المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ
الْقَسْمُ هُنَا وَقَسْمُ الْفَيْءِ وَالْقَسْمُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ كُلُّهُ - بِفَتْحِ الْقَافِ - وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِسْمَةِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ"اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ" وأما: الْقِسْمُ - بِكَسْرِ الْقَافِ فَهُوَ النَّصِيبُ وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ وَجَمِيعُ شُرَّاحِ مُخْتَصَرِهِ وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي آخِرِ بَابِ رُبْعِ الْبُيُوعِ، مَقْرُونًا بِقَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَوَجْهُ ذِكْرِهِ هُنَاكَ أَنَّ الزَّكَاةَ تُشَارِكُ الْغَنِيمَةَ فِي أَنَّ الْإِمَامَ يَقْسِمُهَا بَعْدَ الْجَمْعِ، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ هُنَا مُتَّصِلًا بِكِتَابِ الزَّكَاةِ، وَتَابَعَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْجُرْجَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ، وَهُوَ أَحْسَنُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُفَرِّقَ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ بِنَفْسِهِ. وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ وَالرِّكَازُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحَرَّمِ:" هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ دَيْنٌ فَلْيَقْضِ دَيْنَهُ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ" وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يُفَرِّقُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ فَجَازَ أَنْ يُوَكِّلَ فِي أَدَائِهِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْفُقَرَاءِ. فَجَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ. وَفِي الْأَفْضَلِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُفَرِّقَ بِنَفْسِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَدَائِهِ. وَلَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَدَاءِ غَيْرِهِ. والثاني: أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْإِمَامِ عَادِلًا كَانَ أَوْ جَائِرًا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَالَ لِمَوْلًى لَهُ وَهُوَ عَلَى أَمْوَالِهِ بِالطَّائِفِ:"كَيْفَ تَصْنَعُ فِي صَدَقَةِ مَالِي؟ قَالَ: مِنْهَا مَا أَتَصَدَّقُ بِهِ، وَمِنْهَا مَا أَدْفَعُ إلَى السُّلْطَانِ. فَقَالَ: وَفِيمَ أَنْتَ مِنْ ذَاكَ؟ فَقَالَ: إنَّهُمْ يَشْتَرُونَ بِهَا الْأَرْضَ وَيَتَزَوَّجُونَ بِهَا النِّسَاءَ. فَقَالَ: ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ. فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا أَنْ نَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ" وَلِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْفُقَرَاءِ وَقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ عَادِلًا فَالدَّفْعُ إلَيْهِ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ

 

ج / 6 ص -86-         جَائِرًا فَتَفْرِقَتُهُ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ. لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم": فَمَنْ سَأَلَهَا عَلَى وَجْهِهَا1 فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهُ فَلَا يُعْطِهِ" وَلِأَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَدَائِهِ إلَى الْعَادِلِ. وَلَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَدَائِهِ إلَى الْجَائِرِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا صَرَفَهُ فِي شَهَوَاتِهِ. فَأَمَّا: الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ الْمَاشِيَةُ وَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعَادِنُ فَفِي زَكَاتِهَا قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجِبُ دَفْعُهَا إلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: من الآية103] وَلِأَنَّهُ مَالٌ لِلْإِمَامِ فِيهِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، فَوَجَبَ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَجَازَ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ كَزَكَاةِ الْمَالِ الْبَاطِنِ".
الشرح:
الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُثْمَانَ صَحِيحٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكَبِيرِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي بَابِ الدَّيْنِ مَعَ الصَّدَقَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطِيبًا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقْضِ دَيْنَهُ حَتَّى تَخْلُصَ أَمْوَالُكُمْ فَتُؤَدُّوا مِنْهَا الزَّكَاةَ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ عَنْ شُعَيْبٍ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْبَيْهَقِيّ هَذَا الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي صَحِيحِهِ هَكَذَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ فِي ذِكْرِ الْمِنْبَرِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ "الصحيحين" عَنْ الْبُخَارِيِّ كَمَا ذَكَرْتُهُ، وَمَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ بِهِ إثْبَاتُ الْمِنْبَرِ، وَكَأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَرَادَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى أَصْلَهُ لَا كُلَّهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ يَسِيرٌ، وَسَمَّى فِي رِوَايَتِهِ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: هُوَ هُنَيْدٌ يَعْنِي - بِضَمِّ الْهَاءِ. وَهُوَ هُنَيْدُ الثَّقَفِيُّ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ"فَمَنْ سُئِلَهَا عَلَى حَقِّهَا" فَهُوَ صَحِيحٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ غَيَّرَهُ هُنَا. وَفِي أَوَّلِ بَابِ صَدَقَةِ الْإِبِلِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ هُنَاكَ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، مِنْهَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:"جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إنَّ أُنَاسًا مِنْ الْمُصَدِّقِينَ يَأْتُونَنَا فَيَظْلِمُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ"2 رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه"أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا أَدَّيْتُ الزَّكَاةَ إلَى رَسُولِكَ فَقَدْ بَرِئْتُ مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إذَا أَدَّيْتَهَا إلَى رَسُولِي فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ: وَلَكَ أَجْرُهَا، وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ. وَعَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:"اجْتَمَعَ عِنْدِي نَفَقَةٌ فِيهَا صَدَقَةٌ - يَعْنِي بَلَغَتْ نِصَابَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ: فمن "سألها" بالبناء للمعلوم (ط).
2 وتتمة الخبر: "قال جرير: ما صدر عني مصدق منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو عني راض" هكذا أورده مسلم في باب إرضاء السعاة. وقد كان السعاة تحكمهم تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم وآداب يوجههم إليها فكان على الناس ألا يشاقوهم ولو ترك لكل واحد أن يدعي ظلما وقع عليه لاختل نظام جمع الزكاة ولما وصل شيء إلى المساكين. (ط).

 

ج / 6 ص -87-         الزَّكَاةِ - فَسَأَلْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَنْ أَقْسِمَهَا أَوْ أَدْفَعَهَا إلَى السُّلْطَانِ فَأَمَرُونِي جَمِيعًا أَنْ أَدْفَعَهَا إلَى السُّلْطَانِ مَا اخْتَلَفَ عَلَيَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ فَقُلْتُ لَهُمْ:"هَذَا السُّلْطَانُ يَفْعَلُ مَا تَرَوْنَ فَأَدْفَعُ إلَيْهِمْ زَكَاتِي؟ فَقَالُوا كُلُّهُمْ: نَعَمْ فَادْفَعْهَا" رَوَاهُمَا الْإِمَامُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي مُسْنَدِهِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ": سَيَأْتِيكُمْ رَكْبٌ مُبْغِضُونَ، فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهَا، وَأَرْضُوهُمْ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ وَلْيَدْعُوا لَكُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ مُخْتَلِفٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:"ادْفَعُوا صَدَقَاتِكُمْ إلَى مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ فَمَنْ بَرَّ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَثِمَ فَعَلَيْهَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ. وَعَنْ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادِ ابْنِ أَبِيهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ:"ادْفَعُوا إلَيْهِمْ وَإِنْ شَرِبُوا بِهَا الْخَمْرَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَيْنَا فِي هَذَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم.
وَمِمَّا جَاءَ فِي تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ وَاسْمُهُ كَيْسَانُ قَالَ:"جِئْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي قَالَ: وَقَدْ عَتَقْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ بِهَا أَنْتَ فَاقْسِمْهَا" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ فَاحْتَرَزَ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مَالٌ لِلْإِمَامِ فِيهِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ احْتِرَازٌ مِنْ دَيْنِ الْآدَمِيِّ.
أما أحكام الفصل، فَفِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: لِلْمَالِكِ أَنْ يُفَرِّقَ زَكَاةَ مَالِهِ الْبَاطِنِ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا فِيهِ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ هِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالرِّكَازُ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ، وَفِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَجْهٌ أَنَّهَا مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، حَكَاهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَجَمَاعَةٌ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي عَنْ الْأَصْحَابِ ثُمَّ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَنَّهَا بَاطِنَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْبَغَوِيُّ وَخَلَائِقُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، ذَكَرَ أَكْثَرُهُمْ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا كَانَتْ عُرُوضُ التِّجَارَةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً، لِكَوْنِهَا لَا تُعْرَفُ لِلتِّجَارَةِ أَمْ لَا، فَإِنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِشُرُوطٍ سَبَقَتْ فِي بَابِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ الزُّرُوعُ وَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارُ وَالْمَعَادِنُ فَفِي جَوَازِ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: وَهُوَ الْجَدِيدُ جَوَازُهُ، (وَالْقَدِيمُ) مَنْعُهُ وَوُجُوبُ دَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا أَوْ جَائِرًا يَجِبُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْجَوْرِ نَافِذُ الْحُكْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الصَّرْفُ إلَيْهِ إنْ كَانَ جَائِرًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَكِنْ يَجُوزُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْجَائِرِ مُطْلَقًا وَبِهَذَا الْوَجْهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي آخِرِ بَابِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ، قَالَ: وَسَوَاءٌ كَانَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، أَوْ جَائِرًا فِيهَا، يَصْرِفُهَا فِي غَيْرِ مَصَارِفِهَا عَادِلًا فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا بَلْ غَلَطٌ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَكَذَا الْوَجْهُ الَّذِي حَكَاهُ الْبَغَوِيّ ضَعِيفٌ أَيْضًا. قَالَ

 

ج / 6 ص -88-         أَصْحَابُنَا: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْقَدِيمِ لَوْ فَرَّقَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَعَلَيْهِ دَفْعُهَا ثَانِيًا إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ بِهَا مَجِيءَ السَّاعِي وَيُؤَخِّرَهَا مَا دَامَ يَرْجُوهُ، فَإِذَا أَيِسَ مِنْهُ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ وَأَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ.
الثانية: لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي صَرْفِ الزَّكَاةِ الَّتِي لَهُ تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ شَاءَ وَكَّلَ فِي الدَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ وَالسَّاعِي، وَإِنْ شَاءَ فِي التَّفْرِقَةِ عَلَى الْأَصْنَافِ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ قَضَاءَ الدُّيُونِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى الْوَكَالَةِ لِغَيْبَةِ الْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: سَوَاءٌ وَكَّلَهُ فِي دَفْعِهَا مِنْ مَالِ الْمُوَكَّلِ أَوْ مِنْ مَالِ الْوَكِيلِ فَهُمَا جَائِزَانِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الْبَغَوِيّ فِي أَوَّلِ بَابِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ، كَمَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِي ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ.
الثالثة: لَهُ صَرْفُهَا إلَى الْإِمَامِ وَالسَّاعِي، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا أَجْزَأَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَفِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ عَنْ الْحَنَّاطِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ.
الرابعة: فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: تَفْرِيقُهُ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّوْكِيلِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ تَفْرِيقِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ خِيَانَةِ الْوَكِيلِ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ، فَمَا لَمْ يَصِلْ الْمَالُ إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَالِكِ، بِخِلَافِ دَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهُ بِمُجَرَّدِ قَبْضِهِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْ الْمَالِكِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَكَذَا الدَّفْعُ إلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ التَّوْكِيلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بِنَفْسِهِ وَالدَّفْعُ إلَى الْإِمَامِ فَفِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ بَاطِنَةً وَالْإِمَامُ عَادِلًا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أصحهما: عِنْدَ الْجُمْهُورِ الدَّفْعُ إلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِهِ بِخِلَافِ تَفْرِيقِهِ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ يُصَادِفُ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ أَعْرَفُ بِالْمُسْتَحَقِّينَ وَبِالْمَصَالِحِ وَبِقَدْرِ الْحَاجَاتِ وَبِمَنْ أَخَذَ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يُقْصَدُ لَهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ. قَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَكَذَا قَالَهُ آخَرُونَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ. والثاني: تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ[أَفْضَلُ] وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ يَعْنِي قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَأُحِبُّ أَنْ يَتَوَلَّى الرَّجُلُ قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا عَنْهُ. هَذَا نَصُّهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَتَأَوَّلَهُ الْأَكْثَرُونَ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْوَكِيلِ لَا مِنْ الدَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ، وَتَعْلِيلُهُ يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهَا عَنْهُ يَحْصُلُ بِيَقِينٍ بِمُجَرَّدِ الدَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ وَإِنْ جَارَ فِيهَا لَا إلَى الْوَكِيلِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ:
أحدهما: الدَّفْعُ إلَيْهِ أَفْضَلُ لِمَا سَبَقَ وَأَصَحُّهُمَا: التَّفْرِيقُ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الزَّكَاةِ.

 

ج / 6 ص -89-         هَكَذَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ. وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ فَظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهَا عَلَى الْخِلَافِ إذَا جَوَّزْنَا لَهُ تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ دَفْعَهَا إلَى الْأَمَامِ أَفْضَلُ وَجْهًا وَاحِدًا لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ فِي الْأَفْضَلِ أَوْجُهٌ: أصحها أَنَّ دَفْعَهَا إلَى الْأَمَامِ أَفْضَلُ إنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً مُطْلَقًا أَوْ بَاطِنَةً وَهُوَ عَادِلٌ، وَإِلَّا فَتَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ. والثاني: بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا. والثالث: الدَّفْعُ إلَيْهِ مُطْلَقًا. (وَالرَّابِعُ) الدَّفْعُ إلَى الْعَادِلِ أَفْضَلُ، وَبِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْجَائِرِ. وَالْخَامِسُ: فِي الظَّاهِرِ الدَّفْعُ أَفْضَلُ وَالْبَاطِنَةُ بِنَفْسِهِ. وَالسَّادِسُ: لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْجَائِرِ.
فرع: قَالَ الرَّافِعِيُّ حِكَايَةً عَنْ الْأَصْحَابِ: لَوْ طَلَبَ الْإِمَامُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَجَبَ التَّسْلِيمُ إلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ بَذْلًا لِلطَّاعَةِ، فَإِنْ امْتَنَعُوا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ، وَإِنْ كَانُوا مُجِيبِينَ إلَى إخْرَاجِهَا بِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِهِمْ افْتِيَاتًا عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ الْإِمَامُ وَلَمْ يَأْتِ السَّاعِي وَقُلْنَا: يَجِبُ دَفْعُهَا إلَى الْإِمَامِ أَخَّرَهَا رَبُّ الْمَالِ مَا دَامَ يَرْجُو مَجِيءَ السَّاعِي، فَإِذَا أَيِسَ مِنْهُ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ صِيَانَةً لِحَقِّ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنْ التَّأْخِيرِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ إذَا فَرَّقَ بِنَفْسِهِ وَجَاءَ السَّاعِي مُطَالِبًا صَدَّقَ رَبَّ الْمَالِ فِي إخْرَاجِهَا بِيَمِينِهِ، وَالْيَمِينُ مُسْتَحَبَّةٌ وَقِيلَ: وَاجِبَةٌ.
وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ لِلْوُلَاةِ نَظَرٌ فِي زَكَاتِهَا، بَلْ أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ أَحَقُّ بِتَفْرِقَتِهَا. فَإِنْ بَذَلُوهَا طَوْعًا قَبِلَهَا الْإِمَامُ مِنْهُمْ. فَإِنْ عَلِمَ إمَامٌ مِنْ رَجُلٍ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إمَّا أَنْ تُفَرِّقَهَا بِنَفْسِكَ وَإِمَّا أَنْ تَدْفَعَهَا إلَيَّ لِأُفَرِّقَهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِي النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ. قُلْتُ: أصحهما: لَهُ الْمُطَالَبَةُ، بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُطَالَبَةُ كَمَا يَلْزَمُهُ إزَالَةُ الْمُنْكَرَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ طَلَبَ السَّاعِي زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ لَا يَجِبُ دَفْعُ الزِّيَادَةِ إلَيْهِ وَهَلْ يَجُوزُ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ لِتَعَدِّيهِ أَمْ لَا خَوْفًا مِنْ مُخَالَفَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أصحهما: الثَّانِي، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ بَابِ صَدَقَةِ الْإِبِلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ السُّعَاةَ لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا يَبْعَثُونَ السُّعَاةَ" وَلِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الْمَالَ وَلَا يَعْرِفُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْخَلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَأْخُذُ، وَلَا يَبْعَثُ إلَّا حُرًّا عَدْلًا ثِقَةً؛ لِأَنَّ هَذَا وِلَايَةٌ وَأَمَانَةٌ. وَالْعَبْدُ وَالْفَاسِقُ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَالْأَمَانَةِ. وَلَا يَبْعَثُ إلَّا فَقِيهًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا يُؤْخَذُ وَمَا لَا يُؤْخَذُ وَيَحْتَاجُ إلَى الِاجْتِهَادِ فِيمَا يَعْرِضُ مِنْ مَسَائِلِ الزَّكَاةِ وَأَحْكَامِهَا. وَلَا يَبْعَثُ هَاشِمِيًّا وَلَا مُطَّلِبِيًّا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا رُوِيَ"أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ رضي الله عنهما سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوَلِّيَهُ الْعَمَالَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمْ يُوَلِّهِ. وَقَالَ: أَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ؟" وَفِي مَوَالِيهِمْ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَجُوزُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ قَالَ:"وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ بَنِي

 

ج / 6 ص -90-         مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ: اتْبَعْنِي تُصِبْ مِنْهَا. فَقُلْتُ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي: إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ". والثاني: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لِلشَّرَفِ بِالنَّسَبِ. وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي مَوَالِيهِمْ. وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْعَامِلَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ ثُمَّ يُعْطِيهِ ذَلِكَ مِنْ الزَّكَاةِ. وَبَيْنَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ثُمَّ يُعْطِيهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ الزَّكَاةِ".
الشرح:
أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ وَهُوَ بَعْثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَحِيحٌ مَشْهُورٌ مُسْتَفِيضٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الصَّدَقَةِ "وَفِي "الصحيحين" عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ" وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَأَمَّا حَدِيثُ الْفَضْلِ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ:"أَتَيْتُ أَنَا وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّيَ إلَيْهِ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَنُصِيبُ كَمَا يُصِيبُونَ، فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا": إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ" وَلَيْسَ فِي صَحِيحِهِ": أَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ؟" أَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ:"لَا يَبْعَثُ إلَّا حُرًّا عَدْلًا ثِقَةً" لَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ: ثِقَةً؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَكُونُ إلَّا ثِقَةً.
وَقَوْلُهُ:"رُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ" يُنْكَرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: رُوِيَ بِصِيغَةِ تَمْرِيضٍ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَنْ أَمْثَالِ هَذَا، وَالْغَرَضُ بِتَكْرَارِهِ التَّأْكِيدُ فِي تَحَفُّظِهِ، وَقَوْلُهُ:"يُوَلِّيهِ الْعَمَالَةَ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَهِيَ الْعَمَلُ. وَأَمَّا بِضَمِّهَا فَهِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ:
 إحداها: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ بَعْثُ السُّعَاةِ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالسُّعَاةُ جَمْعُ سَاعٍ وَهُوَ الْعَامِلُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ كَوْنُهُ مُسْلِمًا حُرًّا عَدْلًا فَقِيهًا فِي أَبْوَابِ الزَّكَاةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِقْهُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا إذَا كَانَ التَّفْوِيضُ لِلْعَامِلِ عَامًّا فِي الصَّدَقَاتِ، فَأَمَّا إذَا عَيَّنَ لَهُ الْإِمَامُ شَيْئًا مُعَيَّنًا يَأْخُذُهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْفِقْهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: وَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّهُ رِسَالَةٌ لَا وِلَايَةٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ مُشْكِلٌ وَالْمُخْتَارُ اشْتِرَاطُهُ.
الثانية: هَلْ يَجُوزُ كَوْنُ الْعَامِلِ هَاشِمِيًّا أَوْ مُطَّلِبِيًّا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْبَغَوِيِّ وَجُمْهُورِ الْأَصْحَابِ لَا يَجُوزُ قَالَ أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُّونَ: هَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِلُ أُجْرَةً أَوْ صَدَقَةً، وَفِيهِ وَجْهَانِ إنْ قُلْنَا: أُجْرَةً جَازَ وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ يُشْبِهُ الْإِجَارَةَ مِنْ حَيْثُ التَّقْدِيرُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَيُشْبِهُ الصَّدَقَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، وَلَا مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ، وَلَا عَمَلٌ مَعْلُومٌ.

 

ج / 6 ص -91-         قَالَ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ: وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ كَانَ الْعَامِلُ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، وَهُمْ الْمُرْتَزِقَةُ الَّذِينَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الدِّيوَانِ، قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْأَصْحَابُ: وَالْوَجْهَانِ فِي الْهَاشِمِيِّ وَالْمُطَّلِبِيِّ هُمَا فِيمَنْ طَلَبَ عَلَى عَمَلِهِ سَهْمًا مِنْ الزَّكَاةِ. فَأَمَّا إذَا تَبَرَّعَ بِعَمَلِهِ بِلَا عِوَضٍ أَوْ دَفَعَ الْإِمَامُ إلَيْهِ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ هَاشِمِيًّا أَوْ مُطَّلِبِيًّا بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: يَجُوزُ كَوْنُهُ هَاشِمِيًّا وَمُطَّلِبِيًّا إذًا أَعْطَاهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ.
الثالثة: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مِنْ مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أصحهما: لَا يَجُوزُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ هَاشِمِيًّا وَلَا مُطَّلِبِيًّا، فَأَمَّا إذَا جَوَّزْنَاهُ فَمَوْلَاهُمْ أَوْلَى قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ قَوْلَيْنِ.
الرابعة: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَعَثَ الْعَامِلَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَأَعْطَاهُ بَعْدَ مَجِيئِهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْجَرَهُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ الزَّكَاةِ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ. أَمَّا: الْأَوَّلُ فَلِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ لِجَهَالَةِ الْعَمَلِ فَتُؤَخَّرُ الْأُجْرَةُ حَتَّى يُعْرَفَ عَمَلُهُ فَيُعْطَى بِقَدْرِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْقِيَاسُ وَالْأَصْلُ وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا سَمَّى لَهُ شَيْئًا فَإِنْ شَاءَ سَمَّاهُ إجَارَةً، وَإِنْ شَاءَ جُعَالَةً، وَلَا يُسَمِّي أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِنْ زَادَ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الدَّارِمِيُّ: أصحهما: تَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ الزَّكَاةِ. والثاني: لَا تَفْسُدُ، بَلْ يَكُونُ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ الزَّكَاةِ وَالْبَاقِي يَجِبُ فِي مَالِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ صَحِيحُ الْعِبَارَةِ وَالِالْتِزَامِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَبْعَثُ لِمَا سِوَى زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فِي الْمُحَرَّمِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحَرَّمِ:"هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ"؛ وَلِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ فَكَانَ الْبَعْثُ فِيهِ أَوْلَى. وَالْمُسْتَحَبُّ لِلسَّاعِي أَنْ يَعُدَّ الْمَاشِيَةَ[عَلَى أَهْلِهَا] عَلَى الْمَاءِ إنْ كَانَتْ الْمَاشِيَةُ تَرِدُ الْمَاءَ. وَفِي أَفْنِيَتِهِمْ إنْ لَمْ تَرِدْ الْمَاءَ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مِيَاهِهِمْ أَوْ عِنْدَ أَفْنِيَتِهِمْ" فَإِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِالْعَدَدِ وَهُوَ ثِقَةٌ قُبِلَ مِنْهُ. وَإِنْ بَذَلَ لَهُ الزَّكَاةَ أَخَذَهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَا لَهُ؛ لقوله تعالى": {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: من الآية103]، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى"قَالَ: جَاءَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ مَالِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى"وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا جَازَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه أُحِبُّ أَنْ يَقُولَ:"آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ" وَإِنْ تَرَكَ الدُّعَاءَ جَازَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ": أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ" وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالدُّعَاءِ".
الشرح:
حَدِيثُ عُثْمَانَ سَبَقَ قَرِيبًا، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ، وأما: لَفْظُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فَفِيهَا"لَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إلَّا فِي دُورِهِمْ" وَقَوْلُهُ: فِي رِوَايَةِ الْكِتَابِ"عِنْدَ مِيَاهِهِمْ أَوْ عِنْدَ أَفْنِيَتِهِمْ".  قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ شَكٌّ مِنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ

 

ج / 6 ص -92-         أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ": تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عَلَى مِيَاهِهِمْ وَبِأَفْنِيَتِهِمْ"وَيُحْتَمَلُ أَنَّ"أَوْ" فِي رِوَايَةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ لِلشَّكِّ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ بَلْ لِلتَّقْسِيمِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَتْ تَرِدُ الْمَاءَ فَعَلَى الْمَاءِ، وَإِلَّا فَعِنْدَ دُورِهِمْ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ مُعَاذٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ. وَقَوْلُهُ: أَفْنِيَتُهُمْ جَمْعُ فِنَاءٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَبِالْمَدِّ - وَهُوَ مَا امْتَدَّ مَعَ جَوَانِبِ الدَّارِ وقوله تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ}أَيْ تُطَهِّرُهُمْ بِهَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ"تُطَهِّرُهُمْ" بِرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لَا جَوَابٌ، وَقُرِئَ فِي غَيْرِ السَّبْعِ بِالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ. وقوله تعالى {وَتُزَكِّيهِمْ} قِيلَ: تُصْلِحُهُمْ، وَقِيلَ: تَرْفَعُهُمْ مِنْ مَنَازِلِ الْمُنَافِقِينَ إلَى مَنَازِلِ الْمُخْلِصِينَ، وَقِيلَ: تُنَمِّي أَمْوَالَهُمْ"وَصَلِّ عَلَيْهِمْ" أَيْ اُدْعُ لَهُمْ، وَقُرِئَ فِي السَّبْعِ إنَّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَإِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أَيْ رَحْمَةٌ، وَقِيلَ: طُمَأْنِينَةٌ، وَقِيلَ: وَقَارٌ، وَقِيلَ: تَثْبِيتٌ. وَاسْمُ أَبِي أَوْفَى: عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ كُنْيَةُ ابْنِهِ: عَبْدُ اللَّهِ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَيُقَالُ: أَبُو إبْرَاهِيمَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَأَبُو أَوْفَى وَابْنُهُ صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ مَشْهُورَانِ، وَشَهِدَ ابْنُهُ بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ، وَفِي سَنَةِ سِتٍّ، وَقِيلَ: سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ رضي الله عنه. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
وَقَوْلُهُ: "آجَرَكَ اللَّهُ" فِيهِ لُغَتَانِ: قَصْرُ الْهَمْزَةِ وَمَدُّهَا، وَالْقَصْرُ أَجْوَدُ، وَطَهُورًا - بِفَتْحِ الطَّاءِ - أَيْ مُطَهَّرًا، وَقَوْلُهُ: "آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ" أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ فِي التَّنْبِيهِ فَإِنَّهُ وَسَطُ قَوْلِهِ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ وَتَأْخِيرُهُ أَوْلَى لِتَكُونَ الدَّعْوَتَانِ الْأُولَتَانِ اللَّتَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ الْمُتَعَلِّقَتَانِ بِالْمَدْفُوعِ مُتَّصِلَتَيْنِ، وَلَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إحداها: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَمْوَالُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْلِ وَهُوَ الْمُعَشَّرَاتُ فَيَبْعَثُ الْإِمَامُ السَّاعِي لَأَخْذِ زَكَوَاتِهَا وَقْتَ وُجُوبِهَا، وَهُوَ إدْرَاكُهَا بِحَيْثُ يَصِلُهُمْ وَقْتَ الْجِزَازِ وَالْحَصَادِ، وَضَرْبٌ
 يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْلِ وَهُوَ الْمَوَاشِي وَغَيْرُهَا، فَالْحَوْلُ يَخْتَلِفُ فِي حَقِّ النَّاسِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَالْأَصْحَابُ: يَنْبَغِي لِلسَّاعِي أَنْ يُعَيِّنَ شَهْرًا يَأْتِيهِمْ فِيهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّهْرُ هُوَ الْمُحَرَّمُ صَيْفًا كَانَ أَوْ شِتَاءً؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ، قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِمْ قَبْلَ الْمُحَرَّمِ لِيَصِلَهُمْ فِي أَوَّلِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْيِينِ الشَّهْرِ مُسْتَحَبٌّ وَمَتَى خَرَجَ جَازَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.
الثانية: يُسْتَحَبُّ لِلسَّاعِي عَدُّ الْمَاشِيَةِ عَلَى الْمَاءِ إنْ كَانَتْ تَرِدُهُ، وَإِلَّا فَعِنْدَ أَفْنِيَتِهِمْ، وَلَا يُكَلِّفُهُمْ رَدَّهَا مِنْ الْمَاءِ إلَى الْأَفْنِيَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتْبَعَهَا فِي الْمَرَاعِي فَإِنْ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ مَاشِيَتَانِ عِنْدَ مَاءَيْنِ أُمِرَ بِجَمْعِهِمَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَرِدُ مَاءً لَكِنَّهَا تَكْتَفِي بِالْكَلَأِ فِي الرَّبِيعِ وَلَا تَحْضُرُ الْأَفْنِيَةَ، فَلِلسَّاعِي أَنْ يُكَلِّفَهُمْ إحْضَارَهَا إلَى الْأَفْنِيَةِ صَرَّحَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ

 

ج / 6 ص -93-         خَرَجَ إلَيْهَا كَانَ أَفْضَلَ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا أَخْبَرَهُ صَاحِبُهَا بِعَدَدِهَا وَهُوَ ثِقَةٌ، فَلَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ أَوْ لَمْ يَخْتَبِرْهُ أَوْ اخْتَبَرَهُ وَصَدَّقَهُ وَأَرَادَ الِاحْتِيَاطَ بَعْدَهَا عَدَّهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ تُجْمَعَ فِي حَظِيرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَيُنْصَبَ عَلَى الْبَابِ خَشَبَةً مُعْتَرِضَةً، وَتُسَاقَ لِتَخْرُجَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَيُثَبِّتُ كُلَّ شَاةٍ إذَا بَلَغْتِ الْمَضِيقَ، فَيَقِفُ الْمَالِكُ أَوْ نَائِبُهُ مِنْ جَانِبٍ، وَالسَّاعِي أَوْ نَائِبُهُ مِنْ جَانِبٍ، وَبِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضِيبٌ يُشِيرُ بِهِ إلَى كُلِّ شَاةٍ أَوْ يُصِيبَانِ بِهِ ظَهْرَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ أَضْبَطُ فَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْعَدِّ وَكَانَ الْفَرْضُ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ أَعَادَ الْعَدَّ.
الثالثة: إذَا أَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمَالِكِ؛ لِلْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ دُعَاءٌ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ مَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الدُّعَاءُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: إنْ لَمْ يَسْأَلْهُ الْمَالِكُ الدُّعَاءَ لَمْ يَجِبْ، وَإِنْ سَأَلَهُ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَنْدُبُ وَلَا يَجِبُ، وَالثَّانِي: يَجِبُ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ مُطْلَقًا؛ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَلِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ، فَحَقَّ عَلَى الْوَالِي إذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، وَيُجِيبَ هَذَا الْقَائِلَ عَنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ بِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ، وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ لَهُ، كَمَا لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُصُبَ الزَّكَاةِ لِكَوْنِهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ دَاوُد وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَوَافَقُونَا عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَلْزَمُهُمْ الدُّعَاءُ، فَحَمَلَ الْأَصْحَابُ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ وَكَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ قِيَاسًا عَلَى أَخْذِ الْفُقَرَاءِ.
وَأَمَّا إذَا دَفَعَ الْمَالِكُ إلَى الْأَصْنَافِ دُونَ السَّاعِي، فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ [يُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يَدْعُوا لَهُ كَمَا] يُسْتَحَبُّ لِلسَّاعِي، وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَأَمَّا صِفَةُ الدُّعَاءِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى هَذَا صَاحِبُ الْبَيَانِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: إنْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ، فَلَا بَأْسَ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ وَخِلَافُ مَا قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، فَقَدْ صَرَّحَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ ابْتِدَاءً فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ تَبَعًا فَيُقَالُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ابْتِدَاءً، وَمُقْتَضَى عِبَارَتِهِ التَّحْرِيمُ، وَالْمَشْهُورُ الْكَرَاهَةُ، وَقِيلَ: إنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَا يُسَمَّى مَكْرُوهًا فَحَصَلَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أصحها مَكْرُوهٌ، والثاني: حَرَامٌ، والثالث: خِلَافُ الْأَوْلَى، وَالرَّابِعِ: مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ مَنْ أَخَذَ الصَّدَقَةَ، وَقَدْ جَمَعَ الرَّافِعِيُّ كَلَامَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ فِيهِ وَلَخَصَّهُ فَقَالَ: قَالَ الْأَئِمَّةُ لَا يُقَالُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى فُلَانٍ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ صَارَتْ مَخْصُوصَةً فِي لِسَانِ السَّلَفِ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ قَوْلَنَا: عَزَّ وَجَلَّ، مَخْصُوصٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَكَمَا لَا يُقَالُ: مُحَمَّدٌ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا جَلِيلًا، لَا يُقَالُ: أَبُو بَكْرٍ أَوْ عَلِيٌّ صلى الله عليهما وسلم وَإِنْ صَحَّ الْمَعْنَى، قَالُوا: وَإِنَّمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ مَنْصِبُهُ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِمَنْ شَاءَ بِخِلَافِنَا، قَالَ: وَهَلْ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَمْ مُجَرَّدُ تَرْكِ أَدَبٍ؟ فِيهِ

