المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 5 ص -211-       كِتَابُ الزَّكَاةِ
قَال الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الوَاحِدِيُّ: الزَّكَاةُ تَطْهِيرٌ للمَال، وَإِصْلاحٌ لهُ، وَتَمْيِيزٌ وَإِنْمَاءٌ، كُل ذَلكَ قَدْ قِيل، قَال: وَالأَظْهَرُ أَنَّ أَصْلهَا عَنْ الزِّيَادَةِ، يُقَال: زَكَا الزَّرْعُ يَزْكُو زَكَاءً مَمْدُودٌ، وَكُل شَيْءٍ ازْدَادَ فَقَدْ زَكَا، قَال: وَالزَّكَاةُ أَيْضًا الصَّلاحُ وَأَصْلهَا مِنْ زِيَادَةِ الخَيْرِ، يُقَال: رَجُلٌ زَكِيٌّ أَيْ زَائِدُ الخَيْرِ مِنْ قَوْمٍ أَزْكِيَاءٍ، وَزَكَّى القَاضِي الشُّهُودَ إذَا بَيَّنَ زِيَادَتَهُمْ فِي الخَيْرِ، وَسَمَّى مَا يَخْرُجُ مِنْ المَال للمَسَاكِينِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ زَكَاةً، لأَنَّهَا تَزِيدُ فِي المَال الذِي أُخْرِجَتْ مِنْهُ، وَتُوَفِّرُهُ فِي المَعْنَى؛ وَتَقِيهِ الآفَاتِ، هَذَا كَلامُ الوَاحِدِيِّ. وَأَمَّا: الزَّكَاةُ فِي الشَّرْعِ فَقَال صَاحِبُ الحَاوِي وَآخَرُونَ: هُوَ اسْمٌ لأَخْذِ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْ مَالٍ مَخْصُوصٍ، عَلى أَوْصَافٍ مَخْصُوصَةٍ لهُ لطَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
واعلم:أَنَّ الزَّكَاةَ لفْظَةٌ عَرَبِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ قَبْل وُرُودِ الشَّرْعِ، مُسْتَعْمَلةٌ فِي أَشْعَارِهِمْ وَذَلكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَل لهُ، قَال صَاحِبُ الحَاوِي: وَقَال دَاوُد الظَّاهِرِيُّ: لا أَصْل لهَذَا الاسْمِ فِي اللغَةِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِالشَّرْعِ قَال صَاحِبُ الحَاوِي: وَهَذَا القَوْل، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَليْسَ الخِلافُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فِي أَحْكَامِ الزَّكَاةِ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"الزَّكَاةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامِ، وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ، وَالأَصْل فِيهِ قَوْلهُ عَزَّ وَجَل:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 43]"وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَال "كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ جَالسًا فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللهِ مَا الإِسْلامُ؟ قَال: الإِسْلامُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُل فَقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم رُدُّوا عَليَّ الرَّجُل فَلمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا جِبْرِيل جَاءَ ليُعَلمَ النَّاسَ دِينَهُمْ".
 الشرح: هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ اللغَاتِ فِي جِبْرِيل فِي مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ، وَقَوْلهُ عَزَّ وَجَل "وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ"قَال العُلمَاءُ: إقَامَتُهَا إدَامَتُهَا وَالمُحَافَظَةُ عَليْهَا بِحُدُودِهَا، يُقَال قَامَ بِالأَمْرِ وَأَقَامَهُ إذَا أَتَى بِهِ مُوفِيًا حُقُوقَهُ قَال أَبُو عَليٍّ الفَارِسِيُّ: أُشْبِهُ مِنْ أَنْ تُفَسَّرَ بِيَتَمَوَّنُهَا، وَالمُرَادُ جِنْسُ الصَّلاةِ الوَاجِبَةِ وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الأُصُول وَالفُرُوعِ خِلافًا فِي هَذِهِ هَل هِيَ مُجْمَلةٌ أَمْ لا؟ فَقَالوا: قَال أَبُو إِسْحَاقَ المَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا هِيَ مُجْمَلةٌ. قَال البَنْدَنِيجِيُّ: هَذَا هُوَ المَذْهَبُ لأَنَّ الزَّكَاةَ لا تَجِبُ إلا فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ إذَا بَلغَ قَدْرًا مَخْصُوصًا، وَيَجِبُ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ وَليْسَ فِي الآيَةِ بَيَانُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا، فَهِيَ مُجْمَلةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ إلا أَنَّهَا تَقْتَضِي أَصْل الوُجُوبِ. وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: ليْسَتْ مُجْمَلةً، بَل هِيَ عَامَّةٌ، بَل كُل مَا تَنَاوَلهُ اسْمُ الزَّكَاةِ فَالآيَةُ تَقْتَضِي وُجُوبَهُ وَالزِّيَادَةُ عَليْهِ تُعْرَفُ

 

