المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 5 ص -196-       بَابُ التَّعْزِيَةِ وَالبُكَاءِ عَلى المَيِّتِ
البُكَاءُ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، لغَتَانِ، المَدُّ أَفْصَحُ، وَالعَزَاءُ بِالمَدِّ التَّعْزِيَةُ، وَهُمَا الصَّبْرُ عَلى مَا بِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ، وَعَزَّاهُ أَيْ صَبَّرَهُ وَحَثَّهُ عَلى الصَّبْرِ؛ قَال الأَزْهَرِيُّ رحمه الله: أَصْلهَا التَّصْبِيرُ لمَنْ أُصِيبَ بِمَنْ يَعِزُّ عَليْهِ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"تَعْزِيَةُ أَهْل المَيِّتِ سُنَّةٌ لمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: "قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلهُ مِثْل أَجْرِهِ"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَزَّى بِتَعْزِيَةِ الخَضِرِ عليه السلام أَهْل بَيْتِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَنْ يَقُول: "إنَّ فِي اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَزَاءٌ مِنْ كُل مُصِيبَةٍ، وَخَلفًا مِنْ كُل هَالكٍ، وَدَرْكًا مِنْ كُل فَائِتٍ؛ فَبِاَللهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ المُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ [لهُ وَ1] للمَيِّتِ فَيَقُول: أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَك، وَغَفَرَ لمَيِّتِك، وَإِنْ عَزَّى مُسْلمًا بِكَافِرٍ قَال: أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ، وَإِنْ عَزَّى كَافِرًا بِمُسْلمٍ قَال: أَحْسَنَ اللهُ عَزَاءَكَ وَغَفَرَ لمَيِّتِك، وَإِنْ عَزَّى كَافِرًا بِكَافِرٍ قَال: أَخْلفَ اللهُ عَليْك، وَلا نَقَصَ عَدَدُك، وَيُكْرَهُ الجُلوسُ2 للتَّعْزِيَةِ، لأَنَّ ذَلكَ مُحْدَثٌ وَالمُحْدَثُ بِدْعَةٌ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مابين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).
2 عبارة ويكره الجلوس معقود لها فصل في "متن المهذب" وقد أدرجها الشارح هنا (ط).
قال النووي رحمه الله في"تهذيب الأسماء" و "اللغات"
الخضر عليه السلام مذكور في "المهذب" في باب التعزية هو بفتح الخاء وكسر الضاد ويجوز إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها كما في نظائره. والخضر لقب قالوا واسمه يليا بموحدة مفتوحة ثم لام ساكنة ثم مثناة تحت ابن ملكان وقيل كليمان. قال بن قتيبة في المعارف: قال وهب بن منبه اسم الخضر يليا بن ملكان بن قانع بن عابر بت شامخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. قالوا وكان أبوه من الملوك, واختلفوا في سبب تلقيبه بالخضر فقال الأكثرون لأنه جلس على فروة بيضاء فصارت خضراء, والفروة وجه الأرض وقيل: الهيثم من النبات وقيل:لأنه كان إذا صلى أخضر ما حوله, والصواب الأول, فقد روينا في "صحيح البخاري" عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إنما سمي الخضر لأنه جلس علي فروة فإذا هي تهتز من خلفه خضراء فهذا نص صحيح صريح وكنية الخضر أبو العباس وهو صاحب موسى النبي صلى الله عليه وسلم الذي سأل السبيل في لقيه وقد أثنى الله تعالى عليه في كتابه بقوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} فأخبر الله عنه في باقي الآيات بتلك الأعجوباة وموسى الذي صحبه هو موسى بني إسرائيل كليم الله تعالى كما جاء به الحديث المشهور في"صحيح البخاري" ومسلم وهو مشتمل على عجائب من لأمرهما. واختلفوا في حياة الخضر ونبوته فقال الكثرون من العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا, وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة, وحكاياتهم في رؤيته والإجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضيع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر, وأشهر من أن تذكر.
وفي آخر "صحيح مسلم" في أحاديث الدجال إنه يقتل رجلا ثم يحيا قال إبراهيم بن أبي سفيان صاحب مسلم يقال: أي ذلك الرجل هو الخضر, وكذا قال معمر في "مسنده" أنه يقال: أنه الخضر وذكر أبو إسحاق الثعلبي المفسر اختلافا في أن الخضر كان في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام أم بعده بقليل أم بعده بكثير. قال والخضر على جميع الأقوال نبي معمر محجوب عن الأبصار قال: إنه ليموت إلا في آخر الزمان عند==

 

ج / 5 ص -197-       الشرح: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه "قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَزَّى ثَكْلى كُسِيَ بُرْدًا فِي الجَنَّةِ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَأَمَّا قِصَّةُ تَعْزِيَةِ الخَضِرِ عليه السلام فَرَوَاهَا الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ إلا أَنَّهُ لمْ يَقُل الخَضِرُ عليه السلام، بَل سَمِعُوا قَائِلًا يَقُول: فَذَكَرَ هَذِهِ التَّعْزِيَةَ، وَلمْ يَذْكُرْ الشَّافِعِيُّ الخَضِرَ عليه السلام، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ، وَفِيهِ دَليلٌ مِنْهُمْ لاخْتِيَارِهِمْ مَا هُوَ المُخْتَارُ، وَتَرْجِيحُ مَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّ الخَضِرَ عليه السلام حَيٌّ بَاقٍ، وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ العُلمَاءِ.
وَقَال بَعْضُ المُحَدِّثِينَ: ليْسَ هُوَ حَيًّا1 وَاخْتَلفُوا فِي حَالهِ، فَقَال كَثِيرُونَ كَانَ نَبِيًّا لا رَسُولًا، وَقَال آخَرُونَ: كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا، وَقَال آخَرُونَ: كَانَ وَليًّا، وَقِيل: كَانَ مَلكًا مِنْ المَلائِكَةِ وَهَذَا غَلطٌ، وَقَدْ أَوْضَحْت اسْمَهُ وَحَالهُ وَالاخْتِلافَ وَمَا يَتَعَلقُ بِهِ فِي تَهْذِيبِ الأَسْمَاءِ وَاللغَاتِ2.
وَقَوْلهُ: خَلفًا مِنْ كُل هَالكٍ - هُوَ بِفَتْحِ اللامِ - أَيْ بَدَلًا، وَالدَّرْكُ اللحَاقُ قوله وَلا نَقَصَ عَدَدُك هُوَ بِنَصْبِ الدَّال وَرَفْعِهَا، وقوله: أَخْلفَ اللهُ عَليْك أَيْ رَدَّ عَليْك مِثْل مَا ذَهَبَ مِنْك، قَال جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل اللغَةِ: يُقَال: أَخْلفَ اللهُ عَليْك إذَا كَانَ المَيِّتُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِثْلهُ كَالابْنِ وَالزَّوْجَةِ وَالأَخِ لمَنْ وَالدُهُ حَيٌّ وَمَعْنَاهُ رَدَّ اللهُ عَليْك مِثْلهُ، قَالوا: وَيُقَال: خَلفَ اللهُ عَليْك إذَا لمْ يُتَصَوَّرْ حُصُول مِثْلهِ، كَالوَالدِينَ أَيْ كَانَ اللهُ خَليفَةَ مَنْ فَقَدْته عَليْك.
أما الأحكام: فَقَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: التَّعْزِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَزَّى جَمِيعُ أَقَارِبِ المَيِّتِ أَهْلهُ الكِبَارُ وَالصِّغَارُ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ، إلا أَنْ تَكُونَ المَرْأَةُ شَابَّةً فَلا يُعَزِّيهَا إلا مَحَارِمُهَا، قَالوا: وَتَعْزِيَةُ الصُّلحَاءِ وَالضُّعَفَاءِ عَنْ احْتِمَال المُصِيبَةِ وَالصِّبْيَانِ آكَدُ، وَيُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ بِمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ مِنْ تَعْزِيَةِ الخَضِرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِيهِ تَسْليَةٌ وَتَصْبِيرٌ.
وَمِنْ أَحْسَنِهِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَال
"أَرْسَلتْ إحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إليْهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لهَا أَوْ ابْنًا فِي المَوْتِ فَقَال للرَّسُول: ارْجِعْ إليْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
== رفع القرآن, قلت: ومذهب أنه مات منذ أمد بعيد.
1 وهو الحق المأخوذ من مفهوم الكتاب والسنة لحديث: "بعد مائة عام لا يبقى على ظهر الأرض أحد ممن هو على ظهرها اليوم" وقوله تعالى:
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية والله أعلم (ط).
2 قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في "فتاويه": هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك قال: وإنما حد بإنكاره بعض المحدثين. قال: وهو نبي واختلفوا في كونه مرسلا, وكذا قاله بهذه الحروف غير الشيخ من المتقدمين, وقال أبو القاسم القشيدي في رسالته في باب الأولياء: لم يكن الخضر نبيا وإنما كان وليا, وقال أقضى القضاء الماوردي في تفسيره: قيل: هو ولي, وقيل هو نبي؛ وقيل: إنه من الملائكة, وهذا الثالث غريب ضعيف أو باطل

