فَرَّعَهُ عَلى قَاعِدَةِ أَكْثَرِ المُحَدِّثِينَ أَنَّ الحَدِيثَ إذَا رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا حُكِمَ بِالوَقْفِ، وَالصَّحِيحُ الذِي قَالهُ الفُقَهَاءُ وَأَصْحَابُ الأُصُول وَمُحَقِّقُو المُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالرَّفْعِ؛ لأَنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَةٍ، وَلفْظُ رِوَايَةِ الحَاكِمِ وَالبَيْهَقِيِّ "إذَا أَجْمَرْتُمْ المَيِّتَ فَأَوْتِرُوا"قَال البَيْهَقِيُّ. وَرَوَى "جَمِّرُوا كَفَنَ المَيِّتِ ثَلاثًا"وَلفْظُ رِوَايَةِ أَحْمَدَ "إذَا أَجْمَرْتُمْ المَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ ثَلاثًا".
وقوله: يَكُونُ الكَفَنُ أَبْيَضَ أَيْ: ثِيَابًا بِيضًا، وَالإِجْمَارُ التَّبَخُّرُ، وَقَوْلهُ: صلى الله عليه وسلم فَليُحْسِنْ كَفَنَهُ - هُوَ بِفَتْحِ الفَاءِ - كَذَا ضَبَطَهُ الجُمْهُورُ وَحَكَى القَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ إسْكَانَ الفَاءِ أَيْ: فَعَل التَّكْفِينَ مِنْ الإِشْبَاعِ، وَالعُمُومِ، وَالأَوَّل هُوَ الصَّحِيحُ، أَيْ: يَكُونُ الكَفَنُ حَسَنًا، وَسَأَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى قَرِيبًا مَعْنَى تَحْسِينِهِ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِل:
إحداها: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الكَفَنُ أَبْيَضَ لحَدِيثِ عَائِشَةَ المَذْكُورِ وَالحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي بَابِ هَيْئَةِ الجُمُعَةِ.
 الثانية: يُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ الكَفَنِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَالمُرَادُ بِتَحْسِينِهِ بَيَاضُهُ وَنَظَافَتُهُ، وَسَوْغُهُ وَكَثَافَتُهُ، لا كَوْنُهُ ثَمِينًا، لحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ المُغَالاةِ، وَتُكْرَهُ المُغَالاةُ فِيهِ للحَدِيثِ. قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ الثَّوْبُ الغَسِيل أَفْضَل مِنْ الجَدِيدِ، وَدَليلهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالتْ: نَظَرَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إلى ثَوْبٍ

 

ج / 5 ص -112-       كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ فَقَال "اغْسِلوا هَذَا وَزِيدُوا عَليْهِ ثَوْبَيْنِ، وَكَفِّنُونِي فِيهَا، قُلت: إنَّ هَذَا خَلقٌ، قَال: الحَيُّ أَحَقُّ بِالجَدِيدِ مِنْ المَيِّتِ، إنَّمَا هُوَ للمُهْلةِ "رَوَاهُ البُخَارِيُّ - وَالمُهْلةُ بِضَمِّ المِيمِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا - هِيَ دَمُ المَيِّتِ وَصَدِيدُهُ، وَنَحْوُهُ. قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَيَجُوزُ تَكْفِينُ كُل إنْسَانٍ فِيمَا يَجُوزُ لهُ لبْسُهُ فِي الحَيَاةِ فَيَجُوزُ مِنْ القُطْنِ وَالصُّوفِ وَالكَتَّانِ وَالشَّعْرِ وَالوَبَرِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا الحَرِيرُ فَيَحْرُمُ تَكْفِينُ الرَّجُل فِيهِ، وَأَمَّا المَرْأَةُ فَالمَشْهُورُ القَطْعُ بِجَوَازِ تَكْفِينِهَا فِيهِ؛ لأَنَّهُ يَجُوزُ لهَا لبْسُهُ فِي الحَيَاةِ، لكِنْ يُكْرَهُ تَكْفِينُهَا فِيهِ؛ لأَنَّ فِيهِ سَرَفًا وَيُشْبِهُ إضَاعَةَ المَال، بِخِلافِ اللبْسِ فِي الحَيَاةِ فَإِنَّهُ تَجَمُّلٌ للزَّوْجِ، وَحَكَى صَاحِبِ البَيَانِ فِي زِيَادَاتِ المُهَذَّبِ وَجْهًا أَنَّهُ لا يَجُوزُ، وَأَمَّا المُعَصْفَرُ وَالمُزَعْفَرُ فَلا يَحْرُمُ تَكْفِينُهَا فِيهِ بِلا خِلافٍ وَلكِنْ يُكْرَهُ عَلى المَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الأَكْثَرُونَ وَحَكَى صَاحِبَا العُدَّةِ وَالبَيَانِ وَجْهَيْنِ: ثَانِيهمَا لا يُكْرَهُ، قَالا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ قَال أَصْحَابُنَا: وَيُعْتَبَرُ فِي الكَفَنِ المُبَاحِ حَال المَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ مُكْثِرًا مِنْ المَال فَمِنْ جِيَادِ الثِّيَابِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا فَأَوْسَطُهَا، وَإِنْ كَانَ مُقِلًّا فَخَشِنُهَا، هَذِهِ عِبَارَةُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَغَيْرِهِمَا.
الثالثة: يُسْتَحَبُّ تَبْخِيرُ الكَفَنِ إلا فِي حَقِّ المُحْرِمِ وَالمُحْرِمَةِ، قَال أَصْحَابُنَا: صِفَةُ ذَلكَ أَنْ يَجْعَل الكَفَنَ عَلى عُودٍ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ يُبَخَّرُ كَمَا يُبَخَّرُ ثِيَابُ الحَيِّ حَتَّى تَعْبَقَ بِهَا رَائِحَةُ الطِّيبِ، قَال أَصْحَابُنَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ عُودًا وَيَكُونَ العُودُ غَيْرَ مُطَيَّبٍ بِالمِسْكِ، فَإِنْ كَانَ مُطَيَّبًا بِهِ جَازَ، وَيُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُهُ ثَلاثًا للحَدِيثِ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْسُطَ أَحْسَنَهَا وَأَوْسَعَهَا، ثُمَّ الثَّانِي [ثُمَّ] الذِي يَلي المَيِّتَ اعْتِبَارًا بِالحَيِّ فَإِنَّهُ يَجْعَل أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَأَوْسَعَهَا فَوْقَ الثِّيَابِ، وَكُلمَا فَرَشَ ثَوْبًا نَثَرَ فِيهِ الحَنُوطَ ثُمَّ يُحْمَل المَيِّتُ إلى الأَكْفَانِ مَسْتُورًا، وَيُتْرَكُ عَلى الكَفَنِ مُسْتَلقِيًا عَلى ظَهْرِهِ، وَيُؤْخَذُ قُطْنٌ مَنْزُوعُ الحَبِّ فَيُجْعَل فِيهِ الحَنُوطُ وَالكَافُورُ وَيُجْعَل بَيْن أَليَتَيْهِ، وَيُشَدُّ عَليْهِ كَمَا يُشَدُّ التُّبَّانُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ القُطْنَ، وَيَجْعَل عَليْهِ الحَنُوطَ وَالكَافُورَ وَيُتْرَكَ عَلى الفَمِ وَالمَنْخِرَيْنِ وَالعَيْنَيْنِ وَالأُذُنَيْنِ وَعَلى خُرَاجٍ نَافِذٍ إنْ كَانَ عَليْهِ ليُخْفِيَ مَا يَظْهَرُ مِنْ رَائِحَتِهِ وَيَجْعَل الحَنُوطَ وَالكَافُورَ عَلى قُطْنٍ وَيُتْرَكُ عَلى مَوَاضِعِ السُّجُودِ، لمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَال: "يَتَتَبَّعُ بِالطِّيبِ مَسَاجِدَهُ"وَلأَنَّ هَذِهِ المَوَاضِعَ شُرِّفَتْ بِالسُّجُودِ فَخُصَّتْ بِالطِّيبِ قَال: "وَأُحِبُّ أَنْ يُطَيِّبَ جَمِيعَ بَدَنِهِ بِالكَافُورِ؛ لأَنَّ ذَلكَ يُقَوِّي البَدَنَ وَيَشُدُّهُ "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَنِّطَ رَأْسَهُ وَلحْيَتَهُ بِالكَافُورِ كَمَا يَفْعَل الحَيُّ إذَا تَطَيَّبَ. قَال فِي البُوَيْطِيِّ: "فَإِنْ حُنِّطَ بِالمِسْكِ فَلا بَأْسَ لمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"المِسْكُ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ"وَهَل يَجِبُ الحَنُوطُ وَالكَافُورُ أَمْ لا؟ فِيهِ قَوْلانِ: وَقِيل: فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يَجِبُ؛ لأَنَّهُ جَرَتْ بِهِ العَادَةُ فِي المَيِّتِ فَكَانَ وَاجِبًا كَالكَفَنِ والثاني: أَنَّهُ لا يَجِبُ كَمَا لا يَجِبُ الطِّيبُ فِي حَقِّ المُفْلسِ، وَإِنْ وَجَبَتْ الكِسْوَةُ".
 الشرح: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:
"المِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ"رَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ هَكَذَا، وَوَقَعَ فِي المُهَذَّبِ: "مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ"بِزِيَادَةِ (مِنْ) وَالأَثَرُ المَذْكُورُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ "يَتَتَبَّعُ بِالطِّيبِ مَسَاجِدَهُ"رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ، وَالحَنُوطُ - بِفَتْحِ الحَاءِ وَضَمِّ النُّونِ - هَذَا هُوَ المَشْهُورُ، وَيُقَال: الحِنَاطُ بِكَسْرٍ وَهُوَ أَنْوَاعٌ مِنْ الطِّيبِ يُخْلطُ للمَيِّتِ خَاصَّةً لا يُقَال فِي غَيْرِ طِيبِ المَيِّتِ حَنُوطٌ

