المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 6 ص -148-       بَابُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِنَفَقَتِهِ أَوْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه"أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ، فَقَالَ:
أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ: قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ" وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ" وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ كَنَفَقَةِ عِيَالِهِ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ فِي سُنَنِهِمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ فِي الدِّينَارِ الثَّالِثِ
"أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ" وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد"تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ أَوْ زَوْجِكَ" كَذَا جَاءَ عَلَى الشَّكِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي الْمَرْأَةِ، يُقَالُ لَهَا: زَوْجٌ وَزَوْجَةٌ، وَحَذْفُ الْهَاءِ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ، وَوَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ فِي كُلِّ الدَّنَانِيرِ"أَنْفِقْهُ عَلَى كَذَا" وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد"تَصَدَّقَ بِهِ" بَدَلَ أَنْفِقْهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ"كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ" فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِمَعْنَاهُ"كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ" وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحداهما: إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَا مَعَهُ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ، هَلْ يَتَصَدَّقُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ: مَكْرُوهٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَتَابَعَهُمْ الرَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّصَدُّقُ، وَرُبَّمَا قِيلَ يُكْرَهُ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَقِيلَ: الْإِنْفَاقُ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ وَلَا مُخْتَارَةٍ. هَذَا لَفْظُهُ. والثاني: يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي.
والثالث: وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَفِي التَّنْبِيهِ وَشَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ، وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه إشَارَةٌ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: أُحِبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِمَنْ يَعُولُ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ مَنْ يَعُولُ فَرْضٌ، وَالْفَرْضُ أَوْلَى بِهِ مِنْ النَّفْلِ، ثُمَّ بِقَرَابَتِهِ، ثُمَّ مَنْ شَاءَ، هَذَا نَصُّهُ رضي الله عنه
فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ وَمُوَافِقِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه" أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ بَاتَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا قُوتُهُ وَقُوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: نَوِّمِي الصِّبْيَانَ، وَأَطْفِئْ السِّرَاجَ، وَقَدِّمِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَكِ" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: من الآية9]. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا فَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، إنَّمَا هُوَ ضِيَافَةٌ، وَالضِّيَافَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْفَضْلُ عَنْ عِيَالِهِ وَنَفْسِهِ لِتَأَكُّدِهَا، وَكَثْرَةِ الْحَثِّ عَلَيْهَا، حَتَّى إنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ

 

ج / 6 ص -149-       أَوْجَبُوهَا. والثاني: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الصِّبْيَانَ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ حِينَئِذٍ، بَلْ كَانُوا قَدْ أَكَلُوا حَاجَتَهُمْ، وأما: الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ فَتَبَرَّعَا بِحَقِّهِمَا، وَكَانَا صَابِرَيْنِ فَرِحَيْنِ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: نَوِّمِي صِبْيَانَكِ، وَغَيْرُ هَذَا اللَّفْظِ مِمَّا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصِّبْيَانَ كَانُوا جِيَاعًا، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الصِّبْيَانَ لَا يَتْرُكُونَ الْأَكْلَ عِنْدَ حُضُورِ الطَّعَامِ، وَلَوْ كَانُوا شِبَاعًا، فَخَافَ إنْ بَقُوا مُسْتَيْقِظِينَ أَنْ يَطْلُبُوا الْأَكْلَ عِنْدَ حُضُورِ الطَّعَامِ عَلَى الْعَادَةِ فَيُنَكِّدُوا عَلَيْهِمَا، وَعَلَى الضَّيْفِ لِقِلَّةِ الطَّعَامِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا أَرَادَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ وَشَيْخُهُ أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، أَنَّهُ لَا تَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لِمَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ: يَكْرَهُ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ: لَا يُسْتَحَبُّ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: لَا يُسْتَحَبُّ، وَرُبَّمَا قِيلَ: يُكْرَهُ هَذَا كَلَامُهُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُصُولُ الْوَفَاءِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَلَا بَأْسَ بِالصَّدَقَةِ وَقَدْ تُسْتَحَبُّ، وَإِلَّا فَلَا تَحِلُّ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْمَلُ كَلَامُ الْأَصْحَابِ الْمُطْلَقُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ فَضَلَ عَمَّا يَلْزَمُهُ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم"لِيَتَصَدَّقْ الرَّجُلُ مِنْ دِينَارِهِ، وَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ دِرْهَمِهِ، وَلِيَتَصَدَّقْ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، وَلِيَتَصَدَّقْ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ" رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَطْعَمَ جَائِعًا أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَمَنْ كَسَا مُؤْمِنًا عَارِيًّا كَسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ" وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَجْوَدُ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ" فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصْبِرُ عَلَى الْإِضَافَةِ اُسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِمَا رَوَى عُمَرُ رضي الله عنه قَالَ:"أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ فَقُلْتُ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِكُلِّ مَالِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إلَى شَيْءٍ أَبَدًا" وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْإِضَافَةِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ:"بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنْ الذَّهَبِ أَصَابَهَا مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ، فَأَتَاهُ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْسَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُذْهَا صَدَقَةً، فَوَاَللَّهِ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَاتِهَا مُغْضَبًا فَحَذَفَهُ بِهَا حَذْفَةً لَوْ أَصَابَهُ لَأَوْجَعَهُ أَوْ عَقَرَهُ، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، وَإِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى".
الشرح:
أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ"لِيَتَصَدَّقْ الرَّجُلُ مِنْ دِينَارِهِ" إلَى آخِرِهِ، فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِهِ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ وأما: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ رضي