 

ج / 5 ص -198-       للهِ مَا أَخَذَ، وَلهُ مَا أَعْطَى، وَكُل شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلتَصْبِرْ وَلتَحْتَسِبْ"وَذَكَرَ تَمَامَ الحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ الإِسْلامِ المُشْتَمِلةِ عَلى مُهِمَّاتٍ مِنْ الأُصُول وَالفُرُوعِ وَالآدَابِ وَقَدْ أَشَرْت إلى بَعْضِهَا فِي الأَذْكَارِ، وَفِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلمٍ. "وَأَمَّا" وَقْتُ التَّعْزِيَةِ فَقَال أَصْحَابُنَا هُوَ مِنْ حِينِ المَوْتِ إلى حِينِ الدَّفْنِ، وَبَعْدَ الدَّفْنِ إلى ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، قَال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ: وَهَذِهِ المُدَّةُ للتَّقْرِيبِ لا للتَّحْدِيدِ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَتُكْرَهُ التَّعْزِيَةُ بَعْدَ الثَّلاثَةِ لأَنَّ المَقْصُودَ مِنْهَا تَسْكِينُ قَلبِ المُصَابِ وَالغَالبُ سُكُونُهُ بَعْدَ الثَّلاثَةِ، فَلا يُجَدِّدُ لهُ الحُزْنَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ المَعْرُوفُ، وَجَزَمَ السَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَاليِّ بِأَنَّهُ يُعَزَّى قَبْل الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ فِي رُجُوعِهِ إلى مَنْزِلهِ، وَلا يُعَزَّى بَعْدَ وُصُولهِ مَنْزِلهُ.
وَحَكَى إمَامُ الحَرَمَيْنِ - وَجْهًا - أَنَّهُ لا أَمَدَ للتَّعْزِيَةِ، بَل يَبْقَى بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَإِنْ طَال الزَّمَانُ، لأَنَّ الغَرَضَ الدُّعَاءُ، وَالحَمْل عَلى الصَّبْرِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الجَزَعِ، وَذَلكَ يَحْصُل مَعَ طُول الزَّمَانِ، وَبِهَذَا الوَجْهِ قَطَعَ أَبُو العَبَّاسِ بْنِ القَاصِّ فِي التَّلخِيصِ، وَأَنْكَرَهُ عَليْهِ القَفَّال فِي شَرْحِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ الأَصْحَابِ، وَالمَذْهَبُ أَنَّهُ يُعَزَّى وَلا يُعَزَّى بَعْدَ ثَلاثَةٍ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ، قَال المُتَوَلي وَغَيْرُهُ: إلا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا فَلمْ يَحْضُرْ إلا بَعْدَ الثَّلاثَةِ فَإِنَّهُ يُعَزِّيهِ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَتَجُوزُ التَّعْزِيَةُ قَبْل الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ، لكِنْ بَعْدَ الدَّفْنِ أَحْسَنُ وَأَفْضَل، لأَنَّ أَهْلهُ قَبْل الدَّفْنِ مَشْغُولونَ بِتَجْهِيزِهِ. وَلأَنَّ وَحْشَتَهُمْ بَعْدَ دَفْنِهِ لفِرَاقِهِ أَكْثَرُ. فَكَانَ ذَلكَ الوَقْتُ أَوْلى بِالتَّعْزِيَةِ. قَال أَصْحَابُنَا. إلا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِمْ جَزَعٌ وَنَحْوُهُ فَيَجْعَل التَّعْزِيَةَ ليَذْهَبَ جَزَعُهُمْ أَوْ يَخِفَّ.
وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ رحمه الله فِي تَعْزِيَةِ المُسْلمِ كَذَا. وَفِي تَعْزِيَةِ الكَافِرِ كَذَا. فَهَكَذَا قَالهُ أَصْحَابُنَا. وَحَاصِلهُ الجَمْعُ بَيْنَ الدُّعَاءِ للمَيِّتِ وَالمُعَزَّى بِهِ. وَالمَشْهُورُ تَقْدِيمُ الدُّعَاءِ للمُعَزَّى كَمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ: أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَك وَأَحْسَنَ عَزَاك، وَغَفَرَ لمَيِّتِك. وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ فِيهِ ثَلاثَةَ أَوْجُهٍ (أَحَدَهَا) هَذَا. قَال: وَهُوَ قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيُّ. قَال: لأَنَّهُ المُخَاطَبُ فَبُدِئَ بِهِ، والثاني: يُقَدَّمُ الدُّعَاءُ للمَيِّتِ فَيَقُول: غَفَرَ اللهُ لمَيِّتِك وَأَعْظَمَ اللهُ أَجْرَك وَأَحْسَنَ عَزَاك. لأَنَّ المَيِّتَ أَحْوَجُ إلى الدُّعَاءِ. والثالث: يَتَخَيَّرُ فَيُقَدِّمُ مَا شَاءَ.
قَال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللهُ: وَقَوْلهُ فِي الكَافِرِ: وَلا نَقَصَ عَدَدُك لتَكْثُرَ الجِزْيَةُ المَأْخُوذَةُ مِنْهُمْ. مِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالقَاضِي أَبُو الطِّيبِ وَالمَحَامِليُّ وَأَبُو عَليٍّ البَنْدَنِيجِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالبَغَوِيُّ وَصَاحِبَا العُدَّةِ وَالبَيَانِ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَهُوَ مُشْكِلٌ لأَنَّهُ دُعَاءٌ بِبَقَاءِ الكَافِرِ وَدَوَامِ كُفْرِهِ فَالمُخْتَارُ تَرْكُهُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا الجُلوسُ للتَّعْزِيَةِ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الأَصْحَابِ عَلى كَرَاهَتِهِ وَنَقَلهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي التَّعْليقِ وَآخَرُونَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. قَالوا: يَعْنِي بِالجُلوسِ لهَا أَنْ يَجْتَمِعَ أَهْل المَيِّتِ فِي بَيْتٍ فَيَقْصِدُهُمْ مَنْ أَرَادَ التَّعْزِيَةَ قَالوا: بَل يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفُوا فِي حَوَائِجِهِمْ فَمَنْ صَادَفَهُمْ عَزَّاهُمْ، وَلا

 

ج / 5 ص -199-       فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ فِي كَرَاهَةِ الجُلوسِ لهَا، صَرَّحَ بِهِ المَحَامِليُّ وَنَقَلهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الأُمِّ، قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ: وَأَكْرَهُ المَآتِمَ، وَهِيَ الجَمَاعَةُ وَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُمْ بُكَاءٌ، فَإِنَّ ذَلكَ يُجَدِّدُ الحُزْنَ وَيُكَلفُ المُؤْنَةَ مَعَ مَا مَضَى فِيهِ مِنْ الأَثَرِ، هَذَا لفْظُهُ فِي الأُمِّ، وَتَابَعَهُ الأَصْحَابُ عَليْهِ وَاسْتَدَل لهُ المُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ بِدَليلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: "لمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتْل ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنهم جَلسَ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ شِقِّ البَابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: إنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.

فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ التَّعْزِيَةِ قَبْل الدَّفْنِ، وَبَعْدَهُ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَبِهِ قَال أَحْمَدُ، وَقَال الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُعَزَّى قَبْل الدَّفْنِ لا بَعْدَهُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجُوزُ البُكَاءُ عَلى المَيِّتِ مِنْ غَيْرِ نَدْبٍ وَلا نِيَاحَةٍ، لمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَال
"قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا إبْرَاهِيمُ1 إنَّا لا نُغْنِي عَنْك مِنْ اللهِ شَيْئًا، ثُمَّ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: يَا رَسُول اللهِ أَتَبْكِي؟ أَوْ لمْ تَنْهَ عَنْ البُكَاءِ؟ قَال: لا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال النووي في"التهذيب" (إبراهيم بن أبي القاسم محمد) رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في "المهذب" في التعدية أمه مارية القبطية ولدته في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة وتوفي سنة عشر ثبت في "صحيح البخاري" أنه توفي وله سبعة عشر أو ثمانية عشر شهرا هكذا ثبت على الشك. قال الواقدي وغيره: توفي يوم الثلاثاء العاشر من ربيع الأول سنة عشر وثبت في البخاري من رواية البراء بن عازب أنه لما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أن له مرضعا في الجنة) ضبطناه بالوجهين أشهرهما بضم الميم وكسر الضاد والثاني بفتحهما وسر رسول الله عليه وسلم بولادته كثيرا, وكانت قابلته سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي رافع فبشر أبو رافع به النبي صلى الله عليه وسلم فوهبه عبدا وحلق شعره يوم سابعه.
قال الزبير بن بكار:وتصدق بزنة شعره فضه ودفنه (أي شعره) وسماه, ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين بالمدينة المترضعة قال الزبير: تنافست الأنصار فيمن يرضعه وأحبوا أن يفرغوا مارية للنبي صلى الله عليه وسلم وفي "صحيح مسلم" عن أنس قال: قال دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم أي زوج مرضعته فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بمنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يارسول الله فقال: يا ابن عوف أنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال: (إن العين لتدمع والقلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) ودفن في البقيع وقبره مشهور عليه قبة, وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر أربع تكبيرات, هذا قول جمهور العلماء وهو الصحيح وروى ابن إسحاق بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه, قال ابن عبد البر: هذا غلط فقد أجمع جماهير العلماء على الصلاة على الأطفال إذا استهلوا وهو عمل استفيض في السلف والخلف, قيل: إن الفضل بن عباس غسل إبرإهيم ونزل في قبره هو وأسامة بن زيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على شفير القبر ورش على قبره ماء وهو أول قبر رش عليه الماء وأما ماروي عن بعض المتقدمين: لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل وجسارة على الكلام في المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلات و الله المستعان.

 

ج / 5 ص -200-       وَلكِنْ نَهَيْت عَنْ النَّوْحِ"وَلا يَجُوزُ لطْمُ الخُدُودِ، وَلا شَقُّ الجُيُوبِ، لمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "ليْسَ مِنَّا مَنْ لطَمَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِليَّةِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا وَقَال: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ جَابِرٍ، وَمَعْنَى: لا نُغْنِي عَنْك شَيْئًا أَيْ لا نَدْفَعُ وَلا نَكُفُّ، وقوله: ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ - بِفَتْحِ الذَّال المُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ - أَيْ سَال دَمْعُهَا؛ وَالجَاهِليَّةُ مِنْ الجَهْل.
قَال الوَاحِدِيُّ رحمه الله: هُوَ اسْمٌ لمَا كَانَ قَبْل الإِسْلامِ فِي الفَتْرَةِ لكَثْرَةِ جَهْلهِمْ. وَالنَّدْبُ تَعْدِيدُ مَحَاسِنِ المَيِّتِ مَعَ البُكَاءِ كَقَوْلهَا: وَاجَبَلاه وَاسَنَدَاه وَاكَرِيمَاه وَنَحْوُهَا مِنْ النِّيَاحَةِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ. قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: البُكَاءُ عَلى المَيِّتِ جَائِزٌ قَبْل المَوْتِ وَبَعْدَهُ وَلكِنْ قَبْلهُ أَوْلى لحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ رضي الله عنه
"أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلبَ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَل ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ فَقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، قَالوا: وَمَا الوُجُوبُ يَا رَسُول اللهِ؟ قَال: المَوْتُ"حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مَالكٌ فِي المُوَطَّأِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ.
وَلفْظُ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ: وَأُرَخِّصُ فِي البُكَاءِ قَبْل المَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ أَمْسَكْنَ وَقَال صَاحِبُ الشَّامِل وَطَائِفَةٌ: يُكْرَهُ البُكَاءُ بَعْدَ المَوْتِ لظَاهِرِ الحَدِيثِ فِي النَّهْيِ، وَلمْ يَقُل الجُمْهُورُ: وَيُكْرَهُ، وَإِنَّمَا قَالوا: الأَوْلى تَرْكُهُ قَالوا: وَهُوَ مُرَادُ الحَدِيثِ وَلفْظُ الشَّافِعِيِّ مُحْتَمَلٌ، هَذَا كُلهُ فِي البُكَاءِ بِلا نَدْبٍ وَلا نِيَاحَةٍ. أَمَّا النَّدْبُ وَالنِّيَاحَةُ وَلطْمُ الخَدِّ وَشَقُّ الجَيْبِ وَخَمْشُ الوَجْهِ وَنَشْرُ الشَّعْرِ وَالدُّعَاءُ بِالوَيْل وَالثُّبُورِ، فَكُلهَا مُحَرَّمَةٌ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ، وَصَرَّحَ الجُمْهُورُ بِالتَّحْرِيمِ، وَوَقَعَ فِي كَلامِ بَعْضِهِمْ لفْظُ الكَرَاهَةِ، وَكَذَا وَقَعَ لفْظُ الكَرَاهَةِ فِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ وَحَمَلهَا الأَصْحَابُ عَلى كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ نَقَل جَمَاعَةٌ الإِجْمَاعَ فِي ذَلكَ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ رحمه الله: وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِإِفْرَاطٍ فِي مَعْنَى شَقِّ الجَيْبِ، قَال غَيْرُهُ: هَذَا إذَا كَانَ مُخْتَارًا فَإِنْ كَانَ مَغْلوبًا لمْ يُؤَاخَذْ بِهِ لأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلفٍ، وَأَمَّا قَوْل الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الأُمِّ: وَأَكْرَهُ المَآتِمَ وَهِيَ الجَمَاعَةُ وَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُمْ بُكَاءٌ، فَمُرَادُهُ الجُلوسُ للتَّعْزِيَةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.
فرع: فِي الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي أَنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَليْهِ وَبِالبُكَاءِ عَليْهِ وَبَيَانُ تَأْوِيلهَا وَمَذَاهِبُ العُلمَاءِ فِيهَا. عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَليْهِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"إنَّ المَيِّتَ ليُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلهِ عَليْهِ"قَال: وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلهِ عَليْهِ"قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلكَ لعَائِشَةَ فَقَالتْ: "رَحِمَ اللهُ عُمَرَ وَاَللهِ مَا حَدَّثَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللهَ ليُعَذِّبُ المُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلهِ عَليْهِ وَلكِنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "إنَّ اللهَ ليَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلهِ"

 

 

ج / 5 ص -201-       وَقَالتْ: حَسْبُكُمْ القُرْآنُ: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى1. فَمَا قَال ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا "رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّهَا قِيل لهَا: إنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُول: المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ فَقَالتْ: يَغْفِرُ اللهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إنَّهُ لمْ يَكْذِبْ وَلكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ إنَّمَا "مَرَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَليْهَا، فَقَال: إنَّهُمْ ليَبْكُونَ عَليْهَا وَإِنَّهَا لتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.
وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَال "أُغْمِيَ عَلى عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلتْ أُخْتُهُ تَبْكِي: وَاجَبَلاهُ وَاكَذَا وَاكَذَا تُعَدِّدُ عَليْهِ فَقَال حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلتِ شَيْئًا إلا قِيل لي أَنْتَ كَذَا؟ فَلمَّا مَاتَ لمْ تَبْكِ عَليْهِ "رَوَاهُ البُخَارِيُّ رحمه الله. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال
"مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُول: وَاجَبَلاهُ وَاسَنَدَاهُ أَوْ نَحْوَ ذَلكَ إلا وُكِّل بِهِ مَلكَانِ يَلهَزَانِهِ أَهَكَذَا أَنْتَ؟؟"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: "قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلى المَيِّتِ"رَوَاهُ مُسْلمٌ، فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ وَشِبْهُهَا فِي التَّحْرِيمِ وَتَعْذِيبِ المَيِّتِ وَجَاءَ فِي الإِبَاحَةِ مَا قَدْ يُشَابِهُ هَذَا وَليْسَ هُوَ مِنْهُ وَهُوَ حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال "لمَّا ثَقُل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَل يَتَغَشَّاهُ الكَرْبُ فَقَالتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها: وَاكَرْبَ أَبَتَاهُ، فَقَال: ليْسَ عَلى أَبِيك كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ،"فَلمَّا مَاتَ قَالتْ: يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ يَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهُ إلى جِبْرِيل نَنْعَاهُ فَلمَّا دُفِنَ قَالتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها: أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ "رَوَاهُ البُخَارِيُّ رحمه الله.
وَاخْتَلفَ العُلمَاءُ فِي أَحَادِيثِ تَعْذِيبِ المَيِّتِ بِالبُكَاءِ فَتَأَوَّلهَا المُزَنِيّ وَأَصْحَابُنَا وَجُمْهُورُ العُلمَاءِ عَلى مَنْ وَصَّى أَنْ يُبْكَى عَليْهِ وَيُنَاحَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَنَفَذَتْ وَصِيَّتُهُ فَهَذَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلهِ عَليْهِ وَنَوْحِهِمْ لأَنَّهُ بِسَبَبِهِ وَمَنْسُوبٌ إليْهِ، قَالوا: فَأَمَّا مَنْ بَكَى عَليْهِ أَهْلهُ وَنَاحُوا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ مِنْهُ، فَلا يُعَذَّبُ بِبُكَائِهِمْ وَنَوْحِهِمْ، لقوله تعالى
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}قَالوا: وَكَانَ مِنْ عَادَةِ العَرَبِ الوَصِيَّةُ بِذَلكَ، وَمِنْهُ قَوْل طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ:

إذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلهُ                وَشُقِّي عَليَّ الجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال النووي في "التهذيب":
في "الوسيط" في آخر باب التعزية: فإن قيل: أليس قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه, هكذا رواية عمر! قلنا: قال ابن عمر: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وإنما قال: يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله حسبكم قوله تعالي:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقالت عائشة رضي الله عنها: ما كذب عمر ولكنه أخطأ ونسي إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية ماتت ابنتها, إلى آخره هكذا وقع هذا كله في "الوسيط" في جميع النسخ وفيه غلطان فاحشان لاشك فيهما في أحدهما: قوله في الأول قلنا قال ابن عمر صوابه:قالت عائشة فهي التي أنكرت عمر ولم ينكر عليه ابن عمر, بل روى مثله في "الصحيحين" من طرق, والثاني: قوله في الثاني: وقالت عائشة ماكذب عمروصوابه ماكذب ابن عمر هكذا ثيت الحديثان في "الصحيحين" وغيرهما كما ذكرت صوابه, ولاشك في غلط الغزالي فيهما ولاعذر له فيهما ولاتأويل ا ه كلام النووي في "التهذيب" ج 2.

 

ج / 5 ص -202-       قَالوا: فَخَرَجَ الحَدِيثُ مُطْلقًا حَمْلًا عَلى مَا كَانَ مُعْتَادًا لهُمْ. وَقَالتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلى مَنْ أَوْصَى بِالبُكَاءِ وَالنَّوْحِ أَوْ لمْ يُوصِ بِتَرْكِهِمَا، فَمَنْ أَوْصَى بِهِمَا أَوْ أَهْمَل الوَصِيَّةَ بِتَرْكِهِمَا يُعَذَّبُ بِهِمَا لتَفْرِيطِهِ بِإِهْمَالهِ الوَصِيَّةَ بِتَرْكِهِمَا، فَأَمَّا مَنْ أَوْصَى بِتَرْكِهِمَا فَلا يُعَذَّبُ بِهِمَا، إذْ لا صُنْعَ لهُ فِيهِمَا وَلا تَفْرِيطَ، وَحَاصِل هَذَا القَوْل إيجَابُ الوَصِيَّةِ بِتَرْكِهِمَا، فَمَنْ أَهْمَلهُمَا عُذِّبَ بِهِمَا. وَقَالتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنُوحُونَ عَلى المَيِّتِ وَيَنْدُبُونَهُ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلهِ وَمَحَاسِنِهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَتِلكَ الشَّمَائِل قَبَائِحُ فِي الشَّرْعِ فَيُعَذَّبُ بِهَا، كَمَا كَانُوا يَقُولونَ: يَا مُرَمِّل النِّسْوَانِ وَمُؤَتِّمَ الوِلدَانِ وَمُخَرِّبَ العُمْرَانِ وَمُفَرِّقَ الأَخْدَانِ، وَنَحْوُ ذَلكَ مِمَّا يَرَوْنَهُ شَجَاعَةً وَفَخْرًا، وَهُوَ حَرَامٌ شَرْعًا. وَقَالتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَذَّبُ بِسَمَاعِهِ بُكَاءَ أَهْلهِ وَيَرِقُّ لهُمْ، وَإِلى هَذَا ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. قَال القَاضِي عِيَاضٌ: وَهُوَ أَوْلى الأَقْوَال.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ فِيهِ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ امْرَأَةً عَنْ البُكَاءِ عَلى أَبِيهَا وَقَال: إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا بَكَى اسْتَعْبَرَ لهُ صُوَيْحِبُهُ. فَيَا عِبَادَ اللهِ لا تُعَذِّبُوا إخْوَانَكُمْ"وَقَالتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها مَعْنَى الحَدِيثِ أَنَّ الكَافِرَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ يُعَذَّبُ فِي حَال بُكَاءِ أَهْلهِ عَليْهِ بِذَنْبِهِ لا بِبُكَائِهِمْ "وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَال مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الجُمْهُورِ، وَأَجْمَعُوا كُلهُمْ عَلى اخْتِلافِ مَذَاهِبِهِمْ أَنَّ المُرَادَ بِالبُكَاءِ بِصَوْتٍ وَنِيَاحَةٍ لا مُجَرَّدَ دَمْعِ العَيْنِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ1 [للرِّجَال] زِيَارَةُ القُبُورِ، لمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال
"زَارَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلهُ؛ ثُمَّ قَال: إنِّي اسْتَأْذَنْت رَبِّي عَزَّ وَجَل أَنْ أَسْتَغْفِرَ لهَا فَلمْ يَأْذَنْ لي وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لي؛ فَزُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ المَوْتَ"وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول السَّلامُ عَليْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، وَيَدْعُو لهُمْ لمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ إلى البَقِيعِ فَيَقُول: السَّلامُ عَليْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لأَهْل بَقِيعِ الغَرْقَدِ"وَلا يَجُوزُ للنِّسَاءِ زِيَارَةُ القُبُورِ لمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال "لعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ القُبُورِ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الأَوَّل رَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَلمْ يَقَعْ هَذَا الحَدِيثُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الغَافِرِ الفَارِسِيِّ لصَحِيحِ مُسْلمٍ، وَهُوَ مَوْجُودٌ لغَيْرِهِ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْ الجُلودِيِّ، وَأَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ وَعَزَاهُ إلى صَحِيحِ مُسْلمٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَرَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الأَخِيرُ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَكَذَلكَ رَوَاهُ غَيْرُهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَالبَقِيعُ بِالبَاءِ المُوَحَّدَةِ؛ وَالغَرْقَدُ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ قَال الهَرَوِيُّ: هُوَ مِنْ العِضَاه وَهِيَ كُل شَجَرَةٍ لهُ شَوْكٌ. وَقَال غَيْرُهُ هُوَ العَوْسَجُ قَالوا: وَسُمِّيَ بَقِيعَ الغَرْقَدِ لشَجَرَاتِ غَرْقَدٍ كَانَتْ بِهِ قَدِيمًا، وَبَقِيعُ الغَرْقَدِ هُوَ مَدْفِنُ أَهْل المَدِينَةِ. وَقَوْلهُ: "السَّلامُ عَليْكُمْ دَارَ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين ليس في نسخة المهذب المطبوعة (ط).

 

