المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 5 ص -165-       بَابُ حَمْل الجِنَازَةِ وَالدَّفْنِ
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"يَجُوزُ حَمْل الجِنَازَةِ بَيْنَ العَمُودَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَل الحَامِل رَأْسَهُ بَيْنَ عَمُودَيْ مُقَدِّمَةِ النَّعْشِ وَيَجْعَلهُمَا عَلى كَاهِلهِ، وَيَجُوزُ الحَمْل مِنْ الجَوَانِبِ الأَرْبَعَةِ، فَيَبْدَأُ بِيَاسِرَةِ المُقَدِّمَةِ فَيَضَعُ العَمُودَ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ يَجِيءُ إلى يَاسِرَةِ المُؤَخِّرَةِ فَيَضَعُ العَمُودَ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ يَأْخُذُ يَامِنَةَ المُقَدِّمَةِ فَيَضَعُ العَمُودَ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ إلى يَامِنَةِ المُؤَخِّرَةِ فَيَضَعُ العَمُودَ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ، وَالحَمْل بَيْنَ العَمُودَيْنِ أَفْضَل؛ لأَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَل سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ رضي الله عنه بَيْنَ العَمُودَيْنِ؛ وَلأَنَّهُ رُوِيَ ذَلكَ عَنْ عُثْمَانَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم".
الشَّرْحُ: حَدِيثُ حَمْل سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي المُخْتَصَرِ وَالبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ المَعْرِفَةِ وَأَشَارَ إلى تَضْعِيفِهِ، وَالآثَارُ المَذْكُورَةُ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ إلا الأَثَرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَصَحِيحٌ وَاَللهُ أَعْلمُ. وَالمُقَدِّمَةُ بِفَتْحِ الدَّال وَكَسْرِهَا وَالكَسْرُ أَفْضَل، وَاليَامِنَةُ وَاليَاسِرَةُ بِكَسْرِ المِيمِ وَالسِّينِ، وَالكَاهِل مَا بَيْنَ الكَتِفَيْنِ. قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: لحَمْل الجِنَازَةِ كَيْفِيَّتَانِ:
إحْدَاهُمَا: بَيْنَ العَمُودَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلٌ فَيَضَعَ الخَشَبَتَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ وَهُمَا العَمُودَانِ عَلى عَاتِقَيْهِ، وَالخَشَبَةَ المُعْتَرِضَةَ بَيْنَهُمَا عَلى كَاهِلهِ، وَيَحْمِل مُؤَخَّرَ النَّعْشِ رَجُلانِ: أَحَدُهُمَا مِنْ الجَانِبِ الأَيْمَنِ وَالآخَرُ مِنْ الأَيْسَرِ، وَلا يَتَوَسَّطُ الخَشَبَتَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ المُؤَخَّرَتَيْنِ وَاحِدٌ؛ لأَنَّهُ لوْ تَوَسَّطَ لمْ يَرَ مَا بَيْنَ قَدَمَيْهِ بِخِلافِ المُقَدِّمَتَيْنِ. قَال أَصْحَابُنَا فَإِنْ لمْ يَسْتَقِل المُتَقَدِّمُ بِالحَمْل أَعَانَهُ آخَرَانِ خَارِجَ العَمُودَيْنِ يَضَعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلى عَاتِقِهِ، فَتَكُونُ الجِنَازَةُ مَحْمُولةً بِخَمْسَةٍ.
وَالكَيْفِيَّةُ الثَّانِيَةُ: التَّرْبِيعُ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلانِ فَيَضَعَ أَحَدُهُمَا العَمُودَ الأَيْمَنَ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ، وَيَضَعَ الآخَرُ العَمُودَ الأَيْسَرَ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْمَنِ. وَكَذَلكَ يَحْمِل العَمُودَيْنِ اللذَيْنِ فِي آخِرِهَا رَجُلانِ فَتَكُونُ الجِنَازَةُ مَحْمُولةً بِأَرْبَعَةٍ.
قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: مَنْ أَرَادَ التَّبَرُّكَ بِحَمْل الجِنَازَةِ مِنْ جَوَانِبِهَا الأَرْبَعَةِ بَدَأَ بِالعَمُودِ الأَيْسَرِ مِنْ مُقَدِّمِهَا فَحَمَلهُ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ يُسَلمُهُ إلى غَيْرِهِ وَيَأْخُذُ العَمُودَ الأَيْسَرَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا فَيَحْمِلهُ عَلى عَاتِقِهِ الأَيْمَنِ أَيْضًا ثُمَّ يَتَقَدَّمُ أَيْضًا فَيَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهَا وَلا يَجِيءُ مِنْ وَرَائِهَا؛ لئَلا يَكُونَ مَاشِيًا مِنْ خَلفِهَا فَيَأْخُذَ العَمُودَ الأَيْمَنَ مِنْ مُقَدِّمِهَا عَلى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ، ثُمَّ يَأْخُذُ العَمُودَ الأَيْمَنَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا عَلى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ أَيْضًا، وَلا يُمْكِنُهُ هَذَا إلا إذَا حُمِلتْ الجِنَازَةُ عَلى هَيْئَةِ التَّرْبِيعِ. قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: وَكُل وَاحِدَةٍ مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّرْبِيعِ وَالحَمْل بَيْنَ العَمُودَيْنِ جَائِزَةٌ بِلا خِلافٍ، وَأَيُّهُمَا أَفْضَل؟ فِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: الصحيح: الذِي قَطَعَ بِهِ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ الحَمْل بَيْنَ

 

ج / 5 ص -166-       العَمُودَيْنِ أَفْضَل والثاني: التَّرْبِيعُ أَفْضَل، حَكَاهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَقَال: هُوَ ضَعِيفٌ لا أَصْل لهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
والثالث: هُمَا سَوَاءٌ فِي الفَضِيلةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ رحمه الله.
هَذَا إذَا أَرَادَ الاقْتِصَارَ عَلى إحْدَاهُمَا، فَأَمَّا الأَفْضَل مُطْلقًا فَهُوَ الجَمْعُ بَيْنَ الكَيْفِيَّتَيْنِ، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ، وَرَأَيْت نَصَّهُ فِي الأُمِّ، وَنَقَلهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَيْضًا وَغَيْرُهُ. وَصَرَّحَ بِهِ أَبُو حَامِدٍ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالمَحَامِليُّ فِي كُتُبِهِ الثَّلاثَةِ، وَالمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ. ثُمَّ صِفَةُ الجَمْعِ بَيْنَ الكَيْفِيَّتَيْنِ مَا أَشَارَ إليْهِ صَاحِبُ الحَاوِي فِي قَوْلهِ: السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِل الجِنَازَةَ خَمْسَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْ جَوَانِبِهَا وَوَاحِدٌ بَيْنَ العَمُودَيْنِ. وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُ. وَقَال الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: صِفَةُ الجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُحْمَل تَارَةً كَذَا وَتَارَةً كَذَا، فَالحَاصِل أَنَّ الكَيْفِيَّتَيْنِ جَائِزَتَانِ وَالجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَل مِنْ الاقْتِصَارِ عَلى إحْدَاهُمَا، فَإِنْ اقْتَصَرَ فَالحَمْل بَيْنَ العَمُودَيْنِ أَفْضَل. مِنْ التَّرْبِيعِ عَلى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ الوَجْهَانِ: الآخَرَانِ. وَكَلامُ المُصَنِّفِ فِي التَّنْبِيهِ صَرِيحٌ فِي بَيَانِ المَسْأَلةِ عَلى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَلامُهُ هُنَا يُتَأَوَّل عَلى ذَلكَ، فَقَوْلهُ: الحَمْل بَيْنَ العَمُودَيْنِ أَفْضَل - يَعْنِي إنْ اقْتَصَرَ - وَلمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الأَفْضَل مُطْلقًا. ثُمَّ إنَّهُ لمْ يُوَضِّحْ صُورَةَ التَّرْبِيعِ عَلى وَجْهِهَا، وَخَلطَ صِفَةَ التَّرْبِيعِ بِمَسْأَلةِ مَنْ أَرَادَ التَّبَرُّكَ بِحَمْلهَا مِنْ الجَوَانِبِ كُلهَا، وَصَوَابُ المَسْأَلةِ مَا أَوْضَحْنَاهُ أَوَّلًا.
قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ: وَلوْ حَمَل النَّعْشَ عَلى رَأْسِهِ لمْ يَكُنْ حَامِلًا بَيْنَ العَمُودَيْنِ، وَهُوَ كَمَا قَال: وَهَذَا الذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ صِفَةَ الحَمْل بَيْنَ العَمُودَيْنِ أَنْ يَحْمِلهَا ثَلاثَةٌ، اثْنَانِ مِنْ مُؤَخَّرِهَا وَوَاحِدٌ مِنْ مُقَدَّمِهَا هُوَ الصَّحِيحُ المَعْرُوفُ الذِي قَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لا يَكُونُ إلا بِثَلاثَةٍ إلا الدَّارِمِيَّ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَإِنَّهُ حُكِيَ فِي الاسْتِذْكَارِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ رحمه الله أَنَّهُ يَحْصُل بِاثْنَيْنِ، وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ وَاَللهُ أَعْلمُ.

فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ حَمْل الجِنَازَةِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الحَمْل بَيْنَ العَمُودَيْنِ أَفْضَل مِنْ التَّرْبِيعِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ المُغَلسِ الدَّاوُدِيُّ. وَقَال الحَسَنُ البَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: التَّرْبِيعُ أَفْضَل، وَقَال مَالكٌ وَدَاوُد: هُمَا سَوَاءٌ فِي الفَضِيلةِ.
 فرع: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: حَمْل الجِنَازَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَلا خِلافَ فِيهِ، قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَليْسَ فِي حَمْلهَا دَنَاءَةٌ وَسُقُوطُ مُرُوءَةٍ بَل هُوَ بِرٌّ وَطَاعَةٌ وَإِكْرَامٌ للمَيِّتِ، وَفَعَلهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْل الفَضْل وَالعِلمِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
 فرع: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالأَصْحَابُ: لا يَحْمِل الجِنَازَةَ إلا الرِّجَال، سَوَاءٌ كَانَ المَيِّتُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَلا خِلافَ فِي هَذَا؛ لأَنَّ النِّسَاءَ يَضْعُفْنَ عَنْ الحَمْل وَرُبَّمَا انْكَشَفَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ لوْ حَمَلنَ.

 

ج / 5 ص -167-       فرع: قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: يَحْرُمُ حَمْل الجِنَازَةِ عَلى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ، كَحَمْلهِ فِي قُفَّةٍ وَغِرَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلكَ، وَيَحْرُمُ حَمْلهُ عَلى هَيْئَةٍ يُخَافُ مِنْهَا سُقُوطُهُ، قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالأَصْحَابُ: وَيُحْمَل عَلى سَرِيرٍ أَوْ لوْحٍ أَوْ مَحْمِلٍ، قَالوا: وَأَيُّ شَيْءٍ حُمِل عَليْهِ أَجْزَأَ.
قَال القَاضِي وَالبَنْدَنِيجِيّ وَغَيْرُهُمَا: فَإِنْ خِيفَ تَغَيُّرُهُ وَانْفِجَارُهُ قَبْل أَنْ يُهَيَّأَ لهُ مَا يُحْمَل عَليْهِ، فَلا بَأْسَ أَنْ يُحْمَل عَلى الأَيْدِي وَالرِّقَابِ، حَتَّى يُوصَل إلى القَبْرِ.
 فرع: قَال أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُتَّخَذَ للمَرْأَةِ نَعْشٌ، قَال الشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَالنَّعْشُ هُوَ المِكَبَّةُ التِي تُوضَعُ فَوْقَ المَرْأَةِ عَلى السَّرِيرِ، وَتُغَطَّى بِثَوْبٍ لتُسْتَرَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَكَذَا قَالهُ صَاحِبُ الحَاوِي: يُخْتَارُ للمَرْأَةِ إصْلاحُ النَّعْشِ كَالقُبَّةِ عَلى السَّرِيرِ لمَا فِيهِ مِنْ الصِّيَانَةِ وَسَمَّاهُ صَاحِبُ البَيَانِ رحمه الله خَيْمَةً فَقَال: إنْ كَانَتْ امْرَأَةً اُتُّخِذَ لهَا خَيْمَةٌ تَسْتُرُهَا، وَاسْتَدَلوا لهُ بِقِصَّةِ جِنَازَةِ زَيْنَبَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قِيل: وَهِيَ أَوَّل مَنْ حُمِل عَلى هَذَا النَّعْشِ مِنْ المُسْلمَاتِ، وَقَدْ رَوَى البَيْهَقِيُّ رحمه الله أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَوْصَتْ أَنْ يُتَّخَذَ لهَا ذَلكَ فَفَعَلوهُ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَهِيَ قَبْل زَيْنَبَ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ (وَأَمَّا) مَا حَكَاهُ البَنْدَنِيجِيُّ أَنَّ أَوَّل مَا اُتُّخِذَ ذَلكَ فِي جِنَازَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلكَ فَبَاطِلٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ نَبَّهْت عَليْهِ؛ لئَلا يُغْتَرَّ بِهِ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ الإِسْرَاعُ بِالجِنَازَةِ، لمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال "أَسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُنْ صَالحَةً فَخَيْرًا تُقَدِّمُونَهَا إليْهِ، وَإِنْ تَكُنْ سِوَى ذَلكَ فَشَرًّا تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ"وَلا يُبْلغُ بِهِ الخَبَبُ، لمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال "سَأَلنَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ السَّيْرِ بِالجِنَازَةِ فَقَال: دُونَ الخَبَبِ، فَإِنْ يَكُنْ خَيْرًا يُعَجَّل إليْهِ، وَإِنْ يَكُنْ شَرًّا فَبُعْدًا لأَصْحَابِ النَّار".ِ
 الشرح:
هَذَا الحَدِيثُ لفْظُهُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال "أَسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُنْ صَالحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهُ، وَإِنْ تَكُنْ سِوَى ذَلكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَهَذَا لفْظُهُ وَمُسْلمٌ أَيْضًا وَعِنْدَهُ فَخَيْرًا تُقَدِّمُونَهَا عَليْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لهُ "قَرَّبْتُمُوهَا إلى الخَيْرِ ". وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَاتَّفَقُوا عَلى تَضْعِيفِهِ، نَقَل التِّرْمِذِيُّ تَضْعِيفَهُ عَنْ البُخَارِيِّ، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ، وَالضَّعْفُ عَليْهِ بَيِّنٌ.
وَاتَّفَقَ العُلمَاءُ عَلى اسْتِحْبَابِ الإِسْرَاعِ بِالجِنَازَةِ إلا أَنْ يُخَافَ مِنْ الإِسْرَاعِ انْفِجَارُ المَيِّتِ أَوْ تَغَيُّرُهُ وَنَحْوُهُ فَيَتَأَتَّى، قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: المُرَادُ بِالإِسْرَاعِ فَوْقَ المَشْيِ المُعْتَادِ، وَدُونَ الخَبَبِ. قَال أَصْحَابُنَا: فَإِنْ خِيفَ عَليْهِ تَغَيُّرٌ أَوْ انْفِجَارٌ أَوْ، انْتِفَاخٌ زِيدَ فِي الإِسْرَاعِ، قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: وَيُمْشَى بِالجِنَازَةِ عَلى أَسْرَعِ سَجِيَّةِ مَشْيٍ، إلا الإِسْرَاعَ الذِي يَشُقُّ عَلى مَنْ يَتْبَعُهَا إلا أَنْ يُخَافَ تَغَيُّرُهَا أَوْ انْفِجَارُهَا، فَيُعَجِّلوا بِهَا مَا قَدَرُوا، قَال الشَّافِعِيُّ: وَلا أُحِبُّ لأَحَدٍ مِنْ أَهْل الجِنَازَةِ الإِبْطَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِهَا مِنْ غُسْلٍ وَوُقُوفٍ عِنْدَ القَبْرِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.

 

ج / 5 ص -168-       وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَال فِي جِنَازَةِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنهما: "إذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلا تُزَعْزِعُوهُ وَلا تُزَلزِلوهُ "، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلى خَوْفِ مَفْسَدَةٍ مِنْ الإِسْرَاعِ. وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَال: "لقَدْ رَأَيْتنَا وَنَحْنُ نَرْمُل رَمَلًا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي بِالجِنَازَةِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلى الحَاجَةِ إلى زِيَادَةِ الإِسْرَاعِ فِي بَعْضِ الأَحْوَال كَمَا سَبَقَ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ اتِّبَاعُ الجِنَازَةِ لمَا رَوَى البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنه قَال:
"أَمَرَنَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ المَرِيضِ وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ المَظْلومِ"وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَنْصَرِفَ مَنْ يَتْبَعُ الجِنَازَةَ حَتَّى تُدْفَنَ لمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال "مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَصَلى عَليْهَا فَلهُ قِيرَاطٌ، وَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلهُ قِيرَاطَانِ القِيرَاطُ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ".
 الشرح: هَذَانِ الحَدِيثَانِ رَوَاهُمَا البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَعَازِبٌ وَالدُ البَرَاءِ صَحَابِيٌّ رضي الله عنهما، وَالتَّشْمِيتُ يُقَال بِالشِّينِ المُعْجَمَةِ وَبِالمُهْمَلةِ لغَتَانِ، سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي بَابِ هَيْئَةِ الجُمُعَةِ، وَوَقَعَ فِي المُهَذَّبِ القِيرَاطُ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ، وَاَلذِي فِي صَحِيحَيْ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ "القِيرَاطُ مِثْل أُحُدٍ "وَفِي رِوَايَةٍ لهُمَا: "القِيرَاطَانِ مِثْل الجَبَليْنِ العَظِيمَيْنِ "وَفِي رِوَايَةٍ لمُسْلمٍ "أَصْغَرُهُمَا مِثْل أُحُدٍ "قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ: القِيرَاطُ مِقْدَارٌ مِنْ الثَّوَابِ يَقَعُ عَلى القَليل وَالكَثِيرِ، فَبَيَّنَ فِي هَذَا الحَدِيثِ مِثْل أُحُدٍ. وَاعْلمْ أَنَّ القِيرَاطَيْنِ بِالدَّفْنِ إنَّمَا هُمَا لمَنْ صَلى عَليْهَا، فَيَحْصُل لهُ بِالدَّفْنِ وَالصَّلاةِ جَمِيعًا قِيرَاطَانِ، وَبِالصَّلاةِ عَلى انْفِرَادِهَا قِيرَاطٌ، وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتُ الحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ بِبَيَانِ هَذَا، وَلهُ نَظَائِرُ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ أَوْضَحْت كُل هَذَا فِي هَذَا المَوْضِعِ مِنْ شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلمٍ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسْأَلتَانِ:
 إحداهما: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ للرِّجَال اتِّبَاعُ الجِنَازَةِ حَتَّى تُدْفَنَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَليْهِ، للأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيُكْرَهُ لهُنَّ اتِّبَاعُهَا وَلا يَحْرُمُ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ الذِي قَالهُ أَصْحَابُنَا. وَأَمَّا قَوْل الشَّيْخِ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ رحمه الله: لا يَجُوزُ للنِّسَاءِ اتِّبَاعُ الجِنَازَةِ فَمَحْمُولٌ عَلى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْرِيمَ فَهُوَ مَرْدُودٌ، مُخَالفٌ لقَوْل الأَصْحَابِ، بَل للحَدِيثِ الصَّحِيحِ، قَالتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها "نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ وَلمْ يُعْزَمْ عَليْنَا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَهَذَا الحَدِيثُ مَرْفُوعٌ، فَهَذِهِ الصِّيغَةُ مَعْنَاهَا رَفْعُهُ إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الحَدِيثِ وَالأُصُول، وَقَوْلهَا: وَلمْ يُعْزَمْ عَليْنَا مَعْنَاهُ نُهِينَا نَهْيًا شَدِيدًا غَيْرَ مُحَتَّمٍ، وَمَعْنَاهُ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ ليْسَ بِحَرَامٍ.
وَأَمَّا الحَدِيثُ المَرْوِيُّ عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَال:
"خَرَجَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا نِسْوَةٌ جُلوسٌ قَال: مَا تَجْلسْنَ؟ قُلنَ: نَنْتَظِرُ الجِنَازَةَ قَال: هَل تُغَسِّلنَ؟ قُلنَ: لا، قَال: هَل تَحْمِلنَ؟ قُلنَ: لا، قَال هَل تُدْلينَ فِيمَنْ يُدْلي؟ قُلنَ: لا، قَال: فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ"رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ

 

ج / 5 ص -169-       ضَعِيفٍ، مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيل بْنِ سُليْمَانَ الأَزْرَقِ1، وَنَقَل ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ تَضْعِيفَهُ عَنْ أَعْلامِ هَذَا الفَنِّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ2 رضي الله عنهما
أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لفَاطِمَةَ رضي الله عنها: مَا أَخْرَجَك مِنْ بَيْتِك؟ قَالتْ: أَتَيْت أَهْل هَذَا البَيْتِ فَرَحَّمْتُ إليْهِمْ مَيِّتَهُمْ، قَال: لعَلك بَلغْت مَعَهُمْ الكُدَى؟ قَالتْ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ أَكُونَ بَلغْتهَا وَقَدْ سَمِعْتُك تَذْكُرُ فِي ذَلكَ مَا تَذْكُرُ فَقَال: لوْ بَلغْتِهَا مَعَهُمْ مَا رَأَيْت الجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيك"فَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، هَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَرَاهَةِ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجِنَازَةَ هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ العُلمَاءِ حَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَعَائِشَةَ وَمَسْرُوقٍ وَالحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ أَنَّهُمْ لمْ يُنْكِرُوا ذَلكَ، وَلمْ يَكْرَهْهُ مَالكٌ إلا للشَّابَّةِ، وَحَكَى العَبْدَرِيُّ عَنْ مَالكٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ إلا أَنْ يَكُونَ المَيِّتُ وَلدَهَا أَوْ وَالدَهَا أَوْ زَوْجَهَا وَكَانَتْ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِثْلهَا لمِثْلهِ. دَليلنَا حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها.
المَسْأَلةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَتْ الأُمَّةُ عَلى اسْتِحْبَابِ اتِّبَاعِ الجِنَازَةِ، وَحُضُورِ دَفْنِهَا وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَحْصُل بِالصَّلاةِ عَليْهَا قِيرَاطٌ، وَبِالدَّفْنِ قِيرَاطٌ آخَرُ، وَفِيمَا يَحْصُل بِهِ قِيرَاطُ الدَّفْنِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الحَاوِي أحدهما: إذَا وُورِيَ فِي لحْدِهِ والثاني: إذَا فُرِغَ مِنْ قَبْرِهِ، قَال: وَهَذَا أَصَحُّ. وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: إنْ نُضِّدَ اللبِنُ وَلمْ يُهَل التُّرَابُ أَوْ لمْ يُسْتَكْمَل، فَقَدْ تَرَدَّدَ فِيهِ بَعْضُ الأَصْحَابِ. قَال الإِمَامُ: وَالوَجْهُ أَنْ يُقَال إذَا أَقْرَعَ حَصَل، وَقَدْ يُحْتَجُّ لهَذَا بِرِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"مَنْ صَلى عَلى جِنَازَةٍ فَلهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُوضَعَ فِي القَبْرِ فَقِيرَاطَانِ"وَفِي رِوَايَةٍ "حَتَّى تُوضَعَ فِي اللحْدِ ". وَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَاليِّ فِيمَا يَحْصُل بِهِ القِيرَاطُ الثَّانِي ثَلاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدَهَا: قَال وَهُوَ أَضْعَفُهَا: إذَا وُضِعَ فِي اللحْدِ والثاني: إذَا نُصِبَ عَليْهِ اللبِنُ. قَالهُ القَفَّال وَالثَّالثَ: إذَا فُرِغَ مِنْ الدَّفْنِ، قُلت: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لا يَحْصُل إلا بِالفَرَاغِ مِنْ الدَّفْنِ لرِوَايَةِ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ فِي هَذَا الحَدِيثِ: "وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَلهُ قِيرَاطَانِ"وَفِي رِوَايَةِ مُسْلمٍ "حَتَّى يُفْرَغَ مِنْهَا "أَوْ يَتَأَوَّل رِوَايَةَ "حَتَّى تُوضَعَ فِي القَبْرِ "أَنَّ المُرَادَ وَضْعُهَا مَعَ الفَرَاغِ، وَتَكُونُ إشَارَةً إلى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لا يَرْجِعَ قَبْل وُصُولهَا القَبْرَ، فَالحَاصِل أَنَّ الانْصِرَافَ عَنْ الجِنَازَةِ مَرَاتِبُ. إحداها: يَنْصَرِفُ عَقِبَ الصَّلاةِ.
الثانية: يَنْصَرِفُ عَقِبَ وَضْعِهَا فِي القَبْرِ، وَسَتْرُهَا بِاللبِنِ قَبْل إهَالةِ التُّرَابِ.
الثالثة: يَنْصَرِفُ بَعْدَ إهَالةِ التُّرَابِ وَفَرَاغِ القَبْرِ.
الرابعة: يَمْكُثُ عَقِبَ الفَرَاغِ، وَيَسْتَغْفِرُ للمَيِّتِ وَيَدْعُو لهُ، وَيَسْأَل لهُ التَّثْبِيتَ فَالرَّابِعَةُ أَكْمَل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كوفي واسمه في سنن ابن ماجه إسماعيل بن سليمان بغير ياء وكذ اضبطه الذهبي في الميزان سلمان قال ابن نمير والنسائي: متروك وقال أبو حاتم والدارقطني: ضعيف وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء (ط).
2 سبق في غير موضع من المجموع ما يراه النووي في ضبط العاصي بأن الصواب إثبات الياء (ط).

 

ج / 5 ص -170-       المَرَاتِبِ، وَالثَّالثَةُ تُحَصِّل القِرَاطَيْنِ، وَلا تُحَصِّلهُ الثَّانِيَةُ عَلى الأَصَحِّ وَيُحَصَّل بِالأُولى قِيرَاطٌ بِلا خِلافٍ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالسُّنَّةُ أَنْ لا يَرْكَبَ؛ لأَنَّ
"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلا جِنَازَةٍ"فَإِنْ رَكِبَ فِي الانْصِرَافِ لمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، لمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: صَلى عَلى جِنَازَةٍ، فَلمَّا انْصَرَفَ أُتِيَ بِفَرَسٍ مُعْرَوْرًى1 فَرَكِبَهُ"وَالسُّنَّةُ أَنْ يَمْشِيَ أَمَامَ الجِنَازَةِ لمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال "كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ"وَلأَنَّهُ شَفِيعُ المَيِّتِ، وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ عَلى المَشْفُوعِ لهُ، وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْشِيَ أَمَامَهَا قَرِيبًا مِنْهَا، لأَنَّهُ إذَا بَعُدَ لمْ يَكُنْ مَعَهَا".
 الشرح: حَدِيثُ: مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلا جِنَازَةٍ غَرِيبٌ. وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَوَاهُ مُسْلمٌ بِلفْظِهِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إلا أَنَّهُ ليْسَ فِي رِوَايَةِ أَكْثَرِهِمْ ذَكَرَ عُثْمَانُ، وَهُوَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الشَّافِعِيِّ وَالنَّسَائِيَّ وَالبَيْهَقِيِّ وَرُوِيَ هَكَذَا مَوْصُولًا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَرُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ الزُّهْرِيِّ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ "وَاَلذِي وَصَّلهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهُوَ إمَامٌ، وَلمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ إلا رِوَايَتَيْ الوَصْل، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ الرِّوَايَتَيْنِ. قَال التِّرْمِذِيُّ: أَهْل الحَدِيثِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ المُرْسَل أَصَحَّ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ المُبَارَكِ أَنَّهُ قَال: المُرْسَل فِي ذَلكَ أَصَحُّ، قَال النَّسَائِيُّ: وَصْلهُ خَطَأٌ بَل الصَّوَابُ مُرْسَلٌ. وَأَمَّا الأَحَادِيثُ التِي جَاءَتْ بِالمَشْيِ خَلفَهَا فَليْسَتْ ثَابِتَةً. قَال البَيْهَقِيُّ رحمه الله: الآثَارُ فِي المَشْيِ أَمَامَهَا أَصَحُّ وَأَكْثَرُ.
وَقَوْلهُ "فَرَسٌ مُعْرَوْرًى "هُوَ بِضَمِّ المِيمِ وَإِسْكَانِ العَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الأُولى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ مَنُونَةً. هَكَذَا وَقَعَ فِي المُهَذَّبِ، وَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الحَدِيثِ وَفِي رِوَايَةٍ لمُسْلمٍ "بِفَرَسِ عُرًى "وَكِلاهُمَا صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ اللغَةُ وَمَنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ. وَهَذِهِ الجِنَازَةُ التِي رَكِبَ فِي الانْصِرَافِ مِنْهَا جِنَازَةُ أَبِي الدَّحْدَاحِ وَيُقَال ابْنُ الدَّحْدَاحِ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه
أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَ جِنَازَةَ ابْنِ الدَّحْدَاحِ رضي الله عنه مَاشِيًا وَرَجَعَ عَلى فَرَسٍ"قَال التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلهُ "وَلأَنَّهُ إذَا بَعُدَ لمْ يَكُنْ مَعَهَا "مَعْنَاهُ أَنَّ الفَضِيلةَ لمَنْ هُوَ مَعَهَا، لا لمَنْ سَبَقَهَا إلى المَقْبَرَةِ، فَإِنَّ ذَلكَ لا يَكُونُ لهُ ثَوَابُ مُتَّبِعِيهَا؛ لأَنَّهُ ليْسَ مَعَهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ "مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً وَكَانَ مَعَهَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا رَجَعَ بِقِيرَاطَيْنِ".
أما الأحكام: فَقَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: يُكْرَهُ الرُّكُوبُ فِي الذَّهَابِ مَعَ الجِنَازَةِ إلا أَنْ يَكُونَ لهُ عُذْرٌ كَمَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ وَنَحْوِهِمَا، فَلا بَأْسَ بِالرُّكُوبِ، وَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّهُ لا بَأْسَ بِالرُّكُوبِ فِي الرُّجُوعِ. قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: وَالأَفْضَل أَنْ يَمْشِيَ قُدَّامَهَا وَأَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهَا، وَكُلمَا قَرُبَ مِنْهَا فَهُوَ أَفْضَل، وَسَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَمْ مَاشِيًا فَالأَفْضَل قُدَّامَهَا وَلوْ تَقَدَّمَ عَليْهَا كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة الركبي من "المهذب" التي شرح غريبها بكتابه الطراز المذهب (عرى) كرواية مسلم (ط).

 

ج / 5 ص -171-       يُنْسَبُ إليْهَا بِأَنْ يَكُونَ التَّابِعُونَ كَثِيرِينَ حَصَل لهُ فَضِيلةُ اتِّبَاعِهَا، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لا يُنْسَبُ إليْهَا لكَثْرَةِ بُعْدِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ تَابِعِيهَا لمْ تَحْصُل لهُ فَضِيلةُ المُتَابَعَةِ، وَلوْ مَشَى خَلفَهَا حَصَل لهُ فَضِيلةُ أَصْل المُتَابَعَةِ وَلكِنْ فَاتَهُ كَمَالهَا.

فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ السَّيْرَ أَمَامَهَا أَفْضَل، سَوَاءٌ الرَّاكِبُ وَالمَاشِي، وَبِهِ قَال جَمَاهِيرُ العُلمَاءِ. مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَالحَسَنُ بْنُ عَليٍّ وَأَبُو قَتَادَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالمٌ وَشُرَيْحٌ وَابْنُ أَبِي ليْلى وَالزُّهْرِيُّ وَمَالكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: خَلفَهَا أَفْضَل وَبِهِ قَال الأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَقَال الثَّوْرِيُّ: يَسِيرُ الرَّاكِبُ خَلفَهَا وَالمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ سَبَقَ إلى المَقْبَرَةِ فَهُوَ بِالخِيَارِ، إنْ شَاءَ قَامَ حَتَّى تُوضَعَ الجِنَازَةُ، وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ، لمَا رَوَى عَليٌّ رضي الله عنه قَال:
"قَامَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الجَنَائِزِ1 حَتَّى تُوضَعَ، وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدَ ذَلكَ وَأَمَرَهُمْ بِالقُعُودِ".
الشَّرْحُ: حَدِيثُ عَليٍّ رضي الله عنه صَحِيحٌ، رَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ بِمَعْنَاهُ، قَال "قَامَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي الجِنَازَةِ ثُمَّ قَعَدَ"وَفِي رِوَايَةٍ لمُسْلمٍ أَيْضًا "قَامَ فَقُمْنَا وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا"وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي بَعْضِهَا كَمَا رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَفِي بَعْضِهَا كَمَا وَقَعَ فِي المُهَذَّبِ بِحُرُوفِهِ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "قَامَ مَعَ الجِنَازَةِ حَتَّى تُوضَعَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَعَدَ وَأَمَرَهُمْ بِالقُعُودِ"وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَليًّا رضي الله عنه "رَأَى نَاسًا قِيَامًا يَنْتَظِرُونَ الجِنَازَةَ أَنْ تُوضَعَ فَأَشَارَ إليْهِمْ بِدِرَّةٍ مَعَهُ أَوْ سَوْطٍ: أَنْ اجْلسُوا فَإِنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلسَ بَعْدَ مَا كَانَ يَقُومُ"وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه فِي سَبَبِ القُعُودِ قَال "كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ فِي الجِنَازَةِ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللحْدِ، فَمَرَّ حَبْرٌ مِنْ اليَهُودِ فَقَال: هَكَذَا نَفْعَل، فَجَلسَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَال: اجْلسُوا خَالفُوهُمْ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالبَيْهَقِيُّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
أَمَّا حُكْمُ المَسْأَلةِ: فَقَدْ ثَبَتَتْ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا
أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "أَمَرَ بِالقِيَامِ لمَنْ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ حَتَّى تَخْلفَهُ أَوْ تُوضَعَ وَأَمَرَ مَنْ تَبِعَهَا أَنْ لا يَقْعُدُ عِنْدَ القَبْرِ حَتَّى تُوضَعَ"ثُمَّ اخْتَلفَ العُلمَاءُ فِي نَسْخِهِ، فَقَال الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: هَذَانِ القِيَامَانِ مَنْسُوخَانِ فَلا يُؤْمَرُ أَحَدٌ بِالقِيَامِ اليَوْمَ، سَوَاءٌ مَرَّتْ بِهِ أَمْ تَبِعَهَا إلى القَبْرِ، ثُمَّ قَال المُصَنِّفُ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ القِيَامِ وَالقُعُودِ، وَقَال آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ القِيَامُ لهَا إذَا لمْ يَرِدْ المَشْيَ مَعَهَا، مِمَّنْ صَرَّحَ بِكَرَاهَتِهِ سَليمُ الرَّازِيّ فِي الكِفَايَةِ وَالمَحَامِليُّ وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ، قَال المَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ: القِيَامُ للجِنَازَةِ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الفُقَهَاءِ كُلهِمْ قَال: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البَدْرِيُّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ لهَا، وَخَالفَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ الجَمَاعَةَ فَقَال: يُسْتَحَبُّ لمَنْ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ أَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخة المطبوعة من "المهذب"
(قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجنازة حتى وضعت) (ط).

 

ج / 5 ص -172-       يَقُول لهَا، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا لا يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ، وَهَذَا الذِي قَالهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ هُوَ المُخْتَارُ، فَقَدْ صَحَّتْ الأَحَادِيثُ بِالأَمْرِ بِالقِيَامِ، وَلمْ يَثْبُتْ فِي القُعُودِ شَيْءٌ إلا حَدِيثُ عَليٍّ رضي الله عنه وَهُوَ ليْسَ صَرِيحًا فِي النَّسْخِ، بَل ليْسَ فِيهِ نَسْخٌ لأَنَّهُ مُحْتَمَل القُعُودِ لبَيَانِ الجَوَازِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي ذَلكَ. قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَنَا فِي ذَلكَ وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ لهُ القُعُودُ حَتَّى تُوضَعَ الجِنَازَةُ، وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَدَاوُد.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا يُكْرَهُ للمُسْلمِ اتِّبَاعُ جِنَازَةِ أَقَارِبِهِ مِنْ الكُفَّارِ، لمَا رُوِيَ عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَال:
"أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلت: إنَّ عَمَّك الضَّال قَدْ مَاتَ، فَقَال: اذْهَبْ فَوَارِهِ"وَلا تُتْبِعْ الجِنَازَةُ بِنَارٍ وَلا نَائِحَةٍ، لمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَال: "إذَا أَنَا مِتُّ فَلا تَصْحَبْنِي نَارٌ وَلا نَائِحَةٌ "وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه: "أَنَّهُ وَصَّى: لا تَتْبَعُونِي بِصَارِخَةٍ وَلا بِمِجْمَرَةٍ، وَلا تَجْعَلوا بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ شَيْئًا".
الشرح: حَدِيثُ عَليٍّ رضي الله عنه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه رَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي جُمْلةِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الإِيمَانِ. وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَيُقَال: مِتُّ - بِضَمِّ المِيمِ وَكَسْرِهَا - لغَتَانِ فَصِيحَتَانِ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسْأَلتَانِ:
إحْدَاهُمَا: قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: لا يُكْرَهُ للمُسْلمِ اتِّبَاعُ جِنَازَةِ قَرِيبِهِ الكَافِرِ وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ، وَسَبَقَتْ المَسْأَلةُ فِي بَابِ غُسْل المَيِّتِ.
الثانية: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَأَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ أَنْ تُتْبَعَ الجِنَازَةُ بِنَارٍ. قَال ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ: المُرَادُ أَنْ يُكْرَهَ البَخُورُ فِي المِجْمَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهَا إلى القَبْرِ وَلا خِلافَ فِي كَرَاهَتِهِ، كَمَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ، وَنَقَل ابْنُ المُنْذِرِ إجْمَاعَ العُلمَاءِ عَلى كَرَاهَتِهِ قَال: وَمِمَّنْ نُقِل عَنْهُ ذَلكَ عُمَرُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُغَفَّلٍ وَمَعْقِل بْنُ يَسَارٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ وَعَائِشَةُ، وَذَكَرَ البَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْصَوْا أَنْ لا يُتْبَعُوا بِنَارٍ، قَال أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا كَرِهَ للنَّصِّ، وَلأَنَّهُ تَفَاءَل بِذَلكَ فَأْل السَّوْءِ، وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَرَاهَةِ الاتِّبَاعِ هُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَالجُمْهُورِ
وَقَال الشَّيْخُ نَصْرٌ: لا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَل مَعَ الجِنَازَةِ المَجَامِرُ وَالنَّارُ، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلهِ: لا يَجُوزُ: كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ فَهُوَ كَمَا قَالهُ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ، وَإِنْ أَرَادَ التَّحْرِيمَ فَشَاذٌّ مَرْدُودٌ قَال المَحَامِليُّ وَغَيْرُهُ: وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ القَبْرِ مِجْمَرَةٌ حَال الدَّفْنِ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الجِنَازَةِ بِنَائِحَةٍ فَحَرَامٌ، فَإِنَّ النَّوْحَ حَرَامٌ مُطْلقًا وَسَنُوَضِّحُهُ فِي بَابِ التَّعْزِيَةِ حَيْثُ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
فرع: قَال البَنْدَنِيجِيُّ رحمه الله: يُسْتَحَبُّ لمَنْ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ أَنْ يَدْعُوَ لهَا وَيُسْتَحَبُّ الثَّنَاءُ عَليْهَا إنْ كَانَتْ أَهْلًا لذَلكَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول مَنْ رَآهَا: سُبْحَانَ اللهِ الذِي لا يَمُوتُ أَوْ سُبْحَانَ المِلكِ القُدُّوسِ.