 

ج / 6 ص -94-         وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ: الْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ،
وَوَجْهُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ، وَقَدْ ثَبَتَ نَهْيٌ مَقْصُودٌ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْبِدَعِ وَقَدْ صَارَ هَذَا شِعَارًا لَهُمْ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الصَّيْدَلَانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ فِي الْوَجِيزِ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى. وَصَرَّحَ صَاحِبُ الْعِدَّةِ بِنَفْيِ الْكَرَاهَةِ. وَقَالَ: الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ تَجُوزُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. أَمَّا بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ فَتَخْتَصُّ بِالْأَنْبِيَاءِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا لَهُمْ، فَيُقَالُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ اسْتَعْمَلُوهُ وَأُمِرْنَا بِهِ فِي التَّشَهُّدِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالسَّلَامُ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بَيْنَهُمَا فَلَا يُفْرَدُ بِهِ غَائِبٌ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُقَالُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. هَكَذَا قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَسْنُونِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ فِي الْمُخَاطَبَةِ بِخِلَافِ الْغَيْبَةِ. وَأَمَّا اسْتِحْبَابُهُ فِي الْمُخَاطَبَةِ فَمَعْرُوفٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ التَّرَضِّي وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَسَائِرِ الْأَخْيَارِ فَيُقَالُ: رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْ رَحِمَهُ اللَّه وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ قَوْلَ رضي الله عنه عَنْهُ مَخْصُوصٌ بِالصَّحَابَةِ، وَيُقَالُ فِي غَيْرِهِمْ: رحمه الله فَقَطْ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَلَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ، بَلْ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ اسْتِحْبَابُهُ، وَدَلَائِلُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، فَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ صَحَابِيًّا ابْنَ صَحَابِيٍّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَذَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ جَعْفَرٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَنَحْوُهُمْ لِيَشْمَلَهُ وَأَبَاهُ جَمِيعًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ أَوْ غَلَّ أُخِذَ مِنْهُ الْفَرْضُ وَعَزَّرَهُ عَلَى الْمَنْعِ وَالْغُلُولِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَأْخُذُ الزَّكَاةَ وَشَطْرَ مَالِهِ، وَمَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي أَوَّلِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ وَصَلَ السَّاعِي قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَرَأَى أَنْ يَسْتَسْلِفَ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّفْهُ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بَعْدُ فَلَا تُجْبِرُهُ عَلَى أَدَائِهِ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبِضُهُ إذَا حَالَ الْحَوْلُ فَعَلَ، فَإِنْ رَأَى أَنْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ مِنْ زَكَاةِ الْقَابِلِ فَعَلَ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ رَأَى تَحْلِيفَهُ حَلَّفَهُ احْتِيَاطًا، وَإِنْ قَالَ: بِعْتُهُ ثُمَّ اشْتَرَيْتُهُ وَلَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ عَلَيْهِ. أَوْ قَالَ: أَخْرَجْتُ الزَّكَاةَ عَنْهُ وَقُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بِنَفْسِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَجِبُ تَحْلِيفُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ أُخِذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ. والثاني: يُسْتَحَبُّ تَحْلِيفُهُ وَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الرِّفْقِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْيَمِينَ خَرَجَتْ عَنْ بَابِ الرِّفْقِ وَيُبْعَثُ السَّاعِي لِزَكَاةِ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُصَادِفُ فِيهِ الْإِدْرَاكَ وَيَبْعَثُ مَعَهُ مَنْ يَخْرُصُ الثِّمَارَ، فَإِنْ وَصَلَ قَبْلَ وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَرَأَى أَنْ يَخْرُصَ الثِّمَارَ وَيَضْمَنَ رَبُّ الْمَالِ زَكَاتَهَا فَعَلَ، وَإِنْ وَصَلَ وَقَدْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَبَذَلَ لَهُ أَخَذَهَا وَدَعَا لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَذِنَ لِلسَّاعِي فِي تَفْرِيقِهَا فَرَّقَهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ حَمَلَهَا إلَى الْإِمَامِ".
الشرح:
فِيهِ مَسَائِلُ:

 

ج / 6 ص -95-         إحداها: إذَا لَزِمَتْهُ زَكَاةٌ فَمَنَعَهَا أَوْ غَلَّهَا أَيْ كَتَمَهَا وَخَانَ فِيهَا أَخَذَ الْإِمَامُ أَوْ السَّاعِي الْفَرْضَ مِنْهُ، وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ شَطْرَ مَالِهِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ يَأْخُذُهُ، وَسَبَقَ شَرْحُ الْقَوْلَيْنِ بِدَلِيلَيْهِمَا وَفُرُوعِهِمَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ فِي آخِرِ بَابِ صَدَقَةِ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ: وَلَوْ غَلَّ صَدَقَتَهُ عُزِّرَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْجَهَالَةَ وَلَا يُعَزَّرُ إنْ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ عَادِلًا هَذَا نَصُّهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَتَمَ مَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ عَنْ السَّاعِي أَوْ الْإِمَامِ ثُمَّ اُطُّلِعَ عَلَيْهِ أُخِذَ فَرْضُهُ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ السَّاعِي جَائِرًا فِي الزِّيَادَةِ، بِأَنْ يَأْخُذَ فَوْقَ الْوَاجِبِ أَوْ لَا يَصْرِفُهَا مَصَارِفَهَا لَمْ يُعَزِّرْهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي كَتْمِهِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فَلَمْ يَدَّعِ الْمَالِكُ شُبْهَةً فِي الْإِخْفَاءِ عَزَّرَهُ؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ آثِمٌ بِكِتْمَانِهِ، وَإِنْ ادَّعَى شُبْهَةً بِأَنْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ تَحْرِيمَ كِتْمَانِهَا، أَوْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّ تَفْرِقَتِي بِنَفْسِي أَفْضَلُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ، مُحْتَمَلًا فِي حَقِّهِ لِقُرْبِ إسْلَامِهِ أَوْ لِقِلَّةِ اخْتِلَاطِهِ بِالْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ لَمْ يُعَزِّرْهُ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: فَإِنْ اتَّهَمَهُ فِيهِ حَلَّفَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ لِاخْتِلَاطِهِ بِالْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَعَزَّرَهُ، وَأَمَّا مَانِعُ الزَّكَاةِ فَيُعَزَّرُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، يَخْفَى عَلَيْهِ وُجُوبُهَا أَوْ نَحْوُهُ.
الثَّانِيَةُ: إذَا وَصَلَ السَّاعِي أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ , فَإِنْ كَانَ حَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ قَدْ تَمَّ أَخَذَ الزَّكَاةَ وَدَعَا لَهُ كَمَا سَبَقَ . وَإِنْ كَانَ الْحَوْلُ لَمْ يَتِمَّ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ سَأَلَهُ السَّاعِي تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ , وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَالِكِ إجَابَتُهُ وَتَعْجِيلُهَا , فَإِنْ عَجَّلَهَا بِرِضَاهُ أَخَذَهَا وَدَعَا لَهُ وَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ ; لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ , ثُمَّ إنْ رَأَى السَّاعِي الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَأْخُذُهَا عِنْدَ حُلُولِهَا وَيُفَرِّقُهَا عَلَى أَهْلِهَا فَعَلَ , وَإِنْ رَأَى أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِيَأْخُذَهَا مِنْهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَعَلَ , وَيَكْتُبُهَا لِئَلَّا يَنْسَاهَا أَوْ يَمُوتَ فَلَا يَعْلَمُهَا السَّاعِي بَعْدَهُ . وَرَوَوْا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه " أَخَّرَ الزَّكَاةَ عَامَ الرَّمَادَةِ وَكَانَ عَامَ مَجَاعَةٍ " وَإِنْ رَأَى أَنْ يَرْجِعَ فِي وَقْتِ حُلُولِهَا لِيَأْخُذَهَا فَعَلَ , وَإِنْ وَثِقَ بِصَاحِبِ الْمَالِ فَوَّضَ التَّفْرِيقَ إلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ بِغَيْرِ إذْنٍ فَبِالْإِذْنِ أَوْلَى .
الثالثة: إذَا اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ قَوْلُ الْمَالِكِ لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ بِأَنْ قَالَ: لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ بَعْدُ، أَوْ قَالَ: هَذِهِ السِّخَالُ اشْتَرَيْتُهَا، وَقَالَ السَّاعِي: بَلْ تَوَلَّدَتْ مِنْ النِّصَابِ، أَوْ قَالَ: تَوَلَّدَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ، فَقَالَ السَّاعِي: قَبْلَهُ. أَوْ قَالَ السَّاعِي: كَانَتْ مَاشِيَتُكَ نِصَابًا ثُمَّ تَوَالَدَتْ، فَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ تَمَّتْ نِصَابًا بِالتَّوَالُدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَنَظَائِرِهَا مِمَّا لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ فَإِنْ رَأَى السَّاعِي تَحْلِيفَهُ حَلَّفَهُ. وَالْيَمِينُ هُنَا مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهَا لَمْ يُكَلَّفْ بِهَا وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ وَلَمْ يُعَارِضْ الْأَصْلَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمَالِكِ مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُهُ ثُمَّ اشْتَرَيْتُهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَلَمْ يَحُلْ حَوْلُهُ بَعْدُ، أَوْ قَالَ: فَرَّقْتُ الزَّكَاةَ بِنَفْسِي وَجَوَّزْنَا ذَلِكَ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ بِيَمِينِهِ بِلَا خِلَافٍ. وَهَلْ الْيَمِينُ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ وَاجِبَةٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلَيْهِمَا أصحهما: مُسْتَحَبَّةٌ، وَصَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَآخَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمُقْنِعِ. وَإِنْ قُلْنَا: مُسْتَحَبَّةٌ فَنَكَلَ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْيَمِينِ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: وَاجِبَةٌ، فَامْتَنَعَ أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ. قَالَ

 

ج / 6 ص -96-         أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ هَذَا أَخْذًا بِالنُّكُولِ بَلْ بِالْوُجُوبِ السَّابِقِ وَالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الزَّكَاةَ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا، وَيَدَّعِي مُسْقِطُهَا وَلَمْ يُثْبِتْهُ بِيَمِينِهِ وَلَا بِغَيْرِهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَبَقِيَ الْوُجُوبُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ إلَّا أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الْقَاصِّ فَقَالَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُكِمَ فِيهَا بِالنُّكُولِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا غَلَطٌ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: وَنَظِيرُ هَذَا اللِّعَانُ، فَإِنَّ الزَّوْجَ إذَا لَاعَنَ لَزِمَ الْمَرْأَةَ حَدُّ الزِّنَا، فَإِنْ لَاعَنَتْ سَقَطَ، وَإِنْ امْتَنَعَتْ لَزِمَهَا الْحَدُّ لَا بِامْتِنَاعِهَا بَلْ بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا لِعَانُهَا مُسْقِطٌ لِمَا وَجَبَ بِلِعَانِهِ، فَإِذَا لَمْ تُلَاعِنْ بَقِيَ الْوُجُوبُ وَهَكَذَا الزَّكَاةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: هَذَا الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِي وَدِيعَةٌ، وَقَالَ السَّاعِي: بَلْ هُوَ مِلْكٌ لَكَ، فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ: أحدهما: أَنَّ دَعْوَاهُ لَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ اسْتِحْبَابًا قَطْعًا؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْإِنْسَانِ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلظَّاهِرِ وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَغَيْرُهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الرابعة: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ السَّاعِي لَأَخْذِ زَكَاةِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُصَادِفُ إدْرَاكَهَا وَحُصُولَهَا، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَرِيبًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاعِي مَنْ يَخْرُصُ لِيَخْرُصَ مَا يَحْتَاجُ إلَى خَرْصِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَارِصَانِ ذَكَرَانِ حُرَّانِ؛ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الخامسة: إذَا قَبَضَ السَّاعِي الزَّكَاةَ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَذِنَ لَهُ فِي تَفْرِيقِهَا فِي مَوْضِعِهَا فَرَّقَهَا، وَإِنْ أَمَرَهُ بِحَمْلِهَا حَيْثُ يَجُوزُ الْحَمْلُ إمَّا لِعَدَمِ مَنْ يَصْرِفُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ إذَا قُلْنَا بِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْإِمَامِ وَالسَّاعِي يَرَيَانِ جَوَازَ النَّقْلِ حَمَلَهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّفْرِقَةِ وَلَا أَمَرَهُ بِالْحَمْلِ فَمُقْتَضَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ وُجُوبُ الْحَمْلِ إلَى الْإِمَامِ. وَهَكَذَا هُوَ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ نَائِبُ الْإِمَامِ فَلَا يَتَوَلَّى إلَّا مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ. وَإِذَا أَطْلَقَ الْوِلَايَةَ فِي أَخْذِ الزَّكَوَاتِ لَمْ يَقْتَضِ الصَّرْفَ إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ تَقْتَضِي الْجَزْمَ بِجَوَازِ نَقْلِ الزَّكَاةِ لِلْإِمَامِ وَالسَّاعِي. وَإِنَّ الْخِلَافَ الْمَشْهُورَ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ إنَّمَا هُوَ فِي نَقْلِ رَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ: رُبَّمَا اقْتَضَى كَلَامُ الْأَصْحَابِ طَرْدَ الْخِلَافِ فِي الْإِمَامِ وَالسَّاعِي. وَرُبَّمَا اقْتَضَى جَوَازُ النَّقْلِ لِلْإِمَامِ وَالسَّاعِي التَّفْرِقَةَ حَيْثُ شَاءَ. قَالَ: وَهَذَا أَشْبَهُ، وَهَذَا الَّذِي رَجَّحَهُ هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لِلسَّاعِي بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، بَلْ يُوَصِّلُهَا إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِأَعْيَانِهَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الزَّكَاةِ أَهْلُ رُشْدٍ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِمْ. فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَالِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةٌ بِأَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَاشِيَةِ أَوْ خَافَ هَلَاكَهُ أَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ خَطَرٌ، أَوْ احْتَاجَ إلَى رَدِّ جُبْرَانٍ، أَوْ إلَى مُؤْنَةِ النَّقْلِ، أَوْ قَبْضِ بَعْضِ شَاةٍ، وَمَا أَشْبَهَهُ جَازَ الْبَيْعُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا سَبَقَ فِي آخِرِ بَابِ صَدَقَةِ الْغَنَمِ أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الْقِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ لِلضَّرُورَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ وَجَبَتْ

 

ج / 6 ص -97-         نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ بَيْعُهَا وَتَفْرِقَةُ ثَمَنِهَا عَلَى الْأَصْنَافِ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ يَجْمَعُهُمْ وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِمْ، وَكَذَا حُكْمُ الْإِمَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَهُمْ الْبَغَوِيّ فَقَالَ: إنْ رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ فَعَلَهُ، وَإِنْ رَأَى الْبَيْعَ وَتَفْرِقَةَ الثَّمَنِ فَعَلَهُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا بَاعَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَيُسْتَرَدُّ الْمَبِيعُ، فَإِنْ تَلِفَ ضَمِنَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا تَلِفَ مِنْ الْمَاشِيَةِ شَيْءٌ فِي يَدِ السَّاعِي أَوْ الْمَالِكِ إنْ كَانَ بِتَفْرِيطٍ، بِأَنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهَا أَوْ عَرَفَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَأَمْكَنَهُ التَّفْرِيقُ عَلَيْهِمْ، فَأَخَّرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ لَمْ يَضْمَنْ كَالْوَكِيلِ، وَنَاظِرِ مَالِ الْيَتِيمِ، إذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِلَا تَفْرِيطٍ لَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا لَمْ يُفَرِّقْ الزَّكَاةَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَلَا عُذْرَ لَهُ حَتَّى تَلِفَتْ عِنْدَهُ، ضَمِنَهَا كَمَا سَبَقَ، قَالَ: وَالْوَكِيلُ بِتَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ، لَوْ أَخَّرَ تَفْرِقَتَهَا حَتَّى تَلِفَ الْمَالُ لَمْ يَضْمَنْ، قَالَ: لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ بِخِلَافِ الْإِمَامِ.
فَرْعٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ جَمَعَ السَّاعِي الزَّكَاةَ ثُمَّ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِلَا تَفْرِيطٍ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى الْإِمَامِ اسْتَحَقَّ أُجْرَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْبَيَانِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ صَاحِبِ الْفُرُوعِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسِمَ الْمَاشِيَةَ الَّتِي يَأْخُذُهَا فِي الزَّكَاةِ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ" وَلِأَنَّ بِالْوَسْمِ تَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهَا فَإِذَا شَرَدَتْ رُدَّتْ إلَى مَوْضِعِهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسِمَ [الَّتِي يَأْخُذُهَا فِي زَكَاتِهِ1] الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ فِي أَفْخَاذِهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ صُلْبٌ، فَيَقِلُّ الْأَلَمُ بِوَسْمِهِ، وَيَخِفُّ الشَّعْرَ فِيهِ فَيَظْهَرُ، وَيَسِمُ الْغَنَمَ فِي آذَانِهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْتَبَ فِي مَاشِيَةِ الزَّكَاةِ لِلَّهِ، أَوْ زَكَاةٌ، وَفِي مَاشِيَةِ الْجِزْيَةِ جِزْيَةٌ أَوْ صَغَارٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ مَا يُمْكِنُ".
الشرح:
حَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُمَا قَالَ أَنَسٌ"أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ: فَوَافَيْتُهُ وَفِي يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ" وَفِي رِوَايَةٍ:"يَسِمُ غَنَمًا"
 أَمَّا أَحْكَامُهُ وَفُرُوعُهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إحداها:
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ وَسْمُ الْمَاشِيَةِ الَّتِي لِلزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَهَذَا الِاسْتِحْبَابُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَنَقَلَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ الْوَسْمُ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُثْلَةِ؛ وَلِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ، وَبِآثَارٍ كَثِيرَةٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْوَسْمِ لِتَمْيِيزِ إبِلِ الصَّدَقَةِ مِنْ إبِلِ الْجِزْيَةِ وَغَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّهَا رُبَّمَا شَرَدَتْ فَيَعْرِفُهَا وَاجِدُهَا بِعَلَامَتِهَا فَيَرُدُّهَا؛ وَلِأَنَّ مَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا زلنا نذكر بأن كل ما بين المعقوفين سواء نبهنا بهامش أم لا فإنه ساقط من ش و ق (ط).

 

ج / 6 ص -98-         أَخْرَجَهَا يُكْرَهُ لَهُ شِرَاؤُهَا فَلْيُعَرِّفْهَا لِئَلَّا يَشْتَرِيَهَا. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَاعْتَمَدَهُ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ - وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهَا صَدَقَةٌ - لَا يَعْرِفُ كَوْنَهَا صَدَقَتَهُ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ شِرَاءُ صَدَقَتِهِ لَا صَدَقَةِ غَيْرِهِ، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّهَا صَدَقَةٌ احْتَاطَ فَاجْتَنَبَهُ، وَقَدْ يَعْرِفُ أَنَّهَا صَدَقَتُهُ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الصَّدَقَةِ بِهِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ. وأما: احْتِجَاجُ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْمُثْلَةِ وَالتَّعْذِيبِ فَهُوَ عَامٌّ وَحَدِيثُنَا وَالْآثَارُ خَاصَّةٌ بِاسْتِحْبَابِ الْوَسْمِ، فَخَصَّصَتْ ذَلِكَ الْعُمُومَ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثانية: قَالَ أَصْحَابُنَا وَأَهْلُ اللُّغَةِ: الْوَسْمُ أَثَرُ كَيَّةٍ، وَيُقَالُ: بَعِيرٌ مَوْسُومٌ وَقَدْ وَسَمَهَ وَسْمًا وَسِمَةً. وَالْمِيسَمُ الشَّيْءُ الَّذِي يُوسَمُ بِهِ. وَجَمْعُهُ مَيَاسِمُ وَمَوَاسِمُ. وَأَصْلُهُ مِنْ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَمِنْهُ مَوْسِمُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّمٌ يَجْمَعُ النَّاسَ، وَفُلَانٌ مَوْسُومٌ بِالْخَيْرِ وَعَلَيْهِ سِمَةُ الْخَيْرِ أَيْ عَلَامَتُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ وَسْمُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي أُصُولِ أَفْخَاذِهَا، وَالْغَنَمِ فِي أَذَانِهَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَلَوْ وَسَمَ فِي غَيْرِهِ جَازَ إلَّا الْوَجْهَ فَمَنْهِيٌّ عَنْ الْوَسْمِ فِيهِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ": رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا مَوْسُومَ الْوَجْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ": نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ، وَعَنْ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ:"لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ أَصْحَابِنَا فِي كَيْفِيَّةِ النَّهْيِ عَنْ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ فَقَالَ الْبَغَوِيّ: لَا يَجُوزُ الْوَسْمُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: الْوَسْمُ عَلَى الْوَجْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ، وَالْمُخْتَارُ التَّحْرِيمُ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْبَغَوِيّ، وَهُوَ مُقْتَضَى اللَّعْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ اللَّعْنُ فِي الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثالثة: يَنْبَغِي أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ سِمَةِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْتَبَ فِي مَاشِيَةِ الْجِزْيَةِ جِزْيَةٌ أَوْ صَغَارٌ. وأما: مَاشِيَةُ الزَّكَاةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، أَوْ زَكَاةٌ، أَوْ لِلَّهِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَبُ لِلَّهِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ مِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ وَابْنُ كَجٍّ وَالدَّارِمِيِّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَخَلَائِقُ آخَرُونَ، قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: يُكْتَبُ صَدَقَةٌ أَوْ زَكَاةٌ، قَالَ: فَإِنْ كُتِبَ عَلَيْهَا لِلَّهِ كَانَ أَبْرَكَ وَأَوْلَى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى كِتَابَةِ لِلَّهِ، قَالَ: وَاسْتَبْعَدَهُ بَعْضُ مَنْ شَرَحَ الْوَجِيزَ وَبَعْضُ مَنْ شَرَحَ الْمُخْتَصَرَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ لِأَنَّ الدَّوَابَّ تَتَمَعَّكُ وَتَضْرِبُ أَفْخَاذَهَا بِأَذْنَابِهَا وَهِيَ نَجِسَةٌ وَيُنَزَّهُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ إثْبَاتَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى هُنَا لِغَرَضِ التَّمْيِيزِ وَالْإِعْلَامِ، لَا عَلَى قَصْدِ الذِّكْرِ قَالَ: وَيَخْتَلِفُ التَّعْظِيمُ وَالِاحْتِرَامُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ؛ وَلِهَذَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَلَوْ أَتَى بِبَعْضِ أَلْفَاظِهِ لَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَحْرُمْ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ.
الرابعة: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ سِمَةُ الْغَنَمِ أَلْطَفَ مِنْ سِمَةِ الْبَقَرِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسِمَةُ الْبَقَرِ أَلْطَفُ مِنْ سِمَةِ الْإِبِلِ وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ

 

ج / 6 ص -99-         الخامسة: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْوَسْمُ مُبَاحٌ فِي الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ لِلصَّدَقَةِ وَلَا لِلْجِزْيَةِ. وَلَا يُقَالُ: مَنْدُوبٌ وَلَا مَكْرُوهٌ. وأما: حَيَوَانُهُمَا فَيُسْتَحَبُّ وَسْمُهُ كَمَا سَبَقَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَكْوِي فِي الْجَاعِرَتَيْنِ وَهُمَا أَصْلُ الْفَخِذَيْنِ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يُوهِمُ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَكْوِي فِي الْجَاعِرَتَيْنِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هُوَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ أَنَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا أَوْضَحْتُهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.
فرع: قَالَ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ خِصَاءُ حَيَوَانٍ لَا يُؤْكَلُ لَا فِي صِغَرِهِ وَلَا فِي كِبَرِهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ خِصَاءُ الْمَأْكُولِ فِي صِغَرِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَضًا وَهُوَ طِيبُ لَحْمِهِ وَلَا يَجُوزُ فِي كِبَرِهِ. وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قوله تعالى - إخْبَارًا عَنْ الشَّيْطَانِ
–{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: من الآية119] فَخَصَّصَ مِنْهُ الْخِتَانَ وَالْوَسْمَ وَنَحْوَهُمَا وَبَقِيَ الْبَاقِي دَاخِلًا فِي عُمُومِ الذَّمِّ وَالنَّهْيِ.
فرع: الْكَيُّ بِالنَّارِ إنْ لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ حَرَامٌ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَفِي تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَسَوَاءٌ كَوَى نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنْ دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ جَازَ فِي نَفْسِهِ وَفِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَتَرْكُهُ فِي نَفْسِهِ لِلتَّوَكُّلِ أَفْضَلُ. لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ قِيلَ: يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِكَ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ قَالَ:
وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرِقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ:"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرِقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عِمْرَانَ أَيْضًا قَالَ"وَكَانَ يُسَلَّمُ عَلِيَّ حَتَّى اكْتَوَيْتُ فَتُرِكْتُ ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَيَّ فَعَادَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ بِهِ مَرَضٌ فَاكْتَوَى بِسَبَبِهِ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْكَيِّ لِفَضْلِهِ وَصَلَاحِهِ، فَلَمَّا اكْتَوَى تَرَكُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ فَعَلِمَ ذَلِكَ فَتَرَكَ الْكَيَّ مَرَّةً أُخْرَى، وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَعَادُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ رضي الله عنه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يُكْرَهُ إنْزَاءُ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ:"أَهْدَيْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً فَرَكِبَهَا فَقُلْتُ: لَوْ حَمَلْنَا الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ فَكَانَتْ لَنَا مِثْلُ هَذِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِقِلَّةِ الْخَيْلِ وَلِضَعْفِهَا.
فرع: يَحْرُمُ التَّحْرِيشُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لَكِنْ فِيهِ أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ، وَفِي تَوْثِيقِهِ خِلَافٌ، وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجُوزُ لِلسَّاعِي وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَحْصُلُ عِنْدَهُ

 

ج / 6 ص -100-       مِنْ الْفَرَائِضِ حَتَّى يُوَصِّلَهَا إلَى أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ أَهْلُ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَإِنْ أَخَذَ نِصْفَ شَاةٍ أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَوَاشِي وَخَافَ هَلَاكَهُ أَوْ خَافَ أَنْ يُؤْخَذَ فِي الطَّرِيقِ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَبْعَثْ الْإِمَامُ السَّاعِيَ وَجَبَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُفَرِّقَ الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ، فَإِذَا تَرَكَ النَّائِبُ عَنْهُمْ لَمْ يَتْرُكْ مَنْ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنْ قُلْنَا: إنَّ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ يَجِبُ دَفْعُ زَكَاتِهَا إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ تَوَجَّهَ حَقُّ الْقَبْضِ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ الْإِمَامُ لَمْ يُفَرِّقْ كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ".
الشرح:
هَذِهِ الْمَسَائِلُ كَمَا ذَكَرَهَا وَسَبَقَ شَرْحُهَا قَرِيبًا قَبْلَ الْوَسْمِ، وَمَسْأَلَةُ النَّصِّ سَبَقَ شَرْحُهَا مَعَ نَظَائِرِهَا أَوَّلَ الْبَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَصِحُّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّلَاةِ، وَفِي وَقْتِ النِّيَّةِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ حَالَ الدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِيهَا بِفِعْلِهِ فَوَجَبَتْ النِّيَّةُ فِي ابْتِدَائِهَا كَالصَّلَاةِ. والثاني: يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهَا وَنِيَّتُهُ غَيْرُ مُقَارَنَةٍ لِأَدَاءِ الْوَكِيلِ، فَجَازَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَيَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ الزَّكَاةَ أَوْ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ أَوْ صَدَقَةَ الْمَالِ، فَإِنْ نَوَى صَدَقَةً مُطْلَقَةً لَمْ تُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ تَكُونُ نَفْلًا فَلَا تَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْضِ إلَّا بِالتَّعْيِينِ. وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ الْمَالِ الْمُزَكَّى عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ حَاضِرٌ وَنِصَابٌ غَائِبٌ فَأَخْرَجَ الْفَرْضَ فَقَالَ: هَذَا عَنْ الْحَاضِرِ أَوْ الْغَائِبِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ لَكَانَتْ عَنْ أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَضُرَّ تَقْيِيدُهُ بِذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذَا عَنْ زَكَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَهُوَ عَنْ الْحَاضِرِ فَإِنْ كَانَ الْغَائِبُ هَالِكًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ وَكَانَ الْغَائِبُ هَالِكًا لَكَانَ هَذَا عَنْ الْحَاضِرِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذَا عَنْ زَكَاتِهِ أَوْ تَطَوُّعٌ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذَا عَنْ زَكَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَهُوَ تَطَوُّعٌ وَكَانَ سَالِمًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْلَصَ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ لَكَانَ هَذَا مُقْتَضَاهُ فَلَمْ يَضُرَّ التَّقْيِيدُ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ يَرِثُهُ فَأَخْرَجَ مَالًا وَقَالَ: إنْ كَانَ قَدْ مَاتَ مُوَرِّثِي فَهَذَا عَنْ زَكَاةِ مَا وَرِثْتُهُ مِنْهُ وَكَانَ قَدْ مَاتَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْنِ النِّيَّةَ عَلَى أَصْلٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، وَإِنَّ كُلَّ مَنْ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَنَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ، وَنَوَى الْوَكِيلَ عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْفُقَرَاءِ أَجْزَأَهُ. وَإِنْ نَوَى الْوَكِيلَ وَلَمْ يَنْوِ الْمُوَكَّلَ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فَرْضٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنْ نَوَى رَبَّ الْمَالِ وَلَمْ يَنْوِ الْوَكِيلَ فَفِيهِ طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَرْضُ قَدْ نَوَى فِي وَقْتِ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ، فَتَعَيَّنَ الْمَدْفُوعُ لِلزَّكَاةِ، فَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى النِّيَّةِ. وَمَنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَبْنِي عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ وَلَمْ يَنْوِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يُجْزِئُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ الْفَرْضُ فَاكْتَفَى بِهَذَا الظَّاهِرِ عَنْ النِّيَّةِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ وَكِيلٌ لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى الْفُقَرَاءِ لَمْ يُجْزِ إلَّا بِالنِّيَّةِ عِنْدَ الدَّفْعِ، فَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَى وَكَيْلِهِمْ، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْقَائِلُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ

 

 