ج / 5 ص -212-       بِالسُّنَّةِ. قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: فَائِدَةُ الخِلافِ أَنَّا إذَا قُلنَا: مُجْمَلةٌ فَهِيَ حُجَّةٌ فِي أَصْل وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَلا يُحْتَجُّ بِهَا فِي مَسَائِل الخِلافِ، وَإِنْ قُلنَا: ليْسَتْ مُجْمَلةً كَانَتْ حُجَّةً فِي أَصْل وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَفِي مَسَائِل الخِلافِ تَعَلقًا بِعُمُومِهَا وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم
"وَتُقِيمَ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ "فَخَالفَ بَيْنَ اللفْظَيْنِ لقَوْل اللهِ تَعَالى: {إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}وَثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَصْفُ الصَّلاةِ بِالمَكْتُوبَةِ لحَدِيثِ: "خَمْسُ صَلوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ"وَحَدِيثِ: "أَفْضَل الصَّلاةِ صَلاةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلا المَكْتُوبَةَ"وَسَمَّى الزَّكَاةَ مَفْرُوضَةً لأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، وَلأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلى تَقْدِيرِ الوَاجِبِ، وَلهَذَا سَمَّى مَا يَخْرُجُ فِي الزَّكَاةِ فَرَائِضَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ "فَرَضَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الفِطْرِ"وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ فِي كِتَابِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ ". وَقِيل غَايَرَ بَيْنَ اللفْظَيْنِ لئَلا يَتَكَرَّرَ اللفْظُ، وَالفَصَاحَةُ وَالبَلاغَةُ تَمْنَعُ تَكْرِيرَهُ، وَاَللهُ أَعْلمُ. وَأَمَّا قَوْل المُصَنِّفِ: الزَّكَاةُ رُكْنٌ وَفَرْضٌ فَتَوْكِيدٌ وَبَيَانٌ، لكَوْنِهِ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ الزَّكَاةِ رُكْنًا وَفَرْضًا، وَقَدْ اسْتَعْمَل المُصَنِّفُ مِثْل هَذِهِ العِبَارَةِ فِي الصَّوْمِ وَالحَجِّ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا حُكْمُ المَسْأَلةِ: فَالزَّكَاةُ فَرْضٌ وَرُكْنٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلمِينَ، وَتَظَاهَرَتْ دَلائِل الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ عَلى ذَلكَ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا تَجِبُ الزَّكَاةُ إلا عَلى حُرٍّ مُسْلمٍ، فَأَمَّا المُكَاتَبُ وَالعَبْدُ إذَا مَلكَهُ المَوْلى مَالًا فَلا زَكَاةَ عَليْهِ، لأَنَّهُ لا يَمْلكُ فِي قَوْلهِ الجَدِيدِ وَيَمْلكُ فِي قَوْلهِ القَدِيمِ، إلا أَنَّهُ مِلكٌ ضَعِيفٌ لا يَحْتَمِل المُوَاسَاةَ، وَلهَذَا لا تَجِبُ عَليْهِ نَفَقَةُ الأَقَارِبِ وَلا يُعْتَقُ [عَليْهِ] أَبُوهُ إذَا اشْتَرَاهُ فَلمْ تَجِبْ عَليْهِ الزَّكَاةُ، وَفِيمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ وَجْهَانِ أحدهما: لا تَجِبُ عَليْهِ الزَّكَاةُ لأَنَّهُ نَاقِصٌ بِالرِّقِّ فَهُوَ كَالعَبْدِ القِنِّ، والثاني: أَنَّهَا تَجِبُ فِيمَا مَلكَهُ بِنِصْفِهِ الحُرِّ، لأَنَّهُ يَمْلكُ بِنِصْفِهِ الحُرِّ مِلكًا تَامًّا، فَوَجَبَ عَليْهِ الزَّكَاةُ كَالحُرِّ".
الشرح:
قَوْلهُ: وَلا تَجِبُ الزَّكَاةُ إلا عَلى حُرٍّ مُسْلمٍ، وَلمْ يَقُل تَامَّ المِلكِ كَمَا قَالهُ فِي التَّنْبِيهِ، وَهَذَا الذِي قَالهُ هُنَا حَسَنٌ، لأَنَّ مَقْصُودَهُ فِي هَذَا الفَصْل بَيَانُ صِفَةِ الشَّخْصِ الذِي تَجِبُ عَليْهِ الزَّكَاةُ، وَكَوْنُهُ تَامَّ المِلكِ صِفَةٌ للمَال، فَأَخَّرَهُ ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَوَّل الذِي يَلي هَذَا فِي فَصْل صِفَاتِ المَال، وَهَذَا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ. أَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلى الحُرِّ المُسْلمِ فَظَاهِرٌ لعُمُومِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ فِيمَنْ سِوَى الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ، وَمَذْهَبُنَا وُجُوبُهَا فِي مَال الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ، وَسَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
وَأَمَّا المُكَاتَبُ فَلا زَكَاةَ عَليْهِ لا فِي عُشْرِ زَرْعِهِ وَلا فِي مَاشِيَتِهِ وَسَائِرِ أَمْوَالهِ وَلا خِلافَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا عِنْدَنَا، وَلا يَجِبُ عَليْهِ زَكَاةُ الفِطْرِ أَيْضًا، وَفِيهَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ فِي بَابِ زَكَاةِ الفِطْرِ، وَالمَذْهَبُ أَنَّهَا لا تَجِبُ عَليْهِ، وَدَليل الجَمِيعِ ضَعْفُ مِلكِهِ.
قَال أَصْحَابُنَا: فَإِنْ عَتَقَ المُكَاتَبُ وَالمَال فِي يَدِهِ اسْتَأْنَفَ لهُ الحَوْل مِنْ حِينِ العِتْقِ وَإِنْ عَجَزَ فَصَارَ المَال للسَّيِّدِ ابْتَدَأَ الحَوْل مِنْ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا العَبْدُ القِنُّ وَالمُدَبَّرُ وَالمُسْتَوْلدَةُ إذَا مَلكَهُمْ المَوْلى مَالًا - فَإِنْ قُلنَا بِالجَدِيدِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لا يَمْلكُ بِالتَّمْليكِ - وَجَبَ عَلى السَّيِّدِ زَكَاةُ مَا مَلكَ، وَلا أَثَرَ للتَّمْليكِ

 

ج / 5 ص -213-       لأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ قُلنَا بِالقَدِيمِ أَنَّهُ يَمْلكُ لمْ يَلزَمْ العَبْدَ زَكَاتُهُ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَهَل يَلزَمُ السَّيِّدَ زَكَاةُ هَذَا المَال؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:
الصَّحِيحُ: مِنْهُمَا وَهُوَ المَشْهُورُ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ: لا يَلزَمُهُ؛ لأَنَّهُ لا يَمْلكُهُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: حَكَاهُ المَاوَرْدِيُّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ فِي البَسِيطِ وَآخَرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: لا يَلزَمُهُ والثاني: يَلزَمُهُ لأَنَّ فَائِدَةَ المِلكِ القُدْرَةُ عَلى التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَذَلكَ حَاصِلٌ بِخِلافِ مِلكِ المُكَاتَبِ. قَال المَاوَرْدِيُّ: هَذَا الوَجْهُ غَلطٌ: لأَنَّ للوَالدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لوَلدِهِ، وَمَعَ هَذَا تَلزَمُهُ زَكَاتُهُ "قُلت ": أَمَّا الفَرْقُ فَظَاهِرٌ؛ لأَنَّ مِلكَ الوَالدِ تَامٌّ وَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِخِلافِ العَبْدِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ المُصَنِّفُ دَليلهُمَا وَاخْتَلفُوا فِي أَصَحِّهِمَا، فَقَال العِرَاقِيُّونَ "الصَّحِيحُ "أَنَّهُ لا تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَبِهَذَا قَطَعَ أَكْثَرُ العِرَاقِيِّينَ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ. مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ وَالمَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ العِرَاقِيِّينَ، وَنَقَلهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ عَنْ العِرَاقِيِّينَ، وَقَطَعَ بِهِ الخُرَاسَانِيُّونَ وَالمُتَوَلي، وَصَحَّحَ أَكْثَرُ الخُرَاسَانِيِّينَ الوُجُوبَ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ مِنْهُمْ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالبَغَوِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ الغَزَاليُّ فِي كُتُبِهِ، وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ قَوْل العِرَاقِيِّينَ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه نَصَّ عَلى أَنَّ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ يُكَفِّرُ كَفَّارَةَ الحُرِّ المُوسِرِ. قَال: وَإِذَا وَجَبَتْ كَفَّارَةُ الأَحْرَارِ فَالزَّكَاةُ أَوْلى لأَنَّ المُعْتَمَدَ فِيهَا الإِسْلامُ وَالمِلكُ التَّامُّ وَقَدْ وُجِدَ. وَحُجَّةُ العِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ فِي أَكْثَرِ الأَحْكَامِ لهُ حُكْمُ العَبِيدِ، فَلا تُقْبَل شَهَادَتُهُ وَلا وِلايَةَ لهُ عَلى وَلدِهِ الحُرِّ وَلا عَلى مَال وَلدِهِ، وَلا جُمُعَةَ عَليْهِ وَلا تَنْعَقِدُ بِهِ وَلا حَجَّ عَليْهِ، وَلذَلكَ هُوَ كَالرَّقِيقِ فِي نِكَاحِهِ وَطَلاقِهِ وَعِدَّتِهَا، وَالحُدُودُ عَلى قَاذِفِهِ وَلا يَرِثُ، وَلا خِيَارَ لهَا إذَا عَتَقَ بَعْضُهَا تَحْتَ عَبْدٍ، وَلا قِصَاصَ عَلى الحُرِّ بِقَتْلهِ وَعَلى مَنْ هُوَ مِثْلهُ عَلى الأَصَحِّ، وَلا يَكُونُ قَاضِيًا وَلا قَاسِمًا وَلا مُقَوِّمًا، وَغَيْرَ ذَلكَ مِنْ الأَحْكَامِ فَوَجَبَ أَنْ تَلحَقَ الزَّكَاةُ بِذَلكَ. فَإِنْ قِيل: جَزَمُوا بِوُجُوبِ زَكَاةِ الفِطْرِ عَليْهِ، فَمَا الفَرْقُ؟ فالجواب:  مَا أَجَابَ بِهِ صَاحِبُ الشَّامِل أَنَّ زَكَاةَ الفِطْرِ تَتَبَعَّضُ فَيَجِبُ عَليْهِ نِصْفُ صَاعٍ وَعَلى سَيِّدِهِ نِصْفُهُ وَزَكَاةُ الأَمْوَال لا تَتَبَعَّضُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلى تَمَامٍ وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا الكَافِرُ فَإِنْ كَانَ أَصْليًّا لمْ تَجِبْ عَليْهِ الزَّكَاةُ لأَنَّهُ حَقٌّ لمْ يَلتَزِمْهُ فَلا يَلزَمُهُ كَغَرَامَةِ المُتْلفَاتِ، وَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا لمْ تَسْقُطْ عَنْهُ [مَا] وَجَبَ فِي حَال الإِسْلامِ، لأَنَّهُ ثَبَتَ وُجُوبُهُ فَلمْ يَسْقُطْ بِرِدَّتِهِ كَغَرَامَةِ المُتْلفَاتِ، وَأَمَّا فِي حَال الرِّدَّةِ1 فَإِنَّهُ يُبْنَى عَلى مِلكِهِ وَفِي مِلكِهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: [أَنَّهُ] يَزُول بِالرِّدَّةِ فَلا تَجِبُ عَليْهِ الزَّكَاةُ، والثاني: لا يَزُول فَتَجِبُ عَليْهِ الزَّكَاةُ لأَنَّهُ حَقٌّ التَزَمَهُ بِالإِسْلامِ فَلمْ يَسْقُطْ [عَنْهُ] بِالرِّدَّةِ كَحُقُوقِ الآدَمِيِّينَ، والثالث: أَنَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (فزكاته مبنية على ملكه) وما بين المعقوفين ليس في ش و ق وهو قدر في سقوطه تحريف وعكس للمقصود (ط).