ج / 5 ص -203-       فَدَارَ، مَنْصُوبٌ قَال صَاحِبُ المَطَالعِ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلى الاخْتِصَاصِ أَوْ عَلى النِّدَاءِ المُضَافِ، وَالأَوَّل أَفْصَحُ. وَقَال: وَيَصِحُّ الجَرُّ عَلى البَدَل مِنْ الكَافِ وَالمِيمِ فِي عَليْكُمْ، وَالمُرَادُ بِالدَّارِ عَلى هَذَا الوَجْهِ الأَخِيرِ الجَمَاعَةُ أَوْ أَهْل الدَّارِ، وَعَلى الأَوَّل مِثْلهُ أَوْ المَنْزِل، وَقَوْلهُ صلى الله عليه وسلم "وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُونَ "فِيهِ أَقْوَالٌ.
أحدها: أَنَّهُ ليْسَ عَلى وَجْهِ الاسْتِثْنَاءِ الذِي يَدْخُل الكَلامُ لشَكٍّ وَارْتِيَابٍ، بَل عَلى عَادَةِ المُتَكَلمِ لتَحْسِينِ الكَلامِ. حَكَاهُ الخَطَّابِيُّ رحمه الله. الثاني هُوَ اسْتِثْنَاءٌ عَلى بَابِهِ. وَهُوَ رَاجِعٌ إلى التَّخَوُّفِ فِي هَذَا المَكَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ للتَّبَرُّكِ وَامْتِثَال قوله تعالى
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}وَقِيل فِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ تَرَكْتهَا لضَعْفِهَا، وَمِنْ أَضْعَفِهَا قَوْل مَنْ قَال: "إنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَل المَقْبَرَةَ وَمَعَهُ مُؤْمِنُونَ حَقِيقَةً، وَآخَرُونَ يُظَنُّ بِهِمْ النِّفَاقُ"وَكَانَ الاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفًا إليْهِمْ، وَهَذَا غَلطٌ لأَنَّ الحَدِيثَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ وَغَيْرِهِ "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي آخِرِ الليْل إلى البَقِيعِ وَحْدَهُ وَرَجَعَ فِي وَقْتِهِ، وَلمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إلا عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَنْظُرُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَلا يَعْلمُ أَنَّهَا تَنْظُرُهُ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِإِبْطَال هَذَا القَوْل، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَاهُ الخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَليْهِ لئَلا يُغْتَرَّ بِهِ، وَقِيل إنَّ الاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلى اسْتِصْحَابِ الإِيمَانِ، وَهَذَا غَلطٌ فَاحِشٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَهُوَ صلى الله عليه وسلم يَقْطَعُ بِدَوَامِ إيمَانِهِ؟، وَيَسْتَحِيل بِالدَّلالةِ العَقْليَّةِ المُقَرَّرَةِ وُقُوعُ الكُفْرِ، فَهَذَا القَوْل وَإِنْ حَكَاهُ الخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ بَاطِلٌ نَبَّهْنَا عَليْهِ لئَلا يُغْتَرَّ بِهِ، وَكَذَا أَقْوَالٌ أُخَرُ قِيلتْ، هِيَ فَاسِدَةٌ ظَاهِرَةُ الخَطَأِ لا حَاجَةَ إلى ارْتِكَابِهَا وَلا ضَرُورَةَ بِحَمْدِ اللهِ فِي الكَلامِ إلى حَمْلهِ عَلى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ، بَل الصَّحِيحُ مِنْهُ مَا قَدَّمْته وَاَللهُ أَعْلمُ.
أما الأحكام: فَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ عَلى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ للرِّجَال زِيَارَةُ القُبُورِ، وَهُوَ قَوْل العُلمَاءِ كَافَّةً؛ نَقَل العَبْدَرِيُّ فِيهِ إجْمَاعَ المُسْلمِينَ، وَدَليلهُ مَعَ الإِجْمَاعِ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ المَشْهُورَةُ، وَكَانَتْ زِيَارَتُهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ، ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ رحمه الله عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم
"كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا"وَزَادَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا: "فَزُورُوهَا وَلا تَقُولوا هُجْرًا"وَالهَجْرُ الكَلامُ البَاطِل، وَكَانَ النَّهْيُ أَوَّلًا لقُرْبِ عَهْدِهِمْ مِنْ الجَاهِليَّةِ، فَرُبَّمَا كَانُوا يَتَكَلمُونَ بِكَلامِ الجَاهِليَّةِ البَاطِل فَلمَّا اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الإِسْلامِ وَتَمَهَّدَتْ أَحْكَامُهُ واستشهرت مَعَالمُهُ أُبِيحَ لهُمْ الزِّيَارَةُ وَأَحَاطَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلهِ: "وَلا تَقُولوا هُجْرًا".
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَيُسْتَحَبُّ لزَائِرٍ أَنْ يَدْنُوَ مِنْ قَبْرِ المَزُورِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ لوْ كَانَ حَيًّا وَزَارَهُ. وَأَمَّا النِّسَاءُ فَقَال المُصَنِّفُ وَصَاحِبُ البَيَانِ: لا تَجُوزُ لهُنَّ الزِّيَارَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ هَذَا الحَدِيثِ وَلكِنَّهُ شَاذٌّ فِي المَذْهَبِ، وَاَلذِي قَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لهُنَّ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ فِي البَحْرِ وَجْهَيْنِ أحدهما يُكْرَهُ كَمَا قَالهُ الجُمْهُورُ والثاني: لا يُكْرَهُ قَال: وَهُوَ الأَصَحُّ إذَا أُمِنَ عِنْدِي الافْتِتَانُ.

 

ج / 5 ص -204-       وَقَال صَاحِبُ المُسْتَظْهِرِيِّ: وَعِنْدِي إنْ كَانَتْ زِيَارَتُهُنَّ لتَجْدِيدِ الحُزْنِ وَالتَّعْدِيدِ وَالبُكَاءِ وَالنَّوْحِ عَلى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُنَّ حَرُمَ، قَال: وَعَليْهِ يُحْمَل الحَدِيثُ "لعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ القُبُورِ"وَإِنْ كَانَتْ زِيَارَتُهُنَّ لاعْتِبَارٍ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيدٍ وَلا نِيَاحَةٍ كُرِهَ، إلا أَنْ تَكُونَ عَجُوزًا لا تُشْتَهَى، فَلا يُكْرَهُ كَحُضُورِ الجَمَاعَةِ فِي المَسَاجِدِ، وَهَذَا الذِي قَالهُ حَسَنٌ، وَمَعَ هَذَا فَالاحْتِيَاطُ للعَجُوزِ تَرْكُ الزِّيَارَةِ لظَاهِرِ الحَدِيثِ، وَاخْتَلفَ العُلمَاءُ رحمهم الله فِي دُخُول النِّسَاءِ فِي قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا".
وَالمُخْتَارُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُنَّ لا يَدْخُلنَ فِي ضِمْنِ الرِّجَال، وَمِمَّا يَدُل أَنَّ زِيَارَتَهُنَّ ليْسَتْ حَرَامًا حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَال: اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرِي"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَمَوْضِعُ الدَّلالةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لمْ يَنْهَهَا عَنْ الزِّيَارَةِ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ "كَيْفَ أَقُول يَا رَسُول اللهِ؟ - يَعْنِي إذَا زُرْت القُبُورَ - قَال: قُولي: السَّلامُ عَلى أَهْل الدِّيَارِ مِنْ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ للاحِقُونَ"رَوَاهُ مُسْلمٌ. قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَيُسْتَحَبُّ للزَّائِرِ أَنْ يُسَلمَ عَلى المَقَابِرِ، وَيَدْعُوَ لمَنْ يَزُورُهُ، وَلجَمِيعِ أَهْل المَقْبَرَةِ، وَالأَفْضَل أَنْ يَكُونَ السَّلامُ وَالدُّعَاءُ بِمَا ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ القُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ، وَيَدْعُوَ لهُمْ عَقِبَهَا، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ. قَال الحَافِظُ أَبُو مُوسَى الأَصْفَهَانِيُّ رحمه الله، فِي كِتَابِهِ آدَابِ زِيَارَةِ القُبُورِ: الزَّائِرُ بِالخِيَارِ إنْ شَاءَ زَارَهُ قَائِمًا، وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ كَمَا يَزُورُ الرَّجُل أَخَاهُ فِي الحَيَاةِ، فَرُبَّمَا جَلسَ عِنْدَهُ، وَرُبَّمَا زَارَهُ قَائِمًا أَوْ مَارًّا (قَال) وَرَوَى القِيَامَ عِنْدَ القَبْرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَالحَكَمِ بْنِ الحَارِثِ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلفِ رضي الله عنهم، قَال أَبُو مُوسَى: وَقَال الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ الزَّعْفَرَانِيُّ: وَكَانَ مِنْ الفُقَهَاءِ المُحَقِّقِينَ فِي كِتَابِهِ فِي الجَنَائِزِ: وَلا يَسْتَلمُ القَبْرَ بِيَدِهِ، وَلا يُقَبِّلهُ قَال: وَعَلى هَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ.
قَال أَبُو الحَسَنِ: وَاسْتِلامُ القُبُورِ وَتَقْبِيلهَا الذِي يَفْعَلهُ العَوَامُّ الآنَ مِنْ المُبْتَدَعَاتِ المُنْكَرَةِ شَرْعًا، يَنْبَغِي تَجَنُّبُ فِعْلهِ وَيُنْهَى فَاعِلهُ، قَال فَمَنْ قَصَدَ السَّلامَ عَلى مَيِّتٍ سَلمَ عَليْهِ مِنْ قِبَل وَجْهِهِ، وَإِذَا أَرَادَ الدُّعَاءَ تَحَوَّل عَنْ مَوْضِعِهِ وَاسْتَقْبَل القِبْلةَ، قَال أَبُو مُوسَى: وَقَال الفُقَهَاءُ المُتَبَحِّرُونَ الخُرَاسَانِيُّونَ: المُسْتَحَبُّ فِي زِيَارَةِ القُبُورِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَدْبِرَ القِبْلةِ مُسْتَقْبِلًا وَجْهَ المَيِّتِ، يُسَلمُ وَلا يَمْسَحُ القَبْرَ وَلا يُقَبِّلهُ وَلا يَمَسُّهُ، فَإِنَّ ذَلكَ عَادَةُ النَّصَارَى (قَال): وَمَا ذَكَرُوهُ صَحِيحٌ لأَنَّهُ قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ تَعْظِيمِ القُبُورِ، وَلأَنَّهُ إذَا لمْ يُسْتَحَبَّ اسْتِلامُ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الكَعْبَةِ لكَوْنِهِ لمْ يُسَنَّ، مَعَ اسْتِحْبَابِ اسْتِلامِ الرُّكْنَيْنِ الآخَرَيْنِ، فَلأَنْ لا يُسْتَحَبَّ مَسُّ القُبُورِ أَوْلى، وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا يَجُوزُ الجُلوسُ عَلى القَبْرِ، لمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال:
قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَجْلسَ أَحَدُكُمْ عَلى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ حَتَّى تَخْلصَ إلى جِلدِهِ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَجْلسَ عَلى قَبْرٍ"وَلا يَدُوسَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لأَنَّ الدَّوْسَ كَالجُلوسِ، فَإِذَا لمْ يَجُزْ

 

ج / 5 ص -205-       الجُلوسُ لمْ يَجُزْ الدَّوْسُ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ طَرِيقٌ إلى قَبْرِ مَنْ يَزُورُهُ إلا بِالدَّوْسِ جَازَ لهُ، لأَنَّهُ مَوْضِعُ عُذْرٍ، وَيُكْرَهُ المَبِيتُ فِي المَقْبَرَةِ لمَا فِيهَا مِنْ الوَحْشَةِ".
 الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ عَلى النَّهْيِ عَنْ الجُلوسِ عَلى القَبْرِ للحَدِيثِ المَذْكُورِ، لكِنْ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ وَجُمْهُورِ الأَصْحَابِ فِي الطُّرُقِ كُلهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الجُلوسُ وَأَرَادُوا بِهِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ كَمَا هُوَ المَشْهُورُ فِي اسْتِعْمَال الفُقَهَاءِ صَرَّحَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ، وَقَال المُصَنِّفُ وَالمَحَامِليُّ فِي المُقْنِعِ: لا يَجُوزُ، فَيُحْتَمَل أَنَّهُمَا أَرَادَا التَّحْرِيمَ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ اسْتِعْمَال الفُقَهَاءِ قَوْلهُمْ: لا يَجُوزُ وَيُحْتَمَل أَنَّهُمَا أَرَادَا كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ لأَنَّ المَكْرُوهَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الأُصُوليِّينَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي المُهَذَّبِ مَوَاضِعُ مِثْل هَذَا، كَقَوْلهِ فِي الاسْتِطَابَةِ لا يَجُوزُ الاسْتِنْجَاءُ بِاليَمِينِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
قَال المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: وَوَطْؤُهُ كَالجُلوسِ عَليْهِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَهَكَذَا يُكْرَهُ الاتِّكَاءُ عَليْهِ، قَال المَاوَرْدِيُّ وَالجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا: وَيُكْرَهُ أَيْضًا الاسْتِنَادُ إليْهِ، وَأَمَّا المَبِيتُ فِي المَقْبَرَةِ فَمَكْرُوهٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي كَرَاهَةِ الجُلوسِ عَلى القَبْرِ، وَالاتِّكَاءِ عَليْهِ، وَالاسْتِنَادِ إليْهِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ، مِنْهُمْ النَّخَعِيُّ وَالليْثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَال مَالكٌ: لا يُكْرَهُ.
فرع: المَشْهُورُ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لا يُكْرَهُ المَشْيُ فِي المَقَابِرِ بِالنَّعْليْنِ وَالخُفَّيْنِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلكَ مِنْ أَصْحَابِنَا الخَطَّابِيُّ وَالعَبْدَرِيُّ وَآخَرُونَ، وَنَقَلهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ أَكْثَرِ العُلمَاءِ، قَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله: يُكْرَهُ، وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: يَخْلعُ نَعْليْهِ لحَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ مَعْبَدٍ الصَّحَابِيِّ المَعْرُوفِ بِابْنِ الخَصَاصِيَةِ قَال
"بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ فَإِذَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي القُبُورِ عَليْهِ نَعْلانِ فَقَال: يَا صَاحِبَ السِّبْتَتَيْنِ وَيْحَك، أَلقِ سِبْتَتَيْك، فَنَظَرَ الرَّجُل فَلمَّا عَرَفَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم خَلعَهُمَا"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال "العَبْدُ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلى وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إنَّهُ ليَسْمَعَ قَرْعَ نِعَالهِمْ أَتَاهُ مَلكَانِ فَأَقْعَدَاهُ إلى آخِرِ الحَدِيثِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَأَجَابُوا: عَنْ الحَدِيثِ الأَوَّل بِجَوَابَيْنِ: أحدهما وَبِهِ أَجَابَ الخَطَّابِيُّ أَنَّهُ يُشْبِهُ أَنَّهُ كَرِهَهُمَا لمَعْنًى فِيهِمَا؛ لأَنَّ النِّعَال السِّبْتِيَّةَ - بِكَسْرِ السِّينِ - هِيَ المَدْبُوغَةُ بِالقَرَظِ، وَهِيَ لبَاسُ أَهْل التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ، فَنَهَى عَنْهُمَا لمَا فِيهِمَا مِنْ الخُيَلاءِ، فَأَحَبَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ دُخُولهُ المَقَابِرَ عَلى زِيِّ التَّوَاضُعِ، وَلبَاسِ أَهْل الخُشُوعِ، والثاني: لعَلهُ كَانَ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ، قَالوا: وَحَمَلنَا عَلى تَأْوِيلهِ الجَمْعُ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلى القَبْرِ مَسْجِدًا، لمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الغَنَوِيُّ رضي الله عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُصَلى إليْهِ وَقَال: لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا، فَإِنَّمَا هَلكَتْ بَنُو إسْرَائِيل لأَنَّهُمْ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَأَكْرَهُ أَنْ يُعَظَّمَ مَخْلوقٌ حَتَّى يُجْعَل قَبْرُهُ مَسْجِدًا مَخَافَةَ الفِتْنَةِ عَليْهِ، وَعَلى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ النَّاسِ".

 

ج / 5 ص -206-       الشرح: حَدِيثُ أَبِي مَرْثَدٍ رَوَاهُ مُسْلمٌ مُخْتَصَرًا قَال: "سَمِعْت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: "لا تَجْلسُوا عَلى القُبُورِ وَلا تُصَلوا إليْهَا"وَثَبَتَ مَعْنَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال "قَاتَل اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ رحمهما الله وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالا: "لمَّا نُزِل1 بِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لهُ عَلى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ قَال وَهُوَ كَذَلكَ: لعْنَةُ اللهِ عَلى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ - يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَأَبُو مَرْثَدٍ - بِفَتْحِ المِيمِ وَالثَّاءِ المُثَلثَةِ وَاسْمُهُ كَنَّازُ - بِفَتْحِ الكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ - وَآخِرُهُ زَايٌ ابْنُ حُصَيْنٍ، وَيُقَال ابْنُ الحُصَيْنِ الغَنَوِيُّ - بِفَتْحِ الغَيْنِ المُعْجَمَةِ وَالنُّونِ - تُوُفِّيَ بِالشَّامِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، وَقِيل: سَنَةَ إحْدَى وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَحَضَرَ هُوَ وَابْنُهُ مَرْثَدٌ بَدْرًا. وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ عَلى كَرَاهَةِ بِنَاءِ مَسْجِدٍ عَلى القَبْرِ سَوَاءٌ كَانَ المَيِّتُ مَشْهُورًا بِالصَّلاحِ أَوْ غَيْرِهِ، لعُمُومِ الأَحَادِيثِ، قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَتُكْرَهُ الصَّلاةُ إلى القُبُورِ، سَوَاءٌ كَانَ المَيِّتُ صَالحًا أَوْ غَيْرَهُ قَال الحَافِظُ أَبُو مُوسَى: قَال الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيُّ رحمه الله: وَلا يُصَلى إلى قَبْرِهِ، وَلا عِنْدَهُ تَبَرُّكًا بِهِ وَإِعْظَامًا لهُ للأَحَادِيثِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ لأَقْرِبَاءِ المَيِّتِ وَجِيرَانِهِ أَنْ يُصْلحُوا لأَهْل المَيِّتِ طَعَامًا لمَا رُوِيَ أَنَّهُ:
"لمَّا قُتِل جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالبٍ رضي الله عنه قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اصْنَعُوا لآل جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ أَمْرٌ يَشْغَلهُمْ عَنْهُ".
الشرح: الحَدِيثُ المَذْكُورُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَال التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ وقوله: صلى الله عليه وسلم يَشْغَلهُمْ - بِفَتَخِ اليَاءِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي المُهَذَّبِ يَشْغَلهُمْ عَنْهُ، وَاَلذِي فِي كُتُبِ الحَدِيثِ يَشْغَلهُ بِحَذْفِ عَنْهُ، وَكَانَ قَتْل جَعْفَرٍ رضي الله عنه فِي جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ الهِجْرَةِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَهِيَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِالشَّامِ عِنْدَ الكَرْكِ، وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الأُمِّ وَالمُخْتَصَرِ وَالأَصْحَابِ عَلى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لأَقْرِبَاءِ المَيِّتِ وَجِيرَانِهِ أَنْ يَعْمَلوا طَعَامًا لأَهْل المَيِّتِ، وَيَكُونُ بِحَيْثُ يُشْبِعُهُمْ فِي يَوْمِهِمْ وَليْلتِهِمْ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي المُخْتَصَرِ: وَأُحِبُّ لقَرَابَةِ المَيِّتِ وَجِيرَانِهِ أَنْ يَعْمَلوا لأَهْل المَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَليْلتِهِمْ طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ، فَإِنَّهُ سُنَّةٌ، وَفِعْل أَهْل الخَيْرِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَيُلحُّ عَليْهِمْ فِي الأَكْل وَلوْ كَانَ المَيِّتُ فِي بَلدٍ آخَرَ يُسْتَحَبُّ لجِيرَانِ أَهْلهِ أَنْ يَعْمَلوا لهُمْ طَعَامًا، وَلوْ قَال المُصَنِّفُ: وَيُسْتَحَبُّ لأَقْرِبَاءِ المَيِّتِ وَجِيرَانِ أَهْلهِ لكَانَ أَحْسَنَ لدُخُول هَذِهِ الصُّورَةِ.
قَال أَصْحَابُنَا رحمهم الله: وَلوْ كَانَ النِّسَاءُ يَنُحْنَ لمْ يَجُزْ اتِّخَاذُ طَعَامٍ لهُنَّ، لأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلى المَعْصِيَةِ. قَال صَاحِبُ الشَّامِل وَغَيْرُهُ: وَأَمَّا إصْلاحُ أَهْل المَيِّتِ طَعَامًا وَجَمْعُ النَّاسِ عَليْهِ فَلمْ يُنْقَل فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ. هَذَا كَلامُ صَاحِبِ الشَّامِل. وَيُسْتَدَل لهَذَا بِحَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله (نزل) بالبناء للمجهول بضم النون وكسر الزاي (ط).

 

ج / 5 ص -207-       رضي الله عنه قَال: "كُنَّا نَعُدُّ الاجْتِمَاعَ إلى أَهْل المَيِّتِ وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنْ النِّيَاحَةِ "رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَليْسَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: بَعْدَ دَفْنِهِ. وَأَمَّا: الذَّبْحُ وَالعَقْرُ عِنْدَ القَبْرِ فَمَذْمُومٌ لحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا عَقْرَ فِي الإِسْلامِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَال: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: قَال عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانُوا يَعْقِرُونَ عِنْدَ القَبْرِ بَقَرَةً أَوْ شَاةً.

فَرْعٌ: فِي مَسَائِل تَتَعَلقُ بِكِتَابِ الجَنَائِزِ
 إحداها: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَأَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ مَسْحُ رَأْسِ اليَتِيمِ وَدَهْنِهِ وَإِكْرَامِهِ، وَلا يُقْهَرُ وَلا يُنْهَرُ.
الثانية: المُسْتَحَبُّ خَفْضُ الصَّوْتِ فِي السَّيْرِ بِالجِنَازَةِ وَمَعَهَا، فَلا يَشْتَغِلوا بِشَيْءٍ غَيْرِ الفِكْرِ فِيمَا هِيَ لاقِيَةٌ وَصَائِرَةٌ إليْهِ، وَفِي حَاصِل الحَيَاةِ وَأَنَّ هَذَا آخِرُهَا وَلا بُدَّ مِنْهُ وَقَدْ أَفْرَدَ ابْنُ المُنْذِرِ فِي الإِشْرَافِ وَالبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الكَبِيرَةِ بَابًا فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ قَال ابْنُ المُنْذِرِ: رَوَيْنَا عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادِ، بِضَمِّ العَيْنِ وَتَخْفِيفِ البَاءِ، قَال
"كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلاثٍ: عِنْدَ القِتَال، وَعِنْدَ الجَنَائِزِ، وَعِنْدَ الذِّكْرِ"قَال: وَذَكَرَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ خَفْضَ الصَّوْتِ عِنْدَ الجَنَائِزِ وَعِنْدَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَعِنْدَ القِتَال "قَال: وَكَرِهَ الحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَإِسْحَاقُ قَوْل القَائِل خَلفَ الجِنَازَةِ: اسْتَغْفِرُوا اللهَ لهُ، وَقَال عَطَاءٌ: هِيَ مُحْدَثَةٌ وَبِهِ قَالهُ الأَوْزَاعِيُّ1 قَال ابْنُ المُنْذِرِ: وَنَحْنُ نَكْرَهُ مِنْ ذَلكَ مَا كَرِهُوا.
الثالثة: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالدٍ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال
"مَوْتُ الفُجَاءَةِ أَخْذَةُ أَسِفٍ"وَرُوِيَ مَرْفُوعًا هَكَذَا وَمَوْقُوفًا عَلى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ خَالدٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد هَكَذَا بِالوَجْهَيْنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَال الخَطَّابِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذَا الحَدِيثِ: الأَسِفُ الغَضْبَانُ وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} وَذَكَرَ المَدَائِنِيُّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الخَليل وَجَمَاعَةً مِنْ الأَنْبِيَاءِ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مَاتُوا فَجْأَةً، قَال: وَهُوَ مَوْتُ الصَّالحِينَ وَهُوَ تَخْفِيفٌ عَلى المُؤْمِنِ وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال: إنَّهُ لطْفٌ وَرِفْقٌ بِأَهْل الاسْتِعْدَادِ للمَوْتِ المُتَيَقِّظِينَ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لهُ تَعَلقَاتٌ يَحْتَاجُ إلى الإِيصَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَاسْتِحْلال مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلةٌ أَوْ مُصَاحَبَةٌ وَنَحْوُ ذَلكَ فَالفَجْأَةُ فِي حَقِّهِ أَخْذَةُ أَسِفٍ وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالا فِي مَوْتِ الفَجْأَةِ هُوَ رَاحَةٌ للمُؤْمِنِ وَأَخْذَةُ أَسَفٍ للفَاجِرِ وَرَوَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
الرابعة: عَنْ أَبِي سَلمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه لمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلبِسَهَا ثُمَّ قَال: "سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول:
"المَيِّتُ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ التِي يَمُوتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق وقال الأوزاعي وقال بن المنذر الخ ومقول قول الأوزاعي غير معقول لأنه قول ابن المنذر والصواب أن يكون معقول قول الأوزاعي هو قول عطاء والله أعلم (ط).

 

ج / 5 ص -208-       فِيهَا"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلا رَجُلًا مُخْتَلفًا فِي تَوْثِيقِهِ، وَقَدْ رَوَى لهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَال الحَاكِمُ: هُوَ صَحِيحٌ قَال الخَطَّابِيُّ رحمه الله: اسْتَعْمَل أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رضي الله عنه الحَدِيثَ عَلى ظَاهِرِهِ، قَال: وَقَدْ رُوِيَ فِي تَحْسِينِ الكَفَنِ أَحَادِيثُ قَال: وَتَأَوَّلهُ بَعْضُ العُلمَاءِ عَلى أَنَّ المُرَادَ بِالثِّيَابِ العَمَل فَيُبْعَثُ عَلى مَا مَاتَ عَليْهِ مِنْ عَمَلٍ صَالحٍ أَوْ سَيِّئٍ، وَالعَرَبُ تَقُول فُلانٌ: طَاهِرُ الثِّيَابِ إذَا وَصَفُوهُ بِطَهَارَةِ النَّفْسِ وَالبَرَاءَةِ مِنْ العُيُوبِ، وَبِدَنَسِ الثِّيَابِ إذَا كَانَ بِخِلافِ ذَلكَ قَال: وَاسْتَدَل هَذَا القَائِل بِقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم "يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً"فَدَل عَلى أَنَّهُ ليْسَ المُرَادُ الثِّيَابَ التِي هِيَ الكَفَنُ قَال وَتَأَوَّلهُ بَعْضُهُمْ عَلى أَنَّ البَعْثَ غَيْرُ الحَشْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ البَعْثُ مَعَ الثِّيَابِ وَالحَشْرُ مَعَ العُرْيِ وَالحَفَاءِ.
الخامسة: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ "رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول فِي الطَّاعُونِ:
إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا تَقْدُمُوا عَليْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ".
السادسة: يُسْتَحَبُّ للمَرِيضِ أَنْ يَتَعَاهَدَ نَفْسَهُ بِتَقْليمِ أَظْفَارِهِ وَأَخْذِ شَعْرِ شَارِبِهِ وَإِبْطِهِ وَعَانَتِهِ وَاسْتَدَلوا لهُ بِحَدِيثِ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ، بِضَمِّ الخَاءِ المُعْجَمَةِ؛ رضي الله عنه
"أَنَّهُ لمَّا أَرَادَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَتْلهُ اسْتَعَارَ مُوسًى يَسْتَحِدُّ بِهَا "رَوَاهُ البُخَارِيُّ رحمه الله.
السابعة: عَنْ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال
"إذَا قَعَدَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أَتَى ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللهِ، فَذَلكَ قَوْلهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ رحمهما الله وَفِي رِوَايَةٍ لمُسْلمٍ عَنْ "النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} قَال: نَزَلتْ فِي عَذَابِ القَبْرِ"وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: "قَال نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إنَّهُ ليَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالهِمْ إذَا انْصَرَفُوا، فَيَأْتِيهِ مَلكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ لهُ: مَا كُنْت تَقُول فِي هَذَا الرَّجُل؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ فَيَقُول: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولهُ، فَيُقَال لهُ: اُنْظُرْ إلى مَقْعَدِك مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلك اللهُ بِهِ مَقْعَدًا فِي الجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا قَال قَتَادَةُ: وَذَكَرَ لنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُمْلى عَليْهِ خَضِرًا إلى يَوْمِ يَبْعَثُونَ، وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوْ الكَافِرُ فَيَقُول: لا أَدْرِي كُنْت أَقُول مَا يَقُول النَّاسُ فِيهِ، فَيُقَال: لا دَرَيْتَ وَلا تَليْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَليهِ إلا الثَّقَليْنِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال:
قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "إذَا قُبِرَ المَيِّتُ - أَوْ قَال أَحَدُكُمْ - أَتَاهُ مَلكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَال لأَحَدِهِمَا المُنْكَرُ وَللآخَرِ النَّكِيرُ فَيَقُولانِ: مَا كُنْت تَقُول فِي هَذَا الرَّجُل؟ فَيَقُول مَا كَانَ يَقُول: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولهُ، فَيَقُولانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلمُ أَنَّك تَقُول هَذَا، فَيُفْسَحُ لهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعِينَ فِي سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لهُ فِيهِ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ فِيهِ وَفِي المُنَافِقِ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ

 

ج / 5 ص -209-       رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال "إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا مَاتَ عُرِضَ عَليْهِ مَقْعَدُهُ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إنْ كَانَ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْل الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل النَّارِ فَمِنْ أَهْل النَّارِ، يُقَال: هَذَا مَقْعَدُك حَتَّى يَبْعَثَك اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقَال التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الثَّامِنَةُ: ثَبَتَتْ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ
أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ"وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: "فَمَا رَأَيْت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ صَلى صَلاةً إلا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ"وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ جُمْلةٍ مِنْ هَذَا فِي الدُّعَاءِ فِي آخِرِ الصَّلاةِ قَبْل السَّلامِ، وَمَذْهَبُ أَهْل الحَقِّ إثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ للكُفَّارِ وَلمَنْ شَاءَ اللهُ مِنْ العُصَاةِ، وَشَبَّهُوهُ بِالنَّائِمِ الذِي تَرَاهُ سَاكِنًا غَيْرَ حَاسٍّ بِشَيْءٍ؛ وَهُوَ فِي نَعِيمٍ، أَوْ عَذَابٍ وَنَكَدٍ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لوْلا أَنْ لا تَدَافَنُوا لدَعَوْت اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ"رَوَاهُ مُسْلمٌ. وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَال: "خَرَجَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَال: يَهُودٌ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.
التَّاسِعَةُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها
أَنَّ رَجُلًا قَال للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ أُمِّي اُفْتُلتَتْ نَفْسُهَا وَأَرَاهَا لوْ تَكَلمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَيَنْفَعُهَا إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَالأَحَادِيثُ بِهَذَا المَعْنَى كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ مَشْهُورَةٌ وَأَجْمَعَ المُسْلمُونَ عَلى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَنْ المَيِّتِ تَنْفَعُهُ وَتَصِلهُ، وَسَنَبْسُطُ الكَلامَ فِيهَا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى فِي آخِرِ كِتَابِ1 الوَصِيَّةِ، حَيْثُ ذَكَرَ المُصَنِّفُ وَالشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ المَسْأَلةَ، وَإِنَّمَا قَصَدْت التَّنْبِيهَ هُنَا عَلى أَصْل المَسْأَلةِ.
العَاشِرَةُ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما قَال:
قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "مَا مِنْ مُسْلمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَوْ ليْلةَ الجُمُعَةِ إلا وَقَاهُ اللهُ فِتْنَةَ القَبْرِ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي مَوْتِ الأَطْفَال عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم
"مَا مِنْ النَّاسِ مُسْلمٌ يَمُوتُ لهُ ثَلاثَةٌ مِنْ الوَلدِ لمْ يَبْلغُوا الحِنْثَ إلا أَدْخَلهُ اللهُ الجَنَّةَ بِفَضْل رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "لا يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنْ المُسْلمِينَ ثَلاثَةٌ مِنْ الوَلدِ فَتَمَسُّهُ النَّارُ إلا تَحِلةَ القَسَمِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَتَحِلةُ القَسَمِ قَوْلهُ عَزَّ وَجَل "وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا"وَالمُخْتَارُ أَنَّ المُرَادَ بِهِ المُرُورُ عَلى الصِّرَاطِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال للنِّسَاءِ "مَا مِنْكُنَّ مِنْ امْرَأَةٍ تُقَدِّمُ ثَلاثَةً مِنْ الوَلدِ إلا كَانُوا لهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ. فَقَالتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ؟ فَقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَاثْنَيْنِ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: "أَتَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ لهَا فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ اُدْعُ اللهَ لهُ فَلقَدْ دَفَنْتُ ثَلاثَةً. فَقَال: دَفَنْتِ ثَلاثَةً؟ قَالتْ: نَعَمْ. قَال: لقَدْ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنْ النَّارِ"فَرَوَاهُ مُسْلمٌ وَعَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولكن المنية قد أدركته رضي الله عنه فكان مما ألقته العناية الربانية على عاتقنا (ط).

 

ج / 5 ص -210-       أَبِي حَسَّانَ قَال: "قُلت لأَبِي هُرَيْرَةَ مَاتَ لي ابْنَانِ فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم تُطَيِّبُ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَال: قَال: نَعَمْ "صِغَارُهَا دَعَامِيصُ الجَنَّةِ يَتَلقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ - أَوْ قَال: أَبُوهُ - فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ - أَوْ قَال بِيَدِهِ - فَلا يَتَنَاهَى - أَوْ قَال يَنْتَهِي حَتَّى يُدْخِلهُ اللهُ وَأَبَاهُ الجَنَّةَ"رَوَاهُ مُسْلمٌ. قَال أَهْل الغَرِيبِ: الدَّعَامِيصُ جَمْعُ دُعْمُوصٍ كَبُرْغُوثٍ وَبَرَاغِيثَ، قَالوا: وَهُوَ الدَّخَّال فِي الأُمُورِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَيَّاحُونَ فِي الجَنَّةِ دَخَّالونَ فِي مَنَازِلهِمْ لا يُمْنَعُونَ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهَا. كَمَا أَنَّ الصِّبْيَانَ فِي الدُّنْيَا لا يُمْنَعُونَ الدُّخُول عَلى الحُرُمِ. وَجَاءَتْ فِي البَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْته، وَمِنْهَا أَنَّ مَوْتَ الوَاحِدِ مِنْ الأَوْلادِ حِجَابٌ مِنْ النَّارِ وَكَذَا السَّقْطُ. وَاَللهُ أَعْلمُ بِالصَّوَابِ وَلهُ الحَمْدُ وَالنِّعْمَةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالعِصْمَةُ.