المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ صَلاةِ المَيِّتِ
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"الصَّلاةُ عَلى المَيِّتِ فَرْضٌ عَلى الكِفَايَةِ لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "صَلوا خَلفَ مَنْ قَال: لا إلهَ إلا اللهُ وَعَلى مَنْ قَال: لا إلهَ إلا اللهُ"وَفِي أَدْنَى مَا يَكْفِي قَوْلانِ: أحدهما: ثَلاثَةٌ؛ لأَنَّ قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم صَلوا خِطَابُ جَمْعٍ وَأَقَل الجَمْعِ ثَلاثَةٌ والثاني: يَكْفِي وَاحِدٌ؛ لأَنَّهَا صَلاةٌ ليْسَ مِنْ شَرْطِهَا الجَمَاعَةُ، فَلمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهَا العَدَدُ كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ، وَيَجُوزُ فِعْلهَا فِي جَمِيعِ الأَوْقَاتِ؛ لأَنَّهَا صَلاةٌ لهَا سَبَبٌ فَجَازَ فِعْلهَا فِي كُل وَقْتٍ وَيَجُوزُ فِعْلهَا فِي المَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، لمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى سُهَيْل بْنِ بَيْضَاءَ فِي المَسْجِدِ"وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَليَ فِي جَمَاعَةٍ، لمَا رَوَى مَالكُ بْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَا مِنْ مُسْلمٍ يَمُوتُ فَيُصَلي عَليْهِ ثَلاثَةُ صُفُوفٍ مِنْ المُسْلمِينَ إلا وَجَبَ"وَتَجُوزُ فُرَادَى لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "مَاتَ فَصَلى عَليْهِ النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا "وَإِنْ اجْتَمَعَ نِسَاءٌ لا رَجُل مَعَهُنَّ صَليْنَ عَليْهِ فُرَادَى فَإِنَّ النِّسَاءَ لا يُسَنُّ لهُنَّ الجَمَاعَةُ فِي الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ، وَإِنْ صَليْنَ جَمَاعَةً فَلا بَأْسَ".
 الشرح:
حَدِيثُ "صَلوا خَلفَ مَنْ قَال: لا إلهَ إلا اللهُ، وَعَلى مَنْ قَال: لا إلهَ إلا اللهُ"ضَعِيفٌ. رَوَاهُ الحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلكَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَقَال لا يَثْبُتُ مِنْهَا شَيْءٌ وَتُغْنِي أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ. كَقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "صَلوا عَلى صَاحِبِكُمْ "، وَهَذَا أَمْرٌ وَهُوَ للوُجُوبِ. وَقَدْ نَقَلوا الإِجْمَاعَ عَلى وُجُوبِ الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ إلا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ المَالكِيَّةِ أَنَّهُ جَعَلهَا سُنَّةً، وَهَذَا مَتْرُوكٌ عَليْهِ لا يُلتَفَتُ إليْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَرَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَمَّا حَدِيثُ مَالكِ بْنِ هُبَيْرَةَ فَحَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: قَال التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَال الحَاكِمُ: هُوَ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ.
وَأَمَّا: حَدِيثُ صَلاتِهِمْ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْوَاجًا، فَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال
"لمَّا صُليَ عَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أُدْخِل الرِّجَال فَصَلوْا عَليْهِ بِغَيْرِ إمَامٍ أَرْسَالًا حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ أُدْخِل النِّسَاءُ وَصَليْنَ عَليْهِ ثُمَّ أُدْخِل الصِّبْيَانُ فَصَلوْا عَليْهِ، ثُمَّ أُدْخِل العَبِيدُ فَصَلوْا عَليْهِ أَرْسَالًا لمْ يَؤُمَّهُمْ عَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَرَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا البَيْهَقِيُّ: وَذَلكَ لعِظَمِ أَمْرِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، وَتَنَافُسِهِمْ فِيمَنْ يَتَوَلى الصَّلاةَ عَليْهِ وَصَلوْا عَليْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وقوله: أَرْسَالًا - بِفَتْحِ الهَمْزَةِ - أَيْ مُتَتَابِعِينَ وقوله: أَفْوَاجًا أَيْ: يَدْخُل فَوْجٌ يُصَلونَ فُرَادَى ثُمَّ فَوْجٌ كَذَلكَ قوله: ليْسَ مِنْ شَرْطِهَا الجَمَاعَةُ احْتِرَازٌ

 

ج / 5 ص -121-       مِنْ الجُمُعَةِ قوله سُهَيْل بْنِ بَيْضَاءَ هِيَ أُمُّهُ وَاسْمُهَا دَعْدُ، وَالبَيْضَاءُ لقَبٌ وَاسْمُ أَبِيهِ وَهْبُ بْنُ رَبِيعَةَ وَكَانَ سُهَيْل مِنْ السَّابِقِينَ إلى الإِسْلامِ، وَهَاجَرَ إلى الحَبَشَةِ وَالمَدِينَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ الهِجْرَةِ، وَكَانَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنهما أَسَنَّ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَمَالكُ بْنُ هُبَيْرَةَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ كِنْدِيٌّ سُكُونِيٌّ مِصْرِيٌّ كَانَ أَمِيرًا لمُعَاوِيَةَ عَلى الجُيُوشِ.
وقوله: إلا وَجَبَ فَكَذَا هُوَ فِي المُهَذَّبِ وَاَلذِي فِي كُتُبِ الحَدِيثِ أَوْجَبَ بِالأَلفِ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ الحَاكِمِ وَالبَيْهَقِيِّ: إلا غُفِرَ لهُ، وَهُوَ مَعْنَى أَوْجَبَ، وَإِنْ صَحَّ الذِي فِي المُهَذَّبِ كَانَ مَعْنَاهُ وَجَبَ لهُ الجَنَّةُ وقوله: فَإِنَّ النِّسَاءَ لا يُسَنُّ لهُنَّ الجَمَاعَةُ فِي الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ، هَذَا مِمَّا يُنْكَرُ، فَيُقَال: هَذَا تَعْليلٌ بِنَفْسِ الحُكْمِ الذِي ادَّعَاهُ.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: الصَّلاةُ عَلى المَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا وَهُوَ إجْمَاعٌ وَالمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ المَالكِيَّةِ مَرْدُودٌ كَمَا سَبَقَ وَفِي أَقَل مَا يَسْقُطُ بِهِ الفَرْضُ قَوْلانِ: للشَّافِعِيِّ وَوَجْهَانِ للأَصْحَابِ أَحَدُ القَوْليْنِ ثَلاثَةٌ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الأُمِّ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ وَصَاحِبُ الحَاوِي الثاني: يَكْفِي وَاحِدٌ حَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالقَاضِي حُسَيْنٌ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالمُتَوَلي عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ (وَأَحَدُ الوَجْهَيْنِ) يُشْتَرَطُ اثْنَانِ.
والثاني: يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ حَكَاهُمَا القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ وَقَاسُوا الأَرْبَعَةَ عَلى حَمْل الجِنَازَةِ وَضَعَّفَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ هَذَا بِأَنَّ الأَفْضَل فِي حَمْل الجِنَازَةِ الحَمْل بَيْنَ العَمُودَيْنِ، وَذَلكَ يَحْصُل بِثَلاثَةٍ، وَلأَنَّهُ إذَا قُلنَا يَحْمِل الجِنَازَةَ أَرْبَعَةٌ لا يُقَال أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَكَلامُنَا هُنَا فِي الوَاجِبِ، وَالأَصَحُّ مِنْ الخِلافِ الاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ؛ لأَنَّهُ يَصْدُقُ عَليْهِ أَنَّهُ صَلى عَلى المَيِّتِ مِمَّنْ صَحَّحَهُ الجُرْجَانِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَصَحَّحَ البَنْدَنِيجِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ اشْتِرَاطَ الثَّلاثَةِ. فَإِنْ قُلنَا يُشْتَرَطُ اثْنَانِ أَوْ ثَلاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ سَقَطَ الفَرْضُ بِفِعْلهِمْ جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى بِلا خِلافٍ لكِنَّ الجَمَاعَةَ أَفْضَل وَتَكْثِيرَهَا أَفْضَل. وَهَل يَسْقُطُ هَذَا الفَرْضُ بِصَلاةِ النِّسَاءِ مَعَ وُجُودِ الرِّجَال؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: لا يَسْقُطُ وَبِهِ قَطَعَ الفُورَانِيُّ وَالبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ والثاني: يَسْقُطُ، وَبِهِ قَطَعَ المُتَوَلي وَالخُنَثِي كَالمَرْأَةِ فِي هَذَا.
وَأَمَّا: إذَا لمْ يَحْضُرْهُ إلا النِّسَاءُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَليْهِنَّ الصَّلاةُ عَليْهِ بِلا خِلافٍ، وَيَسْقُطُ الفَرْضُ بِفِعْلهِنَّ حِينَئِذٍ بِلا خِلافٍ وَيُصَلينَ فُرَادَى، فَإِنْ صَليْنَ جَمَاعَةً فَلا بَأْسَ، هَذِهِ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ وَسَوَاءٌ كَانَ المَيِّتُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ حِكَايَةِ أَبِي المَكَارِمِ صَاحِبِ العُدَّةِ وَجْهًا ضَعِيفًا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لهُنَّ الجَمَاعَةُ فِي جِنَازَةِ المَرْأَةِ وَهُوَ شَاذٌّ. وَأَمَّا: إذَا حَضَرَ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَال فَلا خِلافَ أَنَّهُ لا يَتَوَجَّهُ الفَرْضُ إليْهِنَّ وَلا يَدْخُلنَ فِيهِ، صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالأَصْحَابُ، وَلوْ لمْ يَحْضُرْ إلا رَجُلٌ وَنِسْوَةٌ وَقُلنَا لا يَسْقُطُ الفَرْضُ بِوَاحِدٍ وَجَبَ عَليْهِنَّ التَّتْمِيمُ. وَأَمَّا الصِّبْيَانُ المُمَيِّزُونَ فَمَعْلومٌ أَنَّهُ لا يَتَوَجَّهُ إليْهِمْ هَذَا الفَرْضُ، وَهَل يَسْقُطُ بِصَلاتِهِمْ؟

 

ج / 5 ص -122-       فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا البَغَوِيّ وَالمُتَوَلي وَآخَرُونَ أصحهما: يَسْقُطُ، قَال البَغَوِيّ وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لأَنَّهُ تَصِحُّ إمَامَتُهُ، فَأَشْبَهَ البَالغَ، وَلوْ صَلى الإِمَامُ بِجَمَاعَةٍ عَلى جِنَازَةٍ فَبَانَ حَدَثُ الإِمَامِ، أَوْ بَعْضِ المَأْمُومِينَ، فَإِنْ بَقِيَ عَلى الطَّهَارَةِ العَدَدُ المَشْرُوطُ أَوْ وَاحِدٌ إنْ اكْتَفَيْنَا بِهِ سَقَطَ الفَرْضُ وَإِلا فَلا، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَإِذَا صَلى عَلى الجِنَازَةِ عَدَدٌ زَائِدٌ عَلى المَشْرُوطِ وَقَعَتْ صَلاةُ الجَمِيعِ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَكَذَا لوْ صَلتْ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ فَصَلاةُ الجَمِيعِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَسَيَأْتِي فِيهِ زِيَادَةُ شَرْحٍ وَتَفْرِيعٍ فِي الفَصْل العَاشِرِ مِنْ هَذَا البَابِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
المسألة الثانية: تَجُوزُ صَلاةُ الجِنَازَةِ فِي كُل الأَوْقَاتِ وَلا تُكْرَهُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ؛ لأَنَّهَا ذَاتُ سَبَبٍ قَال أَصْحَابُنَا: لكِنْ يُكْرَهُ أَنْ يَتَحَرَّى صَلاتَهَا فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ، بِخِلافِ مَا إذَا حَصَل ذَلكَ اتِّفَاقًا، وَقَدْ سَبَقَتْ المَسْأَلةُ بِأَدِلتِهَا فِي بَابِ السَّاعَاتِ.
المسألة الثالثة: الصَّلاةُ عَلى المَيِّتِ فِي المَسْجِدِ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ لا كَرَاهَةَ فِيهَا بَل هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ صَرَّحَ بِاسْتِحْبَابِهَا فِي المَسْجِدِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسْفَرايِينِيّ شَيْخُ الأَصْحَابِ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبُ الحَاوِي وَالجُرْجَانِيُّ وَآخَرُونَ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ المُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الفُقَهَاءِ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالكٍ، وَقَال مَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ تُكْرَهُ الصَّلاةُ عَليْهِ فِي المَسْجِدِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"مَنْ صَلى عَلى جِنَازَةٍ فِي المَسْجِدِ فَلا شَيْءَ لهُ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ المَذْكُورِ فِي الكِتَابِ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فَجَوَابُهُ: مِنْ أَوْجُهٍ:
أحدها: أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الحُفَّاظِ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلى ضَعْفِهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بِكْرِ بْنِ المُنْذِرِ وَالبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ، قَال أَحْمَدُ: هَذَا الحَدِيثُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ صَالحٌ مَوْلى التَّوْأَمَةِ وَهُوَ مُخْتَلفٌ فِي عَدَالتِهِ، لكِنَّ مُعْظَمَ مَا عَابُوا عَليْهِ الاخْتِلاطُ، قَالوا: وَسَمَاعُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَنَحْوِهِ مِنْهُ قَبْل الاخْتِلاطِ، وَهَذَا الحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْهُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
والوجه الثاني: أَنَّ الذِي ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد رِوَايَتُهُ فِي جَمِيعِ نُسَخِ كِتَابِهِ المُعْتَمَدَةِ فَلا "شَيْءَ عَليْهِ "وَعَلى هَذَا لا دَلالةَ فِيهِ لوْ صَحَّ وَأَمَّا: رِوَايَةُ (فَلا شَيْءَ لهُ) فَهِيَ مَعَ ضَعْفِهَا غَرِيبَةٌ وَلوْ صَحَّتْ لوَجَبَ حَمْلهَا عَلى (فَلا شَيْءَ عَليْهِ) للجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَقَدْ جَاءَ مِثْلهُ فِي القُرْآنِ، كَقَوْلهِ تَعَالى:
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}[الاسراء: 7]أَيْ: فَعَليْهَا.
 الثالث: أَجَابَ بِهِ الخَطَّابِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا فِي كُتُبِ المَذْهَبِ أَنَّهُ لوْ ثَبَتَ لكَانَ مَحْمُولًا عَلى نُقْصَانِ الأَجْرِ؛ لأَنَّ المُصَليَ عَليْهَا فِي المَسْجِدِ يَنْصَرِفُ غَالبًا إلى أَهْلهِ، وَمَنْ صَلى عَليْهَا فِي الصَّحْرَاءِ حَضَرَ دَفْنَهَا غَالبًا، فَنَقَصَ أَجْرُ الأَوَّل، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فَلا أَجْرَ كَامِلٌ لهُ، كَقَوْلهِ: صلى الله عليه وسلم
"لا صَلاةَ بِحَضْرَةِ

 

ج / 5 ص -123-       الطَّعَامِ"أَيْ: لا صَلاةَ كَامِلةٌ. فَإِنْ قِيل: لا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لاحْتِمَال أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا صَلى عَليْهِ فِي المَسْجِدِ لعُذْرِ مَطَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَنَّهُ وَضَعَهُ خَارِجَ المَسْجِدِ وَصَلى عَليْهِ هُوَ فِي المَسْجِدِ، أَوْ أَنَّ المُرَادَ بِالمَسْجِدِ مُصَلى الجَنَائِزِ فالجواب:  أَنَّ هَذِهِ الاحْتِمَالاتِ كُلهَا بَاطِلةٌ؛ لأَنَّ لفْظَ الحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَمَرَتْ أَنْ تَمُرَّ بِجِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصِ فِي المَسْجِدِ فَتُصَليَ عَليْهِ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلكَ عَليْهَا، فَقَالتْ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ النَّاسُ "مَا صَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى سُهَيْل بْنِ البَيْضَاءَ إلا فِي المَسْجِدِ".
وَفِي رِوَايَةٍ لمُسْلمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالتْ
"لمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَل أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمُرُّوا بِجِنَازَتِهِ فِي المَسْجِدِ فَيُصَلينَ عَليْهِ، فَفَعَلوا فَوُقِفَ بِهِ عَلى حُجَرِهِنَّ يُصَلينَ عَليْهِ. أُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الجَنَائِزِ الذِي كَانَ إلى المَقَابِرِ، فَبَلغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلكَ، فَقَالتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إلى أَنْ يَعِيبُوا مَا لا عِلمَ لهُمْ بِهِ، عَابُوا عَليْنَا أَنْ نَمُرَّ بِجِنَازَةٍ فِي المَسْجِدِ، "وَمَا صَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى سُهَيْل بْنِ بَيْضَاءَ إلا فِي جَوْفِ المَسْجِدِ"وَفِي رِوَايَةٍ لمُسْلمٍ أَيْضًا قَالتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها "لقَدْ صَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي المَسْجِدِ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ".
المَسْأَلةُ الرَّابِعَةُ: تَجُوزُ صَلاةُ الجِنَازَةِ فُرَادَى بِلا خِلافٍ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلى جَمَاعَةً للحَدِيثِ المَذْكُورِ فِي الكِتَابِ مَعَ الأَحَادِيثِ المَشْهُورَةِ فِي الصَّحِيحِ فِي ذَلكَ، مَعَ إجْمَاعِ المُسْلمِينَ، وَكُلمَا كَثُرَ الجَمْعُ كَانَ أَفْضَل لحَدِيثِ مَالكِ بْنِ هُبَيْرَةَ المَذْكُورِ فِي الكِتَابِ. وَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالتْ:
"مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلي عَليْهِ أُمَّةٌ مِنْ المُسْلمِينَ يَبْلغُونَ مِائَةً كُلهُمْ يَشْفَعُونَ لهُ إلا شُفِّعُوا فِيهِ"رَوَاهُ مُسْلمٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: "مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لا يُشْرِكُونَ بِاَللهِ شَيْئًا إلا شَفَّعَهُمْ اللهُ فِيهِ"رَوَاهُ مُسْلمٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ صُفُوفُهُمْ ثَلاثَةً فَصَاعِدًا، لحَدِيثِ مَالكِ بْنِ هُبَيْرَةَ. وَفِي تَمَامِ حَدِيثِهِ "وَكَانَ مَالكٌ إذَا اسْتَقَل أَهْل الجِنَازَةِ جَزَّأَهُمْ ثَلاثَةَ صُفُوفٍ "وَأَمَّا النِّسَاءُ فَإِنْ كُنَّ مَعَ الرِّجَال صَليْنَ مُقْتَدِيَاتٍ بِإِمَامِ الرِّجَال وَإِنْ تَمْحَضْنَ. قَال الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: أَسْتُحِبَّ أَنْ يُصَلينَ مُنْفَرِدَاتٍ. كُل وَاحِدَةٍ وَحْدَهَا. فَإِنْ صَلتْ بِهِنَّ إحْدَاهُنَّ جَازَ وَكَانَ خِلافَ الأَفْضَل وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ تُسَنَّ لهُنَّ الجَمَاعَةُ كَجَمَاعَتِهِنَّ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ قَال بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلفِ مِنْهُمْ الحَسَنُ بْنُ صَالحٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ وَقَال مَالكُ: فُرَادَى.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُكْرَهُ نَعْيُ المَيِّتِ للنَّاسِ وَالنِّدَاءُ عَليْهِ للصَّلاةِ. لمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال "إذَا مِتُّ فَلا تُؤْذِنُوا بِي أَحَدًا إنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا "وَقَال عَبْدُ اللهِ "الإِيذَانُ بِالمَيِّتِ مِنْ نَعِيِّ الجَاهِليَّةِ".
الشَّرْحُ: النَّعِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ العَيْنِ وَتَشْدِيدِ اليَاءِ وَيُقَال: بِإِسْكَانِ العَيْنِ وَتَخْفِيفِ اليَاءِ لغَتَانِ وَالتَّشْدِيدُ أَشْهَرُ. وَالنِّدَاءُ بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا لغَتَانِ الكَسْرُ أَفْصَحُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ "حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَال:
إذَا مِتُّ فَلا تُؤْذِنُوا بِي أَحَدًا إنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعِيًّا. فَإِنَى سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ النَّعِيِّ"قَال التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

 

ج / 5 ص -124-       أَمَّا حُكْمُ المَسْأَلةِ: فَقَال المُصَنِّفُ وَالبَغَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ نَعِيُّ المَيِّتِ وَالنِّدَاءُ عَليْهِ للصَّلاةِ وَغَيْرِهَا. وَذَكَرَ الصَّيْدَلانِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لا يُكْرَهُ. وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: اخْتَلفَ أَصْحَابُنَا هَل يُسْتَحَبُّ الإِيذَانُ بِالمَيِّتِ؟ وَإِشَاعَةُ مَوْتِهِ فِي النَّاسِ بِالنِّدَاءِ عَليْهِ وَالإِعْلامِ؟ فَاسْتَحَبَّهُ بَعْضَهُمْ لكَثْرَةِ المُصَلينَ وَالدَّاعِينَ لهُ. وَقَال بَعْضُهُمْ: لا يُسْتَحَبُّ ذَلكَ وَقَال بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ ذَلكَ للغَرِيبِ. إذَا لمْ يُؤْذَنْ بِهِ لا يَعْلمُهُ النَّاسُ. وَقَال صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: يُكْرَهُ تَرْثِيَةُ المَيِّتِ بِذِكْرِ آبَائِهِ وَخَصَائِلهِ وَأَفْعَالهِ وَلكِنَّ الأَوْلى الاسْتِغْفَارُ لهُ، وَقَال غَيْرُهُ: يُكْرَهُ نَعِيُّهُ وَالنِّدَاءُ عَليْهِ للصَّلاةِ.
فَأَمَّا تَعْرِيفُ أَهْلهِ وَأَصْدِقَائِهِ بِمَوْتِهِ فَلا بَأْسَ بِهِ. وَقَال ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي آخِرِ كِتَابِ الجَنَائِزِ: قَال أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ النِّدَاءُ عَليْهِ وَلا بَأْسَ أَنْ يَعْرِفَ أَصْدِقَاؤُهُ. وَبِهِ قَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لا بَأْسَ بِهِ. وَنَقَل العَبْدَرِيُّ عَنْ مَالكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُد أَنَّهُ لا بَأْسَ بِالنَّعِيِّ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم
"نَعَى النَّجَاشِيَّ لأَصْحَابِهِ فِي اليَوْمِ الذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إلى المُصَلى وَصَلى بِهِمْ عَليْهِ"وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَعَى جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالبٍ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ رضي الله عنهم وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَال فِي إنْسَانٍ كَانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ - أَيْ: يَكْنُسَهُ فَمَاتَ فَدُفِنَ ليْلًا: أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلمُونِي"فَهَذِهِ النُّصُوصُ فِي الإِبَاحَةِ. وَجَاءَ فِي الكَرَاهَةِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ الذِي ذَكَرْنَاهُ. قَال البَيْهَقِيُّ: وَيُرْوَى ذَلكَ يَعْنِي النَّهْيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ ثُمَّ عَلقَمَةَ وَابْنِ المُسَيِّبِ وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رضي الله عنهم. وَلمَنْ قَال بِالكَرَاهَةِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ نَعِيِّ النَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَبَقَ أَنَّهُ لمْ يَكُنْ نَعِيًّا وَإِنَّمَا كَانَ مُجَرَّدَ إخْبَارٍ بِمَوْتِهِ فَسُمِّيَ نَعِيًّا لشَبَهِهِ بِهِ فِي كَوْنِهِ إعْلامًا.
وَالجَوَابُ لمَنْ قَال بِالإِبَاحَةِ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ عَنْ نَعِيِّ الجَاهِليَّةِ الذِي أَشَارَ إليْهِ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ. وَيَرُدُّ عَليْهِ قَوْل حُذَيْفَةَ؛ لأَنَّهُ لمْ يَقُل أَنَّ الإِعْلامَ بِمُجَرَّدِهِ نَعِيٌّ وَإِنَّمَا قَال: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعِيًّا وَكَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَوَلدَ مِنْ الإِعْلامَ زِيَادَةٌ مُؤَدِّيَةٌ إلى نَعِيِّ الجَاهِليَّةِ.
وَالصَّحِيحُ الذِي تَقْتَضِيهِ الأَحَادِيثُ التِي ذَكَرْنَاهَا وَغَيْرِهَا أَنَّ الإِعْلامَ بِمَوْتِهِ لمَنْ لمْ يَعْلمْ ليْسَ بِمَكْرُوهٍ، بَل إنْ قُصِدَ بِهِ الإِخْبَارُ لكَثْرَةِ المُصَلينَ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذِكْرُ المَآثِرِ وَالمَفَاخِرِ وَالتَّطْوَافِ بَيْنَ النَّاسِ بِذَكَرِهِ بِهَذِهِ الأَشْيَاءِ. ، وَهَذَا نَعِيُّ الجَاهِليَّةِ المَنْهِيُّ عَنْهُ، فَقَدْ صَحَّتْ الأَحَادِيثُ بِالإِعْلامِ فَلا يَجُوزُ إلغَاؤُهَا وَبِهَذَا الجَوَابِ أَجَابَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الفِقْهِ وَالحَدِيثِ المُحَقِّقِينَ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَأَوْلى النَّاسِ بِالصَّلاةِ عَليْهِ الأَبُ ثُمَّ الجَدُّ ثُمَّ الابْنُ ثُمَّ ابْنُ الابْنِ ثُمَّ الأَخُ ثُمَّ ابْنُ الأَخِ ثُمَّ العَمُّ ثُمَّ ابْنُ العَمِّ عَلى تَرْتِيبِ العَصَبَاتِ، لأَنَّ القَصْدَ مِنْ الصَّلاةِ الدُّعَاءُ للمَيِّتِ وَدُعَاءُ هَؤُلاءِ أُرْجَى للإِجَابَةِ، فَإِنَّهُمْ أَفْجَعُ بِالمَيِّتِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانُوا بِالتَّقْدِيمِ أَحَقُّ فَإِنْ اجْتَمَعَ أَخٌ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ مِنْ أَبٍ، فَالمَنْصُوصُ أَنَّ الأَخَ مِنْ الأَبِ وَالأُمِّ أُولى. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال فِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: هَذَا والثاني: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لأَنَّ الأُمَّ لا مَدْخَل لهَا فِي التَّقْدِيمِ فِي الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ فَكَانَ فِي التَّرْجِيحِ بِهَا قَوْلانِ: كَمَا نَقُول فِي وِلايَةِ النِّكَاحِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الأَخُ مِنْ الأَبِ

 

ج / 5 ص -125-       وَالأُمِّ أَوْلى قَوْلًا وَاحِدًا لأَنَّ الأُمَّ - وَإِنْ لمْ يَكُنْ لهَا مَدْخَلٌ فِي التَّقْدِيمِ - إلا أَنَّ لهَا مَدْخَلًا فِي الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ، فَرُجِّحَ بِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، كَمَا نَقُول فِي المِيرَاثِ يُقَدَّمُ بِهَا الأَخُ مِنْ الأَبِ وَالأُمِّ عَلى الأَخِ مِنْ الأَبِ حِينَ كَانَ لهَا مَدْخَلٌ فِي المِيرَاثِ، وَإِنْ لمْ يَكُنْ لهَا مَدْخَلٌ فِي التَّعْصِيبِ قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَإِنْ اجْتَمَعَ وَليَّانِ فِي دَرَجَةٍ قُدِّمَ الأَسَنُّ لأَنَّ دُعَاءَهُ أَرْجَى إجَابَةً، فَإِنْ لمْ (يُحْمَدْ) الأَسَنُّ قُدِّمَ الأَقْرَأُ الأَفْقَهُ؛ لأَنَّهُ أَفْضَل وَصَلاتُهُ أَكْمَل فَإِنْ اسْتَوَيَا أَقُرِعَ بَيْنَهُمَا؛ لأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي التَّقْدِيمِ فَأُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ اجْتَمَعَ حُرٌّ وَعَبْدٌ هُوَ أَقْرَبُ إليْهِ مِنْ الحُرِّ فَالحُرُّ أَوْلى مِنْ أَهْل الوِلايَةِ وَالعَبْدُ ليْسَ مِنْ أَهْل الوِلايَةِ، وَإِنْ اجْتَمَعَ الوَالي وَالوَليُّ المُنَاسِبُ فَفِيهِ قَوْلانِ: قَال فِي القَدِيمِ: الوَالي أَوْلى لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "لا يُؤَمُّ الرَّجُل فِي سُلطَانِهِ"وَقَال فِي الجَدِيدِ: الوَليُّ أَوْلى؛ لأَنَّهُ وِلايَةٌ تَتَرَتَّبُ فِيهَا العَصَبَاتُ فَقَدَّمَ الوَليُّ عَلى الوَالي، كَوِلايَةِ النِّكَاحِ".
 الشرح: قَوْلهُ: لقَوْلهِ: صلى الله عليه وسلم "لا يُؤَمُّ الرَّجُل فِي سُلطَانِهِ"رَوَاهُ مُسْلمٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ صِفَةِ الأَئِمَّةِ. وَقَوْلهُ قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فَإِنْ لمْ يُحْمَدْ الأَسَنُّ هُوَ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مِيمٍ مَفْتُوحَةٍ، أَيْ: لمْ يَكُنْ مَحْمُودَ الطَّرِيقَةِ، بِأَنْ يَكُونَ فَاسِقًا أَوْ مُبْتَدِعًا هَكَذَا فَسَّرَهُ الأَصْحَابُ، زَادَ المَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ: أَوْ جَاهِلًا، زَادَ المَحَامِليُّ أَيْضًا فِي المَجْمُوعِ: أَوْ يَهُودِيًّا أَسْلمَ، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَدَّمُ بِالسِّنِّ فِي الإِسْلامِ كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ، لكِنْ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا غَيْرَ مَحْمُودِ الحَال نَظَرٌ وقوله؛ لأَنَّهَا وِلايَةٌ تَتَرَتَّبُ فِيهَا العَصَبَاتُ، فَقَدَّمَ فِيهِ الوَليَّ عَلى الوَالي، كَوِلايَةِ النِّكَاحِ احْتِرَازٌ مِنْ إقَامَةِ حُدُودِ اللهِ تَعَالى.
أَمَّا أَحْكَامُ الفَصْل فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: إذَا اجْتَمَعَ الوَليُّ المُنَاسِبُ وَالوَالي فَقَوْلانِ مَشْهُورَانِ: القَدِيمُ: أَنَّ الوَاليَ أَوْلى، ثُمَّ إمَامُ المَسْجِدِ ثُمَّ الوَليُّ وَالجَدِيدُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الوَليَّ مُقَدَّمٌ عَلى الوَالي وَإِمَامُ المَسْجِدِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِتَقْدِيمِ إمَامِ المَسْجِدِ عَلى الوَليِّ تَفْرِيعًا عَلى القَدِيمِ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَالرَّافِعِيُّ، وَاحْتَجُّوا للقَدِيمِ بِحَدِيثِ "لا يُؤَمُّ الرَّجُل فِي سُلطَانِهِ"وَللجَدِيدِ بِأَنَّهَا وِلايَةٌ تَتَرَتَّبُ فِيهَا العَصَبَاتُ، فَقُدِّمَ الوَليُّ عَلى الوَالي كَالنِّكَاحِ، وَحَمَلوا الحَدِيثَ عَلى غَيْرِ صَلاةِ الجِنَازَةِ، وَمِمَّنْ قَال بِتَقْدِيمِ الوَالي عَلقَمَةُ وَالأَسْوَدُ وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلةَ وَمَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَال ابْنُ المُنْذِرِ: هُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل العِلمِ، قَال: وَبِهِ أَقُول، قَال: وَرُوِيَ عَنْ عَليٍّ وَلا يَثْبُتُ عَنْهُ، وَمِمَّنْ قَال بِتَقْدِيمِ الوَليِّ الضَّحَّاكُ وَأَبُو يُوسُفَ.
الثانية: قَال أَصْحَابُنَا: القَرِيبُ الذِي يُقَدَّمُ الذَّكَرُ، فَلا يُقَدَّمُ غَيْرُ الوَليِّ القَرِيبِ عَليْهِ، إلا أَنْ يَكُونَ القَرِيبُ أُنْثَى فَيُقَدَّمُ الرَّجُل الأَجْنَبِيُّ عَليْهَا، إذْ لا إمَامَةَ لهَا حَتَّى يُقَدَّمَ الصَّبِيُّ المُمَيِّزُ الأَجْنَبِيُّ عَلى المَرْأَةِ القَرِيبَةِ، وَكَذَا الرَّجُل أَوْلى بِإِمَامَةِ النِّسَاءِ مِنْ المَرْأَةِ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ؛ لأَنَّ إمَامَتَهُ أَكْمَل.
الثالثة: أَوْلى الأَقَارِبُ الأَبُ، ثُمَّ الجَدُّ أَبُ الأَبِ وَإِنْ عَلا، ثُمَّ الابْنُ، ثُمَّ ابْنُ الابْنِ وَإِنْ سَفَل

 

ج / 5 ص -126-       ثُمَّ الأَخُ للأَبَوَيْنِ وَللأَبِ، وَهَل يُقَدَّمُ الأَخُ مِنْ الأَبَوَيْنِ عَلى الأَخِ مِنْ الأَبِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا المُصَنِّفُ وَالأَكْثَرُونَ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَآخَرُونَ وَهُوَ المَذْهَبُ وَالمَنْصُوصُ تَقْدِيمُهُ كَمَا فِي المِيرَاثِ،؛ لأَنَّ الأُمَّ لهَا مَدْخَلٌ فِي صَلاةِ الجِنَازَةِ قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي القَدِيمِ وَالجَدِيدِ عَلى تَقْدِيمِ الأَخِ مِنْ الأَبَوَيْنِ
والطريق الثاني: فِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: يَسْتَوِيَانِ والثاني: تَقْدِيمُهُ كَالقَوْليْنِ فِي وِلايَةِ النِّكَاحِ؛ لأَنَّ الأُمَّ لا مَدْخَل لهَا فِي الإِمَامَةِ، فَعَلى المَذْهَبِ المُقَدَّمُ بَعْدَهُمَا ابْنُ الأَخِ للأَبَوَيْنِ، ثُمَّ الأَبُ، ثُمَّ العَمُّ للأَبَوَيْنِ، ثُمَّ للأَبِ، ثُمَّ ابْنِ العَمِّ للأَبَوَيْنِ ثُمَّ للأَبِ، ثُمَّ عَمِّ الأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُ، ثُمَّ عَمُّ الجَدِّ، ثُمَّ بَنُوهُ عَلى تَرْتِيبِ الإِرْثِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَلوْ اجْتَمَعَ عَمَّانِ أَوْ ابْنَا عَمِّ أَحَدُهُمَا لأَبَوَيْنِ وَالآخَرُ لأَبٍ فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالمُتَوَلي وَغَيْرُهُمْ: وَلوْ اجْتَمَعَ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لأُمِّ فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ: المَذْهَبُ: تَقْدِيمُهُ فَإِنْ لمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ قُدِّمَ المُعْتَقُ ثُمَّ عُصْبَتُهُ. هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالقَاضِي حُسَيْنٌ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالمُتَوَلي وَآخَرُونَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَفْهُومٌ مِنْ كَلامِ المُصَنِّفِ، مَعْلومٌ مِنْ قَوْلهِ عَلى تَرْتِيبِ العَصَبَاتِ وَالمَوْلى مِنْ العَصَبَاتِ وَلهُ حُكْمُهُمْ فِي وِلايَةِ النِّكَاحِ وَالإِرْثِ وَغَيْرِ ذَلكَ ثُمَّ بَعْدَ العِتْقِ، وَعَصَبَاتُهُ تُقَدَّمُ ذَوُو الأَرْحَامِ فَيُقَدَّمُ أَبُ الأُمِّ ثُمَّ الأَخُ للأُمِّ ثُمَّ الخَال ثُمَّ العَمُّ للأُمِّ. قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ: وَلوْ اجْتَمَعَ جَدٌّ مَمْلوكٌ وَأَخٌ لأُمٍّ حُرٌّ فَأَيُّهُمَا أَوْلى؟ فِيهِ وَجْهَانِ: وَلمْ يُرَجِّحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَالأَصَحُّ تَرْجِيحُ الحُرِّ.
الرابعة: إذَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ فِي دَرَجَةٍ كَابْنَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ أَوْ عَمَّيْنِ أَوْ ابْنَيْ أَخٍ وَنَحْوِ ذَلكَ وَتَنَازَعَا فِي الإِمَامَةِ فَقَدْ نَصَّ فِي المُخْتَصَرِ أَنَّ الأَسَنَّ أَوْلى؛ لأَنَّ دُعَاءَهُ أَرْجَى إجَابَةً. وَقَال: فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ الأَفْقَهُ وَالأَقْرَأُ أَوْلى مِنْ الأَسَنِّ فَقَال المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ: المَسْأَلتَانِ عَلى مَا نَصَّ عَليْهِ، وَهَذَا هُوَ المَذْهَبُ وَفَرَّقُوا بِأَنَّ المَقْصُودَ هُنَا الدُّعَاءُ وَدُعَاءُ الأَسَنِّ أَقْرَبُ إلى الإِجَابَةِ؛ لأَنَّهُ أَخْشَعُ غَالبًا وَأَحْضَرُ قَلبًا وَالمُرَادُ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ مُرَاعَاةُ مَا يَطْرَأُ فِيهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلى فِقْهٍ وَمُرَاعَاةُ أَقْوَالهَا وَأَفْعَالهَا وَقِيل: فِيهِمَا قَوْلانِ: بِالنَّقْل وَالتَّخْرِيجِ. أحدهما: يُقَدَّمُ الأَسَنُّ فِيهِمَا. الثاني: يُقَدَّمُ الأَفْقَهُ وَالأَقْرَأُ فِيهِمَا. هَكَذَا قَالهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ فِي البَسِيطِ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ طَرْدِ القَوْليْنِ فِي المَسْأَلتَيْنِ ذَكَرَهُ العِرَاقِيُّونَ وَلمْ يَذْكُرْهُ المَرَاوِزَةُ. بَل جَزَمُوا بِتَقْدِيمِ الأَفْقَهِ وَالأَقْرَأِ فِي غَيْرِ الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ. وَذَكَرُوا فِي صَلاةِ المَيِّتِ، الطَّرِيقَيْنِ. وَتَابَعَهُ عَلى هَذَا النَّقْل عَنْ العِرَاقِيِّينَ الغَزَاليُّ فِي البَسِيطِ وَالوَسِيطِ. ،
وَهَذَا الذِي نَقَلهُ عَنْ العِرَاقِيِّينَ ليْسَ فِي كُتُبِهِمْ المَشْهُورَةِ، بَل جُمْهُورُهُمْ قَرَّرُوا النَّصَّ، وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْهُمْ ذَكَرُوا الطَّرِيقَيْنِ فِي صَلاةِ الجِنَازَةِ مَعَ تَرْجِيحِهِمْ القَوْل المَنْصُوصَ فِيهَا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الأَسَنِّ، وَجَزَمُوا بِتَقْدِيمِ الأَفْقَهِ وَالأَقْرَأِ فِي غَيْرِ الجِنَازَةِ. وَمِمَّنْ قَطَعَ بِتَقْرِيرِ النَّصِّ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ شَيْخُهُمْ وَإِمَامُهُمْ، وَأَصْحَابُهُ الثَّلاثَةُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ، وَصَاحِبُ الحَاوِي وَالمَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ وَالمُقْنِعِ وَالجُرْجَانِيُّ وَآخَرُونَ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الطَّرِيقَيْنِ فِي الجِنَازَةِ مِنْهُمْ وَجَزَمَ بِتَقْدِيمِ الأَفْقَهِ وَالأَقْرَأِ فِي غَيْرِهَا المَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَنَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَالشَّاشِيُّ، فَهَؤُلاءِ أَئِمَّةُ

 

ج / 5 ص -127-       العِرَاقِيِّينَ، وَلمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ التَّخْرِيجَ إلى غَيْرِ صَلاةِ الجِنَازَةِ كَمَا نَقَلهُ عَنْهُمْ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ بِالسِّنِّ الذِي مَضَى فِي الإِسْلامِ، فَلا يُقَدَّمُ شَيْخٌ مَضَى مُعْظَمُ عُمُرِهِ فِي الكُفْرِ وَأَسْلمَ مِنْ قَرِيبٍ عَلى شَابٍّ نَشَأَ فِي الإِسْلامِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَاب صِفَةِ الأَئِمَّةِ. قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَلا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا السِّنِّ الشَّيْخُوخَةُ بَل يُقَدَّمُ أَكْبَرُ الشَّابَّيْنِ عَلى أَصْغَرِهِمَا. قَال أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلنَا بِالمَذْهَبِ وَهُوَ تَقْدِيمُ الأَسَنِّ فَاسْتَوَيَا فِي السِّنِّ قُدِّمَ الأَفْقَهُ ثُمَّ الأَقْرَأُ، كَمَا فِي سَائِر الصَّلوَاتِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ وَجْهٌ بِتَقْدِيمِ الأَوْرَعِ وَوَجْهٌ بِتَقْدِيمِ الأَقْرَأِ، وَكُل ذَلكَ يَجِيءُ هُنَا إذَا اسْتَوَيَا فِي السِّنِّ. قَال الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ أَسَنُّ وَلكِنَّهُ غَيْرُ مَحْمُودِ الحَال كَمَا سَبَقَ شَرْحُهُ قُدِّمَ الأَفْقَهُ وَالأَقْرَأُ، وَصَارَ هَذَا كَالمَعْلومِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا مِنْ كُل وَجْهٍ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا؛ لأَنَّهُ لا مَزِيَّةَ لأَحَدِهِمَا فَقُدِّمَ بِالقُرْعَةِ.
الخامسة: إذَا اسْتَوَى اثْنَانِ فِي دَرَجَةٍ وَأَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالآخَرُ رَقِيقٌ، فَالحُرُّ أَوْلى بِلا خِلافٍ، وَلوْ اجْتَمَعَ رَقِيقٌ فَقِيهٌ، وَحُرٌّ غَيْرُ فَقِيهٍ، فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ.
أَصَحُّهُمَا: يُقَدَّمُ الحُرُّ والثاني: الرَّقِيقُ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ: وَلعَل التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا أَوْلى لتَعَارُضِ الفَضِيلتَيْنِ، وَلوْ اجْتَمَعَ حُرٌّ بَعِيدٌ وَعَبْدٌ قَرِيبٌ كَأَخٍ هُوَ عَبْدٌ وَعَمٍّ حُرٍّ فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: أصحها: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَسَائِرُ العِرَاقِيِّينَ، وَالمُتَوَلي وَغَيْرُهُ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ الحُرُّ أَوْلى؛ لأَنَّهَا وِلايَةٌ وَالحُرُّ أَهْلهَا دُونَ العَبْدِ والثاني: العَبْدُ أَوْلى لقُرْبِهِ، حَكَاهُ الفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَالبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ والثالث: هُمَا سَوَاءٌ وَأَشَارَ إلى اخْتِيَارِهِ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ. قَال أَصْحَابُنَا: وَالمُكَاتَبُ وَالعَبْدُ القَرِيبَانِ أَوْلى مِنْ الحُرِّ الأَجْنَبِيِّ، وَالرَّجُل الأَجْنَبِيُّ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْلى مِنْ المَرْأَةِ القَرِيبَةِ، وَالصِّبْيَانُ أَوْلى مِنْ النِّسَاءِ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ رحمه الله: وَاَلذِي ذَكَرَ تَصْرِيحًا وَتَلوِيحًا أَنَّ الخَال وَكُل مُتَمَسِّكٍ بِقَرَابَةٍ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلى الأَجَانِبِ، وَإِنْ كَانَ الخَال عَبْدًا مَفْضُولًا، وَلوْ اجْتَمَعَ عَبْدٌ بَالغٌ وَصَبِيٌّ حُرٌّ فَالعَبْدُ أَوْلى بِلا خِلافٍ، صَرَّحَ بِهِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالمُتَوَلي وَغَيْرُهُمْ. قَالوا: لأَنَّ العَبْدَ مُكَلفٌ فَهُوَ أَحْرَصُ عَلى تَكْمِيل الصَّلاةِ؛ وَلأَنَّ الصَّلاةَ خَلفَ العَبْدِ مُجْمَعٌ عَلى جَوَازِهَا، وَاخْتَلفَ العُلمَاءُ فِي جَوَازِهَا خَلفَ الصَّبِيِّ.
 فرع: إذَا اجْتَمَعَ وَليَّانِ فِي دَرَجَةٍ أَحَدُهُمَا أَفْضَل كَانَ أَوْلى كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنِيبَ أَجْنَبِيًّا فَفِي تَمْكِينِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا صَاحِبُ العُدَّةِ الأَقْيَسُ: أَنَّهُ لا يُمَكَّنُ إلا بِرِضَاءِ الآخَرِ. قَال وَلوْ غَابَ الوَليُّ الأَقْرَبُ وَوَكَّل مَنْ يُصَلي فَنَائِبُهُ أَحَقُّ مِنْ البَعِيدِ الحَاضِرِ، خِلافًا لأَبِي حَنِيفَةَ.
 فرع: قَال أَصْحَابُنَا: لا حَقَّ للزَّوْجِ فِي الإِمَامَةِ فِي صَلاةِ الجِنَازَةِ. هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ شَيْخُ الأَصْحَابِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَصَاحِبُ البَيَانِ وَآخَرُونَ. وَشَذَّ عَنْهُمْ صَاحِبُ العُدَّةِ فَقَال: الزَّوْجُ أَوْلى بِالإِمَامَةِ عَليْهَا مِنْ المَوْلى المُعْتَقِ، خِلافًا لأَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ دَليلنَا أَنَّهُ أَشَدُّ شَفَقَةً وَأَتَمُّ إرْثًا، وَهَذَا الذِي قَالهُ صَاحِبُ العُدَّةِ شَاذٌّ مُخَالفٌ لمَا قَالهُ الأَصْحَابُ.

 

ج / 5 ص -128-       فرع: لوْ أَوْصَى المَيِّتُ أَنْ يُصَليَ عَليْهِ أَجْنَبِيٌّ، فَهَل يُقَدَّمُ المُوصَى لهُ عَلى أَقَارِبِ المَيِّتِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الأَصْحَابِ لا يُقَدَّمُ. وَلا تَصِحُّ هَذِهِ الوَصِيَّةُ؛ لأَنَّ الصَّلاةَ عَليْهِ حَقٌّ للقَرِيبِ وَوُلاتِهِ فَلا تُنَفَّذُ وَصِيَّتَهُ بِإِسْقَاطِهَا، كَمَا لوْ أَوْصَى إلى أَجْنَبِيٍّ بِتَزْوِيجِ بِنْتِهِ وَلهَا عَصَبَةٌ فَإِنَّهُ لا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ.
والطريق الثاني: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ خَرَّجَهُ عَلى الوَجْهَيْنِ: فِيمَنْ أَوْصَى أَجْنَبِيًّا فِي أُمُورِ أَوْلادِهِ وَلهُمْ جَدٌّ الصحيح: لا يَصِحُّ والثاني: يَصِحُّ فَعَلى هَذَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ إلى مَنْ يُصَلي عَليْهِ وَيُقَدَّمُ عَلى القَرِيبِ.
قَال الرَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا أَفْتَى مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى صَاحِبُ الغَزَاليِّ، وَالمَشْهُورُ فِي المَذْهَبِ بُطْلانُ هَذِهِ الوَصِيَّةِ، هَذَا مَذْهَبُنَا. قَال صَاحِبُ الحَاوِي: وَيُقَدَّمُ الوَصِيُّ عَلى القَرِيبِ، يُحْكَى هَذَا عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلمَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالكٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَحْمَدَ قَال: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْل مَالكٍ، قَال: وَقَال الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الفُقَهَاءِ: الأَوْليَاءُ أَوْلى مِنْ المُوصَى لهُ، قَال: وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلةِ الوَصِيَّةِ بِتَزْوِيجِ بِنْتِهِ. وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ تَقْدِيمَ الوَصِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَأَنَسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرَقْمَ وَأَبِي بَرْزَةَ وَأُمِّ سَلمَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَاحْتُجَّ لهُمْ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَصَّى أَنْ يُصَليَ عَليْهِ عُمَرُ فَصَلى، وَوَصَى عُمَرُ أَنْ يُصَليَ عَليْهِ صُهَيْبٌ فَصَلى، وَوَصَّتْ عَائِشَةُ أَنْ يُصَليَ عَليْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَصَلى، وَكَذَلكَ غَيْرُهُمْ رضي الله عنهم
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الصَّلاةَ حَقٌّ للقَرِيبِ فَلا تَنْفُذُ الوَصِيَّةُ بِإِسْقَاطِهِ كَالإِرْثِ، وَغَيْرِهِ. وَالجَوَابُ عَنْ وَصَايَا الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّ أَوْليَاءَهُمْ أَجَازُوا الوَصِيَّةَ وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: إذَا لمْ يَحْضُرْ المَيِّتَ عَصَبَةٌ لهُ، وَلا ذَوُو رَحِمٍ، وَلا مُعْتِقٌ بَل حَضَرَهُ أَجَانِبُ قُدِّمَ الحُرُّ عَلى العَبْدِ فِي الصَّلاةِ عَليْهِ، وَيُقَدَّمُ البَالغُ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا عَلى الصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ اجْتَمَعَ رِجَالٌ أَحْرَارٌ قُدِّمَ أَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ عَلى مَا سَبَقَ تَفْصِيلهُ فِي بَابِهِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا وَتَنَازَعُوا أَقُرِعَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لمْ يَحْضُرْ إلا عَبْدٌ قُدِّمَ مَنْ يُقَدَّمُ فِي، سَائِرِ الصَّلوَاتِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا وَتَنَازَعُوا أُقْرِعَ، صَرَّحَ بِهِ المُتَوَلي وَغَيْرُهُ.
 فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَقَّ الأَقَارِبِ بِالصَّلاةِ عَليْهِ أَبُوهُ، ثُمَّ جَدُّهُ، ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ، وَإِنْ سَفَل، ثُمَّ الأَخُ عَلى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ، وَأَشَارَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ إلى وَجْهٍ بَعِيدٍ غَرِيبٍ أَنَّ الأَخَ مُقَدَّمٌ عَلى الابْنِ، مَأْخُوذٌ مِنْ وِلايَةِ النِّكَاحِ وَالمَشْهُورُ الذِي نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ فِي كُل طُرُقِهِمْ، يُقَدَّمُ الابْنُ وَبَنُوهُ عَلى الأَخِ، وَقَدْ نَقَل القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ الإِجْمَاعَ عَلى تَقْدِيمِ الابْنِ عَلى الأَخِ، وَقَال مَالكٌ رحمه الله: الابْنُ أَوْلى مِنْ الأَبِ وَالأَخُ، وَابْنُ الأَخِ أَوْلى مِنْ الجَدِّ. دَليلنَا القِيَاسُ عَلى وِلايَةِ النِّكَاحِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَلهَا ابْنٌ وَزَوْجٌ فَحَقُّ الصَّلاةِ عَليْهَا للابْنِ دُونَ الزَّوْجِ وَبِهِ قَال مَالكٌ

 

ج / 5 ص -129-       وَالليْثُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: زَوْجُهَا أَوْلى مِنْ ابْنِهَا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ ابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ زَوْجِهَا، قَال: وَابْنُ العَمِّ أَحَقُّ مِنْ الزَّوْجِ، وَقَال الشَّعْبِيُّ: الوَليُّ أَحَقُّ مِنْ الزَّوْجِ، وَقَال ابْنُ أَبِي ليْلى: الزَّوْجُ أَحَقُّ، دَليلنَا عَلى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الابْنَ عَصَبَةٌ وَأَكْمَل شَفَقَةً فَقُدِّمَ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الابْنَ يَلزَمُهُ طَاعَةُ أَبِيهِ فَلا يَتَقَدَّمُ عَليْهِ، وَالجَوَابُ أَنَّ هَذَا يُنْتَقَضُ بِالجَدِّ مَعَ الأَبِ فَإِنَّ الابْنَ مُقَدَّمٌ عَليْهِ مَعَ أَنَّهُ يَلزَمُهُ طَاعَتُهُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ صَلاةِ الجِنَازَةِ الطَّهَارَةُ، وَسَتْرُ العَوْرَةِ؛ لأَنَّهَا صَلاةٌ فَشَرْطٌ فِيهَا الطَّهَارَةُ وَسَتْرُ العَوْرَةِ كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ، وَمِنْ شَرْطِهَا القِيَامُ وَاسْتِقْبَال القِبْلةِ؛ لأَنَّهَا صَلاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ فِيهَا القِيَامُ وَاسْتِقْبَال القِبْلةِ مَعَ القُدْرَةِ كَسَائِرِ الفَرَائِضِ".
 الشرح: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ عَلى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لصِحَّةِ صَلاةِ الجِنَازَةِ طَهَارَةُ الحَدَثِ، وَطَهَارَةُ النَّجَسِ فِي البَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالمَكَانِ وَسَتْرُ العَوْرَةِ وَاسْتِقْبَال القِبْلةِ إلا فِي شِدَّةِ الخَوْفِ، وَأَمَّا القِيَامُ فَالصَّحِيحُ: المَشْهُورُ الذِي نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ أَنَّهُ رُكْنٌ لا تَصِحُّ إلا بِهِ إلا فِي شِدَّةِ الخَوْفِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ آخَرَانِ للخُرَاسَانِيَّيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ يَجُوزُ القُعُودُ فِيهَا مَعَ القُدْرَةِ عَلى القِيَامِ كَالنَّوَافِل؛ لأَنَّهَا ليْسَتْ مِنْ فَرَائِضِ الأَعْيَانِ، خَرَّجُوهُ مِنْ إبَاحَةِ جَنَائِزَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ والثاني: إنْ تَعَيَّنَتْ عَليْهِ لمْ يَصِحَّ إلا قَائِمًا، وَإِلا صَحَّتْ قَاعِدًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ المَسْأَلةِ مَبْسُوطَةً فِي بَابِ التَّيَمُّمِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَيُشْتَرَطُ لصِحَّتِهَا تَقْدِيمُ غُسْل المَيِّتِ، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ. قَال المُتَوَلي وَغَيْرُهُ: حَتَّى لوْ مَاتَ فِي بِئْرٍ أَوْ انْهَدَمَ عَليْهِ مَعْدِنٌ وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ وَغُسْلهُ لمْ يُصَل عَليْهِ، وَتَصِحُّ الصَّلاةُ بَعْدَ غُسْلهِ قَبْل تَكْفِينِهِ وَيُكْرَهُ. صَرَّحَ بِهِ البَغَوِيّ وَآخَرُونَ
فرع: قَوْل المُصَنِّفِ: وَمِنْ شَرْطِهَا القِيَامُ قَدْ يُنْكَرُ عَليْهِ تَسْمِيَتُهُ شَرْطًا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ رُكْنٌ وَفَرْضٌ، كَمَا قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ وَكَأَنَّهُ سَمَّاهُ شَرْطًا مَجَازًا لاشْتِرَاكِ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ فِي أَنَّ الصَّلاةَ لا تَصِحُّ إلا بِهِمَا، وَقَدْ سَمَّى أَبُو حَامِدٍ قِرَاءَةَ الفَاتِحَةِ هُنَا شَرْطًا وَهُوَ مَجَازٌ، كَمَا ذَكَرْنَا وقوله؛ لأَنَّهَا صَلاةٌ مَفْرُوضَةٌ احْتِرَازٌ مِنْ نَافِلةِ السَّفَرِ وقوله: مَعَ القُدْرَةِ، احْتِرَازٌ مِنْ فَرِيضَةِ شِدَّةِ الخَوْفِ.
 فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ صَلاةَ الجِنَازَةِ لا تَصِحُّ إلا بِطَهَارَةٍ، وَمَعْنَاهُ إنْ تَمَكَّنَ مِنْ الوُضُوءِ لمْ تَصِحَّ إلا بِهِ، وَإِنْ عَجَزَ تَيَمَّمَ، وَلا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ مَعَ إمْكَانِ المَاءِ وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الوَقْتِ، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ المُنْذِرِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لهَا مَعَ وُجُودِ المَاءِ إذَا خَافَ فَوْتَهَا إنْ اشْتَغَل بِالوُضُوءِ وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَسَالمٍ وَالزُّهْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَيَحْيَى الأَنْصَارِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالليْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
وَقَال الشَّعْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالشِّيعَةُ: يَجُوزُ صَلاةُ الجِنَازَةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ إمْكَانِ الوَضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ؛ لأَنَّهَا دُعَاءٌ، قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ هَذَا الذِي قَالهُ الشَّعْبِيُّ قَوْلٌ خَرَقَ بِهِ

 

ج / 5 ص -130-       الإِجْمَاعَ، فَلا يُلتَفَتُ إليْهِ، دَليلنَا عَلى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ قَوْل اللهِ عَزَّ وَجَل {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً}[التوبة: 84]فَسَمَّاهُ صَلاةً وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم "صَلوْا عَلى صَاحِبِكُمْ"وَقَوْلهُ صلى الله عليه وسلم "مَنْ صَلى عَلى جِنَازَةٍ"وَغَيْرُ ذَلكَ مِنْ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي تَسْمِيَتِهَا صَلاةً وَقَدْ قَال اللهُ عَزَّ وَجَل {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}[المائدة: 6]الآيَةُ وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم "لا يَقْبَل اللهُ صَلاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ"؛ وَلأَنَّهَا لمَّا افْتَقَرَتْ إلى شُرُوطِ الصَّلاةِ دَل عَلى أَنَّهَا صَلاةٌ، وَكَوْنُ مُعْظَمِ مَقْصُودِهَا الدُّعَاءَ لا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنَهَا صَلاةً. وَدَليلنَا عَلى أَبِي حَنِيفَةَ وَمُوَافِقِيهِ قوله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَهَذَا عَامٌّ فِي صَّلاةِ الجِنَازَةِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى يَثْبُتَ تَخْصِيصٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ المَسْأَلةُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ وَبِاَللهِ التَّوْفِيقُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ فِيهَا عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُل، وَعِنْدَ عَجِيزَةِ المَرْأَةِ، وَقَال أَبُو عَليٍّ الطَّبَرِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُل، وَعِنْدَ عَجِيزَةِ المَرْأَةِ، لمَا رُوِيَ "أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه صَلى عَلى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَعَلى امْرَأَةٍ فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا فَقَال لهُ العَلاءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا كَانَتْ صَلاةُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى امْرَأَةٍ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَعَلى الرَّجُل عِنْدَ رَأْسِهِ؟ قَال: نَعَمْ"فَإِنْ اجْتَمَعَ جَنَائِزُ قُدِّمَ إلى الإِمَامِ أَفْضَلهُمْ فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ قُدِّمَ الرَّجُل إلى الإِمَامِ ثُمَّ الصَّبِيُّ ثُمَّ الخُنْثَى ثُمَّ المَرْأَةُ، لمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّهُ صَلى عَلى تِسْعِ جَنَائِزَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ فَجَعَل الرَّجُل مِمَّا يَلي الإِمَامَ وَالنِّسَاءَ مِمَّا يَلي القِبْلةَ "وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّ زَيْدًا بْنَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وَأُمَّهُ أَمَّ كُلثُومٍ بِنْتِ عَليٍّ رضي الله عنهم مَاتَا فَصَلى عَليْهِمَا سَعِيدُ بْنُ العَاصِ، فَجَعَل زَيْدًا مِمَّا يَليهِ، وَأُمَّهُ مِمَّا يَلي القِبْلةَ، وَفِي القَوْمِ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ، وَنَحْوٌ مِنْ ثَمَانِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالأَفْضَل أَنْ يُفْرِدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِصَلاةٍ فَإِنْ صَلى عَليْهِمْ صَلاةً وَاحِدَةً جَازَ؛ لأَنَّ القَصْدَ مِنْ الصَّلاةِ عَليْهِمْ الدُّعَاءُ وَذَلكَ يَحْصُل بِالجَمْعِ فِي صَلاةٍ وَاحِدَةٍ".
 الشرح:
حَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَآخَرُونَ قَال التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَذَا الذِي ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُل هُوَ الصَّوَابُ المَوْجُودُ فِي كُتُبِ الحَدِيثِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْل الصَّيْدَلانِيِّ فِي هَذَا الرَّجُل: وَقَفَ عِنْدَ صَدْرِهِ فَغَلطٌ صَرِيحٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد أَنَّ هَذِهِ المَرْأَةَ كَانَتْ أَنْصَارِيَّةً، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهَا قُرَشِيَّةٌ، وَذَكَر البَيْهَقِيُّ الرِّوَايَتَيْنِ؛ فَلعَلهَا كَانَتْ مِنْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَلهَا خَلفٌ مِنْ الأُخْرَى أَوْ زَوْجِهَا مِنْ الأُخْرَى.
وَأَمَّا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ صَلى عَلى تِسْعِ جَنَائِزَ فَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ
وَأَمَّا:حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ فَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ كَمَا هُوَ فِي المُهَذَّبِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَلفْظُهُمَا "قَال عَمَّارُ: شَهِدْتُ جِنَازَةَ أُمِّ كُلثُومٍ وَابْنِهَا فَجَعَل الغُلامَ مِمَّا يَلي الإِمَامَ فَأَنْكَرْت ذَلكَ، وَفِي القَوْمِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وَأَبُو قَتَادَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالوا: هَذِهِ السُّنَّةُ "وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَعَمَّارٌ هَذَا تَابِعِيٌّ مَوْلًى لبَنِي هَاشِمٍ وَاتَّفَقُوا عَلى تَوْثِيقِهِ. وَعَجِيزَةُ المَرْأَةِ أَليَاهَا بِفَتْحِ العَيْنِ وَكَسْرِ الجِيمِ.

 

ج / 5 ص -131-       أَمَّا الأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِل:
 إحداها: السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ عِنْدَ عَجِيزَةِ المَرْأَةِ بِلا خِلافٍ للحَدِيثِ؛ وَلأَنَّهُ أَبْلغُ فِي صِيَانَتِهَا عَنْ البَاقِينَ وَفِي الرَّجُل وَجْهَانِ: الصحيح: بِاتِّفَاقِ المُصَنِّفِينَ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا المُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ يَقِفُ، عِنْدَ رَأْسِهِ والثاني: قَالهُ أَبُو عَليٍّ الطَّبَرِيُّ عِنْدَ صَدْرِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ إمَامِ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليِّ وَقَطَعَ بِهِ السَّرَخْسِيُّ، قَال الصَّيْدَلانِيُّ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَئِمَّتِنَا، وَقَال المَاوَرْدِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا البَصْرِيُّونَ: عِنْدَ صَدْرِهِ، وَالبَغْدَادِيُّونَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْتُهُ عَنْ الجُمْهُورِ، وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَنَقَلهُ القَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ الأَصْحَابِ قَال أَصْحَابُنَا: وَليْسَ للشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ نَصٌّ. مِمَّنْ قَال هَذَا المَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ وَصَاحِبُ الحَاوِي وَالقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ البَغَوِيّ فِي كِتَابِهِ "شَرْحُ السُّنَّةِ "عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَالخُنْثَى كَالمَرْأَةِ فَيَقِفُ عِنْدَ عَجِيزَتِهِ فَلوْ خَالفَ هَذَا فَوَقَفَ عِنْدَ عَجِيزَةِ الرَّجُل أَوْ غَيْرِهَا أَوْ رَأْسِ المَرْأَةِ وَالخُنْثَى أَوْ غَيْرِهِ صَحَّتْ صَلاتُهُ لكِنَّهُ خِلافُ السُّنَّةِ. هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبِنَا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُل وَالمَرْأَةِ جَمِيعًا وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: عِنْدَ عَجِيزَةِ المَرْأَةِ وَصَدْرِ الرَّجُل وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُل، وَلمْ يَذْكُرْ ابْنُ المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْهُ غَيْرَهَا وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَنَقَل العَبْدَرِيُّ عَنْ مَالكٍ عِنْدَ وَسَطِ الرَّجُل وَمَنْكِبَيْ المَرْأَةِ قَال ابْنُ المُنْذِرِ وَقَال الحَسَنُ البَصْرِيُّ: يَقِفُ حَيْثُ شَاءَ مِنْهُمَا.
دَليلنَا عَلى الجَمِيعِ حَدِيثُ أَنَسٍ المَذْكُورُ فِي الكِتَابِ. وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَال "صَليْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَليْهَا وَسَطَهَا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.
المسألة الثانية: إذَا حَضَرَتْ جَنَائِزُ، جَازَ أَنْ يُصَلى عَليْهِمْ دَفْعَةً صَلاةً وَاحِدَةً وَجَازَ أَنْ يُصَلى عَلى كُل وَاحِدٍ وَحْدَهُ، وَدَليلهُ فِي الكِتَابِ وَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّ الأَفْضَل أَنْ يُفْرِدَ كُل وَاحِدٍ بِصَلاةٍ إلا صَاحِبَ التَّتِمَّةِ، فَجَزَمَ بِأَنَّ الأَفْضَل أَنْ يُصَلى عَليْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَنَّ فِيهِ تَعْجِيل الدَّفْنِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَالمَذْهَبُ الأَوَّل،؛ لأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَرْجَى للقَبُول وَليْسَ هُوَ تَأْخِيرًا كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا، فَإِنْ كَانُوا نَوْعًا وَاحِدًا وَأَرَادَ أَنْ يُصَليَ عَليْهِمْ صَلاةً وَاحِدَةً فَفِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِهِمْ طَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَسَائِرُ العِرَاقِيِّينَ وَكَثِيرُونَ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ، وَنَقَلهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ عَنْ مُعْظَمِ الأَئِمَّةِ أَنَّهُ يُوضَعُ الجَمِيعُ بَيْنَ يَدَيْ الإِمَامِ بَعْضُهَا خَلفَ بَعْضٍ ليُحَاذِي الإِمَامُ الجَمِيعَ.
والطريق الثاني: حَكَاهُ أَكْثَرُ الخُرَاسَانِيِّينَ فِيهِ وَجْهَانِ: وَبَعْضُهُمْ يَقُول قَوْلانِ: أصحهما: هَذَا والثاني: وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ يُوضَعُ الجَمِيعُ صَفًّا وَاحِدًا رَأْسُ كُل وَاحِدٍ عِنْدَ رِجْل الآخَرِ وَيَجْعَل الإِمَامُ جَمِيعَهُمْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَقِفُ فِي مُحَاذَاةِ الآخِرِ مِنْهُمْ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَعِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا فَعِنْدَ رَأْسِهِ أَوْ صَدْرِهِ عَلى الوَجْهِ الآخَرِ، وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً تَعَيَّنَ الطَّرِيقُ الأَوَّل بِلا خِلافٍ، وَإِذَا وُضِعُوا كَذَلكَ، فَمَنْ يُقَدَّمُ إلى الإِمَامِ؟ يُنْظَرُ إنْ جَاءُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً نَظَرَ إنْ اخْتَلفَ النَّوْعُ قُدِّمَ الرَّجُل أَوْ

 

ج / 5 ص -132-       الرِّجَال ثُمَّ الصَّبِيُّ أَوْ الصِّبْيَانُ ثُمَّ الخَنَاثَى ثُمَّ النِّسَاءُ كَمَا فِي صَلاتِهِمْ وَرَاءَ الإِمَامِ، وَإِنْ حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ خَنَاثَى قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ وَالمُتَوَلي وَغَيْرُهُمْ يُوضَعُونَ صَفًّا وَاحِدًا رَأْسُ كُل وَاحِدٍ عِنْدَ رِجْل الآخَرِ حَتَّى لا تُقَدَّمُ امْرَأَةٌ عَلى رَجُلٍ وَإِنْ اتَّحَدَ النَّوْعُ قُدِّمَ إلى الإِمَامِ أَفْضَلهُمْ.
قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَالمُعْتَبَرُ فِي الفَضِيلةِ هُنَا الوَرَعُ وَالتَّقْوَى وَسَائِرُ الخِصَال المَرْعِيَّةِ فِي الصَّلاةِ عَليْهِ وَالغَلبَةُ عَلى الظَّنِّ كَوْنُهُ أَقْرَبُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالى، قَال الإِمَامُ رحمه الله: وَلا يَليقُ بِهَذَا البَابِ التَّقْدِيمُ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَالوا وَلا يُقَدَّمُ بِمُجَرَّدِ الحُرِّيَّةِ، فَلا يُقَدَّمُ حُرٌّ عَلى عَبْدٍ لمُجَرَّدِ الحُرِّيَّةِ، بِخِلافِ الإِمَامَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الوِلايَاتِ فَإِنَّ الحُرَّ مُقَدَّمٌ فِيهَا؛ لأَنَّهَا تَصَرُّفٌ وَالحُرُّ أَدْخَل فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنْ العَبْدِ، وَمُطْلقُ التَّصَرُّفِ فِي كُل شَيْءٍ، وَإِذَا مَاتَ الحُرُّ وَالعَبْدُ اسْتَوَيَا فِي انْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِمَا وَحِينَئِذٍ فَالوَرَعُ أَقْرَبُ مَا يُعْتَبَرُ فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي كُل الخِصَال وَرَضِيَ الوَرَثَةُ بِتَقْدِيمِ بَعْضِهِمْ قُدِّمَ، وَإِنْ تَنَازَعُوا أَقُرِعَ بَيْنَهُمْ، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالأَصْحَابُ، هَذَا كُلهُ إذَا جَاءَتْ الجَنَائِزُ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنْ جَاءَتْ مُتَعَاقِبَةً قُدِّمَ إلى الإِمَامِ أَسْبَقُهَا وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا، هَذَا إنْ اتَّحَدَ النَّوْعُ.
أَمَّا إذَا اخْتَلفَ فَيُقَدَّمُ بِالذُّكُورَةِ، فَلوْ حَضَرَتْ امْرَأَةٌ أَوَّلًا ثُمَّ حَضَرَ رَجُلٌ أَوْ صَبِيٌّ قُدِّمَ عَليْهَا إلى الإِمَامِ؛ لأَنَّ مَرْتَبَةَ الرِّجَال التَّقَدُّمُ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ وُضِعَتْ بِقُرْبِ الإِمَامِ نُحِّيَتْ وَقُدِّمَ إليْهِ الرَّجُل وَالصَّبِيُّ. وَأَمَّا إذَا سَبَقَ الصَّبِيُّ فَوَجْهَانِ: الصحيح: الذِي نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ مُعْظَمُ الأَصْحَابِ أَنَّ الصَّبِيَّ يُقَدَّمُ إلى الإِمَامِ وَيَكُونُ الرَّجُل وَرَاءَهُ بِخِلافِ المَرْأَةِ؛ لأَنَّ الصَّبِيَّ لهُ مَوْقِفٌ فِي الصَّفِّ بِخِلافِ المَرْأَةِ والوجه الثاني: حَكَاهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَبِهِ قَطَعَ المَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ أَنَّ الرَّجُل يُقَدَّمُ فَيُنَحَّى الصَّبِيُّ، وَيُقَدَّمُ الرَّجُل كَمَا فِي المَرْأَةِ، وَالمَذْهَبُ الأَوَّل، وَالخُنْثَى مُؤَخَّرٌ عَنْ الصَّبِيِّ مُقَدَّمٌ عَلى المَرْأَةِ وَإِنْ كَانَتْ جِنَازَتُهُ سَابِقَةٌ.
المسألة الثالثة: فِيمَنْ يُصَلى عَليْهِمْ، إذَا صَلى عَليْهِمْ دَفْعَةً فَإِنْ كَانَ الإِمَامُ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الأَوْليَاءِ، فَإِنْ رَضُوا بِصَلاةٍ وَاحِدَةٍ قُدِّمَ وَليُّ السَّابِقَةِ، رَجُلًا كَانَ مَيِّتُهُ أَوْ امْرَأَةً. وَإِنْ حَضَرَتْ الجَنَائِزُ دَفْعَةً أَقُرِعَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لمْ يَرْضَوْا بِصَلاةٍ وَاحِدَةٍ صَلى كُل وَاحِدٍ عَلى مَيِّتِهِ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الأَصْحَابِ: لوْ افْتَتَحَ الإِمَامُ الصَّلاةَ عَلى الجِنَازَةِ ثُمَّ حَضَرَتْ أُخْرَى وَهُمْ فِي الصَّلاةِ: تُرِكَتْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلاتِهِ عَلى الأُولى ثُمَّ يُصَليَ عَلى الثَّانِيَةِ. قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَلا يُعْتَدُّ بِالتَّكْبِيرِ الذِي كَانَ قَبْل حُضُورِهِ؛ لأَنَّهُ لمْ يَنْوِ هَذِهِ الثَّانِيَةَ وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: لوْ تَقَدَّمَ المُصَلي عَلى الجِنَازَةِ عَليْهَا وَهِيَ حَاضِرَةٌ، أَوْ صَلى عَلى القَبْرِ وَتَقَدَّمَ عَليْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أصحهما: بُطْلانُ صَلاتِهِ، وَنَقَل الرَّافِعِيُّ الاتِّفَاقَ عَلى تَصْحِيحِهِ، وَقَال المُتَوَلي وَجَمَاعَةٌ: إنْ جَوَّزْنَا تَقَدُّمَ المَأْمُومِ عَلى الإِمَامِ جَازَ هَذَا وَإِلا فَلا عَلى الصَّحِيحِ، وَلوْ صَلى المَأْمُومُ قُدَّامَ الإِمَامِ وَقُدَّامَ الجِنَازَةِ. فَإِنْ أَبْطَلنَا صَلاةَ المُنْفَرِدِ إذَا تَقَدَّمَ عَلى الجِنَازَةِ فَهَذَا أَوْلى، وَإِلا فَفِيهِ القَوْلانِ المَشْهُورَانِ فِي تَقَدُّمِ المَأْمُومِ عَلى الإِمَامِ الصَّحِيحُ بُطْلانُهَا فَحَصَل مِنْ هَذَا كُلهِ أَنَّهُ مَتَى تَقَدَّمَ عَلى الجِنَازَةِ أَوْ القَبْرِ أَوْ الإِمَامِ فَالصَّحِيحُ بُطْلانُ صَلاتِهِ.

 

ج / 5 ص -133-       فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِ الجَنَائِزِ إذَا صَلى عَليْهَا دَفْعَةً
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُقَدَّمُ إلى الإِمَامِ الرِّجَال ثُمَّ الصِّبْيَانُ ثُمَّ الخَنَاثَى، قَال ابْنُ المُنْذِرِ وَمِمَّنْ قَال يُقَدَّمُ الرِّجَال مِمَّا يَلي الإِمَامَ وَالنِّسَاءُ وَرَاءَهُمْ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَليٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وَأَبُو قَتَادَةَ وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى الأَنْصَارِيُّ وَمَالكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، قَال وَبِهِ أَقُول، قَال: وَقَال الحَسَنُ: وَالقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: يُجْعَل النِّسَاءُ مِمَّا يَلي الإِمَامَ وَالرِّجَال مِمَّا يَلي القِبْلةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةَ أَنَّ المَرْأَةَ تُقَدَّمُ إلى الإِمَامِ عَلى الصَّبِيِّ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: قَوْل المُصَنِّفِ: فَإِنْ صَلى عَليْهِمْ صَلاةً وَاحِدَةً جَازَ. هَكَذَا مُكَرَّرٌ لا حَاجَةَ إليْهِ فَإِنَّهُ سَبَقَ فِي قَوْلهِ: فَإِنْ اجْتَمَعَ جَنَائِزُ قُدِّمَ إلى الإِمَامِ أَفْضَلهُمْ، وَكَأَنَّهُ أَعَادَهُ ليَذْكُرَ دَليلهُ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ دَليلهُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا أَرَادَ الصَّلاةَ نَوَى الصَّلاةَ عَلى المَيِّتِ، وَذَلكَ فَرْضٌ؛ لأَنَّهَا صَلاةٌ، فَوَجَبَ لهَا النِّيَّةُ كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا لمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ عَلى المَيِّتِ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولى بِأُمِّ القُرْآنِ"وَالتَّكْبِيرَاتُ الأَرْبَعُ وَاجِبَةٌ، وَالدَّليل عَليْهِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ لزِمَ قَضَاؤُهَا، وَلوْ لمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لمْ يَجِب قَضَاؤُهَا، كَتَكْبِيرَاتِ العِيدِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ مَعَ كُل تَكْبِيرَةٍ لمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عَلى الجِنَازَةِ فِي كُل تَكْبِيرَةٍ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَالحَسَنِ بْنِ عَليٍّ رضي الله عنهما مِثْلهُ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَدْ رَأَى رَجُلًا فَعَل ذَلكَ، فَقَال "أَصَابَ السُّنَّةَ "؛ وَلأَنَّهَا تَكْبِيرَةٌ لا تَتَّصِل بِسُجُودٍ وَلا قُعُودٍ فَسُنَّ لهَا رَفْعُ اليَدِ كَتَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ".
 الشرح:
أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ هَكَذَا الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَمُخْتَصَرِ المُزَنِيّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ شَيْخُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ وَرَوَاهُ الحَاكِمُ وَالبَيْهَقِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْل الحَدِيثِ، لا يَصِحُّ الاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِهِ، لكِنْ قَدْرُ الحَاجَةِ مِنْهُ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ صَحِيحٌ فَفِي صَحِيحَيْ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ عَنْ جَابِرٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى النَّجَاشِيِّ وَكَبَّرَ عَليْهِ أَرْبَعًا".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ عَليْهِ أَرْبَعًا"وَرُوِيَ التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي الصَّحِيحِ وَأَمَّا الأَثَرُ المَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ فَرَوَاهُ1 وَالأَثَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ وَقَوْل: المُصَنِّفِ لأَنَّهَا تَكْبِيرَةٌ؛ لا تَتَّصِل بِسُجُودٍ وَلا قُعُودٍ احْتَرَزَ عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل والسقط: البيهقي وغيره (ط).

 

ج / 5 ص -134-       تَكْبِيرَاتِ السُّجُودِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَمِنْ التَّشَهُّدِ الأَوَّل فَإِنَّ المَشْهُورَ فِي المَذْهَبِ أَنَّهُ لا يَرْفَعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلكَ، وَفِي هَذَا كُلهِ خِلافٌ سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: لا تَصِحُّ صَلاةُ الجِنَازَةِ إلا بِالنِّيَّةِ لحَدِيثِ "إنَّمَا الأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ"وَقِيَاسًا عَلى غَيْرِهَا. قَال أَصْحَابُنَا: وَصِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ التَّكْبِيرِ أَدَاءَ الصَّلاةِ عَلى هَذَا المَيِّتِ أَوْ هَؤُلاءِ المَوْتَى إنْ كَانُوا جَمْعًا، سَوَاءٌ عَرَفَ عَدَدَهُمْ أَمْ لا، وَيَجِبُ نِيَّةُ الاقْتِدَاءِ إنْ كَانَ مَأْمُومًا، وَهَل يُفْتَقَرُ إلى نِيَّةِ الفَرِيضَةِ؟ فِيهِ الوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ، ذَكَرَهُ الصَّيْدَلانِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَهَل يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لكَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ، أَمْ يَكْفِي مُطْلقُ نِيَّةِ الفَرْضِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ الصحيح: الاكْتِفَاءُ بِمُطْلقِ نِيَّةِ الفَرْضِ وَلا يُفْتَقَرُ إلى تَعْيِينِ المَيِّتِ، وَأَنَّهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ رَجُلٌ، بَل يَكْفِيهِ نِيَّةُ الصَّلاةِ عَلى هَذَا المَيِّتِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا وَنَوَى الصَّلاةَ عَلى مَنْ يُصَلي عَليْهِ الإِمَامُ كَفَاهُ، صَرَّحَ بِهِ البَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، وَلوْ عَيَّنَ المَيِّتَ وَأَخْطَأَ بِأَنْ نَوَى زَيْدًا فَكَانَ عَمْرًا، أَوْ الرَّجُل فَكَانَتْ امْرَأَةً أَوْ عَكْسَهُ لمْ تَصِحَّ صَلاتُهُ بِالاتِّفَاقِ؛ لأَنَّهُ نَوَى غَيْرَ المَيِّتِ.
وَإِنْ نَوَى الصَّلاةَ عَلى هَذَا زَيْدٍ فَكَانَ عَمْرًا فَوَجْهَانِ لتَعَارُضِ الإِشَارَةِ وَالنِّيَّةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي أَوَائِل بَابِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ أصحهما: الصِّحَّةُ. قَال البَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: وَلا يَضُرُّ اخْتِلافُ نِيَّةِ الإِمَامِ وَالمَأْمُومِ، فَإِذَا نَوَى الصَّلاةَ عَلى حَاضِرٍ، وَالمَأْمُومُ عَلى غَائِبٍ وَعَكْسُهُ أَوْ نَوَى غَائِبًا وَنَوَى المَأْمُومُ آخَرَ صَحَّتْ صَلاتُهُمَا كَمَا لوْ صَلى الظُّهْرَ خَلفَ مُصَلي العَصْرَ.
الثانية: التَّكْبِيرَاتُ الأَرْبَعُ أَرْكَانٌ لا تَصِحُّ هَذِهِ الصَّلاةُ إلا بِهِنَّ،، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَليْهِ وَقَدْ كَانَ لبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ خِلافٌ فِي أَنَّ التَّكْبِيرَ المَشْرُوعَ خَمْسٌ أَوْ أَرْبَعٌ أَمْ غَيْرُ ذَلكَ، ثُمَّ انْقَرَضَ ذَلكَ الخِلافُ وَأَجْمَعَتْ الأُمَّةُ الآنَ عَلى أَنَّهُ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ بِلا زِيَادَةٍ وَلا نَقْصٍ. قَال أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَبَّرَ خَمْسًا - فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا - لمْ تَبْطُل صَلاتُهُ؛ لأَنَّهُ ليْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ كَلامِ الآدَمِيِّ نَاسِيًا وَلا يَسْجُدُ للسَّهْوِ، كَمَا لوْ كَبَّرَ أَوْ سَبَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أحدهما: تَبْطُل صَلاتُهُ، وَبِهِ قَطَعَ القَفَّال فِي شَرْحِهِ التَّلخِيصَ وَصَاحِبُهُ القَاضِي وَصَاحِبُهُ المُتَوَلي،؛ لأَنَّهُ زَادَ رُكْنًا فَأَشْبَهَ مَنْ زَادَ رُكُوعًا. والثاني: لا تَبْطُل وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الأَكْثَرُونَ وَصَحَّحَهُ البَغَوِيّ وَالشَّاشِيُّ وَصَاحِبُ البَيَانِ وَآخَرُونَ، وَنَقَلهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الأَكْثَرِينَ بَل زَادَ ابْنُ سُرَيْجٍ فَقَال: صَحَّتْ الأَحَادِيثُ بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَخَمْسٍ، وَهُوَ مِنْ الاخْتِلافِ المُبَاحِ، الجَمِيعُ جَائِزٌ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه
أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ خَمْسًا"وَلأَنَّهُ ليْسَ إخْلالًا بِصُورَةِ الصَّلاةِ فَلمْ تَبْطُل بِهِ، كَمَا لوْ زَادَ تَكْبِيرًا فِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلوَاتِ - وَلوْ كَانَ مَأْمُومًا فَكَبَّرَ إمَامُهُ خَمْسًا - فَإِنْ قُلنَا بِقَوْل ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الجَمِيعَ جَائِزٌ تَابَعَهُ، وَإِنْ قُلنَا: الخَامِسَةُ تَبْطُل فَارَقَهُ، فَإِنْ تَابَعَهُ بَعْدَ ذَلكَ بَطَلتْ صَلاتُهُ، وَإِنْ قُلنَا بِالمَذْهَبِ إنَّهَا لا تُشَرَّعُ وَلا تَبْطُل بِهَا

 

ج / 5 ص -135-       الصَّلاةُ لمْ يُفَارِقْهُ وَلمْ يُتَابِعْهُ، فِيهِ طَرِيقَانِ: المَذْهَبُ: لا يُتَابِعُهُ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ أَوْ الأَكْثَرُونَ والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول قَوْلانِ: أصحهما: لا يُتَابِعُهُ والثاني: يُتَابِعُهُ لتَأَكُّدِ المُتَابَعَةِ.
وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الطَّرِيقَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ، فَإِنْ قُلنَا: لا يُتَابِعُهُ فَهَل يُسَلمُ فِي الحَال أَمْ يَنْتَظِرُهُ ليُسَلمَ مَعَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الحَاوِي وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا أحدهما: يُفَارِقُهُ، كَمَا لوْ قَامَ الإِمَامُ إلى خَامِسَةٍ وأصحهما: يَنْتَظِرُهُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الشَّامِل وَغَيْرُهُ لتَأَكُّدِ مُتَابَعَتِهِ، وَيُخَالفُ القِيَامَ إلى خَامِسَةٍ؛ لأَنَّهُ يَجِبُ مُتَابَعَتُهُ فِي الأَفْعَال، وَلا يُمْكِنُ فِي الخَامِسَةِ وَلا يَلزَمُ مُتَابَعَتُهُ فِي الأَذْكَارِ التِي ليْسَتْ مَحْسُوبَةٌ للمَأْمُومِ.
المسألة الثانية1: السُّنَّةُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي كُل تَكْبِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ الأَرْبَعِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَصِفَةُ الرَّفْعِ وَتَفَارِيعُهُ كَمَا سَبَقَتْ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلاةِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَيَجْمَعُ يَدَيْهِ عَقِبَ كُل تَكْبِيرَةٍ مِنْ الأَرْبَعِ وَيَجْعَلهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ، وَاضِعًا اليُمْنَى عَلى اليُسْرَى كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى جِنَازَةٍ فَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلى اليُسْرَى"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَقَال غَرِيبٌ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرِ
قَال ابْنُ المُنْذِرِ رحمه الله: ثَبَتَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ أَرْبَعًا"وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَالحَسَنُ بْنُ عَليٍّ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى وَالبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَامِرٍ وَمُحَمَّدُ ابْنُ الحَنَفِيَّةِ وَعَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: يُكَبِّرُ خَمْسًا، وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالكٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: يُكَبِّرُ ثَلاثًا، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ نَحْوُهُ، وَقَال بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ المُزَنِيّ: لا يُنْقَصُ مِنْ ثَلاثِ تَكْبِيرَاتِ وَلا يُزَادُ عَلى سَبْعٍ.
وَقَال أَحْمَدُ: لا يُنْقَصُ مِنْ أَرْبَعٍ وَلا يُزَادُ عَلى سَبْعٍ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: يُكَبِّرُ مَا يُكَبِّرُ الإِمَامُ، وَقَال عَليٌّ رضي الله عنه: يُكَبِّرُ سِتًّا قَال: وَلوْ كَبَّرَ الإِمَامُ خَمْسًا [وَ] اخْتَلفَ القَائِلونَ بِأَرْبَعَ فَقَال الثَّوْرِيُّ وَمَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لا يُتَابِعُهُ، وَقَال أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُتَابِعُهُ، وَقَال ابْنُ المُنْذِرِ: بِالأَرْبَعِ أَقُول، هَذَا نَقْل ابْنِ المُنْذِرِ.
وَقَال العَبْدَرِيُّ: مِمَّنْ قَال بِخَمْسِ تَكْبِيرَاتٍ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَحُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ وَالشِّيعَةُ، وَعَنْ عَليٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَبَّرَ عَلى أَهْل بَدْرٍ سِتًّا، وَعَلى غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ خَمْسًا، وَعَلى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلى أَبِي قَتَادَةَ سَبْعًا، وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَقَال دَاوُد رحمه الله: إنْ شَاءَ خَمْسًا، وَإِنْ شَاءَ أَرْبَعًا، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةَ أَنَّهُ لا يُتَابِعُ الإِمَامَ فِي زِيَادَةٍ عَلى الأَرْبَعِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُتَابِعُهُ إلى خَمْسٍ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرت الثانية وهي التكبيرات الأربع فتكون هذه الثالثة لاسيما وقد قال الشارح (ففيه مسائل) (ط).

 

ج / 5 ص -136-       وَالمَشْهُورُ عَنْهُ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا، فَإِنْ زَادَ إمَامُهُ يُتَابِعُهُ إلى سَبْعٍ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: فِي رَفْعِ الأَيْدِي فِي تَكْبِيرَاتِ الجِنَازَةِ
قَال ابْنُ المُنْذِرِ فِي كِتَابَيْهِ الإِشْرَافِ وَالإِجْمَاعِ: أَجْمَعُوا عَلى أَنَّهُ يَرْفَعُ فِي أَوَّل تَكْبِيرَةٍ، وَاخْتَلفُوا فِي سَائِرِهَا، فَمَنْ قَال بِالرَّفْعِ فِي كُل تَكْبِيرَةٍ ابْنُ عُمَرَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَعَطَاءٌ وَسَالمٌ وَالزُّهْرِيُّ وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَبِهِ أَقُول، قَال: وَقَال الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لا يَرْفَعُ إلا فِي الأُولى، وَاخْتُلفَ فِيهِ عَنْ مَالكٍ، هَذَا نَقْل ابْنِ المُنْذِرِ، وَمِمَّنْ قَال: يَرْفَعُ فِي كُل تَكْبِيرَةٍ دَاوُد، وَمِمَّنْ قَال: يَخْتَصُّ بِالأُولى الحَسَنُ بْنُ صَالحٍ، وَاحْتَجَّ لهُمْ بِحَدِيثَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما:
"كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلى عَلى الجِنَازَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي أَوَّل تَكْبِيرَةٍ"زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ "ثُمَّ لا يَعُودُ "رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا رحمهم الله بِمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَالجَوَابُ عَنْ حَدِيثَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا ضَعِيفَانِ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَقْرَأُ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولى فَاتِحَةَ الكِتَابِ، لمَا رَوَى جَابِرٌ، وَهِيَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهَا؛ لأَنَّهَا صَلاةٌ يَجِبُ فِيهَا القِيَامُ، فَوَجَبَ فِيهَا القِرَاءَةُ كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ وَفِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَقْرَأُ سُورَةً قَصِيرَةً؛ لأَنَّ كُل صَلاةٍ قَرَأَ فِيهَا الفَاتِحَةَ قَرَأَ فِيهَا السُّورَةَ كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ والثاني: لا يَقْرَأُ لأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلى الحَذْفِ وَالاخْتِصَار، وَالسُّنَّةُ فِي قِرَاءَتِهَا الإِسْرَارُ لمَا رُوِيَ "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلى بِهِمْ عَلى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ القُرْآنِ فَيَجْهَرُ بِهَا، ثُمَّ صَلى عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلمَّا انْصَرَفَ قَال إنَّمَا جَهَرْتُ بِهَا لتَعْلمُوا أَنَّهَا هَكَذَا"وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَليَ بِالليْل أَوْ بِالنَّهَارِ، وَقَال أَبُو القَاسِمِ الدَّارَكِيُّ: إنْ كَانَتْ الصَّلاةُ بِالليْل جَهَرَ فِيهَا؛ لأَنَّ لهَا نَظِيرًا بِالنَّهَارِ يُسِرُّ فِيهَا فَجَهَرَ فِيهَا كَالعِشَاءِ، وَهَذَا لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ صَلاةَ العِشَاءِ رَاتِبَةٌ فِي وَقْتٍ مِنْ الليْل وَلهَا نَظِيرٌ رَاتِبٌ فِي وَقْتٍ مِنْ النَّهَارِ يُسَنُّ فِي نَظِيرِهَا الإِسْرَارُ فَسُنَّ فِيهَا الجَهْرُ وَصَلاةُ الجِنَازَةِ صَلاةٌ وَاحِدَةٌ، ليْسَ لهَا وَقْتٌ تَخْتَصُّ بِهِ مِنْ ليْلٍ أَوْ نَهَارٍ، بَل تُفْعَل فِي الوَقْتِ الذِي يُوجَدُ سَبَبُهَا، وَسُنَنُهَا الإِسْرَارُ، فَلمْ يَخْتَلفْ فِيهَا الليْل وَالنَّهَارُ، وَفِي دُعَاءِ التَّوَجُّهِ وَالتَّعَوُّذِ عِنْدَ القِرَاءَةِ وَجْهَانِ: قَال عَامَّةُ أَصْحَابِنَا: لا يَأْتِي بِهِ لأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلى الحَذْفِ وَالاخْتِصَارِ فَلا تَحْتَمِل التَّطْوِيل وَالإِكْثَارَ، وَقَال شَيْخُنَا أَبُو الطَّيِّبِ: يَأْتِي بِهِ؛ لأَنَّ التَّوَجُّهَ يُرَادُ لافْتِتَاحِ الصَّلاةِ وَالتَّعَوُّذَ يُرَادُ للقِرَاءَةِ وَفِي هَذِهِ الصَّلاةِ افْتِتَاحٌ وَقِرَاءَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَأْتِيَ بِذَكَرِهِمَا".
الشَّرْحُ: حَدِيثُ جَابِرٍ سَبَقَ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَيُغْنِي عَنْهُ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ حَدِيثُ "ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ صَلى عَلى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَقَال: لتَعْلمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ بِهَذَا اللفْظِ، وَقَوْلهُ: سُنَّةٌ هُوَ كَقَوْل الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَيَكُونُ مَرْفُوعًا إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى المَذْهَبِ الصَّحِيحِ، الذِي قَالهُ جُمْهُورُ العُلمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الأُصُول، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الأُصُوليِّينَ وَالمُحَدِّثِينَ. وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، فَجَهَرَ بِالقِرَاءَةِ وَقَال: إنَّمَا جَهَرْتُ لتَعْلمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ، يَعْنِي لتَعْلمُوا أَنَّ القِرَاءَةَ مَأْمُورٌ بِهَا.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ التِي ذَكَرَهَا المُصَنِّفُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِزِيَادَةِ الصَّلاةِ عَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَوَاهَا

 

ج / 5 ص -137-       البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَرَوَاهَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَعَنْ رِجَالٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ رضي الله عنهما قَال "السُّنَّةُ فِي الصَّلاةِ عَلى الجِنَازَةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولى بِأُمِّ القُرْآنِ مُخَافَتَةً، ثُمَّ يُكَبِّر ثَلاثًا، وَالتَّسْليمُ عِنْدَ الآخِرَةِ"رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، وَأَبُو أُمَامَةَ هَذَا صَحَابِيٌّ. وَقَوْل المُصَنِّفِ؛ لأَنَّهَا صَلاةٌ يَجِبُ فِيهَا القِيَامُ، احْتِرَازٌ مِنْ الطَّوَافِ وَسُجُودِ التِّلاوَةِ وَالشُّكْرِ وقوله: كُل صَلاةٍ قَرَأَ فِيهَا الفَاتِحَةَ، احْتِرَازٌ مِنْ الطَّوَافِ وَالسُّجُودِ أَيْضًا.
وقوله: الدَّارَكِيُّ، هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ تَفَقَّهَ عَلى أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ وَتَفَقَّهَ عَليْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسْفَرايِينِيّ وَعَامَّةُ شُيُوخِ بَغْدَادَ وَغَيْرُهُمْ قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْ الدَّارَكِيِّ تُوُفِّيَ ليْلةَ الجُمُعَةِ لثَلاثَ عَشْرَةَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَثَلاثِمِائَةٍ وَهُوَ ابْنُ نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ سَنَةٍ.
أما الأحكام: فَقِرَاءَةُ الفَاتِحَةِ فَرْضٌ فِي صَلاةِ الجِنَازَةِ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا وَالأَفْضَل أَنْ يَقْرَأَهَا بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولى، فَإِنْ قَرَأَهَا بَعْدَ تَكْبِيرَةٍ أُخْرَى غَيْرَ الأُولى جَازَ، صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ عَنْهُمْ، قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ المُجَرَّدِ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: وَأُحِبُّ إذَا كَبَّرَ عَلى الجِنَازَةِ أَنْ يَقْرَأَ بِأُمِّ القُرْآنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولى، وَرَوَى المُزَنِيّ فِي الجَامِعِ قَال: وَأُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِأُمِّ القُرْآنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولى، قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ :، وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّ قِرَاءَةَ أُمِّ القُرْآنِ مُسْتَحَبَّةٌ إلا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالوا: هِيَ وَاجِبَةٌ لا تَصِحُّ صَلاةٌ إلا بِهَا، قَال: فَيَجِبُ عَلى هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْل الشَّافِعِيِّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ [القِرَاءَةَ] فِي الأُولى، وَأَمَّا أَصْل قِرَاءَتِهَا فَوَاجِبَةٌ، فَرَجَعَ الاسْتِحْبَابُ إلى مَوْضِعِهَا، هَذَا كَلامُ القَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَمُوَافِقِيهِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ عَلى المَسْأَلةِ فِي مَوْضِعَيْنِ، قَال فِي الأُولى مِنْهُمَا فِي أَوَائِل كِتَابِ الجَنَائِزِ كَمَا نَقَلهُ القَاضِي وَغَيْرُهُ عَنْهُ، وَقَال فِي آخِرِ كِتَابِ الجَنَائِزِ: وَيَقْرَأُ فَاتِحَةَ الكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولى، وَقَال فِي مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ: يُكَبِّرُ وَيَقْرَأُ فَاتِحَةَ الكِتَابِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ فَهَذَا النَّصُّ مَعَ النَّصِّ الثَّانِي فِي الأُمِّ مُحْتَمَلانِ؛ لاشْتِرَاطِهَا فِي الأُولى وَمُحْتَمَلانِ أَنَّ الأَفْضَل كَوْنُهَا فِي الأُولى لكِنْ يَتَعَيَّنُ أَنَّ المُرَادَ أَنَّ الأَفْضَل كَوْنُهَا فِي الأُولى للجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَصِّهِ الأَوَّل فِي الأُمِّ كَمَا قَالهُ القَاضِي وَمُوَافِقُوهُ.
وَاعْلمْ أَنَّ عِبَارَةَ المُصَنِّفِ هُنَا وَفِي التَّنْبِيهِ، وَعِبَارَةُ أَكْثَرِ الأَصْحَابِ أَنْ يَقْرَأَ الفَاتِحَةَ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الأُولى، وَظَاهِرُهُ اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا فِي الأُولى، لكِنَّ مُجْمَل مَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَمُوَافِقُوهُ أَنَّ أَصْل الفَاتِحَةِ وَاجِبٌ، وَكَوْنُهَا فِي الأُولى أَفْضَل، وَتَجُوزُ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ إخْلاءِ الأُولى مِنْهَا وَقَدْ يُفْهَمُ هَذَا مِنْ قَوْل المُصَنِّفِ فِي التَّنْبِيهِ: وَالوَاجِبُ مِنْ ذَلكَ النِّيَّةُ وَالتَّكْبِيرَاتُ وَقِرَاءَةُ الفَاتِحَةِ، وَلمْ يَقُل وَقِرَاءَتُهَا فِي الأُولى وَلوْ كَانَ يَرَى ذَلكَ شَرْطًا لقَالهُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى اسْتِحْبَابِ التَّأْمِينِ عَقِبَ الفَاتِحَةِ هُنَا كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ وَمِمَّنْ نَقَل الاتِّفَاقَ عَليْهِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ. وَفِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ وَجْهَانِ ذَكَرَ المُصَنِّفُ دَليلهُمَا، وَذَكَرَهُمَا مَعَ المُصَنِّفِ جَمَاعَاتٌ مِنْ العِرَاقِيِّينَ وَالخُرَاسَانِيِّينَ وَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّ الأَصَحَّ أَنَّهُ لا يُسْتَحَبُّ، وَبِهِ قَطَعَ

 

ج / 5 ص -138-       جُمْهُورُ المُصَنِّفِينَ، وَنَقَل إمَامُ الحَرَمَيْنِ إجْمَاعَ العُلمَاءِ عَليْهِ، وَنَقَلهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ الأَصْحَابِ مُطْلقًا والثاني: يُسْتَحَبُّ سُورَةٌ قَصِيرَةٌ، وَيُسْتَدَل لهُ سِوَى مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ بِمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلى المُوصِليُّ فِي كِتَابِهِ نَحْوَ كُرَّاسَةٍ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ "عَنْ طَلحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْنٍ قَال صَليْتُ خَلفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكِتَابِ وَسُورَةً فَجَهَرَ فِيهَا حَتَّى سَمِعْنَا، فَلمَّا انْصَرَفَ أَخَذْتُ بِثَوْبِهِ فَسَأَلتُهُ عَنْ ذَلكَ فَقَال: سُنَّةٌ وَحَقٌّ"إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا: دُعَاءُ الاسْتِفْتَاحِ فَفِيهِ الوَجْهَانِ المَذْكُورَانِ فِي الكِتَابِ، وَذَكَرَهُمَا طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مَعَ المُصَنِّفِ وَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّ الأَصَحَّ أَنَّهُ لا يَأْتِي بِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ المُسْتَحَبَّ تَرْكُهُ وَبِهَذَا قَطَعَ جُمْهُورُ المُصَنِّفِينَ، وَهُوَ المَنْقُول عَنْ مُتَقَدِّمِي الأَصْحَابِ كَمَا قَالهُ المُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ وَأَمَّا: التَّعَوُّذُ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أصحهما: عِنْدَ المُصَنِّفِ وَأَكْثَرِ العِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لا يُسْتَحَبُّ وأصحهما: عِنْدَ الخُرَاسَانِيِّينَ وَجَمَاعَاتٍ مِنْ العِرَاقِيِّينَ اسْتِحْبَابِهِ، وَقَطَعَ بِهِ مِنْ العِرَاقِيِّينَ صَاحِبُ الحَاوِي، وَصَحَّحَهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَالبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ، وَقَطَعَ بِهِ الرُّويَانِيُّ فِي الحِليَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لقَوْل اللهِ عَزَّ وَجَل "فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"وَبِالقِيَاسِ عَلى غَيْرِهَا مَعَ أَنَّهُ مُخْتَصَرٌ لا تَطْوِيل فِيهِ فَهُوَ يُشْبِهُ التَّأْمِينَ.
وَأَمَّا: الجَهْرُ وَالإِسْرَارُ فَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّهُ يُسِرُّ بِغَيْرِ القِرَاءَةِ مِنْ الصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالدُّعَاءِ وَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرَاتِ وَالسَّلامِ، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلى أَنَّهُ يُسِرُّ بِالقِرَاءَةِ نَهَارًا، وَفِي الليْل وَجْهَانِ: ذَكَرَ المُصَنِّفُ دَليلهُمَا "أَصَحُّهُمَا "عِنْدَ جُمْهُورِ الأَصْحَابِ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُسَرُّ أَيْضًا كَالدُّعَاءِ.
والثاني: يُسْتَحَبُّ الجَهْرُ، قَالهُ الدَّارَكِيُّ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسْفَرايِينِيّ وَصَاحِبَاهُ المَحَامِليُّ وَسُليْمٌ الرَّازِيّ فِي الكِفَايَةِ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَنَصْرٌ المَقْدِسِيُّ فِي كِتَابَيْهِ التَّهْذِيبِ وَالكَافِي، وَالصَّيْدَلانِيّ، وَصَحَّحَهُ القَاضِي حُسَيْنٌ وَاسْتَحْسَنَهُ السَّرَخْسِيُّ، وَالمَذْهَبُ الأَوَّل، وَلا يُغْتَرُّ بِكَثْرَةِ القَائِلينَ بِالجَهْرِ فَهُمْ قَليلونَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلى الآخَرِينَ، وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي المُخْتَصَرِ الإِسْرَارُ؛ ؛ لأَنَّهُ قَال: وَيُخْفِي القِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ، وَيَجْهَرُ بِالتَّسْليمِ، هَذَا نَصُّهُ، وَلمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الليْل وَالنَّهَارِ، وَلوْ كَانَا يَفْتَرِقَانِ لذَكَرَهُ، وَيَحْتَجُّ لهُ مِنْ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ الذِي ذَكَرْنَاهُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُصَلي عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ، لمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَهُوَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهَا لأَنَّهَا صَلاةٌ فَوَجَبَ فِيهَا الصَّلاةُ عَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ".
 الشرح:
قَال المُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الأَصْحَابِ: الصَّلاةُ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرْضٌ فِيهَا، لا تَصِحُّ إلا بِهِ، وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ، صَرَّحَ بِهِ السَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَالي، وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الصَّلاةِ عَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاجِبَةً فِيهَا هُوَ المَشْهُورُ الذِي قَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِمْ، إلا

 

ج / 5 ص -139-       السَّرَخْسِيُّ، فَإِنَّهُ نَقَل فِي الأَمَالي عَنْ المَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ فِيهَا، وَالصَّوَابُ الأَوَّل. قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله أَقَلهَا: اللهُمَّ صَل عَلى مُحَمَّدٍ. وَلا تَجِبُ عَلى الآل عَلى المَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهَا تَجِبُ، حَكَاهُ الغَزَاليُّ وَغَيْرُهُ، وَنَقَل المُزَنِيّ فِي المُخْتَصَرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللهَ وَيُصَلي عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَدْعُو للمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، هَذَا نَصُّهُ:
فَأَمَّا: الدُّعَاءُ للمُؤْمِنِينَ فَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى اسْتِحْبَابِهِ إلا مَا انْفَرَدَ بِهِ إمَامُ الحَرَمَيْنِ مِنْ حِكَايَةٍ تَرَدَّدَ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَلمْ يَقُل أَحَدٌ بِإِيجَابِهِ. وَأَمَّا الحَمْدُ للهِ فَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّهُ لا يَجِبُ، وَفِي اسْتِحْبَابِهِ ثَلاثُ طُرُقٍ: أحدها: وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ لا يُسْتَحَبُّ قَالوا: لأَنَّهُ ليْسَ مَوْضِعَهُ والثاني: يُسْتَحَبُّ وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَبِهِ قَطَعَ القَاضِي حُسَيْنٌ وَالفُورَانِيُّ وَالبَغَوِيُّ وَالمُتَوَلي وَغَيْرُهُمْ والثالث: فِيهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: يُسْتَحَبُّ والثاني: لا يُسْتَحَبُّ، وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الطَّرِيقَ المَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ، وَمَنْ قَال بِالطَّرِيقِ الأَوَّل أَنْكَرُوا نَقْل المُزَنِيِّ، وَقَالوا: هَذَا التَّحْمِيدُ فِي هَذَا المَوْضِعِ لا يُعْرَفُ للشَّافِعِيِّ، بَل غَلطَ المُزَنِيّ فِي نَقْلهِ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: اتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا عَلى أَنَّ مَا نَقَلهُ المُزَنِيّ هُنَا غَيْرُ سَدِيدٍ، وَمَنْ قَال بِالاسْتِحْبَابِ، قَالوا: لمْ يَنْقُلهَا المُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ كِتَابٍ بَل سَمِعَهَا مِنْهُ سَمَاعًا وَلا يَضُرُّ كَوْنُهُ لا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ المُزَنِيَّ ثِقَةٌ، وَرِوَايَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولةٌ فَهَذِهِ طُرُقُ الأَصْحَابِ.
وَالأَصَحُّ: اسْتِحْبَابُ التَّحْمِيدِ كَمَا نَقَلهُ المُزَنِيّ، قَال الأَصْحَابُ: فَإِذَا قُلنَا بِالاسْتِحْبَابِ بَدَأَ بِالتَّحْمِيدِ، ثُمَّ الصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الدُّعَاءِ للمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، فَإِنْ قَدَّمَ بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ جَازَ وَكَانَ تَارِكًا للأَفْضَل وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: اسْتَدَل المُصَنِّفُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَبَقَ بَيَانُهُ، وَأَنَّ ذِكْرَ الصَّلاةِ فِيهِ غَرِيبٌ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدِيثًا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالصَّلاةِ، لكِنَّهُ أَيْضًا ضَعِيفٌ، قَال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَال ابْنُ مَعِينٍ: رَحْمَةُ اللهِ عَليْهِ: مُطَرَّفُ بْنُ مَازِنٍ كَذَّابٌ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَدْعُو للمَيِّتِ فِي التَّكْبِيرَةِ الثَّالثَةِ، لمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ قَال:
"صَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى جِنَازَةٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُول: اللهُمَّ اغْفِرْ لحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرْنَا وَأُنْثَانَا"وَفِي بَعْضِهَا "اللهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلى الإِسْلامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلى الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ"وَهُوَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهَا؛ لأَنَّ القَصْدَ مِنْ هَذِهِ الصَّلاةِ الدُّعَاءُ للمَيِّتِ، فَلا يَجُوزُ الإِخْلال بِالمَقْصُودِ، وَأَدْنَى الدُّعَاءِ مَا يَقَعُ عَليْهِ الاسْمُ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُول مَا رَوَاهُ أَبُو قَتَادَةَ وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله قَال: يَقُول: "اللهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدَيْكَ خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيَا وَسَعَتِهَا - وَمَحْبُوبُهَا وَأَحِبَّاؤُهُ فِيهَا - إلى ظُلمَةِ القَبْرِ وَمَا هُوَ لاقِيهِ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولكَ، وَأَنْتَ أَعْلمُ بِهِ، اللهُمَّ نَزَل بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ وَأَصْبَحَ فَقِيرًا إلى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إليْكَ شُفَعَاءَ لهُ، اللهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، وَلقِّهِ بِرَحْمَتِكَ الأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ، حَتَّى تَبْعَثَهُ إلى جَنَّتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ"وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا جَازَ؛ لأَنَّهُ قَدْ نُقِل عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَدْعِيَةٌ مُخْتَلفَةٌ فَدَل عَلى أَنَّ الجَمِيعَ جَائِزٌ".

 

ج / 5 ص -140-       الشرح: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ عَلى أَنَّ الدُّعَاءَ فَرْضٌ فِي صَلاةِ الجِنَازَةِ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا وَأَقَلهُ مَا يَقَعُ عَليْهِ اسْمُ الدُّعَاءِ، وَهَل يُشْتَرَطُ تَخْصِيصُ المَيِّتِ بِالدُّعَاءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ.
 أَحَدُهُمَا: لا يُشْتَرَطُ بَل يَكْفِي الدُّعَاءُ للمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَيَدْخُل فِيهِ المَيِّتُ ضِمْنًا، حَكَاهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ عَنْ وَالدِهِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيِّ.
وَالثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ، وَنَقَلهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ عَنْ ظَاهِرِ كَلامِ الأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ تَخْصِيصُ المَيِّتِ بِالدُّعَاءِ، وَلا يَكْفِي الدُّعَاءُ للمُؤْمِنِينَ وَللمُؤْمِنَاتِ، فَيَقُول: اللهُمَّ اغْفِرْ لهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ، وَنَحْوَ ذَلكَ، وَاسْتَدَلوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال "إذَا صَليْتُمْ عَلى المَيِّتِ فَأَخْلصُوا لهُ الدُّعَاءَ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَمَحَل هَذَا الدُّعَاءِ التَّكْبِيرَةُ الثَّالثَةُ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِيهَا لا يُجْزِئُ فِي غَيْرِهَا بِلا خِلافٍ، وَليْسَ لتَخْصِيصِهِ بِهَا دَليلٌ وَاضِحٌ، وَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ لهَا دُعَاءٌ.
وأَمَّا: الأَفْضَل فَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالكٍ قَال "صَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى جِنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُول: اللهُمَّ اغْفِرْ لهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلهُ وَاغْسِلهُ بِالمَاءِ وَالثَّلجَ وَالبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنْ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَأَبْدِلهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلهُ الجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، قَال: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلكَ المَيِّتُ لدُعَاءِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم"رَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَزَادَ مُسْلمٌ فِي رِوَايَةٍ لهُ "وَقِه فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ القَبْرِ "وَذَكَرَ تَمَامَهُ.
وَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال "صَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى جِنَازَةٍ فَقَال:
اللهُمَّ اغْفِرْ لحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرْنَا وَأُنْثَانَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، اللهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلى الإِسْلامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلى الإِيمَانِ"رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ. قَال الحَاكِمُ: هُوَ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ، وَهَذَا لفْظُ رِوَايَةِ أَكْثَرِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد "فَأَحْيِهِ عَلى الإِيمَانِ "وَ "فَتَوَفَّهُ عَلى الإِسْلامِ "عَكْسُ رِوَايَةِ الجُمْهُورِ وَوَقَعَ فِي المُهَذَّبِ "فَأَحْيِهِ عَلى الإِسْلامِ "وَ "فَتَوَفَّهُ عَلى الإِسْلامِ "بِلفْظِ الإِسْلامِ فِيهِمَا، وَهَذَا تَحْرِيفٌ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إبْرَاهِيمَ الأَشْهَليِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ المَذْكُورَةُ فِي الكِتَابِ وَإِسْنَادُهَا ضَعِيفٌ. قَال التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ البُخَارِيُّ رحمه الله يَقُول: أَصَحُّ رِوَايَاتِ اللهُمَّ اغْفِرْ لحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا رِوَايَةُ الأَشْهَليِّ عَنْ أَبِيهِ قَال: وَقَال البُخَارِيُّ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالكٍ، وَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا. وَحَكَى البَيْهَقِيُّ عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ البُخَارِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَال: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي قَتَادَةَ فِي هَذَا البَابِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَأَصَحُّ مَا فِي البَابِ حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالكٍ.

 

ج / 5 ص -141-       وَمِنْهَا: حَدِيثُ وَاثِلةَ بْنِ الأَسْقَعِ رضي الله عنه قَال "صَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى رَجُلٍ مِنْ المُسْلمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُول: اللهُمَّ إنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَل جِوَارَكَ فَقِهِ فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ، وَأَنْتَ أَهْل الوَفَاءِ وَالحَمْدِ، فَاغْفِرْ لهُ وَارْحَمْهُ، إنَّك الغَفُورُ الرَّحِيمُ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.
وَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الجِنَازَةِ
"اللهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا، وَأَنْتَ خَلقْتَهَا، وَأَنْتَ هَدَيْتَهَا للإِسْلامِ، وَأَنْتَ قَبَضْتَ رُوحَهَا، وَأَنْتَ أَعْلمُ بِسِرِّهَا وَعَلانِيَتِهَا، جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لهُ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَهَذِهِ قِطْعَةٌ مِنْ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِيهِ.
قَال البَيْهَقِيُّ وَالمُتَوَلي وَآخَرُونَ مِنْ الأَصْحَابِ: التَقَطَ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَجْمُوعِ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ دُعَاءً وَرَتَّبَهُ وَاسْتَحَبَّهُ، وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ وَذَكَرَهُ المُصَنِّفُ هُنَا. وَفِي التَّنْبِيهِ وَسَائِرُ الأَصْحَابِ قَال: يَقُول "اللهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيَا وَسِعَتِهَا وَمَحْبُوبِهَا وَأَحِبَّائِهِ فِيهَا إلى ظُلمَةِ القَبْرِ وَمَا هُوَ لاقِيهِ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولكَ، وَأَنْتَ أَعْلمُ بِهِ، اللهُمَّ نَزَل بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، وَأَصْبَحَ فَقِيرًا إلى رَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إليْكَ شُفَعَاءَ لهُ، اللهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، وَلقِّهِ بِرَحْمَتِكَ رِضَاكَ، وَقِه فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَهُ، وَأَفْسَحِ لهُ فِي قَبْرِهِ، وَجَافِ الأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلقِّهِ بِرَحْمَتِك الأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ حَتَّى تَبْعَثَهُ إلى جَنَّتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ "قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ الزُّهْرِيُّ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ الكَافِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ قَال: اللهُمَّ هَذِهِ أَمَتُكَ. ثُمَّ يُنَسِّقُ الكَلامَ، وَلوْ ذَكَرَهَا عَلى إرَادَةِ الشَّخْصِ جَازَ. قَال أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ المَيِّتُ صَبِيًّا أَوْ صَبِيَّةً اقْتَصَرَ عَلى حَدِيثِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إلى آخِرِهِ، وَضَمَّ إليْهِ: اجْعَلهُ فَرَطًا لأَبَوَيْهِ وَسَلفًا وَذُخْرًا، وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا وَشَفِيعًا، وَثَقِّل بِهِ مَوَازِينَهُمَا وَأَفْرِغْ الصَّبْرَ عَلى قُلوبِهِمَا وَلا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ وَلا تَحْرِمْهُمَا أَجْرَهُ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: فِي أَلفَاظِ الفَصْل:
قَوْلهُ "خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيَا "هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ. قَال أَهْل اللغَةِ: هُوَ نَسِيمُ الرِّيحِ قَوْلهُ "إلى ظُلمَةِ القَبْرِ وَمَا هُوَ لاقِيهِ قَال القَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْليقِهِ: مَعْنَى وَمَا هُوَ لاقِيهِ هُوَ المَلكَانِ اللذَانِ يَدْخُلانِ عَليْهِ، وَهُمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ. قَوْلهُ "كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا أَنْتَ "قَال صَاحِبُ البَيَانِ رحمه الله: مَعْنَاهُ إنَّمَا دَعَوْنَاكَ؛ لأَنَّهُ كَانَ يَشْهَدُ قَوْلهُ "وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إليْكَ شُفَعَاءَ لهُ "قَال الأَزْهَرِيُّ رحمه الله: أَصْل الشَّفْعِ الزِّيَادَةُ. قَال فَكَأَنَّهُمْ طَلبُوا أَنْ يُزَادَ بِدُعَائِهِمْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إلى مَا لهُ بِتَوْحِيدِهِ وَعَمَلهِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"قَال فِي الأُمِّ: يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلمُ. وَقَال فِي البُوَيْطِيِّ: يَقُول: اللهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ، وَالتَّسْليمُ كَالتَّسْليمِ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ، لمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَال: "أَرَى ثَلاثَ خِلالٍ
كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلهُنَّ تَرَكَهَا النَّاسُ إحْدَاهَا :

 

ج / 5 ص -142-       التَّسْليمُ عَلى الجِنَازَةِ، مِثْل التَّسْليمِ فِي الصَّلاةِ،"وَالتَّسْليمُ وَاجِبٌ؛ لأَنَّهَا صَلاةٌ يَجِبُ لهَا الإِحْرَامُ فَوَجَبَ الخُرُوجُ مِنْهَا بِالسَّلامِ كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ وَهَل يُسَلمُ تَسْليمَةً وَاحِدَةً أَمْ تَسْليمَتَيْنِ عَلى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ".
 الشرح: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وقوله: لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ - هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّهَا - لغَتَانِ الفَتْحُ أَفْصَحُ. يُقَال: حَرَمَهُ وَأَحْرَمَهُ فَصِيحَتَانِ وقوله: لأَنَّهَا صَلاةٌ يَجِبُ لهَا الإِحْرَامُ فَوَجَبَ الخُرُوجُ مِنْهَا بِالسَّلامِ كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ، وَهَل يُسَلمُ تَسْليمَةً أَمْ تَسْليمَتَيْنِ؟ احْتِرَازٌ مِنْ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ صَلاةٌ وَلا يَفْتَقِرُ إلى تَكْبِيرَةِ إحْرَامٍ.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسْأَلتَانِ: إحداهما: للشَّافِعِيِّ هَذَانِ النَّصَّانِ المَذْكُورَانِ فِي الذِّكْرِ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّهُ لا يَجِبُ فِيهَا ذِكْرٌ، وَقَطَعَ الجُمْهُورُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِمْ بِاسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ فِيهَا.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي اسْتِحْبَابِهِ طَرِيقَيْنِ المَذْهَبُ: الاسْتِحْبَابُ والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: الاسْتِحْبَابُ والثاني: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ قَالهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ. وَالصَّوَابُ الاسْتِحْبَابُ. قَال صَاحِبُ البَيَانِ، قَال أَصْحَابُنَا: هَذَانِ النَّصَّانِ للشَّافِعِيِّ ليْسَا قَوْليْنِ، وَلا عَلى اخْتِلافِ حَالتَيْنِ، بَل ذَكَرَ الاسْتِحْبَابَ فِي مَوْضِعٍ وَأَغْفَلهُ فِي مَوْضِعٍ، وَكَذَا قَالهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ، وَإِذَا قُلنَا بِالاسْتِحْبَابِ لمْ يَتَعَيَّنْ لهُ دُعَاءٌ، وَلكِنْ يُسْتَحَبُّ هَذَا الذِي نَقَلهُ البُوَيْطِيُّ: اللهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ، هَكَذَا هُوَ فِي البُوَيْطِيِّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الجُمْهُورُ. وَزَادَ المَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ وَالمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ: وَاغْفِرْ لنَا وَلهُ.
وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: حَكَى أَبُو عَليِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ المُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يَقُولونَ فِي الرَّابِعَةِ: اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ النَّارِ. قَال: وَليْسَ ذَلكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ قَالهُ كَانَ حَسَنًا، وَدَليل اسْتِحْبَابِهِ "أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما كَبَّرَ عَلى جِنَازَةِ بِنْتٍ لهُ فَقَامَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ قَدْرَ مَا بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ يَسْتَغْفِرُ لهَا وَيَدْعُو، ثُمَّ قَال كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ هَكَذَا. وَفِي رِوَايَةٍ كَبَّرَ أَرْبَعًا فَمَكَثَ سَاعَةً حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُكَبِّرُ خَمْسًا، ثُمَّ سَلمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالهِ، فَلمَّا انْصَرَفَ قُلنَا لهُ فَقَال: إنِّي لا أَزِيدُكُمْ عَلى مَا رَأَيْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ، أَوْ هَكَذَا صَنَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم"رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَالبَيْهَقِيُّ قَال الحَاكِمُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
المسألة الثانية: السَّلامُ رُكْنٌ فِي صَلاةِ الجِنَازَةِ لا تَصِحُّ إلا بِهِ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا، لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَلحَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى الذِي ذَكَرْنَاهُ فِي المَسْأَلةِ الأُولى مَعَ قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم
"صَلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلي"
وَأَمَّا صِفَةُ السَّلامِ فَفِيهِ نَصَّانِ للشَّافِعِيِّ هُنَا، المَشْهُورُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَسْليمَتَانِ قَال الفُورَانِيُّ: وَهُوَ نَصُّهُ فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ. وَقَال فِي الأُمِّ: تَسْليمَةٌ وَاحِدَةٌ يَبْدَأُ بِهَا إلى يَمِينِهِ وَيَخْتِمُهَا مُلتَفِتًا إلى يَسَارِهِ

 

ج / 5 ص -143-       فَيُدِيرُ وَجْهَهُ وَهُوَ فِيهَا، هَذَا نَصُّهُ، وَقِيل: يَأْتِي بِهَا تِلقَاءَ وَجْهِهِ وَهُوَ أَشْهَرُ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَلا شَكَّ أَنَّ هَذَا الخِلافَ فِي صِفَةِ الالتِفَاتِ يَجْرِي فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ، إذَا قُلنَا يَقْتَصِرُ تَسْليمَةً، فَهَذَانِ نَصَّانِ للشَّافِعِيِّ. وَللأَصْحَابِ طَرِيقَانِ.
أحدهما: طَرِيقَةُ المُصَنِّفِ وَالعِرَاقِيِّينَ وَبَعْضِ الخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّ التَّسْليمَ هُنَا كَالتَّسْليمِ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ، فَيَكُونُ فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أصحها: يُسْتَحَبُّ تَسْليمَتَانِ.
والثاني: تَسْليمَةً والثالث: إنْ قَل الجَمْعُ أَوْ صَغُرَ المَسْجِدُ فَيُسَلمُ تَسْليمَةً وَإِلا فَتَسْليمَتَانِ والطريق الثاني: حَكَاهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّ هَذَا مُرَتَّبٌ عَلى سَائِرِ الصَّلوَاتِ - إنْ قُلنَا هُنَاكَ تَسْليمَةً - فَهُنَا أَوْلى وَإِلا فَقَوْلانِ "أَصَحُّهُمَا: "تَسْليمَتَانِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ أَصَحُّ؛ لأَنَّ الاقْتِصَارَ عَلى تَسْليمَةٍ وَاحِدَةٍ هُنَاكَ قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَهُنَا هُوَ نَصُّهُ فِي الإِمْلاءِ وَهُوَ مِنْ الكُتُبِ الجَدِيدَةِ. وَإِذَا قُلنَا تَسْليمَةً فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو عَليٍّ السِّنْجِيِّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ يَقُول السَّلامُ عَليْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلوَاتِ.
والثاني: يُسْتَحَبُّ الاقْتِصَارُ عَلى السَّلامِ؛ لأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلى التَّخْفِيفِ، وَلوْ قَال السَّلامُ عَليْك مِنْ غَيْرِ "كَمْ "ضَمِيرُ الجَمْعِ فَالمَذْهَبُ أَنَّهُ لا يُجْزِئُهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الجُمْهُورُ كَسَائِرِ الصَّلوَاتِ، وَحَكَى إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي إجْزَائِهِ تَرَدُّدًا،، وَالمَذْهَبُ مِنْ هَذَا كُلهِ أَنَّهُ يُشَرَّعُ فِي السَّلامِ هُنَا مَا يُشَرَّعُ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا أَدْرَكَ الإِمَامُ وَقَدْ سَبَقَهُ بِبَعْضِ الصَّلاةِ كَبَّرَ وَدَخَل مَعَهُ فِي الصَّلاةِ لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم
"مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا"وَيَقْرَأُ مَا يَقْتَضِيَهُ تَرْتِيبُ صَلاتِهِ، لا مَا يَقْرَأُ الإِمَامُ؛ لأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ صَلاتِهِ مَعَ المُتَابَعَةِ فَإِذَا سَلمَ الإِمَامُ أَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْ التَّكْبِيرَاتِ نَسَقًا مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ فِي أَحَدِ القَوْليْنِ،؛ لأَنَّ الجِنَازَةَ تُرْفَعُ قَبْل أَنْ يَفْرَغَ فَلا مَعْنًى للدُّعَاءِ بَعْدَ غَيْبَةِ المَيِّتِ وَيَدْعُو للمَيِّتِ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيُسَلمُ فِي القَوْل الثَّانِي؛ لأَنَّ غِيبَةَ المَيِّتِ لا تَمْنَعُ فِعْل الصَّلاةِ".
 الشرح
: هَذَا الحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ وقوله: نَسَقًا - بِفَتْحِ السِّينِ - أَيْ: مُتَتَابِعَاتٍ بِغَيْرِ ذِكْرٍ بَيْنَهُنَّ، وَقَوْلهُ كَبَّرَ وَدَخَل مَعَهُ فِي الحَال. وَلا يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَتَهُ الأُخْرَى فَيُكَبِّرَ مَعَهُ خِلافًا لأَبِي حَنِيفَةَ وَمُوَافِقِيهِ فِي قَوْلهِمْ يَنْتَظِرُ. قَال أَصْحَابُنَا: إذَا وَجَدَ المَسْبُوقُ الإِمَامَ فِي صَلاةِ الجِنَازَةِ كَبَّرَ فِي الحَال وَصَارَ فِي الصَّلاةِ وَلا يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَتَهُ الأُخْرَى فَيُكَبِّرَ مَعَهُ خِلافًا لأَبِي حَنِيفَة وَمُوَافِقِيهِ فِي قَوْلهِمْ يَنْتَظِرُ. قَال أَصْحَابُنَا إذَا وَجَدَ المَسْبُوقُ الإِمَامَ فِي صَلاةِ الجِنَازَةِ كَبَّرَ فِي الحَال وَصَارَ فِي الصَّلاةِ وَلا يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَةَ الإِمَامِ المُسْتَقْبَلةَ للحَدِيثِ المَذْكُورِ وَقِيَاسًا عَلى سَائِرِ الصَّلوَاتِ.
قَال أَصْحَابُنَا: فَإِذَا كَبَّرَ شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الفَاتِحَةِ ثُمَّ يُرَاعِي فِي بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ تَرْتِيبَ نَفْسِهِ لا مَا يَقُولهُ الإِمَامُ

 

ج / 5 ص -144-       لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، فَلوْ كَبَّرَ الإِمَامُ الثَّانِيَةَ عَقِبَ فَرَاغِ المَسْبُوقِ مِنْ الأُولى كَبَّرَ مَعَهُ الثَّانِيَةَ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ القِرَاءَةُ كَمَا لوْ رَكَعَ الإِمَامُ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ عَقِبَ إحْرَامِ المَسْبُوقِ. فَإِنَّهُ يَرْكَعُ مَعَهُ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَيَكُونُ مُدْرِكًا للتَّكْبِيرَتَيْنِ جَمِيعًا بِلا خِلافٍ. كَمَا يُدْرِكُ المَسْبُوقُ الرَّكْعَةَ بِالرُّكُوعِ. وَلوْ كَبَّرَ الإِمَامُ الثَّانِيَةَ وَالمَسْبُوقُ فِي أَثْنَاءِ الفَاتِحَةِ فَهَل يَقْطَعُ القِرَاءَةَ وَيُتَابِعَهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ وَتَكُونُ التَّكْبِيرَتَانِ حَاصِلتَيْنِ لهُ أَمْ يُتِمُّ القِرَاءَةَ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الأَكْثَرُونَ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الفُورَانِيُّ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالمُتَوَلي وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَصَاحِبَا المُسْتَظْهِرِيِّ وَالبَيَانِ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ: فِيهِ الوَجْهَانِ المَعْرُوفَانِ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ أحدهما: يُتِمُّهَا وَبِهِ قَطَعَ الغَزَاليُّ فِي الوَجِيزِ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ لمْ يُوَافَقْ عَليْهِ وأصحهما: يَقْطَعُ القِرَاءَةَ وَيُتَابِعُهُ، وَتَحْصُل لهُ التَّكْبِيرَتَانِ للعُذْرِ.
وَالطَّرِيقِ الثَّانِي: يَقْطَعُهَا وَيُتَابِعُهُ وَبِهَذَا قَطَعَ المَاوَرْدِيُّ وَالقَاضِي حُسَيْنٌ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمْ، فَإِذَا قُلنَا بِالمَذْهَبِ: إنَّهُ يَقْطَعُ القِرَاءَةَ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ مَعَ الإِمَامِ وَحَصَل لهُ التَّكْبِيرَتَانِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَهَل يَقْتَصِرُ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ عَلى الصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ وَمَا يَتَعَلقُ بِالتَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ؟ أَمْ يَضُمُّ إليْهِ تَتْمِيمَ الفَاتِحَةِ؟ فِيهِ احْتِمَالاتٍ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الشَّامِل أصحهما: وَهُوَ مُقْتَضَى كَلامِ الجُمْهُورِ أَنَّهُ يُقْتَصَرُ وَقَدْ سَقَطَتْ بَقِيَّةُ الفَاتِحَةِ، كَمَا سَقَطَتْ فِي بَاقِي الصَّلوَاتِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
أَمَّا إذَا سَلمَ الإِمَامُ وَقَدْ بَقِيَ عَليْهِ بَعْضُ التَّكْبِيرَاتِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا بَعْدَ سَلامِ الإِمَامِ وَلا تَصِحُّ صَلاتُهُ إلا بِتَدَارُكِهَا بِلا خِلافٍ، وَهَل يَقْتَصِرُ عَلى التَّكْبِيرَاتِ نَسَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ بَيْنَهُنَّ أَمْ يَأْتِي بِالأَذْكَارِ وَالدُّعَاءِ المَشْرُوعِ فِي حَقِّ الإِمَامِ وَالمُنْفَرِدِ وَالمَأْمُومِ المُوَافِقِ عَلى تَرْتِيبِ الأَذْكَارِ؟ فِيهِ القَوْلانِ اللذَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ أصحهما: أَنَّهُ يَأْتِي بِالصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ. عَلى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَتَرْتِيبُهُ. مِمَّنْ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ البَغَوِيّ وَالمُتَوَلي وَالرُّويَانِيُّ فِي الحِليَةِ وَالرَّافِعِيُّ فِي كِتَابَيْهِ الشَّرْحِ وَالمُجَرَّدِ وَغَيْرُهُمَا، وَجَزَمَ بِهِ الدَّارِمِيُّ فِي الاسْتِذْكَارِ. وَجَزَمَ المُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ بِالتَّكْبِيرَاتِ نَسَقًا. وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إلى تَرْجِيحِ هَذَا القَوْل فِي البُوَيْطِيِّ فَإِنَّهُ قَال: وَليَقْضِ مَا فَاتَهُ مِنْ التَّكْبِيرِ نَسَقًا مُتَتَابِعًا ثُمَّ يُسَلمُ. وَقَدْ قِيل: يَدْعُو بَيْنَهُمَا للمَيِّتِ. هَذَا نَصُّهُ. وَمِنْ البُوَيْطِيِّ نَقَلتُهُ وَكَذَا نَقَلهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ نَصِّهِ فِي البُوَيْطِيِّ.
قَال أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ المُجَرَّدِ: قَال أَصْحَابُنَا: يُكَبِّرُ بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ مُتَوَاليًا، قَال: وَرَأَيْتُ فِي البُوَيْطِيِّ يَقُول: وَليَقْضِ مَا فَاتَهُ مِنْ التَّكْبِيرَاتِ نَسَقًا مُتَتَابِعًا ثُمَّ يُسَلمُ قَال: وَقَدْ قِيل: يَدْعُو بَيْنَهُمَا للمَيِّتِ. قَال القَاضِي: فَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا أَنَّ المَسْأَلةَ عَلى قَوْليْنِ. هَذَا كَلامُ القَاضِي وَاعْلمْ أَنَّ القَوْليْنِ فِي وُجُوبِ الذِّكْرِ أحدهما: يَجِبُ وَلا تَصِحُّ الصَّلاةُ إلا بِهِ والثاني: لا يَجِبُ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ البَيَانِ.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا تُرْفَعَ الجِنَازَةُ حَتَّى يُتِمَّ المَسْبُوقُونَ مَا عَليْهِمْ، فَإِنْ رُفِعَتْ لمْ تَبْطُل صَلاتُهُمْ بِلا خِلافٍ، يُتِمُّونَهَا، وَإِنْ حُوِّلتْ الجِنَازَةُ عَنْ القِبْلةِ بِخِلافِ ابْتِدَاءِ الصَّلاةِ

 

ج / 5 ص -145-       فَإِنَّهُ لا يُحْتَمَل فِيهِ ذَلكَ، وَالجِنَازَةُ حَاضِرَةٌ وَالفَرْقُ أَنَّهُ يُحْتَمَل فِي الدَّوَامِ مَا لا يُحْتَمَل فِي الابْتِدَاءِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: لوْ تَخَلفَ المُقْتَدِي فَلمْ يُكَبِّرْ التَّكْبِيرَةَ الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالثَةَ حَتَّى كَبَّرَ الإِمَامُ التَّكْبِيرَةَ التِي بَعْدَهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلتْ صَلاتُهُ، صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيِّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَآخَرُونَ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ، قَالوا: لأَنَّ القُدْوَةَ فِي هَذِهِ الصَّلاةِ لا تَظْهَرُ إلا بِالمُوَافَقَةِ فِي التَّكْبِيرَاتِ وَكَأَنَّهُ تَخَلفَ بِرَكْعَةٍ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ صَلاةِ الجِنَازَةِ
ذَكَرْنَا اخْتِلافَهُمْ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ وَاخْتِلافَهُمْ فِي رَفْعِ الأَيْدِي فِيهَا وَاخْتِلافَ أَصْحَابِنَا فِي دُعَاءِ الافْتِتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ وَالسُّورَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ قِرَاءَةِ الفَاتِحَةِ وَبِهِ قَال أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد رحمهم الله، وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ المُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَحَمَّادٍ وَمَالكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ أَنَّهَا لا تَجِبُ، قَال: وَرُوِيَ ذَلكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم قَال: وَرَوَيْنَا عَنْ الحَسَنِ بْنِ عَليٍّ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَال: قِرَاءَةُ الفَاتِحَةِ فِي صَلاةِ الجِنَازَةِ ثَلاثُ مَرَّاتٍ قَال: وَرَوَيْنَا هَذَا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ.
قَال الحَسَنُ البَصْرِيُّ رضي الله عنه: اقْرَأْ الفَاتِحَةَ فِي كُل تَكْبِيرَةٍ، قَال وَرَوَيْنَا عَنْ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولى فَاتِحَةَ الكِتَابِ وَسُورَةً، وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، قَال ابْنُ المُنْذِرِ رحمه الله: عِنْدِي يَقْرَأُ الفَاتِحَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولى، هَذِهِ مَذَاهِبُهُمْ.
وَدَليلنَا عَلى جَمِيعِهِمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ وَهُوَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ رحمه الله. أَمَّا المَسْبُوقُ الذِي فَاتَهُ بَعْضُ التَّكْبِيرَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَلزَمُهُ تَدَارُكُ بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ بَعْدَ سَلامِ الإِمَامِ، وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ المُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَالكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، قَال ابْنُ المُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُول، قَال: وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لا يَقْضِيه، وَبِهِ قَال الحَسَنُ البَصْرِيُّ وَأَيُّوبُ وَالأَوْزَاعِيُّ، وَحَكَاهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ، قَال: وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله.
وَأَمَّا: المَسْبُوقُ الذِي أَدْرَكَ بَعْضَ صَلاةِ الإِمَامِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الحَال وَلا يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَةَ الإِمَامِ المُسْتَقْبَلةُ، وَبِهِ قَال الأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ وَرِوَايَةً عَنْ مَالكٍ، وَبِهِ قَال ابْنُ المُنْذِرِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ يَنْتَظِرُهُ حَتَّى يُكَبِّرَ للمُسْتَقْبَلةِ فَيُكَبِّرَهَا مَعَهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ الحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ وَمَالكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ وَإِسْحَاقَ.
وَأَمَّا: السَّلامُ فَذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا تَسْليمَتَانِ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَقَال أَكْثَرُ العُلمَاءِ: تَسْليمَةٌ وَاحِدَةٌ حَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَأَنَسِ

 

ج / 5 ص -146-       بْنِ مَالكٍ وَوَاثِلةَ بْنِ الأَسْقَعِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَأَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْل بْنِ حُنَيْفٍ وَالحَسَنِ البَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَابْنِ المُبَارَكِ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رضي الله عنهم.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا صُليَ عَلى المَيِّتِ بُودِرَ بِدَفْنِهِ، وَلا يُنْتَظَرُ حُضُورُ مَنْ يُصَلي عَليْهِ إلا الوَليَّ فَإِنَّهُ يُنْتَظَرُ إذَا لمْ يُخْشَ عَلى المَيِّتِ التَّغَيُّرُ، فَإِنْ خِيفَ عَليْهِ التَّغَيُّرُ لمْ يُنْتَظَرْ، وَإِنْ حَضَرَ مَنْ لمْ يُصَل عَليْهِ صَلى عَليْهِ، وَإِنْ حَضَرَ مَنْ صَلى مَرَّةً فَهَل يُعِيدُ الصَّلاةَ مَعَ مَنْ يُصَلي؟ فِيهِ وَجْهَانِ
أحدهما: يُسْتَحَبُّ؛ كَمَا يُسْتَحَبُّ فِي سَائِرِ الصَّلوَاتِ أَنْ يُعِيدَهَا مَعَ مَنْ يُصَلي جَمَاعَةً والثاني: وَهُوَ صَحِيحٌ لا يُعِيدُ،؛ لأَنَّهُ يُصَليهَا نَافِلةً، وَصَلاةُ الجِنَازَةِ لا يَنْتَقِل بِمِثْلهَا، وَإِنْ حَضَرَ مَنْ لمْ يُصَل بَعْدَ الدَّفْنِ صَلى عَلى القَبْرِ لمَا رُوِيَ "أَنَّ مِسْكِينَةً مَاتَتْ ليْلًا فَدَفَنُوهَا وَلمْ يُوقِظُوا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الغَدِ عَلى قَبْرِهَا"وَإِلى أَيِّ وَقْتٍ تَجُوزُ الصَّلاةُ عَلى القَبْرِ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أحدها: إلى شَهْرٍ؛ لأَنَّ
"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى أُمِّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنهما بَعْدَ مَا دُفِنَتْ بِشَهْرٍ"والثاني: يُصَلى عَليْهِ مَا لمْ يَبْل؛ لأَنَّهُ إذَا بُليَ لمْ يَبْقَ مَا يُصَلي عَليْهِ والثالث: يُصَلي عَليْهِ، مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الفَرْضِ عِنْدَ مَوْتِهِ،؛ لأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْل الخِطَابِ بِالصَّلاةِ عَليْهِ، وَأَمَّا مَنْ يُولدُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ بَلغَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلا يُصَلي عَليْهِ؛ لأَنَّهُ لمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الخِطَابِ بِالصَّلاةِ عَليْهِ وَالرَّابِعُ: يُصَلي عَليْهِ أَبَدًا؛ لأَنَّ القَصْدَ مِنْ الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ الدُّعَاءُ، وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ كُل وَقْتٍ".
 الشرح: حَدِيثُ المِسْكِينَةِ صَحِيحٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ سَهْل بْنِ حُنَيْفٍ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَفِي رِوَايَةِ البَيْهَقِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كُلهُمْ عُدُولٌ، وَهَذِهِ المِسْكِينَةُ يُقَال لهَا: أُمُّ مِحْجَنٍ - بِكَسْرِ المِيمِ – وَأَمَّا: حَدِيثُ أُمِّ سَعْدٍ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ ابْنِ المُسَيِّبِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "صَلى عَلى أُمِّ سَعْدٍ بَعْدَ مَوْتِهَا بِشَهْرٍ"قَال البَيْهَقِيُّ، وَهَذَا مُرْسَلٌ صَحِيحٌ، قَال: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا قَال "صَلى عَليْهَا بَعْدَ شَهْرٍ "وَكَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم غَائِبًا حِينَ مَوْتِهَا، قَال: وَالمُرْسَل أَصَحُّ، وَمُرْسَل ابْنُ المُسَيِّبِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّل الشَّرْحِ، وَهَل هُوَ حُجَّةٌ لمُجَرَّدِهِ؟ أَمْ إذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ الأُمُورِ الأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا هُنَاكَ.
أَمَّا أَحْكَامُ الفَصْل فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: إذَا صُليَ عَليْهِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُبَادَرَ بِدَفْنِهِ، وَلا يُنْتَظَرُ بِهِ حُضُورَ أَحَدٍ إلا الوَليَّ فَإِنَّهُ يُنْتَظَرُ مَا لمْ يُخْشَ عَليْهِ التَّغَيُّرُ، فَإِنْ خِيفَ تَغَيُّرُهُ لمْ يُنْتَظَرْ؛ لأَنَّ مُرَاعَاةَ صِيَانَةِ المَيِّتِ أَهَمُّ مِنْ حُضُورِ الوَليِّ، ثُمَّ أَنَّهُ إنَّمَا يُنْتَظَرُ الوَليُّ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ قَرِيبَةٌ.
الثانية: إذَا حَضَرَ بَعْدَ الصَّلاةِ عَليْهِ إنْسَانٌ لمْ يَكُنْ صَلى عَليْهِ أَوْ جَمَاعَةٌ صَلوْا عَليْهِ، وَكَانَتْ صَلاتُهُمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لا تُصَلي عَليْهِ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ؛ لأَنَّهُ لا يُتَنَفَّل بِصَلاةِ الجِنَازَةِ فَلا تُصَليهَا طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ

 

ج / 5 ص -147-       وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ المِسْكِينَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ أَوْ رَجُلًا كَانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَل عَنْهُ فَقَالوا: مَاتَ فَقَال: أَفَلا آذَنْتُمُونِي بِهِ؟ دُلونِي عَلى قَبْرِهِ فَدَلوهُ فَصَلى عَليْهِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى قَبْرِ مَنْبُوذٍ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَفِي البَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ، وَمَعْلومٌ أَنَّ هَؤُلاءِ مَا دُفِنُوا إلا بَعْدَ صَلاةِ طَائِفَةٍ عَليْهِمْ بِحَيْثُ سَقَطَ الحَرَجُ بِصَلاتِهِمْ وَإِلا فَلا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ دَفْنُهُمْ قَبْل الصَّلاةِ.
وَالجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِأَنَّ صَلاةَ الثَّانِيَةِ نَافِلةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: مَنْعُهُ، بَل هِيَ عِنْدَنَا فَرْضُ كِفَايَةٍ كَمَا سَبَقَ، وَسَنَذْكُرُ دَليلهُ وَاضِحًا فِي المَسْأَلةِ الثَّالثَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى والثاني: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِصَلاةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَال عَلى الجِنَازَةِ، فَإِنَّهَا نَافِلةٌ فِي حَقِّهِنَّ؛ لأَنَّهُنَّ لا يَدْخُلنَ فِي الفَرْضِ إذَا حَضَرَ الرِّجَال وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ الحَاوِي عَلى هَذَا الجَوَابِ الثَّانِي فَإِنْ: قِيل: كَيْف تَقَعُ صَلاةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فَرْضًا، وَلوْ تَرَكُوهَا لمْ يَأْثَمُوا، وَليْسَ هَذَا شَأْنُ الفُرُوضِ؟ فالجواب:  أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ ليْسَ بِفَرْضٍ فَإِذَا دَخَل فِيهِ صَارَ فَرْضًا، كَمَا إذَا دَخَل فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ. وَكَمَا فِي الوَاجِبِ عَلى التَّخْيِيرِ كَخِصَال الكَفَّارَةِ وَلوْ أَنَّ الطَّائِفَةَ الأُولى لوْ كَانَتْ أَلفًا أَوْ أُلوفًا وَقَعَتْ صَلاتُهُمْ جَمِيعُهُمْ فَرْضًا بِالاتِّفَاقِ وَمَعْلومٌ أَنَّ الفَرْضَ كَانَ يَسْقُطُ بِبَعْضِهِمْ، وَلا يَقُول أَحَدٌ: أَنَّ الفَرْضَ سَقَطَ "بِأَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ عَلى الإِبْهَامِ وَالبَاقُونَ مُتَنَفِّلونَ.
فَإِنْ: قِيل: قَدْ وَقَعَ فِي كَلامِ كَثِيرٍ مِنْ الأَصْحَابِ أَنَّ فَرْضَ الكِفَايَةِ إذَا فَعَلهُ مَنْ تَحْصُل بِهِ الكِفَايَةُ سَقَطَ الفَرْضُ عَنْ البَاقِينَ، وَإِذَا سَقَطَ عَنْهُمْ كَيْف قُلتُمْ؟، تَقَعُ صَلاةُ الطَّائِفَةِ فَرْضًا؟ فالجواب:  أَنَّ عِبَارَةَ المُحَقِّقِينَ: سَقَطَ الحَرَجُ عَنْ البَاقِينَ أَيْ: لا حَرَجَ عَليْهِمْ فِي تَرْكِ هَذَا الفِعْل فَلوْ فَعَلوهُ وَقَعَ فَرْضًا كَمَا لوْ فَعَلوهُ مَعَ الأَوَّلينَ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَأَمَّا: عِبَارَةُ مَنْ يَقُول سَقَطَ الفَرْضُ عَنْ البَاقِينَ فَمَعْنَاهَا سَقَطَ حَرَجُ الفَرْضِ وَإِثْمُهُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
الثالثة: إذَا صَلى عَلى الجِنَازَةِ جَمَاعَةٌ أَوْ وَاحِدٌ، ثُمَّ صَلتْ عَليْهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى فَأَرَادَ مَنْ صَلى أَوَّلًا أَنْ يُصَليَ ثَانِيًا مَعَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ :، أَصَحُّهَا: بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ لا يُسْتَحَبُّ لهُ الإِعَادَةُ، بَل المُسْتَحَبُّ تَرْكُهَا والثاني: يُسْتَحَبُّ الإِعَادَةُ. ، وَهَذَانِ الوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ بِدَليليْهِمَا، وَذَكَرَهُمَا هَكَذَا أَيْضًا أَكْثَرُ الأَصْحَابِ الثالث: يُكْرَهُ الإِعَادَةُ وَبِهِ قَطَعَ الفُورَانِيُّ وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَغَيْرُهُمَا.
وَالرَّابِعُ: حَكَاهُ البَغَوِيّ إنْ صَلى أَوَّلًا مُنْفَرِدًا أَعَادَ، وَإِنْ صَلى جَمَاعَةً فَلا (وَالصَّحِيحُ): الأَوَّل، صَحَّحَهُ الأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ الحَاوِي وَالقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَغَيْرُهُمْ. وَادَّعَى إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ اتِّفَاقَ، الأَصْحَابِ عَليْهِ، فَعَلى هَذَا لوْ صَلى ثَانِيًا صَحَّتْ صَلاتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَحَبَّةٍ، هَذَا هُوَ المَشْهُورُ فِي كُتُبِ الأَصْحَابِ. وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: ظَاهِرُ كَلامِ الأَصْحَابِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ. قَال: وَعِنْدِي فِي بُطْلانِهَا احْتِمَالٌ وَالمَذْهَبُ صِحَّتُهَا، فَعَلى هَذَا قَال المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ: تَقَعُ نَفْلًا.
وَقَال القَاضِي حُسَيْنٌ إذَا صَلى تَقَعُ صَلاتُهُ الثَّانِيَةُ فَرْضَ، كِفَايَةٍ وَلا تَكُونُ نَفْلًا كَمَا لوْ صَلتْ

 

ج / 5 ص -148-       جَمَاعَةٌ بَعْدَ جَمَاعَةٍ فَصَلاةُ الجَمِيعِ تَقَعُ فَرْضًا، قَال صَاحِبُ التَّتِمَّةِ تَنْوِي الطَّائِفَةُ بِصَلاتِهِمْ الفَرْضَ؛ لأَنَّ فِعْل غَيْرِهِمْ أَسْقَطَ عَنْهُمْ الحَرَجَ لا الفَرْضَ، وَبَسَطَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ رحمه الله هَذَا بَسْطًا حَسَنًا فَقَال "إذَا صَلى عَلى المَيِّتِ جَمْعٌ يَقَعُ الاكْتِفَاءُ بِبَعْضِهِمْ "فَاَلذِي ذَهَبَ إليْهِ الأَئِمَّةُ أَنَّ صَلاةَ كُل وَاحِدَةٍ تَقَعُ فَرِيضَةً، وَليْسَ بَعْضُهُمْ بِأَوْلى بِوَصْفِهِ بِالقِيَامِ بِالغَرَضِ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَوَجَبَ الحُكْمُ بِالفَرِيضَةِ للجَمِيعِ، قَال: وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال هُوَ كَإِيصَال المُتَوَضِّئِ المَاءَ إلى جَمِيعِ رَأْسِهِ دَفْعَةً، وَقَدْ اخْتَلفُوا فِي أَنَّ الجَمِيعَ فَرْضٌ؟ أَمْ الفَرْضُ مَا يَقَعُ عَليْهِ الاسْمُ فَقَطْ؟ قَال: وَلكِنْ قَدْ يَتَخَيَّل الفَطِنُ فَرْقًا وَيَقُول مَرْتَبَةُ الفَرْضِيَّةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ السُّنَّةِ وَكُل مُصَلٍّ فِي الجَمْعِ الكَبِيرِ يَنْبَغِي أَنْ لا يُحْرَمَ رُتْبَةَ الفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَهَذَا لطِيفٌ لا يَقَعُ مِثْلهُ، قَال: ثُمَّ قَال الأَئِمَّةُ: إذَا صَلتْ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ كَانَتْ كَصَلاتِهِمْ مَعَ الأَوَّلينَ فِي جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ "وَصَلاةُ الجِنَازَةِ لا يُتَنَفَّل بِمِثْلهَا "فَمَعْنَاهُ لا يَجُوزُ الابْتِدَاءُ بِصُورَتِهَا مِنْ غَيْرِ جِنَازَةٍ بِخِلافِ صَلاةِ الظُّهْرِ، فَإِنَّهُ يُصَلي مِثْل صُورَتِهَا ابْتِدَاءً بِلا سَبَبٍ. وَلكِنْ هَذَا الذِي قَالهُ يَنْتَقِضُ بِصَلاةِ النِّسَاءِ عَلى الجِنَازَةِ فَإِنَّهُنَّ إذَا صَليْنَ عَلى الجِنَازَةِ مَعَ الرِّجَال وَقَعَتْ صَلاتُهُنَّ نَافِلةً، وَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي المَسْأَلةِ الثَّانِيَةِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
الرابعة: إذَا حَضَرَ مَنْ لمْ يُصَل عَليْهِ بَعْدَ دَفْنِهِ وَأَرَادَ الصَّلاةَ عَليْهِ فِي القَبْرِ أَوْ أَرَادَ الصَّلاةَ عَليْهِ فِي بَلدٍ آخَرَ جَازَ بِلا خِلافٍ للأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي المَسْأَلةِ الثَّانِيَةِ. وَإِلى مَتَى تَجُوزُ الصَّلاةُ عَلى المَدْفُونِ؟ فِيهِ سِتَّةُ أَوْجُهٍ: أحدها: يُصَلى عَليْهِ إلى ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَلا يُصَلى بَعْدَهَا، حَكَاهُ الخُرَاسَانِيُّونَ وَهُوَ المَشْهُورُ عِنْدَهُمْ والثاني: إلى شَهْرٍ والثالث: مَا لمْ يَبْل جَسَدُهُ والرابع: يُصَلي عَليْهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل فَرْضِ الصَّلاةِ عَليْهِ يَوْمَ مَوْتِهِ والخامس: يُصَلي مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الصَّلاةِ عَليْهِ يَوْمَ مَوْتِهِ، وَإِنْ لمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الفَرْضِ فَيَدْخُل الصَّبِيُّ المُمَيِّزُ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الوَجْهَ للمُصَنِّفِ فِي التَّنْبِيهِ صَحَّحَهُ البَنْدَنِيجِيُّ وَالسَّادِسُ: يُصَلى عَليْهِ أَبَدًا، فَعَلى هَذَا تَجُوزُ الصَّلاةُ عَلى قُبُورِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَمَنْ قَبْلهُمْ اليَوْمَ، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى تَضْعِيفِ هَذَا السَّادِسِ.
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِتَضْعِيفِهِ المَاوَرْدِيُّ وَالمَحَامِليُّ وَالفُورَانِيّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالبَغَوِيُّ وَالغَزَاليُّ فِي البَسِيطِ وَآخَرُونَ، وَإِنْ كَانَ فِي كَلامِ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ إشَارَةٌ إلى تَرْجِيحِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ مُخَالفٌ للأَصْحَابِ وَللدَّليل.
وَاخْتَلفُوا فِي الأَصَحِّ مِنْ الأَوْجُهِ فَصَحَّحَ المَاوَرْدِيُّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالجُرْجَانِيُّ الثَّالثَ، وَصَحَّحَ الجُمْهُورُ أَنَّهُ يُصَلي عَليْهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل فَرْضِ الصَّلاةِ عَليْهِ مِمَّنْ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالفُورَانِيُّ وَالبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ قَالوا: وَهُوَ قَوْل أَبِي زَيْدٍ المَرْوَزِيِّ، فَعَلى هَذَا الوَجْهِ لوْ كَانَ يَوْمَ المَوْتِ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلمَ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: الذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يُصَلي؛ لأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الصَّلاةِ بِأَنْ يُسْلمَ فَهُوَ كَالمُحْدِثِ.
قَال: وَالمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ حَائِضًا يَوْمَ المَوْتِ طَهُرَتْ فَالحَيْضُ يُنَافِي وُجُوبَ الصَّلاةِ وَصِحَّتَهَا،

 

ج / 5 ص -149-       وَلكِنْ هِيَ فِي الجُمْلةِ مُخَاطَبَةٌ، فَاَلذِي أَرَاهُ أَنَّهَا تُصَلي. هَذَا كَلامُ الإِمَامِ، وَكَذَا قَطَعَ الغَزَاليُّ فِي البَسِيطِ بِأَنَّ الكَافِرَ وَالحَائِضَ يَوْمَ المَوْتِ إذَا أَسْلمَ وَطَهُرَتْ صَليَا، وَهَذَا الذِي قَالاهُ مُخَالفٌ لظَاهِرِ كَلامِ الأَصْحَابِ، فَإِنَّ الكَافِرَ وَالحَائِضَ ليْسَ مِنْ أَهْل الصَّلاةِ. وَقَدْ قَالوا: لا يُصَلي مَنْ لمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل فَرْضِ الصَّلاةِ أَوْ مَنْ لمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الصَّلاةِ حَال المَوْتِ. وَقَدْ صَرَّحَ المُتَوَلي بِأَنَّهُمَا لا يُصَليَانِ، وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي حِكَايَةِ هَذَا الوَجْهِ: يُصَلي عَليْهِ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِالصَّلاةِ عَليْهِ يَوْمَ مَوْتِهِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ، فَأَمَّا مَنْ بَلغَ بَعْدَهُ فَلا.
وَاحْتَجَّ المُتَوَلي لهَذَا الوَجْهِ بِأَنَّ حُكْمَ الخِطَابِ يَتَعَلقُ بِكُل مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل الصَّلاةِ، وَفِعْل غَيْرِهِمْ لمْ يُسْقِطْ الفَرْضَ فِي حَقِّهِمْ وَإِنَّمَا أَسْقَطَ الحَرَجَ، وَإِذَا قُلنَا يُصَلى عَليْهِ مَا لمْ يَبْل جَسَدُهُ. قَال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ الفُرُوقِ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا: المُرَادُ مَا لمْ يَبْقَ مِنْ بَدَنِهِ شَيْءٌ لا لحْمٌ وَلا عَظْمٌ، فَمَتَى بَقِيَ عَظْمٌ صَلى.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَيَخْتَلفُ هَذَا بِاخْتِلافِ البِقَاعِ فَلوْ شَكَكْنَا فِي انْمِحَاقِ أَجْزَائِهِ صَلى؛ لأَنَّ الأَصْل بَقَاؤُهُ. هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرُونَ، وَهُوَ مُقْتَضَى عِبَارَةِ البَاقِينَ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ فِي تَعْليقِهِ وَالمَحَامِليَّ فِي التَّجْرِيدِ وَالصَّيْدَلانِيّ وَالقَاضِيَ حُسَيْنًا وَآخَرِينَ، قَالوا: يُصَلى عَليْهِ مَا لمْ يُعْلمْ أَنَّهُ بَليَ وَذَهَبَتْ أَجْزَاؤُهُ. وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ فِي البَسِيطِ: فِيهِ احْتِمَالانِ أحدهما: هَذَا والثاني: لا يُصَلى؛ لأَنَّ صِحَّةَ الصَّلاةِ عَلى هَذَا الوَجْهِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلى العِلمِ بِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ. وَعِبَارَةُ المَحَامِليِّ فِي المَجْمُوعِ تُوَافِقُ هَذَا، فَإِنَّهُ قَال: يُصْلى مَا دَامَ يُعْلمُ أَنَّ فِي القَبْرِ مِنْهُ شَيْئًا، وَالمَذْهَبُ الأَوَّل.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَإِذَا قُلنَا بِالوَجْهِ الضَّعِيفِ أَنَّهُ يُصَلى أَبَدًا فَهَل تَجُوزُ الصَّلاةُ عَلى قَبْرِ نَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الأَنْبِيَاءِ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ عَلى هَذَا الوَجْهِ أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الخُرَاسَانِيِّينَ وَالمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ لا تَجُوزُ الصَّلاةُ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: وَهُوَ قَوْل جَمَاهِيرِ الأَصْحَابِ، وَبِهَذَا قَطَعَ البَنْدَنِيجِيُّ وَآخَرُونَ.
والثاني: وَهُوَ قَوْل أَبِي الوَليدِ النَّيْسَابُورِيِّ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُصَلى عَليْهِ فُرَادَى لا جَمَاعَةً. قَال: وَالنَّهْيُ الوَارِدُ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إنَّمَا هُوَ عَنْ الصَّلاةِ عَليْهِ جَمَاعَةً، وَكَانَ أَبُو الوَليدِ يَقُول: أَنَا أُصَلي اليَوْمَ عَلى قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالحِينَ وَبِهَذَا الوَجْهِ الذِي قَالهُ أَبُو الوَليدِ قَطَعَ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ التَّعْليقِ وَالمُجَرَّدِ، وَالمَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ، وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْليقِهِ، وَالأَوَّل أَصَحُّ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: إذَا دُفِنَ مِنْ غَيْرِ صَلاةٍ قَال أَصْحَابُنَا يَأْثَمُ الدَّافِنُونَ، وَكُل مَنْ تَوَجَّهَ عَليْهِ فَرْضُ هَذِهِ الصَّلاةِ مِنْ أَهْل تِلكَ النَّاحِيَةِ؛ لأَنَّ تَقْدِيمَ الصَّلاةِ عَلى الدَّفْنِ وَاجِبٌ. وَإِنْ كَانَتْ الصَّلاةُ عَلى القَبْرِ تُسْقِطُ الفَرْضَ إلا أَنَّهُمْ يَأْثَمُونَ، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالأَصْحَابُ وَلا خِلافَ فِيهِ. قَال أَصْحَابُنَا: لكِنْ لا يُنْبَشُ بَل يُصَلى عَلى القَبْرِ؛ لأَنَّ نَبْشَهُ انْتِهَاكٌ لهُ وَالصَّلاةُ عَلى القَبْرِ تُجْزِئُهُ. هَكَذَا قَالهُ الأَصْحَابُ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لا يَسْقُطُ الفَرْضُ بِالصَّلاةِ عَلى القَبْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلطٌ.

 

ج / 5 ص -150-       فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِيمَنْ فَاتَهُ الصَّلاةُ عَلى المَيِّتِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُصَلي عَلى القَبْرِ. وَنَقَلوهُ عَنْ عَليٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. قَال ابْنُ المُنْذِرِ رحمه الله: وَهُوَ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَعَائِشَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَقَال النَّخَعِيُّ وَمَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لا يُصَلى عَلى المَيِّتِ إلا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَلا يُصَلى عَلى القَبْرِ إلا أَنْ يُدْفَنَ بِلا صَلاةٍ، إلا أَنْ يَكُونَ الوَليُّ غَائِبًا فَصَلى غَيْرُهُ عَليْهِ وَدُفِنَ فَللوَليِّ أَنْ يُصَليَ عَلى القَبْرِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لا يُصَلى عَلى القَبْرِ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ دَفْنِهِ، وَقَال أَحْمَدُ رحمه الله إلى شَهْرٍ. وَإِسْحَاقُ إلى شَهْرٍ للغَائِبِ وَثَلاثَةِ أَيَّامٍ للحَاضِرِ. دَليلنَا فِي الصَّلاةِ عَلى القَبْرِ وَإِنْ صَلى عَليْهِ الأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ فِي المَسْأَلةِ الثَّانِيَةِ.
قال المصنف رحمه الله نعالى:"تجوز الصلاة على الميت الغائب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي لأصحابه وهو بالمدينة وصلى عليه وصلوا خلفه وإن كان الميت معه في البلد لم يجز أن يصلى عليه حتى يحضر عنده لأنه يمكنه الحضور من غير مشقة".
 الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَيَاهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، وَرَوَاهُ مُسْلمٌ مِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالنَّجَاشِيُّ رضي الله عنه بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ اليَاءِ وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ. بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ صَادٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مُهْمَلتَيْنِ. هَكَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ وَقِيل: صَحَمَةُ وَقِيل: غَيْرُهُ، وَالنَّجَاشِيُّ اسْمٌ لكُل مَنْ مَلكَ الحَبَشَةَ. كَمَا سُمِّيَ كُل خَليفَةٍ للمُسْلمِينَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. وَمَنْ مَلكَ الرُّومَ قَيْصَرَ. وَالتُّرْكَ خَاقَانَ، وَالفُرْسَ كِسْرَى. وَالقِبْطَ فِرْعَوْنَ وَمِصْرَ العَزِيزَ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَمَذْهَبُنَا جَوَازُ الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ الغَائِبِ عَنْ البَلدِ سَوَاءٌ كَانَ فِي جِهَةِ القِبْلةِ أَمْ فِي غَيْرِهَا. وَلكِنَّ المُصَليَ يَسْتَقْبِل القِبْلةَ وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ المَسَافَةُ بَيْنَ البَلدَيْنِ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً وَلا خِلافَ فِي هَذَا كُلهِ عِنْدَنَا. أَمَّا: إذَا كَانَ المَيِّتُ فِي البَلدِ فَطَرِيقَانِ: المَذْهَبُ: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ: لا يَجُوزُ أَنْ يُصَليَ عَليْهِ حَتَّى يَحْضُرَ عِنْدَهُ؛ لأَنَّ
"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يُصَل عَلى حَاضِرٍ فِي البَلدِ إلا بِحَضْرَتِهِ}؛ وَلأَنَّهُ لا مَشَقَّةَ فِيهِ بِخِلافِ الغَائِبِ عَنْ البَلدِ.
والطريق الثاني: حَكَاهُ الخُرَاسَانِيُّونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: هَذَا والثاني: يَجُوزُ كَالغَائِبِ. فَإِنْ قُلنَا: لا يَجُوزُ قَال الرَّافِعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لا يَكُونَ بَيْنَ الإِمَامِ وَالمَيِّتِ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ أَوْ ثَلاثِمِائَةٍ تَقْرِيبًا. قَال: وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيِّ.

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الصَّلاةِ عَلى الغَائِبِ عَنْ البَلدِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُهُ وَمَنَعَهَا أَبُو حَنِيفَةَ. دَليلنَا حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ وَهُوَ صَحِيحٌ لا مَطْعَنَ فِيهِ وَليْسَ لهُمْ عَنْهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ بَل ذَكَرُوا فِيهِ خَيَالاتٍ أَجَابَ عَنْهَا أَصْحَابُنَا بِأَجْوِبَةٍ مَشْهُورَةٍ: مِنْهَا:

 

ج / 5 ص -151-       قَوْلهُمْ: إنَّهُ طُوِيَتْ الأَرْضُ فَصَارَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لوْ فُتِحَ هَذَا البَابُ لمْ يَبْقَ وُثُوقٌ بِشَيْءٍ مِنْ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ لاحْتِمَال انْحِرَافِ العَادَةِ فِي تِلكَ القَضِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلكَ لتَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي بِنَقْلهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ العَلاءِ بْنِ زَيْدٍ، وَيُقَال: ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ
"أَنَّهُمْ كَانُوا فِي تَبُوكَ فَأَخْبَرَ جِبْرِيل النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي ذَلكَ اليَوْمِ، وَأَنَّهُ قَدْ نَزَل عَليْهِ سَبْعُونَ أَلفَ مَلكٍ يُصَلونَ عَليْهِ، فَطُوِيَتْ الأَرْضُ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ذَهَبَ فَصَلى عَليْهِ، ثُمَّ رَجَعَ"فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الحُفَّاظُ مِنْهُمْ البُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالبَيْهَقِيُّ، وَاتَّفَقُوا عَلى ضَعْفِ العَلاءِ هَذَا وَأَنَّهُ مُنْكَرُ الحَدِيثِ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُ المَيِّتِ غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ؛ لأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَلى عَلى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلى أَبُو عُبَيْدَةَ عَلى رُءُوسٍ، وَصَلتْ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عَلى يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابٍ بْنِ أَسِيدٍ، أَلقَاهَا طَائِرٌ بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الجَمَل".
 الشرح: أَبُو عُبَيْدَةَ رضي الله عنه هَذَا هُوَ أَحَدُ العَشَرَةِ المَشْهُودِ لهُمْ بِالجَنَّةِ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الجَرَّاحِ، وَعَتَّابُ بِفَتْحِ العَيْنِ المُهْمَلةِ وَأَسِيدُ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وَهَذِهِ الحِكَايَةُ عَنْ يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَوَيْنَاهَا فِي كِتَابِ الأَنْسَابِ للزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، قَال: وَكَانَ الطَّائِرُ نِسْرًا وَكَانَتْ وَقْعَةُ الجَمَل فِي جُمَادَى سَنَةِ سِتٍّ وَثَلاثِينَ، وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَالأَصْحَابُ عَلى أَنَّهُ إذَا وُجِدَ بَعْضُ مَنْ تَيَقَّنَّا مَوْتَهُ غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ، وَبِهِ قَال أَحْمَدُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لا يُصَلى عَليْهِ إلا إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ، وَعِنْدَنَا لا فَرْقَ بَيْنَ القَليل وَالكَثِيرِ، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَإِنَّمَا نُصَلي عَليْهِ إذَا تَيَقَّنَّا مَوْتَهُ.
فَأَمَّا إذَا قُطِعَ عُضْوٌ مِنْ حَيٍّ، كَيْدِ سَارِقٍ، وَجَانٍ وَغَيْرِ ذَلكَ فَلا يُصَلى عَليْهِ، وَكَذَا لوْ شَكَكْنَا فِي العُضْوِ هَل هُوَ مُنْفَصِلٌ مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ؟ لمْ نُصَل عَليْهِ، هَذَا هُوَ المَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الأَصْحَابُ فِي كُل الطُّرُقِ إلا صَاحِبَ الحَاوِي وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي العُضْوِ المَقْطُوعِ مِنْ الحَيِّ وَجْهَيْنِ: فِي وُجُوبِ غُسْلهِ وَالصَّلاةِ عَليْهِ:
أحدهما: يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ كَعُضْوِ المَيِّتِ وأصحهما: لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ، وَنَقَل المُتَوَلي رحمه الله الاتِّفَاقَ عَلى أَنَّهُ لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ، فَقَال: لا خِلافَ أَنَّ اليَدَ المَقْطُوعَةَ فِي السَّرِقَةِ وَالقِصَاصِ لا تُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهَا، وَلكِنْ تُلفُّ فِي خِرْقَةٍ وَتُدْفَنُ، وَكَذَا الأَظْفَارُ المَقْلومَةُ وَالشَّعْرُ المَأْخُوذُ مِنْ الأَحْيَاءِ لا يُصَلى عَلى شَيْءٍ مِنْهَا، لكِنْ يُسْتَحَبُّ دَفْنُهَا، قَال: وَكَذَا إذَا شَكَكْنَا فِي مَوْتِ صَاحِبِ العُضْوِ فَلا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ، وَهَذَا الذِي سَبَقَ فِي الصَّلاةِ عَلى بَعْضِ الذِي تَيَقَّنَّا مَوْتَهُ هُوَ فِي العُضْوِ.
أَمَّا إذَا وَجَدْنَا شَعْرَ المَيِّتِ أَوْ ظُفُرَهُ أَوْ نَحْوَهُمَا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: حَكَاهُمَا القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي

 

ج / 5 ص -152-       تَعْليقِهِ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبُ الشَّامِل وَالتَّتِمَّةِ وَصَاحِبُ البَيَانِ وَآخَرُونَ، وَأَشَارَ إليْهِمَا المُصَنِّفُ فِي تَعْليقِهِ فِي الخِلافِ.
أحدهما: وَهُوَ الذِي رَجَّحَهُ البَنْدَنِيجِيُّ رحمه الله لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ، بَل يُدْفَنُ وأصحهما: وَبِهِ قَال الأَكْثَرُونَ يُغَسَّل، وَيُصَلى عَليْهِ كَالعُضْوِ؛ لأَنَّهُ جُزْءٌ، قَال الرَّافِعِيُّ رحمه الله: هَذَا الثَّانِي أَقْرَبُ إلى كَلامِ الأَكْثَرِينَ قَال: لكِنْ قَال صَاحِبُ العُدَّةِ رحمه الله: إنْ لمْ يُوجَدْ إلا شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ لمْ يُصَل عَليْهَا فِي ظَاهِرِ المَذْهَبِ، قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ رحمه الله: وَلوْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَأَلصَقَهَا مَوْضِعَهَا فِي حَرَارَةِ الدَّمِ ثُمَّ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ وَوَجَدْنَا أُذُنَهُ لمْ نُصَل عَليْهِ؛ لأَنَّ انْفِصَالهَا كَانَ فِي الحَيَاةِ هَذَا كَلامُ القَاضِي رحمه الله، وَيَجِيءُ فِيهَا الوَجْهُ السَّابِقُ عَنْ الحَاوِي، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَمَتَى صَلى فِي هَذِهِ الصُّوَرِ فَلا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ غُسْلهِ، ثُمَّ يُوَارَى بِخِرْقَةٍ وَيُصَلى عَليْهِ وَيُدْفَنُ.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَالدَّفْنُ لا يَخْتَصُّ بِعُضْوِ مَنْ عُلمَ مَوْتُهُ، بَل كُل مَا يَنْفَصِل مِنْ الحَيِّ مِنْ عُضْوٍ وَشَعْرٍ وَظُفْرٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الأَجْزَاءِ، يُسْتَحَبُّ دَفْنُهُ وَكَذَلكَ تُوَارَى العَلقَةُ وَالمُضْغَةُ تُلقِيهِمَا المَرْأَةُ، وَكَذَا يُوَارَى دَمُ الفَصْدِ وَالحِجَامَةِ قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَلوْ وُجِدَ بَعْضُ المَيِّتِ أَوْ كُلهُ وَلمْ نَعْلمْ أَنَّهُ مُسْلمٌ أَمْ كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الإِسْلامِ غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ؛ لأَنَّ الغَالبَ فِيهَا المُسْلمُونَ كَمَا حَكَمْنَا بِإِسْلامِ اللقِيطِ فِيهَا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالمَسْأَلةِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ فِي آخِرِ بَابِ الشَّهِيدِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالمُتَوَلي وَآخَرُونَ.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَمَتَى صَلى عَلى عُضْوِ المَيِّتِ نَوَى الصَّلاةَ عَلى جُمْلةِ المَيِّتِ لا عَلى العُضْوِ وَحْدَهُ، هَذَا هُوَ المَشْهُورُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَذَكَرَ صَاحِبُ الحَاوِي وَجْهَيْنِ: أحدهما: هَذَا والثاني: يُصَلى عَلى العُضْوِ خَاصَّةً قَال: وَالوَجْهَانِ: فِيمَا إذَا لمْ يَعْلمْ جُمْلتَهُ صَلى عَليْهَا، فَإِنْ عَلمَ ذَلكَ صَلى عَلى العُضْوِ وَحْدَهُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَهَذَا الذِي قَالهُ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَاَللهُ أَعْلمُ.

فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِيمَا إذَا وُجِدَ بَعْضُ المَيِّتِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُصَلى عَليْهِ سَوَاءٌ قَل البَعْضُ أَمْ كَثُرَ، وَبِهِ قَال أَحْمَدُ رحمه الله، وَقَال دَاوُد: لا يُصَلى عَليْهِ مُطْلقًا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنْ وُجِدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ فَلا غُسْل وَلا صَلاةَ، قَال مَالكٌ رحمه الله: بَل لا يُصَلى عَلى اليَسِيرِ مِنْهُ
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا اسْتَهَل السِّقْطُ أَوْ تَحَرَّكَ ثُمَّ مَاتَ غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ، لمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"إذَا اسْتَهَل السِّقْطُ غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ وَوَرِثَ وَوُرِثَ}؛ وَلأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لهُ حُكْمُ الدُّنْيَا فِي الإِسْلامِ وَالمِيرَاثِ وَالدِّيَةِ فَغُسِّل وَصُليَ عَليْهِ كَغَيْرِهِ، وَإِنْ لمْ يَسْتَهِل وَلمْ يَتَحَرَّكْ - فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ - كُفِّنَ بِخِرْقَةٍ وَدُفِنَ، وَإِنْ تَمَّ لهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَفِيهِ قَوْلان: قَال فِي القَدِيمِ يُصَلى عَليْهِ؛ لأَنَّهُ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَصَارَ كَمَنْ اسْتَهَل وَقَال فِي الأُمِّ: لا يُصَلى عَليْهِ وَهُوَ الأَصَحُّ؛ لأَنَّهُ لمْ يَثْبُتْ لهُ حُكْمُ الدُّنْيَا فِي الإِرْثِ وَغَيْرِهِ، فَلمْ يُصَل عَليْهِ،

 

ج / 5 ص -153-       فَإِنْ قُلنَا: يُصَلى عَليْهِ غُسِّل كَغَيْرِ السِّقْطِ، وَإِنْ قُلنَا: لا يُصَلى عَليْهِ فَفِي غُسْلهِ قَوْلانِ:، قَال فِي البُوَيْطِيِّ: لا يُغَسَّل؛ لأَنَّهُ لا يُصَلى عَليْهِ فَلا يُغَسَّل كَالشَّهِيدِ، وَقَال فِي الأُمِّ: يُغَسَّل؛ لأَنَّ الغُسْل قَدْ يَنْفَرِدُ عَنْ الصَّلاةِ كَمَا نَقُول فِي الكَافِرِ".
 الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، رَوَاهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالحَاكِمُ وَالبَيْهَقِيُّ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ مَوْقُوفٌ عَلى جَابِرٍ. قَال التِّرْمِذِيُّ رحمه الله: كَأَنَّ المَوْقُوفَ أَصَحُّ، وَقَال النَّسَائِيُّ: المَوْقُوفُ أَوْلى بِالصَّوَابِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الجَنَائِزِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الفَرَائِضِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِيهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ البَيْهَقِيّ: "صُليَ عَليْهِ وَوَرِثَ وَوُرِثَ "وَرِوَايَةُ المُهَذَّبِ وَرِثَ - بِفَتْحِ الوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وقوله: اسْتَهَل أَيْ: صَرَخَ وَأَصْل الإِهْلال رَفْعُ الصَّوْتِ، وَفِي السِّقْطِ ثَلاثُ لغَاتٍ كَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِهَا.
أَمَّا حُكْمُ المَسْأَلةِ: فَللسِّقْطِ أَحْوَالٌ: أحدها: أَنْ يَسْتَهِل فَيَجِبُ غُسْلهُ وَالصَّلاةُ عَليْهِ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَيَكُونُ كَفَنُهُ كَكَفَنِ البَالغِ ثَلاثَةُ أَثْوَابٍ. الثاني: أَنْ يَتَحَرَّكَ حَرَكَةً تَدُل عَلى الحَيَاةِ، وَلا يَسْتَهِل أَوْ يَخْتَلجُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: المَذْهَبُ: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالعِرَاقِيُّونَ: يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ قَوْلًا وَاحِدًا والثاني: حَكَاهُ الخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ قَوْلانِ: وَبَعْضُهُمْ يَقُول وَجْهَانِ: أصحهما: هَذَا والثاني: حَكَاهُ الخُرَاسَانِيُّونَ لا يُصَلى عَليْهِ وَعَلى هَذَا هَل يُغَسَّل؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: عِنْدَهُمْ (المَذْهَبُ): يُغَسَّل والثاني: عَلى قَوْليْنِ أحدهما: يُغَسَّل والثاني: لا يُغَسَّل. والثالث: أَنْ لا تَكُونَ فِيهِ حَرَكَةٌ وَلا اخْتِلاجٌ وَلا غَيْرُهُمَا مِنْ أَمَارَاتِ الحَيَاةِ فَلهُ حَالانِ: أحدهما: أَنْ لا يَبْلغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَلا يُصَلى عَليْهِ بِلا خِلافٍ وَفِي غُسْلهِ طَرِيقَانِ: المَذْهَبُ: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ: لا يُغَسَّل والثاني: حَكَاهُ بَعْضُ الخُرَاسَانِيِّينَ كَالقَاضِي حُسَيْنٍ وَالرَّافِعِيِّ وَآخَرِينَ: فِيهِ قَوْلانِ: وَذَكَرَهُمَا المَحَامِليُّ فِي التَّجْرِيدِ لكِنْ قَال: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ظَهَرَ فِيهِ خِلقَةُ آدَمِيٍّ.
وَالحَال الثَّانِي: أَنْ يَبْلغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَفِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ الصحيح: المَنْصُوصُ فِي الأُمِّ وَمُعْظَمِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ: يَجِبُ غَسْلهُ، وَلا تَجِبُ الصَّلاةُ عَليْهِ وَلا تَجُوزُ أَيْضًا؛ لأَنَّ بَابَ الغُسْل أَوْسَعُ وَلهَذَا يُغَسَّل الذِّمِّيُّ وَلا يُصَلى عَليْهِ والثاني: نَصَّ عَليْهِ فِي البُوَيْطِيِّ مِنْ الكُتُبِ الجَدِيدَةِ لا يُصَلى عَليْهِ وَلا يُغَسَّل والثالث: حَكَاهُ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ عَنْ نَصِّهِ فِي القَدِيمِ أَنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: المَنْصُوصُ للشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ أَنَّهُ لا يُصَلى عَليْهِ، قَال: وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ القَدِيمِ أَنَّهُ يُصَلى عَليْهِ، وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي الصحيح: الذِي نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي القَدِيمِ وَالجَدِيدِ أَنَّهُ لا يُصَلى عَليْهِ قَال: والثاني: حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَخْرِيجًا عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي القَدِيمِ أَنَّهُ يُصَلى عَليْهِ وَقَال البَنْدَنِيجِيُّ رحمه الله: حَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ القَدِيمِ أَنَّهُ يُصَلى عَليْهِ، وَقَدْ قَرَأْت القَدِيمَ كُلهُ فَلمْ أَجِدْهُ فَقَدْ اتَّفَقَ هَؤُلاءِ عَلى إنْكَارِ كَوْنِهِ فِي القَدِيمِ.
قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ فِي البَسِيطِ: إنْ أَوْجَبْنَا فِي هَذِهِ الأَحْوَال الصَّلاةَ فَالكَفَنُ التَّامُّ وَاجِبٌ كَمَا سَبَقَ، يَعْنِي يُكَفَّنُ كَفَنَ البَالغِ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ وَإِنْ لمْ نُوجِبْ الصَّلاةَ وَجَبَ دَفْنُهُ بِالاتِّفَاقِ،

 

ج / 5 ص -154-       وَالخِرْقَةُ التِي تُوَارِيهِ، وَهِيَ لفَافَةٌ. قَالا: وَالدَّفْنُ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ قَوْلًا وَاحِدًا قَالا: ثُمَّ تَمَامُ الكَفَنِ يَتْبَعُ وُجُوبَ الصَّلاةِ قَالا: وَإِذَا أَلقَتْ المَرْأَةُ مُضْغَةً لا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُ الاسْتِيلادِ وَوُجُوبُ الغُرَّةِ وَلا غَسْلٌ وَلا تَكْفِينٌ وَلا صَلاةٌ، وَلا يَجِبُ الدَّفْنُ وَالأَوْلى أَنْ تُوَارَى. هَذَا كَلامُهُمَا.
وَكَذَا قَال البَغَوِيّ: إذَا أَلقَتْ عَلقَةً أَوْ مُضْغَةً لمْ يَظْهَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَلقِ الآدَمِيِّ فَليْسَ لهَا غُسْلٌ وَلا تَكْفِينٌ وَتُوَارَى كَمَا يُوَارَى دَمُ الرَّجُل إذَا افْتَصَدَ أَوْ احْتَجَمَ.
وَأَمَّا: الرَّافِعِيُّ رحمه الله فَقَال: مَا يَظْهَرُ فِيهِ خِلقَةُ آدَمِيٍّ يَكْفِي فِيهِ المُوَارَاةُ كَيْفَ كَانَتْ فَبَعْدَ ظُهُورِ خِلقَةِ الآدَمِيِّ حُكْمُ التَّكْفِينِ حُكْمُ الغُسْل فَجَعَلهُ تَابِعًا للغَسْل وَجَعَلهُ الإِمَامُ وَالغَزَاليُّ تَابِعًا للصَّلاةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ رحمه الله أَنْسَبُ.
وَأَمَّا: المَحَامِليُّ فَذَكَرَ مَسْأَلةَ السِّقْطِ فِي التَّجْرِيدِ خِلافَ الأَصْحَابِ وَخِلافَ مَا ذَكَرَهُ هُوَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ المَجْمُوعِ فَقَال: إنْ سَقَطَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ وَلمْ يَسْتَهِل بِأَنْ سَقَطَ لفَوْقِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَقَوْلانِ، قَال فِي القَدِيمِ وَالجَدِيدِ: لا يُصَلى عَليْهِ وَفِي البُوَيْطِيِّ: يُصَلى عَليْهِ قَال: وَلا خِلافَ عَلى القَوْليْنِ أَنَّهُ يُغَسَّل وَيُكَفَّنُ وَيُدْفَنُ، وَإِنْ سَقَطَ قَبْل أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلا خِلافَ أَنَّهُ لا يُصَلى عَليْهِ. نَصَّ عَليْهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ ثُمَّ إنْ لمْ يَكُنْ فِيهِ خَلقُ آدَمِيٍّ كَظُفْرٍ وَغَيْرِهِ فَلا حُكْمَ لهُ فَلا يُغَسَّل وَلا يُكَفَّنُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَخَلقَ كُفِّنَ وَدُفِنَ وَفِي غُسْلهِ قَوْلانِ: هَذَا آخِرُ كَلامِهِ وَفِي البَيَانِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ نَحْوُهُ وَلمْ أَرَهُ فِي تَعْليقِ أَبِي حَامِدٍ لكِنَّ نُسَخَ التَّعْليقِ تَخْتَلفُ وَاَللهُ أَعْلمُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي الصَّلاةِ عَلى الطِّفْل وَالسِّقْطِ
 أَمَّا الصَّبِيُّ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلفِ وَالخَلفِ وُجُوبُ الصَّلاةِ عَليْهِ وَنَقَل ابْنُ المُنْذِرِ رحمه الله الإِجْمَاعَ فِيهِ.
وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَال: "لا يُصَلى عَليْهِ مَا لمْ يَبْلغْ "وَخَالفَ العُلمَاءَ كَافَّةً.
وَحَكَى العَبْدَرِيُّ عَنْ بَعْضِ العُلمَاءِ أَنَّهُ قَال: إنْ كَانَ قَدْ صَلى صُليَ عَليْهِ، وَإِلا فَلا، وَهَذَا أَيْضًا شَاذٌّ مَرْدُودٌ. وَاحْتَجَّ لهُ بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّ
"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يُصَل عَلى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ رضي الله عنه" وَلأَنَّ المَقْصُودَ مِنْ الصَّلاةِ الاسْتِغْفَارُ للمَيِّتِ، وَهَذَا لا ذَنْبَ لهُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِعُمُومِ النُّصُوصِ الوَارِدَةِ بِالأَمْرِ بِالصَّلاةِ عَلى المُسْلمِينَ، وَهَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِ المُسْلمِينَ، وَعَنْ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه
أَنَّ "رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال الرَّاكِبُ خَلفَ الجِنَازَةِ وَالمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا وَالطِّفْل يُصَلى عَليْهِ"رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَال حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَجَابَ الأَصْحَابُ عَنْ احْتِجَاجِ سَعِيدٍ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلفَتْ فِي صَلاتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلى إبْرَاهِيمَ فَأَثْبَتَهَا كَثِيرُونَ مِنْ الرُّوَاةِ، قَال البَيْهَقِيُّ: وَرِوَايَتُهُمْ أَوْلى، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: فَهِيَ أَوْلى لأَوْجُهٍ أحدها: أَنَّهَا أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ النَّفْيِ الثاني: أَنَّهَا مُثْبِتَةٌ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلى النَّافِيَةِ كَمَا تَقَرَّرَ (الثَّالثُ) يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا

 

ج / 5 ص -155-       فَمَنْ قَال: صَلى. أَرَادَ أُمِرَ بِالصَّلاةِ عَليْهِ، وَاشْتَغَل صلى الله عليه وسلم بِصَلاةِ الكُسُوفِ وَمَنْ قَال: لمْ يُصَل أَيْ: لمْ يُصَل بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الجَوَابُ عَنْ قَوْلهِ: المَقْصُودُ المَغْفِرَةُ. فَبَاطِلٌ بِالصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلى المَجْنُونِ الذِي بَلغَ مَجْنُونًا وَاسْتَمَرَّ حَتَّى مَاتَ، وَعَلى مَنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلمَ ثُمَّ مَاتَ مُتَّصِلًا بِهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ ذَنْبٍ، فَإِنَّ الصَّلاةَ ثَابِتَةٌ فِي هَذِهِ المَوَاضِعِ بِالإِجْمَاعِ وَلا ذَنْبَ لهُ بِلا شَكٍّ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا السِّقْطُ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيل مَذْهَبِنَا فِيهِ، قَال مَالكٌ: لا يُصَلى عَليْهِ إلا أَنْ يَخْتَلجَ وَيَتَحَرَّكَ وَيَطُول ذَلكَ عَليْهِ، وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ التَّابِعِيِّ وَالحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَمَالكٍ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ أَنَّهُ إذَا لمْ يَسْتَهِل لا يُصَلى عَليْهِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ يُصَلى عَليْهِ وَإِنْ لمْ يَسْتَهِل، وَبِهِ قَال ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ المُسَيِّبِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَال العَبْدَرِيُّ: إنْ كَانَ لهُ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لمْ يُصَل عَليْهِ بِلا خِلافٍ، يَعْنِي بِالإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ لهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلمْ يَتَحَرَّكْ لمْ يُصَل عَليْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلمَاءِ، وَقَال أَحْمَدُ وَدَاوُد رحمهما الله: يُصَلى عَليْهِ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ مَاتَ كَافِرٌ لمْ يُصَل عَليْهِ لقوله تعالى
{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[التوبة: 84]وَلأَنَّ الصَّلاةَ لطَلبِ المَغْفِرَةِ، وَالكَافِرُ لا يُغْفَرُ لهُ، فَلا مَعْنَى للصَّلاةِ عَليْهِ وَيَجُوزُ غُسْلهُ وَتَكْفِينُهُ لأَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَمَرَ عَليًّا رضي الله عنه أَنْ يُغَسِّل أَبَاهُ، وَأَعْطَى قَمِيصَهُ ليُكَفَّنَ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنُ سَلول"فَإِنْ اخْتَلطَ المُسْلمُونَ بِالكُفَّارِ وَلمْ يَتَمَيَّزُوا صَلوْا عَلى المُسْلمِينَ بِالنِّيَّةِ؛ لأَنَّ الصَّلاةَ تَنْصَرِفُ إلى المَيِّتِ بِالنِّيَّةِ، وَالاخْتِلاطُ لا يُؤَثِّرُ فِي النِّيَّةِ".
الشَّرْحُ:
حَدِيثُ عَليٍّ رضي الله عنه ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ أُبَيِّ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَدِيثِ عَليٍّ رضي الله عنه فِي بَابِ غُسْل المَيِّتِ، وَحَدِيثُ ابْنِ أُبَيِّ فِي بَابِ الكَفَنِ، وَأَجْمَعُوا عَلى تَحْرِيمِ الصَّلاةِ عَلى الكَافِرِ، وَيَجُوزُ غُسْلهُ وَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ، وَأَمَّا وُجُوبُ التَّكْفِينِ فَفِيهِ خِلافٌ وَتَفْصِيلٌ سَبَقَ وَاضِحًا فِي بَابِ غُسْل المَيِّتِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ زِيَارَةُ قَبْرِهِ وَالدُّعَاءُ لهُ، وَاتِّبَاعُ جِنَازَتِهِ، وَغَيْرُ ذَلكَ مِمَّا يَتَعَلقُ بِهِ.
أَمَّا: إذَا اخْتَلطَ مُسْلمُونَ بِكَفَّارٍ، وَلمْ يَتَمَيَّزُوا، فَقَال أَصْحَابُنَا: يَجِبُ غَسْل جَمِيعِهِمْ وَتَكْفِينُهُمْ وَالصَّلاةُ عَليْهِمْ، وَدَفْنُهُمْ، وَلا خِلافَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ لأَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ وَاجِبَةٌ فِي المُسْلمِينَ وَهَؤُلاءِ فِيهِمْ مُسْلمُونَ، وَلا يُتَوَصَّل إلى أَدَاءِ الوَاجِبِ إلا بِاسْتِيعَابِ الجَمِيعِ، فَوَجَبَ ذَلكَ، وَلا فَرْقَ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ عَدَدُ المُسْلمِينَ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل حَتَّى لوْ اخْتَلطَ مُسْلمٌ بِمِائَةِ كَافِرٍ وَجَبَ غَسْل الجَمِيعِ وَتَكْفِينُهُمْ وَالصَّلاةُ عَليْهِمْ وَدَفْنُهُمْ وَأَمَّا المَقْبَرَةُ التِي يُدْفَنُونَ فِيهَا فَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي بَابِ حَمْل الجِنَازَةِ إنْ شَاءَ اللهُ.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلاةِ، فَإِنْ شَاءَ أَفْرَدَ كُل وَاحِدٍ مِنْ الجَمِيعِ

 

ج / 5 ص -156-       بِصَلاةٍ وَيَنْوِي الصَّلاةَ عَليْهِ إنْ كَانَ مُسْلمًا، قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: وَيَقُول فِي الدُّعَاءِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لهُ إنْ كَانَ مُسْلمًا، قَال أَصْحَابُنَا وَيُعْذَرُ فِي تَرَدُّدِ النِّيَّةِ للضَّرُورَةِ، كَمَنْ نَسِيَ صَلاةً مِنْ الخَمْسِ يُصَليهِنَّ وَيُعْذَرُ فِي تَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَإِنْ شَاءَ صَلى عَلى الجَمِيعِ صَلاةً وَاحِدَةً وَيَنْوِي الصَّلاةَ عَلى المُسْلمِينَ مِنْ هَؤُلاءِ، وَهَذِهِ الكَيْفِيَّةُ الثَّانِيَةُ أَوْلى؛ لأَنَّهُ ليْسَ فِيهَا صَلاةٌ عَلى كَافِرٍ حَقِيقَةً، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الكَيْفِيَّتَيْنِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلكَ القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ البَيَانِ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَقَطَعَ المَحَامِليُّ فِي كُتُبِهِ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَآخَرُونَ بِالكَيْفِيَّةِ الأُولى. وَقَطَعَ البَنْدَنِيجِيُّ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ بِالكَيْفِيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَنَقَلهَا ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَليْسَ هَذَا اخْتِلافًا بِالاتِّفَاقِ، بَل مِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِالجَائِزَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ عَلى أَحَدِهِمَا وَلمْ يَنْفِ الآخَرُ.
قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَكَذَا لوْ اخْتَلطَ الشَّهِيدُ بِغَيْرِهِ غُسِّل الجَمِيعُ وَصُليَ عَليْهِمْ، وَنُوِيَ بِالصَّلاةِ غَيْرُ الشَّهِيدِ. قَال القَاضِي: وَلوْ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةٌ وَفِي بَطْنِهَا وَلدٌ مُسْلمٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلكَ فَإِنْ قُلنَا بِالقَدِيمِ: إنَّ السِّقْطَ الذِي لمْ يَسْتَهِل يُصَلى عَليْهِ؟ صُلي عَليْهِ وَنُوِيّ بِالصَّلاةِ الوَلدُ الذِي فِي جَوْفِهَا. وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَ الصَّلاةِ عَلى كُل وَاحِدٍ مِنْ المُخْتَلطِينَ مُفْرَدًا، وَهَذَا تَعْليقٌ للنِّيَّةِ احْتَمَلنَاهُ للحَاجَةِ، وَيَجُوزُ التَّعْليقُ أَيْضًا فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالحَجِّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَصُورَتُهُ فِي الزَّكَاةِ أَنْ يَقُول: نَوَيْت هَذَا عَنْ زَكَاةِ مَالي الغَائِبِ إنْ كَانَ غَائِبًا وَإِلا فَعَنْ الحَاضِرِ، وَفِي الصَّوْمِ أَنْ يَنْوِيَ ليْلةَ الثَّلاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ غَدٍ إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِي الحَجِّ أَنْ يَنْوِيَ إحْرَامًا كَإِحْرَامِ زَيْدٍ.
 فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي اخْتِلاطِ المُسْلمِينَ بِالكُفَّارِ المَوْتَى إذَا لمْ يَتَمَيَّزُوا ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ غُسْل الجَمِيعِ وَالصَّلاةِ عَليْهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ عَدَدُ المُسْلمِينَ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالكٍ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد وَابْنِ المُنْذِرِ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ: إنْ كَانَ عَدَدُ المُسْلمِينَ، أَكْثَرَ صُليَ عَلى الجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُ الكُفَّارِ أَكْثَرَ أَوْ اسْتَوَى العَدَدَانِ لمْ يُصَل،؛ لأَنَّهُ اخْتَلطَ مَنْ تَحْرُمُ الصَّلاةُ عَليْهِ بِغَيْرِهِ، فَغَلبَ التَّحْرِيمُ، كَمَا لوْ اخْتَلطَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ حَرُمَ نِكَاحُهَا.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الصَّلاةَ عَلى المُسْلمِينَ وَاجِبَةٌ وَلا يُمْكِنُ إلا بِالصَّلاةِ عَلى الجَمِيعِ فَوَجَبَ ذَلكَ؛ لأَنَّ مَا لا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَقِيَاسًا عَلى مَا إذَا كَانَ عَدَدُ المُسْلمِينَ أَكْثَرَ، وَقَوْلهُمْ "اخْتَلطَ الحَرَامُ بِغَيْرِهِ "يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا زَادَ عَدَدُ المُسْلمِينَ وَقِيَاسُهُمْ عَلى اخْتِلاطِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ يُنْتَقَضُ بِاخْتِلاطِهَا بِعَدَدٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ، فَإِنَّهُ يَتَزَوَّجُ وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: ذَكَرَ المُتَوَلي فِي أَوَّل كِتَابِ الصِّيَامِ أَنَّهُ لوْ مَاتَ ذِمِّيٌّ فَشَهِدَ عَدْلٌ بِأَنَّهُ أَسْلمَ قَبْل مَوْتِهِ وَلمْ يَشْهَدْ غَيْرُهُ لمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِ فِي تَوْرِيثِ قَرِيبِهِ المُسْلمِ مِنْهُ، وَلا حِرْمَانِ قَرِيبِهِ الكَافِرِ بِلا خِلافٍ، وَهَل تُقْبَل شَهَادَتُهُ فِي الصَّلاةِ عَليْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: بِنَاءً عَلى القَوْليْنِ فِي ثُبُوتِ هِلال رَمَضَانَ بِقَوْل عَدْلٍ وَاحِدٍ.

 

ج / 5 ص -157-       قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ مَاتَ مِنْ المُسْلمِينَ فِي جِهَادِ الكُفَّارِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ قِتَالهِمْ قَبْل انْقِضَاءِ الحَرْبِ فَهُوَ شَهِيدٌ لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ، لمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "أَمَرَ فِي قَتْلى أُحُدٍ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلمْ يُصَل عَليْهِمْ وَلمْ يُغَسَّلوا"وَإِنْ جُرِحَ فِي الحَرْبِ وَمَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الحَرْبِ غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ؛ لأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الحَرْبِ، وَمَنْ قُتِل فِي الحَرْبِ وَهُوَ جُنُبٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: قَال أَبُو العَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَليِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُغَسَّل، لمَا رُوِيَ "أَنَّ حَنْظَلةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِل، فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُ حَنْظَلةَ؟ فَإِنِّي رَأَيْت المَلائِكَةَ تُغَسِّلهُ، فَقَالوا: جَامَعَ فَسَمِعَ الهَيْعَةَ فَخَرَجَ إلى القِتَال"فَلوْ لمْ يَجِبْ غُسْلهُ لمَا غَسَّلتْهُ المَلائِكَةُ. وَقَال أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لا يُغَسَّل؛ لأَنَّهُ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَسَقَطَ حُكْمُهَا بِالشَّهَادَةِ كَغُسْل المَيِّتِ، وَمَنْ قُتِل مِنْ أَهْل البَغْيِ فِي قِتَال أَهْل العَدْل غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ؛ لأَنَّهُ مُسْلمٌ قُتِل بِحَقٍّ فَلمْ يَسْقُطْ غُسْلهُ وَالصَّلاةُ عَليْهِ، كَمَنْ قُتِل فِي الزِّنَا وَالقِصَاصِ، وَمَنْ قُتِل مِنْ أَهْل العَدْل فِي حَرْبِ أَهْل البَغْيِ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ؛ لأَنَّهُ مُسْلمٌ قُتِل فِي غَيْرِ حَرْبِ الكُفَّارِ، فَهُوَ كَمَنْ قَتَلهُ اللصُوصُ. والثاني: أَنَّهُ لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ؛ لأَنَّهُ قُتِل فِي حَرْبٍ هُوَ فِيهِ عَلى الحَقِّ وَقَاتِلهُ عَلى البَاطِل، فَأَشْبَهَ المَقْتُول فِي مَعْرَكَةِ الكُفَّارِ، وَمَنْ قَتَلهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْ أَهْل القَافِلةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ والثاني: لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ لمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَهْل العَدْل".
 الشرح: حَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ البُخَارِيُّ رحمه الله، وَأَمَّا حَدِيثُ حَنْظَلةَ بْنِ الرَّاهِبِ وَأَنَّ المَلائِكَةَ غَسَّلتْهُ لمَّا كَانَ جُنُبًا وَاسْتُشْهِدَ، فَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مُتَّصِلًا، وَرَوَاهُ مُرْسَلًا مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَرِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، لهَذَا يَكُونُ مُرْسَل صَحَابِيٍّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ وُلدَ قَبْل سَنَتَيْنِ فَقَطْ، وَهَذِهِ القِصَّةُ كَانَتْ بِأُحُدٍ، وَمُرْسَل الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عَلى الصَّحِيحِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَسُمِّيَ بِذَلكَ لأَوْجُهٍ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي بَابِ السِّوَاكِ. وَقَوْلهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه "وَلمْ يُصَل عَليْهِمْ "هُوَ بِفَتْحِ اللامِ. قَوْلهُ: "سَمِعَ هَيْعَةً "بِفَتْحِ الهَاءِ وَإِسْكَانِ اليَاءِ، وَهِيَ الصَّوْتُ الذِي يُفْزَعُ مِنْهُ. قَوْلهُ "طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَسَقَطَ حُكْمُهَا بِالشَّهَادَةِ "احْتِرَازٌ مِنْ طَهَارَةِ النَّجَسِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ إزَالتُهَا عَلى المَذْهَبِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. قَوْلهُ "؛ لأَنَّهُ مُسْلمٌ قُتِل بِحَقٍّ فَلمْ يَسْقُطْ غُسْلهُ، فِيهِ احْتِرَازٌ مِمَّنْ قَتَلهُ الكُفَّارُ فَهُوَ شَهِيدٌ. قَوْلهُ: "قَتَلهُ اللصُوصُ "هُوَ بِضَمِّ اللامِ، جَمْعُ لصٍّ بِكَسْرِهَا كَحِمْلٍ وَحُمُولٍ.
أما حكم الفصل فَفِيهِ مَسَائِل: إحداها: الشَّهِيدُ لا يَجُوزُ غُسْلهُ وَلا الصَّلاةُ عَليْهِ وَقَال المُزَنِيّ رحمه الله يُصَلى عَليْهِ. وَحَكَى إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَجْهًا أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلاةُ عَليْهِ وَلا تَجِبُ وَلا يُغَسَّل. وَقَال الرَّافِعِيُّ رحمه الله: الغَسْل إنْ أَدَّى إلى إزَالةِ الدَّمِ حَرَامٌ بِلا خِلافٍ، وَإِلا فَحَرَامٌ عَلى المَذْهَبِ، وَقِيل فِي تَحْرِيمِهِ الخِلافُ الذِي فِي الصَّلاةِ،، وَالمَذْهَبُ مَا سَبَقَ مِنْ الجَزْمِ بِتَحْرِيمِ الصَّلاةِ وَالغُسْل جَمِيعًا، وَدَليلهُ حَدِيثُ جَابِرٍ مَعَ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ العُلمَاءِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.

 

ج / 5 ص -158-       الثانية يَثْبُتُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ للرَّجُل وَالمَرْأَةِ وَالعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالصَّالحِ وَالفَاسِقِ.
الثالثة: الشَّهِيدُ الذِي لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ هُوَ مَنْ مَاتَ بِسَبَبِ قِتَال الكُفَّارِ حَال قِيَامِ القِتَال، سَوَاءٌ قَتَلهُ كَافِرٌ، أَوْ أَصَابَهُ سِلاحُ مُسْلمٍ خَطَأً أَوْ عَادَ إليْهِ سِلاحُ نَفْسِهِ أَوْ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ أَوْ رَمَحَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ أَوْ وَطِئَتْهُ دَوَابُّ المُسْلمِينَ أَوْ غَيْرُهُمْ أَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ لا يُعْرَفُ هَل رَمَى بِهِ مُسْلمٌ أَمْ كَافِرٌ، أَوْ وُجِدَ قَتِيلًا عِنْدَ انْكِشَافِ الحَرْبِ وَلمْ يُعْلمْ سَبَبُ مَوْتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَليْهِ أَثَرُ دَمٍ أَمْ لا، وَسَوَاءٌ مَاتَ فِي الحَال أَمْ بَقِيَ زَمَنًا ثُمَّ مَاتَ بِذَلكَ السَّبَبِ قَبْل انْقِضَاءِ الحَرْبِ، وَسَوَاءٌ أَكَل وَشَرِبَ وَوَصَّى أَمْ لمْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ ذَلكَ، وَهَذَا كُلهُ مُتَّفَقٌ عَليْهِ عِنْدَنَا، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ، وَلا خِلافَ فِيهِ إلا وَجْهًا شَاذًّا مَرْدُودًا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فِي الفُرُوقِ أَنَّ مَنْ رَجَعَ إليْهِ سِلاحُهُ أَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةُ مُسْلمٍ أَوْ مُشْرِكٍ أَوْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ حَال القِتَال وَنَحْوِهِ ليْسَ بِشَهِيدٍ، بَل يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ وَالصَّوَابُ الأَوَّل.
أَمَّا إذَا مَاتَ فِي مُعْتَرَكِ الكُفَّارِ لا بِسَبَبِ قِتَالهِمْ، بَل فَجْأَةً أَوْ بِمَرَضٍ فَطَرِيقَانِ: المَذْهَبُ أَنَّهُ ليْسَ بِشَهِيدٍ، وَبِهِ قَطَعَ المَاوَرْدِيُّ وَالقَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ وَالثَّانِي فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: شَهِيدٌ وَأَصَحُّهُمَا ليْسَ بِشَهِيدٍ، حَكَاهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ، قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ. رحمهم الله: وَكَذَا لوْ قَتَلهُ مُسْلمٌ عَمْدًا أَوْ رَمَى إلى صَيْدٍ فَأَصَابَهُ فِي حَال القِتَال وَمَاتَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ، فَإِنْ قُطِعَ بِمَوْتِهِ مِنْ تِلكَ الجِرَاحَةِ وَبَقِيَ فِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الحَرْبِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَقَوْلانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: ليْسَ بِشَهِيدٍ، سَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ القَوْليْنِ أَكَل وَشَرِبَ وَصَلى وَتَكَلمَ أَمْ لا، وَسَوَاءٌ طَال الزَّمَانُ أَمْ لا، هَذَا هُوَ المَشْهُورُ، وَقِيل: إنْ مَاتَ عَنْ قُرْبٍ فَقَوْلانِ، وَإِنْ طَال الزَّمَانُ فَليْسَ بِشَهِيدٍ قَطْعًا، أَمَّا إذَا انْقَضَتْ الحَرْبُ وَليْسَ فِيهِ إلا حَرَكَةُ مَذْبُوحٍ فَهُوَ شَهِيدٌ بِلا خِلافٍ؛ لأَنَّهُ فِي حُكْمِ المَيِّتِ، وَإِنْ انْقَضَتْ وَهُوَ مُتَوَقَّعُ الحَيَاةِ فَليْسَ بِشَهِيدٍ بِلا خِلافٍ.
الرابعة إذَا قَتَل أَهْل العَدْل إنْسَانًا مِنْ أَهْل البَغْيِ فِي حَال القِتَال غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ بِلا خِلافٍ، وَإِنْ قَتَل أَهْل البَغْيِ عَادِلًا فَقَوْلانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ كَعَكْسِهِ، قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ فِي كِتَابَيْهِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا هُوَ المَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي القَدِيمِ وَالجَدِيدِ والثاني: نَصَّ عَليْهِ فِي قِتَال أَهْل البَغْيِ لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ؛ لأَنَّهُ مَقْتُولٌ فِي حَرْبِ مُبْطِلينَ فَأَشْبَهَ الكُفَّارَ.
الخامسة: مَنْ قَتَلهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فِيهِ طَرِيقَانِ: حَكَاهُمَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ وَأَحَدُهُمَا: ليْسَ بِشَهِيدٍ قَطْعًا، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ وأصحهما: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالأَكْثَرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: بِاتِّفَاقِهِمْ ليْسَ بِشَهِيدٍ والثاني: شَهِيدٌ أَمَّا مَنْ قَتَلهُ اللصُوصُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ ليْسَ بِشَهِيدٍ قَطْعًا.
والثاني: أَنَّهُ كَمَنْ قَتَلهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَيَكُونُ فِيهِ الطَّرِيقَانِ. وَلوْ دَخَل حَرْبِيٌّ دَارَ الإِسْلامِ فَقَتَل مُسْلمًا اغْتِيَالًا فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ الصحيح: بِاتِّفَاقِهِمْ ليْسَ بِشَهِيدٍ. وَلوْ أَسَرَ الكُفَّارُ مُسْلمًا ثُمَّ قَتَلوهُ صَبْرًا فَفِي كَوْنِهِ شَهِيدًا فِي تَرْكِ الغُسْل وَالصَّلاةِ عَليْهِ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ أَصَحُّهُمَا ليْسَ بِشَهِيدٍ.

 

ج / 5 ص -159-       السادسة: المَرْجُومُ فِي الزِّنَا وَالمَقْتُول قِصَاصًا وَالصَّائِل وَوَلدُ الزِّنَا وَالغَال مِنْ الغَنِيمَةِ إذَا لمْ يَحْضُرْ القِتَال وَنَحْوُهُمْ يُغَسَّلونَ وَيُصَلى عَليْهِمْ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِهِمْ خِلافٌ للسَّلفِ سَنَذْكُرُهُ فِي فُرُوعِ مَذَاهِبِ العُلمَاءِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. السابعة: لوْ اُسْتُشْهِدَ جُنُبٌ فَوَجْهَانِ: أصحهما: بِاتِّفَاقِ المُصَنِّفِينَ يَحْرُمُ غُسْلهُ وَبِهِ قَال جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا المُتَقَدِّمِينَ؛ لأَنَّهَا طَهَارَةُ حَدَثٍ فَلمْ يَجُزْ كَغُسْل المَوْتِ والثاني: وَبِهِ قَال ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجِبُ غُسْلهُ بِسَبَبِ شَهَادَةِ الجَنَابَةِ، وَالخِلافُ إنَّمَا هُوَ فِي غُسْلهِ عَنْ الجَنَابَةِ، وَلا خِلافَ أَنَّهُ لا يُغَسَّل بِنِيَّةِ غُسْل المَوْتِ، قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالمَحَامِليُّ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالعَبْدَرِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَخَلائِقُ مِنْ الأَصْحَابِ: لا خِلافَ أَنَّهُ لا يُصَلى عَليْهِ وَإِنْ غَسَّلنَاهُ قُلت: وَقَدْ سَبَقَ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يُصَلى عَلى كُل شَهِيدٍ، فَيَجِيءُ هُنَا، مَا إذَا اُسْتُشْهِدَتْ مُنْقَطِعَةُ الحَيْضِ قَبْل اغْتِسَالهَا فَهِيَ كَالجُنُبِ، وَإِنْ اُسْتُشْهِدَتْ فِي أَثْنَاءِ الحَيْضِ - فَإِنْ قُلنَا الجُنُبُ لا يُغَسَّل - فَهِيَ أَوْلى، وَإِلا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ البَحْرِ، بِنَاءً عَلى أَنَّ غُسْل الحَائِضِ يَجِبُ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ أَمْ بِانْقِطَاعِهِ أَمْ بِهِمَا؟ وَفِيهِ أَوْجُهٌ: سَبَقَتْ فِي بَابِ مَا يُوجِبُ الغُسْل. فَإِنْ قُلنَا بِرُؤْيَتِهِ فَهِيَ كَالجُنُبِ وَإِلا فَلا تُغَسَّل قَطْعًا وَهُوَ الأَصَحُّ، وَقَدْ أَشَارَ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ إلى الجَزْمِ بِأَنَّهَا لا تُغَسَّل بِالاتِّفَاقِ وَجَعَلاهُ إلزَامًا لابْنِ سُرَيْجٍ.
 فرع: لوْ أَصَابَتْ الشَّهِيدَ نَجَاسَةٌ لا بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الخُرَاسَانِيُّونَ وَبَعْضُ العِرَاقِيِّينَ أصحهما: بِاتِّفَاقِهِمْ، وَبِهِ قَطَعَ المَاوَرْدِيُّ وَالقَاضِي حُسَيْنٌ وَالجُرْجَانِيُّ وَالبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ يَجِبُ غَسْلهَا؛ لأَنَّهَا ليْسَتْ مِنْ آثَارِ الشَّهَادَةِ والثاني: لا يَجُوزُ والثالث: إنْ أَدَّى غَسْلهَا إلى إزَالةِ دَمِ الشَّهَادَةِ لمْ تُغَسَّل وَإِلا غُسِّلتْ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الثَّالثَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ وَالرَّافِعِيُّ.
فرع: ذَكَرَ المُصَنِّفُ حَدِيثَ حَنْظَلةَ بْنِ الرَّاهِبِ وَغُسْل المَلائِكَةِ لهُ حِينَ اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ1، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَلوْ ثَبَتَ فالجواب:  عَنْهُ أَنَّ الغُسْل لوْ كَانَ وَاجِبًا لمَا سَقَطَ بِفِعْل المَلائِكَةِ
وَلأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِغُسْلهِ، وَلهَذَا احْتَجَّ القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ بِهَذَا الحَدِيثِ لتَرْكِ الغُسْل، وَهَذَا الجَوَابُ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الأَصْحَابِ وَقَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَال ابْنُ سُرَيْجٍ رَدًّا لهَذَا الجَوَابِ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ تَكْفِينُهُ لوْ كَفَّنَتْهُ المَلائِكَةُ بِالسُّنْدُسِ، قَال القَاضِي: وَالجَوَابُ أَنَّا لوْ شَاهَدْنَا تَكْفِينَهُ وَسَتْرَ عَوْرَتِهِ لمْ نَزِدْ عَلى ذَلكَ؛ لأَنَّ المَقْصُودَ سَتْرُهُ وَقَدْ حَصَل، وَأَمَّا الغُسْل فَالمَطْلوبُ مِنْهُ تَعَبُّدُ الآدَمِيِّ بِهِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ نَحْوَ هَذَا، وَأَمَّا المُصَنِّفُ فَقَال فِي كِتَابِهِ: لوْ صَلتْ عَليْهِ المَلائِكَةُ أَوْ كَفَّنَتْهُ فِي السُّنْدُسِ لمْ يُكْتَفَ بِهِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
الثَّامِنَةُ: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله يُنْزَعُ عَنْ الشَّهِيدِ مَا ليْسَ مِنْ غَالبِ لبَاسِ النَّاسِ كَالجُلودِ وَالفِرَاءِ وَالخِفَافِ وَالدِّرْعِ وَالبَيْضَةِ وَالجُبَّةِ المَحْشُوَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَأَمَّا بَاقِي الثِّيَابِ المُعْتَادِ لبْسُهَا التِي قُتِل فِيهَا فَوَليُّهُ بِالخِيَارِ إنْ شَاءَ نَزَعَهَا وَكَفَّنَهُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَليْهِ وَدَفَنَهُ فِيهَا، وَلا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ، قَالوا: وَالدَّفْنُ فِيهَا أَفْضَل وَالثِّيَابُ المُلطَّخَةُ بِدَمِ الشَّهَادَةِ أَفْضَل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكر الشارح ضعفه وغنما وصفه بجودة الإسناد.

 

ج / 5 ص -160-       فَإِنْ لمْ يَكُنْ مَا عَليْهِ كَافِيًا للكَفَنِ الوَاجِبِ وَجَبَ إتْمَامُهُ، وَدَليل هَذِهِ المَسْأَلةِ حَدِيثُ جَابِرٍ السَّابِقُ وَهُوَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ رحمه الله.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال
"أَمَرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الحَدِيدُ وَالجُلودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ رحمه الله يُضَعِّفُ أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيثَ
 وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال
"رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ، وَنَحْنُ مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ. وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ رحمه الله أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رضي الله عنه قُتِل يَوْمَ أُحُدٍ فَلمْ يُوجَدْ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إلا بُرْدَةٌ، وَقُتِل حَمْزَةُ رضي الله عنه فَلمْ يُوجَدْ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إلا بُرْدَةٌ.
التَّاسِعَةُ: الشُّهَدَاءُ الذِينَ لمْ يَمُوتُوا بِسَبَبِ حَرْبِ الكُفَّارِ كَالمَبْطُونِ وَالمَطْعُونِ وَالغَرِيقِ وَصَاحِبِ الهَدْمِ وَالغَرِيبِ وَالمَيِّتَةِ فِي الطَّلقِ وَمَنْ قَتَلهُ مُسْلمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ حَال القِتَال وَشِبْهِهِمْ، فَهَؤُلاءِ يُغَسَّلونَ وَيُصَلى عَليْهِمْ بِلا خِلافٍ، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَلفْظُ الشَّهَادَةِ الوَارِدَةِ فِيهِ المُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ فِي ثَوَابِ الآخِرَةِ لا فِي تَرْكِ الغُسْل وَالصَّلاةِ.
وَاعْلمْ أَنَّ الشُّهَدَاءَ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ: أحدها: شَهِيدٌ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، وَهُوَ تَرْكُ الغُسْل وَالصَّلاةِ، وَفِي حُكْمِ الآخِرَةِ بِمَعْنَى أَنَّ لهُ ثَوَابًا خَاصًّا، وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَهَذَا هُوَ الذِي مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ قِتَال الكُفَّارِ قَبْل انْقِضَاءِ الحَرْبِ وَسَبَقَ تَفْصِيلهُ والثاني: شَهِيدٌ فِي الآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا، وَهُوَ المَبْطُونُ وَالمَطْعُونُ وَالغَرِيقُ وَأَشْبَاهُهُمْ والثالث: شَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا دُونَ الآخِرَةِ، وَهُوَ المَقْتُول فِي حَرْبِ الكُفَّارِ، وَقَدْ غَل مِنْ الغَنِيمَةِ، أَوْ قُتِل مُدْبِرًا، أَوْ قَاتَل رِيَاءً، وَنَحْوُهُ فَلهُ حُكْمُ الشُّهَدَاءِ فِي الدُّنْيَا دُونَ الآخِرَةِ، وَالدَّليل، للقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَليًّا رضي الله عنهم غُسِّلوا وَصُليَ عَليْهِمْ بِالاتِّفَاقِ، وَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
العَاشِرَةُ: فِي حِكْمَةِ تَرْكِ غُسْل الشَّهِيدِ وَالصَّلاةِ عَليْهِ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: لعَل تَرْكَ الغُسْل وَالصَّلاةِ لأَنْ يَلقَوْا اللهَ بِكُلومِهِمْ، لمَا جَاءَ أَنَّ رِيحَ دَمِهِمْ رِيحُ المِسْكِ؛ وَاسْتَغْنَوْا بِإِكْرَامِ اللهِ لهُمْ عَنْ الصَّلاةِ عَليْهِمْ، مَعَ التَّخْفِيفِ عَلى مَنْ بَقِيَ مِنْ المُسْلمِينَ، لمَا يَكُونُ فِيمَنْ قَاتَل فِي الزَّحْفِ مِنْ الجِرَاحَاتِ، وَخَوْفِ عَوْدَةِ العَدُوِّ، وَرَجَاءِ طَلبِهِمْ وَهَمِّهِمْ بِأَهْلهِمْ، وَهَمِّ أَهْليهِمْ بِهِمْ وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: (فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي غُسْل الشَّهِيدِ وَالصَّلاةِ عَليْهِ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا تَحْرِيمُهَا، وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَسُليْمَانَ بْنِ مُوسَى وَيَحْيَى الأَنْصَارِيِّ وَالحَاكِمِ وَحَمَّادٍ وَالليْثِ وَمَالكٍ وَتَابِعِيهِ مِنْ أَهْل المَدِينَةِ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ المُنْذِرِ.

 

ج / 5 ص -161-       وَقَال سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ: يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالمُزَنِيُّ: يُصَلى عَليْهِ وَلا يُغَسَّل. وَاحْتُجَّ لأَبِي حَنِيفَةَ بِأَحَادِيثَ أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى قَتْلى أُحُدٍ، وَصَلى عَلى حَمْزَةَ صَلوَاتٍ".
وَمِنْهَا: رِوَايَةُ أَبِي مَالكٍ الغِفَارِيِّ رضي الله عنه
أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى قَتْلى أُحُدٍ: عَشَرَةً عَشَرَةً فِي كُل عَشَرَةٍ حَمْزَةُ حَتَّى صَلى عَليْهِ سَبْعِينَ صَلاةً"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي المَرَاسِيل.
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الهَادِي
"أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَعْرَابِ جَاءَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَذَكَرَ الحَدِيثَ بِطُولهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ فَصَلى عَليْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَصَلى عَلى قَتْلى أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلى المَيِّتِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ صَلى عَليْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ كَالمُوَدِّعِ للأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ
"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فِي قَتْلى أُحُدٍ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلمْ يُصَل عَليْهِمْ وَلمْ يُغَسَّلوا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال فِي قَتْلى أُحُدٍ: لا تُغَسِّلوهُمْ فَإِنَّ كُل جُرْحٍ أَوْ كُل دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ القِيَامَةِ. وَلمْ يُصَل عَليْهِمْ"رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَنْ: أَنَسٍ "أَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ لمْ يُغَسَّلوا وَدُفِنُوا بِدِمَائِهِمْ وَلمْ يُصَل عَليْهِمْ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ.
وَأَمَّا: الأَحَادِيثُ التِي احْتَجَّ بِهَا القَائِلونَ فِي الصَّلاةِ فَاتَّفَقَ أَهْل الحَدِيثِ عَلى ضَعْفِهَا كُلهَا إلا حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالضَّعْفُ فِيهَا بَيِّنٌ، قَال البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَقْرَبُ مَا رُوِيَ حَدِيثُ أَبِي مَالكٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَكَذَا حَدِيثُ شَدَّادٍ مُرْسَلٌ أَيْضًا فَإِنَّهُمَا تَابِعَانِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ المُرَادَ مِنْ الصَّلاةِ هُنَا الدُّعَاءُ. وقوله: صَلاتُهُ عَلى المَيِّتِ. أَيْ: دَعَا لهُمْ كَدُعَاءِ صَلاةِ المَيِّتِ، وَهَذَا التَّأْوِيل لا بُدَّ مِنْهُ، وَليْسَ المُرَادُ صَلاةَ الجِنَازَةِ المَعْرُوفَةَ بِالإِجْمَاعِ؛ لأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا فَعَلهُ عِنْدَ مَوْتِهِ بَعْدَ دَفْنِهِمْ بِثَمَانِ سِنِينَ، وَلوْ كَانَ صَلاةَ الجِنَازَةِ المَعْرُوفَةَ لمَا أَخَّرَهَا ثَمَانِ سِنِينَ، وَدَليلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ صَلاةَ الجِنَازَةِ بِالإِجْمَاعِ؛ لأَنَّ عِنْدَنَا لا يُصَلى عَلى الشَّهِيدِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يُصَلى عَلى القَبْرِ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فَوَجَبَ تَأْوِيل الحَدِيثِ؛ وَلأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لا يَقْبَل خَبَرَ الوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ البَلوَى،، وَهَذَا مِنْهَا وَاَللهُ أَعْلمُ.
فإن قيل: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ لا يُحْتَجُّ بِهِ؛ لأَنَّهُ نَفْيٌ وَشَهَادَةُ النَّفْيِ مَرْدُودَةٌ مَعَ مَا عَارَضَهَا مِنْ رِوَايَةِ الإِثْبَاتِ (فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا) بِأَنَّ شَهَادَةَ النَّفْيِ إنَّمَا تُرَدُّ إذَا لمْ يُحِطْ بِهَا عِلمُ الشَّاهِدِ، وَلمْ تَكُنْ مَحْصُورَةً (أَمَّا) مَا أَحَاطَ بِهِ عِلمُهُ وَكَانَ مَحْصُورًا فَيُقْبَل بِالاتِّفَاقِ، وَهَذِهِ قِصَّةٌ مُعَيَّنَةٌ أَحَاطَ بِهَا جَابِرٌ وَغَيْرُهُ عِلمًا، وَأَمَّا رِوَايَةُ الإِثْبَاتِ فَضَعِيفَةٌ فَوُجُودُهَا كَالعَدَمِ إلا حَدِيثَ عُقْبَةَ وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ، وَاشْتَدَّ إنْكَارُ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ وَتَشْنِيعُهُ عَلى مَنْ يَقُول: يُصَلى عَلى الشَّهِيدِ، مُحْتَجًّا بِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ: "أَنَّ حَمْزَةَ رضي الله عنه صُليَ عَليْهِ سَبْعُونَ صَلاةً، وَكَانَ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ مِنْ القَتْلى وَحَمْزَةُ عَاشِرُهُمْ

 

ج / 5 ص -162-       فَيُصَلى عَليْهِمْ، ثُمَّ يُرْفَعُونَ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ، ثُمَّ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ آخَرِينَ فَيُصَلى عَليْهِمْ وَعَلى حَمْزَةَ حَتَّى صُليَ عَليْهِ سَبْعُونَ صَلاةً".
قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ شَهِيدًا فَإِذَا صَلى عَليْهِمْ عَشَرَةً فَالصَّوَابُ أَنْ لا يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ صَلوَاتٍ أَوْ ثَمَانٍ عَلى أَنَّهُ صَلى عَلى كُل تِسْعَةٍ مَعَ حَمْزَةَ صَلاةً، فَهَذِهِ سَبْعٌ فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ سَبْعُونَ صَلاةً؟ وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ كَبَّرَ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً فَنَحْنُ وَهُمْ نَقُول: التَّكْبِيرُ أَرْبَعٌ فَهِيَ سِتٌّ وَثَلاثُونَ تَكْبِيرَةً.
قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَنْبَغِي لمَنْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ أَنْ يَسْتَحْيِيَ عَلى نَفْسِهِ وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لهُ أَنْ لا يُعَارِضَ بِهِ الأَحَادِيثَ فَقَدْ جَاءَتْ مِنْ وُجُوهٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "لمْ يُصَل عَليْهِمْ "هَذَا آخِرُ كَلامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي الأَسَاليبِ: مُعْتَمَدُنَا فِي المَسْأَلةِ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لمْ يُصَل عَليْهِمْ، وَلمْ يُغَسَّلوا. وَأَمَّا: مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صَلاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلى شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَخَطَأٌ لمْ يُصَحِّحْهُ الأَئِمَّةُ؛ لأَنَّهُمْ رَوَوْا أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِعَشَرَةٍ عَشَرَةٍ وَحَمْزَةُ أَحَدُهُمْ فَصَلى عَلى حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلاةً، وَهَذَا غَلطٌ ظَاهِرٌ؛ لأَنَّ الشُّهَدَاءَ سَبْعُونَ، وَإِنَّمَا يَخُصُّ حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلاةً لوْ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا صُليَ عَلى المَيِّتِ لمْ يُصَل عَليْهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَبِالاتِّفَاقِ مِنَّا وَمِنْهُ، فَإِنَّ مِنْ صَلى مَرَّةً لا يُصَلي هُوَ ثَانِيَةً؛ وَلأَنَّ الغُسْل لا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، وَهُوَ شَرْطٌ فِي الصَّلاةِ عَلى غَيْرِ الشُّهَدَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لا تَجُوزَ الصَّلاةُ عَلى الشَّهِيدِ بِلا غُسْلٍ.
فَإِنْ قَالوا: سَبَبُ تَرْكِ الغُسْل بَقَاءُ أَثَرِ الشَّهَادَةِ لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "زَمِّلوهُمْ بِكُلومِهِمْ "فَظَهَرَ سَبَبُ تَرْكِ الغُسْل وَبَقِيَتْ الصَّلاةُ مَشْرُوعَةً كَمَا كَانَتْ فالجواب:  أَنَّهُ لوْ كَانَ المُعْتَبَرُ بَقَاءَ الدَّمِ لوَجَبَ أَنْ يُغَسَّل مِنْ قُتِل فِي المُعْتَرَكِ خَنْقًا أَوْ بِمُثَقَّلٍ، وَلمْ يَظْهَرْ دَمٌ؛ وَلأَنَّهُ لوْ كَانَ المُرَادُ بَقَاءَ الدَّمِ ليُمِّمَ، قَال: وَليْسَ مَعْنَى الحَدِيثِ تَرْكَ الغُسْل بِسَبَبٍ، وَإِنَّمَا المُرَادُ نَفْيُ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الغُسْل مُتَعَيِّنٌ لإِزَالةِ الأَذَى، فَقَال صلى الله عليه وسلم: "زَمِّلوهُمْ وَادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَلا تَهْتَمُّوا بِإِزَالتِهَا عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَليْهِمْ الدِّمَاءُ"قَال: وَاَلذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يُرِدْ أَنَّ الدِّمَاءَ التِي يُدْفَنُونَ بِهَا تَبْقَى إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ بُطْلانُ قَوْلهِمْ: إنْ تُرِكَ الغُسْل للدَّمِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَال الشَّهَادَةُ تَطْهِيرٌ للمَقْتُول عَنْ الذُّنُوبِ فَيُغْنِي عَنْ التَّطْهِيرِ بِالمَاءِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْكَ الصَّلاةِ أَيْضًا، فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لتَطْهِيرِهِ بِشَفَاعَةِ المُصَلينَ.
فَإِنْ قِيل: الصَّبِيُّ طَاهِرٌ وَيُصَلى عَليْهِ قُلنَا: الشَّهَادَةُ أَمْرٌ طَارِئٌ يَقْتَضِي رُتْبَةً عَظِيمَةً وَتَمْحِيصًا، فَلا يَبْعُدُ أَنْ يُقَال: إنَّهُ مُغْنٍ عَنْ الغُسْل وَالصَّلاةِ، وَالصَّبِيُّ - وَإِنْ لمْ يَكُنْ مُكَلفًا - فَلمْ يَطْرَأْ عَليْهِ مَا يَقْتَضِي مَرْتَبَةً، وَالطَّرِيقَةُ السَّدِيدَةُ عِنْدَنَا فِي تَرْكِ الغُسْل أَنَّهُ غَيْرُ مُعَللٍ؛ لأَنَّا أَبْطَلنَا عَليْهِمْ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّطْهِيرِ رُبَّمَا لا يَسْتَقِيمُ عَلى السَّيْرِ كَمَا يَنْبَغِي، فَنَقُول إذَا امْتَنَعَ الغُسْل وَبَدَلهُ فَهُوَ كَحَيٍّ لمْ يَجِدْ مَاءً وَلا تُرَابًا، فَإِنَّهُ لا يُصَلي الفَرْضَ عِنْدَهُمْ وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الصَّبِيِّ إذَا اُسْتُشْهِدَ مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ، وَبِهِ قَال الجُمْهُورُ

 

ج / 5 ص -163-       وَحَكَاهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ مَالكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ. دَليلنَا أَنَّهُ مُسْلمٌ قُتِل فِي مُعْتَرَكِ المُشْرِكِينَ بِسَبَبِ قِتَالهِمْ فَأَشْبَهَ البَالغَ وَالمَرْأَةَ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لا ذَنْبَ لهُ. قُلنَا: يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ فِي غَيْرِ المُعْتَرَكِ، وَإِنْ لمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الذَّنْبِ.
فرع: إذَا رَفَسَتْهُ دَابَّةٌ فِي حَرْبِ المُشْرِكِينَ أَوْ عَادَ عَليْهِ سِلاحُهُ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ فِي بِئْرٍ حَال مُطَارِدَتِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ وَكَذَا لوْ وُجِدَ مَيِّتًا وَلا أَثَرَ عَليْهِ، وَقَال مَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ دَليلنَا مَا سَبَقَ فِي الفَرْعِ قَبْلهُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي كَفَنِ الشَّهِيدِ
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُزَال مَا عَليْهِ مِنْ حَدِيدٍ وَجُلودٍ وَجُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ وَكُل مَا ليْسَ فِي عَامِّ لبَاسِ النَّاسِ: ثُمَّ وَليُّهُ بِالخِيَارِ إنْ شَاءَ كَفَّنَهُ بِمَا بَقِيَ عَليْهِ، مِمَّا هُوَ مِنْ عَامِّ لبَاسِ النَّاسِ، وَإِنْ شَاءَ نَزَعَهُ وَكَفَّنَهُ بِغَيْرِهِ وَتَرْكُهُ أَفْضَل كَمَا سَبَقَ. وَقَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ: لا يُنْزَعُ عَنْهُ فَرْوٌ وَلا خُفٌّ وَلا مَحْشُوٌّ وَلا يُخَيَّرُ وَليُّهُ فِي نَزْعِ شَيْءٍ، وَلأَصْحَابِ دَاوُد خِلافٌ كَالمَذْهَبَيْنِ، وَأَجْمَعَ العُلمَاءُ عَلى أَنَّ الحَدِيدَ وَالجُلودَ يُنْزَعُ عَنْهُ، وَسَبَقَ دَليلنَا وَالأَحَادِيثُ الوَارِدَةُ فِي ذَلكَ.
 فرع: المَقْتُول ظُلمًا فِي البَلدِ بِحَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ، يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: إذَا قُتِل بِحَدِيدَةٍ صُليَ عَليْهِ وَلمْ يُغَسَّل. دَليلنَا القِيَاسُ عَلى القَتْل بِمُثَقَّلٍ، فَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ، وَقَال ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ، وَسَبَقَ دَليل الجَمِيعِ.
 فرع: إذَا انْكَشَفَتْ الحَرْبُ عَنْ قَتِيلٍ مُسْلمٍ لمْ يُغَسَّل وَلمْ يُصَل عَليْهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ بِهِ أَثَرٌ أَمْ لا، وَبِهِ قَال مَالكٌ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: إنْ لمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ غُسِّل وَصُليَ عَليْهِ.
 فرع: مَذْهَبُنَا الصَّلاة عَلى المَقْتُول مِنْ البُغَاةِ، وَبِهِ قَال أَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لا يُغَسَّلونَ وَلا يُصَلى عَليْهِمْ. وَقَال مَالكٌ: لا يُصَلي عَليْهِمْ الإِمَامُ وَأَهْل الفَضْل.
 فرع: إذَا قَتَلتْ البُغَاةُ رَجُلًا مِنْ أَهْل العَدْل فَالأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَجِبُ غُسْلهُ وَالصَّلاةُ عَليْهِ، وَبِهِ قَال مَالكٌ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالمَذْهَبَيْنِ.
 فرع: القَتِيل بِحَقٍّ فِي حَدِّ زِنًا أَوْ قِصَاصٍ يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ عِنْدَنَا وَذَلكَ وَاجِبٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَال الزُّهْرِيُّ: يُصَلى عَلى المَقْتُول قِصَاصًا دُونَ المَرْجُومِ، وَقَال مَالكٌ رحمه الله: لا يُصَلي الإِمَامُ عَلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَتُصَلي عَليْهِ الرَّعِيَّةُ.
فرع: مَنْ قَتَل نَفْسَهُ أَوْ غَل فِي الغَنِيمَةِ يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالكٌ وَدَاوُد، وَقَال أَحْمَدُ: لا يُصَلي عَليْهِمَا الإِمَامُ وَتُصَلي بَقِيَّةُ النَّاسِ.

 

ج / 5 ص -164-       فرع: مَذْهَبُنَا وُجُوبُ غُسْل وَلدِ الزِّنَا وَالصَّلاةِ عَليْهِ، وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أَكْثَرِ العُلمَاءِ، قَال: وَبِهِ قَال النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَال قَتَادَةُ: لا يُصَلى عَليْهِ.

فرع فِي الإِشَارَةِ إلى دَلائِل المَسَائِل السَّابِقَةِ
 ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ رحمه الله مِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَبُرَيْدَةَ أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى المَرْجُومَةِ فِي الزِّنَا"وَثَبَتَ فِي البُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ رضي الله عنه "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلى عَلى مَاعِزٍ بَعْدَ أَنْ رَجَمَهُ"وَفِي غَيْرِ البُخَارِيِّ "أَنَّهُ لمْ يُصَل عَليْهِ "وَفِي مُسْلمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ "أَنَّ رَجُلًا قَتَل نَفْسَهُ فَلمْ يُصَل عَليْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا الصَّحِيحِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال "صَلوا خَلفَ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَصَلوا عَلى كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَجَاهِدُوا مَعَ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ"قَالا: هَذَا مُنْقَطِعٌ، فَلمْ يُدْرِكْ مَكْحُولٌ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال البَيْهَقِيُّ: قَدْ رُوِيَ فِي الصَّلاةِ عَلى كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَعَلى مَنْ قَال لا إلهَ إلا اللهُ أَحَادِيثُ كُلهَا ضَعِيفَةٌ غَايَةَ الضَّعْفِ، قَال: وَأَصَحُّ مَا فِيهِ هَذَا المُرْسَل وَاَللهُ أَعْلمُ.

فرع: فِي مَسَائِل تَتَعَلقُ بِالبَابِ
إحداها: إذَا قَتَلنَا تَارِكَ الصَّلاةِ غُسِّل وَكُفِّنَ وَصُليَ عَليْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ المُسْلمِينَ وَرُفِعَ قَبْرُهُ كَغَيْرِهِ كَمَا يُفْعَل بِسَائِرِ أَصْحَابِ الكَبَائِرِ. هَذَا هُوَ المَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الخُرَاسَانِيُّونَ عَنْ أَبِي العَبَّاسِ بْنِ القَاصِّ صَاحِبِ التَّلخِيصِ أَنَّهُ لا يُغَسَّل وَلا يُكَفَّنُ وَلا يُصَلى عَليْهِ، وَيُطْمَسُ قَبْرُهُ تَغْليظًا عَليْهِ، وَتَحْذِيرًا مِنْ حَالهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ وَاَللهُ أَعْلمُ. وَأَمَّا قَاطِعُ الطَّرِيقِ فَيُبْنَى أَمْرُهُ عَلى صِفَةِ قَتْلهِ وَصَلبِهِ، وَفِيهِ قَوْلانِ: مَشْهُورَانِ فِي بَابِ حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْتَل، ثُمَّ يُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ، ثُمَّ يُصْلبُ مُكَفَّنًا والثاني: يُصْلبُ حَيًّا ثُمَّ يُقْتَل، وَهَل يُنْزَل بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَمْ يَبْقَى حَتَّى يَتَهَرَّى؟ فِيهِ وجهان: إنْ قُلنَا بِالأَوَّل، أُنْزِل فَغُسِّل وَصُليَ عَليْهِ، وَإِنْ قُلنَا بِالثَّانِي لمْ يُغَسَّل وَلمْ يُصَل عَليْهِ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: وَكَانَ لا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقْتَل مَصْلوبًا، وَيُنْزَل وَيُغَسَّل وَيُصَلى عَليْهِ ثُمَّ يُرَدَّ وَلكِنْ لمْ يَذْهَبْ إليْهِ أَحَدٌ. وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لا يُغَسَّل وَلا يُصَلى عَليْهِ عَلى كُل قَوْلٍ
الثانية: قَال صَاحِبُ البَحْرِ رحمه الله: لوْ صُليَ عَلى الأَمْوَاتِ الذِينَ مَاتُوا فِي يَوْمِهِ وَغُسِّلوا فِي البَلدِ الفُلانِيِّ وَلا يُعْرَفُ عَدَدُهُمْ جَازَ قُلت: لا حَاجَةَ إلى التَّخْصِيصِ بِبَلدٍ مُعَيَّنٍ، بَل لوْ صُليَ عَلى أَمْوَاتِ المُسْلمِينَ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ الذِينَ مَاتُوا فِي يَوْمِهِ مِمَّنْ تَجُوزُ الصَّلاةُ عَليْهِمْ جَازَ وَكَانَ حَسَنًا مُسْتَحَبًّا؛ لأَنَّ الصَّلاةَ عَلى الغَائِبِ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا، وَمَعْرِفَةُ أَعْيَانِ المَوْتَى وَأَعْدَادِهِمْ ليْسَتْ شَرْطًا، وَاَللهُ أَعْلمُ.
الثالثة: تُكْرَهُ الصَّلاةُ عَلى الجِنَازَةِ فِي المَقْبَرَةِ بَيْنَ القُبُورِ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ قَال: وَبِهِ أَقُول، وَلمْ يُكْرِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ. وَعَنْ مَالكٍ، رِوَايَتَانِ كَالمَذْهَبَيْنِ.