 

ج / 5 ص -214-       مَوْقُوفٌ، فَإِنْ رَجَعَ إلى الإِسْلامِ حَكَمْنَا [بِأَنَّهُ لمْ يَزُل مِلكُهُ فَتَجِبُ عَليْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لمْ يَرْجِعْ حَكَمْنَا] بِأَنَّهُ قَدْ زَال مِلكُهُ، فَلا تَجِبُ عَليْهِ الزَّكَاةُ".
الشرح:
قَوْلهُ فِي الكَافِرِ الأَصْليِّ: لا تَجِبُ عَليْهِ، ليْسَ مُخَالفًا لقَوْل جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي الأُصُول أَنَّ الكُفَّارَ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّل كِتَابِ الصَّلاةِ بَيَانُ ذَلكَ وَاضِحًا مَعَ فَوَائِدَ تَتَعَلقُ بِأَحْكَامِ الكُفَّارِ. وَأَمَّا قَوْلهُ لأَنَّهُ حَقٌّ لمْ يَلتَزِمْهُ فَلا يَلزَمُهُ كَغَرَامَةِ المُتْلفَاتِ فَقَدْ يُنْكَرُ عَليْهِ، وَيُقَال: هَذَا دَليلٌ نَاقِصٌ عَنْ الدَّعْوَى لأَنَّ مُرَادَ المُصَنِّفِ أَنَّ الزَّكَاةَ لا تَجِبُ عَلى الكَافِرِ، سَوَاءٌ كَانَ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، فَدَليل المُصَنِّفِ نَاقِصٌ، لأَنَّهُ دَليلٌ لعَدَمِ الوُجُوبِ فِي حَقِّ الحَرْبِيِّ دُونَ الذِّمِّيِّ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ يَلزَمُهُ غَرَامَةُ المُتْلفَاتِ.
وَالجَوَابُ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ لمْ يَلتَزِمْهُ الحَرْبِيُّ وَلا الذِّمِّيُّ فَلا يُلزَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَمَا لا تَجِبُ غَرَامَةُ المُتْلفَاتِ عَلى مَنْ لمْ يَلتَزِمْهَا وَهُوَ الحَرْبِيُّ، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا مَعَ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله عَلى أَنَّهُ لا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلى الكَافِرِ الأَصْليِّ حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا فَلا يُطَالبُ بِهَا فِي كُفْرِهِ، وَإِنْ أَسْلمَ لمْ يُطَالبْ بِهَا فِي مُدَّةِ الكُفْرِ. وَأَمَّا: المُرْتَدُّ فَإِنْ وَجَبَ عَليْهِ زَكَاةٌ قَبْل رِدَّتِهِ لمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ عِنْدَنَا بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ بِنَاءً عَلى أَصْلهِ أَنَّ المُرْتَدَّ يَصِيرُ كَالكَافِرِ الأَصْليِّ، دَليلنَا مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ. وَأَمَّا زَمَنُ الرِّدَّةِ فَهَل تَجِبُ عَليْهِ فِيهِ زَكَاةٌ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا "أَحَدُهُمَا "القَطْعُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَال ابْنُ سُرَيْجٍ كَالنَّفَقَاتِ وَالغَرَامَاتِ "وَالطَّرِيقُ الثَّانِي "، وَهُوَ المَشْهُورُ وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ، فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ بِنَاءً عَلى بَقَاءِ مِلكِهِ وَزَوَالهِ، أحدها: يَزُول مِلكُهُ فَلا زَكَاةَ. والثاني: يَبْقَى فَتَجِبُ وَأَصَحُّهَا: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ إنْ عَادَ إلى الإِسْلامِ وَتَبَيَّنَّا بَقَاءَهُ فَتَجِبُ وَإِلا فَلا، وَتُتَصَوَّرُ المَسْأَلةُ إذَا بَقِيَ مُرْتَدًّا حَوْلًا وَلمْ نَعْلمْ ثُمَّ عَلمْنَا وَلمْ نَقْدِرْ عَلى قَتْلهِ، أَوْ ارْتَدَّ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الحَوْل سَاعَةٌ فَلمْ يُقْتَل أَوْ لمْ يُسْلمْ إلا بَعْدَ الحَوْل وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَإِنْ قُلنَا: لا تَجِبُ الزَّكَاةُ فَارْتَدَّ فِي أَثْنَاءِ الحَوْل انْقَطَعَ الحَوْل، فَإِذَا أَسْلمَ اسْتَأْنَفَ، وَإِنْ قُلنَا: تَجِبُ لمْ يَنْقَطِعْ، قَال أَصْحَابُنَا: وَإِذَا أَوْجَبْنَاهَا فَأَخْرَجَ فِي حَال الرِّدَّةِ أَجْزَأَهُ، كَمَا لوْ أَطْعَمَ عَنْ الكَفَّارَةِ بِخِلافِ الصَّوْمِ لا يَصِحُّ مِنْهُ، لأَنَّهُ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ فَلا يَصِحُّ إلا مِمَّنْ يُكْتَبُ لهُ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ البَغَوِيّ وَالجُمْهُورُ وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: قَال صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: لوْ قُلت: إذَا ارْتَدَّ لمْ يُخْرِجْ الزَّكَاةَ مَا دَامَ مُرْتَدًّا لمْ يَكُنْ بَعِيدًا لأَنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلى النِّيَّةِ، وَلا تَجِبُ عَلى الكَافِرِ الأَصْليِّ، فَتَعَذَّرَ أَدَاؤُهَا مِنْ المُرْتَدِّ. قَال صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: عَلى هَذَا إذَا حَكَمْنَا بِأَنَّ مِلكَهُ لا يَزُول وَمَضَى حَوْلٌ فِي الرِّدَّةِ لمْ يُخْرِجْ الزَّكَاةَ أَيْضًا لمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ أَسْلمَ لزِمَهُ إخْرَاجُ مَا وَجَبَ فِي إسْلامِهِ وَرِدَّتِهِ، وَلوْ قُتِل مُرْتَدًّا وَقَدْ تَعَذَّرَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَلى هَذَا الاحْتِمَال فَتَسْقُطُ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، وَلا تَسْقُطُ المُعَاقَبَةُ بِهَا فِي الآخِرَةِ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: مِمَّا قَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ لحَقِّ المَسَاكِينِ عَاجِلًا وَلكِنْ يُحْتَمَل أَنْ يُقَال: إذَا أَسْلمَ 1لمْ يَلزَمْهُ إعَادَةُ الزَّكَاةِ، فِيهِ وَجْهَانِ كَالمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (لم يلزمه) (ط).