ج / 6 ص -101-       الزَّكَاةِ فَأَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَتْ النِّيَّةُ مِنْ جِهَتِهِ، فَقَامَتْ نِيَّةُ الْإِمَامِ مَقَامَ نِيَّتِهِ".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه. وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ. وَسَبَقَ هُنَاكَ بَيَانُ الِاحْتِرَازِ بِقَوْلِهِ: عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَإِنَّمَا قَاسَ عَلَى الصَّلَاةِ لِلرَّدِّ عَلَى الْأَوْزَاعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَفْتَقِرُ الزَّكَاةُ إلَى نِيَّةٍ. وَوَافَقَ عَلَى افْتِقَارِ الصَّلَاةِ إلَى النِّيَّةِ. وَهَذَا الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يُنْتَقَضُ بِالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: (وَفِي وَقْتِ النِّيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ فِي حَالِ الدَّفْعِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِيهَا بِفِعْلِهِ فَوَجَبَتْ النِّيَّةُ فِي ابْتِدَائِهَا كَالصَّلَاةِ) فَقَوْلُهُ:"بِفِعْلِهِ" احْتِرَازٌ مِنْ الصَّوْمِ - وَفِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ:
إحداها: لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي صِفَةِ النِّيَّةِ وَتَفْرِيعِهَا وَبِوُجُوبِهَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. وَشَذَّ عَنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: لَا تَجِبُ وَيَصِحُّ أَدَاؤُهَا بِلَا نِيَّةٍ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ. وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَتُخَالِفُ الدَّيْنَ فَإِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَاةِ. وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ بِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ الْمُتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ وَحْدِ الْقَذْفِ إلَى نِيَّةٍ، لَمْ يَفْتَقِرْ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَالِ وَحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدَنِ إلَى النِّيَّةِ فَكَذَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَالِ وَأَجَابَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالتَّتِمَّةِ بِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ عِبَادَةً وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ، فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ نَوَى بِقَلْبِهِ دُونَ لَفْظِ لِسَانِهِ أَجْزَأَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَفَظَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: لَا يُجْزِئُهُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ.
والطريق الثاني: فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَكْفِيهِ اللَّفْظُ بِاللِّسَانِ دُونَ نِيَّةِ الْقَلْبِ. والثاني: لَا يَكْفِيهِ وَيَتَعَيَّنُ الْقَلْبُ، وَهَذَا الطَّرِيقُ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، ذَكَرَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ الْأَشْهَرُ. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى هَذَا الْخِلَافَ قَوْلَيْنِ، وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ اشْتِرَاطُ نِيَّةِ الْقَلْبِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالِاكْتِفَاءِ بِاللِّسَانِ الْقَفَّالُ وَنَقَلَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ. وَأَشَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ الْمُجَرَّدِ إلَى هَذَا فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: سَوَاءٌ نَوَى فِي نَفْسِهِ أَوْ تَكَلَّمَ فَإِنَّمَا أَعْطَى فَرْضَ مَالٍ، فَأَقَامَ اللِّسَانَ مَقَامَ النِّيَّةِ، كَمَا أَقَامَ أَخْذَ الْإِمَامِ مَقَامَ النِّيَّةِ. قَالَ وَبَيَّنَهُ فِي الْأُمِّ فَقَالَ إنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَجْعَلَ النِّيَّةَ فِي الزَّكَاةِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ افْتِرَاقُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي بَعْضِ حَالِهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا؟ وَيُجْزِئُ أَنْ يَأْخُذَهَا الْوَالِي بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ فَتُجْزِئُ عَنْهُ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الصَّلَاةِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ النِّيَّةَ لَا بُدَّ مِنْهَا. قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:"إنْ قَالَ بِلِسَانِهِ هَذَا زَكَاةُ مَالِي أَجْزَأَهُ" قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّصِّ فَقَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الصَّيْدَلَانِيُّ: أَرَادَ الشَّافِعِيُّ لَفْظَ اللِّسَانِ مَعَ نِيَّةِ الْقَلْبِ، قَالَ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:"يَكْفِي اللَّفْظُ وَلَا تَجِبُ نِيَّةُ الْقَلْبِ" وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ قَالَ: وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ بِأَمْرَيْنِ: أحدهما: أَنَّ الزَّكَاةَ

 

ج / 6 ص -102-       تَخْرُجُ مِنْ مَالِ الْمُرْتَدِّ وَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ. والثاني: جَوَازُ النِّيَّةِ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ. وَلَوْ كَانَتْ نِيَّةُ الْقَلْبِ مُتَعَيِّنَةً لَوَجَبَتْ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهَا مُبَاشَرَتُهَا؛ لِأَنَّ النِّيَّاتِ سِرُّ الْعِبَادَاتِ وَالْإِخْلَاصُ فِيهَا، قَالَ الْإِمَامُ: فَقَدْ حَصَلَ فِي النِّيَّةِ قَوْلَانِ: أحدهما: يَكْفِي اللَّفْظُ أَوْ نِيَّةُ الْقَلْبِ، أَيُّهُمَا أَتَى بِهِ كَفَاهُ. والثاني: وَهُوَ الْمَذْهَبُ تَعْيِينُ نِيَّةِ الْقَلْبِ، قَالَ الْبَغَوِيّ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ الْقَفَّالِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِاللَّفْظِ: لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الزَّكَاةِ جَائِزَةٌ، فَلَمَّا نَابَ شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ فِيهَا جَازَ أَنْ يَنُوبَ الْقَلْبُ عَنْ اللِّسَانِ، قَالَ: وَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا الْحَجُّ حَيْثُ تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ وَيُشْتَرَطُ فِيهِ نِيَّةُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنُوبُ فِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ، وَفِي الزَّكَاةِ يَنُوبُ فِيهَا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَنَابَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ جَازَ، هَذَا كَلَامُ الْبَغَوِيِّ، وَفِي اسْتِنَابَةِ الْكَافِرِ فِي إخْرَاجِهَا نَظَرٌ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ الْجَوَازُ كَمَا يَجُوزُ اسْتِنَابَتُهُ فِي ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: صِفَةُ نِيَّةِ الزَّكَاةِ أَنْ يَنْوِيَ: هَذَا فَرْضُ زَكَاةِ مَالِي أَوْ فَرْضُ صَدَقَةِ مَالِي أَوْ زَكَاةُ مَالِي الْمَفْرُوضَةُ، أَوْ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ[فَيَتَعَرَّضُ] لِفَرْضِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَقَعُ كَفَّارَةً وَنَذْرًا، وَهَذِهِ الصُّورَةُ كُلُّهَا تُجْزِئُهُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ فَقَطْ لَمْ تُجْزِئْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْجُمْهُورُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِيهِ وَجْهًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ فَرْضًا وَتَكُونُ نَفْلًا فَلَا يُجْزِئُهُ بِمُجَرَّدِهَا، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً بِنِيَّةِ الْعِتْقِ الْمُطْلَقِ لَا يُجْزِئُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ نَوَى صَدَقَةَ مَالِي أَوْ صَدَقَةَ الْمَالِ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ: أصحهما: لَا يُجْزِئُهُ. والثاني: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الزَّكَاةِ.
وَلَوْ نَوَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْفَرْضِيَّةِ فَطَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَجْهًا وَاحِدًا. والثاني: عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: يُجْزِئُهُ. والثاني: لَا يُجْزِئُهُ، حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، قَالُوا: وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ نَوَى صَلَاةَ الظُّهْرِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْفَرِيضَةِ، وَضَعَّفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ هَذَا الطَّرِيقَ وَهَذَا الدَّلِيلَ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ الظُّهْرَ قَدْ تَكُونُ نَافِلَةً فِي حَقِّ صَبِيٍّ وَمَنْ صَلَّاهَا ثَانِيًا، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَا تَكُونُ إلَّا فَرْضًا فَلَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِهِ نِيَّةَ الْفَرِيضَةِ مَعَ نِيَّةِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ: إنْ قَالَ: هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي، كَفَاهُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ اسْمٌ لِلْفَرْضِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ، وَإِنْ قَالَ: زَكَاةٌ، فَفِي إجْزَائِهِ وَجْهَانِ، وَلَمْ يُصَحِّحْ شَيْئًا وَأَصَحُّهُمَا: الْإِجْزَاءُ. وَلَوْ قَالَ: هَذَا فَرَضِيَ. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: فَلَمْ يُجْزِئْهُ بِلَا خِلَافٍ قَالَ: وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَهُوَ مُؤَوَّلٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثالثة: فِي وَقْتِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: أحدهما: تَجِبُ النِّيَّةُ حَالَةَ الدَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ أَوْ الْأَصْنَافِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَأَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الدَّفْعِ لِلْغَيْرِ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ سَدُّ خُلَّةِ الْفَقِيرِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَحَّحَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرَّافِعِيُّ وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكَفَّارَةِ: لَا تُجْزِئُهُ حَتَّى يَنْوِيَ مَعَهَا أَوْ قَبْلَهَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْكَفَّارَةُ وَالزَّكَاةُ سَوَاءٌ، قَالُوا وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ تَأَوَّلَ عَلَى مَنْ نَوَى قَبْلَ الدَّفْعِ وَاسْتَصْحَبَ النِّيَّةَ إلَيْهِ. وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي تَأْوِيلًا آخَرَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ، وَالتَّأْوِيلَانِ ضَعِيفَانِ وَالصَّوَابُ إجْرَاءُ النَّصِّ عَلَى ظَاهِرِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَالْوَجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِي

 

ج / 6 ص -103-       الْكَفَّارَةِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَنْوِيَ حِينَ يَزِنُ قَدْرَ الزَّكَاةِ، وَيَعْزِلُهُ وَلَا يَنْوِي عِنْدَ الدَّفْعِ، وَأَشَارَ إلَى هَذَا التَّصْوِيرِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ.
الرابعة: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَالِ الْمُزَكَّى فِي النِّيَّةِ فَلَوْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَاضِرَةً وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ غَائِبَةً، فَأَخْرَجَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِنِيَّةِ زَكَاةِ مَالِهِ أَجْزَأَهُ بِلَا تَعْيِينٍ، وَكَذَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً وَخَمْسَةَ أَبْعِرَةٍ فَأَخْرَجَ شَاتَيْنِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ أَجْزَأَهُ بِلَا تَعْيِينٍ، وَلَوْ أَخْرَجَ بِلَا تَعْيِينٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا ثُمَّ بَانَ تَلَفُ أَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوْ تَلِفَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ فَلَهُ جَعْلُ الزَّكَاةِ عَنْ الْبَاقِي، وَلَوْ عَيَّنَ مَالًا لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا نَوَى بِالْخَمْسَةِ أَحَدَهُمَا: بِعَيْنِهِ فَبَانَ تَالِفًا، لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْآخَرِ وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الْخَمْسَةُ عَنْ أَحَدِهِمَا فَبَانَ أَحَدُهُمَا تَالِفًا وَالْآخَرُ سَالِمًا أَجْزَأَهُ عَنْ السَّالِمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَقَعَ عَنْ السَّالِمِ فَلَا يَضُرُّهُ التَّقْيِيدُ بِهِ، وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذَا عَنْ زَكَاتِهِ وَإِلَّا فَهُوَ عَنْ الْحَاضِرِ وَكَانَ الْغَائِبُ تَالِفًا فَقَدْ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ الْحَاضِرِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَكَذَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ.
قَالُوا: وَلَا يَضُرُّ هَذَا التَّرَدُّدُ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ قَالَ: هَذَا عَنْ الْحَاضِرِ أَوْ عَنْ الْغَائِبِ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ أُخْرَى إنْ كَانَا سَالِمَيْنِ بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ إنْ كَانَ الْوَقْتُ دَخَلَ وَإِلَّا فَعَنْ الْفَائِتَةِ لَا يُجْزِئُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطُ الصَّلَاةِ، وَحَكَوْا عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ تَرَدُّدًا فِي إجْزَائِهِ عَنْ الْحَاضِرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى إجْزَائِهِ عَنْ الْغَائِبِ إنْ كَانَ بَاقِيًا. وَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِإِجْزَائِهِ أَيْضًا عَنْ الْحَاضِرِ إنْ كَانَ الْغَائِبُ تَالِفًا. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَنْ الْغَائِبِ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلَّا فَعَنْ الْحَاضِرِ أَوْ هِيَ صَدَقَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْغَائِبُ سَالِمًا أَجْزَأَهُ عَنْهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ الْغَائِبُ تَالِفًا لَمْ يَقَعْ عَنْ الْحَاضِرِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذَا عَنْ زَكَاتِهِ أَوْ نَافِلَةٌ، فَكَانَ سَالِمًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَصَّ الْقَصْدُ لِلْفَرْضِ، وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذَا عَنْ زَكَاتِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ تَطَوُّعٌ فَكَانَ سَالِمًا أَجْزَأَهُ عَنْهُ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ لَكَانَ هَذَا مُقْتَضَاهُ فَلَا يَضُرُّ التَّقْيِيدُ بِهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: هَذَا عَنْ زَكَاةِ مَالِي الْغَائِبِ فَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَهُوَ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ فَكَانَ سَالِمًا أَجْزَأَهُ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لَوْ بَانَ الْغَائِبُ تَالِفًا لَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ. قَالُوا: وَكَذَا لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ زَكَاةُ الْغَائِبِ فَبَانَ تَالِفًا لَا يَجُوزُ إلَّا الِاسْتِرْدَادُ إلَّا إذَا صَرَّحَ. فَقَالَ: هَذَا عَنْ زَكَاةِ الْغَائِبِ. فَإِنْ كَانَ تَالِفًا اسْتَرْدَدْته. وَأَمَّا إذَا أَخْرَجَ الْخَمْسَةَ وَقَالَ: إنْ كَانَ مُورِثِي مَاتَ وَوَرِثْت مَالَهُ فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، فَبَانَ أَنَّهُ مَاتَ وَوِرْثَهُ فَلَا تُحْسَبُ الْخَمْسَةُ عَنْ زَكَاتِهِ بِلَا خِلَافٍ. صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَجَمِيعُ الْأَصْحَابِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَبْنِ عَلَى أَصْلٍ فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِرْثِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَالِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ فَاعْتُضِدَ التَّرَدُّدُ فِي النِّيَّةِ بِأَصْلِ الْبَقَاءِ. وَنَظِيرُهُ مَنْ قَالَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ: أَصُومُ غَدًا إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَبَانَ مِنْهُ يُجْزِئُهُ. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَتَيْ زَكَاةِ الْغَائِبِ وَالْإِرْثِ. قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُ: وَكَذَا لَوْ جَزَمَ الْوَارِثُ فَقَالَ: هَذَا زَكَاةُ مَا وَرِثْتُهُ عَنْ مُوَرِّثِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْتَهُ، فَلَا يُجْزِئُهُ بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا.

 

ج / 6 ص -104-       قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ فَبَانَ مَيِّتًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ. أَمَّا إذَا قَالَ: هَذَا عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَكَانَ بَاقِيًا أَجْزَأَهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَيْسَ لَهُ صَرْفُ الْمُخْرَجِ إلَى زَكَاةِ الْحَاضِرِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَآخَرُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّ لَهُ صَرْفَهُ إلَى الْحَاضِرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: تَصِحُّ هَذِهِ الصُّوَرُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ لَا يُجَوِّزُ نَقْلَ الزَّكَاةِ فَكَيْفَ تَصِحُّ عَنْ الْغَائِبِ؟ ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يُتَصَوَّرُ إذَا جَوَّزْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَتُتَصَوَّرُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِهِ، وَلَكِنَّهُ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ لَا فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَتُتَصَوَّرُ فِيمَنْ هُوَ فِي سَفِينَةٍ أَوْ بَرِّيَّةٍ وَمَعَهُ مَالٌ، وَلَهُ مَالٌ آخَرُ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ، فَمَوْضِعُ تَفْرِيقِ الْمَالَيْنِ وَاحِدٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الخامسة: إذَا وَكَّلَ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ الصَّرْفِ إلَى الْأَصْنَافِ، أَوْ عِنْدَ الصَّرْفِ إلَى الْإِمَامِ أَوْ السَّاعِي أَجْزَأَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ الْأَكْمَلُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِيَا أَوْ نَوَى الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكَّلِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: أحدهما: الْقَطْعُ بِالْإِجْزَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِالزَّكَاةِ هُوَ الْمَالِكُ وَقَدْ نَوَى وَأَصَحُّهُمَا: فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى التَّفْرِيقِ، إنْ جَوَّزْنَا أَجْزَأَ هَذَا وَإِلَّا فَلَا، وَالْمَذْهَبُ الْإِجْزَاءُ. وَلَوْ وَكَّلَهُ وَفَوَّضَ إلَيْهِ النِّيَّةَ وَنَوَى الْوَكِيلُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: أَجْزَأَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى الْوَكِيلِ بِلَا نِيَّةٍ وَدَفَعَ الْوَكِيلُ وَلَمْ يَنْوِ، لَكِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ حَالَ دَفْعِ الْوَكِيلِ إلَى الْأَصْنَافِ أَجْزَأَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْمُوَكِّلِ قَارَنَتْ الصَّرْفَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، فَأَشْبَهَ تَفْرِيقَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى الْوَكِيلِ بِلَا نِيَّةٍ، ثُمَّ نَوَى قَبْلَ صَرْفِ الْوَكِيلِ إلَى الْأَصْنَافِ فَقَدْ جَزَمَ صَاحِبُ الْبَيَانِ بِالْإِجْزَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ فَرْعَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ تَقَدُّمُ النِّيَّةِ عَلَى الدَّفْعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: قُلْتُمْ هُنَا: إنَّ النَّائِبَ لَوْ نَوَى وَحْدَهُ لَا يُجْزِئُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ نَوَى الْمُوَكِّلُ وَحْدَهُ أَجْزَأَ عَلَى الْمَذْهَبِ وَفِي الْحَجِّ عَكْسُهُ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ النَّائِبِ، وَهُوَ الْأَجِيرُ وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْمُسْتَأْجَرِ وَلَا تَنْفَعُ فَالْجَوَابُ: مَا أَجَابَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْفِعْلِ يَقَعُ بِفِعْلِ الْوَكِيلِ، فَاشْتُرِطَ قَصْدُهُ الْأَدَاءَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، لِيَنْصَرِفَ الْفِعْلُ إلَيْهِ، وَأَمَّا هُنَا فَالْفَرْضُ يَقَعُ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ، فَاكْتَفَى بِنِيَّتِهِ، قَالُوا: وَنَظِيرُ الْحَجِّ أَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ: أَدِّ زَكَاةَ مَالِي مِنْ مَالِكَ، فَيُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْوَكِيلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
السادسة: وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ وَيَلْزَمُهُ النِّيَّةُ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ دَفَعَ بِلَا نِيَّةٍ لَمْ يَقَعْ زَكَاةً وَيَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ اسْتِرْدَادُهُ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِتَفْرِيطِهِ، صَرَّحَ بِهِ ابْنُ كَجٍّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرٌ.
السابعة: إذَا تَوَلَّى السُّلْطَانُ قَسْمَ زَكَاةِ إنْسَانٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ دَفَعَهَا طَوْعًا وَنَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ، كَفَاهُ وَأَجْزَأَ وَلَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ السُّلْطَانِ عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْأَصْنَافِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُمْ فِي الْقَبْضِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمَالِكُ وَنَوَى السُّلْطَانُ أَوْ لَمْ يَنْوِ أَيْضًا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ. أحدهما:

 

ج / 6 ص -105-       يُجْزِئُهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْهُمْ الْمَحَامِلِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَصَحَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ إلَّا الْفَرْضُ فَاكْتَفَى بِهَذَا الظَّاهِرِ عَنْ النِّيَّةِ. والثاني: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ، وَالنِّيَّةُ وَاجِبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَقْبِضُ نِيَابَةً عَنْ الْمَسَاكِينِ، وَلَوْ دَفَعَ الْمَالِكُ إلَى الْمَسَاكِينِ بِلَا نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِئْهُ فَكَذَا إذَا دَفَعَ إلَى نَائِبِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَفِي التَّنْبِيهِ وَشَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ
قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَتَأَوَّلُوا نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُمْتَنِعُ مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ فَيُجْزِئُهُ إذَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إذَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمَالِكُ طَائِعًا كَانَ أَوْ مُكْرَهًا، قُلْتُ: وَهَذَا نَصٌّ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ يُجْزِئُهُ فِي الظَّاهِرِ فَلَا يُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ مَرَّةً أُخْرَى. وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ وَقَدْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْبَاطِنِ. وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ. 
هَذَا كُلُّهُ إذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ إلَى الْإِمَامِ بِاخْتِيَارِهِ. فَأَمَّا إذَا امْتَنَعَ فَأَخَذَهَا مِنْهُ الْإِمَامُ قَهْرًا - فَإِنْ نَوَى رَبُّ الْمَالِ حَالَ الْأَخْذِ - أَجْزَاهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، كَمَا سَبَقَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ رَبُّ الْمَالِ نَظَرَ إنْ نَوَى الْإِمَامُ أَجْزَأَهُ فِي الظَّاهِرِ فَلَا يُطَالَبُ ثَانِيًا وَهَلْ يُجْزِئُهُ بَاطِنًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أصحهما: يُجْزِئُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَجُمْهُورِ الْعِرَاقِيِّينَ. وَتَقُومُ نِيَّةُ الْإِمَامِ مَقَامَ نِيَّتِهِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا تَقُومُ نِيَّةُ وَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ مَقَامَ نِيَّتِهِ لِلضَّرُورَةِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ أَيْضًا لَمْ يَسْقُطْ الْفَرْضُ فِي الْبَاطِنِ قَطْعًا. وَهَلْ يَسْقُطُ فِي الظَّاهِرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَيْضًا الأصحلَا يَسْقُطُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ وأما: وُجُوبُ النِّيَّةِ عَلَى الْإِمَامِ فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الْمَالِكِ. وَأَنَّ الْإِمَامَ إذَا لَمْ يَنْوِ عَصَى. هَكَذَا قَالَ هَذَا كُلَّهُ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِهِ التَّلْخِيصَ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: إنْ قُلْنَا: لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْ الْمُمْتَنِعِ فِي الْبَاطِنِ لَمْ تَجِبْ النِّيَّةُ عَلَى الْإِمَامِ. وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أحدهما: تَجِبُ كَالْوَلِيِّ. والثاني: لَا؛ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ الْمَالِكُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّامِنَةُ: لَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ وَكَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاةُ فَرْضٍ فَصَلَّى مِائَةَ صَلَاةٍ نَافِلَةً لَا يُجْزِئُهُ بِلَا خِلَافٍ. هَذَا مَذْهَبُنَا. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ أَيْضًا عَنْ الزَّكَاةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُجْزِئُهُ عَنْ زَكَاةِ ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَلَوْ أَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَنَوَى بِهَا الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الزَّكَاةِ وَكَانَتْ تَطَوُّعًا. وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُجْزِئُهُ عَنْ الزَّكَاةِ. دَلِيلُنَا أَنَّهُ لَمْ تَمَحَّضْ لِلْفَرْضِ فَلَمْ تَصِحَّ عَنْهُ كَالصَّلَاةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -106-       وَفِي كِتَابِ الزِّيَادَاتِ لِأَبِي عَاصِمٍ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مَالًا إلَى وَكِيلِهِ لِيُفَرِّقَهُ تَطَوُّعًا ثُمَّ نَوَى بِهِ الْفَرْضَ ثُمَّ فَرَّقَهَا الْوَكِيلُ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ إذَا كَانَ الْقَابِضُ مُسْتَحِقًّا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجِبُ صَرْفُ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ إلَى ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ، وَهُمْ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمُونَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنُ السَّبِيلِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَأَبُو حَفْصٍ الْبَابْشَامِيُّ: يُصْرَفُ خُمُسُ الرِّكَازِ إلَى مَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ خُمُسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُقَدَّرٌ بِالْخُمُسِ. فَأَشْبَهَ خُمُسَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: تُصْرَفُ زَكَاةُ الْفِطْرِ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْرٌ قَلِيلٌ، فَإِذَا قُسِّمَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ لَمْ يَقَعْ مَا يَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْقِعًا مِنْ الْكِفَايَةِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: من الآية60] فَأَضَافَ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ إلَيْهِمْ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ، وَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُمْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ".
الشرح: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله: إنْ كَانَ مُفَرِّقُ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالِكُ أَوْ وَكِيلُهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَامِلِ وَوَجَبَ صَرْفُهَا إلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ الْبَاقِينَ إنْ وُجِدُوا، وَإِلَّا فَالْمَوْجُودُ مِنْهُمْ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ صِنْفٍ مِنْهُمْ مَعَ وُجُودِهِ، فَإِنْ تُرِكَ ضَمِنَ نَصِيبَهُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ إلَّا مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ الْخِلَافِ، وَبِمَذْهَبِنَا فِي اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ قَالَ عِكْرِمَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ وَدَاوُد. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: لَهُ صَرْفُهَا إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ: وَرُوِيَ هَذَا عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَهُ صَرْفُهَا إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ أَحَدِ الْأَصْنَافِ. قَالَ مَالِكٌ: وَيَصْرِفُهَا إلَى أَمَسِّهِمْ حَاجَةً. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إنْ كَانَتْ قَلِيلَةً جَازَ صَرْفُهَا إلَى صِنْفٍ، وَإِلَّا وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ، وَحَمَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُوَافِقُوهُ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ. قَالُوا: وَمَعْنَاهَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَهُوَ فِيهِمْ مُخَيَّرٌ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّنَانِيرُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ قُسِّمَتْ بَيْنَهُمْ فَكَذَا هُنَا.
وأما: خُمُسُ الرِّكَازِ فَالْمَشْهُورُ وُجُوبُ صَرْفِهِ فِي مَصْرِفِ بَاقِي الزَّكَوَاتِ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَأَبُو حَفْصٍ: يُصْرَفُ خُمُسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ زَكَاةِ الْمَعْدِنِ.
وأما: زَكَاةُ الْفِطْرِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وُجُوبُ صَرْفِهَا إلَى الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ كَبَاقِي الزَّكَوَاتِ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَحْقِيقِ مَذْهَبِ الْإِصْطَخْرِيِّ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ: تُصْرَفُ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْإِصْطَخْرِيَّ يُجَوِّزُ صَرْفَهَا إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ، أَوْ مِنْ الْمَسَاكِينِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الصَّرْفِ عِنْدَهُ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ صِنْفِ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَحَكَى عَنْهُ الْجُمْهُورُ جَوَازَ صَرْفِهَا إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالسَّرَخْسِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ

 

ج / 6 ص -107-       وَآخَرُونَ. وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ1 وَالْمُتَوَلِّي: بِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهُ بِالدَّفْعِ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: جَوَّزَ الْإِصْطَخْرِيُّ صَرْفَهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ مِنْ صِنْفٍ، أَوْ مِنْ أَصْنَافٍ مُخْتَلِفَةٍ، قَالَ: وَشَرَطَ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَنْ يُفَرِّقَهَا الْمُزَكِّي بِنَفْسِهِ. قَالَ فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ أَوْ السَّاعِي لَزِمَ الْإِمَامُ وَالسَّاعِي تَعْمِيمَ الْأَصْنَافِ؛ لِأَنَّهَا تَكْثُرُ فِي يَدِهِ فَلَا يَتَعَذَّرُ التَّعْمِيمُ، وَشَرَطَ مَالِكٌ صَرْفَهَا إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ خَاصَّةً، هَذَا كَلَامُ السَّرَخْسِيِّ. وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ قَوْلَ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَحَكَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا اخْتِيَارَهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَرَأَيْتُ بِخَطِّ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ بَدْرَانَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ يَقُولُ فِي اخْتِيَارِهِ وَرَأْيِهِ: إنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وُجُوبُ اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ، وَرَدَّ أَصْحَابُنَا مَذْهَبَ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَقَوْلُهُ: إنَّهَا قَلِيلَةٌ، بِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ جَمْعُهَا مَعَ زَكَاةِ غَيْرِهِ فَتَكْثُرُ، قَالُوا: وَيُنْتَقَضُ قَوْلُهُ أَيْضًا بِمَنْ لَزِمَهُ جُزْءٌ مِنْ حَيَوَانٍ بِأَنْ تَلِفَ مُعْظَمُ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ، وَكَذَا لَوْ لَزِمَهُ نِصْفُ دِينَارٍ عَنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ إلَى الْأَصْنَافِ وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْإِصْطَخْرِيُّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 
هَذَا كُلُّهُ إذَا فَرَّقَ الزَّكَاةَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ وَكِيلُهُ، فَأَمَّا إذَا فَرَّقَ الْإِمَامُ أَوْ السَّاعِي فَيَلْزَمُهُ صَرْفُ الْفِطْرَةِ وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ إلَى الْأَصْنَافِ الْمَوْجُودِينَ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ صِنْفٍ مِنْهُمْ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ زَكَاةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَزَكَاةَ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتْرُكَ صِنْفًا، وَلَا يُرْجِعُ صِنْفًا عَلَى صِنْفٍ وَسَنُوَضِّحُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُفَرِّقُ الزَّكَاةَ هُوَ الْإِمَامُ قَسَّمَهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ (سَهْمُ) لِلْعَامِلِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، وَغَيْرُهُ يَأْخُذُهُ عَلَى[وَجْهِ] الْمُوَاسَاةِ، فَإِذَا كَانَ السَّهْمُ قَدْرَ أُجْرَتِهِ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهِ رَدَّ الْفَضْلَ عَلَى الْأَصْنَافِ، وَقَسَّمَهُ عَلَى سِهَامِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَتِهِ تَمَّمَ، وَمِنْ أَيْنَ يُتَمِّمُ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُتَمِّمُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَلَوْ قِيلَ: يُتَمِّمُ مِنْ حَقِّ سَائِرِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يُتَمِّمُ مِنْ حَقِّ سَائِرِ الْأَصْنَافِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ، فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عَلَيْهِمْ. والثاني: يُتَمِّمُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ صِنْفٍ سَهْمًا، فَلَوْ قَسَّمْنَا ذَلِكَ الْأَصْنَافَ، وَنَقَصْنَا حَقَّهُمْ فَضَّلْنَا الْعَامِلَ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ تَمَّمَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ سِهَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْحَاكِمَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي فِيهِ حَقَّ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ، وَيُشْبِهُ الْأَجِيرَ2 فَخُيِّرَ بَيْنَ حَقَّيْهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ[قَدْ] بَدَأَ بِنَصِيبِهِ فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ تَمَّمَ مِنْ سِهَامِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَدَأَ بِسِهَامِ الْأَصْنَافِ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ وَجَدَ مِنْهُمْ الْعَامِلَ يَنْقُصُ تَمَّمَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ إلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ فَضَلَ عَنْ قَدْرِ حَاجَةِ الْأَصْنَافِ شَيْءٌ تَمَّمَ مِنْ الْفَضْلِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ تَمَّمَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ، وَيُعْطِي الْحَاشِرَ وَالْعَرِيفَ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعُمَّالِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة الحداد (بصرفها عنده إلى ثلاثة من الفقراء دون غيرهم) وطرح المتولي .
2 في بعض النسخ (الوكيل) بدل ( الأجير ) (ط).