 

ج / 5 ص -113-       قَال الأَزْهَرِيُّ: يَدْخُل فِي الحَنُوطِ الكَافُورُ وَذَرِيرَةُ القَصَبِ وَالصَّنْدَل الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وقوله: كَمَا يُشَدُّ التُّبَّانُ هُوَ بِضَمِّ المُثَنَّاةِ فَوْقَ وَتَشْدِيدِ المُوَحَّدَةِ، وَهُوَ سَرَاوِيل قَصِيرَةٌ صَغِيرَةٌ بِلا تِكَّةً قوله: وَعَلى خُرَاجٍ نَافِذٍ هُوَ بِضَمِّ الخَاءِ المُعْجَمَةِ، وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَهُوَ القُرْحَةُ فِي الجَسَدِ.
أما الأحكام: فَقَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْسُطَ أَوْسَعَ اللفَائِفِ وَأَحْسَنَهَا وَيُذَرُّ عَليْهَا حَنُوطٌ ثُمَّ يَبْسُطُ الثَّانِيَةَ عَليْهَا وَيُذَرُّ عَليْهَا حَنُوطٌ وَكَافُورٌ، وَإِنْ كُفِّنَ الرَّجُل أَوْ المَرْأَةُ فِي لفَافَةٍ ثَالثَةٍ أَوْ رَابِعَةٍ كَانَتْ كَالثَّانِيَةِ فِي أَنَّهَا دُونَ التِي قَبْلهَا وَفِي ذَرِّ الحَنُوطِ وَالكَافُورِ. وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ عَلى اسْتِحْبَابِ الحَنُوطِ كَمَا ذَكَرْنَا. قَال صَاحِبُ الحَاوِي رحمه الله: هَذَا شَيْءٌ لمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ مِنْ الفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ؛ لئَلا يُسْرَعَ بِليِّ الأَكْفَانِ وَليَقِيَهَا مِنْ بَللٍ يُصِيبُهَا.
قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله "ثُمَّ يُحْمَل المَيِّتُ مَسْتُورًا فَيُوضَعُ فَوْقَهَا مُسْتَلقِيًا "وَاحْتَجُّوا لبَسْطِ أَحْسَنِ اللفَائِفِ وَأَوْسَعِهَا أَوَّلًا بِالقِيَاسِ عَلى الحَيِّ، فَإِنَّهُ يَجْعَل أَجْمَل ثِيَابِهِ فَوْقَهَا، ثُمَّ يُؤْخَذُ قُطْنٌ مَنْزُوعُ الحَبِّ فَيُجْعَل عَليْهِ حَنُوطٌ وَكَافُورٌ وَيُدَسُّ بَيْنَ أَليَتَيْهِ حَتَّى يَتَّصِل بِحَلقَةِ الدُّبُرِ فَيَسُدَّهَا، ليَرُدَّ شَيْئًا يَتَعَرَّضُ للخُرُوجِ. قَال أَصْحَابُنَا: وَلا يُدْخِلهُ إلى دَاخِل الحَلقَةِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الذِي قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الأَصْحَابِ فِي الطَّرِيقَيْنِ، وَذَكَرَ البَغَوِيّ وَجْهَيْنِ: أحدهما: يُكْرَهُ الإِدْخَال والثاني: يُدْخَل؛ لأَنَّهُ إذَا لمْ يُدْخَل لا يَمْنَعُ الخُرُوجَ قَال: وَإِنَّمَا فُعِل ذَلكَ للمَصْلحَةِ.
وَقَال القَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْليقِهِ: قَال القَفَّال: رَأَيْتُ للشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ إدْخَالهُ،، وَهَذَا نَقْلٌ غَرِيبٌ وَحُكْمٌ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ وَسَبَبُ الخِلافِ أَنَّ المُزَنِيَّ نَقَل فِي المُخْتَصَرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَال يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ قُطْنٍ مَنْزُوعِ الحَبِّ فَيَجْعَل فِيهِ الحَنُوطَ وَالكَافُورَ. ثُمَّ يُدْخَل بَيْنَ أَليَتَيْهِ إدْخَالًا بَليغًا وَيُكْثِرُ مِنْهُ ليَرُدَّ شَيْئًا - إنْ جَاءَ مِنْهُ عِنْدَ تَحْرِيكِهِ - وَيَشُدُّ عَليْهِ خِرْقَةٌ مَشْقُوقَةُ الطَّرْفِ، يَأْخُذُ أَليَتَهُ وَعَانَتَهُ. ثُمَّ يُشَدُّ عَليْهِ كَمَا يُشَدُّ التُّبَّانُ الوَاسِعُ. قَال المُزَنِيّ: لا أُحِبُّ مَا قَال مِنْ إبْلاغِ الحَشْوِ. وَلكِنْ يُجْعَل كَاللوْزَةِ مِنْ القُطْنِ بَيْنَ أَليَتَيْهِ وَيُجْعَل مِنْ تَحْتِهَا قُطْنٌ يُضَمُّ إلى أَليَتَيْهِ. وَالشِّدَادُ مِنْ فَوْقِ ذَلكَ كَالتُّبَّانِ يُشَدُّ عَليْهِ. فَإِنْ جَاءَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلكَ مَنَعَهُ ذَلكَ أَنْ يَظْهَرَ، فَهَذَا أَحْسَنُ فِي كَرَامَتِهِ مِنْ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ. هَذَا آخِرُ كَلامِ المُزَنِيِّ.
قَال أَصْحَابُنَا: تَوَهَّمَ المُزَنِيّ مِنْ كَلامِ الشَّافِعِيِّ، هَذَا أَنَّهُ أَرَادَ إدْخَال القُطْنِ فِي الدُّبُرِ قَالوا: وَأَخْطَأَ فِي تَوَهُّمِهِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُبَالغَ فِي حَشْوِ القُطْنِ بَيْنَ أَليَتَيْهِ حَتَّى يَبْلغَ الدُّبُرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلهُ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلكَ فِي الأُمِّ فَقَال حَتَّى يَبْلغَ الحَلقَةَ. قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَمِمَّا يَدُل عَلى وَهْمِ المُزَنِيِّ قَوْل الشَّافِعِيِّ: لرَدِّ شَيْءٍ إنْ خَرَجِ. وَلوْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْ يُدْخَل إلى دَاخِل الدُّبُرِ لقَال يَمْنَعُ مِنْ خُرُوجِ شَيْءٍ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: ثُمَّ يُشَدُّ أَليَتَاهُ وَيُسْتَوْثَقُ فِي ذَلكَ بِأَنْ يَأْخُذَ خِرْقَةً وَيَشُقُّ رَأْسَهَا وَيَجْعَل وَسَطَهَا عِنْدَ أَليَتِهِ وَعَانَتِهِ وَيَشُدُّ فَوْقَ السُّرَّةِ بِأَنْ يَرُدَّ مَا يَلي ظَهْرَهُ إلى سُرَّتِهِ، وَيُعْطَفُ