 

ج / 5 ص -215-       إذَا أَخَذَهَا الإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا، وَلمْ يَنْوِ المُمْتَنِعُ، هَذَا آخِرُ كَلامِ الإِمَامِ وَالمَذْهَبُ أَنَّهَا تُجْزِئُ لمَا نَقَلنَاهُ أَوَّلًا عَنْ الجُمْهُورِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَتَجِبُ فِي مَال الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ لمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال
"ابْتَغُوا فِي مَال اليَتَامَى، لا تَأْكُلهَا الزَّكَاةُ"وَلأَنَّ الزَّكَاةَ تُرَادُ لثَوَابِ المُزَكَّى، وَمُوَاسَاةِ الفَقِيرِ. وَالصَّبِيُّ وَالمَجْنُونُ مِنْ أَهْل الثَّوَابِ وَمِنْ أَهْل المُوَاسَاةِ، وَلهَذَا يَجِبُ عَليْهِمَا نَفَقَةُ الأَقَارِبِ، وَيُعْتِقُ عَليْهِمَا الأَبُ إذَا مَلكَاهُ فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي مَالهِمَا".
الشرح: هَذَا الحَدِيثُ ضَعِيفٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ المُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، لأَنَّ يُوسُفَ تَابِعِيٌّ وَمَاهَكَ بِفَتْحِ الهَاءِ أَعْجَمِيٌّ لا يَنْصَرِفُ، وَقَدْ أَكَّدَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله هَذَا المُرْسَل بِعُمُومِ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ مُطْلقًا، وَبِمَا رَوَاهُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلكَ، وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه مَوْقُوفًا عَليْهِ وَقَال: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَليِّ بْنِ مُطْرِفٍ. وَرَوَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي مَال اليَتِيمِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالحَسَنِ بْنِ عَليٍّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهم. قَال البَيْهَقِيُّ: فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ ليْثِ بْنِ أَبِي سُليْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ وَليَ مَال يَتِيمٍ فَليُحْصِ عَليْهِ السِّنِينَ فَإِذَا دَفَعَ إليْهِ مَالهُ أَخْبَرَهُ بِمَا عَليْهِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَإِنْ شَاءَ زَكَّى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ "فَقَدْ ضَعَّفَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لأَنَّ مُجَاهِدًا لمْ يُدْرِكْ ابْنَ مَسْعُودٍ. والثاني: أَنَّ ليْثَ بْنَ أَبِي سُليْمٍ ضَعِيفٌ، قَال البَيْهَقِيُّ ضَعَّفَ أَهْل العِلمِ ليْثًا قَال: وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلا أَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ لهِيعَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ.
وَأَمَّا: رِوَايَةُ مَنْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ:
"لا تَأْكُلهَا الصَّدَقَةُ"وَلمْ يَقُل الزَّكَاةُ فَالمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فإن قيل: فَالزَّكَاةُ لا تَأْكُل المَال، وَإِنَّمَا تَأْكُل مَا زَادَ عَلى النِّصَابِ فالجواب: أَنَّ المُرَادَ تَأْكُل مُعْظَمَهُ الزَّكَاةُ مَعَ النَّفَقَةِ، وَاسْتَدَل أَصْحَابُنَا أَيْضًا مِنْ جِهَةِ القِيَاسِ بِأَنَّ كُل مَنْ وَجَبَ العُشْرُ فِي زَرْعِهِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي سَائِرِ أَمْوَالهِ، كَالبَالغِ العَاقِل، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله وَافَقَنَا عَلى إيجَابِ العُشْرِ فِي مَال الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ وَإِيجَابِ زَكَاةِ الفِطْرِ فِي مَالهِمَا وَخَالفَنَا فِي غَيْرِ ذَلكَ، وَأَمَّا اسْتِدْلال الحَنَفِيَّةِ بِقَوْل اللهِ تَعَالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]وَالصَّبِيُّ وَالمَجْنُونُ ليْسَا مِنْ أَهْل التَّطْهِيرِ، إذْ لا ذَنْبَ لهُمَا فالجواب: أَنَّ الغَالبَ أَنَّهَا تَطْهِيرٌ وَليْسَ ذَلكَ شَرْطًا فَإِنَّا اتَّفَقْنَا عَلى وُجُوبِ الفِطْرِ وَالعُشْرِ فِي مَالهِمَا، وَإِنْ كَانَ تَطْهِيرًا فِي أَصْلهِ.
وَأَمَّا قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم:
"رُفِعَ القَلمُ عَنْ ثَلاثَةٍ"فَالمُرَادُ رُفِعَ الإِثْمُ وَالوُجُوبُ، وَنَحْنُ نَقُول: لا إثْمَ عَليْهِمَا وَلا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَليْهِمَا، بَل يَجِبُ فِي مَالهِمَا، وَيُطَالبُ بِإِخْرَاجِهَا وَليُّهُمَا، كَمَا يَجِبُ فِي مَالهِمَا قِيمَةُ مَا أَتْلفَاهُ، وَيَجِبُ عَلى الوَليِّ دَفْعُهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلى الحَجِّ فَأَجَابَ: إمَامُ الحَرَمَيْنِ رحمه الله فِي الأَسَاليب وَالأَصْحَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ ليْسَ رُكْنًا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَتَطَرَّقُ إليْهِ المَال تَوَصُّلًا بِخِلافِ

 

ج / 5 ص -216-       الزَّكَاةِ، قَال الإِمَامُ: المُعْتَمَدُ أَنَّ مَقْصُودَ الزَّكَاةِ سَدُّ خُلةِ الفَقِيرِ مِنْ مَال الأَغْنِيَاءِ شُكْرًا للهِ تَعَالى، وَتَطْهِيرًا للمَال، وَمَال الصَّبِيِّ قَابِلٌ لأَدَاءِ النَّفَقَاتِ وَالغَرَامَاتِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا: فَالزَّكَاةُ عِنْدَنَا وَاجِبَةٌ فِي مَال الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ بِلا خِلافٍ وَيَجِبُ عَلى الوَليِّ إخْرَاجُهَا مِنْ مَالهِمَا كَمَا يُخْرِجُ مِنْ مَالهِمَا غَرَامَةَ المُتْلفَاتِ وَنَفَقَةَ الأَقَارِبِ وَذَلكَ مِنْ الحُقُوقِ المُتَوَجِّهَةِ إليْهِمَا، فَإِنْ لمْ يُخْرِجْ الوَليُّ الزَّكَاةَ وَجَبَ عَلى الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ بَعْدَ البُلوغِ وَالإِفَاقَةِ إخْرَاجُ زَكَاةِ مَا مَضَى بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ؛ لأَنَّ الحَقَّ تَوَجَّهَ إلى مَالهِمَا، لكِنَّ الوَليَّ عَصَى بِالتَّأْخِيرِ فَلا يَسْقُطُ مَا تَوَجَّهَ إليْهِمَا. وَأَمَّا المَال المَنْسُوبُ إلى الجَنِينِ بِالإِرْثِ أَوْ غَيْرِهِ فَإِذَا انْفَصَل حَيًّا هَل تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ (المَذْهَبُ) أَنَّهَا لا تَجِبُ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ لأَنَّ الجَنِينَ لا يُتَيَقَّنُ حَيَاتُهُ، وَلا يُوثَقُ بِهَا، فَلا يَحْصُل تَمَامُ المِلكِ وَاسْتِقْرَارُهُ، فَعَلى هَذَا يَبْتَدِئُ حَوْلًا مِنْ حِينِ يَنْفَصِل. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: حَكَاهُ المَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ وَالمُتَوَلي وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: هَذَا، والثاني: تَجِبُ كَالصَّبِيِّ، قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: تَرَدَّدَ فِيهِ شَيْخِي، قَال: وَجَزَمَ الأَئِمَّةُ بِأَنَّهَا لا تَجِبُ وَاَللهُ أَعْلمُ، وَقَوْل المُصَنِّفِ: الزَّكَاةُ تُرَادُ لثَوَابِ المُزَكِّي، وَمُوَاسَاةِ الفَقِيرِ، هَذَانِ لا بُدَّ مِنْهُمَا، فَبِقَوْلهِ ثَوَابُ المُزَكِّي يَخْرُجُ الكَافِرُ، وَبِقَوْلهِ (مُوَاسَاةِ الفَقِيرِ) يَخْرُجُ المُكَاتَبُ وَاَللهُ أَعْلمُ.

فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي زَكَاةِ مَال المُكَاتَبِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِي مَال المُكَاتَبِ، سَوَاءٌ الزَّرْعُ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ مِنْ السَّلفِ وَالخَلفِ، قَال ابْنُ المُنْذِرِ: وَهُوَ قَوْل العُلمَاءِ كَافَّةً إلا أَبَا ثَوْرٍ فَأَوْجَبَهَا عَلى المُكَاتَبِ فِي كُل شَيْءٍ كَالحُرِّ، وَحَكَاهُ العَبْدَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ دَاوُد، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ العُشْرُ فِي زَرْعِهِ وَلا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي بَاقِي أَمْوَالهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ العُشْرُ"وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَاحْتَجَّ دَاوُد بِقَوْلهِ تَعَالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَالمُكَاتَبُ وَالعَبْدُ يَدْخُلانِ فِي الخِطَابِ الأَصَحِّ عِنْدَ الأُصُوليِّينَ دَليلنَا ضَعْفُ مِلكِهِ بِخِلافِ الحُرِّ وَلأَنَّهَا للمُوَاسَاةِ وَليْسَ هُوَ مِنْ أَهْلهَا وَعَلى أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا بِالقِيَاسِ عَلى غَيْرِ العُشْرِ، وَالآيَةُ وَالحَدِيثُ مَحْمُولانِ عَلى الأَحْرَارِ.

فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي مَال العَبْدِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لا يَمْلكُ عَلى الصَّحِيحِ، وَإِنْ مَلكَ عَلى الضَّعِيفِ فَلا زَكَاةَ، وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ، وَبِهِ قَال ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ العُلمَاءِ إلا مَا حَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمَا أَوْجَبَاهَا عَلى العَبْدِ، قَال: وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَحَكَاهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ دَاوُد.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي مَال الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ، ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُهَا فِي مَالهِمَا، وَبِهِ قَال الجُمْهُورُ، وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ وُجُوبَهَا فِي مَال الصَّبِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وَعَليٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَالحَسَنِ بْنِ عَليٍّ وَعَائِشَةَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَرَبِيعَةَ وَمَالكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالحَسَنِ بْنِ صَالحٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ

 

ج / 5 ص -217-       وَسُليْمَانَ بْنِ حَرْبٍ رضي الله عنهم وَقَال أَبُو وَائِلٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: لا زَكَاةَ فِي مَال الصَّبِيِّ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: لا يُزَكِّي حَتَّى يُصَليَ وَيَصُومَ رَمَضَانَ، وَقَال الأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: فِي مَالهِ الزَّكَاةُ لكِنْ لا يُخْرِجُهَا الوَليُّ بَل يُحْصِيهَا، فَإِذَا بَلغَ الصَّبِيُّ أَعْلمَهُ فَيُزَكِّي عَنْ نَفْسِهِ، وَقَال ابْنُ أَبِي ليْلى: فِيمَا مَلكَهُ زَكَاةٌ لكِنْ إنْ أَدَّاهَا الوَصِيُّ ضَمِنَ، وَقَال ابْنُ شُبْرُمَةَ: لا زَكَاةَ فِي ذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ، وَتَجِبُ فِي إبِلهِ وَبَقَرِهِ وَغَنَمِهِ وَمَا ظَهَرَ مِنْ مَالهِ زَكَّيْته وَمَا غَابَ عَنِّي فَلا. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لا زَكَاةَ فِي مَالهِ إلا عُشْرُ المُعَشَّرَاتِ، وَسَبَقَ بَيَانُ دَليلنَا عَنْ الجَمِيعِ وَالجَوَابُ عَمَّا عَارَضَهُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ وَجَبَتْ عَليْهِ الزَّكَاةُ وَقَدَرَ عَلى إخْرَاجِهَا لمْ يَجُزْ لهُ تَأْخِيرُهَا لأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ صَرْفُهُ إلى الآدَمِيِّ تَوَجَّهَتْ المُطَالبَةُ بِالدَّفْعِ إليْهِ فَلمْ يَجُزْ لهُ التَّأْخِيرُ كَالوَدِيعَةِ إذَا طَالبَ بِهَا صَاحِبُهَا، فَإِنْ أَخَّرَهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلى أَدَائِهَا ضَمِنَهَا، لأَنَّهُ أَخَّرَ مَا يَجِبُ عَليْهِ مَعَ إمْكَانِ الأَدَاءِ فَضَمِنَهُ كَالوَدِيعَةِ، وَمَنْ وَجَبَتْ عَليْهِ الزَّكَاةُ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا نَظَرْت فَإِنْ كَانَ جَاحِدًا لوُجُوبِهَا فَقَدْ كَفَرَ وَيُقْتَل بِكُفْرِهِ كَمَا يُقْتَل المُرْتَدُّ، لأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ مَعْلومٌ مِنْ دِينِ اللهِ تَعَالى ضَرُورَةً، فَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا فَقَدْ كَذَّبَ اللهَ وَكَذَّبَ رَسُولهُ صلى الله عليه وسلم فَحُكِمَ بِكُفْرِهِ، وَإِنْ مَنَعَهَا بُخْلًا بِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ وَعُزِّرَ. وَقَال فِي القَدِيمِ: تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ وَشَطْرُ مَالهِ عُقُوبَةً [لهُ] لمَا رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال
"وَمَنْ مَنَعَهَا فَأَنَا آخُذُهَا وَشَطْرَ مَالهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، ليْسَ لآل مُحَمَّدٍ فِيهَا شَيْءٌ"وَالصَّحِيحُ هُوَ الأَوَّل "لقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم: ليْسَ فِي المَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ"وَلأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلا يَجِبُ بِالامْتِنَاعِ مِنْهَا أَخْذُ شَطْرِ مَالهِ كَسَائِرِ العِبَادَاتِ، وَحَدِيثُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ مَنْسُوخٌ، فَإِنَّ ذَلكَ حِينَ كَانَتْ العُقُوبَاتُ فِي الأَمْوَال ثُمَّ نُسِخَتْ، وَإِنْ امْتَنَعَ بِمَنَعَةٍ قَاتَلهُ الإِمَامُ "لأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَاتَل مَانِعِي الزَّكَاةِ ".
الشرح:
حَدِيثُ بَهْزٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ "شَطْرُ إبِلهِ "وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد "شَطْرُ مَالهِ "كَمَا فِي المُهَذَّبِ، وَإِسْنَادُهُ إلى بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ، وَأَمَّا بَهْزٌ فَاخْتَلفُوا فِيهِ فَقَال يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ "ثِقَةٌ "وَسُئِل أَيْضًا عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ "ثِقَةٌ "وَقَال أَبُو حَاتِمٍ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلا يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَال أَبُو زُرْعَةَ "صَالحٌ "وَقَال الحَاكِمُ: "ثِقَةٌ "وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَال: هَذَا الحَدِيثُ لا يُثْبِتُهُ أَهْل العِلمِ بِالحَدِيثِ وَلوْ ثَبَتَ قُلنَا بِهِ، هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ أَهْل الحَدِيثِ ضَعَّفُوا هَذَا الحَدِيثَ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ
"ليْسَ فِي المَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ"فَضَعِيفٌ جِدًّا لا يُعْرَفُ. قَال البَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الكَبِيرَةِ: وَاَلذِي يَرْوِيه أَصْحَابُنَا فِي التَّعَاليقِ: "ليْسَ فِي المَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ"لا أَحْفَظُ فِيهِ إسْنَادًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ لكِنْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ قُلت: وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إنَّ فِي المَال حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ"لكِنَّهُ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَالضَّعْفُ ظَاهِرٌ فِي إسْنَادِهِ، وَاحْتَجَّ البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ المُحَقِّقِينَ فِي المَسْأَلةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الأَعْرَابِيِّ الذِي قَال للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "دُلنِي عَلى عَمَلٍ إذَا عَمِلته أَدْخُل الجَنَّةَ قَال: تَعْبُدُ اللهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، قَال: وَاَلذِي بَعَثَك بِالحَقِّ لا أَزِيدُ عَلى هَذَا، فَلمَّا أَدْبَرَ قَال: مَنْ أَرَادَ