 

ج / 5 ص -173-       قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"دَفْنُ المَيِّتِ فَرْضٌ عَلى الكِفَايَةِ؛ لأَنَّ فِي تَرْكِهِ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ هَتْكًا لحُرْمَتِهِ، وَيَتَأَذَّى النَّاسُ مِنْ1 رَائِحَتِهِ، وَالدَّفْنُ فِي المَقْبَرَةِ أَفْضَل، لأَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْفِنُ المَوْتَى بِالبَقِيعِ, وَلأَنَّهُ يَكْثُرُ الدُّعَاءُ لهُ مِمَّنْ يَزُورُهُ وَيَجُوزُ الدَّفْنُ فِي البَيْتِ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَإِنْ قَال بَعْضُ الوَرَثَةِ: يُدْفَنُ فِي المَقْبَرَةِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: [يُدْفَنُ] فِي البَيْتِ، دُفِنَ فِي المَقْبَرَةِ، لأَنَّ لهُ حَقًّا فِي البَيْتِ، فَلا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِي أَفْضَل مَقْبَرَةٍ، لأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه "اسْتَأْذَنَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْمَعَ الأَقَارِبُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، لمَا رُوِيَ أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ صَخْرَةً، وَقَال: نُعَلمُ عَلى قَبْرِ أَخِي لأَدْفِنَ إليْهِ مَنْ مَاتَ"وَإِنْ تَشَاحَّ اثْنَانِ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلةٍ قُدِّمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا".
 الشرح: حَدِيثُ الدَّفْنِ بِالبَقِيعِ صَحِيحٌ مُتَوَاتِرٌ مَعْرُوفٌ وَالبَقِيعُ بِالبَاءِ المُوَحَّدَةِ: مَدْفَنُ أَهْل المَدِينَةِ وَحَدِيثُ دَفْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ صَحِيحٌ مُتَوَاتِرٌ وَحَدِيثُ اسْتِئْذَانِ عُمَرَ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ صَحِيحٌ، رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَاحِبَاهُ هُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَحَدِيثُ "مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ"رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ قَال التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمِنًى المَوْضِعُ المَعْرُوفُ يُنَوَّنُ وَلا يُنَوَّنُ وَالمُنَاخُ بِضَمِّ المِيمِ وَحَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رضي الله عنه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ المُطَّلبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبِ، بِفَتْحِ الحَاءِ المُهْمَلةِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَخَذَ الحَجَرَ وَجَعَلهُ عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ "فَهُوَ مُسْنَدٌ لا مُرْسَلٌ لأَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم كُلهُمْ عُدُولٌ لا تَضُرُّ الجَهَالةُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ رحمه الله عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلمَ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ بِصَخْرَةٍ. وقوله: عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ بِالظَّاءِ المُعْجَمَةِ وَالعَيْنِ المُهْمَلةِ وقوله: وَقَال: "نُعْلمُ عَلى قَبْرِ أَخِي "هُوَ بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ العَيْنِ، مِنْ الإِعْلامِ الذِي هُوَ فِعْل العَلامَةِ وَقَوْلهُ: "لأَدْفِنَ إليْهِ مَنْ مَاتَ "كَذَا وَقَعَ فِي المُهَذَّبِ، وَاَلذِي فِي كُتُبِ الحَدِيثِ لأَدْفِنَ إليْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلي.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسَائِل:
 إحداها: دَفْنُ المَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالإِجْمَاعِ، وَقَدْ عُلمَ أَنَّ فَرْضَ الكِفَايَةِ إذَا تَعَطَّل أَثِمَ بِهِ كُل مَنْ دَخَل فِي ذَلكَ الفَرْضِ دُونَ غَيْرِهِمْ، قَال صَاحِبُ الحَاوِي رحمه الله فِي أَوَّل بَابِ غُسْل المَيِّتِ: قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لوْ أَنَّ رُفْقَةً فِي سَفَرٍ مَاتَ أَحَدُهُمْ فَلمْ يَدْفِنُوهُ نُظِرَ إنْ كَانَ ذَلكَ فِي طَرِيقٍ آهِلٍ يَخْتَرِقُهُ المَارَّةُ أَوْ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ للمُسْلمِينَ فَقَدْ أَسَاءُوا تَرْكَ الدَّفْنِ وَعَلى مَنْ بِقُرْبِهِ دَفْنُهُ، قَال: وَإِنْ تَرَكُوهُ فِي مَوْضِعٍ لا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ أَثِمُوا وَعَصَوْا اللهَ تَعَالى وَعَلى السُّلطَانِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلى ذَلكَ إلا أَنْ يَكُونُوا فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (برائحته).

 

ج / 5 ص -174-       مَخَافَةٍ مِنْ عَدُوٍّ يَخَافُونَ إنْ اشْتَغَلوا بِالمَيِّتِ اصْطَلمُوا فَاَلذِي يُخْتَارُ أَنْ يُوَارُوهُ مَا أَمْكَنَهُمْ فَإِنْ تَرَكُوهُ لمْ يَأْثَمُوا لأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَلوْ أَنَّ مُجْتَازِينَ مَرُّوا عَلى مَيِّتٍ بِصَحْرَاءَ لزِمَهُمْ القِيَامُ بِهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً فَإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ بِثِيَابِهِ ليْسَ عَليْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَلا كَفَنٍ لزِمَهُمْ غُسْلهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلاةُ عَليْهِ وَدَفَنُوهُ بِحَسَبِ الإِمْكَانِ وَإِنْ كَانَ عَليْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَحَنُوطٍ وَكَفَنٍ دَفَنُوهُ، فَإِنْ اخْتَارُوا الصَّلاةَ عَليْهِ صَلوا بَعْدَ دَفْنِهِ، لأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صُليَ عَليْهِ. هَذَا آخِرُ كَلامِ صَاحِبِ الحَاوِي رحمه الله.
الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ الدَّفْنُ فِي البَيْتِ وَفِي المَقْبَرَةِ وَالمَقْبَرَةُ أَفْضَل بِالاتِّفَاقِ وَدَليلهُمَا فِي الكِتَابِ، وَفِي مَعْنَى البَيْتِ البُسْتَانُ وَغَيْرُهُ مِنْ المَوَاضِعِ التِي ليْسَتْ فِيهَا مَقَابِرُ فإن قيل كَيْفَ قُلتُمْ الدَّفْنَ فِي المَقْبَرَةِ أَفْضَل؟ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا دُفِنَ فِي البَيْتِ فالجواب:  مِنْ ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ (أَشْهُرُهَا) وَهُوَ جَوَابُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَنَ أَصْحَابَهُ فِي المَقْبَرَةِ فَكَانَ الاقْتِدَاءُ بِفِعْلهِ أَوْلى، وَإِنَّمَا دُفِنَ هُوَ صلى الله عليه وسلم فِي الحُجْرَةِ؛ لأَنَّهُمْ اخْتَلفُوا فِي مَدْفَنِهِ فَقَال أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه
"سَمِعْت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: "مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا إلا فِي المَوْضِعِ الذِي يَجِبُ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ فَادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ}؛ وَلأَنَّهُمْ خَصُّوهُ بِالحُجْرَةِ لكَثْرَةِ زَائِرِيهِ وَقَاصِدِيهِ ليُخِفَّ عَليْهِمْ بِقُرْبِهِ الثاني أَجَابَ بِهِ المُتَوَلي [أَنَّهُ يَحْدُثُ] مِنْ دَفْنِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ المَقَابِرِ التَّنَازُعُ وَالتَّنَافُسُ فِيهِ فَيَطْلبُهُ كُل قَبِيلةٍ ليُدْفَنَ عِنْدَهُمْ، الثَّالثُ: ذَكَرَهُ المُتَوَلي أَيْضًا؛ وَهُوَ أَنَّهُمْ فَعَلوهُ صِيَانَةً لقَبْرِهِ لئَلا يَزْدَحِمَ النَّاسُ عَليْهِ وَيَنْتَهِكُوهُ وَهَذَا الجَوَابُ ضَعِيفٌ؛ لأَنَّ الازْدِحَامَ فِي المَسْجِدِ أَكْثَرُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
الثالثة: لوْ قَال بَعْضُ الوَرَثَةِ: يُدْفَنُ فِي مِلكِ المَيِّتِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: بَل فِي المَقْبَرَةِ المُسَبَّلةِ دُفِنَ فِي المَقْبَرَةِ بِلا خِلافٍ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، فَلوْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ وَدَفَنَهُ فِي بَيْتِ المَيِّتِ؛ قَال أَصْحَابُنَا: كَانَ للبَاقِينَ نَقْلهُ لكِنْ يُكْرَهُ ذَلكَ لهُمْ فَلوْ قَال بَعْضُهُمْ: يُدْفَنُ فِي مِلكِي لمْ يَلزَمْ البَاقِينَ قَبُولهُ لأَنَّ عَليْهِمْ مِنَّةً، فَلوْ بَادَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَدَفَنَهُ فِي مِلكِ نَفْسِهِ أَوْ كَفَّنَهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ قَال ابْنُ الصَّبَّاغِ: لمْ يَذْكُرْهُ الأَصْحَابُ قَال: وَعِنْدِي أَنَّهُ لا يُنْقَل وَلا يُنْزَعُ كَفَنُهُ بَعْدَ دَفْنِهِ؛ لأَنَّهُ ليْسَ فِي تَبَعِيَّتِهِ إسْقَاطُ حَقِّ أَحَدٍ، وَفِي نَقْلهِ هَتْكُ حُرْمَتِهِ، وَهَذَا الذِي اخْتَارَهُ صَاحِبُ الشَّامِل جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَلوْ اتَّفَقُوا عَلى دَفْنِهِ فِي مِلكِ المَيِّتِ ثُمَّ بَاعَتْهُ الوَرَثَةُ لمْ يَكُنْ للمُشْتَرِي نَقْلهُ وَلهُ الخِيَارُ فِي فَسْخِ البَيْعِ، إنْ كَانَ جَاهِلًا بِدَفْنِهِ، ثُمَّ إذَا بَليَ أَوْ اتَّفَقَ نَقْلهُ فَهَل يَكُونُ المَدْفُونُ للبَائِعَيْنِ، أَمْ للمُشْتَرِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا القَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ سَيَأْتِي نَظَائِرُهُمَا فِي البَيْعِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى
مِنْهَا: لوْ بَاعَ شَجَرَةً أَوْ بُسْتَانًا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ شَجَرَةً بِعَيْنِهَا ثُمَّ قَلعَهَا فَهَل يَبْقَى الغَرْسُ عَلى مِلكِ البَائِعِ؟ أَمْ يَكُونُ للمُشْتَرِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِأَنَّهُ هَل تَتْبَعُ الشَّجَرَةُ، أصحهما: لا تَتْبَعُهَا.
الرابعة: قَال الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ وَأَصْحَابُنَا رحمهم الله: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْمَعَ الأَقَارِبُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ المَقْبَرَةِ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، قَال البَنْدَنِيجِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدَّمَ الأَبُ إلى القِبْلةِ ثُمَّ الأَسَنُّ فَالأَسَنُّ.

 

ج / 5 ص -175-       الخامسة: لوْ سَبَقَ اثْنَانِ إلى مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلةٍ وَتَشَاحَّا فِي مَكَان قُدِّمَ الأَسْبَقُ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ قُدِّمَ بِالقُرْعَةِ.
السادسة: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالقَدِيمِ وَجَمِيعُ الأَصْحَابِ: يُسْتَحَبُّ الدَّفْنُ فِي أَفْضَل مَقْبَرَةٍ فِي البَلدِ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَلأَنَّهُ أَقْرَبُ إلى الرَّحْمَةِ قَالوا: وَمِنْ ذَلكَ المَقَابِرُ المَذْكُورَةُ بِالخَيْرِ وَدَفْنُ الصَّالحِينَ فِيهَا.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا يُدْفَنُ مَيِّتٌ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ مَيِّتٌ إلا أَنْ يُعْلمَ أَنَّهُ قَدْ بَليَ، وَلمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَرْجِعُ فِيهِ إلى أَهْل الخِبْرَةِ بِتِلكَ الأَرْضِ وَلا يُدْفَنُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ اثْنَانِ
"لأَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يَدْفِنْ فِي كُل قَبْرٍ إلا وَاحِدًا"فَإِنْ دَعَتْ إلى ذَلكَ ضَرُورَةٌ جَازَ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ الاثْنَيْنِ مِنْ قَتْلى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُول: أَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا للقُرْآنِ، فَإِذَا أُشِيرَ إلى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ إلى اللحْدِ، وَإِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ امْرَأَةٍ رَجُلٌ جُعِل بَيْنَهُمَا حَائِلٌ مِنْ التُّرَابِ وَجُعِل الرَّجُل أَمَامَهَا اعْتِبَارًا بِحَال الحَيَاةِ".
 الشرح: قَوْلهُ: "إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يَدْفِنْ فِي كُل قَبْرٍ إلا وَاحِدًا"هَذَا صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالمُرَادُ بِهِ فِي حَال الاخْتِيَارِ وَأَمَّا: قَوْلهُ: لأَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ مِنْ قَتْلى أُحُدٍ"إلى آخِرِهِ فَرَوَاهُ البُخَارِيُّ رحمه الله مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسْأَلتَانِ:
إحْدَاهُمَا: لا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنَ مَيِّتٌ فِي مَوْضِعِ مَيِّتٍ حَتَّى يَبْلى الأَوَّل، بِحَيْثُ لا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ لا لحْمٌ وَلا عَظْمٌ. وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ المَنْعِ مِنْ دَفْنِ مَيِّتٍ عَلى مَيِّتٍ هُوَ مَنْعُ تَحْرِيمٍ، صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا، مِمَّنْ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ1 وَأَمَّا قَوْل الرَّافِعِيِّ رحمه الله: المُسْتَحَبُّ فِي حَال الاخْتِيَارِ أَنْ يُدْفَنَ كُل إنْسَانٍ فِي قَبْرٍ، فَمُتَأَوَّلٌ عَلى مُوَافَقَةِ الأَصْحَابِ، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَيُسْتَدَامُ المَنْعُ مَهْمَا بَقِيَ مِنْ المَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ لحْمٍ أَوْ عَظْمٍ، وَقَدْ صَرَّحَ المُصَنِّفُ بِهَذَا فِي قَوْلهِ: وَلمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ. فَأَمَّا إذَا بَليَ وَلمْ يَبْقَ عَظْمٌ، بَل انْمَحَقَ جِسْمُهُ وَعَظْمُهُ وَصَارَ تُرَابًا، فَيَجُوزُ بَعْدَ ذَلكَ الدَّفْنُ فِي مَوْضِعِهِ بِلا خِلافٍ، قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالبَغَوِيُّ وَالمُتَوَلي وَسَائِرُ الأَصْحَابِ رحمهم الله: وَلا يَجُوزُ بَعْدَ البِلى أَنْ يُسَوَّى عَليْهِ التُّرَابُ، وَيَعْمُرُ عِمَارَةَ قَبْرٍ جَدِيدٍ إنْ كَانَ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلةٍ، لأَنَّهُ يُوهِمُ النَّاسَ أَنَّهُ جَدِيدٌ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ الدَّفْنِ فِيهِ، بَل يَجِبُ تَرْكُهُ خَرَابًا ليُدْفَنَ فِيهِ مَنْ أَرَادَ الدَّفْنَ، قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: وَالرُّجُوعُ فِي مُدَّةِ البِلى إلى أَهْل الخِبْرَةِ بِتِلكَ النَّاحِيَةِ وَالمَقْبَرَةِ، قَالوا: فَلوْ حَفَرَهُ فَوَجَدَ فِيهِ عِظَامَ المَيِّتِ أَعَادَ القَبْرَ، وَلمْ يُتْمِمْ حَفْرَهُ، قَال أَصْحَابُنَا: إلا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله قَال: فَلوْ فَرَغَ مِنْ القَبْرِ وَظَهَرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ العِظَامِ لمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُجْعَل فِي جَنْبِ القَبْرِ، وَيُدْفَنَ الثَّانِي مَعَهُ وَكَذَا لوْ دَعَتْ الحَاجَةُ إلى دَفْنِ الثَّانِي مَعَ العِظَامِ دُفِنَ مَعَهَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل قلت: قد صرح بتحريمه صاحب البيان والروياني في "البحر" وغيرهما من الأصحاب (ط).

 

ج / 5 ص -176-       المسألة الثانية: لا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنَ رَجُلانِ وَلا امْرَأَتَانِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَهَكَذَا صَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ لا يَجُوزُ، وَعِبَارَةُ الأَكْثَرِينَ لا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ كَعِبَارَةِ المُصَنِّفِ، وَصَرَّحَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لا يُدْفَنَ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ. أَمَّا إذَا حَصَلتْ ضَرُورَةٌ بِأَنْ كَثُرَ القَتْلى أَوْ المَوْتَى فِي وَبَاءٍ أَوْ هَدْمٍ وَغَرَقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلكَ وَعَسُرَ دَفْنُ كُل وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ فَيَجُوزُ دَفْنُ الاثْنَيْنِ وَالثَّلاثَةِ وَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ، بِحَسَبِ الضَّرُورَةِ للحَدِيثِ المَذْكُورِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَحِينَئِذٍ يُقَدَّمُ فِي القَبْرِ أَفْضَلهُمْ إلى القِبْلةِ، فَلوْ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ قُدِّمَ إلى القِبْلةِ الرَّجُل، ثُمَّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ الخُنْثَى، ثُمَّ المَرْأَةُ. قَال أَصْحَابُنَا: وَيُقَدَّمُ الأَبُ عَلى الابْنِ، وَإِنْ كَانَ الابْنُ أَفْضَل لحُرْمَةِ الأُبُوَّةِ، وَتُقَدَّمُ الأُمُّ عَلى البِنْتِ، وَلا يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَالرَّجُل فِي قَبْرٍ إلا عِنْدَ تَأَكُّدِ الضَّرُورَةِ، وَيُجْعَل حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا تُرَابٌ ليَحْجِزَ بَيْنَهُمَا بِلا خِلافٍ، وَيُقَدَّمُ إلى القِبْلةِ الرَّجُل وَإِنْ كَانَ ابْنًا وَإِذَا دُفِنَ رَجُلانِ أَوْ امْرَأَتَانِ فِي قَبْرٍ لضَرُورَةٍ فَهَل يُجْعَل بَيْنَهُمَا تُرَابٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ العِرَاقِيِّينَ وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: يُجْعَل، والثاني: لا يُجْعَل وَبِهَذَا قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ، وَاَللهُ أَعْلمُ. قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَلوْ مَاتَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلهِ وَأَمْكَنَهُ دَفْنُهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، فَإِنْ خَشَى تَغَيُّرَ أَحَدِهِمْ بَدَأَ بِهِ، ثُمَّ بِمَنْ يَخْشَى تَغَيُّرَهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ لمْ يَخْشَ تَغَيُّرَ أَحَدٍ بَدَأَ بِأَبِيهِ ثُمَّ أُمِّهِ ثُمَّ الأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ، فَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ قُدِّمَ أَكْبَرُهُمَا. فَإِنْ اسْتَوَيَا أَوْ كَانَتَا زَوْجَتَيْنِ أَقْرَعَ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا يُدْفَنُ كَافِرٌ فِي مَقْبَرَةِ1 المُسْلمِينَ، وَلا مُسْلمٌ فِي مَقْبَرَةِ الكُفَّارِ".
 الشرح: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللهُ عَلى أَنَّهُ لا يُدْفَنُ مُسْلمٌ فِي مَقْبَرَةِ كُفَّارٍ، وَلا كَافِرٌ فِي مَقْبَرَةِ مُسْلمِينَ، وَلوْ مَاتَتْ ذِمِّيَّةٌ حَامِلٌ بِمُسْلمٍ وَمَاتَ جَنِينُهَا فِي جَوْفِهَا فَفِيهِ أَوْجُهٌ (الصَّحِيحُ) أَنَّهَا تُدْفَنُ بَيْنَ مَقَابِرِ المُسْلمِينَ وَالكُفَّارِ، وَيَكُونُ ظَهْرُهَا إلى القِبْلةِ لأَنَّ وَجْهَ الجَنِينِ إلى ظَهْرِ أُمِّهِ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالشَّاشِيُّ وَصَاحِبُ البَيَانِ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ المَشْهُورُ. وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُدْفَعُ إلى أَهْل دِينِهَا ليَتَوَلوْا غُسْلهَا وَدَفْنَهَا، قَال: وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تُدْفَنُ بَيْنَ مَقَابِرِ المُسْلمِينَ وَالمُشْرِكِينَ وَكَذَا إذَا اخْتَلطَ مَوْتَى المُسْلمِينَ وَالمُشْرِكِينَ، قَال: وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه "أَنَّ نَصْرَانِيَّةً مَاتَتْ وَفِي جَوْفِهَا مُسْلمٌ فَأَمَرَ بِدَفْنِهَا فِي مَقَابِرِ المُسْلمِينَ "وَهَذَا الأَثَرُ الذِي حَكَاهُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ وَاثِلةَ بْنِ الأَسْقَعِ رضي الله عنه "أَنَّهُ دَفَنَ نَصْرَانِيَّةً فِي بَطْنِهَا مُسْلمٌ فِي مَقْبَرَةٍ ليْسَتْ مَقْبَرَةَ النَّصَارَى وَلا المُسْلمِينَ ". وَذَكَرَ القَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْليقِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلمِينَ وَكَأَنَّهَا صُنْدُوقٌ للجَنِينِ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلمِينَ، وَقَطَعَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ بِأَنَّهَا تُدْفَنُ عَلى طَرْفِ مَقَابِرِ المُسْلمِينَ؛ وَهَذَا حَسَنٌ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ مَاتَ فِي البَحْرِ وَلمْ يَكُنْ بِقُرْبِ سَاحِلٍ، "فَالأَوْلى أَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (مقادير).