 

ج / 6 ص -108-       وَفِي أُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هِيَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِلْإِيفَاءِ، وَالْإِيفَاءُ حَقٌّ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: تَكُونُ مِنْ الصَّدَقَةِ لِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ زِدْنَا عَلَى الْفَرْضِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ".
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ قَسْمَ الزَّكَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَامِلٌ بِأَنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَرَّقَهَا عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ، وَسَقَطَ نَصِيبُ الْعَامِلِ، وَوَجَبَ صَرْفُ جَمِيعِهَا إلَى الْبَاقِينَ مِنْ الْأَصْنَافِ، كَمَا لَوْ فُقِدَ صِنْفٌ آخَرُ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَامِلٌ بَدَأَ الْإِمَامُ بِنَصِيبِ الْعَامِلِ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَذِهِ الْبُدَاءَةُ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ وَلِلسَّاعِي إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ تَفْرِيقُ الزَّكَوَاتِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِضَبْطِ الْمُسْتَحَقِّينَ، وَمَعْرِفَةِ أَعْدَادِهِمْ، وَقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ، بِحَيْثُ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ جَمِيعِ الزَّكَوَاتِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَوْ مَعَهُ، لِيَتَعَجَّلَ وُصُولَ حُقُوقِهِمْ إلَيْهِمْ، وَلِيَأْمَنَ مِنْ هَلَاكِ الْمَالِ عِنْدَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ قَدْرَ أُجْرَةِ عَمَلِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ قَدْرِ أُجْرَتِهِ فَقَطْ أَخَذَهُ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهِ أَخَذَ أُجْرَتَهُ وَالْبَاقِي لِلْأَصْنَافِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْأَصْنَافِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِلْعَامِلِ فِيهَا حَقٌّ تَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلْأَصْنَافِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَتِهِ وَجَبَ إتْمَامُ أُجْرَتِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَمَنْ أَيْنَ يُتَمِّمُ؟ فِيهِ هَذِهِ الطُّرُقُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ (الصَّحِيحُ) مِنْهَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أصحهما: يُتَمِّمُ مِنْ سِهَامِ بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ جَوَازُ التَّتْمِيمِ مِنْ سِهَامِ بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ.
وأما بَيْتُ الْمَالِ فَيَجُوزُ التَّتْمِيمُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ قَالَ أَصْحَابُنَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَجْعَلَ أُجْرَةَ الْعَامِلِ كُلَّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَيُقَسِّمُ جَمِيعَ الزَّكَوَاتِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ جَازَ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ. صَرَّحَ بِهَذَا كُلِّهِ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَآخَرُونَ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُعْطِي الْحَاشِرَ وَالْعَرِيفَ وَالْحَاسِبَ وَالْكَاتِبَ وَالْجَابِيَ وَالْقَسَّامَ وَحَافِظَ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ الْعُمَّالِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ السَّهْمِ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الْعَامِلِ، وَهُوَ ثُمُنُ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُمْ يُزَاحِمُونَ الْعَامِلَ فِي أُجْرَةِ مِثْلِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْحَاشِرُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ، وَالْعَرِيفُ هُوَ كَالنَّقِيبِ لِلْقَبِيلَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَرِّفُ السَّاعِيَ أَهْلَ الصَّدَقَاتِ إذَا لَمْ يَعْرِفْهُمْ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا حَقَّ فِي الزَّكَاةِ لِلسُّلْطَانِ، وَلَا لِوَلِيِّ الْإِقْلِيمِ وَلَا لِلْقَاضِي، بَلْ رِزْقُهُمْ إذَا لَمْ يَتَطَوَّعُوا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ عَامٌّ فِي مَصَالِحِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ عَامِلِ الزَّكَاةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا لَمْ تَقَعْ الْكِفَايَةُ بِعَامِلٍ وَاحِدٍ أَوْ كَاتِبٍ وَاحِدٍ أَوْ حَاسِبٍ أَوْ حَاشِرٍ وَنَحْوِهِ، زِيدَ فِي الْعَدَدِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَفِي أُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَعَادِّ الْغَنَمِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَالْعَادِّ الَّذِي يُمَيِّزُ نَصِيبَ الْأَصْنَافِ[مِنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ. فَأَمَّا الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ] فَأُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ بِلَا خِلَافٍ، وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْبَيَانِ، قَالَ: وَمُؤْنَةُ إحْضَارِ الْمَاشِيَةِ لِيَعُدَّهَا الْعَامِلُ تَجِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا لِلتَّمْكِينِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، قَالَ: وَأُجْرَةُ حَافِظِ الزَّكَاةِ وَنَاقِلِهَا وَالْبَيْتُ

 

ج / 6 ص -109-       الَّذِي تُحْفَظُ فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِ الزَّكَاةِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ وَالنَّاقِلُ هَاشِمِيًّا وَمُطَّلِبِيًّا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ أَجِيرٌ مَحْضٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُسْتَظْهِرِيِّ فِي أُجْرَةِ رَاعِي أَمْوَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ قَبْضِهَا وَحَافِظِهَا وَجْهَيْنِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ تَجِبُ فِي جُمْلَةِ الزَّكَاةِ. والثاني: تَجِبُ فِي سَهْمِ الْعَامِلِ خَاصَّةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمهم الله:"وَسَهْمٌ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ فَيُدْفَعُ إلَيْهِ مَا تَزُولُ بِهِ حَاجَتُهُ مِنْ أَدَاةٍ يَعْمَلُ بِهَا1 إنْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ، أَوْ بِضَاعَةٌ يَتْجُرُ فِيهَا حَتَّى لَوْ احْتَاجَ إلَى مَالٍ كَثِيرٍ لِلْبِضَاعَةِ الَّتِي تَصْلُحُ لَهُ، وَيُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ، وَإِنْ عُرِفَ لِرَجُلٍ مَالٌ وَادَّعَى أَنَّهُ افْتَقَرَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ غِنَاهُ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْفَقْرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنُ آدَمِيٍّ وَعَرَفَ لَهُ مَالٌ فَادَّعَى الْإِعْسَارَ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا وَادَّعَى أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ أُعْطِيَ، لِمَا رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخِيَارِ"أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّدَقَةَ فَصَعَّدَ بَصَرَهُ إلَيْهِمَا وَصَوَّبَ ثُمَّ قَالَ: أُعْطِيكُمَا بَعْدَ أَنْ أُعْلِمَكُمَا أَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا قَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ" وَهَلْ يَحْلِفُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَحْلِفُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَلِّفْ الرَّجُلَيْنِ. الثاني: يَحْلِفُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ مَعَ الْقُوَّةِ".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ:"أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ" هَذَا لَفْظُ إسْنَادِ الْحَدِيثِ وَمَتْنُهُ فِي كِتَابِ السُّنَنِ وَقَوْلُهُ: (جَلْدَيْنِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ قَوِيَّيْنِ. وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُهَذَّبِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخِيَارِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ. وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وَالْأَوَّلُ غَلَطٌ صَرِيحٌ وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ. بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتٍ: ابْنِ نَوْفَلَ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بْنِ قُصَيٍّ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. وَكَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعُبَيْدُ اللَّهِ تَابِعِيٌّ فَجَعَلَ الْحَدِيثَ مُرْسَلًا وَهُوَ غَلَطٌ، بَلْ الْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَالرَّجُلَانِ صَحَابِيَّانِ لَا يَضُرُّ جَهَالَةُ عَيْنِهِمَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلُّهُمْ عُدُولٌ.
وَقَوْلُهُ: (صَعَّدَ بَصَرَهُ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، أَيْ رَفَعَهُ. وَقَوْلُهُ: (وَصَوَّبَهُ) أَيْ خَفَضَهُ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ (مِنْ أَدَاةٍ يَعْمَلُ بِهَا) هِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبِدَالٍ مُهْمَلَةٍ، وَهِيَ الْآلَةُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أفتيت بهذا لبنك فيصل الإسلامي فقلت: يجوز أن يعطي البتك لأصحاب الحرف كالنجارين والسباكين والخراطين وآلات تعينهم في عملهم ورزقهم ولعلهم يصيبون من الكسب ما يجعلهم مؤدين للزكاة إذا اغتنوا بعد قليل إن شاء الله (ط).

 

ج / 6 ص -110-       أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
 إحداها: فِي حَقِيقَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ سَهْمًا فِي الزَّكَاةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: هُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ لَا بِمَالٍ وَلَا بِكَسْبٍ، وَشَرَحَهُ الْأَصْحَابُ فَقَالُوا: هُوَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا كَسْبَ أَصْلًا أَوْ لَهُ مَا لَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا بِالنِّسْبَةِ إلَى حَاجَتِهِ بِأَنْ كَانَ يَحْتَاجُ كُلَّ يَوْمٍ إلَى عَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَمْلِكُ دِرْهَمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً كُلَّ يَوْمٍ فَهُوَ فَقِيرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ الْكِفَايَةِ قَالَ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ: وَلَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا أَوْ ثَوْبٌ يَلْبَسُهُ مُتَجَمِّلًا بِهِ فَهُوَ فَقِيرٌ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فَقْرَهُ لِضَرُورَتِهِ إلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِعَبْدِهِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْخِدْمَةِ، وَهُوَ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ مُلْحَقٌ بِالْمَسْكَنِ قلت: قَدْ صَرَّحَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ التَّجْرِيدِ بِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْخِدْمَةِ كَالْمَسْكَنِ، وَأَنَّهُمَا لَا يَمْنَعَانِ أَخْذَهُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَثِيَابِهِ
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْقَدْرُ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الدَّيْنُ لَا حُكْمَ لِوُجُودِهِ وَلَا يَمْنَعُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ، كَمَا لَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ. قَالَ: وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْطِي سَهْمَ الْفُقَرَاءِ حَتَّى يَصْرِفَ مَا عِنْدَهُ إلَى الدَّيْنِ1. قَالَ الْبَغَوِيّ: يَجُوزُ أَخْذُ الزَّكَاةِ لِمَنْ مَالُهُ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ إلَى أَنْ يَصِلَ مَالُهُ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلُ فَلَهُ أَخْذُ كِفَايَتِهِ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقَدْ يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ فِي اشْتِرَاطِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ. وَأَمَّا الْكَسْبُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ كَسْبٌ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَالِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَجْزُ عَنْ أَصْلِ الْكَسْبِ، قَالُوا: وَالْمُعْتَبَرُ كَسْبٌ يَلِيقُ بِحَالِهِ وَمُرُوءَتِهِ، وَأَمَّا مَا لَا يَلِيقُ بِهِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ. قَالُوا: وَلَوْ قَدَرَ عَلَى كَسْبٍ يَلِيقُ بِحَالِهِ إلَّا أَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِتَحْصِيلِ بَعْضِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ أَقْبَلَ عَلَى الْكَسْبِ لَانْقَطَعَ عَنْ التَّحْصِيلِ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
وأما: مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّحْصِيلُ فَلَا تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدْرَسَةِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ فِي الْمُشْتَغِلِ بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَسْتَحِقُّ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ. والثاني: لَا. والثالث: إنْ كَانَ نَجِيبًا يُرْجَى تَفَقُّهُهُ وَنَفْعُ الْمُسْلِمِينَ بِهِ اسْتَحَقَّ وَإِلَّا فَلَا، ذَكَرَهَا الدَّارِمِيُّ فِي بَابِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَأَمَّا مَنْ أَقْبَلَ عَلَى نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ - وَالْكَسْبُ يَمْنَعُهُ مِنْهَا. أَوْ مِنْ اسْتِغْرَاقِ الْوَقْتِ بِهَا - فَلَا تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ عِبَادَتِهِ قَاصِرَةٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُشْتَغِلِ بِالْعِلْمِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْكَسُوبُ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ.
فرع: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْفَقِيرِ الزَّمَانَةُ وَالتَّعَفُّفُ عَنْ السُّؤَالِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ الْمَذْهَبُ لَا يُشْتَرَطُ. وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ والثاني: حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: لَا يُشْتَرَطُ والثاني: يُشْتَرَطُ، قَالُوا: الْجَدِيدُ لَا يُشْتَرَطُ، وَالْقَدِيمُ يُشْتَرَطُ، وَتَأَوَّلَ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ الْقَدِيمَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدين: بفتح الدال مع التشديد.

 

ج / 6 ص -111-       فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْمُعْتَبَرُ فِي قَوْلِنَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ الْمَطْعَمُ وَالْمَلْبَسُ وَالْمَسْكَنُ وَسَائِرُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ بِغَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا إقْتَارٍ لِنَفْسِ الشَّخْصِ وَلِمَنْ هُوَ فِي نَفَقَتِهِ.
فرع: الْمُكْفَى بِنَفَقَةِ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَالْفَقِيرَةُ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ غَنِيٌّ يُنْفِقُ عَلَيْهَا هَلْ يُعْطَيَانِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُنْتَشِرٌ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَلَخَصَّهُ الرَّافِعِيُّ فَقَالَ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ لَوْ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِهِ أَوْ أَوْصَى لَهُمْ فَكَانَا فِي أَقَارِبِهِ هَلْ يَسْتَحِقَّانِ سَهْمًا فِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أصحها لَا يَسْتَحِقَّانِ قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ وَالْخُضَرِيُّ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَغَيْرُهُ. والثاني: يَسْتَحِقَّانِ قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ. والثالث: يَسْتَحِقُّ الْقَرِيبُ دُونَ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ عِوَضًا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَيَسْتَقِرُّ، قَالَهُ الْأَوْدَنِيُّ. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَرِيبَ يَلْزَمُهُ كِفَايَتُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى الدَّوَاءِ، وَأُجْرَةُ الطَّبِيبِ، فَانْدَفَعَتْ حَاجَتُهُ، وَالزَّوْجَةُ لَيْسَ لَهَا إلَّا مُقَدَّرٌ، وَرُبَّمَا لَا يَكْفِيهَا.
قَالَ: فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الزَّكَاةِ فَإِنْ قُلْنَا:  لَا حَقَّ لَهُمَا فِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ فَالزَّكَاةُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: الأصحيُعْطَيَانِ كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ والثاني: لَا. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي الْوَقْفِ بِاسْمِ الْفَقْرِ، وَلَا يَزُولُ اسْمُ الْفَقْرِ بِقِيَامِ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ. وَفِي الزَّكَاةِ بِالْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ مَعَ تَوَجُّهِ النَّفَقَةِ، فَأَشْبَهَ مَنْ يَكْتَسِبُ كُلَّ يَوْمٍ كِفَايَتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُودًا مِنْ الْفُقَرَاءِ، وَالْخِلَافُ فِي الْقَرِيبِ إذَا أَعْطَاهُ غَيْرُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ الْمَسَاكِينِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِهِمَا بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِنَفَقَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ النَّفَقَةَ وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ وَالْغَارِمِ وَالْغَازِي وَالْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَذَا مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ؛ لِئَلَّا يُسْقِطَ النَّفَقَةَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ مُؤْنَةَ السَّفَرِ دُونَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ سَفَرًا وَحَضَرًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ.
 وأما: فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجَةِ فَالْوَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي الزَّوْجِ كَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالصَّرْفِ إلَيْهَا لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ النَّفَقَةَ، بَلْ نَفَقَتُهَا عِوَضٌ لَازِمٌ سَوَاءٌ كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً فَصَارَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ فَقِيرًا، فَإِنَّ لَهُ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَيْهِ مَعَ الْأُجْرَةِ، وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الدَّفْعُ إلَيْهَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهَا، فَلَوْ كَانَتْ نَاشِزَةً فَوَجْهَانِ: أحدهما: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ يَجُوزُ إعْطَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى النَّفَقَةِ بِتَرْكِ النُّشُوزِ، فَأَشْبَهَتْ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ بِلَا خِلَافٍ، وَمِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ عَامِلَةً وَلَا غَازِيَةً. وَأَمَّا سَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ فَإِنْ سَافَرَتْ مَعَ الزَّوْجِ لَمْ تُعْطَ مِنْهُ سَوَاءٌ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّهَا فِي قَبْضَتِهِ وَلَا تُعْطَى مُؤْنَةَ السَّفَرِ إنْ سَافَرَتْ مَعَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهَا عَاصِيَةٌ، وَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا - فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ - أَوْجَبْنَا نَفَقَتَهَا، أُعْطِيت مُؤْنَةَ السَّفَرِ فَقَطْ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهَا أُعْطِيت جَمِيعَ كِفَايَتِهَا، وَإِنْ سَافَرَتْ

 

ج / 6 ص -112-       وَحْدَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ تُعْطَ؛ لِأَنَّهَا عَاصِيَةٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى هَذِهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِخِلَافِ النَّاشِزَةِ؛ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى طَاعَتِهِ وَالْمُسَافِرَةُ لَا تَقْدِرُ. فَإِنْ تَرَكَتْ سَفَرَهَا وَعَزَمَتْ عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ أُعْطِيت مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ لِخُرُوجِهَا عَنْ الْمَعْصِيَةِ. هَذَا آخِرُ مَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ ذَاتَ مَالٍ فَلَهَا صَرْفُ زَكَاتِهَا إلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، سَوَاءٌ صُرِفَتْ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَوْ نَحْوِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا نَفَقَتُهُ فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَكَالْأَخِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ وَدَفْعُهَا إلَى الزَّوْجِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
فرع: إذَا كَانَ لَهُ عَقَارٌ يَنْقُصُ دَخْلُهُ عَنْ كِفَايَتِهِ فَهُوَ فَقِيرٌ أَوْ مِسْكِينٌ، فَيُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ تَمَامَ كِفَايَتِهِ وَلَا يُكَلَّفُ بَيْعَهُ، ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَآخَرُونَ.
فرع: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: لَوْ كَانَ لَهُ كُتُبُ فِقْهٍ لَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ الْمَسْكَنَةِ - يَعْنِي وَالْفَقْرِ - قَالَ: فَلَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَحُكْمُ كِتَابِهِ حُكْمُ أَثَاثِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، قَالَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَاطَ فِي فَهْمِ الْحَاجَةِ إلَى الْكِتَابِ، فَالْكِتَابُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِثَلَاثَةِ أَغْرَاضٍ: التَّعْلِيمُ وَالتَّفَرُّجُ بِالْمُطَالَعَةِ وَالِاسْتِفَادَةُ، فَالتَّفَرُّجُ لَا يُعَدُّ حَاجَةً كَاقْتِنَاءِ كُتُبِ الشِّعْرِ وَالتَّوَارِيخِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا فِي الدُّنْيَا فَهَذَا يُبَاعُ فِي الْكَفَّارَةِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ وَيَمْنَعُ اسْمَ الْمَسْكَنَةِ. وَأَمَّا حَاجَةُ التَّعْلِيمِ فَإِنْ كَانَ لِلتَّكَسُّبِ كَالْمُؤَدِّبِ وَالْمُدَرِّسِ بِأُجْرَةٍ فَهَذِهِ آلَتُهُ، فَلَا تُبَاعُ فِي الْفِطْرَةِ كَآلَةِ الْخَيَّاطِ، وَإِنْ كَانَ يَدْرُسُ لِقِيَامِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَمْ تُبَعْ. وَلَا تَسْلُبُهُ اسْمَ الْمَسْكَنَةِ؛ لِأَنَّهَا حَاجَةٌ مُهِمَّةٌ أَيُّ حَاجَةٍ. وَأَمَّا الِاسْتِفَادَةُ وَالتَّعَلُّمُ مِنْ الْكِتَابِ كَادِّخَارِهِ كِتَابَ طِبٍّ لِيُعَالِجَ نَفْسَهُ بِهِ. أَوْ كِتَابَ وَعْظٍ لِيُطَالِعَهُ وَيَتَّعِظَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ طَبِيبٌ أَوْ وَاعِظٌ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُحْتَاجٌ، ثُمَّ رُبَّمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَعَتِهِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ. قَالَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْبِطَ، فَيُقَالُ: مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي السَّنَةِ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، فَتُقَدَّرُ حَاجَةُ أَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابُ الْبَدَنِ بِالسَّنَةِ فَلَا يُبَاعُ ثِيَابُ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَلَا ثِيَابُ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَالْكُتُبُ بِالثِّيَابِ أَشْبَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ كِتَابٍ نُسْخَتَانِ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَّا إلَى أَحَدِهِمَا فَإِنْ قَالَ: أَحَدُهُمَا أَصَحُّ وَالْأُخْرَى أَحْسَنُ، قُلْنَا: اكْتَفِ بِالْأَصَحِّ وَبِعْ الْأَحْسَنَ، وَإِنْ كَانَا كِتَابَيْنِ مِنْ عِلْمٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا مَبْسُوطٌ وَالْآخَرُ وَجِيزٌ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِفَادَةَ فَلِيَكْتَفِ بِالْمَبْسُوطِ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّدْرِيسَ احْتَاجَ إلَيْهِمَا. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَهُوَ حَسَنٌ إلَّا قَوْلَهُ فِي كِتَابِ الْوَعْظِ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْوَعْظِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَنْتَفِعُ بِالْوَاعِظِ كَانْتِفَاعِهِ فِي خَلْوَتِهِ، وَعَلَى حَسْبِ إرَادَتِهِ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ فِي كِتَابِهِ الزِّيَادَاتِ: لَوْ كَانَ لَهُ كُتُبُ عِلْمٍ وَهُوَ عَالِمٌ جَازَ دَفْعُ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ إلَيْهِ، قَالَ: وَلَا تُبَاعُ كُتُبُهُ فِي الدِّينِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: سُئِلَ الْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَوِيِّ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الَّذِينَ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِالتَّكَسُّبِ بِالْبَدَنِ، هَلْ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَهَذَا صَحِيحٌ جَازَ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حِرْفَةٌ تَلِيقُ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -113-       الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَدْرِ الْمَصْرُوفِ إلَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَكَثِيرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ: يُعْطِيَانِ مَا يَخْرُجُهُمَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْغِنَى، وَهُوَ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ. وَهَذَا هُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْأَصْحَابُ بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ، رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالْقِوَامُ وَالسِّدَادُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا، وَهُمَا بِمَعْنًى.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ حَتَّى يُصِيبَ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُ فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالُوا: وَذِكْرُ الثَّلَاثَةِ فِي الشَّهَادَةِ لِلِاسْتِظْهَارِ لَا لِلِاشْتِرَاطِ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَتْ عَادَتْهُ الِاحْتِرَافَ أُعْطِيَ مَا يَشْتَرِي بِهِ حِرْفَتَهُ أَوْ آلَاتِ حِرْفَتِهِ، قَلَّتْ قِيمَةُ ذَلِكَ أَمْ كَثُرَتْ، وَيَكُونُ قَدْرُهُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ رِبْحِهِ مَا يَفِي بِكِفَايَتِهِ تَقْرِيبًا. وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْحِرَفِ وَالْبِلَادِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَشْخَاصِ. وَقَرَّبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ فَقَالُوا: مَنْ يَبِيعُ الْبَقْلَ يُعْطَى خَمْسَةَ دَرَاهِمَ أَوْ عَشْرَةَ، وَمَنْ حِرْفَتُهُ بَيْعُ الْجَوْهَرِ يُعْطَى عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَثَلًا إذَا لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ الْكِفَايَةُ بِأَقَلَّ مِنْهَا. وَمَنْ كَانَ تَاجِرًا أَوْ خَبَّازًا أَوْ عَطَّارًا أَوْ صَرَّافًا أُعْطِيَ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ، وَمَنْ كَانَ خَيَّاطًا أَوْ نَجَّارًا أَوْ قَصَّارًا أَوْ قَصَّابًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ أُعْطِيَ مَا يَشْتَرِي بِهِ الْآلَاتِ الَّتِي تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الضِّيَاعِ يُعْطَى مَا يَشْتَرِي بِهِ ضَيْعَةً أَوْ حِصَّةً فِي ضَيْعَةٍ تَكْفِيهِ غَلَّتُهَا عَلَى الدَّوَامِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَرِفًا وَلَا يُحْسِنُ صَنْعَةً أَصْلًا وَلَا تِجَارَةً وَلَا شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ أُعْطِيَ كِفَايَةَ الْعُمْرِ الْغَالِبِ لِأَمْثَالِهِ فِي بِلَادِهِ وَلَا يَتَقَدَّرُ بِكِفَايَةِ سَنَةٍ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَغَيْرُهُ: يُعْطَى مَا يَشْتَرِي بِهِ عَقَارًا يَسْتَغِلُّ مِنْهُ كِفَايَتَهُ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْعِرُ كَلَامُهُ بِأَنَّهُ يُعْطَى مَا يُنْفِقُ عَيْنَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ، وَالصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ إعْطَائِهِ كِفَايَةَ عُمْرِهِ هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَكَثِيرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ يُعْطَى كِفَايَةَ سَنَةٍ وَلَا يُزَادُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ فَيَحْصُلُ كِفَايَتُهُ مِنْهَا سَنَةً سَنَةً، وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ فِي الْمِفْتَاحِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ كِفَايَةُ الْعُمْرِ. قَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا، قَالَ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ وَآخَرِينَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: هُوَ الْمَنْصُوصُ وَقَوْلُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا عُرِفَ لِرَجُلٍ مَالٌ فَادَّعَى تَلَفَهُ وَأَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ مِسْكِينٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَفِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ وَصِفَتِهَا كَلَامٌ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ الْمُكَاتَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ دَعْوَاهُ الْهَلَاكَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ كَالسَّرِقَةِ، أَوْ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ، وَإِنْ

 

ج / 6 ص -114-       لَمْ يُعْرَفْ مَالٌ وَادَّعَى الْفَقْرَ أَوْ الْمَسْكَنَةَ قُبِلَ1 قَوْلُهُ وَلَا يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الْفَقْرُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا ادَّعَى أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عَدَمُ الْكَسْبِ كَشَيْخٍ هَرِمٍ أَوْ شَابٍّ ضَعِيفِ الْبِنْيَةِ وَنَحْوِهِمَا، قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ عَدَمُ الْكَسْبِ، وَإِنْ كَانَ شَابًّا قَوِيًّا لَمْ يُكَلَّفْ الْبَيِّنَةَ بِلَا خِلَافٍ بَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَهَلْ يَحْلِفُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِلَا يَمِينٍ لِلْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالرِّفْقِ، فَلَا يُكَلَّفُ يَمِينًا، وَالْقَائِلُ الْآخَرُ يَتَأَوَّلُ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ مِنْ حَالِهِمَا عَدَمَ الْكَسْبِ وَالْقُدْرَةِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ يُخَالِفُ هَذَا فإن قلنا: يَحْلِفُ، فَهَلْ الْيَمِينُ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ شَرْطٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ نَكِلَ، فَإِنْ قُلْنَا: شَرْطٌ لَمْ يُعْطَ وَإِلَّا أُعْطِيَ. وَلَوْ قَالَ: لَا مَالَ لِي وَاتَّهَمَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ لَا كَسْبَ لِي فَيَجِيءُ فِي تَحْلِيفِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، هَكَذَا نَقَلُوهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمهم الله:"وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَكْفِيهِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: هُوَ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، فَأَمَّا الَّذِي يَجِدُ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ فَهُوَ الْفَقِيرُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْفُقَرَاءِ، وَالْعَرَبُ لَا تَبْدَأُ إلَّا بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَمَسُّ حَاجَةً؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا"وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ الْفَقْرِ" فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَشَدُّ، وَيُدْفَعُ إلَى الْمِسْكِينِ تَمَامَ الْكِفَايَةِ، فَإِنْ ادَّعَى عِيَالًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ".

الشرح: أَمَّا قَوْلُهُ:"إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْفَقْرِ" فَهُوَ ثَابِتٌ فِي "الصحيحين" مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها. وَأَمَّا حَدِيثُ
"أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا" فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ رضي الله عنه وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه وَإِسْنَادُهُ أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: فَقَدْ اسْتَعَاذَ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْفَقْرِ وَسَأَلَ الْمَسْكَنَةَ. وَقَدْ كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم بَعْضُ الْكِفَايَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ مَنْ لَهُ بَعْضُ الْكِفَايَةِ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: اسْتَعَاذَ مِنْ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَعَاذَ مِنْ الْحَالِ الَّتِي شَرَّفَهَا فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ، وَلَا مِنْ الْحَالِ الَّتِي سَأَلَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْيَى وَيُمَاتَ عَلَيْهَا، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَتُهُ صلى الله عليه وسلم مُخَالِفَةً لِمَا مَاتَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ مَاتَ مَكْفِيًّا بِمَا أَفَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَقَالَ: وَوَجْهُ الْأَحَادِيثِ عِنْدِي أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ اللَّذَيْنِ يَرْجِعُ مَعْنَاهُمَا إلَى الْقِلَّةِ، كَمَا اسْتَعَاذَ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ
"اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قبل: بضم القاف وكسر الباء.

 

ج / 6 ص -115-       اسْتَعَاذَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ دُونَ حَالِ الْفَقْرِ، وَمَنْ فِتْنَةِ الْغِنَى دُونَ حَالِ الْغِنَى، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم إنْ كَانَ قَالَ"أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا" فَإِنْ صَحَّ طَرِيقُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ فَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ حَالُهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ مَسْكَنَةً يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إلَى الْقِلَّةِ، بَلْ مَسْكَنَةً مَعْنَاهَا الْإِخْبَاتُ وَالتَّوَاضُعُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْجَبَابِرَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَأَنْ لَا يُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ الْأَغْنِيَاءِ الْمُتْرَفِينَ، قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: الْمَسْكَنَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ السُّكُونِ يُقَالُ: تَمَسْكَنَ الرَّجُلُ، إذَا لَانَ وَتَوَاضَعَ وَخَشَعَ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ، كَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ لَا يَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ فِي الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ بَلْ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ صِنْفٍ، لَكِنْ يَظْهَرُ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْمَسَاكِينِ أَوْ لِلْمَسَاكِينِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَفِيمَنْ أَوْصَى بِأَلْفٍ لِلْفُقَرَاءِ وَبِمِائَةٍ لِلْمَسَاكِينِ وَفِيمَنْ نَذَرَ أَوْ حَلَفَ لِيَتَصَدَّقَنَّ عَلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، أَمَّا إذَا أَطْلَقَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَالنَّذْرِ وَجَمِيعِ الْمَوَاضِعِ غَيْرَ الزَّكَاةِ وَلَمْ يَنْفِ الْآخَرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يُعْطِيَ الصِّنْفَ الْآخَرَ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَضَابِطُهُ أَنَّهُ مَتَى أَطْلَقَ الْفُقَرَاءَ أَوْ الْمَسَاكِينَ تَنَاوَلَ الصِّنْفَيْنِ، وَإِنْ جَمَعَا أَوْ ذَكَرَ أَحَدَهُمَا وَنَفَى الْآخَرَ وَجَبَ التَّمْيِيزُ حِينَئِذٍ، وَيَحْتَاجُ عِنْدَ ذَلِكَ إلَى بَيَانِ النَّوْعَيْنِ أَيُّهُمَا أَسْوَأُ حَالًا؟ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَبِهَذَا قَالَ خَلَائِقُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ.
أَمَّا: حَقِيقَةُ الْمِسْكِينِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: هُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلَا يَكْفِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: مِثَالُهُ: يَحْتَاجُ إلَى عَشْرَةٍ وَيَقْدِرُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ، وَسَبَقَ فِي فَصْلِ الْفَقِيرِ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْكَسْبِ الْمُعْتَبَرِ وَالْمَالِ الْمُعْتَبَرِ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ يُعْطَيَانِ تَمَامَ كِفَايَتِهِمَا وَسَبَقَ كَيْفِيَّةُ إعْطَاءِ الْكِفَايَةِ وَجَمِيعُ الْفُرُوعِ السَّابِقَةِ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ الَّذِي يَمْلِكُهُ الْمِسْكِينُ نِصَابًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ إذَا لَمْ يَبْلُغْ كِفَايَتَهُ فَيُعْطَى تَمَامَ الْكِفَايَةِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا. دَلِيلُنَا أَنَّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَالنُّصُوصُ مُطْلَقَةٌ فَلَا يُقْبَلُ تَقْيِيدُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ ادَّعَى الْفَقِيرُ أَوْ الْمِسْكِينُ عِيَالًا وَطَلَبَ أَنْ يُعْطَى كِفَايَتَهُ وَكِفَايَتَهُمْ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْعِيَالِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ أصحهما: لَا يُعْطَى إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِإِمْكَانِهَا وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَسَهْمٌ لِلْمُؤَلَّفَةِ وَهُمْ ضَرْبَانِ، مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ، فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَضَرْبَانِ ضَرْبٌ يُرْجَى خَيْرُهُ، وَضَرْبٌ يُخَافُ شَرُّهُ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهِمْ، وَهَلْ يُعْطَوْنَ بَعْدَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَعْطَاهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ يُوجَدُ بَعْدَهُ. والثاني: لَا يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ رضي الله عنهم بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعْطُوهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه"إنَّا لَا نُعْطِي عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا، فَمَنْ شَاءَ فَلِيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" فَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُمْ يُعْطَوْنَ

 

ج / 6 ص -116-       فَإِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا حَقَّ فِيهَا لِلْكُفَّارِ، وَإِنَّمَا يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ. أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: قَوْمٌ لَهُمْ شَرَفٌ فَيُعْطَوْنَ لِيَرْغَبَ نُظَرَاؤُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ وَعَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ. والثاني: قَوْمٌ أَسْلَمُوا، وَنِيَّتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ضَعِيفَةٌ فَيُعْطَوْنَ لِتَقْوَى نِيَّتُهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ. وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ.
وَهَلْ يُعْطَى هَذَانِ الْفَرِيقَانِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَزَّ الْإِسْلَامَ فَأَغْنَى عَنْ التَّأَلُّفِ بِالْمَالِ. والثاني: يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ أُعْطُوا قَدْ يُوجَدُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ أَيْنَ يُعْطَوْنَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: مِنْ الصَّدَقَاتِ؛ لِلْآيَةِ. والثاني: مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، فَكَانَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: قَوْمٌ يَلِيهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ إنْ أُعْطُوا قَاتَلُوهُمْ. الضَّرَبُ الرَّابِعُ: قَوْمُ يَلِيهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ إنْ أُعْطُوا جَبُّوا الصَّدَقَاتِ وَفِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ. والثاني: مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ الصَّدَقَاتِ؛ لِلْآيَةِ. والثالث: مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَغْزُونَ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ وَمِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا مَعْنَى الْفَرِيقَيْنِ".
الشرح:
حَدِيثُ إعْطَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُؤَلَّفَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم"أَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ وَصَفْوَانُ يَوْمئِذٍ كَافِرٌ، قَالَ صَفْوَانُ: لَقَدْ أَعْطَانِي مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إلَيَّ فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى أَنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَحَدِيثُ إعْطَاءِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ وَالْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ هَكَذَا، مِنْ رِوَايَةِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ.
أَمَّا الزِّبْرِقَانُ - فَبِزَايٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ قَافٍ - وَهُوَ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْعَرَبِ وِسَادَاتِ بَنِي تَمِيمٍ، وَالزِّبْرِقَانُ لَقَبٌ لَهُ، وَاسْمُهُ الْحُصَيْنُ بْنُ بَدْرِ بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ، كُنْيَتُهُ أَبُو عَيَّاشٍ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ لُقِّبَ بِالزِّبْرِقَانِ لَحُسْنِهِ، وَقِيلَ: لِصُفْرَةِ عِمَامَتِهِ، وَمِنْهُ زَبْرَقْت الثَّوْبَ إذَا صَفَّرْتُهُ، وَكَانَ يَلْبَسُ عِمَامَةً مُزَبْرَقَةً بِالزَّعْفَرَانِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: قَمَرُ نَجْدٍ لِحُسْنِهِ، أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ وَوَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكْرَمَهُ وَوَلَّاهُ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما وَقَدْ بُسِطَتْ أَحْوَالُهُ فِي التَّهْذِيبِ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَكُلُّهُمْ صَحَابَةٌ رضي الله عنهم وَسُمِّيَ هَذَا الصِّنْفُ مُؤَلَّفَةً؛ لِأَنَّهُمْ يَتَأَلَّفُونَ بِالْعَطَاءِ وَتُسْتَمَالُ بِهِ قُلُوبُهُمْ .
أما أحكام الفصل: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُؤَلَّفَةُ ضَرْبَانِ: مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ، وَالْكُفَّارُ صِنْفَانِ: (مَنْ) يُرْجَى إسْلَامُهُ (وَمَنْ) يُخَافُ شَرُّهُ، فَهَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْغَنَائِمِ لَا مِنْ الزَّكَاةِ، وَهَلْ يُعْطَوْنَ1 بَعْدَهُ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا:
أحدهما: يُعْطَوْنَ لِلْحَدِيثِ وَأَصَحُّهُمَا: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبَغَوِيّ: لَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعطون: بضم الياء وتسكين العين وفتح الطاء.