 

ج / 5 ص -218-       أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ فَليَنْظُرْ إلى هَذَا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ قِتَال أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مَانِعِي الزَّكَاةِ فَرَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَقَوْلهُ "حَقٌّ يَجِبُ صَرْفُهُ إلى الآدَمِيِّ "احْتِرَازٌ مِنْ الحَجِّ، وَقَوْلهُ "تَوَجَّهَتْ المُطَالبَةُ بِهِ "احْتِرَازٌ مِنْ الدَّيْنِ المُؤَجَّل، وَقَوْلهُ "جَاحِدًا "قَال أَهْل اللغَةِ: الجُحُودُ هُوَ الإِنْكَارُ بَعْدَ الاعْتِرَافِ، وَقَوْل بَهْزَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، هُوَ بَهْزُ بِفَتْحِ البَاءِ المُوَحَّدَةِ وَبِالزَّايِ، ابْنُ حَكِيمٍ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنُ حَيْدَةَ، بِفَتْحِ الحَاءِ المُهْمَلةِ القُشَيْرِيُّ وَجَدُّهُ الرَّاوِي هُوَ مُعَاوِيَةُ.
وَقَوْلهُ صلى الله عليه وسلم "عَزْمَةً "بِإِسْكَانِ الزَّايِ "مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا "بِفَتْحِهَا وَمَعْنَاهُ حَقٌّ لا بُدَّ مِنْهُ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ البَيْهَقِيّ عَزِيمَةٌ بِكَسْرِ الزَّايِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ وَالمَشْهُورُ عَزْمَةٌ، وَقَوْلهُ فِي أَوَّل الحَدِيثِ: "وَمَنْ مَنَعَهَا "هَكَذَا هُوَ بِالوَاوِ، وَمَنْ مَعْطُوفٌ عَلى أَوَّل الحَدِيثِ، فَإِنَّ أَوَّلهُ "فِي كُل أَرْبَعِينَ مِنْ الإِبِل سَائِمَةٌ ابْنَةُ لبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلهُ أَجْرُهُ وَمَنْ مَنَعَهَا فَأَنَا آخُذُهَا وَشَطْرَ مَالهِ"وَقَدْ ذَكَرَ المُصَنِّفُ أَوَّلهُ فِي الفَصْل الرَّابِعِ مِنْ البَابِ. قَوْلهُ "امْتَنَعَ بِمَنَعَةٍ "هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ عَلى المَشْهُورِ عِنْدَ أَهْل اللغَةِ، وَحُكِيَ جَوَازُ إسْكَانِهَا، وَالمَنَعَةُ بِالفَتْحِ الجَمَاعَةُ المَانِعُونَ، كَكَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ وَكَافِرٍ وَكَفَرَةٍ وَنَظَائِرِهِ، وَمَنْ سَكَنَ فَمَعْنَاهُ بِقُوَّةِ امْتِنَاعٍ، وَقِتَال أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مَانِعِي الزَّكَاةِ كَانَ فِي أَوَّل خِلافَتِهِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ الهِجْرَةِ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِل:
إحداها: أَنَّ الزَّكَاةَ عِنْدَنَا يَجِبُ إخْرَاجُهَا عَلى الفَوْرِ، فَإِذَا وَجَبَتْ وَتَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِهَا لمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا، وَإِنْ لمْ يَتَمَكَّنْ فَلهُ التَّأْخِيرُ إلى التَّمَكُّنِ، فَإِنْ أَخَّرَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ عَصَى وَصَارَ ضَامِنًا؛ فَلوْ تَلفَ المَال كُلهُ بَعْدَ ذَلكَ لزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ تَلفَ بَعْدَ مُطَالبَةِ السَّاعِي أَوْ الفُقَرَاءِ أَمْ قَبْل ذَلكَ، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ. وَإِنْ تَلفَ المَال بَعْدَ الحَوْل وَقَبْل التَّمَكُّنِ فَلا إثْمَ وَلا ضَمَانَ عَليْهِ بِلا خِلافٍ، وَإِنْ أَتْلفَهُ المَالكُ لزِمَهُ الضَّمَانُ، وَإِنْ أَتْلفَهُ أَجْنَبِيٌّ بَنَى عَلى القَوْليْنِ فِي أَنَّ التَّمَكُّنَ شَرْطٌ فِي الوُجُوبِ أَمْ فِي الضَّمَانِ؟ وَسَيَأْتِي إيضَاحُهَا بِتَفْرِيعِهَا فِي آخِرِ البَابِ الثَّانِي حَيْثُ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى، إنْ قُلنَا شَرْطٌ فِي الوُجُوبِ فَلا زَكَاةَ، وَإِنْ قُلنَا: شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ - وَقُلنَا الزَّكَاةُ تَتَعَلقُ بِالذِّمَّةِ - فَلا زَكَاةَ، وَإِنْ قُلنَا: تَتَعَلقُ بِالعَيْنِ انْتَقَل حَقُّ الفُقَرَاءِ إلى القِيمَةِ كَمَا إذَا قُتِل العَبْدُ أَوْ المَرْهُونُ فَإِنَّهُ يَنْتَقِل حَقُّ المَجْنِيِّ عَليْهِ وَالمُرْتَهِنِ إلى القِيمَةِ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَليْسَ المُرَادُ بِإِمْكَانِ الأَدَاءِ مُجَرَّدَ إمْكَانِ الإِخْرَاجِ، بَل يُشْتَرَطُ مَعَهُ وُجُوبُ الإِخْرَاجِ بِثَلاثَةِ شُرُوطٍ أَحَدِهَا: حُضُورُ المَال عِنْدَهُ، فَإِنْ غَابَ عَنْهُ لمْ يَجِبْ الإِخْرَاجُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ بِالاتِّفَاقِ وَإِنْ جَوَّزْنَا نَقْل الزَّكَاةِ، والثاني: أَنْ يَجِدَ المَصْرُوفَ إليْهِ، وَسَيَأْتِي فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ أَنَّ الأَمْوَال بَاطِنَةٌ وَظَاهِرَةٌ، فَالبَاطِنَةُ يَجُوزُ صَرْفُ زَكَاتِهَا بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلهِ وَبِالسُّلطَانِ وَالسَّاعِي فَيَكُونُ وَاجِدًا للمَصْرُوفِ إليْهِ، سَوَاءٌ وُجِدَ أَهْل السَّهْمَانِ أَوْ السُّلطَانُ أَوْ نَائِبُهُ. وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَكَذَلكَ إنْ قُلنَا بِالأَصَحِّ أَنَّهُ لهُ تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ، وَإِلا فَلا إمْكَانَ حَتَّى يَجِدَ السُّلطَانَ أَوْ نَائِبَهُ، وَلوْ وَجَدَ مَنْ يَجُوزُ الصَّرْفُ إليْهِ فَأَخَّرَ لطَلبِ الأَفْضَل بِأَنْ وَجَدَ السُّلطَانَ أَوْ نَائِبَهُ فَأَخَّرَ ليُفَرِّقَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ جَعَلنَاهُ أَفْضَل، أَوْ أَخَّرَ لانْتِظَارِ