 

ج / 5 ص -177-       يُجْعَل بَيْنَ لوْحَيْنِ وَيُلقَى فِي البَحْرِ لأَنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ فِي سَاحِلٍ فَيُدْفَنُ، فَإِنْ كَانَ أَهْل السَّاحِل كُفَّارًا أُلقِيَ فِي البَحْرِ".
 الشرح: قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: إذَا مَاتَ مُسْلمٌ فِي البَحْرِ وَمَعَهُ رُفْقَةٌ، فَإِنْ كَانَ بِقُرْبِ السَّاحِل وَأَمْكَنَهُمْ الخُرُوجُ بِهِ إلى السَّاحِل، وَجَبَ عَليْهِمْ الخُرُوجُ بِهِ، وَغَسْلهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلاةُ عَليْهِ وَدَفْنُهُ، قَالوا: فَإِنْ لمْ يُمْكِنْهُمْ لبُعْدِهِمْ مِنْ السَّاحِل أَوْ لخَوْفِ عَدُوٍّ، أَوْ سَبُعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلكَ لمْ يَجِبْ الدَّفْنُ فِي السَّاحِل، بَل يَجِبُ غُسْلهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلاةُ عَليْهِ، ثُمَّ يُجْعَل بَيْنَ لوْحَيْنِ وَيُلقَى فِي البَحْرِ ليُلقِيَهُ إلى السَّاحِل فَلعَلهُ يُصَادِفُهُ مَنْ يَدْفِنُهُ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: فَإِنْ لمْ يَجْعَلوهُ بَيْنَ لوْحَيْنِ وَيُلقُوهُ إلى السَّاحِل بَل أَلقَوْهُ فِي البَحْرِ رَجَوْت أَنْ يَسَعَهُمْ، هَذَا لفْظُهُ، وَنَقَل الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبُ الشَّامِل أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله قَال: لمْ يَأْثَمُوا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلهِ: رَجَوْت أَنْ يَسَعَهُمْ، فَإِنْ كَانَ أَهْل السَّاحِل كُفَّارًا - قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: جُعِل بَيْنَ لوْحَيْنِ وَأُلقِيَ فِي البَحْرِ، وَقَال المُزَنِيّ رحمه الله يُثْقَل بِشَيْءٍ ليَنْزِل إلى أَسْفَل البَحْرِ لئَلا يَأْخُذَهُ الكُفَّارُ فَيُغَيِّرُوا سُنَّةَ المُسْلمِينَ فِيهِ؛ قَال المُزَنِيّ: إنَّمَا قَال الشَّافِعِيُّ إنَّهُ يُلقَى إلى السَّاحِل إذَا كَانَ أَهْل الجَزَائِرِ مُسْلمِينَ أَمَّا إذَا كَانُوا كُفَّارًا فَيُثْقَل بِشَيْءٍ حَتَّى يَنْزِل إلى القَرَارِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَاَلذِي نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ الإِلقَاءِ إلى السَّاحِل أَوْلى، لأَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَجِدَهُ مُسْلمٌ فَيَدْفِنُهُ إلى القِبْلةِ، وَأَمَّا عَلى قَوْل المُزَنِيِّ فَيُتَيَقَّنُ تَرْكُ دَفْنِهِ بَل يُلقِيهِ للحِيتَانِ، هَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ المَشْهُورُ فِي كُتُبِ الأَصْحَابِ.
قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: إنَّ المُزَنِيَّ ذَكَرَ مَذْهَبَهُ هَذَا فِي جَامِعِهِ الكَبِيرِ وَأَنْكَرَ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ عَلى الأَصْحَابِ نَقْلهُمْ هَذَا عَنْ المُزَنِيِّ، وَقَال: طَلبْت هَذِهِ المَسْأَلةَ فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ فَوَجَدْتهَا عَلى مَا قَالهُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ، وَذَكَرَهَا صَاحِبُ المُسْتَظْهِرِيِّ كَمَا ذَكَرَهَا المُصَنِّفُ فَكَأَنَّهُمَا اخْتَارَا مَذْهَبَ المُزَنِيِّ، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَالصَّحِيحُ مَا قَالهُ الشَّافِعِيُّ وَاَللهُ أَعْلمُ. وَرَوَى البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلحَةَ رضي الله عنهما رَكِبَ البَحْرَ فَمَاتَ فَلمْ يَجِدُوا لهُ جَزِيرَةً إلا بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فَدَفَنُوهُ فِيهَا وَلمْ يَتَغَيَّرْ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"المُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَمَّقَ القَبْرُ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ، لمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه "أَوْصَى أَنْ يُعَمَّقَ [القَبْرُ قَدْرَ1] قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَسَّعَ مِنْ قِبَل رِجْليْهِ وَرَأْسِهِ، لمَا رُوِيَ أَنَّ
"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال للحَافِرِ أَوْسِعْ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ2، وَأَوْسِعْ مِنْ قِبَل رِجْليْهِ"فَإِنْ كَانَتْ الأَرْضُ صُلبَةً أُلحِدَ، لقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللحْدُ لنَا وَالشَّقُّ لغَيْرِنَا"وَإِنْ كَانَتْ رِخْوَةً شُقَّ الوَسَطُ".
 الشرح:
حَدِيثُ "أَوْسِعْ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ وَأَوْسِعْ مِنْ قِبَل رِجْليْهِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَابِ البُيُوعِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كل ما بين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).
2 في بعض النسخ تقديم رجليه وتأخير رأسه (ط).

 

ج / 5 ص -178-       مِنْ سُنَنِهِ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الجَنَائِزِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ كُليْبِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنهما أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ: احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَعْمِقُوا"قَال التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ "اللحْدُ لنَا وَالشَّقُّ لغَيْرِنَا "فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، لأَنَّ مَدَارَهُ عَلى عَبْدِ الأَعْلى بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْل الحَدِيثِ، وَرَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَجَليِّ وَإِسْنَادُهُ أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ "وَالشَّقُّ لأَهْل الكِتَابِ"وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه "أَنَّهُ قَال فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ: أَلحِدُوا لي لحْدًا وَانْصِبُوا عَلى اللبِنِ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم"رَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ.
قَال أَهْل اللغَةِ: يُقَال: لحَدْت للمَيِّتِ وَأَلحَدْت لهُ لغَتَانِ، وَفِي اللحْدِ لغَتَانِ - فَتْحُ اللامِ وَضَمُّهَا - وَهُوَ أَنْ يُحْفَرَ فِي حَائِطٍ مِنْ أَسْفَلهِ إلى نَاحِيَةِ القِبْلةِ قَدْرَ مَا يُوضَعُ المَيِّتُ فِيهِ وَيَسْتُرُهُ، وَالشَّقُّ - بِفَتْحِ الشِّينِ - أَنْ يُحْفَرَ إلى أَسْفَل كَالنَّهْرِ وَقَوْلهُ: يُعَمَّقُ هُوَ بِالعَيْنِ المُهْمَلةِ، وَقَوْلهُ: رِخْوَةً - بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا - وَالكَسْرُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَمَّقَ القَبْرُ لحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الذِي ذَكَرْنَاهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عُمْقُهُ قَامَةً وَبَسْطَةً لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ. هَذَا هُوَ المَشْهُورُ الذِي قَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ فِي كُل طُرُقِهِمْ، إلا وَجْهًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قَامَةٌ بِلا بَسْطَةٍ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَمَعْنَى القَامَةِ وَالبَسْطَةِ أَنْ يَقِفَ فِيهِ رَجُلٌ مُعْتَدِل القَامَةِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إلى فَوْقِ رَأْسِهِ مَا أَمْكَنَهُ. وَقَدَّرَ أَصْحَابُنَا القَامَةَ وَالبَسْطَةَ بِأَرْبَعِ أَذْرُعٍ وَنِصْفٍ. هَذَا هُوَ المَشْهُورُ فِي قَدْرِهِمَا، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ، وَنَقَلهُ صَاحِبُ البَيَانِ عَنْ الأَصْحَابِ، وَقَطَعَ المَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ بِأَنَّهُمَا ثَلاثُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ، وَبِهَذَا جَزَمَ الرَّافِعِيُّ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ، وَعَجَبٌ مِنْ جَزْمِ الرَّافِعِيِّ بِهِ وَإِعْرَاضِهِ عَمَّا جَزَمَ بِهِ الجُمْهُورُ؛ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَرْبَعِ أَذْرُعٍ وَنِصْفٍ البَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ الشَّامِل وَالبَاقُونَ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ صَاحِبَ البَيَانِ نَقَلهُ عَنْ الأَصْحَابِ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالأَصْحَابُ لاسْتِحْبَابِ تَعْمِيقِهِ ثَلاثَ فَوَائِدَ أَنْ لا يَنْبُشَهُ سَبُعٌ وَلا تَظْهَرُ رَائِحَتُهُ، وَأَنْ يَتَعَذَّرَ أَوْ يَتَعَسَّرَ نَبْشُهُ عَلى مَنْ يُرِيدُ سَرِقَةَ كَفَنِهِ، وَأَمَّا أَقَل مَا يُجْزِئُ مِنْ الدَّفْنِ فَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ، وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ رحمهم الله: أَقَلهُ حُفْرَةٌ تَكْتُمُ رَائِحَةَ المَيِّتِ، وَيَعْسُرُ عَلى السِّبَاعِ غَالبًا نَبْشُهُ، وَالوُصُول إلى المَيِّتِ.
الثانية: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَسَّعَ القَبْرُ مِنْ قِبَل رِجْليْهِ وَرَأْسِهِ.
الثالثة: أَجْمَعَ العُلمَاءُ أَنَّ الدَّفْنَ فِي اللحْدِ وَفِي الشَّقِّ جَائِزَانِ، لكِنْ إنْ كَانَتْ الأَرْضُ صُلبَةً لا يَنْهَارُ تُرَابُهَا فَاللحْدُ أَفْضَل، لمَا سَبَقَ مِنْ الأَدِلةِ، وَإِنْ كَانَتْ رِخْوَةً تَنْهَارُ فَالشَّقُّ أَفْضَل. قَال الشَّافِعِيُّ فِي

 

ج / 5 ص -179-       الأُمِّ وَأَصْحَابُنَا: فَإِنْ اخْتَارَ الشَّقَّ حَفَرَ حَفِيرَةً كَالنَّهْرِ وَبَنَى جَانِبَيْهَا بِاللبِنِ أَوْ غَيْرِهِ، وَجَعَل بَيْنَهُمَا شَقًّا يُوضَعُ فِيهِ المَيِّتُ وَيَسْقُفُ عَليْهِ بِاللبِنِ أَوْ الخَشَبِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَيُرْفَعُ السَّقْفُ قَليلًا بِحَيْثُ لا يَمَسُّ المَيِّتَ، وَيُجْعَل فِي شُقُوقِهِ قِطَعُ اللبِنِ، قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: وَرَأَيْتهمْ عِنْدَنَا، يَعْنِي فِي مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللهُ يَضَعُونَ عَلى السَّقْفِ الإِذْخِرَ1 ثُمَّ يَضَعُونَ عَليْهِ التُّرَابَ، وَهَذَا الذِي ذَكَرْته مِنْ صِفَةِ الشَّقِّ وَاللحْدِ نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ، وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ.
فرع: قَال المُصَنِّفُ فِي الفَصْل الثَّانِي لمَا بَعْدَ هَذَا: وَسَائِرُ الأَصْحَابِ يَكْرَهُ أَنْ يُدْفَنَ المَيِّتُ فِي تَابُوتٍ إلا إذَا كَانَتْ الأَرْضُ رِخْوَةً أَوْ نَدِيَّةً، قَالوا: وَلا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ بِهِ إلا فِي مِثْل هَذَا الحَال، قَالوا: وَيَكُونُ التَّابُوتُ مِنْ رَأْسِ المَال صَرَّحَ بِهِ البَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَرَاهَةِ التَّابُوتِ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ العُلمَاءِ كَافَّةً وَأَظُنُّهُ إجْمَاعًا، قَال العَبْدَرِيُّ رحمه الله: لا أَعْلمُ فِيهِ خِلافًا يَعْنِي لا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ المُسْلمِينَ كَافَّةً وَاَللهُ أَعْلمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بكر همزة القطع والخاء المعجمة المكسورة (ط).

فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي تَعْمِيقِ القَبْرِ
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ تَعْمِيقِهِ قَامَةً وَبَسْطَةً، وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالا: يُعَمَّقُ إلى السُّرَّةِ، قَال: وَاسْتَحَبَّ مَالكٌ رحمه الله أَنَّهُ لا يُعَمَّقُ جِدًّا وَلا يَقْرُبُ مِنْ أَعْلاهُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"الأَوْلى أَنْ يَتَوَلى الدَّفْنَ الرِّجَال، لأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلى بَطْشٍ وَقُوَّةٍ. وَكَانَ الرِّجَال أَحَقَّ، وَأَوْلاهُمْ بِذَلكَ أَوْلاهُمْ بِالصَّلاةِ عَليْهِ، لأَنَّهُمْ أَرْفَقُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَزَوْجُهَا أَحَقُّ بِدَفْنِهَا لأَنَّهُ أَحَقُّ بِغُسْلهَا، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهَا زَوْجٌ فَالأَبُ، ثُمَّ الجَدُّ، ثُمَّ الابْنُ، ثُمَّ ابْنُ الابْنِ، ثُمَّ الأَخُ، ثُمَّ ابْنُ الأَخِ، ثُمَّ العَمُّ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَلهَا مَمْلوكٌ كَانَ المَمْلوكُ أَوْلى مِنْ ابْنِ العَمِّ، لأَنَّهُ كَالمَحْرَمِ، وَالخَصِيُّ أَوْلى مِنْ الفَحْل، وَإِنْ لمْ يَكُنْ مَمْلوكٌ فَابْنُ العَمِّ ثُمَّ أَهْل الدِّينِ مِنْ المُسْلمِينَ، وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الذِي يَدْفِنُ وِتْرًا، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"دَفَنَهُ عَليٌّ وَالعَبَّاسُ وَأُسَامَةُ رضي الله عنهم "وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَجَّى القَبْرُ بِثَوْبٍ عِنْدَ الدَّفْنِ، لأَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَتَرَ قَبْرَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه بِثَوْبٍ لمَّا دَفَنَهُ".
 الشرح:
قَوْلهُ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَنَهُ عَليٌّ وَالعَبَّاسُ وَأُسَامَةُ هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَأَسَانِيدُهُ مُخْتَلفَةٌ فِيهَا ضَعْفٌ، وَليْسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ذِكْرُ العَبَّاسِ، وَإِنَّمَا فِيهَا عَليٌّ وَالفَضْل وَأُسَامَةُ وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ دَخَل مَعَهُمْ وَصَارُوا أَرْبَعَةً، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ البَيْهَقِيّ عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَال: "وَليَ دَفْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةٌ عَليٌّ وَالعَبَّاسُ وَالفَضْل وَصَالحٌ مَوْلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "كَانُوا أَرْبَعَةً: عَليٌّ وَالفَضْل وَقُثَمُ بْنُ العَبَّاسِ وَشُقْرَانُ مَوْلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَزَل مَعَهُمْ خَامِسٌ وَكَانُوا خَمْسَةً "وَشُقْرَانُ - بِضَمِّ الشِّينِ المُعْجَمَةِ - وَإِسْكَانِ القَافِ هُوَ صَالحٌ مَوْلى

 

ج / 5 ص -180-       رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلقَبُهُ شُقْرَانُ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَتْرِ قَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ العَبَّاسِ رضي الله عنهم بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
 أما الأحكام: فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: الأَوْلى أَنَّ يَتَوَلى الدَّفْنَ الرِّجَال، سَوَاءٌ كَانَ المَيِّتُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ وَعَللوهُ بِعِلتَيْنِ إحْدَاهُمَا: التِي ذَكَرَهَا المُصَنِّفُ أَنَّ الرِّجَال أَقْوَى وَأَشَدُّ بَطْشًا والثانية أَنَّ المَرْأَةَ لوْ تَوَلتْ ذَلكَ أَدَّى إلى انْكِشَافِ بَعْضِ بَدَنِهَا. قَال صَاحِبُ البَيَانِ: قَال الصَّيْدَلانِيُّ: وَيَتَوَلى النِّسَاءُ حَمْل المَرْأَةِ مِنْ المُغْتَسَل إلى الجِنَازَةِ وَتَسْليمَهَا إلى مَنْ فِي القَبْرِ لأَنَّهُنَّ يَقْدِرْنَ عَلى ذَلكَ، قَال: وَكَذَلكَ يَتَوَلى النِّسَاءُ حَل ثِيَابِهَا فِي القَبْرِ، قَال صَاحِبُ البَيَانِ: وَلمْ أَرَ هَذَا لغَيْرِ الصَّيْدَلانِيِّ وَهَذَا الذِي قَالهُ صَاحِبُ البَيَانِ عَجِيبٌ، وَليْسَ قَوْل الصَّيْدَلانِيِّ مُنْكَرًا، بَل هُوَ الحَقُّ وَالصَّوَابُ، وَقَدْ نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ فِي بَابِ الدَّفْنِ فَقَال: وَسَتْرُ المَرْأَةِ إذَا أُدْخِلتْ قَبْرَهَا آكَدُ مِنْ سَتْرِ الرَّجُل، وَتُسَل كَمَا يُسَل الرَّجُل، قَال: وَإِنْ وَليَ إخْرَاجَهَا مِنْ مُغْتَسَلهَا وَحَل عُقَدَ ثِيَابٍ إنْ كَانَتْ عَليْهَا، وَتَعَاهَدَهَا النِّسَاءُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ وَليَهُ الرِّجَال فَلا بَأْسَ هَذَا نَصُّهُ وَقَدْ جَزَمَ البَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَكَوْا اسْتِحْبَابَهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ الأَحَادِيثِ فِي كَوْنِ الرِّجَال هُمْ الذِينَ يَتَوَلوْنَ الدَّفْنَ، وَإِنْ كَانَ المَيِّتُ امْرَأَةً، حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال
"شَهِدْنَا بِنْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالسٌ عَلى القَبْرِ فَقَال: مِنْكُمْ رَجُلٌ لمْ يُقَارِفْ الليْلةَ؟ فَقَال أَبُو طَلحَةَ رضي الله عنه أَنَا، قَال: فَانْزِل، فَنَزَل فِي قَبْرِهَا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ رحمه الله قِيل: مَعْنَاهُ لمْ يُقَارِفْ أَهْلهُ أَيْ لمْ يُجَامِعْ. وَقِيل: لمْ يُقَارِفْ ذَنْبًا ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ مُبَارَكٍ عَنْ فُليْحٍ، وَالأَوَّل أَرْجَحُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ "رُقَيَّةَ لمَّا مَاتَتْ قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَدْخُل القَبْرَ رَجُلٌ قَارَفَ الليْلةَ أَهْلهُ فَلمْ يَدْخُل عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ القَبْرَ"رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَمَعْلومٌ أَنَّ أَبَا طَلحَةَ رضي الله عنه أَجْنَبِيٌّ مِنْ بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلكِنَّهُ كَانَ مِنْ صَالحِي الحَاضِرِينَ. وَلمْ يَكُنْ لهَا هُنَاكَ رَجُلٌ مَحْرَمٌ إلا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلعَلهُ كَانَ لهُ عُذْرٌ فِي عَدَمِ نُزُول قَبْرِهَا، وَكَذَا زَوْجُهَا، وَمَعْلومٌ أَنَّهَا كَانَتْ أُخْتُهَا فَاطِمَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ مَحَارِمِهَا وَغَيْرُهُنَّ هُنَاكَ، فَدَل عَلى أَنَّهُ لا مَدْخَل للنِّسَاءِ فِي إدْخَال القَبْرِ وَالدَّفْنِ.
المسألة الثانية: قَال أَصْحَابُنَا: أَوْلى الرِّجَال بِالدَّفْنِ أَوْلاهُمْ بِالصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ مِنْ حَيْثُ الدَّرَجَةُ وَالقُرْبُ لا مِنْ حَيْثُ الصِّفَاتُ، لأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالصِّفَاتِ فِي الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ مُخَالفٌ للتَّرْجِيحِ بِهَا فِي الدَّفْنِ، لأَنَّ الأَسَنَّ مُقَدَّمٌ عَلى الأَفْقَهِ فِي الصَّلاةِ وَالأَفْقَهُ مُقَدَّمٌ عَلى الأَسَنِّ فِي الدَّفْنِ هَكَذَا قَالهُ الأَصْحَابُ وَاتَّفَقُوا عَليْهِ، وَهَذِهِ المَسْأَلةُ مِمَّا أَنُكِرَ عَلى المُصَنِّفِ وَعَدَّهَا صَاحِبُ البَيَانِ فِي مُشْكِلاتِ المُهَذَّبِ مِنْ حَيْثُ إنَّ المُصَنِّفَ أَطْلقَ أَنَّ مَنْ قُدِّمَ فِي الصَّلاةِ قُدِّمَ فِي الدَّفْنِ، وَالأَسَنُّ مُقَدَّمٌ فِي الصَّلاةِ عَلى الأَفْقَهِ وَهُوَ فِي الدَّفْنِ عَكْسُهُ، وَالمُخْتَارُ أَنَّهَا لا تُعَدُّ مُشْكِلةً، وَلا عَتْبَ عَلى المُصَنِّفِ لأَنَّ مُرَادَهُ التَّرْتِيبُ فِي الدَّرَجَاتِ لا بَيَانُ الصِّفَاتِ، فَيُقَدَّمُ الأَبُ ثُمَّ الجَدُّ ثُمَّ أَبُ الأَبِ ثُمَّ آبَاؤُهُ، ثُمَّ الابْنُ ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَل، ثُمَّ الأَخُ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ العَمُّ، وَهَل يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلى بِأَبَوَيْنِ عَلى مُدْلٍ بِالأَبِ؟ فِيهِ الخِلافُ السَّابِقُ