 

ج / 6 ص -117-       يُعْطَوْنَ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله، وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَكَانَ مِلْكًا لَهُ خَالِصًا يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُ فإن قلنا: يُعْطَوْنَ، أُعْطُوا مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ أَيْضًا مِنْ الْمَصَالِحِ، إلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ.
وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ الْمُسْلِمُونَ فَأَصْنَافٌ: صِنْفٌ لَهُمْ شَرَفٌ فِي قَوْمِهِمْ يُطْلَبُ بِتَأَلُّفِهِمْ إسْلَامُ نُظَرَائِهِمْ، (وَصِنْفٌ) أَسْلَمُوا وَنِيَّتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ضَعِيفَةٌ فَيَتَأَلَّفُونَ لِتَقْوَى نِيَّتِهِمْ وَيَثْبُتُوا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي هَذَيْنِ، وَهَلْ يُعْطَوْنَ بَعْدَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا فإن قلنا: يُعْطَوْنَ فَمِنْ أَيْنَ يُعْطُونَ؟ ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَيْنِ فَحَاصِلُهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أصحها عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ؛ لِلْآيَةِ. والثاني: يُعْطَوْنَ مِنْ الْمَصَالِحِ. والثالث: لَا يُعْطَوْنَ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْجُرْجَانِيُّ وَقَطَعَ بِهِ سُلَيْمُ الرَّازِيّ فِي الْكِفَايَةِ وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: قَوْمٌ يَلِيهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْكُفَّارِ إنْ أُعْطُوا قَاتَلُوهُمْ، وَيُرَادُ بِإِعْطَائِهِمْ تَأَلُّفُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ.
وَالرَّابِعُ: قَوْمٌ يَلِيهِمْ قَوْمٌ عَلَيْهِمْ زَكَوَاتٌ وَيَمْنَعُونَهَا، فَإِنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ قَاتَلُوهُمْ وَقَهَرُوهُمْ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ، وَحَمَلُوهَا إلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهُمْ الزَّكَوَاتِ، وَاحْتَاجَ الْإِمَامُ إلَى مُؤْنَةٍ ثَقِيلَةٍ لِتَجْهِيزِ مَنْ يَأْخُذُهَا، وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ يُعْطِيَانِ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ مِنْ أَيْنَ يُعْطَوْنَ؟ فِيهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ بِدَلَائِلِهَا، وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ وَطَائِفَةٌ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَوْجُهًا وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ. والثاني: مِنْ الْمَصَالِحِ. والثالث: مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَسَهْمِ الْغُزَاةِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْقَوْلِ الرَّابِعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا التَّفْرِيعَ عَلَى أَنَّ مَنْ جَمَعَ سَبَبَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ الزَّكَاةِ يُعْطَى بِهِمَا. فَأَمَّا: إنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ إنَّهُ لَا يُعْطَى إلَّا بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يُعْطَى هَؤُلَاءِ إلَّا مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ. والثاني: أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ السَّهْمَيْنِ جَمِيعًا، سَوَاءٌ أَعْطَيْنَا غَيْرَهُمْ بِسَبَبَيْنِ أَمْ لَا لِمَصْلَحَةٍ فِي هَؤُلَاءِ. والثالث: إنْ كَانَ التَّأَلُّفُ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ فَمِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الزَّكَوَاتِ وَقِتَالِ مَانِعِيهَا فَمِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ. وَالرَّابِعُ: يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ، إنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ مِنْ ذَا السَّهْمِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ مِنْ ذَاكَ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّ الْمُؤَلَّفَ لِقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَجَمْعِهَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَرْسَلَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ هَذَا الْخِلَافَ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْأَصَحِّ مِنْهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَطَائِفَةٌ: الْأَظْهَرُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ، وَقِيَاسُ هَذَا أَنْ لَا يُعْطَى الصِّنْفَانِ الْآخَرَانِ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ أَحَقُّ بِاسْمِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي الْآخَرَيْنِ مَعْنَى الْغُزَاةِ وَالْعَامِلِينَ، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَقَدْ صَارَ إلَيْهِ الرُّويَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَكِنَّ الْمُوَافِقَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ثُمَّ لِسِيَاقِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ إثْبَاتُ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ

 

ج / 6 ص -118-       الصِّنْفَانِ الْأَوَّلَانِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْآخَرَيْنِ أَيْضًا وَبِهِ أَفْتَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَهَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الصَّرْفُ إلَى الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْرَفُ كَوْنُهُ مُؤَلَّفًا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ صَاحِبَ الشَّامِلِ وَغَيْرَهُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ قَطَعُوا بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَظْهَرُ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ فِي كِتَابِهِ التَّلْخِيصِ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، أَنَّهُ إنْ قَالَ: نِيَّتِي فِي الْإِسْلَامِ ضَعِيفَةٌ قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ يُصَدِّقُهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا شَرِيفٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ هَذَا التَّفْصِيلَ عَنْ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ أَطْلَقَ مُطَالَبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي صِفَةِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ سَهْمِ الْمُكَاتَبِ، وَهَلْ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ؟ أَمْ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي فَصْلِ سَهْمِ الْفَقِيرِ (الصَّحِيحُ) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله:"وَسَهْمٌ لِلرِّقَابِ وَهُمْ الْمُكَاتَبُونَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُكَاتَبِ مَا يُؤَدِّي فِي الْكِتَابَةِ وَقَدْ حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ أُعْطِيَ مَا يُؤَدِّيهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يُؤَدِّيهِ لَمْ يُعْطَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَلَا حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ[بِهِ] إلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ. والثاني: يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ عَلَيْهِ النَّجْمُ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُؤَدِّي، فَإِنْ دُفِعَ إلَيْهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْمَالِ أَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ إلَى الْمَوْلَى. رَجَعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دُفِعَ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهُ فِي دَيْنِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إلَى الْمَوْلَى وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ فَعَجَّزَهُ الْمَوْلَى فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَسْتَرْجِعُ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ صَرَفَهُ1 فِيمَا عَلَيْهِ. والثاني: يَسْتَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دُفِعَ إلَيْهِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى الْعِتْقِ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ مُكَاتَبٌ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ. والثاني: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَاطَأَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الزَّكَاةَ".
الشرح:
فِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ:
أَحَدهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُصْرَفُ سَهْمُ الرِّقَابِ إلَى الْمُكَاتَبِينَ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. كَذَا نَقَلَهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ وَالْمُتَوَلِّي. وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِالرِّقَابِ أَنْ يُشْتَرَى بِسَهْمِهِمْ عَبِيدٌ وَيُعْتَقُونَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: من الآية177] كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: من الآية60] وَهُنَاكَ يَجِبُ الدَّفْعُ إلَى الْمُجَاهِدِينَ، فَكَذَا يَجِبُ هُنَا الدَّفْعُ إلَى الرِّقَابِ، وَلَا يَكُونُ دَفْعًا إلَيْهِمْ إلَّا عَلَى مَذْهَبِنَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (لأنه صدقه فيما عليه) والصواب ما أثبتناه (ط).

 

ج / 6 ص -119-       وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يُشْتَرَى بِهِ عَبِيدٌ فَلَيْسَ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ دَفْعٌ إلَى سَادَتِهِمْ؛ وَلِأَنَّ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ يُسَلَّمُ السَّهْمُ إلَى الْمُسْتَحَقِّ وَيُمَلِّكُهُ إيَّاهُ، فَيَنْبَغِي هُنَا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَخُصَّهُمْ بِقَيْدٍ يُخَالِفُ غَيْرَهُمْ، وَلِأَنَّ مَا قَالُوهُ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ هَذَا السَّهْمِ فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ؟ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ لِهَذَا السَّهْمِ مَا يَشْتَرِي بِهِ رَقَبَةً يُعْتِقُهَا، وَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضَهَا قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي، وَلَا يَلْزَمُهُ صَرْفُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ إلَى الْإِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ فَيُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِهِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَيُمْكِنُهُ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا.
فَإِنْ قِيلَ: الرِّقَابُ جَمْعُ رَقَبَةٍ وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ الرَّقَبَةُ فَالْمُرَادُ عِتْقُهَا. فَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ الْأَصْحَابُ أَنَّ الرَّقَبَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ الْقِنِّ وَعَلَى الْمُكَاتَبِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا خَصَصْنَاهَا فِي الْكَفَّارَةِ بِالْعَبْدِ الْقِنِّ بِقَرِينَةٍ، وَهِيَ أَنَّ التَّحْرِيرَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْقِنِّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
:"فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ" وَلَمْ تُوجَدُ هَذِهِ الْقَرِينَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُكَاتِبِينَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ الْمُكَاتَبِينَ لَذَكَرَهُمْ بِاسْمِهِمْ الْخَاصِّ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ"وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ" فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَهُمْ الْمُتَطَوِّعُونَ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الدِّيوَانِ وَلَمْ يُذْكَرُوا بِاسْمِهِمْ الْخَاصِّ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ الْمُكَاتَبِينَ لَاكْتَفَى بِالْغَارِمِينَ، فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُفْهَمُ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ مِنْ الْآخَرِ، وَلِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا: وَأَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمَا سَهْمًا مُسْتَقِلًّا كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا يُعْطَى الْمُكَاتَبُ كِتَابَةً صَحِيحَةً. أَمَّا الْفَاسِدَةُ فَلَا يُعْطَى بِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ فَإِنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ كَجٍّ وَالرَّافِعِيُّ.
وَالثَّالِثَةُ: إذَا حَلَّ عَلَى الْمُكَاتَبِ نَجْمٌ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَفَاءٌ دُفِعَ إلَيْهِ وَفَاءً بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَفَاءٌ لَمْ يُعْطَ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَلَا حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ فَفِي إعْطَائِهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا، وَقَلَّ مَنْ بَيَّنَ1 الْأَصَحَّ مِنْهُمَا مَعَ شُهْرَتِهِمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُعْطَى، صَحَّحَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
الرابعة: إذَا دُفِعَتْ إلَيْهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ أَوْ عَجَّزَ نَفْسُهُ قَبْلَ دَفْعِ الْمَالِ إلَى السَّيِّدِ وَالْمَالُ بَاقٍ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ رَجَعَ الدَّافِعُ فِيهِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِيمَا إذَا حَصَلَ الْعِتْقُ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْإِبْرَاءِ قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْكِيهِمَا وَجْهَيْنِ أصحهما: يَرْجِعُ والثاني: لَا يَرْجِعُ بَلْ يَبْقَى مِلْكًا لِلْمُكَاتَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمُتَوَلِّي، وَلَمْ أَرَ أَنَا فِي كِتَابِ الْمُتَوَلِّي تَرْجِيحًا لَهُ بَلْ ذَكَرَ وَجْهَيْنِ مُطْلَقَيْنِ، وَذَكَرَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بين: بالياء المشددة مع الفتح.

 

ج / 6 ص -120-       الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ فِي طَرِيقَيْنِ أصحهما: الرُّجُوعُ والثاني: عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْقَطْعُ بِالرُّجُوعِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَكَذَا الْحُكْمُ، وَعَلَى هَذَا فَفَرْضُ الزَّكَاةِ بَاقٍ عَلَى الدَّافِعِ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى الْمُكَاتَبِ فَقَضَى مَالَ الْكِتَابَةِ مِنْ كَسْبِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَبَقِيَ مَالُ الزَّكَاةِ فِي يَدِهِ، وَكَذَا لَوْ قَضَاهُ أَجْنَبِيٌّ. قَالُوا: وَضَابِطُهُ أَنَّهُ مَتَى اسْتَغْنَى عَمَّا دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَعَتَقَ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِهِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ ثُمَّ عَتَقَ فَطَرِيقَانِ (الْمَذْهَبُ) وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَا غُرْمَ وَوَقَعَتْ الزَّكَاةُ مَوْقِعَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّافِعِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: وَكَذَا لَوْ تَلِفَ بِإِتْلَافِهِ، وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَغْرَمُهُ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ أَيْضًا فِيمَا إذَا أَتْلَفَهُ الْمُكَاتَبُ، هَذَا إذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ الْعِتْقِ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ إنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ بَاقِيًا غُرْمُهُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ صَارَ مَالًا مَضْمُونًا عَلَيْهِ فِي يَدِهِ فَإِذَا تَلِفَ غَرِمَهُ، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا أُعْتِقَ فَأَمَّا إذَا عَجَّزَ نَفْسَهُ وَالْمَالُ بَاقٍ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ثُمَّ عَجَّزَ نَفْسَهُ فَوَجْهَانِ أحدهما: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَشَارَ الْبَغَوِيّ إلَى الْقَطْعِ بِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَفِي الْأَمَالِي لِلسَّرَخْسِيِّ أَنَّ الضَّامِنَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ لَا بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ حَصَلَ عِنْدَهُ بِرِضَى صَاحِبِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَحَلُّهُ الذِّمَّةُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ، قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ قلت: الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، هَذَا كُلُّهُ فِي مَالٍ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى السَّيِّدِ، فَلَوْ سَلَّمَهُ إلَى السَّيِّدِ وَبَقِيَتْ فَعَجَّزَهُ السَّيِّدُ بِهَا وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا، وَهَكَذَا حَكَاهُمَا الْجُمْهُورُ وَجْهَيْنِ، وَحَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ قَوْلَيْنِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ حَكَاهُمَا قَوْلَيْنِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصَحَّهُمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى السَّيِّدِ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَلَوْ كَانَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ فإن قلنا: يَرْجِعُ فِيهِ لَوْ كَانَ بَاقِيًا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ وَيَكُونُ فَرْضُ الزَّكَاةِ بَاقِيًا عَلَى الدَّافِعِ، وَإِلَّا فَلَا رُجُوعَ وَقَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الدَّافِعِ، وَلَوْ نَقَلَ السَّيِّدُ الْمِلْكَ فِي الْمَقْبُوضِ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ لَمْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْمُنْتَقَلِ إلَيْهِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ الدَّافِعُ عَلَى السَّيِّدِ إذَا قُلْنَا بِالرُّجُوعِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمُكَاتَبُ الْمَالَ إلَى السَّيِّدِ وَبَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ فَأَعْتَقَهُ السَّيِّدُ، قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: مُقْتَضَى الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُسْتَرَدُّ مِنْ السَّيِّدِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَهُ لِلْمَقْبُوضِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُتَعَيِّنٌ، وَلَوْ لَمْ يُعَجِّزْ نَفْسَهُ وَاسْتَمَرَّ فِي الْكِتَابِ وَتَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَجْزَأَ عَنْ الدَّافِعِ بِلَا خِلَافٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَبَضَ السَّيِّدُ الدَّيْنَ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَعَتَقَ، وَالْغَرِيمُ1 مِنْ الْمَدِينِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ هِبَةً لَمْ يَرْجِعْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي قبض دين الكتابة من مكاتبه فعتق أو قبض الغريم دينه من المدين ثم رده إليه هبة لم يرجع الدافع عليهما ...الخ (ط).

 

ج / 6 ص -121-       الدَّافِعُ عَلَيْهِمَا، بَلْ أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ ثُمَّ مَلَكَهُ هَذَا بِجِهَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ادَّعَى أَنَّهُ مُكَاتَبٌ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ عَدَمُ الْكِتَابَةِ مَعَ إمْكَانِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ سَيِّدُهُ فَهَلْ يُقْبَلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: عِنْدَ الْجُمْهُورِ يُقْبَلُ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَشَذَّ الْجُرْجَانِيُّ فَصَحَّحَ فِي التَّحْرِيرِ عَدَمَ الْقَبُولِ، وَالصَّحِيحُ الْقَبُولُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُ الْآخَرُ مِنْ احْتِمَالِ الْمُوَاطَأَةِ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الدَّفْعَ يَكُونُ مَرْعِيًا فِي حَقِّ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَإِلَّا اسْتَرْجَعَ الْمَالَ مِنْهُ.
فرع: قَالَ الْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ: يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ الِاسْتِفَاضَةُ وَضَبَطَ الرَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ضَبْطًا حَسَنًا فَنَذْكُرُ كَلَامَهُ مُخْتَصَرًا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ قَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ مُفَرَّقًا قَالَ: قَالَ الْأَصْحَابُ: مَنْ سَأَلَ الزَّكَاةَ وَعَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمَ اسْتِحْقَاقَهُ جَازَ الصَّرْفُ إلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ، مَعَ أَنَّ لِلتُّهْمَةِ هَهُنَا مَجَالًا أَيْضًا. 
قُلْتُ: الْفَرْقُ أَنَّ الزَّكَاةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الرِّفْقِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَلَيْسَ هُنَا إضْرَارٌ بِمُعَيَّنٍ بِخِلَافِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ فَالصِّفَاتُ قِسْمَانِ خَفِيَّةٌ وَجَلِيَّةٌ، فَالْخَفِيُّ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ فَلَا يُطَالَبُ مُدَّعِيهِمَا بِبَيِّنَةٍ لِعُسْرِهَا، فَلَوْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ وَادَّعَى هَلَاكَهُ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلَوْ ادَّعَى عِيَالًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ فِي الْأَصَحِّ.
وَأَمَّا الْجَلِيُّ فَضَرْبَانِ أحدهما: يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ بِمَعْنًى فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ فِي الْغَازِي وَابْنِ السَّبِيلِ فَيُعْطَيَانِ بِقَوْلِهِمَا بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ، ثُمَّ إنْ لَمْ يُحَقِّقَا مَا ادَّعَيَا وَلَمْ يُخْرِجَا اُسْتُرِدَّ مِنْهُمَا مَا أَخَذَا، وَإِلَى مَتَى يُحْتَمَلُ تَأْخِيرُ الْخُرُوجِ؟ قَالَ السَّرَخْسِيُّ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى التَّقْرِيبِ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ تَرْصُدُهُ لِلْخُرُوجِ، وَكَوْنُ التَّأْخِيرِ لِانْتِظَارٍ أَوْ لِلتَّأَهُّبِ بِأُهُبِ السَّفَرِ وَنَحْوِهَا.
الضَّرْبُ الثَّانِي: يَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهِ بِمَعْنَى الْحَالِ. وَهَذَا الضَّرْبُ يَشْتَرِكُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْأَصْنَافِ، فَالْعَامِلُ إذَا ادَّعَى الْعَمَلَ طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَالْغَارِمُ، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا السَّيِّدُ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ فَوَجْهَانِ أصحهما: يُكَفِّي وَيُعْطِيَانِ: وَأَمَّا الْمُؤَلَّفُ فَإِنْ قَالَ: نِيَّتِي ضَعِيفَةٌ فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ شَرِيفٌ مُطَاعٌ طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيلَ: يُطَالَبُ بِالْبَيِّنَةِ مُطْلَقًا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاشْتِهَارُ الْحَالِ بَيْنَ النَّاسِ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ، قَالَ: وَيَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ غَلَبَةِ الظَّنِّ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: لَوْ أَخْبَرَ عَنْ الْحَالِ وَاحِدٌ يُعْتَمَدُ كَفَى. الثاني: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: رَأَيْتُ لِلْأَصْحَابِ رَمْزًا إلَى تَرَدُّدٍ فِي أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْوُثُوقُ بِقَوْلِ مُدَّعِي الْغُرْمِ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ هَلْ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ؟ الثالث: حَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ سَمَاعُ الْقَاضِي وَتَقَدُّمُ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ وَالِاسْتِشْهَادُ، بَلْ الْمُرَادُ إخْبَارُ عَدْلَيْنِ عَلَى صِفَاتِ

 

ج / 6 ص -122-       الشُّهُودِ. قَالَ: ثُمَّ إنَّ سِيَاقَ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ وَالْوَجِيزِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ إلْحَاقَ الِاسْتِفَاضَةِ بِالْبَيِّنَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ تَعْمِيمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْ يُطَالِبُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ الْأَصْنَافِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ رحمه الله. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَخَلَائِقُ مِنْ الْأَصْحَابِ: يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَّجِرَ فِيمَا أَخَذَهُ مِنْ الزَّكَاةِ طَلَبًا لِلزِّيَادَةِ وَتَحْصِيلِ الْوَفَاءِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْغَارِمُ فِي هَذَا كَالْمُكَاتَبِ.
فرع: قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَصَاحِبَا الشَّامِلِ وَالْبَيَانِ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَخَذَهُ مِنْ الزَّكَاةِ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَكَذَلِكَ الْغَارِمُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: نَقَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ لَهُ إنْفَاقَهُ وَيُؤَدِّي مِنْ كَسْبِهِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْغَارِمُ كَالْمُكَاتَبِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ فِي إنْفَاقِهِ مُخَاطَرَةً بِمَالِ الزَّكَاةِ.
فرع: قَالَ الْبَغَوِيّ فِي الْفَتَاوَى: لَوْ اسْتَقْرَضَ الْمُكَاتَبُ مَا أَدَّى بِهِ النُّجُومَ وَعَتَقَ لَمْ يَجُزْ الصَّرْفُ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ، لَكِنْ يَصْرِفُ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَ، عَتَقَ وَيُعْطَى الْأَلْفَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ لَا مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُتَعَيِّنٌ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى سَيِّدِهِ بِإِذْنِ الْمُكَاتَبِ، وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى السَّيِّدِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحَقُّ. فَلَوْ صُرِفَ إلَى السَّيِّدِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُكَاتَبِ، لَمْ يُجْزِئْ الدَّافِعُ عَنْ الزَّكَاةِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْ الْمُكَاتَبِ مِنْ نُجُومِهِ قَدْرُ الْمَصْرُوفِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَالْأَحْوَطُ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصْرِفَ إلَى السَّيِّدِ بِإِذْنِ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّرْفِ إلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ فِي صَرْفِهِ فِي الْكِتَابَةِ. هَكَذَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ: إنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَدْفَعُهُ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ لِكَثْرَتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ النَّجْمَ الْأَخِيرَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْعِتْقُ بِهِ. فَالدَّفْعُ إلَى السَّيِّدِ بِإِذْنِ الْمُكَاتَبِ أَفْضَلُ كَمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَالدَّفْعُ إلَى الْمُكَاتَبِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ يُنَمِّيهِ بِالتِّجَارَةِ فِيهِ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْعِتْقِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
فرع: لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَى مُكَاتَبِهِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: يَجُوزُ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ وَعَبْدِهِ الْقِنِّ.
فرع: لَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ كَافِرًا وَسَيِّدُهُ مُسْلِمًا لَمْ يُعْطَ مِنْ الزَّكَاةِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ وَالْأَصْحَابُ. وَلَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُسْلِمًا وَالسَّيِّدُ كَافِرًا جَازَ الدَّفْعُ إلَى الْمُكَاتَبِ. صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ.
فرع: لَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُكْتَسِبًا فَهُوَ كَغَيْرِ الْمُكْتَسِبِ، فَيُعْطَى حَيْثُ يُعْطَى غَيْرُهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَآخَرُونَ، وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقِ الْأَصْحَابِ، وَشَذَّ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ فَقَالَ فِي

 

ج / 6 ص -123-       كِتَابِهِ التَّجْرِيدِ: لَا يُعْطَى إذَا كَانَ لَهُ كَسْبٌ يُؤَدِّي مِنْهُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إذَا اسْتَحَقَّ الْكَسْبَ وَصَارَ حَامِلًا مَالًا عَتِيدًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَسَهْمٌ لِلْغَارِمَيْنِ وَهُمْ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ غَرِمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، ضَرْبٌ غَرِمَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَضَرْبَانِ أحدهما: مَنْ تَحَمَّلَ دِيَةَ مَقْتُولٍ فَيُعْطَى مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم"لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إلَيْهِ" والثاني: مَنْ حَمَلَ مَالًا فِي غَيْرِ قَتْلٍ لِتَسْكِينِ فِتْنَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يُعْطَى مَعَ الْغِنَى؛ لِأَنَّهُ غُرْمٌ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَأَشْبَهَ إذَا غَرِمَ دِيَةَ مَقْتُولٍ. والثاني: لَا يُعْطَى مَعَ الْغِنَى؛ لِأَنَّهُ مَالٌ حَمَلَهُ فِي غَيْرِ قَتْلٍ، فَأَشْبَهَ إذَا ضَمِنَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ. وَأَمَّا مَنْ غَرِمَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، دُفِعَ إلَيْهِ مَعَ الْفَقْرِ، وَهَلْ يُعْطَى مَعَ الْغِنَى؟ فِيهِ قَوْلَانِ. قَالَ فِي الْأُمِّ: لَا يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ إلَيْنَا، فَلَمْ يُعْطَ مَعَ الْغِنَى كَغَيْرِ الْغَارِمِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالصَّدَقَاتِ مِنْ الْأُمِّ: يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَأَشْبَهَ إذَا غَرِمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنْ غَرِمَ فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ يُعْطَ مَعَ الْغِنَى، وَهَلْ يُعْطَى مَعَ الْفَقْرِ؟ يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَمْ يُعْطَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ تَابَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يُعْطَى؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ زَالَتْ والثاني: لَا يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يُعْطَى الْغَارِمُ إلَّا مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ، فَإِنْ أَخَذَ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ الدَّيْنَ أَوْ أُبْرِئَ مِنْهُ أَوْ قَضَى قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَالِ أَوْ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ غَارِمٌ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ غَرِيمُهُ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا ادَّعَى الْكِتَابَةَ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقَيْنِ أحدهما: عَنْ عَطَّاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والثاني: عَنْ عَطَّاءٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ فِي الطَّرِيقَيْنِ، وَجَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ طُرُقَهُ وَفِيهَا أَنَّ مَالِكًا وَابْنَ عُيَيْنَةَ أَرْسَلَاهُ، وَأَنَّ مَعْمَرًا وَالثَّوْرِيَّ وَصَلَاهُ وَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْحُفَّاظِ الْمُعْتَمَدِينَ، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ الْقَاعِدَةُ الْمَعْرُوفَةُ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا رُوِيَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا كَانَ الْحُكْمُ لِلِاتِّصَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا عَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ إذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: (إمَّا) حَدِيثٌ مُسْنَدٌ (وَإِمَّا) مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ (وَإِمَّا) قَوْلُ صَحَابِيٍّ (وَإِمَّا) قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا قَدْ وُجِدَ فِيهِ أَكْثَرُ، فَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا وَقَالَ بِهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وأما: الْغَارِمُ فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَالْغَرِيمُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدِينِ وَعَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَأَصْلُ الْغُرْمِ فِي اللُّغَةِ اللُّزُومُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: َّ
{إنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [لفرقان:65]. وَسُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَرِيمًا لِمُلَازَمَتِهِ صَاحِبَهُ. وَقَوْلُهُ: لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ لِإِصْلَاحِ حَالَةِ الْوَصْلِ بَعْدَ الْمُبَايَنَةِ، قَالَ: وَالْبَيْنُ يَكُونُ فُرْقَةً وَيَكُونُ وَصْلًا وَهُوَ هُنَا وَصْلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [الأنعام: من الآية94] أَيْ وَصْلُكُمْ، وَقَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ الْبَيْنِ أَيْ أَصْلِحْ الْحَالَ الَّتِي بِهَا تَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ.