 

ج / 6 ص -150-       الله عنه صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ كُلُّهُ صَحِيحٌ، إلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ الْمَغَازِي عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ وَالْمُدَلِّسُ إذَا قَالَ: (عَنْ)، لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ. وَالرَّحِيقُ: الْخَمْرُ الصَّافِيَةُ، وَخُضْرُ الْجَنَّةِ بِإِسْكَانِ الضَّادِ أَيْ ثِيَابُهَا الْخُضْرُ، قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ) رُوِيَ بِرَفْعِ الدَّالِ وَنَصْبِهَا وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ، وَحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه هَكَذَا هُوَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ فِي الْمُهَذَّبِ. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْوَسِيطِ فِي آخِرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"بَيْنَكُمَا كَمَا بَيْنَ كَلِمَتَيْكُمَا" فَزِيَادَةٌ لَا تُعْرَفُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ: (بَيْنَا نَحْنُ) أَيْ بَيْنَ أَوْقَاتِ قُعُودِنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ: (مِنْ رُكْنِهِ) بِضَمِّ الرَّاءِ، أَيْ جَانِبِهِ وَوَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ تَغْيِيرٌ فِي تَرْتِيبِهِ وَلَفْظِهِ، وَاَلَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد"جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الْأَيْسَرِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَذَفَهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ" ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ الْبَاقِي.
وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْكِتَابِ: "هَاتِهَا" هُوَ بِكَسْرِ التَّاءِ فَلَوْ وَلَا يَجُوزُ فَتْحُهَا بِلَا خِلَافٍ، وَقَوْلُهُ: "مُغْضَبًا" بِفَتْحِ الضَّادِ - وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ - وَقَوْلُهُ: "فَحَذَفَهُ بِهَا"، الْحَاذِفُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَذَفَهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ رَمَاهُ بِهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدْتُهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُ مِنْ صَحَّفَهُ، وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا حَذَفَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَقَوْلُهُ: "لَأَوْجَعَهُ أَوْ عَقَرَهُ" أَيْ جَرَحَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد "لَأَوْجَعَتْهُ أَوْ عَقَرَتْهُ"، يَعْنِي الْقِطْعَةَ الْمَحْذُوفَ بِهَا، وَقَوْلُهُ: "يَتَكَفَّفُ النَّاسَ" أَيْ يَطْلُبُ الصَّدَقَةَ وَيَتَعَرَّضُ لِأَخْذِ مَا يَكْفِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد "يَسْتَكْفِ" وَهُمَا صَحِيحَانِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ فِيهِ: تَكَفَّفَ وَاسْتَكْفَفَ.
وَقَوْلُهُ: "عَنْ ظَهْرِ غِنَى" قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ عَنْ غِنًى يَعْتَمِدُهُ وَيَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى النَّوَائِبِ. ذَكَرَ صَاحِبُ الْحَاوِي لَهُ مَعْنَيَيْنِ "هَذَا"، والثاني: أَنَّ مَعْنَاهُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ: إنَّ الْمُرَادَ غِنَى النَّفْسِ، إنَّمَا تَصْلُحُ الصَّدَقَةُ لِمَنْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ وَاسْتَغْنَتْ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَثَبَتَ يَقِينُهُ وَصَبَرَ عَلَى الْفَقْرِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْفَصْلِ: فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ فَضَلَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَمَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ أَنْ يَتَصَدَّقَ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَدَلَائِلُهُ مَشْهُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَهِيَ فِي رَمَضَانَ آكَدُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ لِلْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ فِيهِ عَنْ الْمَكَاسِبِ بِالصِّيَامِ وَإِكْثَارِ الطَّاعَاتِ، فَتَكُونُ الْحَاجَةُ فِيهِ أَشَدَّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَسِّعَ فِيهِ عَلَى عِيَالِهِ، وَيُحْسِنَ إلَى ذَوِي أَرْحَامِهِ وَجِيرَانِهِ، لَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ.