 

ج / 5 ص -219-       قَرِيبٍ أَوْ جَارٍ أَوْ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ، فَفِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا جَوَازُهُ. فَإِنْ لمْ نُجَوِّزْ التَّأْخِيرَ فَأَخَّرَ أَثِمَ وَضَمِنَ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ فَتَلفَ المَال فَهَل يَضْمَنُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: يَكُونُ ضَامِنًا لوُجُودِ التَّمَكُّنِ.
والثاني: لا، لأَنَّهُ مَأْذُونٌ لهُ فِي التَّأْخِيرِ، قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: للوَجْهَيْنِ شَرْطَانِ أحدهما: أَنْ يَظْهَرَ اسْتِحْقَاقُ الحَاضِرِينَ، فَإِنْ تَشَكَّكَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ فَأَخَّرَ ليَتَرَوَّى جَازَ بِلا خِلافٍ، والثاني: أَلا يَسْتَفْحِل ضَرَرُ الحَاضِرِينَ وَفَاقَتُهُمْ؛  فَإِنْ تَضَرَّرُوا بِالجُوعِ وَنَحْوِهِ لمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ للقَرِيبِ وَشَبَهِهِ بِلا خِلافٍ. قَال الرَّافِعِيُّ: فِي هَذَا الشَّرْطِ الثَّانِي نَظَرٌ لأَنَّ إشْبَاعَهُمْ لا يَتَعَيَّنُ عَلى هَذَا الشَّخْصِ، وَلا مِنْ هَذَا المَال وَلا مِنْ مَال الزَّكَاةِ، وَهَذَا الذِي قَالهُ الرَّافِعِيُّ بَاطِلٌ وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ لأَنَّهُ وَإِنْ لمْ يَتَعَيَّنْ هَذَا المَال لهَؤُلاءِ المُحْتَاجِينَ فَدَفْعُ ضَرُورَتِهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلا يَجُوزُ إهْمَالهُ لانْتِظَارِ فَضِيلةٍ لوْ لمْ يُعَارِضْهَا شَيْءٌ الشَّرْطُ الثَّالثُ: أَنْ لا يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِهَمٍّ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ كَصَلاةٍ وَأَكْلٍ وَنَحْوِهِمَا ذَكَرَهُ البَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
المسألة الثانية: إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مُنْكِرًا لوُجُوبِهَا فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَليْهِ ذَلكَ، لكَوْنِهِ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِسْلامِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلكَ - لمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، بَل يُعَرَّفُ وُجُوبَهَا وَتُؤْخَذُ مِنْهُ، فَإِنْ جَحَدَهَا بَعْدَ ذَلكَ حُكِمَ بِكُفْرِهِ، فإن قيل: كَيْفَ أَهْمَل المُصَنِّفُ التَّنْبِيهَ عَلى أَنَّهُ إنَّمَا يَكْفُرُ إذَا نَشَأَ مُسْلمًا بَيْنَ المُسْلمِينَ؟ فالجواب:  أَنَّهُ لمْ يُهْمِلهُ، بَل نَبَّهَ عَليْهِ بِقَوْلهِ: جَاحِدًا لوُجُوبِهَا، قَال أَهْل اللغَةِ: الجَحْدُ إنْكَارُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ المُنْكِرُ. قَال ابْنُ فَارِسٍ فِي المُجْمَل: لا يَكُونُ الجُحُودُ إلا مَعَ عِلمِ الجَاحِدِ بِهِ وَاَللهُ أَعْلمُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لا يَخْفَى كَمُسْلمٍ مُخْتَلطٍ بِالمُسْلمِينَ صَارَ بِجَحْدِهَا كَافِرًا، وَجَرَتْ عَليْهِ أَحْكَامُ المُرْتَدِّينَ مِنْ الاسْتِتَابَةِ وَالقَتْل وَغَيْرِهِمَا، وَدَليلهُ مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّل كِتَابِ الصَّلاةِ بَيَانُ مَا يَكْفُرُ بِجَحْدِهِ وَغَيْرِ ذَلكَ مِمَّا يَتَعَلقُ بِهَذَا.
الثالثة: إذَا مَنَعَ الزَّكَاةَ بُخْلًا بِهَا وَأَخْفَاهَا، مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوُجُوبِهَا لمْ يَكْفُرْ بِلا خِلافٍ، وَلا يَجِيءُ فِيهِ الوَجْهُ السَّابِقُ فِي الكِتَابِ فِي المُمْتَنِعِ مِنْ الصَّلاةِ، مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَالفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ أَحَادِيثَ تَقْتَضِي الكُفْرَ بِخِلافِ هَذَا، وَلكِنْ يُعَزَّرُ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا، كَمَا إذَا امْتَنَعَ مِنْ دَيْنِ آدَمِيٍّ.
قَال الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي المُخْتَصَرِ وَالأَصْحَابُ كُلهُمْ: إنَّمَا يُعَزَّرُ مُخْفِيهَا وَمَانِعُهَا إذَا لمْ يَكُنْ لهُ عُذْرٌ فِي إخْفَائِهَا وَمَنْعِهَا بِأَنْ كَانَ الإِمَامُ عَادِلًا يَصْرِفُهَا فِي وُجُوهِهَا بَعْدَ أَخْذِهَا عَلى وَجْهِهَا فَإِنْ كَانَ عُذْرُهُ بِأَنْ كَانَ الإِمَامُ جَائِرًا بِأَنْ يَأْخُذَ فَوْقَ الوَاجِبِ أَوْ يَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَلا يُعَزَّرُ لأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَإِذَا مَنَعَهَا حَيْثُ لا عُذْرَ أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَل يُؤْخَذُ مَعَهَا نِصْفُ مَالهِ عُقُوبَةً لهُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ.
أحدهما: القَطْعُ بِأَنَّهُ لا يُؤْخَذُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الطَّرِيقِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالمَحَامِليُّ فِي كُتُبِهِ الثَّلاثَةِ، وَالمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ، وَآخَرُونَ، وَحَكَوْا الأَخْذَ عَنْ مَالكٍ، قِيل: وَليْسَ هُوَ مَذْهَبُهُ أَيْضًا.

 

ج / 5 ص -220-       وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ المَشْهُورُ: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ هُنَا وَالأَكْثَرُونَ: فِيهِ قَوْلانِ (الجَدِيدُ) لا يُؤْخَذُ (وَالقَدِيمُ) يُؤْخَذُ، وَذَكَرَ المُصَنِّفُ دَليلهُمَا، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لا يُؤْخَذُ، وَأَجَابُوا هُمْ وَالشَّافِعِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالآثَارِ عَنْ حَدِيثِ بَهْزَ بْنِ حَكِيمٍ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّهُ كَانَ حِينَ كَانَتْ العُقُوبَةُ بِالمَال كَمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وَهَذَا الجَوَابُ ضَعِيفٌ لوَجْهَيْنِ: أحدهما إنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ كَوْنِ العُقُوبَةِ كَانَتْ بِالأَمْوَال فِي أَوَّل الإِسْلامِ ليْسَ بِثَابِتٍ وَلا مَعْرُوفٍ. والثاني: أَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يُصَارُ إليْهِ إذَا عُلمَ التَّارِيخُ، وَليْسَ هُنَا عِلمٌ بِذَلكَ، وَالجَوَابُ الصَّحِيحُ: تَضْعِيفُ الحَدِيثِ، كَمَا سَبَقَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَأَبِي حَاتِمٍ وَاَللهُ أَعْلمُ.
الرابعة: إذَا مَنَعَ وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ الزَّكَاةَ وَامْتَنَعُوا بِالقِتَال، وَجَبَ عَلى الإِمَامِ قِتَالهُمْ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم اخْتَلفُوا أَوَّلًا فِي قِتَال مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قِتَالهُمْ وَاسْتَدَل عَليْهِمْ فَلمَّا ظَهَرَتْ لهُمْ الدَّلائِل وَافَقُوهُ فَصَارَ قِتَالهُمْ مُجْمَعًا عَليْهِ، وَقَدْ نَقَل المُصَنِّفُ فِي كِتَابِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ الأُصُوليِّينَ الاتِّفَاقَ عَلى أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلفُوا ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلى أَحَدِ القَوْليْنِ قَبْل أَنْ يَسْتَقِرَّ الخِلافُ كَانَ ذَلكَ إجْمَاعًا، وَمَثَّلوهُ بِقِصَّةِ خِلافِهِمْ لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه ثُمَّ إجْمَاعِهِمْ وَاَللهُ أَعْلمُ.

فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَتَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِهَا وَجَبَ الإِخْرَاجُ عَلى الفَوْرِ فَإِنْ أَخَّرَهَا أَثِمَ، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ العُلمَاءِ نَقَلهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ أَكْثَرِهِمْ، وَنَقَل أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عَلى التَّرَاخِي وَلهُ التَّأْخِيرُ قَال العَبْدَرِيُّ: اخْتَلفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا، فَقَال الكَرْخِيُّ: عَلى الفَوْرِ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: عَلى التَّرَاخِي. دَليلنَا قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]وَالأَمْر عِنْدَهُمْ عَلى الفَوْرِ، وَكَذَا عِنْدَ بَعْض أَصْحَابنَا. احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لمْ يُطَالبْ فَأَشْبَهَ غَيْرَ المُتَمَكِّنِ، قَال الأَصْحَابُ: يَجِبُ الفَرْقُ بَيْنَ التَّمَكُّنِ وَعَدَمِهِ، كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلاةِ.
فرع: إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا ثُمَّ مَاتَ لمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ عِنْدَنَا، بَل يَجِبُ إخْرَاجُهَا مِنْ مَالهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالحَسَنِ البَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ المُنْذِرِ وَدَاوُد. وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُليْمَانَ وَدَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ وَحُمَيْدٍ الطَّوِيل وَعُثْمَانَ البَتِّيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: إنْ أَوْصَى بِهَا أُخْرِجَتْ مِنْ مَالهِ كَسَائِرِ الوَصَايَا، وَإِنْ لمْ يُوصِ لمْ يَلزَمْ الوَرَثَةَ إخْرَاجُهَا، وَحُكِيَ عَنْ الليْثِ وَالأَوْزَاعِيِّ أَنَّهَا تُخْرَجُ مِنْ مَالهِ قَبْل الوَصَايَا بِحَيْثُ لا يَتَجَاوَزُ الثُّلثَ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَهْل الرَّأْيِ: تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ وَلا يَلزَمُ الوَرَثَةَ إخْرَاجُهَا؛ وَإِنْ أَخْرَجُوهَا فَصَدَقَةُ تَطَوُّعٍ إلا أَنْ يُوصَى بِهَا فَتُخْرَجُ، وَتَكُونُ مِنْ الثُّلثِ، فَإِنْ وَصَّى مَعَهَا بِوَصَايَا وَضَاقَ الثُّلثُ عَنْهَا مَعَ الوَصَايَا، قَال أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَالوَصَايَا سَوَاءٌ دَليلنَا قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم
"فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى"وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ شَرْطُهَا النِّيَّةُ فَسَقَطَتْ بِالمَوْتِ كَالصَّلاةِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا لا تَصِحُّ الوَصِيَّةُ بِالصَّلاةِ وَلا تَدْخُلهَا النِّيَابَةُ بِخِلافِ الزَّكَاةِ.

 

ج / 5 ص -221-       فرع: فِيمَنْ أَخْفَى مَالهُ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ ثُمَّ ظُهِرَ عَليْهِ1
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ وَلا يُؤْخَذُ شَطْرُ مَالهِ، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ قَال العَبْدَرِيُّ: وَبِهِ قَال أَكْثَرُ العُلمَاءِ، وَقَال أَحْمَدُ: تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ وَنِصْفُ مَالهِ عُقُوبَةً لهُ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لنَا كَمَا سَبَقَ.
فرع: إذَا مَضَتْ عَليْهِ سُنُونَ، وَلمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا لزِمَهُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْ جَمِيعِهَا سَوَاءٌ عَلمَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ أَمْ لا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الإِسْلامِ أَمْ دَارِ الحَرْبِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، قَال ابْنُ المُنْذِرِ: لوْ غَلبَ أَهْل البَغْيِ عَلى بَلدٍ وَلمْ يُؤَدِّ أَهْل ذَلكَ البَلدِ الزَّكَاةَ أَعْوَامًا، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِمْ الإِمَامُ أَخَذَ مِنْهُمْ زَكَاةَ المَاضِي فِي قَوْل مَالكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ. قَال: وَقَال أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لا زَكَاةَ عَليْهِمْ لمَا مَضَى. وَقَال أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لوْ أَسْلمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الحَرْبِ وَأَقَامُوا سِنِينَ ثُمَّ خَرَجُوا إلى دَارِ الإِسْلامِ لا زَكَاةَ عَليْهِمْ لمَا مَضَى. وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: قَال أَبُو عَاصِمٍ العَبَّادِيُّ فِي كِتَابِهِ الزِّيَادَاتِ: لوْ اسْتَقَرَّتْ عَليْهِ زَكَاةٌ ثُمَّ مَرِضَ وَلا مَال. فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ إنْ قَدَرَ وَلا يَقْتَرِضُ. وَقَال شَاذَانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: يَقْتَرِضُ لأَنَّ دَيْنَ اللهِ أَحَقُّ بِالقَضَاءِ. قَال: فَإِنْ اقْتَرَضَ وَدَفَعَ الزَّكَاةَ وَنَوَى الوَفَاءَ إذَا تَمَكَّنَ فَهُوَ مَعْذُورٌ بِالاتِّفَاقِ. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فعل ماضي مبني على مالم يسم فاعله فيضم اوله ويكسر ثانيه ويفتح ثالثه.