 

ج / 6 ص -124-       أما أحكام الفصل: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: الْغَارِمُونَ ضَرْبَانِ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مَنْ غَرِمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْتَدِينَ مَالًا وَيَصْرِفَهُ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، بِأَنْ يَخَافَ فِتْنَةً بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ أَوْ طَائِفَتَيْنِ، أَوْ شَخْصَيْنِ، فَيَسْتَدِينُ مَالًا وَيَصْرِفُهُ فِي تَسْكِينِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ، فَيَنْظُرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَمٍ تَنَازَعَ فِيهِ قَبِيلَتَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَظْهَرْ الْقَاتِلُ أَوْ نَحْوُ، ذَلِكَ وَبَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَهَذَا يُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ غِنَاهُ بِالنَّقْدِ وَالْعَقَارِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْخُرَاسَانِيِّينَ: إنْ كَانَ فَقِيرًا دُفِعَ إلَيْهِ، وَكَذَا إنْ كَانَ غَنِيًّا بِالْعَقَارِ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِنَقْدٍ، فَفِيهِ عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ يُعْطَى والثاني: لَا يُعْطَى إلَّا مَعَ الْفَقْرِ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا بِالْعُرُوضِ غَيْرِ الْعَقَارِ فَهُوَ كَالْغَنِيِّ بِالْعَقَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: كَالنَّقْدِ، ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَمَالِي.
وَإِنْ اسْتَدَانَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي غَيْرِ دَمٍ، بِأَنْ تَحَمَّلَ قِيمَةَ مَالٍ مُتْلَفٍ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّنْبِيهِ وَالْأَصْحَابِ: يُعْطَى مَعَ الْغِنَى؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَأَشْبَهَ بِالدَّمِ. والثاني: لَا يُعْطَى إلَّا مَعَ الْفَقْرِ؛ لِأَنَّهُ غُرْمٌ فِي غَيْرِ قَتْلٍ فَأَشْبَهَ الْغَارِمَ لِنَفْسِهِ، وَقَاسَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا لَوْ ضَمِنَ مَالًا، وَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ سَأَذْكُرُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَنْثُورَةِ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ الْغَارِمِينَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا يُعْطَى الْغَارِمُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ مَا دَامَ الدَّيْنُ بَاقِيًا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لِمَنْ اسْتَدَانَهُ مِنْهُ، وَدَفَعَهُ فِي الْإِصْلَاحِ، أَوْ كَانَ قَدْ تَحَمَّلَ الدِّيَةَ مَثَلًا لِأَهْلِ الْقَتِيلِ وَلَمْ يُؤَدِّهَا بَعْدُ، فَيُدْفَعُ إلَيْهِ مَا يُؤَدِّيهِ فِي دَيْنِهِ، أَوْ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ فَلَوْ كَانَ قَضَاهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ أَدَّاهُ ابْتِدَاءً مِنْ مَالِهِ لَمْ يُعْطَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَارِمٍ إذْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ غَرِمَ لِصَلَاحِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، فَإِنْ اسْتَدَانَ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، أَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا عَلَى غَيْرِهِ سَهْوًا، فَهَذَا يُعْطَى مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ بِشُرُوطٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ، فَلَوْ كَانَ غَنِيًّا قَادِرًا بِنَقْدٍ أَوْ عَرَضٍ عَلَى مَا يَقْضِي بِهِ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أَحَدُهُمَا وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ عَنْ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ وَالصَّدَقَاتِ مِنْ الْأُمِّ أَنَّهُ يُعْطَى مَعَ الْغِنَى، لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَأَشْبَهَ الْغَارِمَ لِذَاتِ الْبَيْنِ وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُعْطَى كَمَا لَا يُعْطَى الْمُكَاتَبُ وَابْنُ السَّبِيلِ مَعَ الْغِنَى بِخِلَافِ الْغَارِمِ لِذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ عَامَّةٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ مَا يَقْضِي بِهِ بَعْضَ الدَّيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا: يُعْطَى مَا يَقْضِي بِهِ الْبَاقِيَ فَقَطْ.
فَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا وَقَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ بِالِاكْتِسَابِ فَوَجْهَانِ أحدهما: لَا يُعْطَى كَالْفَقِيرِ وَالصَّحِيحُ: وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَضَاؤُهُ إلَّا بَعْدَ زَمَانٍ وَقَدْ يَعْرِضُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ حَاجَتَهُ بِالْكَسْبِ فِي الْحَالِ، وَمَا مَعْنَى الْحَاجَةِ الْمَذْكُورَةِ؟ قَالَ الرَّافِعِيُّ: عِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ تَقْتَضِي كَوْنَهُ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَرُبَّمَا صَرَّحُوا بِهِ، قَالَ: وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمِفْتَاحِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْمَسْكَنُ وَالْمَلْبَسُ وَالْفِرَاشُ وَالْآنِيَةُ، وَكَذَا الْخَادِمُ وَالْمَرْكُوبُ إنْ اقْتَضَاهُمَا حَالُهُ، بَلْ يَقْضِي دَيْنَهُ وَإِنْ مَلَكَهَا قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يُعْتَبَرُ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ هُنَا، بَلْ لَوْ مَلَكَ قَدْرَ كِفَايَتةٍ

 

ج / 6 ص -125-       وَكَانَ لَوْ قَضَى دَيْنَهُ مِمَّا مَعَهُ لَنَقَصَ مَالُهُ عَنْ كِفَايَتِهِ، تُرِكَ لَهُ مَا يَكْفِيهِ، وَأُعْطِيَ مَا يَقْضِي بِهِ الْبَاقِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَقْرَبُ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ دَيْنُهُ لِطَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، وَكَالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ لَمْ يُعْطَ قَبْلَ التَّوْبَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ فِي إعْطَائِهِ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ تَابَ فَهَلْ يُعْطَى؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أصحهما: عِنْدَ صَاحِبَيْ الشَّامِلِ وَالتَّهْذِيبِ لَا يُعْطَى، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّ فِي إعْطَائِهِ إعَانَةً لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ يُعْطَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ، وَصَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمُقَنَّعِ، وَأَبُو خَلَفٍ السُّلَمِيُّ، وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
"وَالْغَارِمِينَ" وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْأَصْحَابُ هُنَا لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَمُضِيِّ مُدَّةٍ بَعْدَ تَوْبَتِهِ يَظْهَرُ فِيهَا صَلَاحُ الْحَالِ إلَّا أَنَّ الرُّويَانِيَّ قَالَ: يُعْطَى عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ إذَا غَابَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فِي تَوْبَتِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ: إنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فِي تَوْبَتِهِ أُعْطِيَ، وَإِنْ قَصُرَتْ الْمُدَّةُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالًّا، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَفِي إعْطَائِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أصحها لَا يُعْطَى. وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ الْآنَ والثاني: يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى غَارِمًا. والثالث: حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَجَلُ يَحِلُّ تِلْكَ السَّنَةِ أُعْطِيَ وَإِلَّا فَلَا يُعْطَى مِنْ صَدَقَاتِ تِلْكَ السَّنَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْوَجْهَانِ هُنَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا لَمْ يَحِلَّ عَلَيْهِ النَّجْمُ هَلْ يُعْطَى؟ قَالَ: وَقَدْ يَتَرَتَّبُ هَذَا الْخِلَافُ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ ثُمَّ تَارَةً يُجْعَلُ الْغَارِمُ أَوْلَى بِأَنْ يُعْطَى؛ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مُسْتَقِرٌّ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، وَتَارَةً يُجْعَلُ الْمُكَاتَبُ أَوْلَى بِأَنْ يُعْطَى؛ لِأَنَّ لَهُ التَّعْجِيلَ لِغَرَضِ الْحُرِّيَّةِ قلت: وَجَمَعَ الدَّارِمِيُّ مَسْأَلَتَيْ الْمُؤَجَّلِ فِي الْغَارِمِ وَالْمُكَاتَبِ. وَذَكَرَ فِيهِمَا أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُعْطَيَانِ فِي الْحَالِ والثاني: لَا والثالث: يُعْطَى الْمُكَاتَبُ لَا الْغَارِمُ (وَالرَّابِعُ) عَكْسُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا يُعْطَى الْغَارِمُ مَا دَامَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ فَإِنْ وَفَّاهُ أَوْ بَرِئَ مِنْهُ لَمْ يُعْطَ بِسَبَبِهِ. وَإِنَّمَا يُعْطَى قَدْرَ حَاجَتِهِ. فَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا فَلَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ مِنْهُ بَلْ أُبْرِئَ مِنْهُ أَوْ قُضِيَ عَنْهُ أَوْ قَضَاهُ هُوَ، لَا مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ بَلْ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ فَطَرِيقَانِ أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ أَنَّهُ يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ والثاني: حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا قُضِيَ عَنْهُ الدَّيْنُ أَوْ أُبْرِئَ مِنْهُ. وَلَوْ أُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ الزَّكَاةِ فَقَضَى الدَّيْنَ بِبَعْضِهِ، فَفِي الْبَاقِي الطَّرِيقَانِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي التَّجْرِيدِ: لَوْ تَحَمَّلَ دِيَةَ قَتِيلٍ فَأَعْطَيْنَاهُ فَبَانَ الْقَاتِلُ وَضَمِنَ الدِّيَةَ اُسْتُرِدَّ مِنْ الْغَارِمِ الْقَابِضِ مَا أَخَذَ وَصُرِفَ إلَى غَارِمٍ آخَرَ. فَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَهَا إلَى مُسْتَحِقِّ الدَّيْنِ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهِ، وَلَا يُطَالَبُ الْقَاتِلُ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا سَقَطَتْ عَنْهُ بِالدَّفْعِ. قَالَ: فَإِنْ تَطَّوَّعَ بِأَدَائِهَا أُخِذَتْ وَجُعِلَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ أَعْطَيْنَاهُ لِيَدْفَعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فَأَبْرَءُوا النَّاسَ قَبْلَ قَبْضِهِمْ مِنْهُ اُسْتُرِدَّ مِنْهُ.

 

ج / 6 ص -126-       فرع: إذَا ادَّعَى أَنَّهُ غَارِمٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَسَبَقَ فِي فَصْلِ الْمُكَاتَبِ بَيَانُ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ صَدَّقَهُ غَرِيمُهُ فَفِي قَبُولِهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي تَصْدِيقِ السَّيِّدِ الْمُكَاتَبَ فِي الْكِتَابَةِ. هَكَذَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَجَمِيعُ الْأَصْحَابِ، وَالْأَصَحُّ قَبُولُ تَصْدِيقِ السَّيِّدِ وَالْغَرِيمِ. هَكَذَا صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ وَخَالَفَهُمْ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ، فَقَالَ: الْأَصَحُّ لَا يُقْبَلُ تَصْدِيقُهُمَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُّونَ: إذَا ضَمِنَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ مَالًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ وَنَحْوِهِ فَلَهُمَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مُعْسِرَيْنِ فَيُعْطَى الضَّامِنُ مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ، وَيَجُوزُ إعْطَاءُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ فَرْعُهُ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ الضَّامِنُ وَقَضَى بِالْمَأْخُوذِ الدَّيْنَ رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَاحْتَاجَ الْإِمَامَ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَانِيًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَمْنُوعٌ، بَلْ إذَا أَعْطَيْنَاهُ فَقَضَى بِهِ لَا يَرْجِعُ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الضَّامِنَ إذَا قَضَى مِنْ عِنْدِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِيهِ نَظَرٌ، وَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي مُحْتَمَلٌ أَيْضًا.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مُوسِرَيْنِ فَلَا يُعْطَى الضَّامِنُ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَرِمَ رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَلَا يَضِيعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. هَذَا إذَا ضَمِنَ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ ضَمِنَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهَلْ يُعْطَى؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، إنْ قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ أُعْطِيَ وَإِلَّا فَلَا.
والثالث: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ مُعْسِرًا دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ لَمْ يُعْطَ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ أصحهما: يُعْطَى.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ مُوسِرًا دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَيَجُوزُ إعْطَاءُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ. وَفِي الضَّامِنِ وَجْهَانِ: أحدهما: يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ لِمَصْلَحَةِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْغَارِمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُعْطَى؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ مُمْكِنٌ، وَإِذَا بَرِئَ الْأَصِيلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ، بِخِلَافِ الْغَارِمِ لِذَاتِ الْبَيْنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ صَرْفُ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ إلَّا بِإِذْنِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَلَوْ صُرِفَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يُجْزِئْ الدَّافِعُ عَنْ زَكَاتِهِ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ الْمَصْرُوفِ، كَمَا سَبَقَ فِي فَصْلِ الْمُكَاتَبِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْأَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ بِإِذْنِ الْغَرِيمِ لِيَتَحَقَّقَ وُقُوعُهُ عَنْ جِهَةِ الدَّيْنِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُكَاتَبِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إلَّا إذَا كَانَ لَا يَفِي بِالدَّيْنِ، وَأَرَادَ الْمَدِينُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالتِّجَارَةِ وَالتَّنْمِيَةِ لِيَبْلُغَ قَدْرَ الدَّيْنِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لِلْغَارِمِ أَنْ يَتَّجِرَ فِيمَا قَبَضَ مِنْ سَهْمِ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَفِ بِالدَّيْنِ لِيَبْلُغَ قَدْرَ الدَّيْنِ بِالتَّنْمِيَةِ، وَهَلْ يَجُوزُ إنْفَاقُهُ وَيَقْضِي مِنْ غَيْرِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي فَصْلِ الْمُكَاتَبِ، الْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ.
فرع: حَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ دِيَةَ قَتِيلٍ عَنْ قَاتِلٍ مَجْهُولٍ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَإِنْ ضَمِنَهَا عَنْ قَاتِلٍ مَعْرُوفٍ أُعْطِيَ مَعَ الْفَقْرِ دُونَ الْغِنَى، وَهَذَا

 

ج / 6 ص -127-       ضَعِيفٌ وَلَا تَأْثِيرَ لِمَعْرِفَتِهِ وَعَدَمِهَا. وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ فِي الضَّمَانِ عَنْ قَاتِلٍ مَعْرُوفٍ وَجْهَيْنِ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَى الدَّمِ بَيْنَ مَنْ لَا يُخْشَى فِتْنَتُهُمْ فَتَحَمَّلَهَا وَجْهَانِ.
فرع: ذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ مَا اسْتَدَانَهُ لِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَقِرَى الضَّيْفِ فَهُوَ كَمَا اسْتَدَانَهُ لِنَفَقَتِهِ وَمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْغِنَى بِالْعَقَارِ، وَلَا يُعْطَى مَعَ الْغِنَى بِالنَّقْدِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ.
فرع: ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ غَارِمٌ وَأَخَذَ الزَّكَاةَ فَبَانَ كَذِبُ الشُّهُودِ، فَفِي سُقُوطِ الْفَرْضِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ فِيمَنْ أَخَذَ الزَّكَاةَ بِالْفَقْرِ فَبَانَ غَنِيًّا، الْأَصَحُّ: لَا تُجْزِئُ.
فرع: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى مُعْسِرٍ دَيْنٌ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ زَكَاتِهِ وَقَالَ لَهُ: جَعَلْتُهُ عَنْ زَكَاتِي فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْبَيَانِ: أصحهما: لَا يُجْزِئُهُ وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْمَرِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِإِقْبَاضِهَا. والثاني: يُجْزِئُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَّاءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْهُ جَازَ، فَكَذَا إذَا لَمْ يَقْبِضْهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ وَدِيعَةً وَدَفَعَهَا عَنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ سَوَاءٌ قَبَضَهَا أَمْ لَا. أَمَّا إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ عَنْ دَيْنِهِ فَلَا يَصِحُّ الدَّفْعُ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَصِحُّ قَضَاءُ الدَّيْنِ بِذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ الْقَفَّالُ فِي الْفَتَاوَى وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِي بَابِ الشَّرْطِ فِي الْمَهْرِ، وَصَاحِبُ الْبَيَانِ هُنَا وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. وَلَوْ نَوَيَا ذَلِكَ وَلَمْ يَشْرِطَاهُ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَأَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ، وَإِذَا رَدَّهُ إلَيْهِ عَنْ الدَّيْنِ بَرِيءَ مِنْهُ.
قَالَ الْبَغَوِيّ: وَلَوْ قَالَ الْمَدِينُ: ادْفَعْ إلَيَّ عَنْ زَكَاتِكَ حَتَّى أَقْضِيَكَ دَيْنَكَ، فَفَعَلَ أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ وَمَلَكَهُ الْقَابِضُ وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ عَنْ دَيْنِهِ، فَإِنْ دَفَعَهُ أَجْزَأَهُ قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمَدِينِ: اقْضِ مَا عَلَيْكَ عَلَى أَنْ أَرُدَّهُ عَلَيْكَ عَنْ زَكَاتِي، فَقَضَاهُ صَحَّ الْقَضَاءُ وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَيْهِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا زَكَاةً وَوَاعَدَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ لِيَصْرِفَهَا الْمُزَكِّي فِي كِسْوَةِ الْمِسْكِينِ وَمَصَالِحِهِ فَفِي كَوْنِهِ قَبْضًا صَحِيحًا احْتِمَالَانِ" قُلْتُ": الْأَصَحُّ لَا يُجْزِئُهُ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ عَنْ دَيْنِهِ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَوْ كَانَتْ لَهُ حِنْطَةٌ عِنْدَ فَقِيرٍ وَدِيعَةً فَقَالَ: كُلْ مِنْهَا لِنَفْسِكَ كَذَا. وَنَوَى ذَلِكَ عَنْ الزَّكَاةِ فَفِي إجْزَائِهِ عَنْ الزَّكَاةِ وَجْهَانِ، وَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَكِلْهُ وَكِيلُ الْفَقِيرِ لِنَفْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ. وَلَوْ كَانَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَاشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: خُذْهُ لِنَفْسِكَ، وَنَوَاهُ زَكَاةً أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَيْلِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا تِرْكَةَ لَهُ هَلْ يُقْضَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْبَيَانِ: أحدهما: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّيْمَرِيِّ وَمَذْهَبُ النَّخَعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ والثاني: يَجُوزُ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ التَّبَرُّعُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ كَالْحَيِّ، وَلَمْ يُرَجِّحْ وَاحِدًا مِنْ الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: إذَا مَاتَ الْغَارِمُ لَمْ يُعْطِ وَرَثَتُهُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعِنْدَنَا لَا يُدْفَعُ فِي دَيْنِهِ مِنْ الزَّكَاةِ وَلَا يُصْرَفُ مِنْهَا فِي كَفَنِهِ، وَإِنَّمَا يُدْفَعُ إلَى وَارِثِهِ إنْ كَانَ فَقِيرًا، وَبِنَحْوِ هَذَا قَالَ أَهْلُ

 

ج / 6 ص -128-       الرَّأْي وَمَالِكٌ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْضَى دَيْنُ الْمَيِّتِ وَكَفَنُهُ مِنْ الزَّكَاةِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَجٍّ بَعْدَ هَذَا بِأَسْطُرٍ: إذَا اسْتَدَانَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ثُمَّ مَاتَ دُفِعَ مَا يُفَكُّ بِهِ تِرْكَتُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَسَهْمٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُمْ الْغُزَاةُ[الَّذِينَ] إذَا نَشِطُوا غَزَوَا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُرَتَّبًا فِي دِيوَانِ السُّلْطَانِ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِسَهْمِ الْغُزَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَرْزَاقَهُمْ وَكِفَايَتَهُمْ مِنْ الْفَيْءِ، وَيُعْطَى الْغَازِي مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْغَارِمِ وَيُعْطَى مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْغَزْوِ مِنْ نَفَقَةِ الطَّرِيقِ وَمَا يَشْتَرِي بِهِ السِّلَاحَ وَالْفَرَسَ إنْ كَانَ فَارِسًا، وَمَا يُعْطَى السَّائِسُ وَحَمُولَةٌ تَحْمِلهُ إنْ كَانَ رَاجِلًا وَالْمَسَافَةُ مِمَّا تَقْصُرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، فَإِنْ أَخَذَ وَلَمْ يَغْزُ اُسْتُرْجِعَ مِنْهُ".
الشرح:
قَوْلُهُ (نَشِطُوا) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الشِّينِ (وَالدِّيوَانُ) بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى الْفَصِيحِ الْمَشْهُورِ. وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَأَنْكَرَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. وَقِيلَ: عَرَبِيٌّ وَهُوَ غَرِيبٌ. (وَالْحَمُولَةُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ بَعِيرٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ. وَمَذْهَبُنَا أَنَّ سَهْمَ سَبِيلِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُصْرَفُ إلَى الْغُزَاةِ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الدِّيوَانِ بَلْ يَغْزُونَ مُتَطَوِّعِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَحْمَدُ رحمه الله تعالى فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى مُرِيدِ الْحَجِّ، وَرَوَى مِثْلَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه. وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِحَدِيثِ أُمِّ مَعْقِلٍ الصَّحَابِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ:"لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَصَابَنَا مَرَضٌ فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ جِئْتُهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ مَعْقِلٍ مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجِي مَعَنَا؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: لَقَدْ تَهَيَّأْنَا فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ هُوَ الَّذِي نَحُجُّ عَلَيْهِ، فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلَّا خَرَجْتِ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"1.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ"أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَجَّ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِكَ فُلَانٍ، قَالَ ذَلِكَ حَبِيسِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي تَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ وَإِنَّهَا سَأَلَتْنِي الْحَجَّ مَعَكَ، قَالَتْ: أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِكَ فُلَانٍ، فَقُلْتُ: ذَلِكَ حَبِيسِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَمَا إنَّكَ لَوْ أَحْجَجْتَهَا عَلَيْهِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَإِنَّهَا أَمَرَتْنِي أَنْ أَسْأَلَكَ مَا يَعْدِلُ حَجَّةً مَعَكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
أَقْرِئْهَا السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتِهِ وَأَخْبِرْهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي يَعْنِي عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ" رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ فِي بَابِ الْعُمْرَةِ وَالثَّانِي إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَأَمَّا الْأَوَّلُ حَدِيثُ أُمِّ مَعْقِلٍ فَهُوَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وبقية الخبر في سنن أبي داود " فأما إذا فاتتك هذه الحجة معنا فاعتمري في رمضان فإنها كحجة" فكانت تقول: "الحج حجة والعمرة عمرة وقد قال لي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري إلي خاصة؟" ا هـ (ط) 

 

ج / 6 ص -129-       مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَقَالَ فِيهِ (عَنْ) وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَالْمُدَلِّسُ إذَا قَالَ: (عَنْ) لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ1. 
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمَفْهُومَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَبَادَرِ إلَى الْأَفْهَامِ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْغَزْوُ، وَأَكْثَرَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ كَذَلِكَ. وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ فِي فَصْلِ الْغَارِمِينَ"لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ" فَذَكَرَ مِنْهُمْ الْغَازِي، وَلَيْسَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ مَنْ يُعْطَى بِاسْمِ الْغُزَاةِ إلَّا الَّذِينَ نُعْطِيهِمْ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ احْتَجُّوا بِهِمَا (فَالْأَوَّلُ) ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ (وَالْجَوَابُ) عَنْ الثَّانِي أَنَّ الْحَجَّ يُسَمَّى سَبِيلَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْغَزْوِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الْغُزَاةُ الْمُرَتَّبُونَ فِي دِيوَانِ السُّلْطَانِ وَلَهُمْ فِيهِ حَقٌّ فَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ بِسَبَبِ الْغَزْوِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ وَصْفٌ آخَرُ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ أُعْطُوا بِهِ، بِأَنْ يَكُونَ غَارِمًا أَوْ ابْنَ سَبِيلٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ الْمُرَتَّبِينَ فِي الدِّيوَانِ أَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَوَاتِ الْمُتَطَوِّعِينَ بِالْغَزْوِ وَيَتْرُكَ سَهْمَهُ مِنْ الدِّيوَانِ جُعِلَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يَصِيرَ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ جُعِلَ مِنْهُمْ، فَيُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ وَلَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَاتِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فِي الْفَيْءِ، وَلَا لِلْأَهْلِ الْفَيْءِ فِي الصَّدَقَاتِ. 
فَإِنْ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَنْ يَكْفِيهِمْ شَرَّ الْكُفَّارِ وَلَا مَالَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَهَلْ يَجُوزُ إعْطَاءُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما الرواية الثانية فهي: حدثنا مسدد ثنا عبد الوارث عن عامر الأحول عن بكر بن عبد الله عن عن ابن عباس (قال صاحب عون المعبود: فلا يدل الحديث على أجزاء العمرة في رمضان عن الحج وأنه يسقط بها الفرض عن الذمة بل المراد ثواب العمرة في رمضان كثواب الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا التأويل هو المتعين ولا شك أن رواة الحديث لم يتقنوا ألفاظ الحديث ولم يحفظوها بل اختلطوا وغيروا الألفاظ واضطربوا في الإسناد وفيه ضعيف ومجهول اهـ.
وقال الخطابي: فيه من الفقه جواز أحباس الحيوان وفيه أنه جعل الحج من السبل وقد اختلف الناس في ذلك فكان ابن عباس لا يرى بأسا أن الرجل من زكاته في الحج وروى مثل ذلك عن ابن عمر وكان أحمد بن حنبل واسحاق يقولان يعطي من ذلك في الحج وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري والشافعي:لا تصرف الزكاة إلى الحج وسهم السبيل عندهم الغزاة والمجاهدون اهـ. وقال المنذري: قال الترمذي:حديث أم معقل حسن غريب من هذا الوجه اهـ. قال في عون المعبود:وجديث أم معقل في رجل مجهول وفي إسناده أيضا إبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي تكلم غير واحد وقد اختلف على أبي بكر بن عبد الرحمن فيه فروى عنه كما هاهنا وروى عنه عن أم معقل من غير واسطة وروى عنه عن أبي معقل كما ذكرناه وقد أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها:
ما منعك أن تحجي معنا؟قلت: لم يكن لنا إلا نا ضحان فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحا ننضح عليه قال: فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة. ولفظ البخاري: فإن عمرة في رمضان حجة أو نحوا مما قال وسماها في رواية مسلم أم سنان وفيه قال: جعله في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم: أعطها فلتحج عليه فعمرة في رمضان تفضي حجة أو حجة معي ا.هـ.

 

ج / 6 ص -130-       الْمُرْتَزِقَةِ مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَةِ خُرَاسَانَ أصحهما: لَا يُعْطَوْنَ كَمَا لَا يُصْرَفُ الْفَيْءُ إلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ والثاني: يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّهُمْ غُزَاةٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ إعَانَتُهُمْ. قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَيُعْطَى الْغَازِي مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُعْطَى مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْغَزْوِ فَيُعْطَى نَفَقَتَهُ وَكِسْوَتَهُ مُدَّةَ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ وَالْمَقَامِ فِي الثَّغْرِ، وَإِنْ طَالَ، وَهَلْ يُعْطَى جَمِيعَ الْمُؤْنَةِ أَمْ مَا زَادَ بِسَبَبِ السَّفَرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: الْجَمِيعُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ، وَيَجْرِيَانِ فِي ابْنِ السَّبِيلِ، وَيُعْطَى مَا يَشْتَرِي بِهِ الْفَرَسَ إنْ كَانَ يُقَاتِلُ فَارِسًا، وَمَا يَشْتَرِي بِهِ السِّلَاحَ وَآلَاتِ الْقِتَالِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مِلْكًا لِلْغَازِي، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ لَهُ الْفَرَسُ وَالسِّلَاحُ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ، وَيَخْتَلِفُ الْحَالُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ رَاجِلًا لَمْ يُعْطَ لِلْفَرَسِ شَيْئًا، وَيُعْطَى مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ الزَّادَ وَيَرْكَبُهُ فِي الطَّرِيقِ إنْ كَانَ ضَعِيفًا أَوْ كَانَ السَّفَرُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسَلِّمُ الْإِمَامُ إلَى الْغَازِي ثَمَنَ الْفَرَسِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَاتِ: ثُمَّ الْغَازِي يَشْتَرِيهَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: فَلَوْ اسْتَأْذَنَهُ الْإِمَامُ فِي شِرَاهَا لَهُ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَأَذِنَ جَازَ، فَلَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ بِمَالِ الزَّكَاةِ وَيُسَلِّمَهُ إلَى الْغَازِي بِغَيْرِ إذْنِهِ هَلْ يَجُوزُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أحدهما: لَا يَجُوزُ، بَلْ يَتَعَيَّنُ تَسْلِيمُ مَالِ الزَّكَاةِ إلَى الْغَازِي أَوْ إذْنِهِ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ آخَرِينَ مِنْهُمْ وَأَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَتَابَعَهُمْ الرَّافِعِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، قَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَ الْفَرَسَ وَالسِّلَاحَ وَالْآلَاتِ إلَى الْغَازِي أَوْ ثَمَنَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لَهُ فَيَمْلِكُهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْجَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَفْرَاسًا وَآلَاتِ الْحَرْبِ وَجَعَلَهَا وَقْفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُعْطِيهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ثُمَّ يَرُدُّونَهُ إذَا انْقَضَتْ حَاجَتُهُمْ وَتَخْتَلِفُ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ بِحَسْبِ قِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ.
وأما: نَفَقَةُ عِيَالِ الْغَازِي فَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمِفْتَاحِ: أَنَّهُ يُعْطَى نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ ذَهَابًا وَمَقَامًا وَرُجُوعًا، قَالَ: وَسَكَتَ الْمُعْظَمُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِيَالِ، وَلَكِنْ إعْطَاؤُهُ إيَّاهَا لَيْسَ بَعِيدًا كَمَا يَنْظُرُ فِي اسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ إلَى نَفَقَةِ الْعِيَالِ، فَيَعْتَبِرُ غِنَاهُ لِعِيَالِهِ كَنَفْسِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا يُعْطَى الْغَازِي مِنْ الزَّكَاةِ إذَا حَضَرَ وَقْتُ الْخُرُوجِ لِيُهَيِّئَ بِهِ أَسْبَابَ سَفَرِهِ، فَإِنْ أَخَذَ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى الْغَزْوِ اُسْتُرْجِعَ مِنْهُ، كَذَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ الْمُكَاتَبِ بَيَانُ كَمْ يُمْهَلُ فِي الْخُرُوجِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَا لَوْ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ امْتَنَعَ الْغَزْوَ بِسَبَبٍ آخَرَ اُسْتُرِدَّ مَا بَقِيَ مَعَهُ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ وَلَوْ غَزَا وَرَجَعَ وَبَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَتِّرْ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَانَ الْبَاقِي قَدْرًا صَالِحًا اُسْتُرِدَّ مِنْهُ. لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ كَانَ زَائِدًا. وَإِنْ لَمْ يُقَتِّرْ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ الْفَاضِلُ يَسِيرًا لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ، كَذَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ: وَفِي مِثْلِهِ فِي ابْنِ السَّبِيلِ يُسْتَرَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ. وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يُسْتَرَدُّ أَيْضًا وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إلَى النَّصِّ وَالْفَرْقُ عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّا دَفَعْنَهَا إلَى الْغَازِي لِحَاجَتِنَا وَقَدْ فَعَلَ. وَدَفَعْنَا إلَى ابْنِ السَّبِيلِ لِحَاجَتِهِ وَقَدْ زَالَتْ. أَمَّا: إذَا قَتَّرَ الْغَازِي عَلَى نَفْسِهِ وَفَضَلَ شَيْءٌ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُقَتِّرْ

 

ج / 6 ص -131-       لَمْ يَفْضُلْ لَمْ1 يُسْتَرَدُّ بِلَا خِلَافٍ. لِأَنَّا دَفَعْنَا إلَيْهِ كِفَايَتَهُ فَلَمْ نَرْجِعْ عَلَيْهِ بِمَا قَتَّرَ كَالْفَقِيرِ إذَا أَعْطَيْنَاهُ كِفَايَتَهُ فَقَتَّرَ وَفَضَلَ فَضْلٌ عِنْدَهُ لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الْمُسَافِرُ أَوْ مَنْ يُنْشِئُ السَّفَرَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي سَفَرِهِ. فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ طَاعَةً أُعْطِيَ مَا يَبْلُغُ بِهِ مَقْصِدَهُ، وَإِنْ كَانَ[فِي] مَعْصِيَةٍ لَمْ يُعْطَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مُبَاحٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى هَذَا السَّفَرِ. والثاني: يُعْطَى؛ لِأَنَّ مَا جُعِلَ رِفْقًا بِالْمُسَافِرِ فِي طَاعَةِ[اللَّهِ] جُعِلَ رِفْقًا بِالْمُسَافِرِ فِي مُبَاحٍ كَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ".
الشرح:
السَّبِيلُ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقُ وَيُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ وَسُمِّيَ الْمُسَافِرُ ابْنَ السَّبِيلِ لِلُزُومِهِ لِلطَّرِيقِ كَلُزُومِ الْوَلَدِ وَالِدَتَهُ وَالْمَقْصِدُ - بِكَسْرِ الصَّادِ - وَقَوْلُهُ: غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى هَذَا السَّفَرِ مِمَّا يُنْكَرُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُبَاحَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: ابْنُ السَّبِيلِ ضَرْبَانِ: أحدهما: مَنْ أَنْشَأَ سَفَرًا مِنْ بَلَدٍ كَانَ مُقِيمًا بِهِ سَوَاءٌ وَطَنُهُ وَغَيْرُهُ. والثاني: غَرِيبٌ مُسَافِرٌ يُجْتَازُ بِالْبَلَدِ. فَالْأَوَّلُ يُعْطَى مُطْلَقًا بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَقَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، أَنَّهُ يُعْطَى أَيْضًا مُطْلَقًا، وَحَكَى جَمَاعَاتٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِيهِ وَجْهَيْنِ الصَّحِيحُ هَذَا والثاني: لَا يُعْطَى مِنْ صَدَقَةِ بَلَدٍ يُجْتَازُ بِهِ إذَا مَنَعْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يُعْطَى الْمُسَافِرُ بِشَرْطِ حَاجَتِهِ فِي سَفَرِهِ وَلَا يَضُرُّ غِنَاهُ فِي غَيْرِ سَفَرِهِ، فَيُعْطَى مَنْ لَيْسَ مَعَهُ كِفَايَتُهُ فِي طَرِيقِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَمْوَالٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ أَوْ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ الْإِعْطَاءِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ طَاعَةً كَحَجٍّ وَغَزْوٍ وَزِيَارَةٍ مَنْدُوبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ دُفِعَ إلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا كَطَلَبِ آبِقٍ وَتَحْصِيلِ كَسْبٍ أَوْ اسْتِيطَانٍ فِي بَلَدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أصحهما: يُدْفَعُ إلَيْهِ، وَلَوْ سَافَرَ لِتَنَزُّهٍ أَوْ تَفَرُّجٍ فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ (الْمَذْهَبُ) أَنَّهُ كَالْمُبَاحِ فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ والثاني: لَا يُعْطَى قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْفُضُولِ وَإِذَا أَنْشَأَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ قَطَعَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَقَصَدَ الرُّجُوعَ إلَى وَطَنِهِ أُعْطِيَ مِنْ حِينَئِذٍ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ لَيْسَ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ فِيهِ وَجْهَيْنِ (الصَّحِيحُ) هَذَا والثاني: لَا يُعْطَى قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ.
 قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُعْطَى ابْنُ السَّبِيلِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ مَا يَكْفِيهِ إلَى مَقْصِدِهِ أَوْ مَوْضِعِ مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي طَرِيقِهِ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَالٌ لَا يَكْفِيهِ أُعْطِيَ مَا يَتِمُّ بِهِ كِفَايَتُهُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْأَصْحَابُ: وَيُهَيَّأُ لَهُ مَا يَرْكَبُهُ إنْ كَانَ سَفَرُهُ مِمَّا تَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَوْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا وَسَفَرُهُ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُعْطَ الْمَرْكُوبُ، وَيُعْطَى مَا يَنْقُلُ عَلَيْهِ زَادَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْرًا يَعْتَادُ مِثْلُهُ أَنْ يَحْمِلَهُ بِنَفْسِهِ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَصِفَةُ تَهْيِئَةِ الْمَرْكُوبِ أَنَّهُ إنْ اتَّسَعَ الْمَالُ اُشْتُرِيَ لَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يفعل جواب لو أما جواب إذا فتر فهو لم يسترد (ط).

 

ج / 6 ص -132-       مَرْكُوبٌ، وَإِنْ ضَاقَ اُكْتُرِيَ لَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُعْطَى ابْنُ السَّبِيلِ سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ أَمْ لَا، وَسَنُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَلْ يُعْطَى جَمِيعَ مُؤْنَةِ سَفَرِهِ؟ أَمْ زَادٍ بِسَبَبِ السَّفَرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ (الصَّحِيحُ) الْجَمِيعُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُعْطَى كِفَايَتَهُ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ إنْ كَانَ يُرِيدُ الرُّجُوعَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي مَقْصِدِهِ مَالٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُعْطَى لِلرُّجُوعِ فِي ابْتِدَاءِ سَفَرِهِ، وَإِنَّمَا يُعْطَى عِنْدَ رُجُوعِهِ، وَوَجْهًا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَزْمُهُ أَنْ يَصِلَ الرُّجُوعَ بِالذَّهَابِ أُعْطِيَ لِلرُّجُوعِ، وَإِنْ كَانَ عَزْمُهُ إقَامَةَ مُدَّةٍ لَمْ يُعْطَ لِلرُّجُوعِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَمَّا نَفَقَتُهُ فِي إقَامَتِهِ فِي الْمَقْصِدِ - فَإِنْ كَانَتْ إقَامَتُهُ دُونَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ غَيْرَ يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ - أُعْطِيَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِ، وَلَهُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَسَائِرُ الرُّخَصِ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ غَيْرَ يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ لَمْ يُعْطَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُسَافِرًا ابْنَ سَبِيلٍ، وَانْقَطَعَتْ رُخَصُ السَّفَرِ، بِخِلَافِ الْغَازِي فَإِنَّهُ يُعْطَى مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فِي الثَّغْرِ وَإِنْ طَالَتْ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْغَازِيَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَوَقُّعِ الْفَتْحِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالْإِقَامَةِ اسْمُ الْغَازِي بَلْ يَتَأَكَّدُ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، وَفِيهِ وَجْهٌ عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يُعْطَى وَإِنْ طَالَ مَقَامُهُ إذَا كَانَ مُقِيمًا لِحَاجَةٍ يُتَوَقَّعُ تَنَجُّزُهَا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا رَجَعَ ابْنُ السَّبِيلِ وَقَدْ فَضَلَ مَعَهُ شَيْءٌ اُسْتُرْجِعَ مِنْهُ سَوَاءٌ قَتَّرَ عَلَى نَفْسِهِ أَمْ لَا، وَقِيلَ: إنْ قَتَّرَ عَلَى نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُقَتِّرْ لَمْ يَفْضُلْ، لَمْ يَرْجِعْ بِالْفَاضِلِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَسَبَقَ فِي فَصْلِ الْغَازِي بَيَانُ هَذَا وَبَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَازِي حَيْثُ لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ إذَا قَتَّرَ؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْغَازِي يَأْخُذُهُ عِوَضًا لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ، وَقِيَامِهِ بِالْغَزْوِ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَابْنُ السَّبِيلِ يَأْخُذُهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْنَا وَقَدْ زَالَتْ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ الْمَرْكُوبُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يُسْتَرَدُّ وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ يُرِيدُ السَّفَرَ أَوْ الْغَزْوَ صُدِّقَ وَأُعْطِيَ مِنْ الزَّكَاةِ بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي فَصْلِ الْمُكَاتَبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يَقَعُ عَلَى مُنْشِئِ السَّفَرِ وَالْمُجْتَازِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يُعْطَى الْمُنْشِئُ بَلْ يَخْتَصُّ بِالْمُجْتَازِ.
فرع: لَوْ وَجَدَ ابْنُ السَّبِيلِ مَنْ يُقْرِضُهُ كِفَايَتَهُ وَلَهُ فِي بَلَدِهِ وِفَادَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُقْتَرَضَ مِنْهُ، بَلْ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ التَّجْرِيدِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجِبُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْأَصْنَافِ فِي السِّهَامِ وَلَا يُفَضِّلُ صِنْفًا عَلَى صِنْفٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُمَّ كُلُّ صِنْفٍ إنْ أَمْكَنَ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إلَيْهِمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ،

 

ج / 6 ص -133-       فَإِنْ دَفَعَ إلَى اثْنَيْنِ ضَمِنَ نَصِيبَ الثَّالِثِ، وَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ: أحدهما: الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ وَهُوَ الثُّلُثُ. والثاني: أَقَلُّ جُزْءٍ مِنْ السَّهْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الْوَاجِبُ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا زَادَ".
الشرح
: فِيهِ مَسَائِلُ:
 إحداها: يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ، فَإِنْ وُجِدَتْ الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ - وَجَبَ لِكُلِّ صِنْفٍ ثُمْنٌ، وَإِنْ وَجَبَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَجَبَ لِكُلِّ صِنْفٍ خَمْسٌ، وَلَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ صِنْفٍ عَلَى صِنْفٍ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ حَاجَتُهُمْ وَعَدَدُهُمْ أَمْ لَا، وَلَا يُسْتَثْنَى هَذَا إلَّا الْعَامِلُ فَإِنَّ حَقَّهُ مُقَدَّرٌ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ، فَإِنْ زَادَ سَهْمُهُ أَوْ نَقَصَ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَإِلَّا الْمُؤَلَّفَةُ فَفِي قَوْلٍ: يَسْقُطُ نَصِيبُهُمْ كَمَا سَبَقَ.
الثانية: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَهُمْ أَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ حَاجَاتُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ فَإِنْ اسْتَوَتْ سَوَّى، وَإِنْ تَفَاضَلَتْ فَاضَلَ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ اسْتِحْبَابًا، فَرَّقَ الْأَصْحَابُ بَيْنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ حَيْثُ وَجَبَتْ وَآحَادُ الصِّنْفِ حَيْثُ اُسْتُحِبَّتْ، بِأَنَّ الْأَصْنَافَ مَحْصُورُونَ، فَيُمْكِنُ التَّسْوِيَةُ بِلَا مَشَقَّةٍ بِخِلَافِ آحَادِ الصِّنْفِ، قَالَ الْبَغَوِيّ: وَلَيْسَ هَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ بَلَدٍ مَحْصُورِينَ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْمِيمُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ، وَهُنَا فِي الزَّكَاةِ لَوْ كَانُوا مَحْصُورِينَ وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْوَصِيَّةِ لَهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَقِيرٌ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَهَا هُنَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَقُّ لَهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنُوا لِفَقْدِ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مُسْتَحِقُّونَ لَا تَسْقُطُ بَلْ يَجِبُ نَقْلُهَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا إذَا قَسَّمَ الْمَالِكُ، فَأَمَّا إذَا قَسَّمَ الْإِمَامُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّفْضِيلُ عِنْدَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَعْمِيمَ جَمِيعِ آحَادِ الصِّنْفِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَزِمَهُ التَّسْوِيَةُ، وَالْمَالِكُ لَا يَلْزَمُهُ التَّعْمِيمُ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ.
الثالثة: أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَعْمِيمُ كُلِّ صِنْفٍ أَمْكَنَ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَكَثِيرُونَ: إنْ قَسَّمَ الْإِمَامُ لَزِمَهُ اسْتِيعَابُ آحَادِ الصِّنْفِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَسْتَوْعِبُ بِزَكَاةِ كُلِّ شَخْصٍ جَمِيعَ الْآحَادِ، وَلَكِنْ يَسْتَوْعِبُهُمْ مِنْ الزَّكَوَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي يَدِهِ، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ وَآخَرِينَ بِنَوْعٍ، وَلَهُ صَرْفُ زَكَاةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ قَسَّمَ الْمَالِكُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِيعَابُ فَلَيْسَ هُوَ بِوَاجِبٍ وَلَا مَنْدُوبٍ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يَجِبُ إنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ: يَجِبُ إنْ لَمْ نُجَوِّزْ نَقْلَ الزَّكَاةِ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ اُسْتُحِبَّ.
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إنْ قَسَّمَ الْإِمَامُ لَزِمَهُ الِاسْتِيعَابُ وَإِنْ قَسَّمَ الْمَالِكُ فَفِيهِ كَلَامُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيِّ، وَجَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ بِوُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ إنْ قَسَّمَ الْإِمَامُ: وَكَذَا إنْ قَسَّمَ الْمَالِكُ وَكَانُوا مَحْصُورِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَيَنْزِلُ إطْلَاقُ الْبَاقِينَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -134-       وَحَيْثُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْمُسْتَحَقِّينَ الْمُقِيمِينَ بِالْبَلَدِ وَالْغُرَبَاءِ الْمَوْجُودِينَ حَالَ التَّفْرِقَةِ، وَلَكِنْ الْمُسْتَوْطِنُونَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُمْ جِيرَانُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: وَحَيْثُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، إلَّا الْعَامِلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا بِلَا خِلَافٍ، وَعَجَبٌ كَوْنُ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَسْتَثْنِهِ هُنَا مَعَ أَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ فِي التَّنْبِيهِ، وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ الْبَاقِينَ إلَّا ابْنَ السَّبِيلِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ (الْمَذْهَبُ) وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ يُشْتَرَطُ ثَلَاثَةٌ والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: ثَلَاثَةٌ والثاني: يَجُوزُ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُ بِالْجَمْعِ بِخِلَافِ بَاقِي الْأَصْنَافِ، وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاسَرْجِسِيِّ وَحَكَاهُ آخَرُونَ بَعْدَهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه هَذَا غَيْرَ الْمَاسَرْجِسِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّبِيلِ، وَإِنْ كَانَ مُوَحَّدًا فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ كَبَاقِي الْأَصْنَافِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يَبْعُدُ طَرْدُ الْوَجْهِ فِي الْغُزَاةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ" بِغَيْرِ جَمْعٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ صُرِفَ جَمِيعُ نَصِيبِ الصِّنْفِ إلَى اثْنَيْنِ مَعَ وُجُودِ ثَالِثٍ غُرِمَ لِثَالِثٍ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي قَدْرِ الْغُرْمِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ أصحهما: أَقَلُّ جُزْءٍ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ والثاني: الثُّلُثُ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُفَاضَلَةَ بِاجْتِهَادِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِيَانَتُهُ، فَإِذَا ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ سَقَطَ اجْتِهَادُهُ فَلَزِمَهُ الثُّلُثُ، وَلَوْ صُرِفَ جَمِيعُ نَصِيبِ الصِّنْفِ إلَى وَاحِدٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ أَقَلُّ مَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَيْهِمَا، وَعَلَى الثَّانِي الثُّلُثَانِ، ثُمَّ إنَّ الْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: إذَا قُلْنَا يَضْمَنُ الثُّلُثَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: الْمُرَادُ إذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ، فَلَوْ كَانَتْ حَاجَةُ الثَّالِثِ حِينَ اسْتَحَقُّوا التَّفْرِقَةَ مِثْلَ حَاجَةِ الْآخَرِينَ جَمِيعًا ضَمِنَ لَهُ نِصْفَ السَّهْمِ. والثاني: أَنَّهُ لَا فَرْقَ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ.
وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ الثَّلَاثَةُ مُتَعَيِّنِينَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا دُونَ ثَلَاثَةٍ مِنْ صِنْفٍ أُعْطِيَ لِمَنْ وَجَدَهُ، وَهَلْ يُصْرَفُ بَاقِي السَّهْمِ إلَيْهِ إذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا؟ أَمْ يُنْقَلُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ؟ قَالَ الْمُتَوَلِّي: هُوَ كَمَا[لَوْ] لَمْ يُوجَدْ بَعْضُ الْأَصْنَافِ فِي بَلَدٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَيْهِ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيِّ وَنَقَلَهُ هُوَ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَدَلِيلُهُمَا ظَاهِرٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَالْخِلَافِ فِي أُضْحِيَّةِ التَّطَوُّعِ إذَا أَكَلَهَا كُلَّهَا كَمْ يَضْمَنُ؟ وَفِي الْوَكِيلِ إذَا بَاعَ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ كَمْ يَضْمَنُ؟ وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ اُجْتُمِعَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ سَبَبَانِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ، مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُعْطَى بِالسَّبَبَيْنِ، بَلْ يُقَالُ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَنُعْطِيكَ بِهِ، (وَمِنْهُمْ) مَنْ قَالَ: إنْ كَانَا سَبَبَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِحَاجَتِهِ إلَيْنَا - كَالْفَقِيرِ الْغَارِمِ - لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْتَحِقُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ - كَالْغَازِي الْغَارِمِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ -

 

ج / 6 ص -135-       لَمْ يُعْطَ إلَّا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَا سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفِينَ وَهُوَ1 أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِهِمَا يَسْتَحِقُّ لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ، وَبِالْآخَرِ يَسْتَحِقُّ لِحَاجَتِهِ إلَيْنَا أُعْطِيَ بِالسَّبَبَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمِيرَاثِ: إذَا اُجْتُمِعَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ جِهَتَا فَرْضٍ لَمْ يُعْطَ بِهِمَا وَإِنْ اُجْتُمِعَ فِيهِ جِهَةُ فَرْضٍ وَجِهَةُ تَعْصِيبٍ أُعْطِيَ بِهِمَا (وَمِنْهُمْ) مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يُعْطَى بِالسَّبَبَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْفَقِيرِ سَهْمًا، وَلِلْغَارِمِ سَهْمًا، وَهَذَا فَقِيرٌ وَغَارِمٌ. والثاني: يُعْطَى بِسَبَبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ شَخْصٌ وَاحِدٌ فَلَا يَأْخُذُ سَهْمَيْنِ كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ".
الشرح: هَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ مَشْهُورَةٌ وَأَصَحُّهَا: طَرِيقَةُ الْقَوْلَيْنِ صَحَّحَهَا أَصْحَابُنَا، وَنَقَلَهَا صَاحِبُ الشَّامِلِ عَنْ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُعْطَى إلَّا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ يَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ، وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَصَرَاتِ مِنْهُمْ سُلَيْمُ الرَّازِيِّ فِي الْكِفَايَةِ وَنَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْكَافِي، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ طَرِيقًا رَابِعًا أَنَّهُ يُعْطَى بِهِمَا إلَّا بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا الطَّرِيقُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْحَابَ تَكَلَّمُوا فِي الْمُمْكِنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذَا جَوَّزْنَا إعْطَاءَهُ بِسَبَبَيْنِ جَازَ بِأَسْبَابٍ أَيْضًا، قَالَ: وَقَالَ الْحَنَّاطِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُعْطَى إلَّا بِسَبَبَيْنِ قَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْطَى بِسَبَبَيْنِ بِأَنْ كَانَ عَامِلًا فَقِيرًا فَوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا يَأْخُذُ الْعَامِلُ هَلْ هُوَ أُجْرَةٌ أَمْ زَكَاةٌ؟ إنْ قُلْنَا: أُجْرَةٌ، أُعْطِيَ بِهِمَا وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ إذَا قُلْنَا: لَا يُعْطَى إلَّا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَأَخَذَ بِالْفَقْرِ. وَكَانَ لِغَرِيمِهِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِدَيْنِهِ، وَيَأْخُذُ مَا حَصَلَ لَهُ، وَكَذَا إنْ أَخَذَ بِكَوْنِهِ غَارِمًا، فَإِذَا أَخَذَهُ وَبَقِيَ فَقِيرًا وَجَبَ إعْطَاؤُهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ مُحْتَاجٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا فُقِدَ بَعْضُ الْأَصْنَافِ فَلَمْ يُوجَدُوا فِي الْبَلَدِ وَلَا غَيْرِهِ قُسِّمَتْ الزَّكَاةُ بِكَامِلِهَا عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْ بَاقِي الْأَصْنَافِ بِلَا خِلَافٍ، وَعَجِيبٌ كَوْنُ الْمُصَنِّفِ تَرَكَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ ذِكْرِهِ لَهَا فِي التَّنْبِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ فَرَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ فَإِنَّ الْمَرْدُودَ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ لَا لِلْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لِلْوَرَثَةِ لَوْلَا الْوَصِيَّةُ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ، فَإِذَا لَمْ تَتِمُّ أَخَذَ الْوَرَثَةُ الْمَالَ وأما: الزَّكَاةُ فَدَيْنٌ لَزِمَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِفَقْدِ الْمُسْتَحِقِّ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْأَصْنَافِ لَمْ يَسْقُطْ، بَلْ يَصْبِرْ حَتَّى يَجِدَهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ بِخِلَافِ مَا لَوْ رُدَّتْ الْوَصَايَا كُلُّهَا، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُفَرِّقُ الزَّكَاةَ رَبُّ الْمَالِ سَقَطَ سَهْمُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ فَيُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ عَلَى سَبْعَةِ[أَصْنَافٍ] لِكُلِّ صِنْفٍ سَهْمٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْنَافِ أَقَارِبُ لَهُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَخُصَّ الْأَقَارِبَ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ مثل أن يكون بدل (وهو أن يكون) (ط)

 

ج / 6 ص -136-       عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ رضي الله عنها قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَفْظُهُ
"أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ" وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ، صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ".
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ - وَالشُّجْنَةُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِهَا - ثَلَاثُ لُغَاتٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَرَابَةَ الْإِنْسَانِ لِقَرِيبِهِ سَبَبٌ وَاصِلٌ بَيْنَهُمَا.
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ جَمَعْتُ مُعْظَمَهَا فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ.
أما أحكام الفصل: فَقَوْلُهُ: إنْ كَانَ الَّذِي يُفَرِّقُ الزَّكَاةَ رَبُّ الْمَالِ سَقَطَ سَهْمُ الْعَامِلِ، هُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَسَبَقَ مِثْلُهُ وأما: قَوْلُهُ: إنْ كَانَ فِي الْأَصْنَافِ أَقَارِبُ لَهُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَخُصَّ الْأَقْرَبَ، فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ
قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَفِي الزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَةِ صَرْفُهَا إلَى الْأَقَارِبِ إذَا كَانُوا بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْأَجَانِبِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَأَ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَيُقَدِّمُ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَأَلْحَقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ بِهَؤُلَاءِ؛ لِحَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ عَلَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ بِذِي الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ كَأَوْلَادِ الْعَمِّ وَأَوْلَادِ الْخَالِ، ثُمَّ الْمُحَرَّمِ بِالرَّضَاعِ، ثُمَّ بِالْمُصَاهَرَةِ ثُمَّ الْمَوْلَى مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ ثُمَّ الْجَارِ، فَإِنْ كَانَ الْقَرِيبُ بَعِيدَ الدَّارِ فِي الْبَلَدِ قُدِّمَ عَلَى الْجَارِ الْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَارِبُ خَارِجِينَ عَنْ الْبَلَدِ، فَإِنْ مَنَعْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ قُدِّمَ الْأَجْنَبِيُّ وَإِلَّا فَالْقَرِيبُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَيْثُ كَانَ الْقَرِيبُ وَالْجَارُ الْأَجْنَبِيُّ بِحَيْثُ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمَا قُدِّمَ الْقَرِيبُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجِبُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْأَصْنَافِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: صلى الله عليه وسلم"أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" فَإِنْ نَقَلَ إلَى الْأَصْنَافِ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَأَشْبَهَ أَصْنَافَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ. والثاني: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِأَصْنَافِ بَلَدٍ، فَإِذَا نُقِلَ عَنْهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ لَا يُجْزِئُهُ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ لِأَصْنَافِ بَلَدٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْقَوْلَانِ فِي جَوَازِ النَّقْلِ فَفِي أَحَدِهِمَا يَجُوزُ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ. فَأَمَّا إذَا نَقَلَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ قَوْلًا وَاحِدًا وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ فِي بَلَدٍ وَعِشْرُونَ فِي بَلَدٍ

 

ج / 6 ص -137-       آخَرَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: إذَا أَخْرَجَ الشَّاةَ فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ كَرِهْتُ1 وَأَجْزَأَهُ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي[يَقُولُ]: يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يُخْرِجَ فِي كُلِّ بَلَدٍ نِصْفَ شَاةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُجْزِئُهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ فِي إخْرَاجِ نِصْفِ شَاةٍ فِي كُلِّ بَلَدٍ ضَرَرًا فِي التَّشْرِيكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: (كَرِهْتُ وَأَجْزَأَهُ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَلَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا لَمْ يَقُلْ: كَرِهْتُ. وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْقَلُ إلَيْهِ طَرِيقَانِ مِنْ، أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْقَوْلَانِ فِيهِ إذَا نُقِلَ إلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، فَأَمَّا إذَا نُقِلَ إلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْبَلَدِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ[وَالْفِطْرُ] وَالْمَسْحُ. وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ: الْقَوْلَانِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ".
الشرح:
حَدِيثُ مُعَاذٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ فِيهِ: رُوِيَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ - يَعْنِي الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ - وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَفِي آخِرِ الْحَضَانَةِ وَفِي تَغْرِيبِ الزَّانِي وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي مَظِنَّتِهِ، وَهُمَا بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ وَبَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَحَاصِلُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ الزَّكَاةَ فِي بَلَدِ الْمَالِ، فَلَوْ نَقَلَهَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ مَعَ وُجُودِ الْمُسْتَحِقِّينَ فَلِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. وَلِلْأَصْحَابِ فِيهَا ثَلَاثَةُ طُرُقٍ أصحها عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ أصحهما: لَا يُجْزِئُهُ والثاني: يُجْزِئُهُ. وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ النَّقْلِ. والطريق الثاني: أَنَّهُمَا فِي التَّحْرِيمِ وَعَدَمِهِ أصحهما: يُحَرَّمُ والثاني: لَا يُحَرَّمُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُجْزِئُ. وَهَذَانِ الطَّرِيقَانِ فِي الْكِتَابِ والثالث: حَكَاهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ أَنَّهُمَا فِي الْجَوَازِ وَالْإِجْزَاءِ مَعًا أصحهما: لَا يَجُوزُ وَلَا يُجْزِئُهُ والثاني: يَجُوزُ وَيُجْزِئُهُ، وَتَعْلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ وَالْأَصَحُّ: مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَبِالْإِجْزَاءِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّقْلِ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَدُونِهَا كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ وَكَذَا صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْخِلَافِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أصحها لَا يُجْزِئُ النَّقْلُ مُطْلَقًا وَلَا تَجُوزُ والثاني: يُجْزِئُ وَيَجُوزُ والثالث: يُجْزِئُ وَلَا يَجُوزُ وَالرَّابِعُ: يُجْزِئُ وَيَجُوزُ لِدُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَسَوَاءٌ نُقِلَ إلَى قَرْيَةٍ بِقُرْبِ الْبَلَدِ أَمْ بَعِيدَةٍ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْعُدَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّامِلِ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَّلِ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ فِي مَوْضِعِهَا، كَمَا ذَكَرَهَا الْمُزَنِيّ وَالْأَصْحَابُ، وَذَكَرَ فِي النَّقْلِ إلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ الطَّرِيقَيْنِ وَذَكَرَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ فِي مَسْأَلَةِ أَصْحَابِ الْخِيَامِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح الكاف وكسر الراء وضم التاء (ط).

 

ج / 6 ص -138-       الَّذِينَ لَا يَرْتَحِلُونَ أَنَّ أَصْحَابَ الْخِيَامِ الَّذِينَ لَا يَرْتَحِلُونَ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا لَا تَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةُ. قَالَ وَكَذَلِكَ الْبَلَدُ إذَا كَانَ فِي سَوَادِهِ فِي مَوْضِعٍ لَا تَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، كَأَهْلِ الْبَلَدِ قَالَ: وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِيهِ. قَالَ: فَأَمَّا إذَا كَانَ بَلَدَانِ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ فَلَا يُنْقَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُضَافُ إلَى الْآخَرِ وَلَا يُنْسَبُ. هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الشَّامِلِ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَهُوَ مُخَالِفٌ فِي ظَاهِرِهِ؛ لِمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعُدَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَرْعٍ: قَالَ أَصْحَابُنَا: فِي نَقْلِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ عَنْ الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ وَنَقْلِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ بَلَدًا طَرِيقَانِ أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ لَهَا حُكْمُ الزَّكَاةِ فَيَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ كَالزَّكَاةِ وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَتَابَعَهُمْ الرَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْأَطْمَاعَ لَا تَمْتَدُّ إلَيْهَا إلَى امْتِدَادِهَا إلَى الزَّكَوَاتِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
فرع: حَيْثُ جَازَ النَّقْلُ أَوْ وَجَبَ فَمُؤْنَتُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي أُجْرَةِ الْكَيَّالِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ فِيمَا إذَا وَجَبَ النَّقْلُ، أَمَّا إذَا لَمْ يَجِبْ وَنَقَلَهُ رَبُّ الْمَالِ فَيَجِبُ الْجَزْمُ بِأَنَّهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
فرع: قَالَ الرَّافِعِيُّ: الْخِلَافُ فِي جَوَازِ النَّقْلِ وَعَدَمِهِ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا فَرَّقَ رَبُّ الْمَالِ زَكَاتَهُ، أَمَّا إذَا فَرَّقَ الْإِمَامُ فَرُبَّمَا اقْتَضَى كَلَامُ الْأَصْحَابِ طَرْدَ الْخِلَافِ فِيهِ وَرُبَّمَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّقْلِ لَهُ وَالتَّفْرِقَةِ كَيْفَ شَاءَ. قَالَ: وَهَذَا أَشْبَهُ. هَذَا كَلَامُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْبَابِ فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَبْلَ وَسْمِ الْمَاشِيَةِ أَنَّ السَّاعِيَ يَنْقُلُ الصَّدَقَةَ إلَى الْإِمَامِ إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي تَفْرِقَتِهَا، وَهَذَا نَقْلٌ وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ الرَّاجِحَ الْقَطْعُ بِجَوَازِ النَّقْلِ لِلْإِمَامِ وَالسَّاعِي، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.  فَرْعٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ كَانَ الْمَالِكُ بِبَلَدٍ وَالْمَالُ بِبَلَدٍ آخَرَ فَالِاعْتِبَارُ بِبَلَدِ الْمَالِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَيَمْتَدُّ إلَيْهِ نَظَرُ الْمُسْتَحِقِّينَ فَيُصْرَفُ الْعَشْرُ إلَى الْأَصْنَافِ بِالْأَرْضِ الَّتِي حُصِلَ مِنْهَا الْعَشْرُ وَزَكَاةُ النَّقْدَيْنِ وَالْمَوَاشِي وَالتِّجَارَةُ إلَى أَصْنَافِ الْبَلَدِ الَّذِي تَمَّ فِيهِ حَوْلُهَا.
فرع: لَوْ كَانَ مَالُهُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِبَادِيَةٍ وَجَبَ صَرْفُهُ إلَى الْأَصْنَافِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَى الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ تَاجِرًا مُسَافِرًا صَرْفَهَا حَيْثُ حَالَ الْحَوْلُ. فرع: إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ - وَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ مُتَفَرِّقَةٌ - صَرَفَ زَكَاةَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ بِبَلَدِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ الْجَمِيعَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ إذَا مَنَعْنَا النَّقْلَ، هَذَا إذَا لَمْ يَقَعْ تَشْقِيصٌ، فَإِنْ وَقَعَ بِأَنْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً عِشْرِينَ بِبَلَدٍ وَعِشْرِينَ بِبَلَدٍ آخَرَ فَأَدَّى شَاةً فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: كَرِهْتُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ إنْ جَوَّزْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَهَا الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه، وَإِنْ مَنَعْنَا نَقْلَهَا وَجَبَ فِي كُلِّ بَلَدٍ نِصْفُ شَاةٍ، وَرَجَّحَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الطَّرِيقَ بِمَا لَيْسَ بِمُرَجَّحٍ وَاسْتَدَلَّ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ.

 

ج / 6 ص -139-       والطريق الثاني: هُوَ الْمَذْهَبُ وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَقَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ، وَرَجَّحَهُ جُمْهُورُ الْبَاقِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ مَنَعْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ أَمْ لَا، وَعَلَّلَهُ الْأَصْحَابُ بِعِلَتَيْنِ: أحدهما: أَنَّ لَهُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَالًا فَيَخْرُجُ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخْرَجَ فِي بَلَدِ مَالِهِ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي التَّشْقِيصِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَفَرَّعُوا عَلَيْهِمَا مَا لَوْ كَانَ لَهُ مِائَةٌ بِبَلَدٍ وَمِائَةٌ بِبَلَدٍ، فَعَلَى الْأُولَى لَهُ إخْرَاجُ الشَّاتَيْنِ فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ فِي كُلِّ بَلَدٍ شَاةٌ. وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِيَمِ الَّذِينَ يَنْتَجِعُونَ لِطَلَبِ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ كَانَ مَوْضِعُ الصَّدَقَةِ مِنْ عِنْدِ الْمَالِ إلَى حَيْثُ تَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةُ. فَإِذَا بَلَغَ حَدًّا تَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ فِي حِلَلٍ مُجْتَمِعَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ كَالْقَسْمِ قَبْلَهُ والثاني: أَنَّ كُلَّ حِلَّةٍ كَالْبَلَدِ".
الشرح:
قَوْلُهُ" الْخَيْمِ" هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَالْوَاحِدَةُ خَيْمَةٌ كَتَمْرَةٍ وَتَمْرُ بَيْضَةٍ وَبَيْضٌ، وَيَجُوزُ خِيَمٌ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ كَبَدْرَةٍ وَبِدَرٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ مَحْذُوفُ الْأَلِفِ مِنْ خِيَامِ كَمَا فِي قوله تعالى:
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة: من الآية97] وَقُرِئَ قِيَمًا، وَقَالُوا: مَا ذَكَرْنَاهُ، (وَالْحِلَلُ) بِكَسْرِ الْحَاءِ جَمْعُ حِلَّةٍ بِكَسْرِهَا أَيْضًا، وَهُمْ الْحَيُّ النَّازِلُونَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: أَرْبَابُ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ ضَرْبَانِ: أحدهما: الْمُقِيمُونَ فِي بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ مِنْ الْبَادِيَةِ، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا فَعَلَيْهِمْ صَرْفُ زَكَاتِهِمْ إلَى مَنْ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنْ الْأَصْنَافِ سَوَاءٌ الْمُقِيمُونَ عِنْدَهُمْ الْمُسْتَوْطِنُونَ وَالْغُرَبَاءُ الْمُجْتَازُونَ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَهْلُ الْخِيَامِ الْمُتَنَقِّلُونَ وَهُمْ صِنْفَانِ أحدهما: قَوْمٌ مُقِيمُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْبَادِيَةِ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إلَّا لِحَاجَةٍ، فَلَهُمْ حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ فَيَصْرِفُونَ زَكَاتَهُمْ إلَى مَنْ فِي مَوْضِعِهِمْ، فَإِنْ نَقَلُوا عَنْهُ كَانُوا كَمَنْ نَقَلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ. "الصِّنْفُ الثَّانِي" أَهْلُ خِيَامٍ يَنْتَقِلُونَ لِلْجِهَةِ، وَهُمْ الَّذِينَ إذَا أَخْصَبَ مَوْضِعٌ رَحَلُوا إلَيْهِ وَإِذَا أَجْدَبَ مَوْضِعٌ رَحَلُوا مِنْهُ، فَيُنْظَرُ فِيهِمْ فَإِنْ كَانَتْ حِلَلُهُمْ مُتَفَرِّقَةً صَرَفُوا الزَّكَاةَ إلَى جِيرَانِ الْمَالِ، وَهُمْ مَنْ كَانَ مِنْ الْمَالِ عَلَى مَسَافَةٍ لَا يُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى هَؤُلَاءِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَجِيءُ فِيهِمْ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لَا تُقْصَرُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ نَقْلًا، فَإِنْ نُقِلَتْ عَنْهُمْ إلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ مِنْ مَوْضِعِ الْمَالِ كَانَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَمِيعِ هَذَا الْمَذْكُورِ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخِيَامِ قَوْمٌ مِنْ الْأَصْنَافِ يَنْتَقِلُونَ بِانْتِقَالِهِمْ وَيَنْزِلُونَ بِنُزُولِهِمْ فَالصَّرْفُ إلَيْهِمْ أَفْضَلُ مِنْ الصَّرْفِ إلَى جِيرَانِهِمْ الَّذِينَ لَا يَظْعَنُونَ بِظَعْنِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ جِوَارًا، فَإِنْ صُرِفَ إلَى الْآخَرِينَ جَازَ، هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ خِيَامُهُمْ مُتَفَرِّقَةٌ فَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً وَكُلُّ حِلَّةٍ مُتَمَيِّزَةٍ عَنْ الْأُخْرَى تَنْفَرِدُ عَنْهَا فِي الْمَاءِ وَالْمَرْعَى فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أحدهما: أَنَّهُمْ كَالْمُتَفَرِّقِينَ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّ كُلَّ حَالَةٍ كَقَرْيَةٍ فَعَلَى هَذَا النَّقْلِ مِنْهَا كَالنَّقْلِ مِنْ الْقَرْيَةِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْخِيَامِ الَّذِينَ لَا قَرَارَ، لَهُمْ بَلْ يَطُوفُونَ الْبِلَادَ أَبَدًا فَيَصْرِفُونَهَا إلَى مَنْ مَعَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَإِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِمْ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -140-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَلَيْسَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْنَافِ نَقَلَهَا إلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْمَالِ. فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ بَعْضَ الْأَصْنَافِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ1: أحدهما: يُغَلَّبُ حُكْمُ الْمَكَانِ فَيُدْفَعُ إلَى مَنْ فِي بَلَدِ الْمَالِ مِنْ الْأَصْنَافِ. والثاني: يُغَلَّبُ حُكْمُ الْأَصْنَافِ فَيَدْفَعُ إلَى مَنْ فِي بَلَدِ الْمَالِ[مِنْ الْأَصْنَافِ] بِسَهْمِهِمْ، وَيُنْقَلُ الْبَاقِي إلَى بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْمَالِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَافِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَاعْتِبَارُ الْبَلَدِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَقُدِّمَ مَنْ ثَبَتَ حَقُّهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ، فَإِنْ قَسَّمَ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَصْنَافِ فَنَقَصَ نَصِيبُ بَعْضِهِمْ عَنْ كِفَايَتِهِمْ وَنَصِيبُ الْبَاقِينَ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهِمْ دَفَعَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا قَسَّمَ لَهُ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَنْ يَنْقُصُ سَهْمُهُ عَنْ كِفَايَتِهِ مِنْ نَصِيبِ الْبَاقِينَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ مَلَكَ سَهْمَهُ، فَلَا يَنْقُصُ حَقُّهُ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُ بَعْضِهِمْ يَنْقُصُ عَنْ كِفَايَتِهِ وَنَصِيبُ الْبَعْضِ يَفْضُلُ عَنْ كِفَايَتِهِ - فَإِنْ قُلْنَا: الْمُغَلَّبُ اعْتِبَارُ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ صُرِفَ مَا فَضَلَ إلَى بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ فِي الْبَلَدِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمُغَلَّبُ اعْتِبَارُ الْأَصْنَافِ صُرِفَ الْفَاضِلُ إلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ الَّذِي فَضَلَ عَنْهُمْ بِأَقْرَبِ الْبِلَادِ".
الشَّرْحُ:
قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا عُدِمَ فِي بَلَدٍ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ وَجَبَ نَقْلُ الزَّكَاةِ إلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَى مَوْضِعِ الْمَالِ، فَإِنْ نُقِلَ إلَى الْأَبْعَدِ كَانَ عَلَى الْخِلَافِ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ وَإِنْ عُدِمَ بَعْضُهُمْ - فَإِنْ جَوَّزْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ - نُقِلَ نَصِيبُ الْمَعْدُومِ إلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ بِأَقْرَبِ الْبِلَادِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَحَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ طَرِيقَيْنِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ وَجْهَانِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَا بِالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا يَصِيرَانِ طَرِيقَيْنِ أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَجَمَاعَةٍ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْأَصْنَافِ، فَيُنْقَلُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ آخَرِينَ، مِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْبَلَدِ، فَيُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ، فِي الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ كَعَدَمِهِ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ مَعَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
فإن قلنا: يُنْتَقَلُ، نُقِلَ إلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ، وَصُرِفَ إلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ، فَإِنْ نُقِلَ إلَى أَبْعَدَ أَوْ لَمْ يُنْقَلْ وَفَرَّقَهُ عَلَى الْبَاقِينَ ضَمِنَ. وإن قلنا: لَا يُنْقَلُ، فَنُقِلَ ضَمِنَ، وَلَوْ وُجِدَ كُلُّ الْأَصْنَافِ وَنَقَصَ سَهْمُ بَعْضِهِمْ عَنْ الْكِفَايَةِ، وَزَادَ سَهْمُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَهَلْ يُصْرَفُ مَا زَادَ إلَى هَذَا الصِّنْفِ النَّاقِصِ سَهْمُهُ؟ أَمْ يُنْقَلُ إلَى الصِّنْفِ الَّذِينَ زَادَ سَهْمُهُمْ عَنْهُمْ بِأَقْرَبِ الْبِلَادِ؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. فإن قلنا: يُصْرَفُ إلَى النَّاقِصِينَ فَكَانُوا أَصْنَافًا قُسِّمَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَوْ زَادَ نَصِيبُ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ عَلَى الْكِفَايَةِ، أَوْ نَصِيبُ بَعْضِهِمْ وَلَمْ يَنْقُصْ نَصِيبُ الْآخَرِينَ، نُقِلَ مَا زَادَ إلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ بِأَقْرَبِ الْبِلَادِ بِلَا خِلَافٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَهُوَ فِي بَلَدٍ وَمَالُهُ فِيهِ وَجَبَ إخْرَاجُهَا إلَى الْأَصْنَافِ فِي الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَهَا مَصْرِفُ سَائِرِ الزَّكَوَاتِ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ فِي بَلَدٍ وَهُوَ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ. والثاني: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهِ، فَاعْتُبِرَ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ فِيهِ كَالْمَالِ فِي سَائِرِ الزَّكَوَاتِ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة المهذب المطبوعة (قولان) وهو خطأ وما بين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).

 

ج / 6 ص -141-       الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَ فِي وَقْتِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي بَلَدٍ وَمَالُهُ فِيهِ، وَجَبَ صَرْفُهَا فِيهِ، فَإِنْ نَقَلَهَا عَنْهُ كَانَ كَنَقْلِ بَاقِي الزَّكَوَاتِ فَفِيهِ الْخِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ السَّابِقُ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَمَالُهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَأَيُّهُمَا يُعْتَبَرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: بَلَدُ الْمَالِ كَزَكَاةِ الْمَالِ وَأَصَحُّهُمَا بَلَدُ رَبِّ الْمَالِ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَفِطْرَتُهُ وَهُوَ فِي بَلَدٍ، آخَرَ قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُؤَدِّي ابْتِدَاءً أَمْ عَلَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ بَعْضُ مَالِهِ مَعَهُ فِي بَلَدٍ وَبَعْضُهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فِي بَلَدٍ فَلَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِمْ حَتَّى مَاتَ بَعْضُهُمْ انْتَقَلَ حَقُّهُ إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَانْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إلَى وَرَثَتِهِ".
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: لَلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصَّانِ: قَالَ فِي مَوْضِعٍ: إنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَهْلُ السَّهْمَانِ يَوْمَ الْقَسْمِ إلَّا الْعَامِلَ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَسْتَحِقُّونَ يَوْمَ الْوُجُوبِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَانَ حَقُّهُ لِوَرَثَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا وَهَذَا النَّصُّ بِمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلْ عَلَى حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ فِيهِ: يُعْتَبَرُ الْوُجُوبُ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ انْتَقَلَ حَقُّهُ إلَى وَرَثَتِهِ أَرَادَ بِهِ إذَا كَانَتْ قَدْ وَجَبَتْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فِي بَلَدٍ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ صِنْفٍ إلَّا ثَلَاثَةٌ، فَيَتَعَيَّنُ نَصِيبُ ذَلِكَ الصِّنْفِ لَهُمْ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِحُدُوثِ شَيْءٍ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ وَجَبَ نَصِيبُهُ لِوَارِثِهِ وَإِنْ غَابَ أَوْ اسْتَغْنَى فَحَقُّهُ بَاقٍ بِحَالِهِ، وَإِنْ قَدِمَ غَرِيبٌ لَمْ يُشَارِكْهُمْ.
وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اُعْتُبِرَ فِيهِ وَقْتُ الْقِسْمَةِ أَرَادَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُعَيَّنِينَ، بِأَنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ لَا تَتَعَيَّنُ لَهُمْ، وَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ اسْتَغْنَى فَلَا حَقَّ لَهُ، وَإِنْ قَدِمَ غَرِيبٌ شَارَكَهُمْ، فَلَوْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الْوُجُوبِ، فَقِيرًا وَقْتَ الْقِسْمَةِ أُعْطِيَ مِنْهَا، هَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ هُوَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ. وَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: الْمَوْضِعُ الَّذِي اُعْتُبِرَ فِيهِ حَالُ الْوُجُوبِ أَرَادَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ أَقَلُّ، وَمَنَعْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي اُعْتُبِرَ فِيهِ يَوْمَ الْقِسْمَةِ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَجَوَّزْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةٍ إلَى هَاشِمِيٍّ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"نَحْنُ أَهْلُ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ" وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مُطَّلِبِيٍّ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم"إنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ" وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ يَتَعَلَّقُ بِذَوِي الْقُرْبَى فَاسْتَوَى فِيهِ الْهَاشِمِيُّ وَالْمُطَّلِبِيُّ كَاسْتِحْقَاقِ الْخُمُسِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إنْ مُنِعُوا حَقَّهُمْ مِنْ الْخُمْسِ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا حُرِمُوا الزَّكَاةَ لِحَقِّهِمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ، فَإِذَا مُنِعُوا الْخُمْسَ وَجَبَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِمْ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ لِشَرَفِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَزُولُ بِمَنْعِ الْخُمْسِ، وَفِي مَوَالِيهمْ وَجْهَانِ أحدهما: يُدْفَعُ إلَيْهِمْ والثاني: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي سَهْمِ الْعَامِلِ".

 

ج / 6 ص -142-       الشرح: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، وَلَفْظُ رِوَايَتِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه"أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَخٍ كَخٍ، لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قَالَ: أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"أَنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ" وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ"أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ لَا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ" وَعَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ:"إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ بِطُولِهِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ فِي بَعْثِ الْإِمَامِ السُّعَاةَ.
وأما: الْحَدِيثُ الْآخَرُ"أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
:" شَيْءٌ وَاحِدٌ" رُوِيَ - بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَهَمْزِ آخِرِهِ - وَرُوِيَ سِيٌّ - بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بِلَا هَمْزٍ - وَالسِّيءُ بِالْمُهْمَلَةِ الْمِثْلُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:"بَعَثَ بِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إبِلٍ أَعْطَاهُ إيَّاهَا مِنْ الصَّدَقَةِ يُبَدِّلُهَا"1 فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَجَابَ بِهِمَا الْبَيْهَقِيُّ: أحدهما: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمِ، ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَضَ مِنْ الْعَبَّاسِ لِلْفُقَرَاءِ إبِلًا ثُمَّ أَوْفَاهُ إيَّاهَا مِنْ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَبِهَذَا الثَّانِي أَجَابَ الْخَطَّابِيُّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي سَهْمِ الْعَامِلِ فَمُرَادُهُ أَنَّهُ بَيَّنَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ فِي فَصْلِ بَعْثِ السُّعَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي سَهْمِ الْعَامِلِ، وَعِبَارَتُهُ مُوهِمَةٌ، وَلَوْ قَالَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ لَكَانَ أَجْوَدَ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَالزَّكَاةُ حَرَامٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بِلَا خِلَافٍ، إلَّا مَا سَبَقَ فِيمَا كَانَ أَحَدُهُمْ عَامِلًا، وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ، وَفِي مَوَالِيهمْ وَجْهَانِ أصحهما: التَّحْرِيمُ، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ، وَلَوْ مُنِعَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ حَقَّهُمْ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ هَلْ تَحِلُّ الزَّكَاةُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْكِتَابِ أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ لَا تَحِلُّ والثاني: تَحِلُّ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى صَاحِبُ الْغَزَالِيِّ يُفْتِي بِهَذَا، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلُ، وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ إذَا انْقَطَعَ حَقُّهُمْ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ لِخُلُوِّ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ أَوْ لِاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ وَاسْتِبْدَادِهِمْ بِهِمَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا مَذْهَبُنَا، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلَى بَنِي الْمُطَّلِبِ، وَوَافَقَ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى كَافِرٍ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا المتن ضمنه الشارح من متنين بإسنادين أولهما رواه أبو داود أولهما عن محمد بن عبد الله المحاربي وفيه "بعثني أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في إبل أعطاها إياه من الصدقة" رواه عن محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة قالا عن محمد بن أبي عبيدة عن أبيه وفيه نحوه زاد "أبي يبدلها له" (ط).

 

ج / 6 ص -143-       الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ رضي الله عنه:"أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ" وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ نَقْلِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ شَيْءٍ مِنْ الزَّكَوَاتِ إلَى كَافِرٍ، سَوَاءٌ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَزَكَاةُ الْمَالِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إلَى الذِّمِّيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَجَوَّزَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ1 أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْطُونَ مِنْهَا الرُّهْبَانَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُعْطَوْنَ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيِّ جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَى الْكُفَّارِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى غَنِيٍّ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا قَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ" وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِفَايَتِهِ بِالْكَسْبِ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ غِنَاهُ بِالْكَسْبِ كَغِنَاهُ بِالْمَالِ".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى غَنِيٍّ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا إلَى قَادِرٍ عَلَى كَسْبٍ يَلِيقُ بِهِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْهُ كِفَايَتُهُ وَكِفَايَةُ عِيَالِهِ، وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي فَصْلِ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا الصَّرْفُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مَعَ الْغِنَى فَيَجُوزُ إلَى الْعَامِلِ وَالْغَازِي وَالْغَارِمِ لِذَاتِ الْبَيْنِ وَالْمُؤَلَّفِ، وَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْمُكَاتَبِ مَعَ الْغِنَى وَلَا ابْنِ السَّبِيلِ إنْ كَانَ غَنِيًّا هُنَا، وَلَا يَضُرُّ غِنَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يُعْطَى الْغَارِمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ مَعَ الْغِنَى عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا سَبَقَ وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى الْكَسْبِ فَتَمْنَعُ إعْطَاءَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا بَاقِي الْأَصْنَافِ فَيُعْطَوْنَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ فِي الْحَالِ إلَى مَا يَأْخُذُونَ بِخِلَافِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَفِي الْغَارِمِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَالْمُكَاتَبِ وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَنَّهُمَا لَا يُعْطَيَانِ إذَا قَدَرَا عَلَى الْكَسْبِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلَيْهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جُعِلَ لِلْحَاجَةِ. وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ مَعَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ".
الشرح:
هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَدْ اخْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ أَكْمَلَ بَسْطٍ، وَأَنَا أَنْقُلُ فِيهَا عُيُونَ مَا ذَكَرُوهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَلَدِهِ وَلَا وَالِدِهِ الَّذِي يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِعِلَّتَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ غَنِيٌّ بِنَفَقَتِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ يَجْلِبُ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَهُوَ مَنْعُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَالْمُكَاتَبِينَ وَالْغَارِمِينَ وَالْغُزَاةِ إذَا كَانَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش وق بالذال المعجمة وهو خطأ فهو مرة بن شراحيل الهمداني بسكون الميم أبو إسماعيل الكوفي هو الذي يقال له: مرة الطيب ثقة عابد من الطبقة الثانية مات سنة ست وسبعين (ط).

 

ج / 6 ص -144-       وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ إلَيْهِ، وَهُوَ إسْقَاطُ النَّفَقَةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ جَازَ دَفْعُهُ إلَيْهِ.
وَأَمَّا سَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ أَعْطَاهُ مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَزِيدُ عَلَى نَفَقَةِ الْحَضَرِ وَيُعْطِيهِ الْمَرْكُوبَ وَالْحَمُولَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ الْمُنْفِقَ وَلَا يُعْطِيهِ قَدْرَ نَفَقَةِ الْحَضَرِ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ كَثِيرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. والثاني: وَبِهِ قَطَعَ الْمَحَامِلِيُّ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ، بَلْ يُعْطِيهِ الْحَمُولَةَ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَالْحَمُولَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي السَّفَرِ. قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ: لَهُ أَنْ يُعْطِيَ وَلَدَهُ وَوَالِدَهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ إذَا كَانَ عَامِلًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفُتُوحِ مِنْ أَصْحَابِنَا: هَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْطِيَ الْعَامِلَ شَيْئًا مِنْ زَكَاتِهِ قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: أَرَادَ الْأَصْحَابُ إذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ الْإِمَامُ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ وَلَدَ رَبِّ الْمَالِ وَوَالِدِهِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ إذَا كَانَ عَامِلًا مِنْ زَكَاةِ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الَّذِي يُعْطِيهِ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَلَوْ أَعْطَاهُ فَقَدْ أَطْلَقَ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ وَجْهَيْنِ أصحهما: لَا يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لَهُ عَلَى قَرِيبِهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ الْوَالِدُ فَقِيرًا أَوْ مِسْكِينًا وَقُلْنَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ: لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ فَيَجُوزُ لِوَالِدِهِ وَوَلَدِهِ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَإِنْ أَعْطَاهَا غَيْرُ الزَّوْجِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَفِيهَا الْوَجْهَانِ كَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا الزَّوْجُ فَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ كَالْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّفَقَةَ عَنْ نَفْسِهِ، بَلْ نَفَقَتُهَا عِوَضٌ لَازِمٌ سَوَاءٌ كَانَتْ غَنِيَّةً أَمْ فَقِيرَةً، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ فَقِيرًا فَإِنَّ لَهُ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلَيْهِ مَعَ الْأَجْرِ وَالصَّحِيحُ طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ وَعَلَيْهَا التَّفْرِيعُ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِفُرُوعِهَا مُسْتَقْصَاةٌ فِي سَهْمِ الْفُقَرَاءِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ دَفَعَ الْإِمَامُ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ لَمْ يُجْزِئ ذَلِكَ عَنْ الْفَرْضِ. فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا اُسْتُرْجِعَ وَدُفِعَ إلَى فَقِيرٍ، وَإِنْ كَانَ فَانِيًا أُخِذَ الْبَدَلُ وَصَرَفَهُ إلَى فَقِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ مَالٌ لَمْ يَجِبْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالدَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فَهُوَ كَالْمَالِ الَّذِي تَلِفَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي دَفَعَ[إلَيْهِ] رَبُّ الْمَالِ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهُ زَكَاةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدْفَعُ عَنْ زَكَاةٍ وَاجِبَةٍ وَعَنْ تَطَوُّعٍ فَإِذَا ادَّعَى الزَّكَاةَ كَانَ مُتَّهَمًا فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَيُخَالِفُ الْإِمَامَ فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَّا الزَّكَاةَ فَثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهَا زَكَاةٌ رَجَعَ فِيهَا إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَفِي بَدَلِهَا إنْ كَانَتْ فَانِيَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَدْفُوعِ[إلَيْهِ] مَالٌ فَهَلْ يَضْمَنُ رَبُّ الْمَالِ الزَّكَاةَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ دُفِعَ[إلَيْهِ] بِالِاجْتِهَادِ فَهُوَ كَالْإِمَامِ. والثاني: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ بِأَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَّقَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ فَرَّطَ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ الْإِمَامِ، وَإِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى رَجُلٍ ظَنَّهُ مُسْلِمًا فَكَانَ كَافِرًا أَوْ إلَى رَجُلٍ ظَنَّهُ حُرًّا فَكَانَ عَبْدًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَكَانَ غَنِيًّا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجِبُ الضَّمَانُ هَهُنَا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ حَالَ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ لَا يَخْفَى

 

ج / 6 ص -145-       فَكَانَ مُفَرِّطًا فِي الدَّفْعِ إلَيْهِمَا، وَحَالُ الْغَنِيِّ قَدْ يَخْفَى فَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا".
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ الزَّكَاةَ إلَى الْإِمَامِ وَدَفَعَهَا الْإِمَامُ إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ فَبَانَ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ عَنْ الزَّكَاةِ فَيُسْتَرْجَعُ مِنْهُ الْمَدْفُوعُ، سَوَاءٌ بَيَّنَ الْإِمَامُ حَالَ الدَّفْعِ أَنَّهَا زَكَاةٌ أَمْ لَا، وَالظَّاهِرُ مِنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ تَطَوُّعًا وَلَا يَدْفَعُ إلَّا وَاجِبًا مِنْ زَكَاةٍ وَاجِبَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ تَلِفَ فَبَدَلُهُ وَيَصْرِفُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ مِنْ الْقَابِضِ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِنْ بَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ هَاشِمِيًّا أَوْ مُطَّلِبِيًّا فَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ أصحها فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ والثاني: يَضْمَنُ.
والطريق الثاني:  يَضْمَنُ قَطْعًا لِتَفْرِيطِهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُخْفَوْنَ إلَّا بِإِهْمَالٍ والثالث: لَا يَضْمَنُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ. هَذَا كُلُّهُ إذَا فَرَّقَ الْإِمَامُ، فَلَوْ فَرَّقَ رَبُّ الْمَالِ فَبَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ عَنْ الْفَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَّنَ أَنَّهَا زَكَاةٌ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ بَيَّنَ رَجَعَ فِي عَيْنِهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ فَفِي بَدَلِهَا، فَإِذَا قَبَضَهُ صَرَفَهُ إلَى فَقِيرٍ آخَرَ فَإِنْ، تَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ فَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ وَالْإِخْرَاجُ ثَانِيًا عَلَى الْمَالِكِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: وَهُوَ الْجَدِيدُ يَجِبُ (وَالْقَدِيمُ) لَا يَجِبُ، وَالْقَوْلَانِ جَارِيَانِ سَوَاءٌ بَيَّنَ وَتَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ أَمْ لَمْ يُبَيِّنْ وَمَنَعَنَا الِاسْتِرْجَاعَ. 
وَلَوْ دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ إلَى مَنْ ظَنَّهُ مُسْتَحِقًّا فَبَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ هَاشِمِيًّا أَوْ مُطَّلِبِيًّا وَجَبَ الِاسْتِرْجَاعُ. فَإِنْ اسْتَرْجَعَ أَخْرَجَهُ إلَى فَقِيرٍ آخَرَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا (الْمَذْهَبُ) أَنَّهَا لَا تُجْزِئُهُ وَيَلْزَمُهُ الْإِخْرَاجُ ثَانِيًا. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ سَهْمَ الْغَازِي وَالْمُؤَلَّفِ فَبَانَ امْرَأَةً فَهُوَ كَمَنْ بَانَ عَبْدًا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الْفُتُوحِ. وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْهُ. قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: وَحُكْمُ الْكَفَّارَةِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ فِيمَا لَوْ بَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ حُكْمُ الزَّكَاةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ عَبْدًا تَعَلَّقَ الْغُرْمُ بِذِمَّتِهِ لَا بِرَقَبَتِهِ. ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِرِضَى مُسْتَحِقِّهِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا لَزِمَهُ بِرِضَى مُسْتَحِقِّهِ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ لَا بِرَقَبَتِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ وَجَبَ قَضَاءُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ لَزِمَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ فَإِنْ اجْتَمَعَ1 الزَّكَاةُ وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ وَلَمْ يَتَّسِعْ الْمَالُ لِلْجَمِيعِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يُقَدَّمُ دَيْنُ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّشْدِيدِ وَالتَّأْكِيدِ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَلِهَذَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلُ قِصَاصٍ وَقَتْلُ رِدَّةٍ، قُدِّمَ قَتْلُ الْقِصَاصِ. والثاني: تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ:"فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى". والثالث: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْوُجُوبِ فَتَسَاوَيَا فِي الْقَضَاءِ[وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ]".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (فإن اجتمع مع الزكاة دين الآدمي) (ط).

 

ج / 6 ص -146-       الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي الصَّوْمِ"أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى". وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: (حَقُّ مَالٍ) احْتِرَازٌ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ: (لَزِمَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ) احْتِرَازٌ مِمَّنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ. 
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا عَصَى وَوَجَبَ إخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الزَّكَاةُ تَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا طَرِيقٌ إلَى سُقُوطِهَا. وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ دَيْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَدَيْنٌ لِلْآدَمِيِّ، كَزَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ وَجَزَاءِ صَيْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ بِأَدِلَّتِهَا أصحها يُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى والثاني: دَيْنُ الْآدَمِيِّ والثالث: يَسْتَوِيَانِ فَتُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا بِنِسْبَتِهِمَا. وَحَكَى بَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ طَرِيقًا آخَرَ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَيْنِ تُقَدَّمُ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْأَقْوَالُ فِي الْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَسْتَرْسِلُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّ، وَقَدْ تَكُونُ الزَّكَاةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ فَيَتْلَفُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَالْإِمْكَانِ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَهُ تِرْكَةٌ فَالزَّكَاةُ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالذِّمَّةِ فَفِيهَا الْأَقْوَالُ.
وَأَجَابُوا عَنْ حُجَّةِ مَنْ قَدَّمَ دَيْنَ الْآدَمِيِّ وَقِيَاسُهُ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ وَقَطْعِ السَّرِقَةِ بِأَنَّهُ إنَّمَا قَدَّمْنَا حَقَّ الْآدَمِيِّ هُنَاكَ لِانْدِرَاجِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي ضِمْنِهِ وَحُصُولِ مَقْصُودِهِ، وَهُوَ إعْدَامُ نَفْسِ الْمُرْتَدِّ وَيَدِ السَّارِقِ وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ الدُّيُونِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فرع فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ
إحداها: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ حِكَايَةً عَنْهُ: كَانَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْقَدِيمِ يُسَمِّي مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَاشِيَةِ صَدَقَةً وَمِنْ الْمُعَشَّرَاتِ عُشْرًا وَمَنْ النَّقْدَيْنِ زَكَاةً فَقَطْ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ: يُسَمَّى الْجَمِيعُ صَدَقَةً وَزَكَاةً. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بَابًا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سُنَنِهِ تَرْجَمَتُهُ (بَابُ الْأَغْلَبِ عَلَى أَفْوَاهِ الْعَامَّةِ) أَنَّ فِي التَّمْرِ الْعُشْرَ وَفِي الْمَاشِيَةِ الصَّدَقَةَ وَفِي الْوَرِقِ الزَّكَاةَ. قَالَ: وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا كُلَّهُ صَدَقَةً.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَهُ صَدَقَةٌ وَزَكَاةٌ وَمَعْنَاهُمَا عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله تعالى حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ
"لَيْسَ1 فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الرواية هي لفظ البخاري ولفظ مسلم "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة" وكان في ش و ق خلل في نظم الحديث كقوله: "ليس ما في دون خمس " وقد حررناه والحمد لله (ط).

 

ج / 6 ص -147-       وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ فَيَتْرُكُ غَنَمًا أَوْ إبِلًا أَوْ بَقَرًا لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا إلَّا جَاءَتْ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا" الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي زَكَاةِ الْكَرْمِ:"يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ، ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى مِنْ زَكَاةِ النَّخْلِ تَمْرًا" وَهَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ زَكَاةِ الثِّمَارِ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا تُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْفَرْقِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الثانية: إذَا دَفَعَ الْمَالِكُ أَوْ غَيْرُهُ الزَّكَاةَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَلَمْ يَقُلْ: هِيَ زَكَاةٌ وَلَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ أَصْلًا أَجْزَأَهُ وَوَقَعَ زَكَاةً، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَآخَرُونَ وَهِيَ مَفْهُومَةٌ مِنْ تَفَارِيعِ الْأَصْحَابِ وَكَلَامِهِمْ، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِذَلِكَ. منها: قَوْلُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَخِيرِ: إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ فَبَانَ - غَنِيًّا فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا زَكَاةٌ - لَمْ يَرْجِعْ، وَاسْتَعْمَلَ مِثْلَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَصْحَابُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ فِي آخِرِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ مِنْ كِتَابِهِ التَّجْرِيدِ: إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى الْإِمَامِ أَوْ الْفَقِيرِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ شَيْئًا قَالَ: وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ كَالْهِبَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَنَبَّهْت عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ: لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى فَقِيرٍ، وَالدَّافِعُ غَيْرُ عَارِفٍ بِالْمَدْفُوعِ بِأَنْ كَانَ مَشْدُودًا فِي خِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا لَا يَعْلَمُ جِنْسَهُ وَقَدْرَهُ، وَتَلِفَ فِي يَدِ الْمِسْكِينِ فَفِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ احْتِمَالَانِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَابِضِ لَا تُشْتَرَطُ، فَكَذَا مَعْرِفَةُ الدَّافِعِ هَذَا كَلَامُهُ (وَالْأَظْهَرُ) الْإِجْزَاءُ.
الثالثة: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: يَسْأَلُ الْآخِذُ دَافِعَ الزَّكَاةِ عَنْ قَدْرِهَا، فَيَأْخُذُ بَعْضَ الثَّمَنِ بِحَيْثُ يَبْقَى مِنْ الثَّمَنِ مَا يَدْفَعُهُ إلَى اثْنَيْنِ مِنْ صِنْفِهِ، فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ بِكَامِلِهِ حُرِّمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، قَالَ: وَهَذَا السُّؤَالُ وَاجِبٌ فِي أَكْثَرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ هَذَا، إمَّا لِجَهْلٍ، وَإِمَّا لِتَسَاهُلٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُ السُّؤَالِ عَنْ مِثْلِ هَذَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ احْتِمَالُ التَّحْرِيمِ.
الرابعة: الْأَفْضَلُ فِي الزَّكَاةِ إظْهَارُ إخْرَاجِهَا؛ لِيَرَاهُ غَيْرُهُ فَيَعْمَلُ عَمَلَهُ وَلِئَلَّا يُسَاءَ الظَّنُّ بِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ يُسْتَحَبُّ إظْهَارُهَا، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْإِخْفَاءُ فِي نَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.
الخامسة: قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي الِاسْتِذْكَارِ: إذَا أَخَّرَ تَفْرِيقَ الزَّكَاةِ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَمَنْ كَانَ فَقِيرًا أَوْ مِسْكِينًا أَوْ غَارِمًا أَوْ مُكَاتَبًا مِنْ سَنَتِهِ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، خُصُّوا بِصَدَقَةِ الْمَاضِي، وَشَارَكُوا غَيْرَهُمْ فِي الثَّانِيَةِ، فَيُعْطَوْنَ مِنْ صَدَقَةِ الْعَامِلِينَ، وَمَنْ كَانَ غَازِيًا أَوْ ابْنَ سَبِيلٍ أَوْ مُؤَلَّفًا لَمْ يُخَصُّوا بِشَيْءٍ.
السادسة: لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْقِيمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَوَاتِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي آخِرِ بَابِ زَكَاةِ الْغَنَمِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.