 

ج / 5 ص -114-       الشِّقَّانِ الآخَرَانِ عَليْهِ، وَلوْ شُدَّ شِقٌّ مِنْ كُل رَأْسٍ عَلى هَذَا الفَخْذِ وَمِثْلهُ عَلى الفَخْذِ الآخِرِ جَازَ، وَقِيل يُشَدُّ عَليْهِ بِخَيْطٍ وَلا يُشَقُّ طَرَفُهَا وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: ثُمَّ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ القُطْنِ وَيَضَعُ عَليْهِ شَيْئًا مِنْ الحَنُوطِ وَالكَافُورِ، وَيَجْعَل عَلى مَنَافِذِ البَدَنِ مِنْ الأُذُنَيْنِ وَالعَيْنَيْنِ وَالمَنْخِرَيْنِ وَالفَمِ وَالجِرَاحَاتِ النَّافِذَةِ دَفْعًا للهَوَامِّ، وَيُجْعَل عَلى قُطْنٍ وَكَافُورٍ وَتُرِكَ عَلى مَوَاضِعِ السُّجُودِ، وَهِيَ الجَبْهَةُ وَالأَنْفُ، وَبَطْنُ الكَفَّيْنِ، وَالرُّكْبَتَانِ وَالقَدَمَانِ، هَكَذَا قَال المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ، وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي المُخْتَصَرِ، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَجْعَل الحَنُوطَ وَالكَافُورَ عَلى نَفْسِ هَذِهِ المَسَاجِدِ بِلا قُطْنٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَغَرِيبٌ. قَال المُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ: قَال الشَّافِعِيُّ فِي المُخْتَصَرِ وَالمُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَنَّطَ رَأْسُهُ وَلحْيَتُهُ بِالكَافُورِ كَمَا يَفْعَل الحَيُّ إذَا تَطَيَّبَ، قَال الشَّافِعِيُّ وَنَقَلهُ المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: وَلوْ حُنِّطَ بِالمِسْكِ فَلا بَأْسَ لحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ.
وَرَوَى البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مِسْكٌ فَأَوْصَى أَنْ يُحَنَّطَ بِهِ وَقَال: هُوَ مِنْ فَضْل حَنُوطِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ فِي ذَلكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ رضي الله عنهم.
قَال المُصَنِّفُ: وَهَل يَجِبُ الحَنُوطُ وَالكَافُورُ أَمْ لا؟ فِيهِ قَوْلانِ: وَقِيل وَجْهَانِ أحدهما: يَجِبُ لجَرَيَانِ العَادَةِ بِهِ، فَوَجَبَ كَالكَفَنِ والثاني: يُسْتَحَبُّ وَلا يَجِبُ كَمَا لا يَجِبُ الطِّيبُ للمُفْلسِ، وَإِنْ وَجَبَتْ كِسْوَتُهُ.
وقوله: قَوْلان: وَقِيل وَجْهَانِ، هَذَا مِنْ وَرَعِهِ وَإِتْقَانِهِ وَاعْتِنَائِهِ. فَلمْ يَجْزِمْ بِقَوْليْنِ وَلا وَجْهَيْنِ :، وَسَبَبُ تَرَدُّدِ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي ذَلكَ أَنَّ المَحَامِليَّ قَال فِي المَجْمُوعِ: ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالمُخْتَصَرِ أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. فَالمَسْأَلةُ عَلى قَوْليْنِ قَال أَصْحَابُنَا يَحْكُونَ فِيهَا وَجْهَيْنِ: وَقَال البَنْدَنِيجِيُّ: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالقَدِيمِ: كَفَنُ المَيِّتِ وَحَنُوطُهُ وَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ مِنْ رَأْسِ مَالهِ ليْسَ لغُرَمَائِهِ وَلا لوَرَثَتِهِ مَنْعُ ذَلكَ، ثُمَّ قَال الشَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا بِسَطْرَيْنِ: وَلوْ لمْ يَكُنْ حَنُوطٌ وَلا كَافُورٌ رَجَوْت أَنْ يُجْزِئَ. قَال البَنْدَنِيجِيُّ رحمه الله: وَاخْتَلفَ أَصْحَابُنَا فِي الطِّيبِ وَالحَنُوطِ عَلى وَجْهَيْنِ: قَال: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَوْلان: هَذَا كَلامُهُ، وَالأَصَحُّ أَنَّهُ لا يَجِبُ، صَحَّحَهُ الغَزَاليُّ وَغَيْرُهُ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ رحمه الله: وَيَجِبُ القَطْعُ بِهَذَا، وَقَطَعَ المُتَوَلي بِأَنَّ الكَافُورَ لا يَجِبُ، وَإِنَّمَا الوَجْهَانِ فِي الحَنُوطِ، وَمِمَّنْ خَصَّ الوَجْهَيْنِ: بِالحَنُوطِ المَحَامِليُّ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالغَزَاليُّ، وَمِمَّنْ وَافَقَ المُصَنِّفَ فِي نَقْل الوَجْهَيْنِ فِي الحَنُوطِ وَالكَافُورِ جَمِيعًا صَاحِبَا المُسْتَظْهِرِيِّ وَالبَيَانِ، وَسَبَقَهُمْ بِهِ البَنْدَنِيجِيُّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"ثُمَّ يُلفُّ فِي الكَفَنِ وَيُجْعَل مَا يَلي الرَّأْسَ أَكْثَرَ كَالحَيِّ مَا عَلى رَأْسِهِ أَكْثَرُ. قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَيَثْنِي صَنِفَةَ الثَّوْبِ الذِي يَلي المَيِّتَ فَيَبْدَأُ بِالأَيْسَرِ عَلى الأَيْمَنِ وَبِالأَيْمَنِ عَلى الأَيْسَرِ وَقَال فِي مَوْضِعٍ: يَبْدَأُ بِالأَيْمَنِ عَلى الأَيْسَرِ ثُمَّ الأَيْسَرِ عَلى الأَيْمَنِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلهَا قَوْليْنِ. أحدهما: يَبْدَأُ بِالأَيْسَرِ عَلى الأَيْمَنِ والثاني: يَبْدَأُ بِالأَيْمَنِ عَلى الأَيْسَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: هِيَ عَلى قَوْلٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ تُثْنَى صَنِفَةُ الثَّوْبِ الأَيْسَرُ عَلى جَانِبِهِ الأَيْمَنِ،

 

ج / 5 ص -115-       وَصِنْفَةُ الثَّوْبِ الأَيْمَنِ عَلى جَانِبِهِ الأَيْسَرِ، كَمَا يَفْعَل الحَيُّ بِالسَّاجِ، يَعْنِي الطَّيْلسَانَ، وَهَذَا هُوَ الأَصَحُّ؛ لأَنَّ فِي الطَّيْلسَانِ مَا عَلى الجَانِبِ الأَيْسَرِ هُوَ الظَّاهِرُ ثُمَّ يُفْعَل ذَلكَ فِي بَقِيَّةِ الأَكْفَانِ، وَمَا يَفْضُل مِنْ عِنْدِ الرَّأْسِ يُثْنَى1 عَلى وَجْهِهِ وَصَدْرِهِ، فَإِنْ اُحْتِيجَ إلى شَدِّ الأَكْفَانِ شُدَّتْ، ثُمَّ يُحَل عَنْهُ عِنْدَ الدَّفْنِ،؛ لأَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي القَبْرِ شَيْءٌ مَعْقُودٌ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ إلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ قَصِيرٌ لا يَعُمُّ البَدَنَ غَطَّى رَأْسَهُ وَتَرَكَ الرِّجْل، لمَا رُوِيَ "أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رضي الله عنه قُتِل يَوْمَ أُحُدٍ، وَلمْ يَكُنْ لهُ إلا نَمِرَةٌ، فَكَانَ إذَا غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلاهُ بَدَا رَأْسُهُ، فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلوا عَلى رِجْليْهِ شَيْئًا مِنْ الإِذْخِرِ".
 الشرح: حَدِيثُ مُصْعَبٍ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ مِنْ رِوَايَةِ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ وَقَوْلهُ "تَثْنِي صَنِفَةَ "هُوَ بِفَتْحِ أَوَّل تَثْنِي، وَالصَّنِفَةُ بِفَتْحِ الصَّادِ المُهْمَلةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَبَعْدَ النُّونِ يَاءٌ، وَالمَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللغَةِ صَنِفَةٌ بِلا يَاءٍ. قَال الأَزْهَرِيُّ: هِيَ زَاوِيَةُ الثَّوْبِ، وَكُل ثَوْبٍ مُرَبَّعٍ لهُ أَرْبَعُ صَنِفَاتٍ. قَال وَقِيل صَنِفَتُهُ طَرَفُهُ. وَالسَّاجُ - بِسِينٍ مُهْمَلةٍ وَجِيمٍ مُخَفَّفَة - وَجَمْعُهُ سِيجَانٌ. قَال الأَزْهَرِيُّ: هُوَ الطَّيْلسَانُ المُقَوَّرُ نُسِجَ كَذَلكَ. وَالإِذْخِرُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وَالخَاءِ حَشِيشٌ مَعْرُوفٌ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ مِنْ فُضَلاءِ الصَّحَابَةِ وَالسَّابِقِينَ إلى الإِسْلامِ، وَيَوْمُ أُحُدٍ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ لإِحْدَى عَشَرَةَ خَلتْ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلاثٍ مِنْ الهِجْرَةِ. وَالنَّمِرَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ المِيمِ وَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ الأَكْسِيَةِ وَقِيل: شَمْلةٌ مُخَطَّطَةٌ مِنْ صُوفٍ، وَقِيل: فِيهَا أَمْثَال الأَهِلةِ.
أما الأحكام: فَفِي الكَيْفِيَّةِ المُسْتَحَبَّةِ فِي لفِّ الأَكْفَانِ الطَّرِيقَانِ اللذَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ وَهُمَا مَشْهُورَانِ أصحهما: عِنْدَ الأَكْثَرِينَ يَبْدَأُ فَيَثْنِي الثَّوْبَ الذِي يَلي بَدَنَ المَيِّتِ مِنْ شِقِّهِ الأَيْسَرِ عَلى شِقِّ المَيِّتِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ الأَيْمَنُ عَلى الأَيْسَرِ كَمَا يَفْعَل الحَيُّ بِالقَبَاءِ، ثُمَّ يُلفُّ الثَّوْبُ الثَّانِي وَالثَّالثُ كَذَلكَ. والطريق الثاني: عَلى قَوْليْنِ أحدهما: هَذَا والثاني: يَثْنِي أَوَّلًا الشِّقَّ الأَيْمَنَ ثُمَّ الأَيْسَرَ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي المُخْتَصَرِ وَالمُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالى: وَإِذَا لفَّ الكَفَنَ عَليْهِ جَمَعَ الفَاضِل عِنْدَ رَأْسِهِ جَمْعَ العِمَامَةِ وَرَدَّهُ عَلى وَجْهِهِ وَصَدْرِهِ إلى حَيْثُ يَنْتَهِي، وَمَا فَضَل عِنْدَ رِجْليْهِ يُجْعَل عَلى القَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ. قَال أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوضَعَ المَيِّتُ عَلى الأَكْفَانِ بِحَيْثُ إذَا لفَّ عَليْهِ كَانَ الفَاضِل عِنْدَ رَأْسِهِ أَكْثَرَ لحَدِيثِ مُصْعَبٍ رضي الله عنه وَإِنْ لمْ يَكُنْ إلا ثَوْبٌ لا يَعُمُّ كُل البَدَنِ سُتِرَ وَتُرِكَتْ الرِّجْلانِ وَجُعِل عَليْهِمَا حَشِيشٌ وَنَحْوُهُ لحَدِيثِ مُصْعَبٍ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي المُخْتَصَرِ وَالأَصْحَابُ: فَإِنْ خِيفَ انْتِشَارُ الأَكْفَانِ عِنْدَ الحَمْل شُدَّتْ بِشِدَادٍ يُعْقَدُ عَليْهَا، فَإِذَا أَدْخَلوهُ القَبْرَ حَلوهُ، هَذَا لفْظُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ. قَال المُصَنِّفُ وَجَمَاعَةٌ: لأَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي القَبْرِ شَيْءٌ مَعْقُودٌ ".
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا المَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُكَفَّنُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ: إزَارٍ وَخِمَارٍ وَثَلاثَةِ أَثْوَابٍ. وَهَل يَكُونُ أَحَدُ الثَّلاثَةِ دِرْعًا؟ فِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: أَنَّ أَحَدَهَا دِرْعٌ لمَا رُوِيَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (شيء) بدل (يثني) (ط).