 

ج / 6 ص -151-       قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَعِنْدَ الْكُسُوفِ وَالسَّفَرِ وَبِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ الْعِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هِيَ آكَدُ مِنْ غَيْرِهَا: قَالَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ الْفَاضِلِ عَنْ دَيْنِهِ وَنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَسَائِرِ مُؤَنِهِمْ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: نَعَمْ والثاني: لَا وَأَصَحُّهَا: إنْ صَبَرَ عَلَى الْإِضَافَةِ فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالْمُسْتَحَبُّ1 أَنْ يَخُصَّ بِالصَّدَقَةِ الْأَقَارِبَ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْنَبِ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
"زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ عَلَيْهِمْ" وَفِعْلُهَا فِي السِّرِّ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية271] وَلِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ" وَتَحِلُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لِلْأَغْنِيَاءِ وَلِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ"أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ سِقَايَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقِيلَ لَهُ: أَتَشْرَبُ مِنْ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ".
الشرح: حَدِيثُ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُمَا"أَنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَامْرَأَةً أُخْرَى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتَا لِبِلَالٍ: سَلْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجُنَا وَيَتَامَى فِي حُجُورِنَا، هَلْ يُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْهُمَا عَنْ الصَّدَقَةِ؟ يَعْنِي النَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ" وَفِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُومِنِينَ رضي الله عنها"أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ".
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ"صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ" إلَى آخِرِهِ فَرَوَاهُ2. وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ، إمَامٌ عَادِلٌ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَيْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مَيْتَةَ السُّوءِ" رَوَاهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (والأفضل) بدل والمستحب (ط).
2 بياض بالأصل فحرر (ش) قلت: أورده السيوطي في "الجامع الصغير" وقال العزيزي: قال الشيخ يعني السيوطي: هو حسن لغيره أي أنه ضعيف ولعل غيره حديث رواه أحمد والبيهقي في " الشعب " عن عائشة: "صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرون الديار ويزدن في الأعمار" أو حديثث "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة" رواه الحاكم عن أنس ووصفه السيوطي بالضعف وكذلك حديث "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب وصلة الرحم زيادة في العمر وكل معروف صدقة ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة" إلخ رواه الطبراني في "الأوسط" عن أم سلمة وإسناده واه أيضا.

 

ج / 6 ص -152-       التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. قلت: فِي إسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ1 بْنُ عِيسَى الْخَزَّازِ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَمَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الْعُمْرِ الْبَرَكَةُ فِيهِ، بِالتَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ وَالْحِمَايَةِ مِنْ الشَّرِّ، وَقِيلَ: هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ بِأَنْ يُقَالُ لَهُمْ: عُمْرُ فُلَانٍ إنْ لَمْ يَصِلْ رَحِمَهُ خَمْسُونَ سَنَةً فَإِنْ وَصَلَهُ فَسِتُّونَ، فَيَزِيدُ بِالصِّلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا زِيَادَةَ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَصِلُ رَحِمَهُ وَيَعِيشُ السِّتِّينَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا جَعْفَرُ الصَّادِقُ بْنُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيِّ زِيَنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما أحكام الفصل: فَفِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَجَانِبِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْقَرِيبِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَرِيبُ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَوْ غَيْرُهُ. قَالَ الْبَغَوِيّ: دَفْعُهَا إلَى قَرِيبٍ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا إلَى الْأَجْنَبِيِّ - وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْأَقَارِبِ فِي التَّقْدِيمِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي آخِرِ بَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ تَخْصِيصُ الْأَقَارِبِ عَلَى الْأَجَانِبِ بِالزَّكَاةِ حَيْثُ يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ كَمَا قُلْنَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا الْكَفَّارَاتُ وَالنُّذُورُ وَالْوَصَايَا وَالْأَوْقَافُ وَسَائِرُ جِهَاتِ الْبِرِّ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الْأَقَارِبِ فِيهَا حَيْثُ يَكُونُونَ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا:" يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْصِدَ بِصَدَقَتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ أَشَدَّهُمْ لَهُ عَدَاوَةٌ لِيَتَأَلَّفَ قَلْبَهُ وَيَرُدَّهُ إلَى الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُجَانَبَةِ الرِّيَاءِ وَحُظُوظِ النُّفُوسِ".
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ الْإِخْفَاءُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ فَذَكَرَ مِنْهُمْ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَيُسْتَحَبُّ إظْهَارُهَا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْفَرْضِ يُسْتَحَبُّ إظْهَارُهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالنَّافِلَةُ يُنْدَبُ إخْفَاؤُهَا وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ قَرِيبًا فِي آخِرِ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ.
الثالثة: تَحِلُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لِلْأَغْنِيَاءِ بِلَا خِلَافٍ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ وَيُثَابُ دَافِعُهَا عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ الْمُحْتَاجَ أَفْضَلُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ لِلْغَنِيِّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا، وَيُكْرَهُ التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا، قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَلَا يَحِلُّ لِلْغَنِيِّ أَخْذُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ مُظْهِرًا لِلْفَاقَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ حُمِلَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ" أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَاتَ فَوُجِدَ لَهُ دِينَارَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
:"كَيَّتَانِ مِنْ نَارٍ". وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إذَا سَأَلَ الْغَنِيُّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ فَقَدْ قَطَعَ صَاحِبُ الْحَاوِي وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو عبد الله بن عيسى البصري أبو خلف الخزاز بمعجمات عن يونس بن عبيد وعنه أبو بكر ابن أبي الأسود وعقبة بن مكرم قال النسائي: ليس بثقة (ط).

 

ج / 6 ص -153-       بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي:"إذَا كَانَ غَنِيًّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ بِمَالٍ أَوْ بِضَيْعَةٍ فَسُؤَالُهُ حَرَامٌ وَمَا يَأْخُذُهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ". هَذَا لَفْظُهُ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ فِي تَحْرِيمِ السُّؤَالِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَجْهَانِ، قَالُوا: وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ كَمَا قَالُوا، فَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَشْدِيدٌ أَكِيدٌ فِي النَّهْيِ عَنْ السُّؤَالِ، وَظَوَاهِرُ كَثِيرَةٌ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وأما: السُّؤَالُ لِلْمُحْتَاجِ الْعَاجِزِ عَنْ الْكَسْبِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الرابعة: هَلْ تَحِلُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ: تَحِلُّ والثاني: حَكَاهُ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: تَحِلُّ والثاني: تَحْرُمُ.
وأما: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إمَامُ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُ، مِنْهُمْ الْقَفَّالُ وَالْمَرْوَزِيُّ إمَامُ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ أصحهما: التَّحْرِيمُ، فَحَصَلَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَقِّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أصحها تَحِلُّ لَهُمْ دُونَهُ صلى الله عليه وسلم والثاني: لَهُمْ وَلَهُ والثالث: تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا تَيَسَّرَ، وَلَا يَسْتَقِلُّهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِهِ لِقِلَّتِهِ وَحَقَارَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: الْخَيْرُ كَثِيرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا قَبِلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَارَكَ فِيهِ فَلَيْسَ هُوَ بِقَلِيلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] وَفِي "الصحيحين" عَنْ عَدِّي بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" وَفِي "الصحيحين" أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ" قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْفِرْسِنُ مِنْ الْبَعِيرِ وَالشَّاةِ كَالْحَافِرِ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخُصَّ بِصَدَقَتِهِ الصُّلَحَاءَ وَأَهْلَ الْخَيْرِ وَأَهْلَ الْمُرُوءَاتِ وَالْحَاجَاتِ، فَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى فَاسِقٍ أَوْ عَلَى كَافِرٍ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ جَازَ، وَكَانَ فِيهِ أَجْرٌ فِي الْجُمْلَةِ
قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ، وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الانسان:8] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَسِيرَ حَرْبِيٌّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ1 عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، فَقَالَ اللَّهُمَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم التاء والصاد وكسر الدال مع التشديد وفتح القاف

 

ج / 6 ص -154-       لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ، وَعَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ1 فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْفِفَ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعْفِفُ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ، وَيُنْفِقُ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلَ الَّذِي كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقَى فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ فِي كُلِّ كَبِدٍّ رَطْبَةٍ أَجْرٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا"بَيْنَمَا كَلْبٌ يَطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ" الْمُوقُ: الْخُفُّ.
فرع: يُكْرَهُ تَعَمُّدُ الصَّدَقَةِ بِالرَّدِيءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية267]. وَيُسْتَحَبُّ تَعَمُّدُ أَجْوَدِ مَالِهِ وَأَحَبُّهُ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: من الآية92]. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: تُكْرَهُ الصَّدَقَةُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتَارَ أَحَلَّ مَالِهِ وَأَبْعَدَهُ مِنْ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ - فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَتِهِ وَالْفَلُوُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَيُقَالُ: بِكَسْرِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَهُوَ وَلَدُ الْفَرَسِ فِي صِغَرِهِ.  وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَيْضًا قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: من الآية172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمُشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فرع: مَنْ دَفَعَ إلَى وَكِيلِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ غُلَامِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ شَيْئًا يُعْطِيهِ لِسَائِلٍ أَوْ غَيْرِهِ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ دَفْعُهُ إلَى ذَلِكَ الْمُعِينِ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَلَّا يَعُودَ فِيهِ، بَلْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ اسْتَرَدَّهُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ.
فرع: قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ: يُكْرَهُ لِمَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ أَوْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ زَكَاةً أَوْ كَفَّارَةً أَوْ عَنْ نَذْرٍ وَغَيْرِهَا مِنْ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلَا يُكْرَهُ مِلْكُهُ مِنْهُ بِالْإِرْثِ، وَلَا يُكْرَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَمَلَّكَهُ مِنْ غَيْرِهِ إذَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الألف وكسر التاء وفتح الياء

 

ج / 6 ص -155-       انْتَقَلَ إلَيْهِ. وَاسْتَدَلُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:"حَمَلْتُ عَلَى فَرَسِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ:"بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ:
وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ ارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ وَاشْتَرَاهَا مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ صَحَّ الشِّرَاءُ وَمَلَكَهَا، لِأَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ.
فَرْعٌ: يُسْتَحَبُّ دَفْعُ الصَّدَقَةِ بِطِيبِ نَفْسٍ، وَبَشَاشَةِ وَجْهٍ. وَيَحْرُمُ الْمَنُّ بِهَا فَلَوْ مَنَّ، بَطَلَ ثَوَابُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: من الآية264] وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْمُرَادُ الْمُسْبِلُ إزَارَهُ أَوْ ثَوْبَهُ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ لِلْخُيَلَاءِ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: لَوْ نَذَرَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ قَبْلَهُ، وَلَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ جَازَ التَّصَدُّقُ قَبْلَهُ، كَمَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ.

فرع فِي مَسَائِلَ مُهِمَّةٍ ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ
مِنْهَا قَالَ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَنَّ الْمُحْتَاجَ هَلْ الْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّكَاةِ؟ أَوْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَكَانَ الْجُنَيْدُ وَإِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ وَجَمَاعَةٌ يَقُولُونَ: الْأَخْذُ مِنْ صَدَقَةٍ أَفْضَلُ؛ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَى أَصْنَافِ الزَّكَاةِ، وَلِئَلَّا يُخِلَّ بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْآخِذِ، بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ، فَإِنَّ أَمْرَهَا أَهْوَنُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَقَالَ آخَرُونَ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى وَاجِبٍ، وَلَوْ تَرَكَ أَهْلُ الزَّكَاةِ كُلُّهُمْ أَخْذَهَا أَثِمُوا، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا مِنَّةَ فِيهَا.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ شُبْهَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لَمْ يَأْخُذْ الزَّكَاةَ، وَإِنْ قَطَعَ بِاسْتِحْقَاقِهِ نَظَرَ - إنْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ إنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ عَلَى هَذَا لَا يَتَصَدَّقُ - فَلْيَأْخُذْ الصَّدَقَةَ، فَإِنَّ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ وَلَمْ يُضَيِّقْ بِالزَّكَاةِ تَخَيَّرَ، وَأَخْذُ الزَّكَاةِ أَشَدُّ فِي كَسْرِ النَّفْسِ، وَذَكَرَ أَيْضًا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي إخْفَاءِ[أَخْذِ] الصَّدَقَةِ وَإِظْهَارِهَا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَضِيلَةٌ وَمَفْسَدَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخْذُ فِي الْمَلَأِ، وَتَرْكُ الْأَخْذِ فِي الْخَلَاءِ أَحْسَنُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: جَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى سَقْيِ الْمَاءِ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْكِتَابِ وَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقُ قَرِيبًا فِي فَرْعِ تَخْصِيصِ الصَّدَقَةِ بِالصُّلَحَاءِ.

 

ج / 6 ص -156-       وَمِنْهَا: عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه"أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَقْيُ الْمَاءِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ هَكَذَا وَهُوَ مُرْسَلٌ، فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يُدْرِكْ سَعْدًا وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ عَنْ سَعْدٍ بِمَعْنَاهُ قَالَ:"فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْمَاءُ" وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ سَعْدٍ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ أَيْضًا فَهُوَ مُرْسَلٌ لَكِنَّهُ قَدْ أُسْنِدَ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَاهُ كَمَا سَبَقَ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ وَيُعْمَلُ فِيهَا بِالضَّعِيفِ، فَبِهَذَا أَوْلَى، وَعَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:"سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ إنْ سَقَيْتُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
فرع: فِي قوله تعالى:
{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ إعَارَةُ الْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَالْفَأْسِ وَسَائِرِ مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ هُوَ الزَّكَاةُ.
فرع: تُسْتَحَبُّ الْمَنِيحَةُ وَهِيَ أَنْ تَكُونَ لَهُ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ ذَاتُ لَبَنٍ فَيَدْفَعُهَا إلَى مَنْ يَشْرَبُ لَبَنَهَا، ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَيْهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم
"أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهَا مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعِدِهَا إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ بِهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً أَوْ الشَّاةُ الصَّفِيُّ، تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةً غَدَتْ بِصَدَقَةٍ صَبُوحِهَا وَغَبُوقِهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ صَحِيحَةٌ.

فرع فِي ذَمِّ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالْحَثِّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ وَوُجُوهِ الْخَيْرَاتِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: من الآية9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الاسراء: من الآية29] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سـبأ: من الآية39] وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم"مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"أَنْفِقْ يُنْفَقُ عَلَيْكَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها"أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إلَّا كَتِفُهَا قَالَ: بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ تَصَدَّقُوا بِهَا إلَّا كَتِفَهَا، فَقَالَ: بَقِيَتْ لَنَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا كَتِفَهَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:"مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

ج / 6 ص -157-       فَرْعٌ فِي فَضْلِ صَدَقَةِ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:
أَنْ تَصَدَّقَ1 وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَتَخَافُ الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح التاء والصاد مع تشديد الدال وفتحها وفتح القاف.

فرع فِي أَجْرِ الْوَكِيلِ فِي الصَّدَقَةِ وَبَيَانِ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ إذَا أَمْضَاهُ بِشَرْطِهِ
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُنَفِّذُ مَا أُمِرَ بِهِ فَيُعْطِيهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةٌ بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إلَى الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَضَبَطُوا الْمُتَصَدِّقِينَ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ.
فرع: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا لِلسَّائِلِ وَغَيْرِهِ بِمَا أَذِنَ فِيهِ صَرِيحًا، وَبِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ إذَا عَلِمَتْ رِضَاهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ رِضَاهُ بِهِ فَهُوَ حَرَامٌ. هَكَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَعَيِّنٌ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْمَمْلُوكِ الْمُتَصَرِّفِ فِي مَالِ سَيِّدِهِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ منها: حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
:"إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا أَنْفَقَتْهُ وَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُهُ فَلَهَا أَجْرٌ وَلَهُ أَجْرٌ كَمَا سَبَقَ، وَعَنْ عُمَيْرٍ2 مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ - بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَكَسْرِ الْبَاءِ - قَالَ:"أَمَرَنِي مَوْلَايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلَايَ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَدَعَاهُ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْتَهُ؟ فَقَالَ: يُعْطِي طَعَامِي مِنْ غَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، فَقَالَ: الْأَجْرُ بَيْنَكُمَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوْلَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ" وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَرْضَى بِهِ سَيِّدُهُ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ سَيِّدَهُ يَرْضَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَمْ يَرْضَ لِكَوْنِهِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ فَيُثَابُ السَّيِّدُ عَلَى إخْرَاجِ مَالِهِ وَيُثَابُ الْعَبْدُ عَلَى نِيَّتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ كَوْنِ الْأَجْرِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَنَّهُ قِسْمَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْرٌ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَا سَوَاءٌ فَقَدْ يَكُونُ أَجْرُ صَاحِبِ الْعَطَاءِ أَكْثَرَ. وَقَدْ يَكُونُ أَجْرُ الْمَرْأَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 عمير مولى آبي اللحم الغفاري شهد خيبر وهو مملوك فلم يسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه رضخ له من خرثي المتاع أعطاه سيفا تقلده. روى عنه يزيد بن أبي عبيد ومحمد بن يزيد بن المهاجر ومحمد بن إبراهيم بن الحارث (ط).

 

ج / 6 ص -158-       وَالْخَازِنِ وَالْمَمْلُوكِ أَكْثَرَ بِحَسَبِ قَدْرِ الطَّعَامِ وَقَدْرِ التَّعَبِ فِي إنْفَاذِ الصَّدَقَةِ وَإِيصَالِهَا إلَى الْمَسَاكِينِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: ثَبَتَ فِي "الصحيحين" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى" وَثَبَتَ فِي "الصحيحين" أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالْيَدُ السُّفْلَى السَّائِلَةُ" وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ:"الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ" وَعَقَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ بَابًا.
فرع: يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ الْجَنَّةِ، وَيُكْرَهُ مَنْعُ مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ وَتَشَفَّعَ بِهِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
:"لَا تَسْأَلَنَّ بِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا الْجَنَّةَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَيْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ. وَمَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوَا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادِ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ"فَأَثْنُوا عَلَيْهِ" بَدَلَ"فَادْعُوَا لَهُ".
فرع: إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ مَالٌ مِنْ حَلَالٍ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ أَخْذُهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ مَسْأَلَةٌ وَلَا تَطَلُّعٌ إلَيْهِ جَازَ أَخْذُهُ بِلَا كَرَاهَةٍ وَلَا يَجِبُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: يَجِبُ؛ لِحَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ، قَالَ: فَكَانَ سَالِمٌ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
دَلِيلُنَا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ:"سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ:
يَا حَكِيمُ، إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُوَا حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا. ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رضي الله عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُ" يَرْزَأُ" بِرَاءٍ ثُمَّ زَايٍ وَآخِرُهُ مَهْمُوزٌ - مَعْنَاهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَأَصْلُ الرُّزْءِ النَّقْصُ، أَيْ لَمْ يَنْقُصْ أَحَدًا شَيْئًا بِالْأَخْذِ مِنْهُ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُ عَلَى هَذَا. وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ الْحَاضِرِينَ رضي الله عنهم، وَحَدِيثُ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: من الآية2] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -159-       فرع: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا عَلَى كُلِّ سُلَامَى1 مِنْهَا وَالسُّلَامَى الْعُضْوُ وَالْمَفْصِلُ وَجَمْعُهُ سَلَامِيَّاتٌ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامُ مُخَفَّفَةٌ فِي الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ.
اعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الصَّدَقَةِ إعْطَاءُ الْمَالِ وَنَحْوِهِ بِقَصْدِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ:"قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. أَرَأَيْتَ إنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، قَالَ: تَكُفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا"أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ قَالَ: أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ بِهِ، إنَّ كُلَّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلَّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلَّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلَّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَفِي بُضْعِ2 أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ.  يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، أَوْ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا إلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ }، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مِفْصَلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثمِائَةِ فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنْ النَّارِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ. وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ إلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ"فَلَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إنْسَانٌ وَلَا دَابَّةٌ وَلَا طَيْرٌ إلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إلَى يَوْمِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم السين وفتح اللام والميم
2 بضم الباء وتسكين الضاد.

 

ج / 6 ص -160-       الْقِيَامَةِ" وَفِي رِوَايَةٍ:"لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إنْسَانٌ وَلَا دَابَّةٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً" وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ. وَيَرْزَأَهُ، أَيْ يُنْقِصُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا صِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْأَقَارِبِ وَالْيَتَامَى وَالْأَرَامِلِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَصْهَارِ وَصِلَةِ أَصْدِقَاءِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَزَوْجَتِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ وَقَدْ جَاءَتْ فِي جَمِيعِ هَذَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحِيحِ، جَمَعْتُ مُعْظَمَهَا فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.