 

ج / 5 ص -181-       فِي الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ، فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي دَرَجَةٍ قُدِّمَ أَفْقَهُهُمَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَسَنَّ، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ.
قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ: المُرَادُ بِالأَفْقَهِ هُنَا أَعْلمُهُمْ بِإِدْخَال المَيِّتِ القَبْرَ لا أَعْلمُهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ جُمْلةً قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ وَآخَرُونَ: لوْ كَانَ لهُ قَرِيبَانِ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ وَليْسَ بِفَقِيهٍ وَالآخَرُ بَعِيدٌ وَهُوَ فَقِيهٌ، قُدِّمَ الفَقِيهُ لأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلى الفِقْهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَليْهِ. أَمَّا إذَا كَانَ المَيِّتُ امْرَأَةً لهَا زَوْج صَالحٌ للدَّفْنِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلى الأَبِ وَالابْنِ وَسَائِرِ الأَقَارِبِ، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الحَاوِي فِيهِ وَجْهَيْنِ أحدهما هَذَا والثاني: أَنَّ الأَبَ يُقَدَّمُ عَليْهِ كَالوَجْهَيْنِ فِي غُسْلهَا، وَتَعْليل المُصَنِّفِ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي التَّعْليل يُشِيرُ إلى مُوَافَقَةِ صَاحِبِ الحَاوِي فِي جَرَيَانِ وَجْهٍ فِي المَسْأَلةِ، وَكَلامُ المُصَنِّفِ فِي التَّنْبِيهِ مُصَرِّحٌ أَوْ كَالمُصَرِّحِ بِذَلكَ فِي قَوْلهِ فِي الدَّفْنِ، وَالأَوْلى أَنْ يَتَوَلى ذَلكَ مَنْ يَتَوَلى غُسْلهُ، لكِنْ عَليْهِ إنْكَارٌ فِي إطْلاقِهِ، لأَنَّهُ يَقْتَضِي دُخُول النِّسَاءِ فِي دَفْنِ المَرْأَةِ فَإِنَّهُنَّ أَحَقُّ بِغُسْلهَا، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لا خِلافَ أَنَّهُنَّ لا حَقَّ لهُنَّ فِي الدَّفْنِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: فَإِنْ لمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَحْرَمٌ لهَا مِنْ العَصَبَاتِ تَوَلى دَفْنَهَا مَحَارِمُهَا مِنْ ذَوِي الأَرْحَامِ، كَأَبِي الأُمِّ وَالخَال وَالعَمِّ للأُمِّ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَعَبْدُهَا. هَذَا إذَا قُلنَا بِالأَصَحِّ المَنْصُوصِ إنَّ العَبْدَ كَالمَحْرَمِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ، وَإِنْ قُلنَا بِالضَّعِيفِ أَنَّهُ كَالأَجْنَبِيِّ، فَظَاهِرُ كَلامِ المُصَنِّفِ وَتَعْليلهُ وَتَعْليل الأَصْحَابِ أَنَّهُ كَالأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهَا عَبْدٌ فَالخَصِيَّانِ الأَجَانِبُ أَوْلى لضَعْفِ شَهْوَتِهِمْ، فَإِنْ فُقِدُوا فَذَوُو الأَرْحَامِ الذِينَ ليْسُوا مَحَارِمَ، كَابْنِ العَمِّ، فَإِنْ فُقِدُوا فَأَهْل الصَّلاحِ مِنْ الأَجَانِبِ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ رحمه الله: وَمَا أَدْرِي تَقْدِيمَ ذَوِي الأَرْحَامِ مَحْتُومًا بِخِلافِ المَحَارِمِ لأَنَّهُمْ كَالأَجَانِبِ فِي وُجُوبِ الاحْتِجَابِ عَنْهُمْ وَمَنْعِهِمْ مِنْ النَّظَرِ، وَشَذَّ صَاحِبُ العُمْدَةِ أَبُو المَكَارِمِ فَقَدَّمَ نِسَاءَ القَرَابَةِ عَلى الرِّجَال الأَجَانِبِ، وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ مُخَالفٌ لنَصِّ الشَّافِعِيِّ وَلمَا قَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ، بَل مُخَالفٌ لحَدِيثِ أَبِي طَلحَةَ المَذْكُورِ فِي المَسْأَلةِ الأُولى وَاَللهُ أَعْلمُ.
المسألة الثالثة: يُسْتَحَبُّ كَوْنُ الدَّافِنِينَ وِتْرًا، فَإِنْ حَصَلتْ الكِفَايَةُ بِوَاحِدٍ وَإِلا فَثَلاثَةٍ وَإِلا فَخَمْسَةٍ إنْ أَمْكَنَ وَاحْتِيجَ إليْهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَليْهِ.
المَسْأَلةُ الرَّابِعَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَجَّى القَبْرُ بِثَوْبٍ عِنْدَ الدَّفْنِ، سَوَاءٌ كَانَ المَيِّتُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. هَذَا هُوَ المَشْهُورُ الذِي قَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ. قَالوا: وَالمَرْأَةُ آكَدُ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّ الاسْتِحْبَابَ مُخْتَصٌّ بِالمَرْأَةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الفَضْل بْنُ عَبْدَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجُّوا للمَذْهَبِ بِالحَدِيثِ لكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَلأَنَّهُ أَسْتَر فَرُبَّمَا ظَهَرَ مَا يُسْتَحَبُّ إخْفَاؤُهُ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُضَعَ رَأْسَ المَيِّتِ عِنْدَ رِجْل القَبْرِ، ثُمَّ يُسَل فِيهِ سَلًّا، لمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُل مِنْ قِبَل رَأْسِهِ سَلًّا"وَلأَنَّ ذَلكَ أَسْهَل،

 

ج / 5 ص -182-       وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول عِنْدَ إدْخَالهِ القَبْرَ: بِسْمِ اللهِ وَعَلى مِلةِ رَسُول اللهِ، لمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولهُ إذَا أَدْخَل المَيِّتَ القَبْرَ"وَيُسْتَحَبُّ1 أَنْ يُضْجَعَ فِي اللحْدِ عَلى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "إذَا نَامَ أَحَدُكُمْ فَليَتَوَسَّدْ يَمِينَهُ"وَلأَنَّهُ2 يَسْتَقْبِل القِبْلةَ [فَكَانَ] أَوْلى [وَ] أَنْ يُوَسَّدَ رَأْسُهُ بِلبِنَةٍ أَوْ حَجَرٍ كَالحَيِّ إذَا نَامَ، وَيُجْعَل خَلفَهُ3 شَيْئًا يُسْنِدُهُ مِنْ لبِنٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَتَّى لا يَسْتَلقِي عَلى قَفَاهُ وَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَل تَحْتَهُ مِضْرَبَةٌ أَوْ مِخَدَّةُ أَوْ فِي تَابُوتٍ لمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال "إذَا أَنْزَلتُمُونِي فِي اللحْدِ فَأُفْضُوا بِخَدِّي إلى الأَرْضِ "وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه "لا تَجْعَلوا بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ شَيْئًا "وَيُنْصَبُ اللبِنُ [عَلى اللحْدِ] نَصْبًا لمَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال "اصْنَعُوا بِي كَمَا [صَنَعْتُمْ] بِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم انْصِبُوا عَليَّ اللبِنَ وَهِيلوا عَليَّ التُّرَابَ "وَيُسْتَحَبُّ لمَنْ عَلى شَفِيرِ القَبْرِ أَنْ يَحْثُوا فِي القَبْرِ ثَلاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ4، لأَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَا فِي قَبْرٍ ثَلاثَ حَثَيَاتٍ"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْكُثَ عَلى القَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ لمَا رَوَى عُثْمَانُ رضي الله عنه قَال "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الرَّجُل يَقِفُ عَليْهِ وَقَال: اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَاسْأَلوا اللهَ لهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَل".
 الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، إلا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله قَال فِيهِ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، وَقَدْ اخْتَلفَ العُلمَاءُ فِي الاحْتِجَاجِ بِقَوْل الرَّاوِي: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، وَاخْتَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا المُحَقِّقِينَ الاحْتِجَاجَ إنْ كَانَ القَائِل مِمَّنْ يُوَافِقُهُ فِي المَذْهَبِ وَالجَرْحِ وَالتَّعْدِيل، فَعَلى هَذَا يَصِحُّ احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا بِهَذَا الحَدِيثِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي رِوَايَةٍ للتِّرْمِذِيِّ سُنَّةٌ بَدَل مِلةٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ "إذَا نَامَ أَحَدُكُمْ فَليَتَوَسَّدْ يَمِينَهُ"فَغَرِيبٌ بِهَذَا اللفْظِ، وَهُوَ صَحِيحٌ بِمَعْنَاهُ عَنْ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَال "قَال لي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا أَتَيْت مَضْجَعَك فَتَوَضَّأْ وُضُوءَك للصَّلاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلى شِقِّك الأَيْمَنِ وَقُل: اللهُمَّ أَسْلمْت نَفْسِي إليْك إلى آخِرِهِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَرَوَاهُ مُسْلمٌ بِلفْظِهِ إلا قَوْلهُ "وَهِيلوا عَليَّ التُّرَابَ "وَأَمَّا حَدِيثُ "حَثَى فِي القَبْرِ ثَلاثَ حَثَيَاتٍ "فَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ "أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَى بِيَدِهِ ثَلاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ التُّرَابِ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلى قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ". قَال البَيْهَقِيُّ رحمه الله: وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ إلا أَنَّ لهُ شَاهِدًا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَى مِنْ قِبَل رَأْسِهِ "فَيَكُونُ الحَثْيُ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ مُسْتَحْسَنًا، فَإِنَّ الحَدِيثَ جَيِّدُ الإِسْنَادِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (والمستحب) ويضجع في القبر بدل اللحد (ط).
2 في ش و ق كانت العبارة هكذا ولنه يستقبل القبلة وكان أولى أن يوسد رأسه إلخ (ط)
3 في بعض النسخ ويجعل بالبناء للمجهول فرفع شيء, وأهيلوا بدل وما بين المعقوفين ليس في شيء و (ط).
4 يقال حثا التراث يحثو ويحثي حثوا وحثيا إذا ركى به وهو من باب رمى لغة فيه وورد في الماء ثلاث حثوات والمراد ثلاث غرقات على التشبيه (ط).

 

ج / 5 ص -183-       وَقَوْلهُ "هِيلوا عَليَّ التُّرَابَ "بِكَسْرِ الهَاءِ عَلى وُزِنَ بِيعُوا. يُقَال: هَالهُ يَهِيلهُ، وَفِي الأَمْرِ هِلهُ، وَمَعْنَاهُ اُنْثُرُوا وَصُبُّوا، وَيُقَال حَثَى يَحْثِي وَحَثَيْت حَثْيًا، وَحَثَا يَحْثُو وَحَثَوْت حَثَوْا بِالثَّاءِ وَالوَاوِ، لغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ السِّكِّيتِ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَآخَرِينَ،
وَشَفِيرُ القَبْرِ طَرْفُهُ. وَقَوْلهُ فِي الحَدِيثِ "وَاسْأَلوا اللهَ لهُ التَّثْبِيتَ "وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ المُهَذَّبِ التَّثْبِيتَ وَفِي بَعْضِهَا التَّثَبُّتَ بِحَذْفِ اليَاءِ مَعَ تَشْدِيدِ البَاءِ المُوَحَّدَةِ، وَكِلاهُمَا رُوِيَ فِي كُتُبِ الحَدِيثِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوضَعَ رَأْسُ المَيِّتِ عِنْدَ رِجْل القَبْرِ وَهُوَ طَرْفُهُ الذِي يَكُونُ فِيهِ رِجْل المَيِّتِ، ثُمَّ يُسَل مِنْ قِبَل رَأْسِهِ سَلًّا رَفِيقًا.
الثانية: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول الذِي يُدْخِلهُ القَبْرَ عِنْدَ إدْخَالهِ القَبْرَ: بِسْمِ اللهِ وَعَلى مِلةِ رَسُول اللهِ، أَوْ عَلى سُنَّةِ رَسُول صلى الله عليه وسلم قَال الشَّافِعِيُّ فِي المُخْتَصَرِ: ثُمَّ يَقُول: اللهُمَّ أَسْلمَهُ إليْك الأَشِحَّاءُ مِنْ وَلدِهِ وَأَهْلهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالحَيَاةِ إلى ظُلمَةِ القَبْرِ وَضِيقِهِ، وَنَزَل بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ إنْ عَاقَبْته فَبِذَنْبٍ وَإِنْ عَفَوْت فَأَهْل العَفْوِ أَنْتَ، غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إلى رَحْمَتِك اللهُمَّ اُشْكُرْ حَسَنَتَهُ وَاغْفِرْ سَيِّئَتَهُ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَاجْمَعْ لهُ بِرَحْمَتِك الأَمْنَ مِنْ عَذَابِك وَاكْفِهِ كُل هَوْلٍ دُونَ الجَنَّةِ اللهُمَّ اُخْلفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الغَابِرِينَ وَارْفَعْهُ فِي عِليِّينَ وَعُدْ عَليْهِ بِرَحْمَتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. هَذَا كَلامُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. قَال الأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا فَإِنْ لمْ يَفْعَل فَبِغَيْرِهِ وَاتَّفَقُوا عَلى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ هُنَا.
الثالثة: يَجِبُ وَضْعُ المَيِّتِ فِي القَبْرِ مُسْتَقْبِل القِبْلةِ، هَذَا هُوَ المَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا فِي الفَصْل الأَخِيرِ فِي مَسْأَلةِ مَنْ دُفِنَ بِغَيْرِ غُسْلٍ أَوْ إلى غَيْرِ القِبْلةِ نُبِشَ، وَقَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ المُجَرَّدِ: اسْتِقْبَال القِبْلةِ بِهِ مُسْتَحَبٌّ ليْسَ بِوَاجِبٍ وَالصَّحِيحُ الأَوَّل، وَاتَّفَقُوا عَلى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُضْجَعَ عَلى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ، فَلوْ أُضْجِعَ عَلى جَنْبِهِ الأَيْسَرِ مُسْتَقْبِل القِبْلةِ جَازَ، وَكَانَ خِلافَ الأَفْضَل لمَا سَبَقَ فِي المُصَلي مُضْطَجِعًا، وَاَللهُ أَعْلمُ.
الرابعة: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَسَّدَ رَأْسُهُ لبِنَةً أَوْ حَجَرًا وَنَحْوَهُمَا، وَيُفْضَى بِخَدِّهِ الأَيْمَنِ إلى اللبِنَةِ وَنَحْوِهَا أَوْ إلى التُّرَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ المُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالأَصْحَابُ بِالإِفْضَاءِ بِخَدِّهِ إلى التُّرَابِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُنَحَّى الكَفَنُ عَنْ خَدِّهِ وَيُوضَعَ عَلى التُّرَابِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَل خَلفَهُ شَيْئًا مِنْ لبِنٍ أَوْ غَيْرِهِ يَسْنُدُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقَعَ عَلى قَفَاهُ.
الخامسة: يُكْرَهُ أَنْ يُجْعَل تَحْتَهُ مِخَدَّةٌ أَوْ مِضْرَبَةٌ أَوْ ثَوْبٌ أَوْ يُجْعَل فِي تَابُوتٍ إذَا لمْ تَكُنْ الأَرْضُ نَدِيَّةً وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلى كَرَاهَةِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ، وَالكَرَاهَةُ فِي التَّابُوتِ مُخْتَصَّةٌ بِمَا إذَا لمْ يَتَعَذَّرْ اجْتِمَاعُهُ

 

ج / 5 ص -184-       فِي غَيْرِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ اُتُّخِذَ التَّابُوتُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ نَصْرٌ وَغَيْرُهُ وَقَدْ سَبَقَ قَبْل هَذَا الفَصْل تَعْليل أَنَّ التَّابُوتَ مَكْرُوهٌ إلا أَنْ تَكُونَ الأَرْضُ رِخْوَةً أَوْ نَدِيَّةً، وَأَنَّهُ لا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ فِيهِ إلا فِي هَذَا الحَال، وَأَنَّهُ مِنْ رَأْسِ المَال، ثُمَّ هَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَرَاهَةِ المِخَدَّةِ وَالمِضْرَبَةِ وَشَبَهِهَا، هَكَذَا نَصَّ عَليْهِ أَصْحَابُنَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا وَخَالفَهُمْ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ فَقَال: لا بَأْسَ أَنْ يُبْسَطَ تَحْتَ جَنْبِهِ شَيْءٌ لحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَال "جُعِل فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ "رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَهَذَا الذِي ذَكَرَهُ شُذُوذٌ وَمُخَالفٌ لمَا قَالهُ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ العُلمَاءِ وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لمْ يَكُنْ ذَلكَ الفِعْل صَادِرًا مِنْ جُمْلةِ الصَّحَابَةِ، وَلا بِرِضَاهُمْ وَلا بِعِلمِهِمْ وَإِنَّمَا فَعَلهُ شُقْرَانُ مَوْلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَال: (كَرِهْت أَنْ يَلبَسَهَا أَحَدٌ بَعْدَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ رَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُجْعَل تَحْتَ المَيِّتِ ثَوْبٌ فِي قَبْرِهِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
السادسة: إذَا وَضَعَهُ فِي اللحْدِ عَلى الصِّفَةِ السَّابِقَةِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُنْصَبَ اللبِنُ عَلى المُنْفَتِحِ مِنْ اللحْدِ بِحَيْثُ يَسُدُّ جَمِيعَ المُنْفَتِحِ وَيَسُدُّ الفُرَجَ بِقِطَعِ اللبِنِ وَنَحْوِهِ، وَيَسُدُّ الفُرَجَ اللطَافَ بِحَشِيشٍ أَوْ نَحْوِهِ وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَوْ بِطِينٍ وَاَللهُ أَعْلمُ.
السابعة: يُسْتَحَبُّ لكُل مَنْ عَلى القَبْرِ أَنْ يَحْثِيَ عَليْهِ ثَلاثَ حَثَيَاتِ تُرَابٍ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا بَعْدَ الفَرَاغِ مِنْ سَدِّ اللحْدِ، وَهَذَا الذِي ذَكَرْته مِنْ الحَثْيِ بِاليَدَيْنِ جَمِيعًا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَليْهِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ شَيْخُ الأَصْحَابِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسُليْمٌ الرَّازِيّ وَالبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ العُدَّةِ وَآخَرُونَ
قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالمُتَوَلي وَآخَرُونَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول فِي الحَثْيَةِ الأُولى
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}وَفِي الثَّانِيَةِ {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}وَفِي الثَّالثَةِ {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}وَقَدْ يُسْتَدَل لهُ بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَال: "لمَّا وُضِعَتْ أُمُّ كُلثُومٍ بِنْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي القَبْرِ قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَليِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ1 جُدْعَانَ عَنْ القَاسِمِ، وَثَلاثَتُهُمْ ضُعَفَاءُ، وَلكِنْ يُسْتَأْنَسُ بِأَحَادِيثِ الفَضَائِل وَإِنْ كَانَتْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل لبسا وقع فيه شيخنا النووي رحمه الله حيث اشتبهت عليه بعض الأسماء مع أن بعضها من رجال مسلم وهي كبوة جواد وهو يرحمه الله تعالى من أكبر شروحه إنلم يكن أكبرهم وأدقهم وإليك البيان: قال الذهبي في الميزان: عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد, والأعمش وكأنه مات شابا, روى عنه الكبار:يحيى بن سعيد الأنصاري ويحيى بن أيوب المصري, قال محمد بن يزيد المستملي:سألت أبا مسهر عنه فقال: صاحب كل معضلة, وإن ذلك ذلك على حديثه لبيت, وروى عثمان بن سعيد عن يحيى: ليس بشيء, وقال ابن المديني: منكر الحديث, وقال الدارقطني: ليس بالقوي وشيخه على متروك, وقال بن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات, وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات, وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله وعلي بن يزيدوالقاسم أبو عبد الرحمن لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم وقال أبو زرعة الرازي: عبيد الله

 

ج / 5 ص -185-       ضَعِيفَةَ الإِسْنَادِ وَيُعْمَل بِهَا فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَهَذَا مِنْهَا وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال أَصْحَابُنَا: ثُمَّ يُهَال عَليْهِ التُّرَابُ بِالمِسَاحِيِّ، وَهُوَ مَعْنَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الثَّامِنَةِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه.
الثَّامِنَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْكُثَ عَلى القَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ سَاعَةً يَدْعُو للمَيِّتِ وَيَسْتَغْفِرُ لهُ نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ، قَالوا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ القُرْآنِ وَإِنْ خَتَمُوا القُرْآنَ كَانَ أَفْضَل، وَقَال جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُلقَّنَ بِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي المَسَائِل الزَّائِدَةِ بَعْدَ فَرَاغِ البَابِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى، وَيُسْتَدَل لهَذَا المُكْثِ وَالدُّعَاءِ وَالاسْتِغْفَارِ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ المَذْكُورِ فِي الكِتَابِ، وَبِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّهُ قَال حِينَ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ: "فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا عَليَّ التُّرَابَ سَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْل قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقَسَّمُ لحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَعْلمَ مَاذَا أُرَاجِعُ رُسُل رَبِّي "رَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الإِيمَانِ وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ مُشْتَمِلٍ عَلى جُمَلٍ مِنْ الفَوَائِدِ وَالقَوَاعِدِ قوله سُنُّوا عَليَّ التُّرَابَ رُوِيَ بِالسِّينِ المُهْمَلةِ وَبِالعُجْمَةِ، وَكِلاهُمَا صَحِيحٌ وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ، وَرَوَى البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما اسْتَحَبَّ قِرَاءَةَ أَوَّل البَقَرَةِ وَآخِرِهَا عِنْدَ القَبْرِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
== ثم قال: قلت: قد أخرج له قد أخرج له أرباب السنن وأحمد في "مسنده", وكان النسائي حسن الرأي فيه ما أخرجه في الضعفاء بل قال: لابأس به. هذا ثم جاء في ترجمة علي بن زيد بن جدعان: هو علي بن زيد بن عبد الله بن زهير أبي مليكة بن جدعان أبو الحسن القراشي التيمي البصري أحد علماء التابعين روى عن أنس وأبي عثمان النهدي وسعيد بن المسيب, وعنه شعبة وعبد الوارث وخلق. اختلفوا فيه قال الجريري: أصبح فقهاء البصرة عميانا ثلاثة: قتادة وعلي بن زيد وأشعث الحداني. وقال منصور بن زازان: لما مات الحسن البصري قلنا لعلي بن زيد: أجلس مجلسه قال موسى بن إسماعيل: قلت لحماد بن سلمة: زعم وهيب أن علي بن زيد كان لايحفظ قال: ومن أين وهيب كان يقدر على علي, لما كان يجالسه وجوه الناس. قال الفقير إلى عفوه تعالى محمد نجيب بن إبراهيم بن أحمد بن بخيت المطيعي: إن على بن زيد ابن جدعان لاصلة له بعبيد الله بن زحر وليس هو الذي يروي عن القاسم, وغنما فكر الشيخ فالتبس عليه واشتبه عليه على بن يزيد بعلي بن يزيد وإنما شيخ ابن زحر علي بن زيد الألهاني الشامي وليس بن جدعان وابن يزيد هذا هو الذي يروي عن القاسم أبي عبد الرحمن ومكحول وعنه يحيى الذماري وعثمان بن أبي العاتكة, وعبيد الله بن زحر وجماعة ويكنى أبا عبد الملك قال البخاري: منكر الحديث وقال النسائي: ليس بثقة وقال أبو زرعة: ليس بقوي, وقال الدارقطني: متروك. ومن ثم ندرك إن الشيخ رحمه الله قد اتهم بريئا لتطابق الاسمين, ولو أنه تحقق كونهما شخصين مختلفين, التباين بينهما كثير لما صدر عنه هذا واما القاسم الذي في الإسناد فإنما هو القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الدمشقي مولى معاوية وصاحب أبي أمامة: قال الإمام: روى عنه علي بن يزيد أعاجيب وما رآها إلا من قبل القاسم وقال بن حبان: كان يروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعضلات وقال الأثرم فذكر لأبي عبد الله حديث عن القاسم الشامي عن أبي أمامة: أن الدباغ طهور فأنكره وحمل على القاسم, ولاننكر أن بعض المحدثين وثقه ولكن الجرح هنا مقدم على التعديل والله تعالى أعلم.

 

ج / 5 ص -186-       فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ إدْخَال المَيِّتِ القَبْرَ
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُوضَعَ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْل القَبْرِ، ثُمَّ يُسَل سَلًّا وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُوضَعُ عَرْضًا مِنْ نَاحِيَةِ القِبْلةِ ثُمَّ يَدْخُل للقَبْرِ مُعْتَرِضًا وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالكٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الخِطْمِيِّ الصَّحَابِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ مِثْل مَذْهَبِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ، وَعَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ رضي الله عنه وَابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَال مَالكٌ رحمه الله: كِلاهُمَا سَوَاءٌ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ كَمَذْهَبِنَا.
وَاحْتَجَّ لأَبِي حَنِيفَةَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُدْخِل مِنْ جِهَةِ القِبْلةِ "وَلأَنَّ جِهَةَ القِبْلةِ أَفْضَل. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "سُل مِنْ قِبَل رَأْسِهِ "وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الخِطْمِيِّ الأَنْصَارِيِّ الصَّحَابِيِّ "أَنَّهُ صَلى عَلى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَدْخَلهُ القَبْرَ مِنْ قِبَل رِجْل القَبْرِ وَقَال: هَذَا مِنْ السُّنَّةِ،"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالبَيْهَقِيُّ وَقَال فِيهِ هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَوْل الصَّحَابِيِّ: "مِنْ السُّنَّةِ كَذَا "مَرْفُوعٌ، وَلأَنَّ سَلهُ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ هُوَ المَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ عَمَل المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ بِمَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، كَذَلكَ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَغَيْرُهُ مِنْ العُلمَاءِ عَنْ أَهْل مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُمْ بِأُمُورِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلمُ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الحَنَفِيَّةُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُدْخِل مِنْ قِبَل القِبْلةِ فَكُلهَا رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ رَوَاهَا البَيْهَقِيُّ وَبَيَّنَ ضَعْفَهَا، وَلا يُقْبَل قَوْل التِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَسَنٌ، لأَنَّهُ رَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ الحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ المُحَدِّثِينَ، وَهَذَا الجَوَابُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إليْهِ لتَصَوُّرِ إدْخَالهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِهَةِ القِبْلةِ. وَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالأَصْحَابُ: إنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَأَطْنَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ فِي الشَّنَاعَةِ عَلى مَنْ يَقُول ذَلكَ، وَنَسَبَهُ إلى الجَهَالةِ وَمُكَابَرَةِ الحِسِّ، وَإِنْكَارِ العَيْنِ. قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ: هَذَا الذِي نَقَلوهُ مِنْ أَقْبَحِ الغَلطِ لأَنَّ شِقَّ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم لاصِقٌ بِالجِدَارِ وَلحْدَهُ تَحْتَ الجِدَارِ، وَليْسَ هُنَاكَ مَوْضِعٌ يُوضَعُ فِيهِ - هَذَا كَلامُ القَاضِي وَمُوَافِقِيهِ - وَرَأَيْت أَنَا فِي الأُمِّ مِثْلهُ وَزِيَادَةً.
قَال الشَّافِعِيُّ: الجِدَارُ الذِي تَحْتَهُ مِثْلهُ وَاللحْدُ تَحْتَ الجِدَارِ فَكَيْفَ يُدْخَل مُعْتَرِضًا؟ وَاللحْدُ لاصِقٌ بِالجِدَارِ لا يَقِفُ عَليْهِ شَيْءٌ، وَلا يُمْكِنُ إلا أَنْ يُسَل سَلًّا أَوْ يُدْخَل مِنْ غَيْرِ القِبْلةِ. قَال: وَأُمُورُ المَوْتَى وَإِدْخَالهُمْ القَبْرَ مِنْ الأُمُورِ المَشْهُورَةِ عِنْدَنَا، لكَثْرَةِ المَوْتِ وَحُضُورِ الأَئِمَّةِ وَأَهْل الثِّقَةِ، وَهُوَ مِنْ الأُمُورِ العَامَّةِ التِي يُسْتَغْنَى فِيهَا عَنْ الحَدِيثِ فَيَكُونُ الحَدِيثُ فِيهَا كَالتَّكَلفِ1 لاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي مَعْرِفَتِهَا؛ وَرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، يَنْقُل العَامَّةُ عَنْ العَامَّةِ لا يَخْتَلفُونَ فِي ذَلكَ أَنَّ المَيِّتَ يُسَل سَلًّا، ثُمَّ جَاءَنَا آتٍ مِنْ غَيْرِ بَلدِنَا يُعَلمُنَا كَيْفَ المَيِّتُ، ثُمَّ لمْ يَرْضَ حَتَّى رَوَى عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق: كالتكليف (ط).

 

ج / 5 ص -187-       حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَل مُعْتَرِضًا. هَذَا آخِرُ كَلامِ الشَّافِعِيِّ. وَرِوَايَةُ إبْرَاهِيمَ مُرْسَلةٌ ضَعِيفَةٌ. قَال أَصْحَابُنَا: وَلأَنَّ مَا قُلنَاهُ أَسْهَل فَكَانَ أَوْلى، وَمَا ادَّعُوهُ مِنْ اسْتِقْبَال القِبْلةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ اسْتِقْبَال القِبْلةِ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ بِشَرْطَيْنِ، أَنْ يُمْكِنَ وَلا يُنَابَذَ سُنَّةً، وَهَذَا ليْسَ مُمْكِنًا وَمُنَابِذًا للسُّنَّةِ.

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي سَتْرِ المَيِّتِ عِنْدَ إدْخَالهِ القَبْرَ بِثَوْبٍ
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُهُ فِي الرَّجُل وَالمَرْأَةِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالكٌ وَأَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ فِي قَبْرِ المَرْأَةِ دُونَ الرَّجُل، وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ وَشُرَيْحٍ: يَكْرَهَانِ ذَلكَ فِي قَبْرِ الرَّجُل.
 قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا يُزَادُ فِي التُّرَابِ الذِي أُخْرِجَ مِنْ القَبْرِ، فَإِنْ زَادُوا فَلا بَأْسَ بِهِ وَيُشَخَّصُ القَبْرُ مِنْ الأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ، لمَا رَوَى القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَال: "دَخَلت عَلى عَائِشَةَ فَقُلت اكْشِفِي لي عَنْ قَبْرِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ عَنْ ثَلاثَةِ قُبُورٍ لا مُشْرِفَةَ وَلا لاطِئَةَ "وَيُسَطَّحُ القَبْرُ، وَيُوضَعُ عَليْهِ الحَصَا
"لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَطَّحَ قَبْرَ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ رضي الله عنه وَوَضَعَ عَليْهِ حَصْبَاءَ مِنْ حَصْبَاءِ العَرْصَةِ1"وَقَال أَبُو عَليٍّ الطَّبَرِيُّ رحمه الله: الأَوْلى فِي زَمَانِنَا أَنْ يُسَنَّمَ لأَنَّ التَّسْطِيحَ مِنْ شِعَارِ الرَّافِضَةِ، وَهَذَا لا يَصِحُّ، لأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ صَحَّتْ فِيهِ فَلا يَضُرُّ مُوَافَقَةُ الرَّافِضَةِ فِيهِ، وَيُرَشُّ عَليْهِ المَاءُ لمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَشَّ عَلى قَبْرِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام المَاءَ"وَلأَنَّهُ إذَا لمْ يَرُشَّ عَليْهِ المَاءَ زَال أَثَرُهُ فَلا يُعْرَفُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَل عِنْدَ رَأْسِهِ عَلامَةٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، لأَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَوَضَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرًا"وَلأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ فَيُزَارُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَليْهِ [أَوْ يُقْعَدَ] وَأَنْ يُكْتَبَ عَليْهِ، لمَا رَوَى جَابِرٌ قَال "نَهَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَليْهِ أَوْ يُقْعَدَ أَوْ يُكْتَبَ عَليْهِ وَلأَنَّ ذَلكَ مِنْ الزِّينَةِ".
 الشرح: حَدِيثُ القَاسِمِ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ الحَاكِمُ وَقَال: صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَقَوْلهُ "لا مُشْرِفَةَ "أَيْ مُرْتَفِعَةً ارْتِفَاعًا كَثِيرًا، وَقَوْلهُ "وَلا لاطِئَةَ "هُوَ بِهَمْزِ آخِرِهِ أَيْ وَلا لاصِقَةً بِالأَرْضِ، يُقَال لطِئَ وَلطَأَ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِهَا وَآخِرُهُ مَهْمُوزٌ فِيهِمَا إذَا لصِقَ. وَأَمَّا حَدِيثُ قَبْرِ إبْرَاهِيمَ وَرَشُّ المَاءِ عَليْهِ وَوَضْعُ الحَصْبَاءِ عَليْهِ، فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَوَضْعُ الحَجَرِ عِنْدَ رَأْسِهِ فَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي الفَصْل الأَوَّل مِنْ الدَّفْنِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ الأَخِيرُ فَرَوَاهُ مُسْلمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، لكِنَّ لفْظَ رِوَايَتِهِمْ "نَهَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَليْهِ وَأَنْ يُقْعَدَ عَليْهِ"وَليْسَ فِيهِ ذِكْرُ يُكْتَبَ، وَوَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ بِزِيَادَةِ "يُكْتَبَ عَليْهِ وَأَنْ يُوطَأَ "وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَوَقَعَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد زِيَادَةٌ "وَأَنْ يُزَادَ عَليْهِ "وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ، وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ المُعْتَمَدَةِ مِنْ المُهَذَّبِ "وَأَنْ يُعْقَدَ عَليْهِ "بِتَقْدِيمِ العَيْنِ عَلى القَافِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، فَإِنَّ الرِّوَايَاتِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ حصا من حصا العرصة (ط).

 

ج / 5 ص -188-       المَشْهُورَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَسَائِرِ كُتُبِ الحَدِيثِ المَشْهُورَةِ يُقْعَدُ، بِتَقْدِيمِ القَافِ عَلى العَيْنِ مِنْ القُعُودِ الذِي هُوَ الجُلوسُ، وَالحَصْبَاءُ بِالمَدِّ وَبِالبَاءِ المُوَحَّدَةِ وَهِيَ الحَصَا الصِّغَارُ، وَالعَرْصَةُ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. قَال ابْنُ فَارِسٍ: كُل جُونَةٍ مُنْفَتِقَةٍ ليْسَ فِيهَا بِنَاءٌ فَهِيَ عَرْصَةٌ، وَالشِّعَارُ بِكَسْرِ الشِّينِ العَلامَةُ، وَالرَّافِضَةُ الطَّائِفَةُ المُبْتَدِعَةُ، سُمُّوا بِذَلكَ لرَفْضِهِمْ زَيْدَ بْنَ عَليٍّ رضي الله عنهما، فَلزِمَ هَذَا الاسْمُ كُل مَنْ غَلا مِنْهُمْ فِي مَذْهَبِهِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: قَال الشَّافِعِيُّ فِي المُخْتَصَرِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ لا يُزَادَ القَبْرُ عَلى التُّرَابِ الذِي أُخْرِجَ مِنْهُ، قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: إنَّمَا قُلنَا يُسْتَحَبُّ أَنْ لا يُزَادَ لئَلا يَرْتَفِعَ القَبْرُ ارْتِفَاعًا كَثِيرًا. قَال الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ زَادَ فَلا بَأْسَ. قَال أَصْحَابُنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ ليْسَ بِمَكْرُوهٍ، لكِنَّ المُسْتَحَبَّ تَرْكُهُ، وَيُسْتَدَل لمَنْعِ الزِّيَادَةِ بِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد المَذْكُورَةِ قَرِيبًا، وَهِيَ قَوْلهُ: وَأَنْ يُزَادَ عَليْهِ
الثانية: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرْفَعَ القَبْرُ عَنْ الأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ، هَكَذَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ وَاتَّفَقُوا عَليْهِ إلا أَنَّ صَاحِبَ التَّتِمَّةِ اسْتَثْنَى فَقَال: إلا أَنْ يَكُونَ دَفْنُهُ فِي دَارِ الحَرْبِ فَيُخْفَى قَبْرُهُ بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ مَخَافَةَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لهُ الكُفَّارُ بَعْدَ خُرُوجِ المُسْلمِينَ. فإن قيل هَذَا الذِي ذَكَرْتُمُوهُ مُخَالفٌ لحَدِيثِ
"عَليٍّ رضي الله عنه قَال أَمَرَنِي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَلا نَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيْتُهُ"فالجواب:  مَا أَجَابَ بِهِ أَصْحَابُنَا قَالوا: لمْ يُرِدْ التَّسْوِيَةَ بِالأَرْضِ وَإِنَّمَا أَرَادَ تَسْطِيحَهُ، جَمْعًا بَيْنَ الأَحَادِيثِ.
الثالثة: تَسْطِيحُ القَبْرِ وَتَسْنِيمُهُ وَأَيُّهُمَا أَفْضَل؟ فِيهِ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: التَّسْطِيحُ أَفْضَل وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ وَمُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا المُتَقَدِّمِينَ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ المُتَأَخِّرِينَ، مِنْهُمْ المَاوَرْدِيُّ وَالفُورَانِيُّ وَالبَغَوِيُّ وَخَلائِقُ وَصَحَّحَهُ جُمْهُورُ البَاقِينَ كَمَا صَحَّحَهُ المُصَنِّفُ، وَصَرَّحُوا بِتَضْعِيفِ التَّسْنِيمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ المُصَنِّفُ. والثاني: التَّسْنِيمُ أَفْضَل، حَكَاهُ المُصَنِّفُ عَنْ أَبِي عَليٍّ الطَّبَرِيِّ، وَالمَشْهُورُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا العِرَاقِيِّينَ وَالخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ قَوْل أَبِي عَليِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالشَّاشِيُّ وَخَلائِقُ مِنْ الأَصْحَابِ وَمِمَّنْ رَجَّحَ التَّسْنِيمَ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ وَالغَزَاليُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ، وَادَّعَى القَاضِي حُسَيْنٌ اتِّفَاقَ الأَصْحَابِ وَليْسَ كَمَا قَال، بَل أَكْثَرُ الأَصْحَابِ عَلى تَفْضِيل التَّسْطِيحِ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالكٍ وَدَاوُد. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ رحمهم الله: التَّسْنِيمُ أَفْضَل، وَدَليل المَذْهَبَيْنِ فِي الكِتَابِ. وَرَدَّ الجُمْهُورُ عَلى ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ التَّسْنِيمَ أَفْضَل لكَوْنِ التَّسْطِيحِ شِعَارَ الرَّافِضَةِ، فَلا يَضُرُّ مُوَافَقَةُ الرَّافِضِيِّ لنَا فِي ذَلكَ، وَلوْ كَانَتْ مُوَافَقَتُهُمْ لنَا سَبَبًا لتَرْكِ مَا وَافَقُوا فِيهِ لتَرَكْنَا وَاجِبَاتٍ وَسُنَنًا كَثِيرَةً. "فَإِنْ قِيل "صَحَّحْتُمْ التَّسْطِيحَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ رحمه الله عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ قَال
"رَأَيْت قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا "فالجواب:  مَا أَجَابَ بِهِ البَيْهَقِيُّ رحمه الله

 

ج / 5 ص -189-       قَال: صَحَّتْ رِوَايَةُ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّابِقَةُ المَذْكُورَةُ فِي الكِتَابِ، وَصَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، فَنَقُول: القَبْرُ غُيِّرَ عَمَّا كَانَ، فَكَانَ أَوَّل الأَمْرِ مُسَطَّحًا كَمَا قَال القَاسِمُ، ثُمَّ لمَّا سَقَطَ الجِدَارُ فِي زَمَنِ الوَليدِ بْنِ عَبْدِ المَلكِ، وَقِيل: فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ أُصْلحَ فَجُعِل مُسَنَّمًا، قَال البَيْهَقِيُّ: وَحَدِيثُ القَاسِمِ أَصَحُّ، وَأَوْلى أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا، وَاَللهُ أَعْلمُ.
الرابعة: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوضَعَ عَلى القَبْرِ حَصْبَاءُ، وَهُوَ الحَصَا الصِّغَارُ لمَا سَبَقَ وَأَنْ يُرَشَّ عَليْهِ المَاءُ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ. قَال المُتَوَلي وَآخَرُونَ: يُكْرَهُ أَنْ يُرَشَّ عَليْهِ مَاءُ الوَرْدِ، وَأَنْ يُطْلى بِالخُلوفِ لأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ.
الخامسة: السُّنَّةُ أَنْ يُجْعَل عِنْدَ رَأْسِهِ عَلامَةٌ شَاخِصَةٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا هَكَذَا قَالهُ الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الأَصْحَابِ إلا صَاحِبَ الحَاوِي فَقَال يُسْتَحَبُّ عَلامَتَانِ إحْدَاهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالأُخْرَى عِنْدَ رِجْليْهِ قَال:
لأَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَل حَجَرَيْنِ كَذَلكَ عَلى قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ"كَذَا قَال، وَالمَعْرُوفُ فِي رِوَايَاتِ حَدِيثِ عُثْمَانَ حَجَرٌ وَاحِدٌ وَاَللهُ أَعْلمُ.
السادسة: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: يُكْرَهُ أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَليْهِ اسْمُ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرُ ذَلكَ، وَأَنْ يُبْنَى عَليْهِ، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَجَمَاهِيرُ العُلمَاءِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لا يُكْرَهُ، دَليلنَا الحَدِيثُ السَّابِقُ، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَلا فَرْقَ فِي البِنَاءِ بَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ قُبَّةً أَوْ بَيْتًا أَوْ غَيْرَهُمَا، ثُمَّ يُنْظَرُ - فَإِنْ كَانَتْ مَقْبَرَةً مُسَبَّلةً حَرُمَ عَليْهِ ذَلكَ؛ قَال أَصْحَابُنَا وَيُهْدَمُ هَذَا البِنَاءُ بِلا خِلافٍ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: وَرَأَيْت مِنْ الوُلاةِ مَنْ يَهْدِمُ مَا بُنِيَ فِيهَا، وَلمْ أَرَ الفُقَهَاءَ يَعِيبُونَ عَليْهِ ذَلكَ، وَلأَنَّ فِي ذَلكَ تَضْيِيقًا عَلى النَّاسِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَإِنْ كَانَ القَبْرُ فِي مِلكِهِ جَازَ بِنَاءُ مَا شَاءَ مَعَ الكَرَاهَةِ، وَلا يُهْدَمُ عَليْهِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَ المَكْتُوبُ عَلى القَبْرِ فِي لوْحٍ عِنْدَ رَأْسِهِ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، فَكُلهُ مَكْرُوهٌ لعُمُومِ الحَدِيثِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ فِي كَرَاهَةِ التَّجْصِيصِ للقَبْرِ فِي مِلكِهِ أَوْ المَقْبَرَةِ المُسَبَّلةِ، وَأَمَّا تَطْيِينُ القَبْرِ، فَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ: يُكْرَهُ وَنَقَل أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَال: لا بَأْسَ بِتَطْيِينِ القَبْرِ، وَلمْ يَتَعَرَّضْ جُمْهُورُ الأَصْحَابِ لهُ؛ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لا كَرَاهَةَ فِيهِ، كَمَا نَصَّ عَليْهِ. وَلمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ.
فرع: قَال البَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: يُكْرَهُ أَنْ يُضْرَبَ عَلى القَبْرِ مِظَلةٌ، لأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رَأَى مِظَلةً عَلى قَبْرٍ فَأَمَرَ بِرَفْعِهَا وَقَال: دَعُوهُ يُظِلهُ عَمَلهُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا دُفِنَ المَيِّتُ قَبْل الصَّلاةِ صُليَ عَلى القَبْرِ، لأَنَّ الصَّلاةَ تَصِل إليْهِ فِي القَبْرِ وَإِنْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ أَوْ إلى غَيْرِ القِبْلةِ وَلا يُخْشَ عَليْهِ الفَسَادُ فِي نَبْشِهِ نُبِشَ وَغُسِّل وَوُجِّهَ إلى القِبْلةِ، لأَنَّهُ وَاجِبٌ مَقْدُورٌ عَلى فِعْلهِ فَوَجَبَ فِعْلهُ. وَإِنْ خُشِيَ عَليْهِ الفَسَادُ لمْ يُنْبَشْ؛ لأَنَّهُ تَعَذَّرَ فِعْلهُ فَسَقَطَ كَمَا يَسْقُطُ وُضُوءُ الحَيِّ وَاسْتِقْبَال القِبْلةِ فِي الصَّلاةِ إذَا تَعَذَّرَ".
 الشرح: قَال أَصْحَابُنَا: يَحْرُمُ الدَّفْنُ قَبْل الصَّلاةِ عَليْهِ، فَإِنْ ارْتَكَبُوا الحَرَامَ وَدَفَنُوهُ، أَوْ لمْ

 

ج / 5 ص -190-       يَحْضُرْهُ مَنْ تَلزَمُهُ الصَّلاةُ وَدُفِنَ لمْ يَجُزْ نَبْشُهُ للصَّلاةِ؛  بَل تَجِبُ الصَّلاةُ عَليْهِ فِي القَبْرِ، لأَنَّ الصَّلاةَ عَلى الغَائِبِ جَائِزَةٌ، وَعَلى القُبُورِ، للأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فِي الصَّلاةِ عَلى القَبْرِ وَالغَائِبِ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ المَسْأَلةُ فِي فَصْل الصَّلاةِ عَلى القَبْرِ، هَذَا إذَا دُفِنَ وَهِيل عَليْهِ التُّرَابُ، فَأَمَّا إذَا أُدْخِل اللحْدَ وَلمْ يُهَل التُّرَابُ فَيُخْرَجُ وَيُصَلى عَليْهِ، نَقَلهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فِي الفُرُوقِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، قَال: وَالفَرْقُ بَيْنَ الحَالتَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما قِلةُ المَشَقَّةِ وَكَثْرَتُهَا والثاني: أَنَّ إخْرَاجَهُ بَعْدَ إهَالةِ التُّرَابِ نَبْشٌ عَلى الحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَقَبْل أَنْ يُهَال ليْسَ بِنَبْشٍ. قَال أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله: وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا أَرَادَ الصَّلاةَ عَليْهِ وَهُوَ فِي اللحْدِ قَبْل أَنْ يُهَال التُّرَابُ رُفِعَتْ لبِنَةٌ مِمَّا يُقَابِل وَجْهَهُ ليُنْظَرَ بَعْضُهُ، قَال أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا خِلافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيحُ مَا نَصَّ عَليْهِ، هَذَا كَلامُ أَبِي مُحَمَّدٍ قُلت: وَهَذَا النَّصُّ نَصَّ عَليْهِ فِي عُيُونِ المَسَائِل عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. أَمَّا إذَا دُفِنَ بِلا غُسْلٍ فَيَأْثَمُونَ بِلا خِلافٍ إنْ تَمَكَّنُوا مِنْ غُسْلهِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَجِبُ غُسْلهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ تَغَيَّرَ وَخُشِيَ فَسَادُهُ لوْ نُبِشَ لمْ يَجُزْ نَبْشُهُ لمَا فِيهِ مِنْ إنْهَاكِ حُرْمَتِهِ، وَإِنْ لمْ يَتَغَيَّرْ وَجَبَ نَبْشُهُ وَغُسْلهُ، ثُمَّ الصَّلاةُ عَليْهِ لأَنَّهُ وَاجِبٌ مَقْدُورٌ عَليْهِ فَوَجَبَ فِعْلهُ، وَبِهَذَا التَّفْصِيل قَطَعَ المُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الأَصْحَابِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ.
وَحَكَى إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ أَنَّهُ حَكَى قَوْلًا للشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لا يَجِبُ النَّبْشُ للغُسْل، وَإِنْ لمْ يَتَغَيَّرْ، بَل يُكْرَهُ نَبْشُهُ وَلا يَحْرُمُ، وَحَكَى صَاحِبُ الحَاوِي وَآخَرُونَ وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ نَبْشُهُ للغُسْل، وَإِنْ تَغَيَّرَ وَفَسَدَ، قَال الرَّافِعِيُّ: مَا دَامَ مِنْهُ جُزْءٌ مِنْ عَظْمٍ وَغَيْرِهِ. وَاتَّفَقَ الذِينَ حَكَوْا هَذَا الوَجْهَ عَلى ضَعْفِهِ وَفَسَادِهِ، أَمَّا إذَا دُفِنَ إلى غَيْرِ القِبْلةِ فَقَال المُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ الأَصْحَابِ: الدَّفْنُ إلى القِبْلةِ وَاجِبٌ كَمَا سَبَقَ، قَالوا: فَيَجِبُ نَبْشُهُ وَتَوْجِيهُهُ إلى القِبْلةِ إنْ لمْ يَتَغَيَّرْ، وَإِنْ تَغَيَّرَ سَقَطَ فَلا يُنْبَشُ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الأَصْحَابِ مِنْ العِرَاقِيِّينَ وَالخُرَاسَانِيِّينَ إلا القَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ فَقَال فِي كِتَابِهِ المُجَرَّدِ: لا يَجِبُ التَّوْجِيهُ إلى القِبْلةِ، بَل هُوَ سُنَّةٌ، فَإِذَا تُرِكَ اُسْتُحِبَّ نَبْشُهُ، وَلا يَجِبُ. وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَسَبَقَتْ المَسْأَلةُ مَبْسُوطَةً فِي هَذَا البَابِ.
أَمَّا إذَا دُفِنَ بِلا تَكْفِينٍ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أحدهما: يُنْبَشُ كَمَا يُنْبَشُ للغُسْل وأصحهما لا يُنْبَشُ، وَبِهِ قَطَعَ المَحَامِليُّ فِي المُقْنِعِ وَالسَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَاليِّ وَآخَرُونَ لا يُنْبَشُ لأَنَّ المَقْصُودَ سَتْرُهُ، وَقَدْ حَصَل، وَلأَنَّ فِي نَبْشِهِ هَتْكًا لحُرْمَتِهِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَلوْ دُفِنَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ اُسْتُحِبَّ لصَاحِبِهَا تَرْكُهُ، فَإِنْ أَبَى فَلهُ إخْرَاجُهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ وَتَفَتَّتَ وَكَانَ فِيهِ هَتْكٌ لحُرْمَتِهِ، إذْ لا حُرْمَةَ للغَاصِبِ "وَليْسَ لعِرْقٍ ظَالمٍ حَقٌّ"وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلى هَذَا. وَلوْ دُفِنَ فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ أَوْ مَسْرُوقٍ فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٍ حَكَاهَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ أصحها: يُنْبَشُ كَمَا لوْ دُفِنَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ البَغَوِيّ وَآخَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الغَزَاليُّ وَالمُتَوَلي وَالرَّافِعِيُّ وَنَقَلهُ السَّرَخْسِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ.
والثاني: لا يَجُوزُ نَبْشُهُ بَل يُعْطَى صَاحِبُ الثَّوْبِ قِيمَتَهُ لأَنَّ الثَّوْبَ صَارَ كَالهَالكِ بِخِلافِ

 

ج / 5 ص -191-       الأَرْضِ، وَلأَنَّ خَلعَ الثَّوْبِ أَفْحَشُ فِي هَتْكِ حُرْمَتِهِ مِنْ رَدِّ الأَرْضِ، وَبِهَذَا قَطَعَ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالعَبْدَرِيُّ، وَهُوَ قَوْل الدَّارَكِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ، وَنَقَلهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ فِي كِتَابَيْهِ عَنْ الأَصْحَابِ مُطْلقًا.
والثالث: إنْ تَغَيَّرَ المَيِّتُ وَكَانَ فِي نَبْشِهِ هَتْكٌ لحُرْمَتِهِ لمْ يُنْبَشْ وَإِلا نُبِشَ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ العُدَّةِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ لأَنْفُسِهِمَا بَعْدَ حِكَايَتِهِمَا عَنْ الأَصْحَابِ مَا قَدَّمْته، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الدَّارِمِيُّ. وَلوْ كُفِّنَ الرَّجُل فِي ثَوْبِ حَرِيرٍ، قَال الرَّافِعِيُّ: فِي نَبْشِهِ هَذِهِ الأَوْجُهُ، وَلمْ أَرَ هَذَا لغَيْرِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّهُ لا يُنْبَشُ بِخِلافِ المَغْصُوبِ، فَإِنْ نَبَشَهُ لحَقِّ مَالكِهِ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إذَا دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ أَوْ إلى غَيْرِ القِبْلةِ يَجِبُ نَبْشُهُ ليُغَسَّل وَيُوَجَّهَ للقِبْلةِ مَا لمْ يَتَغَيَّرْ، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ لا يَجِبُ ذَلكَ بَعْدَ إهَالةِ التُّرَابِ عَليْهِ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ وَقَعَ فِي القَبْرِ مَالٌ لآدَمِيٍّ فَطَالبَ بِهِ صَاحِبُهُ نُبِشَ القَبْرُ، لمَا رُوِيَ "أَنَّ المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رضي الله عنه طُرِحَ خَاتَمُهُ فِي قَبْرِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: خَاتَمِي، فَفُتِحَ1 مَوْضِعٌ فِيهِ فَأَخَذَهُ وَكَانَ يَقُول: أَنَّا أَقْرَبُكُمْ عَهْدًا بِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "وَلأَنَّهُ يُمْكِنُ رَدُّ المَال إلى صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَوَجَبَ رَدُّهُ عَليْهِ، وَإِنْ بَلعَ المَيِّتُ جَوْهَرَةً لغَيْرِهِ وَطَالبَ بِهَا صَاحِبُهَا شُقَّ جَوْفُهُ وَرُدَّتْ الجَوْهَرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ الجَوْهَرَةُ لهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يُشَقُّ لأَنَّهَا صَارَتْ للوَرَثَةِ، فَهِيَ كَجَوْهَرَةِ الأَجْنَبِيِّ والثاني: لا يَجِبُ لأَنَّهُ اسْتَهْلكَهَا فِي حَيَاتِهِ فَلمْ يَتَعَلقْ بِهَا الوَرَثَةُ".
الشرح:
حَدِيثُ المُغِيرَةَ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ، قَال الحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ وَهُوَ شَيْخُ الحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ: لا يَصِحُّ هَذَا الحَدِيثُ، وَيُقَال: خَاتَمٌ - بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا - وَخَاتَامٌ وَخِتَامٌ، وَقَوْلهُ: بَلعَ - بِكَسْرِ اللام، يُقَال: بَلعَ يَبْلعُ كَشَرِبَ يَشْرَبُ، قَال أَصْحَابُنَا: إذَا وَقَعَ فِي القَبْرِ مَالٌ نُبِشَ وَأُخْرِجَ، سَوَاءٌ كَانَ خَاتَمًا أَوْ غَيْرَهُ قَليلًا أَوْ كَثِيرًا هَكَذَا أَطْلقَهُ أَصْحَابُنَا، وَقَيَّدَهُ المُصَنِّفُ بِمَا إذَا طَلبَهُ صَاحِبُهُ، وَلمْ يُوَافِقُوهُ عَلى التَّقْيِيدِ وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ النَّبْشِ هُوَ المَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الأَصْحَابُ فِي كُل طُرُقِهِمْ، وَانْفَرَدَ صَاحِبُ العُدَّةِ بِحِكَايَةِ وَجْهٍ أَنَّهُ لا يُنْبَشُ، قَال: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا الوَجْهُ غَلطٌ. أَمَّا إذَا بَلعَ جَوْهَرَةً لغَيْرِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَطَرِيقَانِ الصَّحِيحُ: مِنْهُمَا - وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ فِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ - أَنَّهُ إذَا طَلبَهَا صَاحِبُهَا شُقَّ جَوْفُهُ وَرُدَّتْ إلى صَاحِبِهَا وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِيهِ وَجْهَانِ مِمَّنْ حَكَاهُ المُتَوَلي وَالبَغَوِيُّ وَالشَّاشِيُّ أصحهما: هَذَا والثاني: لا يُشَقُّ، بَل يَجِبُ قِيمَتُهَا فِي تَرِكَتِهِ، لحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال
"كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلا رَجُلًا وَاحِدًا، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ فَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَوَثَّقَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ بالبناء للمعلوم ونصب موضعا (ط).

 

ج / 5 ص -192-       الأَكْثَرُونَ، وَرَوَى لهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ وَهُوَ كَافٍ فِي الاحْتِجَاجِ بِهِ، وَلمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد مَعَ قَاعِدَتِهِ التِي قَدَّمْنَا بَيَانَهَا.
قَالوا: وَوَجْهُ الدَّلالةِ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ كَسْرَ العَظْمِ، وَشَقَّ الجَوْفِ فِي الحَيَاةِ لا يَجُوزُ لاسْتِخْرَاجِ جَوْهَرَةٍ وَغَيْرِهَا، فَكَذَا بَعْدَ المَوْتِ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي المَكَارِمِ صَاحِبِ العُدَّةِ وَهُوَ غَيْرُ صَاحِبِ العُدَّةِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ الطَّبَرِيِّ الإِمَامِ المَشْهُورِ، الذِي يَنْقُل عَنْهُ صَاحِبُ البَيَانِ وَأُطْلقُهُ أَنَا فِي هَذَا الشَّرْحِ أَنَّهُ قَال: يُشَقُّ جَوْفُهُ إلا أَنْ يَضْمَنَ الوَرَثَةُ قِيمَتَهُ أَوْ مِثْلهُ فَلا يُشَقُّ فِي أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ وَهَذَا النَّقْل غَرِيبٌ، وَالمَشْهُورُ للأَصْحَابِ إطْلاقُ الشَّقِّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. أَمَّا إذَا بَلعَ جَوْهَرَةً لنَفْسِهِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَ المُصَنِّفُ دَليلهُمَا قَل مَنْ بَيَّنَ الأَصَحَّ مِنْهُمَا مَعَ شُهْرَتِهِمَا فَصَحَّحَ الجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي وَالعَبْدَرِيِّ فِي الكِفَايَةِ الشَّقَّ وَقَطَعَ المَحَامِليُّ فِي المُقْنِعِ بِأَنَّهُ لا يُشَقُّ، وَصَحَّحَهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ المُجَرَّدِ، قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي التَّعْليقِ: وَقَوْل الأَوَّل أَنَّهَا صَارَتْ للوَارِثِ غَلطٌ لأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ للوَارِثِ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً، فَأَمَّا المُسْتَهْلكَةُ فَلا وَهَذِهِ مُسْتَهْلكَةٌ.
وَأَجَابَ الأَوَّل عَنْ هَذَا بِأَنَّهَا لوْ كَانَتْ مُسْتَهْلكَةً لمَا شُقَّ جَوْفُهُ بِجَوْهَرَةِ الأَجْنَبِيِّ وَحَيْثُ قُلنَا: يُشَقُّ جَوْفُهُ وَتُخْرَجُ، فَلوْ دُفِنَ قَبْل الشَّقِّ، نُبِشَ لذَلكَ وَاَللهُ أَعْلمُ. هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبِنَا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَسَحْنُونٌ المَالكِيُّ: يُشَقُّ مُطْلقًا. وَقَال أَحْمَدُ وَابْنُ حَبِيبٍ المَالكِيُّ: لا يُشَقُّ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:( وَإِنْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَفِي جَوْفِهَا جَنِينٌ حَيٌّ شُقَّ جَوْفُهَا لأَنَّهُ اسْتِبْقَاءُ حَيٍّ بِإِتْلافِ جُزْءٍ مِنْ المَيِّتِ فَأَشْبَهَ إذَا اُضْطُرَّ إلى أَكْل جُزْءٍ مِنْ المَيِّتِ).
الشرح: هَذِهِ المَسْأَلةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الأَصْحَابِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الحَاوِي أَنَّهُ ليْسَ للشَّافِعِيِّ فِيهَا نَصٌّ، قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالمَحَامِليُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَخَلائِقُ مِنْ الأَصْحَابِ: قَال ابْنُ سُرَيْجٍ: إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَفِي جَوْفِهَا جَنِينٌ حَيٌّ شُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ فَأَطْلقَ ابْنُ سُرَيْجٍ المَسْأَلةَ قَال أَبُو حَامِدٍ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالمَحَامِليُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: ليْسَ هُوَ كَمَا أَطْلقَهَا ابْنُ سُرَيْجٍ، بَل يُعْرَضُ عَلى القَوَابِل فَإِنْ قُلنَ هَذَا الوَلدُ إذَا أُخْرِجَ يُرْجَى حَيَاتُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا شُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ، وَإِنْ قُلنَ لا يُرْجَى بِأَنْ يَكُونَ لهُ دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لمْ يُشَقَّ، لأَنَّهُ لا مَعْنَى لانْتِهَاكِ حُرْمَتِهَا فِيمَا لا فَائِدَةَ فِيهِ قَال المَاوَرْدِيُّ: وَقَوْل ابْنِ سُرَيْجٍ هُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الفُقَهَاءِ.
قُلت: وَقَطَعَ بِهِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ والعبدري فِي الكِفَايَةِ وَذَكَرَ القَاضِي حُسَيْنٌ وَالفُورَانِيُّ وَالمُتَوَلي وَالبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ فِي الذِي لا يُرْجَى حَيَاتُهُ وَجْهَيْنِ: أحدهما يُشَقُّ، والثاني: لا يُشَقُّ قَال البَغَوِيّ: وَهُوَ الأَصَحُّ، قَال جُمْهُورُ الأَصْحَابِ: فَإِذَا قُلنَا لا يُشَقُّ لمْ تُدْفَنْ حَتَّى تَسْكُنَ حَرَكَةُ الجَنِينِ، وَيُعْلمَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ وَنَقَل اتِّفَاقَ الأَصْحَابِ عَليْهِ

 

ج / 5 ص -193-       القَاضِي حُسَيْنٌ وَآخَرُونَ وَهُوَ مَوْجُودٌ كَذَلكَ فِي كُتُبِهِمْ إلا مَا انْفَرَدَ بِهِ المَحَامِليُّ فِي المُقْنِعِ وَالقَاضِي حُسَيْنٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ تَعْليقِهِ قَبْل بَابِ الشَّهِيدِ بِنَحْوِ وَرَقَتَيْنِ، وَالمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ فَقَالوا: تُرِكَ عَليْهِ شَيْءٌ ثَقِيلٌ حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ تُدْفَنُ المَرْأَةُ وَهَذَا غَلطٌ فَاحِشٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الأَصْحَابُ أَشَدَّ إنْكَارٍ وَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِقَتْل حَيٍّ مَعْصُومٍ؟ وَإِنْ كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ حَيَاتِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ يَقْتَضِي القَتْل.
وَمُخْتَصَرُ المَسْأَلةِ إنْ رُجِيَ حَيَاةٌ لجَنِينٍ وَجَبَ شَقُّ جَوْفِهَا وَإِخْرَاجُهُ، وَإِلا فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ أصحها: لا تُشَقُّ وَلا تُدْفَنُ حَتَّى يَمُوتَ، والثاني: تُشَقُّ وَيُخْرَجُ، والثالث: يُثْقَل بَطْنُهَا بِشَيْءٍ ليَمُوتَ وَهُوَ غَلطٌ، وَإِذَا قُلنَا يُشَقُّ جَوْفُهَا شُقَّ فِي الوَقْتِ الذِي يُقَال إنَّهُ أَمْكَنُ لهُ، هَكَذَا قَالهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَقَال البَنْدَنِيجِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ تُشَقَّ فِي القَبْرِ فَإِنَّهُ أَسْتَرُ لهَا.

افرع: فِي مَسَائِل تَتَعَلقُ بِالبَابِ
إحداها: قَال أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ الدَّفْنُ بِالليْل لكِنْ المُسْتَحَبُّ دَفْنُهُ نَهَارًا. قَالوا وَهُوَ مَذْهَبُ العُلمَاءِ كَافَّةً إلا الحَسَنَ البَصْرِيَّ فَإِنَّهُ كَرِهَهُ، وَاحْتَجَّ لهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: "زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُل بِالليْل حَتَّى يُصَلى عَليْهِ إلا أَنْ يُضْطَرَّ إنْسَانٌ إلى ذَلكَ"رَوَاهُ مُسْلمٌ. دَليلنَا الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ المَشْهُورَةُ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ دُفِنَ ليْلًا فَقَال: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ فَقَالوا: البَارِحَةَ قَال: أَفَلا آذَنْتُمُونِي؟ قَالوا دَفَنَّاهُ فِي ظُلمَةِ الليْل فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَك، فَصَلى عَليْهِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَال "رَأَى نَاسٌ نَارًا فِي المَقْبَرَةِ فَأَتَوْهَا فَإِذَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي القَبْرِ، وَإِذَا هُوَ يَقُول: نَاوِلونِي صَاحِبَكُمْ، وَإِذَا هُوَ الرَّجُل الذِي كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ. وَاحْتَجَّ بِهِ أَبُو دَاوُد فِي المَسْأَلةِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه لمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ ليْلةِ الثُّلاثَاءِ، وَدُفِنَ قَبْل أَنْ يُصْبِحَ "رَوَاهُ البُخَارِيُّ رحمه الله، فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ المُعْتَمَدَةُ فِي المَسْأَلةِ.
 وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَل قَبْرًا ليْلًا، فَأُسْرِجَ لهُ سِرَاجٌ"إلى آخِرِهِ، فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. فَإِنْ قِيل قَدْ قَال فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ قُلنَا: لا يُقْبَل قَوْل التِّرْمِذِيِّ فِي هَذَا لأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ المُحَدِّثِينَ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ اُعْتُضِدَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِغَيْرِهِ فَصَارَ حَسَنًا. قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَدُفِنَتْ عَائِشَةُ وَفَاطِمَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم ليْلًا، فَلمْ يُنْكِرْ ذَلكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالجَوَابُ: عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ عَنْ دَفْنِهِ قَبْل الصَّلاةِ عَليْهِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
الثانية: الدَّفْنُ فِي الأَوْقَاتِ التِي نُهِيَ عَنْ الصَّلاةِ فِيهَا إذَا لمْ يَتَحَرَّهُ ليْسَ بِمَكْرُوهٍ عِنْدَنَا، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ فِي بَابِ القِيَامِ للجِنَازَةِ، وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ. وَنَقَل الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي أَوَّل بَابِ الصَّلاةِ عَلى المَيِّتِ مِنْ تَعْليقِهِ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُمْ إجْمَاعَ العُلمَاءِ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ رحمه الله عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَال
"ثَلاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم

 

ج / 5 ص -194-       عَنْ الصَّلاةِ فِيهَا، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا وَذَكَرَ وَقْتَ طُلوعِ الشَّمْسِ وَاسْتِوَائِهَا وَغُرُوبِهَا"وَأَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَاوَرْدِيُّ وَنَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ الإِجْمَاعَ دَل عَلى تَرْكِ ظَاهِرِهِ فِي الدَّفْنِ، وَأَجَابَ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالمُتَوَلي وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَحَرِّي هَذِهِ الأَوْقَافِ للدَّفْنِ وَقَصَدَ ذَلكَ، قَالوا: وَهَذَا مَكْرُوهٌ، فَأَمَّا إذَا لمْ يَتَحَرَّهُ فَلا كَرَاهَةَ، وَلا هُوَ مُرَادُ الحَدِيثِ، وَهَذَا الجَوَابُ أَحْسَنُ مِنْ الأَوَّل.
الثالثة: فِي نَقْل المَيِّتِ مِنْ بَلدٍ إلى بَلدٍ قَبْل دَفْنِهِ، قَال صَاحِبُ الحَاوِي: قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: لا أُحِبُّهُ إلا أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَوْ المَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَيُخْتَارُ أَنْ يُنْقَل إليْهَا لفَضْل الدَّفْنِ فِيهَا. وَقَال البَغَوِيّ وَالشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ البَنْدَنِيجِيُّ مِنْ العِرَاقِيِّينَ: يُكْرَهُ نَقْلهُ، وَقَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالدَّارِمِيُّ وَالمُتَوَلي يَحْرُمُ نَقْلهُ، قَال القَاضِي حُسَيْنٌ وَالمُتَوَلي: وَلوْ أَوْصَى بِنَقْلهِ لمْ تُنَفَّذْ وَصِيَّتُهُ، وَهَذَا هُوَ الأَصَحُّ لأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِتَعْجِيل دَفْنِهِ وَفِي نَقْلهِ تَأْخِيرُهُ، وَفِيهِ أَيْضًا انْتِهَاكُهُ مِنْ وُجُوهٍ وَتَعَرُّضُهُ للتَّغَيُّرِ وَغَيْرِ ذَلكَ وَقَدْ صَحَّ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال
"كُنَّا حَمَلنَا القَتْلى يَوْمَ أُحُدٍ لنَدْفِنَهُمْ، فَجَاءَ مُنَادِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: إنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَدْفِنُوا القَتْلى فِي مَضَاجِعِهِمْ فَرَدَدْنَاهَا"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَال التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا نَبْشُ القَبْرِ فَلا يَجُوزُ لغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ، وَيَجُوزُ بِالأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ كَنَحْوِ مَا سَبَقَ، وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ القَبْرِ إذَا بَليَ المَيِّتُ وَصَارَ تُرَابًا، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ دَفْنُ غَيْرِهِ فِيهِ، وَيَجُوزُ زَرْعُ تِلكَ الأَرْضِ وَبِنَاؤُهَا وَسَائِرُ وُجُوهِ الانْتِفَاعِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ، وَإِنْ كَانَتْ عَارِيَّةً رَجَعَ فِيهَا المُعِيرُ. وَهَذَا كُلهُ إذَا لمْ يَبْقَ للمَيِّتِ أَثَرٌ مِنْ عَظْمٍ وَغَيْرِهِ، قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: "وَيَخْتَلفُ ذَلكَ بِاخْتِلافِ البِلادِ وَالأَرْضِ وَيُعْتَمَدُ فِيهِ قَوْل أَهْل الخِبْرَةِ بِهَا ". وَيَجُوزُ نَبْشُ المَيِّتِ إذَا دُفِنَ لغَيْرِ القِبْلةِ، أَوْ بِلا غُسْلٍ عَلى الصَّحِيحِ فِيهِمَا، أَوْ بِلا كَفَنٍ، أَوْ فِي كَفَنٍ مَغْصُوبٍ أَوْ حَرِيرٍ أَوْ أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، أَوْ ابْتَلعَ جَوْهَرَةً، أَوْ وَقَعَ فِي القَبْرِ مَالٌ عَلى مَا سَبَقَ فِي كُل ذَلكَ مِنْ التَّفْصِيل وَالخِلافِ. قَال المَاوَرْدِيُّ فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ "إذَا لحِقَ القَبْرَ سَيْلٌ أَوْ نَدَاوَةٌ، قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ الزُّبَيْرِيُّ: نَقْلهُ يَجُوزُ، وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ.
قُلت: قَوْل الزُّبَيْرِيِّ أَصَحُّ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما "أَنَّهُ دَفَنَ أَبَاهُ يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ فِي قَبْرٍ، قَال: ثُمَّ لمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرَ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هَيْئَةً، غَيْرَ أُذُنِهِ "وَفِي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ أَيْضًا "أَخْرَجْته فَجَعَلته فِي قَبْرٍ عَلى حِدَةٍ "وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي المَعَارِفِ وَغَيْرِهِ أَنَّ طَلحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ أَحَدَ العَشَرَةِ رضي الله عنهم دُفِنَ فَرَأَتْهُ بِنْتُهُ عَائِشَةُ بَعْدَ دَفْنِهِ بِثَلاثِينَ سَنَةً فِي المَنَامِ، فَشَكَا إليْهَا النَّزَّ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَاسْتُخْرِجَ طَرِيًّا فَدُفِنَ فِي دَارِهِ بِالبَصْرَةِ، قَال غَيْرُهُ قَال الرَّاوِي "كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى الكَافُورِ فِي عَيْنَيْهِ لمْ يَتَغَيَّرْ إلا عَقِيصَتُهُ فَمَالتْ عَنْ مَوْضِعِهَا وَاخْضَرَّ شِقُّهُ الذِي يَلي النَّزَّ.

 

ج / 5 ص -195-       الرابعة: قَال جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ تَلقِينُ المَيِّتِ عَقِبَ دَفْنِهِ فَيَجْلسُ عِنْدَ رَأْسِهِ إنْسَانٌ وَيَقُول: "يَا فُلانَ ابْنَ فُلانٍ وَيَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أَمَةِ اللهِ اُذْكُرْ العَهْدَ الذِي خَرَجْت عَليْهِ مِنْ الدُّنْيَا، شَهَادَةَ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولهُ وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ البَعْثَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ. وَأَنَّك رَضِيت بِاَللهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَبِالقُرْآنِ إمَامًا وَبِالكَعْبَةِ قِبْلةً وَبِالمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا "زَادَ الشَّيْخُ نَصْرٌ "رَبِّي اللهُ لا إلهَ إلا هُوَ عَليْهِ تَوَكَّلت وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ "فَهَذَا التَّلقِينُ عِنْدَهُمْ مُسْتَحَبٌّ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلى اسْتِحْبَابِهِ القَاضِي حُسَيْنٌ وَالمُتَوَلي وَالشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَنَقَلهُ القَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلقًا، وَسُئِل الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلاحِ رحمه الله عَنْهُ فَقَال: (التَّلقِينُ هُوَ الذِي نَخْتَارُهُ وَنَعْمَل بِهِ، قَال: وَرَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ ليْسَ إسْنَادُهُ بِالقَائِمِ، لكِنْ اُعْتُضِدَ بِشَوَاهِدَ، وَبِعَمَل أَهْل الشَّامِ قَدِيمًا) هَذَا كَلامُ أَبِي عَمْرٍو. قُلت: حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ رَوَاهُ أَبُو القَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَلفْظُهُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَزْدِيِّ قَال "شَهِدْتُ أَبَا أُمَامَةَ رضي الله عنه وَهُوَ فِي النَّزْعِ فَقَال: إذَا مِتُّ فَاصْنَعُوا بِي كَمَا أَمَرَنَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال:
إذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إخْوَانِكُمْ فَسَوَّيْتُمْ التُّرَابَ عَلى قَبْرِهِ فَليَقُمْ أَحَدُكُمْ عَلى رَأْسِ قَبْرِهِ ثُمَّ ليَقُل: يَا فُلانَ ابْنَ فُلانَةَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُهُ وَلا يُجِيبُ، ثُمَّ يَقُول: يَا فُلانَ ابْنَ فُلانَةَ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُول: يَا فُلانَ بْنَ فُلانَةَ فَإِنَّهُ يَقُول: أَرْشِدْنَا رَحِمَك اللهُ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ، فَليَقُل اُذْكُرْ مَا خَرَجْت عَليْهِ مِنْ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولهُ وَأَنَّك رَضِيت بِاَللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَبِالقُرْآنِ إمَامًا، فَإِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَأْخُذُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ وَيَقُول: انْطَلقْ بِنَا مَا نَقْعُدُ عِنْدَ مَنْ لقِّنَ حُجَّتَهُ، فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللهِ فَإِنْ لمْ نَعْرِفْ أُمَّهُ؟ قَال فَيَنْسُبُهُ إلى أُمِّهِ حَوَّاءَ، يَا فُلانَ ابْنَ حَوَّاءَ"قُلتُ فَهَذَا الحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَيُسْتَأْنَسُ بِهِ. وَقَدْ اتَّفَقَ عُلمَاءُ المُحَدِّثِينَ وَغَيْرُهُمْ عَلى المُسَامَحَةِ فِي أَحَادِيثِ الفَضَائِل1 وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَقَدْ اُعْتُضِدَ بِشَوَاهِدَ مِنْ الأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ "وَاسْأَلوا لهُ التَّثْبِيتَ"وَوَصِيَّةِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ وَهُمَا صَحِيحَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا قَرِيبًا، وَلمْ يَزَل أَهْل الشَّامِ عَلى العَمَل بِهَذَا فِي زَمَنِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَإِلى الآنَ، وَهَذَا التَّلقِينُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ المُكَلفِ المَيِّتِ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَلا يُلقَّنُ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
الخامسة: ذَكَرَ المَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ إيقَادُ النَّارِ عِنْدَ القَبْرِ، وَسَبَقَتْ المَسْأَلةُ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ التَّعْزِيَةِ كَرَاهِيَةُ المَبِيتِ فِي المَقْبَرَةِ وَكَرَاهَةُ الجُلوسِ عَلى قَبْرٍ وَدَوْسِهِ، وَالاسْتِنَادِ إليْهِ وَالاتِّكَاءِ عَليْهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس هذا من مرسل الفضائل وإنما حدد حكما بالاستحباب وبدلالة الخطاب هو مستحب على الكفاية ولايقوم الضعيف حجة في ثبوت الأحكام فضلا عن أمر تعم به البلوى وتوفر على القيا م به أناس بدلوا ماء وجوههم في سؤال الناس إلحاقا بمثل هذه الأحاديث التي تبلغ في وهنها حد الوضع, وسؤال التثبيت ليس من قبيل التلقين وإنما هو من قبيل الدعاء له بالثبات واليقين كصلاة الجنازة فإنما هي دعاء له وليست خطابا موجها إليه والله أعلم (ط).