 

ج / 5 ص -116-       نَاوَل أُمَّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها فِي كَفَنِ ابْنَتِهِ أُمِّ كُلثُومٍ إزَارًا وَدِرْعًا وَخِمَارًا وَثَوْبَيْنِ مُلآءَ} "وَالثَّانِي"أَنَّهُ لا يَكُونُ فِيهَا دِرْعٌ؛ لأَنَّ القَمِيصَ إنَّمَا تَحْتَاجُ إليْهِ المَرْأَةُ لتَسْتَتِرَ بِهِ فِي تَصَرُّفِهَا وَالمَيِّتُ لا يَتَصَرَّفُ، فَإِنْ قُلنَا: لا دِرْعَ فِيهَا أُزِّرَتْ وَخُمِّرَتْ بِخِمَارٍ وَتُدْرَجُ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ. وَإِذَا قُلنَا فِيهَا دِرْعٌ أُزِّرَتْ بِإِزَارٍ، وَتُلبَّسُ الدِّرْعَ وَتُخَمَّرُ بِخِمَارٍ وَتُدْرَجُ فِي ثَوْبَيْنِ. قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَيُشَدُّ عَلى صَدْرِهَا ثَوْبٌ ليَضُمَّ ثِيَابَهَا فَلا تَنْتَشِرُ، وَهَل يُحَل عَنْهَا الثَّوْبُ عِنْدَ الدَّفْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَال أَبُو العَبَّاسِ: يُدْفَنُ مَعَهَا وَعَليْهِ يَدُل كَلامُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ يُشَدُّ وَلمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُحَل. وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ: يُنَحَّى عَنْهَا فِي القَبْرِ، وَهُوَ الأَصَحُّ؛ لأَنَّهُ ليْسَ مِنْ جُمْلةِ الكَفَنِ".
 الشرح: الحَدِيثُ المَذْكُورُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ ليْلى بِنْتِ قَانِفٍ بِالنُّونِ المَكْسُورَةِ وَبَعْدَهَا فَاءٌ، الثَّقَفِيَّةِ الصَّحَابِيَّة رضي الله عنها قَالتْ:
"كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّل بِنْتَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ أَوَّل مَا أَعْطَانَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم الحِقَاءَ ثُمَّ الدِّرْعَ ثُمَّ الخِمَارَ ثُمَّ المِلحَفَةَ ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ فِي الثَّوْبِ الآخِرِ، قَالتْ: وَرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالسٌ عِنْدَ البَابِ مَعَهُ كَفَنُهَا يُنَاوِلنَا ثَوْبًا ثَوْبًا"إسْنَادُهُ حَسَنٌ إلا رَجُلًا لا أَتَحَقَّقُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَلمْ يُضَعِّفْهُ، وَقَوْلهُ "ثَوْبَيْنِ مُلآءَ "بِضَمِّ المِيمِ وَبِالمَدِّ وَتَخْفِيفِ اللامِ "وَالحِقَا "بِكَسْرِ الحَاءِ وَتَخْفِيفِ القَافِ، يُقَال لهُ الحِقْوُ وَالحَقْوُ، بِكَسْرِ الحَاءِ وَفَتْحِهَا، وَالحِقَا وَالإِزَارُ وَالمِئْزَرُ.
وَأَمَّا قَوْلهُ "المِلحَفَةُ وَالثَّوْبُ، إنْ أُدْرِجَتْ فِيهِ فَهُمَا المُرَادُ بِقَوْلهِ ثَوْبَيْنِ مُلآءَ "أَيْ: غَيْرَ مُلفَّقَيْنِ، بَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ عَلى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَكْفِينُ المَرْأَةِ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ. وَأَنَّ الرَّجُل يُكَفَّنُ فِي ثَلاثَةٍ وَلا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ، وَيَجُوزُ إلى خَمْسَةٍ بِلا كَرَاهَةٍ، وَيُكْرَهُ مُجَاوَزَةُ الخَمْسَةِ فِي الرَّجُل وَالمَرْأَةِ، وَالخُنْثَى كَالمَرْأَةِ. ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا.
قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: قَال الشَّيْخُ أَبُو عَليٍّ رحمه الله: وَليْسَ اسْتِحْبَابُ الخَمْسَةِ فِي حَقِّهَا مُتَأَكَّدًا كَتَأَكُّدِ الثَّلاثَةِ فِي حَقِّ الرَّجُل: قَال الإِمَامُ :، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَليْهِ. هَذَا حُكْمُ كَفَنِهَا المُسْتَحَبُّ.
وَأَمَّا الوَاجِبُ فَفِيهِ الوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي أَوَّل البَابِ أحدهما: ثَوْبٌ سَاتِرٌ لجَمِيعِ البَدَنِ وأصحهما: سَاتِرُ العَوْرَةِ وَهِيَ جَمِيعُ بَدَنِ الحُرَّةِ إلا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَبِهَذَا قَطَعَ المَاوَرْدِيُّ فِي كَفَنِ المَرْأَةِ. قَال أَصْحَابُنَا: وَإِذَا كُفِّنَ الرَّجُل وَالمَرْأَةُ فِي ثَلاثَةٍ فَهِيَ لفَائِفُ وَإِنْ كُفِّنَ الرَّجُل فِي خَمْسَةٍ فَثَلاثُ لفَائِفَ وَقَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ وَيُجْعَلانِ تَحْتَ اللفَائِفِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا.
وَإِنْ كُفِّنَتْ فِي خَمْسَةٍ فَقَوْلانِ أحدهما: إزَارٌ وَخِمَارٌ وَثَلاثُ لفَائِفَ والثاني: إزَارٌ وَخِمَارٌ وَدِرْعٌ وَهُوَ القَمِيصُ وَلفَافَتَانِ، وَهَذَانِ القَوْلانِ مَشْهُورَانِ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا المُزَنِيّ فِي المُخْتَصَرِ: فَقَال أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الخَمْسَةِ دِرْعًا لمَا رَأَيْتُ فِيهِ مِنْ فِعْل العُلمَاءِ، وَقَدْ قَالهُ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً ثُمَّ خَطَّ عَليْهِ، هَذَا كَلامُ المُزَنِيِّ رحمه الله، فَأَشَارَ إلى القَوْليْنِ وَسَمَّاهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ قَدِيمًا وَجَدِيدًا فَجَعَلوا القَدِيمَ اسْتِحْبَابَ الدِّرْعِ وَالجَدِيدَ عَدَمَهُ. قَالوا: وَالقَدِيمُ هُنَا هُوَ الأَصَحُّ، وَهِيَ مِنْ المَسَائِل التِي يُفْتَى فِيهَا عَلى القَدِيمِ

 

ج / 5 ص -117-       وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْليقِهِ وَالمَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ: المَعْرُوفُ للشَّافِعِيِّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّ فِيهَا دِرْعًا وَهُوَ القَمِيصُ قَالا: وَذَكَرَ المُزَنِيّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله كَانَ يَذْهَبُ إلى القَدِيمِ ثُمَّ خَطَّ عَليْهِ، قَال المَحَامِليُّ: وَلا تُعْرَفُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ إلا مِنْ المُزَنِيِّ فَالمَسْأَلةُ عَلى قَوْليْنِ: أَصَحِّهِمَا: أَنَّ فِيهَا دِرْعًا، هَذَا كَلامُ المَحَامِليِّ، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الدِّرْعُ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ.
وَأَمَّا مَنْ قَال: إنَّ هَذَا مِمَّا يُفْتَى بِهِ عَلى القَدِيمِ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لأَنَّ هَذَا القَدِيمَ يُوَافِقُهُ مُعْظَمُ الجَدِيدِ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ وَغَيْرُهُمَا، وَمَنْ قَال: لا دِرْعَ. يَحْتَاجُ إلى جَوَابٍ عَنْ الحَدِيثِ، وَلعَلهُ يَحْمِلهُ عَلى بَيَانِ الجَوَازِ وَيَكُونُ اعْتِمَادُهُ عَلى القِيَاسِ عَلى الرَّجُل، فَإِنَّهُ لا يُسْتَحَبُّ فِيهِ القَمِيصُ بِلا خِلافٍ إذَا كَانَ ثَلاثَةً. وَالخَمْسَةُ فِي المَرْأَةِ كَالثَّلاثَةِ فِي الرَّجُل.
وَإِذَا كُفِّنَ الرَّجُل وَالمَرْأَةُ فِي ثَلاثِ لفَائِفَ فَوَجْهَانِ أحدهما: يُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا مُتَفَاوِتَةً، فَالسُّفْلى تَأْخُذُ سُرَّتَهُ وَرُكْبَتَهُ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَالثَّانِيَةُ مِنْ عُنُقِهِ إلى كَعْبِهِ، وَالثَّالثَةُ تَسْتُرُ جَمِيعَ البَدَنِ والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَطَعَ بِهِ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَجَمَاعَةٌ تَكُونُ مُتَسَاوِيَةً فِي الطُّول وَالعَرْضِ، يَسْتَوْعِبُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا جَمِيعَ البَدَنِ قَالوا: وَلا فَرْقَ فِي التَّكْفِينِ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بَيْنَ الرَّجُل وَالمَرْأَةِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الخَمْسَةِ كَمَا سَبَقَ. وَإِذَا كُفِّنَتْ المَرْأَةُ فِي خَمْسَةٍ قَال الشَّافِعِيُّ يُشَدُّ عَلى صَدْرِهَا ثَوْبٌ ليَضُمَّ أَكْفَانَهَا فَلا تَنْتَشِرُ، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَليْهِ وَاخْتَلفُوا فِي المُرَادِ بِهِ فَقَال أَبُو إِسْحَاقَ المَرْوَزِيُّ: هُوَ ثَوْبٌ سَادِسٌ وَيُحَل عَنْهَا إذَا وُضِعَتْ فِي القَبْرِ قَال: وَالمُرَادُ بِالثَّوْبِ خِرْقَةٌ تُرْبَطُ لتَجْمَعَ الأَكْفَانَ. وَقَال أَبُو العَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: هُوَ أَحَدُ الأَثْوَابِ الخَمْسَةِ وَتُرِكَ عَليْهَا فِي القَبْرِ كَبَاقِي الخَمْسَةِ، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّ قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ هُوَ الصَّحِيحُ. هَكَذَا ذَكَرُوا صُورَةَ الوَجْهَيْنِ :، وَخِلافَ أَبِي العَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ هَكَذَا شَيْخُ الأَصْحَابِ أَبُو حَامِدٍ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَالمَحَامِليُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالبَاقُونَ. وَعِبَارَةُ المُصَنِّفِ ليْسَتْ صَرِيحَةً فِي هَذَا فَتُتَأَوَّل عَليْهِ.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَأَمَّا تَرْتِيبُ الخَمْسَةِ فَإِنْ قُلنَا بِقَوْل أَبِي إِسْحَاقَ وَقُلنَا بِالقَمِيصِ وَهُوَ الدِّرْعُ شُدَّ عَليْهَا المِئْزَرُ ثُمَّ القَمِيصُ ثُمَّ الخِمَارُ ثُمَّ تُلفُّ فِي لفَافَتَيْنِ ثُمَّ يُشَدُّ الثَّوْبُ السَّادِسُ وَيُنَحَّى فِي القَبْرِ. وَإِنْ قُلنَا: لا قَمِيصَ. أُزِّرَتْ ثُمَّ خُمِّرَتْ ثُمَّ تُلفُّ فِي اللفَائِفِ الثَّلاثِ ثُمَّ يُشَدُّ الثَّوْبُ السَّادِسُ. وَأَمَّا عَلى ابْنِ سُرَيْجٍ فَإِنْ قُلنَا بِالقَمِيصِ شُدَّ المِئْزَرُ ثُمَّ الدِّرْعُ ثُمَّ الخِمَارُ ثُمَّ يُشَدُّ عَليْهَا الشَّدَّادُ ثُمَّ تُلفُّ فِي لفَافَةٍ سَابِغَةٍ وَهِيَ الثَّوْبُ الخَامِسُ فَيَكُونُ الشَّدَّادُ مَسْتُورًا وَإِنْ قُلنَا: لا قَمِيصَ شُدَّ المِئْزَرُ ثُمَّ الخِمَارُ ثُمَّ تُلفُّ فِي لفَافَةٍ سَابِغَةٍ ثُمَّ يُشَدُّ الشَّدَّادُ ثُمَّ تُلفُّ فِي الخَامِسِ وَهُوَ أَسْبَغُهَا.
وَهَذَا التَّرْتِيبُ هَكَذَا عَلى التَّفْصِيل الذِي ذَكَرْنَاهُ مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ، فَلوْ خُولفَ أَجْزَأَ وَفَاتَتْ الفَضِيلةُ وَالحَدِيثُ الذِي ذَكَرْنَاهُ ظَاهِرٌ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَلوْ قَال المُصَنِّفُ: أُزِّرَتْ ثُمَّ قُمِّصَتْ ثُمَّ خُمِّرَتْ ثُمَّ لفَّتْ فِي لفَافَتَيْنِ بِحَرْفِ "ثُمَّ "لكَانَ أَحْسَنَ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ وَذَكَرَهُ الأَصْحَابُ قَال أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلنَا بِقَوْل أَبِي العَبَّاسِ تُرِكَ الثَّوْبُ الذِي هُوَ الشَّدَّادُ فِي القَبْرِ وَلكِنَّهُ يُحَل؛ لأَنَّهُ لا يُتْرَكُ فِي القَبْرِ شَيْءٌ مَعْقُودٌ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ فِي بَابِ الدَّفْنِ عَلى حَل عُقَدِ الثِّيَابِ وَاَللهُ أَعْلمُ.

 

ج / 5 ص -118-       قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا مَاتَ مُحْرِمٌ لمْ يُقَرَّبْ مَطِيبَ وَلمْ يُلبَسْ المِخْيَطَ وَلمْ يُخَمَّرْ رَأْسُهُ لمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال فِي المُحْرِمِ الذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ اغْسِلوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا وَلا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلبِّيًا"وَإِنْ مَاتَتْ مُعْتَدَّةٌ عَنْ وَفَاةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لا تُقَرَّبُ الطِّيبَ لأَنَّهَا مَاتَتْ وَالطِّيبُ يَحْرُمُ عَليْهَا، فَلمْ يَسْقُطْ تَحْرِيمُهُ بِالمَوْتِ كَالمُحْرِمَةِ والثاني: تُقَرَّبُ الطِّيبَ؛ لأَنَّهُ حُرِّمَ عَليْهَا فِي العِدَّةِ حَتَّى لا يَدْعُوَ ذَلكَ إلى نِكَاحِهَا وَقَدْ زَال هَذَا المَعْنَى بِالمَوْتِ".
 الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ رحمهما الله، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّل البَابِ، قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: إذَا مَاتَ المُحْرِمُ وَالمُحْرِمَةُ حَرُمَ تَطْيِيبُهُ، وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ ظُفْرِهِ وَحَرُمَ سَتْرُ رَأْسِ الرَّجُل وَإِلبَاسُهُ مَخِيطًا، وَعَقْدُ أَكْفَانِهِ، وَحَرُمَ سَتْرُ وَجْهِ المُحْرِمَةِ، وَكُل هَذَا لا خِلافَ فِيهِ، وَيَجُوزُ إلبَاسُ المَرْأَةِ القَمِيصَ وَالمَخِيطَ، كَمَا فِي الحَيَاةِ، وَلوْ قَال المُصَنِّفُ: يَجِبُ تَجْنِيبُهُ مَا يَجِبُ عَليْهِ اجْتِنَابُهُ فِي حَيَاتِهِ لكَانَ أَحْسَنَ، بَل هُوَ الصَّوَابُ الذِي لا بُدَّ مِنْهُ.
قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الأُمِّ: وَلا يُعْقَدُ عَلى الرَّجُل ثَوْبٌ، وَلا يَلبَسُ قَمِيصًا وَلذَا قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ وَالجُرْجَانِيُّ وَالأَصْحَابُ: لا يُعْقَدُ عَليْهِ ثَوْبٌ كَمَا لا يَلبَسُ قَمِيصًا فِي الحَيَاةِ،، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، وَهُوَ جَارٍ عَلى القَاعِدَةِ التِي سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى فِي بَابِ الإِحْرَامِ، أَنَّهُ يَحْرُمُ عَليْهِ عَقْدُ الرِّدَاءِ وَلا يَحْرُمُ عَقْدُ الإِزَارِ، وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ الطِّيبِ سَوَاءٌ فِيهِ الرَّجُل وَالمَرْأَةُ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَسَوَاءٌ الطِّيبُ فِي بَدَنِهِ وَأَكْفَانِهِ، وَالمَاءُ الذِي يُغْسَل بِهِ، وَهُوَ الكَافُورُ، فَكُلهُ حَرَامٌ.
وَنَقَل القَاضِي أَبُو الطِّيبِ فِي كِتَابِهِ "المُجَرَّدُ "أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ أَنَّهُ لا يُطْرَحُ الكَافُورُ فِي مَائِهِ، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَليْهِ، وَأَمَّا التَّجْمِيرُ وَهُوَ التَّبْخِيرُ عِنْدَ غُسْلهِ فَلا بَأْسَ بِهِ، كَمَا لا يُمْنَعُ المُحْرِمُ مِنْ الجُلوسِ عِنْدَ العَطَّارِ، قَال أَصْحَابُنَا: فَإِنْ طَيَّبَهُ إنْسَانٌ أَوْ أَلبَسَهُ مِخْيَطًا عَصَى الفَاعِل وَلا فِدْيَةَ عَليْهِ. كَمَا لوْ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِ المَيِّتِ عَصَى وَلا غُرْمَ عَليْهِ.
وَأَمَّا إذَا مَاتَتْ مُعْتَدَّةٌ مُحِدَّةٌ فَهَل يَحْرُمُ تَطْيِيبُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: ذَكَرَ المُصَنِّفُ دَليلهُمَا أحدهما: وَهُوَ قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ: يَحْرُمُ والثاني: وَهُوَ. الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ: لا يَحْرُمُ، قَال المُتَوَلي: هُوَ قَوْل عَامَّةِ أَصْحَابِنَا إلا أَبَا إِسْحَاقَ المَرْوَزِيَّ، قَال المَاوَرْدِيُّ وَالمَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ: وَليْسَتْ مَسْأَلةُ المُعْتَدَّةِ مَنْصُوصَةً للشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَقَوْل المُصَنِّفِ مُعْتَدَّةٌ عَنْ وَفَاةٍ، يَحْتَرِزُ بِهِ مُعْتَدَّةً رَجْعِيَّةً وَغَيْرَهَا مِمَّنْ لا حِدَادَ عَليْهَا، وَأَمَّا البَائِنُ فَإِنْ قُلنَا بِالضَّعِيفِ مِنْ القَوْليْنِ أَنَّ عَليْهَا الإِحْدَادَ فَهِيَ كَالمُتَوَفَّى عَنْهَا، فَيَكُونُ فِيهَا الوَجْهَانِ، وَلوْ قَال المُصَنِّفُ: مُعْتَدَّةٌ حَادَّةٌ أَوْ مُحِدَّةٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالهُ غَيْرُهُ، لكَانَ أَحْسَنَ وَأَعَمَّ، لتَدْخُل البَائِنُ عَلى القَوْل الضَّعِيفِ وَكَأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا القَوْل لضَعْفِهِ فَلمْ يَحْتَرِزْ عَنْهُ.
 فرع: قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ: هَل يَبْطُل صَوْمُ الإِنْسَانِ بِالمَوْتِ؟ كَمَا تَبْطُل صَلاتُهُ

 

ج / 5 ص -119-       بِهِ أَمْ لا تَبْطُل كَمَا لا يَبْطُل حَجُّهُ؟ بَل يَبْقَى حُكْمُهُ وَيُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلبِّيًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ لأَصْحَابِنَا: وَالأَصَحُّ: بُطْلانُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الأَصْحَابِ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي غُسْل المُحْرِمِ وَتَكْفِينِهِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا تَحْرِيمُ تَطْيِيبِهِ وَإِلبَاسِهِ مَخِيطًا وَسَتْرِ رَأْسِهِ. وَبِهِ قَال عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد وَابْنُ المُنْذِرِ. وَقَالتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ وَطَاوُسٌ وَالأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالكٌ: يُطَيَّبُ وَيُلبَسُ المَخِيطَ كَسَائِرِ المَوْتَى. دَليلنَا الحَدِيثُ المَذْكُورُ.

فرع: فِي مَسَائِل تَتَعَلقُ بِالبَابِ
 إحْدَاهَا: إذَا نُبِشَ القَبْرُ وَأُخِذَ الكَفَنُ قَال صَاحِبُ التَّتِمَّةِ يَجِبُ تَكْفِينُهُ ثَانِيًا سَوَاءٌ كُفِّنَ مِنْ مَالهِ أَوْ مِنْ مَال مَنْ عَليْهِ نَفَقَتُهُ أَوْ مِنْ بَيْتِ المَال؛ لأَنَّ العِلةَ فِي المَرَّةِ الأُولى الحَاجَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ. وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: إذَا كُفِّنَ مِنْ مَالهِ ثُمَّ اقْتَسَمَ الوَرَثَةُ التَّرِكَةَ. ثُمَّ نُبِشَ وَسُرِقَ الكَفَنُ وَتُرِكَ عُرْيَانًا اُسْتُحِبَّ للوَرَثَةِ أَنْ يُكَفِّنُوهُ ثَانِيًا وَلا يَلزَمُهُمْ ذَلكَ؛ لأَنَّهُ لوْ لزِمَهُمْ ثَانِيًا للزِمَهُمْ إلى مَا لا يَتَنَاهَى، وَلوْ كُفِّنَ ثُمَّ أَكَلهُ سَبُعٌ وَاسْتَغْنَى عَنْ كَفَنِهِ فَلمَنْ يَكُونُ الكَفَنُ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلافٌ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللهُ فِي بَابِ السَّرِقَةِ حَيْثُ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
الثانية: قَال الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: لا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِدَّ الإِنْسَانُ كَفَنًا؛ لئَلا يُحَاسَبَ عَليْهِ، وَهَذَا الذِي قَالهُ صَحِيحٌ إلا إذَا كَانَ مِنْ جِهَةٍ يَقْطَعُ بِحِلهَا أَوْ مِنْ أَثَرِ بَعْضِ أَهْل الخَيْرِ مِنْ العُلمَاءِ، أَوْ العِبَادِ، وَنَحْوِ ذَلكَ، فَإِنَّ ادِّخَارَهُ حِينَئِذٍ حَسَنٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ
"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَليْهِ بُرْدَةٌ فَطَلبَهَا رَجُلٌ مِنْهُ فَأَعْطَاهُ إيَّاهَا فَقَال لهُ الصَّحَابَةُ: مَا أَحْسَنْتَ سَأَلتَهُ وَعَلمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ، قَال: إنِّي وَاَللهِ مَا سَأَلتُهُ لأَلبَسَهُ، إنَّمَا سَأَلتُهُ ليَكُونَ كَفَنِي، قَال سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ".
الثالثة: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ تَكْفِينِ البَالغِ وَالصَّبِيِّ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ، قَال ابْنُ المُنْذِرِ: وَكَانَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلةَ1 يُكَفِّنُ فِي ثَوْبَيْنِ، قَال: وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ: يُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَفِّنُ فِي خَمْسَةٍ. وَأَمَّا: الصَّبِيُّ فَقَال ابْنُ المُنْذِرِ: قَال ابْنُ المُسَيِّبِ يُكَفَّنُ فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق: سويد بن علقمة وهو خطأ والصواب ما أثبتناه قال الشيخ في "تهذيب الأسماء" و "اللغات": وهو أبو أمية سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر بن وداع بن حارث بن مالك ابن أدد بن جعفي بن صعب بن سعد العشيرة الجعفي الكوفي التابعي المخضرم (بفتح الزاء) أدرك الجاهلية كبيرا وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وأدى صدقته إلى مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد المدينة فوصلها في يوم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث إتيان مصدق النبي صلى الله عليه وسلم في سنن وغيره, وحضر القادسية في زمن عمر رضي الله عنه وشهد اليرموك وخطبة عمر بالجابية – يوفي سنة 82 وهو ابن 120 سنة وقيل 130 واتفقوا على توثيقه اهـ

 

ج / 5 ص -120-       ثَوْبٍ، وَقَال أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي خِرْقَةٍ، فَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَلاثَةٍ فَلا بَأْسَ، وَعَنْ الحَسَنِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ثَوْبَيْنِ، وَاخْتَارَ ابْنُ المُنْذِرِ ثَلاثَةً. وَأَمَّا المَرْأَةُ فَذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَكْفِينُهَا فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، قَال ابْنُ المُنْذِرِ: وَبِهِ قَال أَكْثَرُ العُلمَاءِ، مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَال عَطَاءٌ ثَلاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَثَوْبٌ تَحْتَهُ وَلفَافَةٌ فَوْقَهُمَا وَقَال سُليْمَانُ بْنُ مُوسَى: دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَلفَافَةٌ.