المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 6 ص -161-       كِتَابُ الصِّيَامِ
هُوَ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ إمْسَاكٍ، يُقَالُ: صَامَ، إذَا سَكَتَ، وَصَامَتْ الْخَيْلُ: وَقَفَتْ، وَفِي الشَّرْعِ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ عَنْ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ وَفِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ، وَيُقَالُ: رَمَضَانُ وَشَهْرُ رَمَضَانَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ، قَالُوا: وَلَا كَرَاهَةَ فِي قَوْلِ: رَمَضَانُ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: رَمَضَانُ، بَلْ لَا يُقَالُ إلَّا شَهْرُ رَمَضَانَ، سَوَاءٌ إنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ أَمْ لَا، وَزَعَمُوا أَنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَالطَّرِيقُ إلَيْهِمَا ضَعِيفٌ وَرَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"لَا تَقُولُوا رَمَضَانَ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ قُولُوا شَهْرُ رَمَضَانَ" وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالضَّعْفُ فِيهِ بَيِّنٌ، فَإِنَّ مِنْ رُوَاتِهِ نَجِيحَ1 السِّنْدِيَّ وَهُوَ ضَعِيفٌ سِيءُ الْحِفْظِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ: إنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ فَلَا كَرَاهَةَ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ، قَالُوا: فَيُقَالُ: صُمْنَا رَمَضَانَ وَقُمْنَا رَمَضَانَ، وَرَمَضَانُ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ، وَتُطْلَبُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي هَذَا كُلِّهِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: جَاءَ رَمَضَانُ، وَدَخَلَ رَمَضَانُ وَحَضَرَ رَمَضَانُ، وَأُحِبُّ رَمَضَانَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي قَوْلِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا، وَالْمَذْهَبَانِ الْآخَرَانِ فَاسِدَانِ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِنَهْيِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَهْيٌ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ لَا تُطْلَقُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ اسْمٌ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ كَرَاهَةٌ.
وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي "الصحيحين" فِي تَسْمِيَتِهِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ شَهْرٍ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نجيح كنيته أبو معشر وهو مولى بني هاشم له في "المغازي" وهو من المدنيين روى عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وغيرهما وعنه ابنه محمد  وبشر بن الوليد وغيرهما. كان أميا لذلك جاءت أسانيده غير مستقيمة وكذا قال فيه ابن معين: يتقي من حديثه المسند وقال أبو نعيم: كان رجلا ألكن يقول: حدثنا محمد بن قعب ، وقال علي: كان يحيى بن سعيد يضحك إذا ذكره. وقد أورد الذهبي هذا الحديث فيما تفرد بروايته ، ومن مناكيره: "لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم" وأيضا " مكث موسى بعد أن كلم الله أربعين يوما لا يراه أحد إلا مات" رواه الحاكم في مستدركه (ط).

 

ج / 6 ص -162-       أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا"إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"إذَا كَانَ رَمَضَانُ" وَأَشْبَاهُ هَذَا فِي "الصحيحين" غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَا يَجِبُ صَوْمُ غَيْرِ رَمَضَانَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ يَجِبُ بِنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ، وَدَلِيلُ الْإِجْمَاعِ"قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: وَصِيَامُ رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ:
لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ رِوَايَةِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه.
فرع: رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ:" أُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: "وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَيَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: من الآية183] الْآيَةَ، فَكَانَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. فَهَذَا حَوْلٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: من الآية185] فَثَبَتَ الصِّيَامُ عَلَى مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَعَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يَقْضِيَ. وَثَبَتَ الطَّعَامُ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ اللَّذَيْنِ لَا يَسْتَطِيعَانِ الصَّوْمَ هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ فِي آخِرِ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَهُوَ مُرْسَلٌ. فَإِنَّ مُعَاذًا لَمْ يُدْرِكْهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَعْنَاهُ وَلَفْظِهِ"فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ بَعْدَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَامَ عَاشُورَاءَ. فَصَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، شَهْرَ رَبِيعٍ إلَى شَهْرِ رَبِيعٍ إلَى رَمَضَانَ. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِ شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: من الآية183] وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:"حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: أُحِيلَ الصَّوْمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ قَدِمَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا عَهْدَ لَهُمْ بِالصِّيَامِ، فَكَانُوا يَصُومُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ حَتَّى نَزَلَ: {شَهْرُ رَمَضَانَ} فَاسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا كُلَّ يَوْمٍ تَرَكَ الصِّيَامَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، رَخَّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَنَسَخَهُ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية184] فَأُمِرُوا بِالصِّيَامِ".
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ جَزْمٍ، فَيَكُونُ صَحِيحًا، كَمَا تَقَرَّرَتْ قَاعِدَتُهُ وَهَذَا لَفْظُهُ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:"حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا:
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية184] فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ".
فرع: قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه:"لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: من الآية184] كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا" وَفِي

 

ج / 6 ص -163-       رِوَايَةٍ:"كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ، فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: من الآية185] رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَهَذَا لَفْظُهُ.
فرع:"صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَضَانَ تِسْعَ سِنِينَ" لِأَنَّهُ فُرِضَ فِي شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: كَانَ الْإِسْلَامُ يُحَرِّمُ عَلَى الصَّائِمِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ، وَمَنْ حِينِ يَنَامُ أَوْ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَأَيُّهُمَا وُجِدَ أَوَّلًا حَصَلَ بِهِ التَّحْرِيمُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُبِيحَ الْجَمِيعُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، سَوَاءٌ نَامَ أَمْ لَا.
احْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ:"كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ1 الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا: عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةٌ لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: من الآية187] فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: من الآية187] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:"كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلُّوا الْعَتَمَةَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ، وَصَامُوا إلَى الْقَابِلَةِ، فَاخْتَانَ رَجُلٌ نَفْسَهُ فَجَامَعَ امْرَأَتَهُ، وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَلَمْ يُفْطِرْ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يُسْرًا لِمَنْ بَقِيَ، وَرُخْصَةً وَمَنْفَعَةً، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: من الآية187].  وَكَانَ هَذَا مِمَّا نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ النَّاسَ وَرَخَّصَ لَهُمْ وَيَسَّرَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي إسْنَادِهِ2 ضَعْفٌ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ [وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ]3 وَإِقَامُ الصَّلَاةِ. وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ. وَالْحَجُّ. وَصَوْمُ رَمَضَانَ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بكسر الصاد وتسكين الراء وفتح الميم.
2 قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن شبويه حدثني علي بن حسين بن واقد عن أبيه عن يوزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس: قلت: وعلي بن حسين ضعفه أبو حاتم واتهمه العقيلي يالإرجاء . وقال الذهبي: صدوق . وقال النسائي: ليس به بأس. أما أبوه فقد وثقه ابن معين وغيره واستنكر أحمد بعض حديثه أما يزيد النحوي فهو يزيد بن أبي سعيد ثقة عابد قتل ظلما سنة 131 وقال في عون المعبود: قال المنذري: علي بن الحسين ضعيف. (ط).
3 ما بين المعقوفين ليس في ش ولكنه في هامش ق كنا قد نبهنا عليه في ذلك الهامش (ط).

 

ج / 6 ص -164-       الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَقَوْلُهُ: وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ تَوْكِيدٌ وَإِيضَاحٌ لِجَوَازِ تَسْمِيَتِهِ رُكْنًا وَفَرْضًا، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى رُكْنٍ لَكَفَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ إطْلَاقِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الشَّهْرِ، وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا فَإِنْ قِيلَ: لِمَ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ دُونَ الْآيَةِ؟ وَكَذَا اُسْتُدِلَّ بِهِ فِي الْحَجِّ دُونَ الْآيَةِ قُلْنَا: مُرَادُهُ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ، وَهَذَا يَحْصُلُ مِنْ الْحَدِيثِ لَا مِنْ الْآيَةِ، وَأَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَتَحْصُلُ مِنْهُمَا، وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ كَوْنُ صَوْمِ رَمَضَانَ رُكْنًا وَفَرْضًا مُجْمَعٌ1 عَلَيْهِ. وَدَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَيْهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَتَحَتَّمُ وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ طَاهِرٍ قَادِرٍ مُقِيمٍ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَصْلِيًّا لَمْ يُخَاطَبْ[بِهِ] فِي حَالِ كُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لقوله تعالى:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: من الآية38] وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ قَضَاءِ مَا فَاتَ فِي حَالِ الْكُفْرِ تَنْفِيرًا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا لَمْ يُخَاطَبْ بِهِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ".
الشرح: وَقَوْلُهُ: يَتَحَتَّمُ وُجُوبُ ذَلِكَ، أَيْ وُجُوبُ فِعْلِهِ فِي الْحَالِ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْحَائِضِ مُتَحَتِّمٌ أَيْضًا، لَكِنْ يُؤَخِّرَانِهِ ثُمَّ يَقْضِيَانِهِ وَقَوْلُهُ: فِي الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ لَمْ يُخَاطَبْ بِهِ، أَيْ لَمْ نُطَالِبْهُ بِفِعْلِهِ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي حَالِ كُفْرِهِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ فِي حَالِ كُفْرِهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُزَادُ فِي عُقُوبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يُطَالَبُونَ بِفِعْلِهَا فِي حَالِ كُفْرِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْمُرْتَدِّ: لَمْ يُخَاطَبْ فِي حَالِ الرِّدَّةِ مَعْنَاهُ لَا نُطَالِبُهُ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِتَابَةِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ فِي حَالِ الرِّدَّةِ، وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ بِلَا خِلَافٍ؟ وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ: لَمْ نُطَالِبْهُ بِهِ فِي رِدَّتِهِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ، لَكَانَ أَصْوَبُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُطَالَبُ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِي حَالِ كُفْرِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ صَامَ فِي كُفْرِهِ لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ مَا إذَا تَصَدَّقَ فِي كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَهُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ، وَإِذَا أَسْلَمَ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا ذَكَرَهُ، وَلَا نُطَالِبُهُ بِفِعْلِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مُدَّةِ الرِّدَّةِ إذَا أَسْلَمَ. كَمَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَقَاسَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُوَافِقُ عَلَيْهَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (مجمع) مرفوع لأنه خبر (هذا) (ط).

 

ج / 6 ص -165-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ" وَيُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ لِسَبْعِ سِنِينَ إذَا أَطَاقَ الصَّوْمَ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِعَشْرٍ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِنْ بَلَغَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ[عَلَيْهِ] ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فِي الصِّغَرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ؛ وَلِأَنَّ أَيَّامَ الصِّغَرِ تَطُولُ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مَا يَفُوتُ شَقَّ".
الشرح
: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ سُنَنِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا فِي الْحُدُودِ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَمَعْنَى رَفْعِ الْقَلَمِ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ، لَا أَنَّهُ رُفِعَ بَعْدَ وَضْعِهِ. وَقَوْلُهُ - لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ - يُنْتَقَضُ بِالْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَالدَّلِيلُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: زَمَنُ الصَّبِيِّ لَيْسَ زَمَنَ التَّكْلِيفِ لِلْحَدِيثِ، وَالْقَضَاءُ إنَّمَا يَجِبُ حَيْثُ يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يَجِئْ فِيهِ أَمْرٌ جَدِيدٌ.
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَلَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَذَكَرْتُهُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَإِذَا أَطَاقَ الصَّوْمَ وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ لِسَبْعِ سِنِينَ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا، وَيَضْرِبَهُ عَلَى تَرْكِهِ لِعَشْرٍ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالصَّبِيَّةُ كَالصَّبِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ بِلَا خِلَافٍ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ أَرْبَعَةٌ: النَّقَاءُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَالْإِسْلَامُ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْوَقْتُ الْقَابِلُ لِلصَّوْمِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
:"وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ" فَإِنْ أَفَاقَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ[حَالَ]1 الْجُنُونِ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ فَاتَ فِي حَالٍ سَقَطَ فِيهِ التَّكْلِيفُ لِنَقْصٍ فَلَمْ يَجِبْ[قَضَاؤُهُ]، كَمَا لَوْ فَاتَ فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْإِغْمَاءِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَإِنْ أَفَاقَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: من الآية184] وَالْإِغْمَاءُ مَرَضٌ وَيُخَالِفُ الْجُنُونَ فَإِنَّهُ نَقْصٌ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْجُنُونُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْإِغْمَاءُ".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا. وَقَوْلُهُ: "سَقَطَ فِيهِ التَّكْلِيفُ لِنَقْصٍ" احْتِرَازٌ مِنْ الْإِغْمَاءِ وَالْحَيْضِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحداهما: الْمَجْنُونُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فِي الْحَالِ بِالْإِجْمَاعِ لِلْحَدِيثِ وَلِلْإِجْمَاعِ، وَإِذَا أَفَاقَ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي الْجُنُونِ، سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَسَوَاءٌ أَفَاقَ بَعْدَ رَمَضَانَ أَوْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كل ما بين المعقوفين ليس في ش  و ق (ط).

 

ج / 6 ص -166-       فِي أَثْنَائِهِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا مَذْهَبٌ لِابْنِ سُرَيْجٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ، وَإِنْ أَفَاقَ بَعْدَهُ فَلَا قَضَاءَ.
 قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: وَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيّ فِي الْمَنْثُورِ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحِكَايَةِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ فِيمَنْ أَفَاقَ بَعْدَ الشَّهْرِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ (الْمَذْهَبُ) أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ والثاني: يَجِبُ إنْ أَفَاقَ فِي الشَّهْرِ لَا بَعْدَهُ، وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ فِي الْكِتَابِ، وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. وَقَالَ: وَهَذَا فِي الْجُنُونِ الْمُنْفَرِدِ، فَلَوْ ارْتَدَّ ثُمَّ جُنَّ أَوْ سَكِرَ ثُمَّ جُنَّ فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَجْهَانِ، قَالَ: وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ الْفَرْقُ بَيْنَ اتِّصَالِهِ بِالرِّدَّةِ وَاتِّصَالِهِ بِالسُّكْرِ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ هُوَ الْأَصَحُّ فَيَجِبُ فِي الْمُرْتَدِّ قَضَاءُ الْجَمِيعِ وَلَا يَجِبُ فِي السَّكْرَانِ إلَّا قَضَاءَ أَيَّامِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّدَّةِ مُسْتَمِرٌّ بِخِلَافِ السُّكْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فِي حَالِ الْإِغْمَاءِ بِلَا خِلَافٍ.
وَلَنَا قَوْلٌ مُخَرَّجٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ صَوْمُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ رَمَضَانَ أَوْ بَعْضَهُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَحَكَى الْأَصْحَابُ وَجْهًا عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْإِغْمَاءَ الْمُسْتَغْرِقَ لِجَمِيعِ رَمَضَانَ لَا قَضَاءَ فِيهِ كَالْجُنُونِ، وَكَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ، هَكَذَا نَقَلَ الْجُمْهُورُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَنَقَلَ الْبَغَوِيّ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا اسْتَغْرَقَ الْإِغْمَاءُ رَمَضَانَ أَوْ يَوْمًا مِنْهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْحَاوِي قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ هَذَا فِي أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ. وَفَرَّقَ الْأَصْحَابُ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ بِمَا فَرَّقَ الْمُصَنِّفُ، وَبَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَتَكَرَّرُ فَيَشُقُّ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ. وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِمَرَضٍ أَوْ بِشُرْبِ دَوَاءٍ شَرِبَهُ لِحَاجَةٍ أَوْ بِعُذْرٍ آخَرَ لَزِمَهُ قَضَاءُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الصَّوْمِ فِي زَمَنِ زَوَالِ عَقْلِهِ. وَأَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِمُحَرَّمِ كَخَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَيَكُونُ آثِمًا بِالتَّرْكِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ اُسْتُحِبَّ لَهُمَا إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ، وَالْكَافِرَ - وَإِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ - إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ جُعِلَ كَالْمَعْذُورِ فِيمَا فَعَلَ فِي حَالِ الْكُفْرِ، وَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ وَلَا بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
:{ قل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [لأنفال: من الآية38] وَلَا يَأْكُلُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ عُذْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَظَاهَرَ بِالْأَكْلِ عَرَّضَ نَفْسَهُ

 

ج / 6 ص -167-       لِلتُّهْمَةِ وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ[أَمْ لَا]؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الْفَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الصَّوْمِ إلَّا بِيَوْمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَهُ بِيَوْمٍ، كَمَا نَقُولُ فِي الْمُحْرِمِ، إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ نِصْفُ مُدٍّ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِقِسْطِهِ صَوْمُ نِصْفِ يَوْمٍ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُ ذَلِكَ إلَّا بِيَوْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ. والثاني: لَا يَجِبُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُ الصَّوْمُ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ يُدْرِكُهُ قَبْلَ التَّمَامِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرَ رَكْعَةٍ ثُمَّ جُنَّ. وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، نَظَرْت فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَهُوَ كَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يُسْتَحَبُّ لَهُ إتْمَامُهُ؛ لِأَنَّهُ صَوْمُ[نَفْلٍ]1 فَاسْتُحِبَّ، إتْمَامُهُ وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ[بِهِ] مِنْ أَوَّلِهِ فَوَجَبَ قَضَاؤُهُ. والثاني: يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ وَيُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ فَلَزِمَهُ إتْمَامُهُ كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ ثُمَّ نَذَرَ إتْمَامَهُ2".
الشَّرْحُ: قَوْلُهُ: وَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ وَلَا بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ، لَا يُطَالَبُ الْمُتْلِفُ الْحَرْبِيُّ وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيُطَالَبُ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعَ هَذَا تَحْصُلُ الدَّلَالَةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ فِي الْحَرْبِيِّ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ دَلِيلٌ لِلذِّمِّيِّ، أما أحكام الفصل: فَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَتَانِ: إحداهما: طَرِيقَةُ الْمُصَنِّفِ وَسَائِرِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ الْمَجْنُونَ إذَا أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ نَهَارِ رَمَضَانَ وَالْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ فِيهِ وَالصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ فِيهِ مُفْطِرًا اُسْتُحِبَّ لَهُمْ إمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ: الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَحَرْمَلَةَ لَا يَجِبُ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَجِبُ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَ الْجَمِيعِ، وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ صَائِمًا فِي أَثْنَائِهِ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إتْمَامُهُ وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا.
وَالثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّ فِي إمْسَاكِ الْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِيهِ مُفْطِرًا، فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أصحها يُسْتَحَبُّ والثاني: يَجِبُ والثالث: يَلْزَمُ الْكَافِرَ دُونَهُمَا لِتَقْصِيرِهِ وَالرَّابِعُ: يَلْزَمُ الْكَافِرَ وَالصَّبِيَّ لِتَقْصِيرِهِمَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ دُونَ الْمَجْنُونِ، قَالُوا: وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ وَالْمَجْنُونَ وَالصَّبِيَّ الْمُفْطِرَ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ والثاني: يَلْزَمُهُمْ قِيلَ: يَلْزَمُ الْكَافِرَ دُونَهُمَا، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَهُوَ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ صَائِمًا فَالْمَذْهَبُ لُزُومُ إتْمَامِهِ بِلَا قَضَاءٍ، وَقِيلَ: يُنْدَبُ إتْمَامُهُ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط).
2 في الطبقات الكبرى لتاج الدين بن السبكي ما نصه: وقال لاأبو الفضل بن عبدان في كتابه الموسوم بـ "المجموع المجرد" فيما إذا بلغ الصبي في أثناء نهار رمضان: سمعت أبا بكر بن لال يقول: سمعت علي بن أبي هريرة يقول: لا نقول عليه صوم اليوم ولكن عليه صوم بعض اليوم ولا يمكنه أن يصومه إلا بصوم يوم كامل فأوجبنا عليه يوما كاملا.

 

ج / 6 ص -168-       وَبَنَى جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ الْخِلَافَ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْإِمْسَاكِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْبِنَاءِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الصَّيْدَلَانِيِّ مَنْ أَوْجَبَ الْإِمْسَاكَ لَمْ يُوجِبْ الْقَضَاءَ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ لَمْ يُوجِبْ الْإِمْسَاكَ. والثاني: إنْ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ وَإِلَّا فَلَا. والثالث: إنْ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ صَائِمًا وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّهُ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ فَجَامَعَ فِيهِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ كَبَاقِي الْأَيَّامِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحَيْثُ لَا يَلْزَمُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ الْإِمْسَاكُ يُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَلَّا يَأْكُلُوا بِحُضُورِ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهُمْ. لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا، فَإِذَا طَهُرَتَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها[أَنَّهَا] قَالَتْ فِي الْحَيْضِ:"كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ" فَوَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْحَائِضِ بِالْخَبَرِ وَقِيسَ عَلَيْهَا النُّفَسَاءُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا، فَإِنْ طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ اُسْتُحِبَّ لَهَا أَنْ تُمْسِكَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ وَلَا يَجِبُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ".
الشرح:
حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُقْتَصَرًا عَلَى نَفْيِ الْأَمْرِ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهَا:"كُنَّا نُؤْمَرُ" مَعْنَاهُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِذَلِكَ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَمْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
وَقَوْلُه: طَهَرَتَا - بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا - وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَسَبَقَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ الْفَرْقُ بَيْنَ قَضَائِهَا لِلصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُمَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ حِكْمَتَهُ تَكَرُّرُ الصَّلَاةِ فَيَشُقُّ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ، وَأَنَّ أَبَا الزِّنَادِ وَإِمَامَ الْحَرَمَيْنِ خَالَفَا فِي الْحِكْمَةِ.
أما أحكام الفصل: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
 إحداها: لَا يَصِحُّ صَوْمُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَمْسَكَتْ لَا بِنِيَّةِ الصَّوْمِ لَمْ تَأْثَمْ، وَإِنَّمَا إذَا نَوَتْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَقِدُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَفِي بَابِ الْحَيْضِ دَلَائِلَ هَذَا كُلِّهِ مَعَ مَا ضَمَمْتُهُ هُنَاكَ إلَيْهِ.
الثانية: إذَا طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ يُسْتَحَبُّ لَهَا إمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ، وَلَا يَلْزَمُهَا؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، وَحَكَى صَاحِبُ الْعُدَّةِ فِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهَا خِلَافًا، كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ. وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وُجُوبَ الْإِمْسَاكِ.
الثالثة: وُجُوبُ قَضَاءِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، إنَّمَا هُوَ بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ، وَلَيْسَ هُوَ وَاجِبًا عَلَيْهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي فِي بَابِ الْحَيْضِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّوْمُ بِحَالٍ، وَيَتَأَخَّرُ الْفِعْلُ إلَى الْإِمْكَانِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَأَنْكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ اقْتِرَانُ الْإِمْكَانِ بِهِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -169-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ بِحَالٍ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ، وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّوْمُ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: من الآية78] وَفِي الْفِدْيَةِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُمَا فَرْضُ الصَّوْمِ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. والثاني: يَجِبُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ["الشَّيْخُ الْكَبِيرُ يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ]1 "مَنْ أَدْرَكَهُ الْكِبَرُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ صِيَامَ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ قَمْحٍ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما:" إذَا ضَعُفْتَ عَنْ الصَّوْمِ أَطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا" وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه" ضَعُفَ عَنْ الصَّوْمِ عَامًا قَبْلَ وَفَاتِهِ فَأَفْطَرَ وَأَطْعَمَ" وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّوْمِ لِمَرَضٍ يَخَافُ زِيَادَتَهُ وَيَرْجُو الْبُرْءَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ لِلْآيَةِ، فَإِذَا بَرِئَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: من الآية184] وَإِنْ أَصْبَحَ صَائِمًا وَهُوَ صَحِيحٌ، ثُمَّ مَرِضَ أَفْطَرَ، لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِلضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ مَوْجُودَةٌ فَجَازَ لَهُ الْفِطْرُ".
الشرح:
الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَالْأَثَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْأَثَرُ عَنْ أَنَسٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَوْلُهُ: يُجْهِدُهُ هُوَ - بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ وَيُقَالُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ - قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: يُقَالُ: جَهَدَ وَأَجْهَدَ إذَا حَمَّلَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَجَهَدَهُ أَفْصَحُ وَقَوْلُهُ: "بَرَّأ"َ، هَذَا هُوَ الْفَصِيحُ، وَيُقَالُ بَرِئَ وَبُرُوءٌ، وَقَدْ سَبَقَ مَبْسُوطًا فِي بَابِ التَّيَمُّمِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ أَيْ يَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لَا صَوْمَ عَلَيْهِمَا بِلَا خِلَافٍ، وَسَيَأْتِي نَقْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ فِيهِ، وَيَلْزَمُهُمَا الْفِدْيَةُ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ.
والثاني: لَا يَلْزَمُهُمَا، وَالْفِدْيَةُ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ صَحِيحِ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَعَامَّةِ كُتُبِهِ. وَنَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ وَحَرْمَلَةَ مِنْ الْجَدِيدِ أَنْ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ الصَّوْمَ فَصَامَ فَلَا فِدْيَةَ، وَالْعَجُوزُ كَالشَّيْخِ فِي جَمِيعِ هَذَا، وَهُوَ إجْمَاعٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 الثانية: الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنْ الصَّوْمِ لِمَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فِي الْحَالِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا إذَا لَحِقَهُ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ بِالصَّوْمِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى حَالَةٍ لَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق ، فقد جاء حديث أبي هريرة منسوبا لابن عباس وحذف حديث ابن عباس. وهذا خلل كبير وقد تداركناه ولله الحمد والمنة (ط).

 

ج / 6 ص -170-       يُمْكِنُهُ فِيهَا الصَّوْمُ، بَلْ قَالَ أَصْحَابُنَا: شَرْطُ إبَاحَةِ الْفِطْرِ أَنْ يَلْحَقَهُ بِالصَّوْمِ مَشَقَّةٌ يُشَقُّ احْتِمَالُهَا، قَالُوا: وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ. 
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَمَّا الْمَرَضُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يَلْحَقُ بِهِ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِأَهْلِ الظَّاهِرِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: ثُمَّ الْمَرَضُ الْمُجَوِّزُ لِلْفِطْرِ إنْ كَانَ مُطِيقًا فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ يَحُمُّ وَيَنْقَطِعُ، وَوَقْتُ الْحُمَّى لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حُمَّى يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مَحْمُومًا وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ إنْ عَادَ الْمَرَضُ وَاحْتَاجَ إلَى الْفِطْرِ أَفْطَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثالثة: إذَا أَصْبَحَ الصَّحِيحُ صَائِمًا ثُمَّ مَرِضَ، جَازَ لَهُ الْفِطْرُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: مَنْ غَلَبَهُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ فَخَافَ الْهَلَاكَ لَزِمَهُ الْفِطْرُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا؛ لقوله تعالى:
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: من الآية29] وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: من الآية195] وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَالْمَرِيضِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ نَذَرَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْعَاجِزُ، أَوْ الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَفِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ أصحهما: لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ وَبَنَى الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَنَقَلُوهُمَا فِي أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَى الشَّيْخِ الْعَاجِزِ الْخِطَابُ بِالصَّوْمِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْفِدْيَةِ لِلْعَجْزِ؟ أَمْ يُخَاطَبُ ابْتِدَاءً بِالْفِدْيَةِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُخَاطَبُ بِالْفِدْيَةِ ابْتِدَاءً، فَلَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ.
فرع: إذَا أَوْجَبْنَا الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ وَالْمَرِيضِ الْمَيْئُوسِ مِنْ بُرْئِهِ، وَكَانَ مُعْسِرًا، هَلْ يَلْزَمُهُ إذَا أَيْسَرَ؟ أَمْ يَسْقُطُ عَنْهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ كَالْكَفَّارَةِ (وَالْأَصَحُّ) فِي الْكَفَّارَةِ بَقَاؤُهَا فِي ذِمَّتِهِ إلَى الْيَسَارِ، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ جِنَايَتِهِ، فَهِيَ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ هُنَا أَنَّهَا تَسْقُطُ، وَلَا يَلْزَمُهُ إذَا أَيْسَرَ، كَالْفُطْرَةِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ حَالَ التَّكْلِيفِ بِالْفِدْيَةِ وَلَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ جِنَايَةٍ وَنَحْوِهَا، وَقَطَعَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ إذَا أَيْسَرَ بَعْدَ الْإِفْطَارِ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، فَإِنْ لَمْ يَفْدِ حَتَّى مَاتَ لَزِمَهُ إخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، قَالَ: لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي حَقِّهِ كَالْقَضَاءِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ لَوْ مَاتَا قَبْلَ تَمَكُّنِهِمَا مِنْ الْقَضَاءِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَإِنْ زَالَ عُذْرُهُمَا وَقَدَرَا عَلَى الْقَضَاءِ لَزِمَهُمَا، فَإِنْ مَاتَا قَبْلَهُ وَجَبَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُمَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدَّ طَعَامٍ، فَكَذَا هُنَا، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي.
فرع: إذَا أَفْطَرَ الشَّيْخُ الْعَاجِزُ، وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّوْمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالصَّوْمِ. بَلْ بِالْفِدْيَةِ. بِخِلَافِ الْمَعْضُوبِ إذَا أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ قَدَرَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَاطَبًا بِهِ. ثُمَّ اخْتَارَ الْبَغَوِيّ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ قَبْلَ أَنْ يَفْدِيَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَإِنْ قَدَرَ بَعْدَ الْفِدْيَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَاطَبًا بِالْفِدْيَةِ عَلَى تَوَهُّمِ دَوَامِ عُذْرِهِ. وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -171-       فرع فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الشَّيْخِ الْعَاجِزِ عَنْ الصَّوْمِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا صَوْمَ عَلَيْهِ. وَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهِيَ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ. سَوَاءٌ فِي الطَّعَامِ الْبُرُّ وَالتَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَقْوَاتِ الْبَلَدِ. هَذَا إذَا كَانَ يَنَالُهُ بِالصَّوْمِ مَشَقَّةٌ لَا تُحْتَمَلُ. وَلَا يُشْتَرَطُ خَوْفُ الْهَلَاكِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَأَنَّهَا مُدٌّ، طَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ لِكُلِّ يَوْمٍ صَاعُ تَمْرٍ، أَوْ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مُدُّ حِنْطَةٍ أَوْ مُدَّانِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا فِدْيَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ الْعَاجِزَيْنِ الْفِطْرَ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّيْخِ الْعَاجِزِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ تَعْجِيلُ الْفِدْيَةِ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ، وَيَجُوزُ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ كُلِّ يَوْمٍ، وَهَلْ يَجُوزُ قَبْلَ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ؟ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ: فِيهِ احْتِمَالَانِ لِوَالِدِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَدَلِيلُهُ الْقِيَاسُ عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَأَمَّا الْمُسَافِرُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ سَفَرُهُ دُونَ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ1 لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ فَرْضٍ لِلسَّفَرِ، فَلَا يَجُوزُ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ كَالْقَصْرِ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ وَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها"أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ. لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِلصَّائِمِ فِي السَّفَرِ:" إنْ أَفْطَرْتَ فَرُخْصَةٌ وَإِنْ صُمْتَ فَهُوَ أَفْضَلُ" وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ:" الصَّوْمُ أَحَبُّ إلَيَّ"؛ وَلِأَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ عَرَّضَ الصَّوْمَ لِلنِّسْيَانِ وَحَوَادِثِ الزَّمَانِ، فَكَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ، وَإِنْ كَانَ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُفْطِرَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ:"مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [فِي سَفَرٍ]2 بِرَجُلٍ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ". فَإِنْ صَامَ الْمُسَافِرُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ قَائِمٌ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ كَمَا لَوْ صَامَ الْمَرِيضُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةِ الْإِتْمَامِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْصُرَ. وَمَنْ أَصْبَحَ فِي الْحَضَرِ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَهُ أَنْ يُفْطِرَ كَمَا لَوْ أَصْبَحَ الصَّحِيحُ3 صَائِمًا، ثُمَّ مَرِضَ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَإِذَا بَدَأَ بِهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ رُخْصَةُ السَّفَرِ كَمَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الباء والراء.
2 سقط في النسخة المطبوعة من "المهذب" (في سفر) (ط).
3 في النسخة المطبوعة " كما لو أصبح الصبح صائما (ط).

 

ج / 6 ص -172-       لَوْ دَخَلَ الصَّلَاةَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهَا وَيُخَالِفُ الْمَرِيضَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُضْطَرٌّ إلَى الْإِفْطَارِ وَالْمُسَافِرَ مُخْتَارٌ".
الشرح:
حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.  وَحَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا، وَالْأَثَرَانِ عَنْ أَنَسٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ، وَعُثْمَانُ هَذَا صَحَابِيٌّ ثَقَفِيٌّ رضي الله عنه.
وَقَوْلُهُ: "أَرْبَعَةِ بُرُدٍ" بِضَمِّ الْبَاءِ وَالرَّاءِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ، وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ مَبْسُوطًا فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَقَوْلُهُ: "إسْقَاطُ فَرْضٍ لِلسَّفَرِ" احْتِرَازٌ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ لَا فَرْضٌ. وَقَوْلُهُ: "لِلسَّفَرِ" احْتِرَازٌ عَمَّنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ فَصَلَّى قَاعِدًا. قَوْلُهُ: "يُجْهِدُهُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا - وَسَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
 إحداها: لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ بِلَا خِلَافٍ وَلَا فِي سَفَرٍ آخَرَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَانِ فِي بَابِ مَسْحِ الْخُفِّ وَفِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَلَيْسَ مَعْصِيَةً فَلَهُ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لَهُ الصَّوْمُ وَلَهُ الْفِطْرُ. وَأَمَّا أَفْضَلُهُمَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ، وذكر اُسْتُعْمِلَتْ قَوْلًا شَاذًّا ضَعِيفًا مُخَرَّجًا مِنْ الْقَصْرِ: إنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْقَصْرِ تَحْصُلُ الرُّخْصَةُ مَعَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَهُنَا إذَا أَفْطَرَ تَبْقَى الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً؛ وَلِأَنَّ فِي الْقَصْرِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، وَلَيْسَ هُنَا خِلَافٌ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إيجَابِ الْفِطْرِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ لَمْ يَتَضَرَّرْ فِي الْحَالِ بِالصَّوْمِ، لَكِنْ يَخَافُ الضَّعْفَ مِنْهُ وَكَانَ سَفَرُ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ.
الثانية: إذَا أَفْطَرَ الْمُسَافِرُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَا فِدْيَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: من الآية184] مَعْنَاهُ وَأَرَادَ الْفِطْرَ فَلَهُ الْفِطْرُ وَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
الثالثة: لَوْ أَصْبَحَ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ صَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ فِي نَهَارِهِ فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْمُصَنِّفِ وَلِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَجْهًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُ، وَفَرَّقَ صَاحِبُ الْحَاوِي بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ بِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ تَامَّةً الْتَزَمَ الْإِتْمَامَ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِئَلَّا يَذْهَبَ مَا الْتَزَمَهُ لَا إلَى بَدَلٍ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا صَامَ ثُمَّ أَفْطَرَ فَلَا يَتْرُكُ الصَّوْمَ لَا إلَى بَدَلٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ، فَجَازَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ دَوَامِ عُذْرِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالنَّصِّ وَقَوْلِ الْأَصْحَابِ: إنَّ لَهُ الْفِطْرَ فَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ أصحهما: لَا كَرَاهَةَ؛ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ.
الرابعة: إذَا سَافَرَ الْمُقِيمُ فَهَلْ لَهُ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ لَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبْدَأَ السَّفَرَ بِاللَّيْلِ وَيُفَارِقُ عُمْرَانَ الْبَلَدِ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَهُ الْفِطْرُ بِلَا خِلَافٍ.
الثاني: أَنْ لَا يُفَارِقَ الْعُمْرَانَ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَعْرُوفُ مِنْ نُصُوصِهِ، وَبِهِ قَالَ

 

ج / 6 ص -173-       مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَهُ الْفِطْرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ غَيْرِ الْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَيْضًا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَامَعَ فِيهِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ فِيهِ صَوْمًا لَا يَجُوزُ فِطْرُهُ، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ. قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: وَقِيلَ: إنَّ الْمُزَنِيَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْمَنْقُولِ عَنْهُ. وَقَالَ: اضْرِبُوا عَلَى قَوْلِي، قَالَ: وَكَانَ احْتَجَّ بِأَنَّ"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ الْمَدِينَةِ صَائِمًا حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ أَفْطَرَ فَظُنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي نَهَارِهِ". وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَكُرَاعُ الْغَمِيمِ1 عِنْدَ عُسْفَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنِ الْمَدِينَةِ نَحْوُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ، فَلَمْ يُفْطِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ خُرُوجِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثالث: أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ فِي اللَّيْلِ ثُمَّ يُسَافِرُ وَلَا يَعْلَمُ هَلْ سَافَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ لَهُ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهُ يَشُكُّ فِي مُبِيحِ الْفِطْرِ وَلَا يُبَاحُ بِالشَّكِّ. الرَّابِعُ: أَنْ يُسَافِرَ مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَكُنْ نَوَى الصِّيَامَ فَهَذَا لَيْسَ بِصَائِمٍ لِإِخْلَالِهِ بِالنِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَيَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ هَذَا الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ قَدْ ثَبَتَتْ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ حَاضِرٌ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيَجِيءُ فِيهِ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ، وَالْوَجْهُ الْمُوَافِقُ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَهُوَ مُفْطِرٌ، أَوْ بَرَأَ الْمَرِيضُ وَهُوَ مُفْطِرٌ، اُسْتُحِبَّ لَهُمَا إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا أَفْطَرَا بِعُذْرٍ، وَلَا يَأْكُلَانِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ عُذْرُهُمَا؛ لِخَوْفِ التُّهْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَإِنْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَهُوَ صَائِمٌ أَوْ بَرَأَ الْمَرِيضُ وَهُوَ صَائِمٌ فَهَلْ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجُوزُ لَهُمَا الْإِفْطَارُ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمَا الْفِطْرُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَجَازَ لَهُمَا الْإِفْطَارُ فِي بَقِيَّةِ النَّهَارِ، كَمَا لَوْ دَامَ السَّفَرُ وَالْمَرَضُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجُوزُ لَهُمَا الْإِفْطَارُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ قَبْلَ التَّرَخُّصِ فَلَمْ يَجُزْ التَّرَخُّصُ، كَمَا لَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ".
الشرح:
فِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: [إذَا] قَدِمَ الْمُسَافِرُ أَوْ بَرَأَ الْمَرِيضُ وَهُمَا مُفْطِرَانِ يُسْتَحَبُّ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ وَلَا يَجِبُ عِنْدَنَا، وَأَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. دَلِيلُنَا أَنَّهُمَا أَفْطَرَا بِعُذْرٍ. الثانية: يُسْتَحَبُّ إذَا أَكَلَا أَنْ لَا يَأْكُلَا عِنْدَ مَنْ يَجْهَلُ عُذْرَهُمَا لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ. الثالثة: إذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَهُوَ صَائِمٌ هَلْ لَهُ الْفِطْرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أحدهما: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي حَرْمَلَةَ. وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَجُمْهُورِ الْأَصْحَابِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ بِحَيْثُ تَنْقَطِعُ رُخَصُهُ وَلَوْ بَرَأَ الْمَرِيضُ وَهُوَ صَائِمٌ فَطَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَشَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ، فِيهِ الْوَجْهَانِ كَالْمُسَافِرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كراع الغميم بينه وبين مكة نحو عشرة أميال (ط).

 

ج / 6 ص -174-       َأَصَحُّهُمَا: يَحْرُمُ الْفِطْرُ والثاني: يَجُوزُ وَالطَّرِيقُ الثاني: وَبِهِ قَطَعَ الْفُورَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ يَحْرُمُ الْفِطْرُ وَجْهًا وَاحِدًا.
الرابعة: لَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَلَمْ يَكُنْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ صَوْمًا وَلَا أَكَلَ فِي نَهَارِهِ قَبْلَ قُدُومِهِ فَطَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَالدَّارِمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ. وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ: لَهُ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّهُ مُفْطِرٌ لِعَدَمِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ، فَجَازَ لَهُ الْأَكْلُ كَالْمُفْطِرِ بِالْأَكْلِ. والثاني: حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ وَجْهَانِ (الصَّحِيحُ) لَا يَلْزَمُهُ والثاني: يَلْزَمُهُ حُرْمَةٌ لِلْيَوْمِ.
فرع: لَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ وَلَا لِلْمَرِيضِ أَنْ يَصُومَا فِي رَمَضَانَ غَيْرَهُ مِنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ صَامَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ لَا عَنْ رَمَضَانَ وَلَا عَمَّا نَوَى وَلَا غَيْرِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَرِيضِ كَقَوْلِنَا، وَقَالَ فِي الْمُسَافِرِ: يَصِحُّ مَا نَوَى. دَلِيلُنَا الْقِيَاسُ عَلَى الْمَرِيضِ.
فرع: إذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ فِي أَثْنَاءِ نَهَارِ[رَمَضَانَ] وَهُوَ مُفْطِرٌ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ بَرَأَتْ مِنْ مَرَضٍ وَهِيَ مُفْطِرَةٌ فَلَهُ وَطْؤُهَا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا. دَلِيلُنَا أَنَّهُمَا مُفْطِرَانِ فَأَشْبَهَ الْمُسَافِرَيْنِ وَالْمَرِيضَيْنِ.
فرع: إذَا دَخَلَ عَلَى الْإِنْسَانِ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ مُقِيمٌ جَازَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ وَيُفْطِرَ هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا مَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي مَخْلَدٍ التَّابِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ، فَإِنْ سَافَرَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَحَرُمَ الْفِطْرُ وَعَنْ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيِّ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ - بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ - التَّابِعَيْنِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ وَلَا يَمْتَنِعُ السَّفَرُ؛ لقوله تعالى
"فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" دَلِيلُنَا قوله تعالى"فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" وَفِي الصَّحِيحَيْنِ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ مُسَافِرًا وَأَفْطَرَ" وَالْآيَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ شَهِدَ كُلَّ الشَّهْرِ فِي الْبَلَدِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ، فَإِنْ شَهِدَ بَعْضَهُ لَزِمَ صَوْمُ مَا شَهِدَ مِنْهُ فِي الْبَلَدِ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي السَّفَرِ الْمُجَوِّزِ لِلْفِطْرِ
 ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ، وَهَذِهِ الْمَرَاحِلُ مَرْحَلَتَانِ قَاصِدَتَانِ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ إلَّا فِي سَفَرٍ يَبْلُغُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا قَالَ فِي الْقَصْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ كُلُّ سَفَرٍ وَإِنْ قَصَرَ، وَسَبَقَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ بِأَدِلَّتِهَا فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي جَوَازِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ
 مَذْهَبُنَا جَوَازُهُمَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَتْ الشِّيعَةُ: لَا يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ

 

ج / 6 ص -175-       دَاوُد الظَّاهِرِيِّ فَقَالَ: بَعْضُهُمْ يَصِحُّ صَوْمُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:" كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَكْرَهَانِ صَوْمَ الْمُسَافِرِ" قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ:" إنْ صَامَ قَضَاهُ" قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" لَا يُجْزِئُهُ الصِّيَامُ" وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ:" الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ" وَحَكَى أَصْحَابُنَا بُطْلَانَ صَوْمِ الْمُسَافِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةِ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ. فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ" وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا"أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: قَالَ"كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ أَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الْكِسَاءِ، فَمِنَّا مَنْ يَقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ، فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ وَسَقَوْا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ1 كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه"أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ:"خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، مَا فِينَا مِنْ صَائِمٍ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:"كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرٍ رضي الله عنهما قَالَا:"سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَصُومُ الصَّائِمُ وَيُفْطِرُ الْمُفْطِرُ، وَلَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ:"كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَا يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الراء وفتح الخاء وضم الصاد.

 

ج / 6 ص -176-       أَيْضًا قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:"سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ، فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:"خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصُمْتُ وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي أَفْطَرْتُ وَصُمْتُ، وَقَصَرْتُ وَأَتْمَمْتُ فَقَالَ:
أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: إسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْمُخَالِفُونَ، فَمَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ يَتَضَرَّرُ بِالصَّوْمِ، وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيُجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
وأما: الْمَنْقُولُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه" الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ" فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ مَوْقُوفٌ مُنْقَطِعٌ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ بِلَا ضَرَرٍ، هَلْ الْأَفْضَلُ صَوْمُهُ رَمَضَانَ؟ أَمْ فِطْرُهُ؟ قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَنَا أَنَّ صَوْمَهُ أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنهم، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَآخَرُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيُّ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَتَادَةُ: الْأَفْضَلُ مِنْهُمَا هُوَ الْأَيْسَرُ وَالْأَسْهَلُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ. 
وَاحْتَجَّ لِمَنْ رَجَّحَ الْفِطْرُ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ" وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّائِمِينَ:"أُولَئِكَ الْعُصَاةُ" وَحَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْكَدِيدِ" وَهُوَ - بِفَتْحِ الْكَافِ - ثُمَّ أَفْطَرَ قَالَ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتْبَعُونَ الْأَحْدَثَ فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو السَّابِقُ"هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ".
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ السَّابِقِ فِي صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ"كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ" إلَى آخِرِهِ، وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ هُمَا الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ (قَصَرْتُ وَأَتْمَمْتُ) فِي صِيَامِ النَّبِيِّ إلَى آخِرِهِ، وأما: الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ - بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ كَانَ فِي سَفَرٍ عَلَى حُمُولَةٍ يَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ حَيْثُ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ" فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ

 

ج / 6 ص -177-       وَضَعَّفَهُ، وَنُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ تَضْعِيفُهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَكَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"إنْ أَفْطَرْتُ فَهُوَ رُخْصَةٌ وَإِنْ صُمْتُ فَهُوَ أَفْضَلُ" حَدِيثٌ مُنْكَرٌ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَسٍ.
وَالْجَوَابُ: عَنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِفَضْلِ الْفِطْرِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ يَتَضَرَّرُ بِالصَّوْمِ، وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ كَمَا سَبَقَ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيُجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ خَافَتْ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَفْطَرَتَا لِلْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ كَالْمَرِيضِ، وَإِنْ خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ، وَفِي الْكَفَّارَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ1.
قَالَ: فِي الْأُمِّ: يَجِبُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ الطَّعَامِ وَهُوَ الصَّحِيحِ؛ لقوله تعالى:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: من الآية184] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَبَقِيَتْ [الرُّخْصَةُ] لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إنْ خَافَتَا [عَلَى وَلَدَيْهِمَا] أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. والثاني: أَنَّ الْكَفَّارَةَ مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ كَإِفْطَارِ الْمَرِيضِ. والثالث: يَجِبُ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ أَفْطَرَتْ لِمَعْنًى فِيهَا فَهِيَ كَالْمَرِيضِ، وَالْمُرْضِعَ أَفْطَرَتْ لِمُنْفَصِلٍ عَنْهَا فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ".
الشرح: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إنْ خَافَتَا مِنْ الصَّوْمِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا كَالْمَرِيضِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَوَلَدَيْهِمَا فَكَذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَإِنْ خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا لَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الْفِدْيَةِ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ أصحها بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ وُجُوبُهَا كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ وَغَيْرِهِمَا.
قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَنَقَلَهُ الرَّبِيعُ وَالْمُزَنِيُّ، قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: وَنَصَّ فِي الْبُوَيْطِيِّ عَلَى وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَ الْحَامِلِ فَحَصَلَ فِي الْحَمْلِ قَوْلَانِ وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَجَعَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَآخَرُونَ هَذَا الثَّالِثَ مَخْرَجًا مِنْ نَصِّ الْبُوَيْطِيِّ فِي الْحَامِلِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الثَّالِثَ، وَكَذَا قَالَهُ غَيْرُهُ، وَاقْتَصَرَ الْبَغَوِيّ وَالْجُرْجَانِيُّ وَخَلْقٌ مِنْ الْأَصْحَابِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْحَامِلِ وَقَطَعُوا بِالْوُجُوبِ عَلَى الْمُرْضِعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخة المطبوعة من المهذب ثلاثة أقوال ، وما بين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).

 

ج / 6 ص -178-       فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْفِدْيَةَ فَهَلْ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَوْلَادِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ: لَا. والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.
فرع: إذَا أَوْجَبْنَا الْفِدْيَةَ عَلَى الْمُرْضِعِ إذَا أَفْطَرَتْ لِلْخَوْفِ عَلَى وَلَدِهَا، فَلَوْ اُسْتُؤْجِرَتْ لِإِرْضَاعِ وَلَدِ غَيْرِهَا فَالصَّحِيحُ: بَلْ الصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ، وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا الْإِفْطَارُ وَتَفْدِي، كَمَا فِي وَلَدِهَا بَلْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِفْطَارُ إنْ تَضَرَّرَ الرَّضِيعُ بِالصَّوْمِ وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى السَّفَرِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِي جَوَازِ الْإِفْطَارِ بِهِ مَنْ سَافَرَ لِغَرَضِ نَفْسِهِ وَغَرَضِ غَيْرِهِ بِأُجْرَةٍ وَغَيْرُهَا، وَشَذَّ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ فَقَالَ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ وَلَا خِيَارَ لِأَهْلِ الصَّبِيِّ وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: وَعَلَى مَنْ تَجِبُ فِدْيَةُ فِطْرِهَا فِي هَذَا الْحَالِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ: هَلْ هِيَ عَلَيْهَا أَمْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؟ كَمَا لَوْ اُسْتُؤْجِرَ لِلتَّمَتُّعِ فَهَلْ يَجِبُ دَمُهُ عَلَى الْأَجِيرِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، كَذَا قَالَ الْقَاضِي، وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ وُجُوبُهَا عَلَى الْمُرْضِعِ بِخِلَافِ دَمِ التَّمَتُّعِ فَإِنَّ الْأَصَحَّ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَهُنَا الْفِطْرُ مِنْ تَتِمَّةِ إيصَالِ الْمَنَافِعِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمُرْضِعِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نِسْوَةٌ مَرَاضِعُ فَأَرَادَتْ وَاحِدَةٌ أَنْ تَأْخُذَ صَبِيًّا تُرْضِعُهُ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، جَازَ لَهَا الْفِطْرُ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهَا.
فرع: لَوْ كَانَتْ الْمُرْضِعُ أَوْ الْحَامِلُ مُسَافِرَةً أَوْ مَرِيضَةً فَأَفْطَرَتْ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ بِالْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ تَقْصِدْ التَّرَخُّصَ وَأَفْطَرَتْ لِلْخَوْفِ عَلَى الْوَلَدِ لَا عَلَى نَفْسِهَا، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي فِطْرِ الْمُسَافِرِ بِالْجِمَاعِ لَا بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، وَالْأَصَحُّ فِي جِمَاعِ الْمُسَافِرِ الْمَذْكُورِ لَا كَفَّارَةَ، كَمَا سَنُوضِحُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا فَأَفْطَرَتَا
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُمَا إنْ خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا لَا غَيْرَ، أَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَوَلَدِهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ أَفْطَرَتَا لِلْخَوْفِ عَلَى الْوَلَدِ أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُفْطِرَانِ وَيُطْعِمَانِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُفْطِرَانِ وَيَقْضِيَانِ، وَلَا فِدْيَةَ كَالْمَرِيضِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُفْطِرَانِ وَيَقْضِيَانِ وَيَفْدِيَانِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: الْحَامِلُ تُفْطِرُ وَتَقْضِي وَلَا فِدْيَةَ وَالْمُرْضِعُ تُفْطِرُ وَتَقْضِي وَتَفْدِي وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِقَوْلِ عَطَاءٍ أَقُولُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ إلَّا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثُمَّ يَصُومُوا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

 

ج / 6 ص -179-       قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ هَكَذَا النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ"إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّهُ لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ" وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ"لَا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَابَةٌ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا" قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (الْغَيَابَةُ) السَّحَابَةُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ"فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" وَفِي رِوَايَةٍ"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةٍ"فَإِنْ غَبِيَ1 عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ" وَفِي رِوَايَةٍ"فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" هَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ"فَإِنْ غَبِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ فَإِذَا غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"لَا تَصُومُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
:"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ: مَعْنَاهُ ضَيِّقُوا لَهُ وَقَدِّرُوهُ تَحْتَ السَّحَابِ، وَأَوْجَبَ هَؤُلَاءِ صِيَامَ لَيْلَةِ الْغَيْمِ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَآخَرُونَ: مَعْنَاهُ قَدِّرُوهُ بِحِسَابِ الْمَنَازِلِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: مَعْنَاهُ قَدِّرُوا لَهُ تَمَامَ الْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ قَدَرْتُ الشَّيْءَ - بِتَخْفِيفِ الدَّالِ - أَقْدِرُهُ وَأَقْدُرهُ بِضَمِّهَا وَكَسْرِهَا وَقَدَّرْتُهُ بِتَشْدِيدِهَا، وَأَقْدَرْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ مِنْ التَّقْدِيرِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23].
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ، وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِرِوَايَةِ فَاقْدُرُوا لَهُ الْمُطْلَقَةِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: وَمَنْ قَالَ بِتَقْدِيرِ تَحْتَ السَّحَابِ فَهُوَ مُنَابِذٌ لِصَرِيحِ بَاقِي الرِّوَايَاتِ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ، وَمَنْ قَالَ بِحِسَابِ الْمَنَازِلِ فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ"إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا" الْحَدِيثَ قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّاسَ لَوْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح  الغين وكسر الباء وفتح الياء.

 

ج / 6 ص -180-       كُلِّفُوا بِذَلِكَ ضَاقَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْحِسَابَ إلَّا أَفْرَادٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْبُلْدَانِ الْكِبَارِ، فَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَمَا سِوَاهُ فَاسِدٌ مَرْدُودٌ بِصَرَائِحِ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ" مَعْنَاهُ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ غَيْمٌ، يُقَالُ: غُمَّ وَغُمِّيَ وَغُمِيَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِهَا وَالْغَيْنُ مَضْمُومَةٌ فِيهِمَا، وَيُقَالُ: غَبِيَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، وَقَدْ غَامَتْ السَّمَاءُ وَغَيَّمَتْ وَأَغَامَتْ وَتَغَيَّمَتْ وَأَغَمَّتْ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ" الْمُرَادُ رُؤْيَةُ بَعْضِكُمْ، وَهَلْ هُوَ عَدْلٌ أَمْ عَدْلَانِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَلَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ إلَّا بِدُخُولِهِ، وَيُعْلَمُ دُخُولُهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ غُمَّ وَجَبَ اسْتِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ يَصُومُونَ، سَوَاءٌ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً غَيْمًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ، رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ" مَعْنَاهُ لَا يَنْقُصُ أَجْرُهُمَا وَالثَّوَابُ الْمُرَتِّبُ وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُهُمَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَنْقُصَانِ مَعًا غَالِبًا مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: لَا يَنْقُصُ ثَوَابُ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ ثَوَابِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْمَنَاسِكَ وَالْعَشْرَ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ بَاطِلٌ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ غَيْرُهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ" وَنَظَائِرُ ذَلِكَ، فَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ تَحْصُلُ، سَوَاءٌ تَمَّ عَدَدُ رَمَضَانَ أَمْ نَقَصَ. قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ لِتَعَلُّقِ الْعِبَادَةِ بِهِمَا وَهِيَ الصَّوْمُ وَالْحَجُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ أَصْبَحُوا يَوْمَ الثَّلَاثِينَ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَتْ الْبَيِّنَةُ: إنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ[لَزِمَهُ] قَضَاءُ صَوْمِهِ، لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَهَلْ يَلْزَمُهُمْ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا يَلْزَمُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَفْطَرُوا بِعُذْرٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ كَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَالْمُسَافِرِ إذَا أَقَامَ1. والثاني: يَلْزَمُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمْ الْفِطْرُ بِشَرْطٍ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ. وَقَدْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَزِمَهُمْ الْإِمْسَاكُ، وَإِنْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالنَّهَارِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِمَا رَوَى شَقِيقُ بْنُ2 سَلَمَةَ قَالَ:" أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ رضي الله عنه وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ" وَإِنْ رَأَوْا الْهِلَالَ فِي بَلَدٍ وَلَمْ يَرَوْهُ فِي آخَرَ فَإِنْ كَانَا بَلَدَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ - وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدَيْنِ الصَّوْمُ، وَإِنْ كَانَا مُتَبَاعِدَيْنِ وَجَبَ عَلَى مَنْ رَأَى وَلَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ لَمْ يَرَ؛ لِمَا رَوَى كُرَيْبٌ قَالَ:"قَدِمْتُ الشَّامَ فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ: إذا قدم (ط).
2 في النسخة المطبوعة من "المهذب" :سفيان بن سلمة وهو خطأ ، والصواب شقيق وهو الأسدي أبو وائل الكوفي أحد سادة التايعين مخضرم عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وطائفة (ط).

 

ج / 6 ص -181-       مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ الْعِدَّةَ أَوْ نَرَاهُ، قُلْتُ: أَوْ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ؟ قَالَ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
الشرح: حَدِيثُ كُرَيْبٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ شَقِيقٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِ الصِّيَامِ ثَانِيهِمَا أَوَاخِرُ الْكِتَابِ فِي شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ، وَقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: هَذَا أَثَرٌ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، وَقَوْلُهُ (بِخَانِقِينَ) هُوَ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَنُونٍ ثُمَّ قَافٍ مَكْسُورَتَيْنِ وَهِيَ بَلْدَةٌ بِالْعِرَاقِ قَرِيبَةٌ مِنْ بَغْدَادَ، وَكُرَيْبٌ هَذَا هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِلُ إحداها: إذَا ثَبَتَ كَوْنُ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَأَصْبَحُوا مُفْطِرِينَ، فَثَبَتَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ بِلَا خِلَافٍ وَفِي إمْسَاكِ بَقِيَّةِ النَّهَارِ طَرِيقَانِ أحدهما: فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: وُجُوبُهُ والثاني: لَا يَجِبُ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَقَلِيلُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ والثاني: يَجِبُ الْإِمْسَاكُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَذَا نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ الْحَاوِي وَالدَّارِمِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْبَغَوِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَالْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَكَلَ قَبْلَ ثُبُوتِ كَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ كَانَ أَكَلَ وَقُلْنَا: لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ قَبْلَ الْأَكْلِ فَهَهُنَا أَوْلَى وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أصحهما: يَجِبُ لِحُرْمَةِ الْيَوْمِ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْإِمْسَاكَ فَأَمْسَكَ، فَهَلْ هُوَ صَوْمٌ شَرْعِيٌّ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْحَاوِي وَالْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَآخَرُونَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَوْمٍ شَرْعِيٍّ. قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يُسَمَّى صَوْمًا شَرْعِيًّا، قَالَ: وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ هُوَ بِصَوْمٍ شَرْعِيٍّ وَإِنَّمَا هُوَ إمْسَاكٌ شَرْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ بِلَا خِلَافٍ، هَكَذَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ صَوْمٌ شَرْعِيٌّ أَمْ لَا. وَنَسَبُوا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ صَوْمٌ إلَى أَبِي إِسْحَاقَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ: فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ إمْسَاكٌ شَرْعِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ والثاني: لَا يُثَابُ عَلَيْهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي. وَقَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي إمْسَاكِهِ ثَوَابٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَوَابَ صَوْمٍ.
 قَالَ: وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَكَلَ ثُمَّ أَمْسَكَ يَكُونُ صَائِمًا مِنْ حِينِ أَمْسَكَ. قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: وَهَذَا لَا يَجِيءُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَلَا يَصِحُّ بِنِيَّةِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا نَفْلٍ. قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ إمْسَاكٌ شَرْعِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ، هَذَا كَلَامُهُ، فَحَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ (الصَّحِيحُ) أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى إمْسَاكِهِ وَلَا يَكُونُ صَوْمًا والثاني: يَكُونُ صَوْمًا والثالث: لَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فَاسِدَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -182-       الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا رَأَوْا الْهِلَالَ بِالنَّهَارِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، سَوَاءٌ رَأَوْهُ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ، هَذَا مَذْهَبُنَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ: إنْ رَأَوْهُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوْ بَعْدَهُ فَلِلْمُسْتَقْبِلَةِ، سَوَاءٌ أَوَّلُ الشَّهْرِ وَأَخِرُهُ، وَقَالَ: إنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَرَأَوْهُ فَلِلْمَاضِيَةِ، وَبَعْدَهُ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ، وَإِنْ رَأَوْهُ فِي أَخِرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلِلْمُسْتَقْبِلَةِ، وَقَبْلَهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ إحداهما: لِلْمَاضِيَةِ وَالثَّانِيَةُ: لِلْمُسْتَقْبَلَةِ، وَاحْتَجَّ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ:" كَتَبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ: إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ نَهَارًا قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ لِتَمَامِ ثَلَاثِينَ فَأَفْطِرُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَمَا تَزُولُ الشَّمْسُ فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَصُومُوا".
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ" أَنَّ نَاسًا رَأَوْا هِلَالَ الْفِطْرِ نَهَارًا فَأَتَمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما صِيَامَهُ إلَى اللَّيْلِ وَقَالَ: لَا حَتَّى يُرَى مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ بِاللَّيْلِ" وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ:" لَا يَصِحُّ أَنْ يُفْطِرُوا حَتَّى يَرَوْهُ لَيْلًا مِنْ حَيْثُ يُرَى" وَرَوَيْنَا فِي ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ وَلَا قَارَبَ زَمَانَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا رَأَوْا الْهِلَالَ فِي رَمَضَانَ فِي بَلَدٍ وَلَمْ يَرَوْهُ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ تَقَارَبَ الْبَلَدَانِ فَحُكْمُهُمَا بَلَدٌ وَاحِدٌ وَيَلْزَمُ أَهْلُ الْبَلَدِ الْآخَرِ الصَّوْمُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ تَبَاعَدَا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ أصحهما: لَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الْعَبْدَرِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ. والثاني: يَجِبُ وَبِهِ قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ حَدِيثِ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي بَلَدٍ آخَرَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَفِيمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أصحها وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَالصَّيْدَلَانِيّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ التَّبَاعُدَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، كَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَالتَّقَارُبُ أَنْ يَخْتَلِفَ، كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالرَّيِّ وَقَزْوِينَ؛ لِأَنَّ مَطْلَعَ هَؤُلَاءِ مَطْلَعُ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا رَآهُ هَؤُلَاءِ فَعَدَمُ رُؤْيَتِهِ لِلْآخَرَيْنِ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي التَّأَمُّلِ أَوْ لِعَارِضٍ، بِخِلَافِ مُخْتَلِفِي الْمَطْلَعِ. والثاني: الِاعْتِبَارُ بِاتِّحَادِ الْإِقْلِيمِ وَاخْتِلَافِهِ، فَإِنْ اتَّحَدَ فَمُتَقَارِبَانِ وَإِلَّا فَمُتَبَاعِدَانِ وَبِهَذَا قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَآخَرُونَ. الثالث: أَنَّ التَّبَاعُدَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، وَالتَّقَارُبَ دُونَهَا، وَبِهَذَا قَالَ الْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَطَالِعِ يُحْوِجُ إلَى حِسَابٍ وَتَحْكِيمِ الْمُنَجِّمِينَ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَأْبَى ذَلِكَ. فَوَجَبَ اعْتِبَارُ مَسَافَةِ الْقَصْرِ الَّتِي عَلَّقَ الشَّرْعُ بِهَا كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ أَمْرَ الْهِلَالِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ. فَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ الْمَطَالِعِ كَمَا سَبَقَ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ شَكَّ فِي اتِّفَاقِ الْمَطَالِعِ لَمْ يَلْزَمْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا الصَّوْمُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ إنَّمَا يَجِبُ بِالرُّؤْيَةِ لِلْحَدِيثِ، وَلَمْ تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، لِعَدَمِ ثُبُوتِ قُرْبِهِمْ مِنْ بَلَدِ

 

ج / 6 ص -183-       الرُّؤْيَةِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ هُوَ الْمَشْهُورُ لِلْأَصْحَابِ فِي الطَّرِيقَيْنِ، وَانْفَرَدَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ بِطَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا رَأَوْهُ فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَلْزَمُ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا، لِأَنَّ فَرْضَ رَمَضَانَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَقَدْ ثَبَتَ رَمَضَانُ.
والثاني: لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ الطَّوَالِعَ وَالْغَوَارِبَ قَدْ تَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَإِنَّمَا خُوطِبَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَطْلَعِهِمْ وَمَغْرِبِهِمْ، أَلَا تَرَى الْفَجْرَ قَدْ يَتَقَدَّمُ طُلُوعُهُ فِي بَلَدٍ وَيَتَأَخَّرُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ قَدْ يَتَعَجَّلُ غُرُوبُهَا فِي بَلَدٍ وَيَتَأَخَّرُ فِي آخَرَ، ثُمَّ كُلُّ بَلَدٍ يُعْتَبَرُ طُلُوعُ فَجْرِهِ وَغُرُوبُ شَمْسِهِ فِي حَقِّ أَهْلِهِ فَكَذَلِكَ الْهِلَالُ. الثالث: إنْ كَانَا مِنْ إقْلِيمٍ لَزِمَهُمْ، وَإِلَّا فَلَا، هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: إذَا رَآهُ أَهْلُ نَاحِيَةٍ دُونَ نَاحِيَةٍ، فَإِنْ قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ لَزِمَهُمْ كُلَّهُمْ، وَضَابِطُ الْقُرْبِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ أَنَّهُ إذَا أَبْصَرَهُ هَؤُلَاءِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ إلَّا لِعَارِضٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ أَوْ غَيْرُهَا، قَالَ: فَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يَلْزَمُ الْجَمِيعَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ والثاني: لَا يَلْزَمُهُمْ والثالث: إنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُرَى وَلَا يَخْفَى عَلَى أُولَئِكَ بِلَا عَارِضٍ لَزِمَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَلَا.
فَحَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ سِتَّةُ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: يَلْزَمُ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ بِرُؤْيَتِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا والثاني: يَلْزَمُ أَهْلَ إقْلِيمِ بَلَدٍ الرُّؤْيَةُ دُونَ غَيْرِهِمْ والثالث: يَلْزَمُ كُلَّ بَلَدٍ يُوَافِقُ بَلَدَ الرُّؤْيَا فِي الْمَطْلَعِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا أَصَحُّهَا. وَالرَّابِعُ: يَلْزَمُ كُلَّ بَلَدِ لَا يُتَصَوَّرُ خَفَاؤُهُ عَنْهُمْ بِلَا عَارِضٍ دُونَ غَيْرِهِمْ وَهُوَ فِيمَا حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ وَالْخَامِسُ: لَا يَلْزَمُ غَيْرَ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ فِيمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فرع فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا إذَا رَأَى الْهِلَالَ أَهْلُ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ
قَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ مَذْهَبِنَا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَيْرَ أَهْلِ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ، وَعَنْ اللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: يَلْزَمُ الْجَمِيعَ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا قَوْلَ الْمَدَنِيِّ وَالْكُوفِيِّ، يَعْنِي مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ.
فرع: لَوْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ بِبَلَدٍ ثُمَّ سَافَرَ إلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ لَمْ يَرَوْا فِيهِ الْهِلَالَ حِينَ رَآهُ أَهْلُ الْبَلَدِ الْأَوَّلِ، فَاسْتَكْمَلَ ثَلَاثِينَ مِنْ حِينِ صَامَ" فَإِنْ قُلْنَا" لِكُلِّ بَلَدٍ حُكْمُ نَفْسِهِ فَوَجْهَانِ أصحهما: يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُ صَارَ مِنْهُمْ والثاني: يُفْطِرُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حُكْمَ الْأَوَّلِ. وَإِنْ قُلْنَا: تَعُمُّ الرُّؤْيَةُ كُلَّ الْبِلَادِ لَزِمَ أَهْلَ الْبَلَدِ الثَّانِي مُوَافَقَتُهُ فِي الْفِطْرِ، إنْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ رُؤْيَةُ الْبَلَدِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِمْ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ لَزِمَهُ هُوَ الْفِطْرُ، كَمَا لَوْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ وَيُفْطِرُ سِرًّا. وَلَوْ سَافَرَ فِي بَلَدٍ لَمْ يَرَوْا فِيهِ إلَى بَلَدٍ رُئِيَ فِيهِ فَعَيَّدُوا الْيَوْمَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَوْمِهِ - فَإِنْ عَمَّمَنَا الْحُكْمَ أَوْ قُلْنَا: لَهُ حُكْمُ الْبَلَدِ الثَّانِي - عَيَّدَ مَعَهُمْ، وَلَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمٍ وَإِنْ لَمْ نُعَمِّمْ الْحُكْمَ وَقُلْنَا: لَهُ حُكْمُ الْبَلَدِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ الصَّوْمُ.

 

ج / 6 ص -184-       وَلَوْ رَأَى الْهِلَالَ فِي بَلَدٍ وَأَصْبَحَ مُعَيِّدًا مَعَهُمْ. فَسَارَتْ بِهِ سَفِينَةٌ إلَى بَلَدٍ فِي حَدِّ الْبُعْدِ. فَصَادَفَ أَهْلَهَا صَائِمِينَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُهُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ. إذَا قُلْنَا: لِكُلِّ بَلَدٍ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ الْحِكَايَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَتُتَصَوَّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي صُورَتَيْنِ.
 إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ صَوْمِ الْبَلَدَيْنِ لَكِنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَيْهِمْ لَمْ يَرَوْهُ وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ لِلْمُنْتَقِلِ إلَيْهِمْ لِتَأَخُّرِ صَوْمِهِمْ بِيَوْمٍ. قَالَ: وَإِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ فِي الصُّورَتَيْنِ إنْ لَمْ يُعَمَّمْ الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا وَجَوَابُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ حُكْمَهُ، وَأَنَّ لِلْمُنْتَقِلِ حُكْمَ الْبَلَدِ الْمُنْتَقَلِ إلَيْهِ، وَإِنْ عَمَّمْنَا الْحُكْمَ فَأَهْلُ الْبَلَدِ الثَّانِي إذَا عَرَفُوا فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ أَنَّهُ عِيدٌ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا سَبَقَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْعِيدِ إذَا شَهِدُوا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ.
وَلَوْ أَتَى هَذَا السَّفَرُ لِعَدْلَيْنِ - وَقَدْ رَأَيَا الْهِلَالَ بِأَنْفُسِهِمَا، وَشَهِدَا فِي الْبَلَدِ الثَّانِي - فَهَذِهِ شَهَادَةُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ، فَيَجِبُ الْفِطْرُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنْ عَمَّمْنَا الْحُكْمَ بِجَمِيعِ الْبِلَادِ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمَا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَإِنْ قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ قَضَوْا يَوْمًا، وَإِنْ لَمْ نُعَمِّمْ الْحُكْمَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمَا. وَلَوْ كَانَ عَكْسَهُ بِأَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَسَارَتْ بِهِ سَفِينَةٌ إلَى قَوْمٍ مُعَيِّدِينَ فَإِنْ عَمَّمْنَا الْحُكْمَ أَوْ قُلْنَا: لَهُ حُكْمُ الْمُنْتَقَلِ إلَيْهِ، أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا، وَإِذَا أَفْطَرَ قَضَى يَوْمًا إذَا لَمْ يَصُمْ إلَّا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَفِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا رُؤْيَةُ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ: لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ عَدْلَيْنِ، لِمَا رَوَى الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْجَدَلِيُّ (جَدِيلَةُ قَيْسٍ) قَالَ:"خَطَبَنَا أَمِيرُ مَكَّةَ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ فَقَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُمْسِكَ لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ لَمْ نَرَهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا" وَقَالَ: فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ: يُقْبَلُ مِنْ عَدْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:"تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ" وَلِأَنَّهُ إيجَابُ عِبَادَةٍ، فَقُبِلَ مِنْ وَاحِدٍ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ فإن قلنا: يُقْبَلُ مِنْ وَاحِدٍ، فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
 أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ مَا قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ قُبِلَ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ كَإِخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والثاني: لَا يُقْبَلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ طَرِيقَهَا طَرِيقُ الشَّهَادَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ شَاهِدِ الْفَرْعِ مَعَ حُضُورِ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ إلَّا شَاهِدَانِ، لِأَنَّهُ إسْقَاطُ فَرْضٍ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَدُ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، فَإِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَقُبِلَ قَوْلُهُ وَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَتَغَيَّمَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ والثاني: أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ، لِأَنَّهُ بَيِّنَةٌ ثَبَتَ بِهَا الصَّوْمُ فَجَازَ الْإِفْطَارُ بِاسْتِكْمَالِ الْعَدَدِ مِنْهَا كَالشَّاهِدَيْنِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ هَذَا إفْطَارٌ بِشَاهِدٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الَّذِي ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ هُوَ الصَّوْمُ، وَالْفِطْرُ ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَذَلِكَ يَجُوزُ كَمَا نَقُولُ: إنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ ثُمَّ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ بِالْوِلَادَةِ ثَبَتَتْ الْوِلَادَةُ وَثَبَتَ النَّسَبُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لِلْوِلَادَةِ. وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ فَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْحَدَّادُ: لَا يُفْطِرُونَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْهِلَالِ مَعَ الصَّحْوِ يَقِينٌ وَالْحُكْمَ

 

ج / 6 ص -185-       بِالشَّاهِدَيْنِ ظَنٌّ، وَالْيَقِينُ يُقَدَّمُ عَلَى الظَّنِّ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: يُفْطِرُونَ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ اثْنَيْنِ يَثْبُتُ بِهَا الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا الْفِطْرُ. وَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ الْهِلَالُ وَعَرَفَ رَجُلٌ الْحِسَابَ وَمَنَازِلَ الْقَمَرِ وَعَرَفَ بِالْحِسَابِ أَنَّهُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّهْرَ بِدَلِيلٍ فَأَشْبَهَ إذَا عَرَفَ بِالْبَيِّنَةِ والثاني: أَنَّهُ لَا يَصُومُ؛ لِأَنَّا لَمْ نُتَعَبَّدْ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ وَمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ أَفْطَرَ وَحْدَهُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" وَيُفْطِرُ لِرُؤْيَتِهِ هِلَالَ شَوَّالٍ سِرًّا، لِأَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ الْفِطْرَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ".
الشرح:
حَدِيثُ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إسْنَادٌ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تَفَرَّدَ بِهِ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ وَهُوَ ثِقَةٌ. 
وَقَوْلُهُ: حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ هَكَذَا وَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ حُرَيْثٍ - بِضَمِّ الْحَاءِ - وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ وَصَوَابُهُ حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي جَمِيعِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِ الْأَسْمَاءِ حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ وَقَوْلُهُ: الْجَدَلِيُّ (جَدِيلَةُ قَيْسٍ) يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ بَنِي جَدِيلَةَ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ - بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ - احْتِرَازٌ مِنْ جَدِيلَةِ طيئ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ أُوضِحَتْ حَالُهُ وَحَالُ قَبِيلَتِهِ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ وَقَوْلُهُ: الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ هُوَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَقَدْ أُوضِحَتْ حَالُهُ فِي التَّهْذِيبِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَصَدَّقَهُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: نَنْسُكُ هُوَ - بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا - لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ وَمَنْ قَالَ بِالْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْهِلَالُ بِعَدْلٍ وَاحِدٍ، وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَارِثِ بِأَنَّ النُّسُكَ هَهُنَا عِيدُ الْفِطْرِ، وَكَذَا تَرْجَمَ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى ثُبُوتِ هِلَالِ شَوَّالٍ بِعَدْلَيْنِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ:
 إحداها: فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا هِلَالُ رَمَضَانَ ثَلَاثُ طُرُقٍ أصحها وَأَشْهُرُهَا وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أصحهما: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ يَثْبُتُ بِعَدْلٍ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ، وَمُعْظَمُ كُتُبِهِ فِي الْجَدِيدِ، لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ منها: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ والثاني: وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ. والطريق الثاني:  الْقَطْعُ بِثُبُوتِهِ بِعَدْلٍ لِلْأَحَادِيثِ والثالث: حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ إنْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ ثَبَتَ بِعَدْلٍ وَإِلَّا فَقَوْلَانِ أحدهما: يُشْتَرَطُ عَدْلَانِ كَسَائِرِ الشُّهُورِ والثاني: يَثْبُتُ بِعَدْلٍ لِلِاحْتِيَاطِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ ثَبَتَتْ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ ثُبُوتُهُ بِعَدْلٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ شَرَطْنَا عَدْلَيْنِ فَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَيَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي، وَلَكِنَّهَا شَهَادَةُ حِسْبَةٍ لَا ارْتِبَاطَ لَهَا بِالدَّعْوَى، وَإِنْ اكْتَفَيْنَا بِعَدْلٍ فَهَلْ هُوَ بِطَرِيقِ الرِّوَايَةِ أَمْ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ وَحَكَاهُمَا السَّرَخْسِيُّ قَوْلَيْنِ. 
قَالَ الدَّارِمِيُّ: الْقَائِلُ: شَهَادَةٌ هُوَ أَبُو عَلِيٍّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْقَائِلُ: رِوَايَةٌ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ

 

ج / 6 ص -186-       الْمَرْوَزِيُّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصَحَّهُمَا: أَنَّهُ شَهَادَةٌ فَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ: وَبِهَذَا قَالَ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا غَيْرُ أَبِي إِسْحَاقَ والثاني: أَنَّهُ رِوَايَةٌ فَيُقْبَلُ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، وَفِي اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ طَرِيقَانِ أحدهما: يُشْتَرَطُ قَطْعًا وَأَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ فِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ أَمْ رِوَايَةٌ؟ إنْ قُلْنَا: شَهَادَةُ شَرْطٍ وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الْمَوْثُوقُ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنْ شَرَطْنَا اثْنَيْنِ أَوْ قُلْنَا: شَهَادَةٌ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَإِنْ قُلْنَا: رِوَايَةٌ فَطَرِيقَانِ (الْمَذْهَبُ) وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ لَا يُقْبَلُ قَطْعًا والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ إنْ قَبِلْنَاهَا قَبْلَ هَذَا، وَإِلَّا فَلَا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُغَفَّلُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَنْ نَقْبَلُهُ. وَأَمَّا الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: يُشْتَرَطُ عَدْلَانِ اُشْتُرِطَتْ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ، قَالُوا: وَهُمَا جَارِيَانِ فِي رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ، الْحَدِيثَ وَالْأَصَحُّ: قَبُولُ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ، وَكَذَا الْأَصَحُّ قَبُولُ قَوْلِهِ هُنَا وَالصِّيَامُ بِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ الْإِبَانَةِ وَالْعُدَّةِ وَالْمُتَوَلِّي، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا فَرْقَ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ كَوْنِ السَّمَاءِ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً.
فرع: إذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ وَصَدِيقِهِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ وَيَعْتَقِدُ صِدْقَهُ أَنَّهُ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي، فَقَدْ قَطَعَتْ طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ بِقَوْلِهِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى الْمَقُولِ لَهُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ: إنْ قُلْنَا: إنَّهُ رِوَايَةٌ لَزِمَ الصَّوْمُ بِقَوْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يَثْبُتُ هِلَالُ رَمَضَانَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ؟ . فِيهِ طَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ ثُبُوتُهُ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ والثاني: فِيهِ قَوْلَانِ كَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَيْسَتْ مَالِيَّةً، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَقَاسَهُ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ عَلَى الزَّكَاةِ وَإِتْلَافِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ،
قَالَ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ: فَعَلَى هَذَا عَدَدُ الْفُرُوعِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأُصُولِ، فَإِنْ شَرَطْنَا الْعَدَدَ فِي الْأُصُولِ فَحُكْمُ الْفُرُوعِ هُنَا كَحُكْمِهِمْ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ شَاهِدَانِ، وَهَلْ يَكْفِي شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ جَمِيعًا، فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ وَأَصَحُّهُمَا: يَكْفِي، وَعَلَى هَذَا لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَإِنْ اكْتَفَيْنَا بِوَاحِدٍ فَإِنْ قُلْنَا: سَبِيلُهُ سَبِيلُ الرِّوَايَةُ، فَوَجْهَانِ أحدهما: يَكْفِي وَاحِدٌ كَرِوَايَةِ الْحَدِيثِ والثاني: يُشْتَرَطُ اثْنَانِ، قَالَ الْبَغَوِيّ: هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُشْتَرَطُ إخْبَارُ حُرَّيْنِ ذَكَرَيْنِ، أَمْ يَكْفِي امْرَأَتَانِ أَوْ عَبْدَانِ، فِيهِ وَجْهَانِ أَصْحُهُمَا الْأَوَّلُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ عَنْ وَاحِدٍ، إذَا قُلْنَا: إنَّهُ رِوَايَةٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْفَرْعِ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا رَأَى الْهِلَالَ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي قَبُولَهُ إذَا اكْتَفَيْنَا بِوَاحِدٍ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، قَالَ: وَلَا

 

ج / 6 ص -187-       نُسَلِّمُ دَعْوَاهُ الْإِجْمَاعَ مِنْ نِزَاعٍ وَاحْتِمَالٍ ظَاهِرٍ، أَمَّا إذَا قُلْنَا: طَرِيقُهُ طَرِيقُ الشَّهَادَةِ، فَهَلْ يَكْفِي شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ أَمْ يُشْتَرَطُ اثْنَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيّ بِاشْتِرَاطِ اثْنَيْنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَأَمَّا شَهَادَةُ الْفَرْعِ بِحَضْرَةِ الْأَصْلِ عَلَى شَهَادَتِهِ فَقَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهَا لَا تُقْبَلُ، وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُ خِلَافٍ فِيهِ عَلَى قَوْلِنَا: رِوَايَةٌ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا قَبِلْنَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ عَدْلًا وَصُمْنَا عَلَى قَوْلِهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَلَمْ نَرَ الْهِلَالَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ فَهَلْ نُفْطِرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَجَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ - وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ - نُفْطِرُ والثاني: لَا نُفْطِرُ، لِأَنَّهُ إفْطَارٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ ثَبَتَ بِهَا هِلَالُ رَمَضَانَ فَثَبَتَ الْإِفْطَارُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْعَدَدِ مِنْهَا كَالشَّاهِدَيْنِ وَأَبْطَلَ الْأَصْحَابُ قَوْلَ الْآخَرِ، قَالُوا: لِأَنَّ الَّذِي ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ إنَّمَا هُوَ الصَّوْمُ وَحْدُهُ، وَأَمَّا الْفِطْرُ فَثَبَتَ تَبَعًا كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تُقْبَلُ عَلَى النَّسَبِ اسْتِقْلَالًا، وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ بِالْوِلَادَةِ ثَبَتَتْ وَثَبَتَ النَّسَبُ تَبَعًا لَهَا بِلَا خِلَافٍ فَكَذَا هُنَا، ثُمَّ الْقَوْلَانِ جَارِيَانِ سَوَاءٌ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ صَرَّحَ الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ مَفْهُومِ كَلَامِ الْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو الْمَكَارِمِ فِي الْعُدَّةِ: الْوَجْهَانِ إذَا كَانَتْ مُصْحِيَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُغَيِّمَةً أَفْطَرْنَا بِلَا خِلَافٍ لِاحْتِمَالِ وُجُودِهِ وَاسْتِتَارِهِ بِالْغَيْمِ،
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَآخَرُونَ: إذَا صُمْنَا بِشَهَادَةِ عَدْلٍ ثَلَاثِينَ وَكَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً فَفِي الْفِطْرِ الْوَجْهَانِ فَفَرَضُوا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا غَيَّمَتْ، وَجَبَ الْفِطْرُ قَطْعًا قَالَ: وَقِيلَ هُمَا فِي الْغَيْمِ وَالصَّحْوِ، وَالْمَذْهَبُ طَرْدُهُمَا فِي الْحَالَيْنِ،
أَمَّا إذَا صُمْنَا بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ نَرَ الْهِلَالَ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً أَفْطَرْنَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً فَطَرِيقَانِ أحدهما: نُفْطِرُ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَحَرْمَلَةَ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ وَأَشْهَرُهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ نُفْطِرُ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ ثَبَتَ وَقَدْ أُمِرْنَا بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ إذَا لَمْ نَرَ الْهِلَالَ، وَقَدْ أَكْمَلْنَا فَوَجَبَ الْفِطْرُ والثاني: لَا نُفْطِرُ، لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ مَعَ الصَّحْوِ يَقِينٌ فَلَا نَتْرُكُهُ بِقَوْلِ شَاهِدَيْنِ وَهُوَ ظَنٌّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ حَكَاهُ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا مُزَيَّفٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ،
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَنُقِلَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَيْضًا، قَالَ: وَفَرَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ فَأَفْطَرْنَا ثُمَّ لَمْ نَرَ الْهِلَالَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ، قَضَيْنَا صَوْمَ أَوَّلِ يَوْمٍ أَفْطَرْنَاهُ، لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ مِنْ آخِرِ رَمَضَانَ وَلَكِنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَى مِنْ جَامَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى مِنْ أَثِمَ بِالْجِمَاعِ، وَهَذَا لَمْ يَأْثَمْ لِعُذْرِهِ وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ فَلَا قَضَاءَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: إذَا غُمَّ الْهِلَالُ وَعَرَفَ رَجُلٌ الْحِسَابَ وَمَنَازِلَ الْقَمَرِ، وَعَرَفَ

 

ج / 6 ص -188-       بِالْحِسَابِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَوَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّهْرَ بِدَلِيلٍ، فَأَشْبَهَ مَنْ عَرَفَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَا يَصُومُ لِأَنَّا لَمْ نُتَعَبَّدْ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ، وَهَذَا كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَوَافَقَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: لَا يَصُومُ بِقَوْلِ مُنَجِّمٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَلْزَمُ، قَالَ: فَإِنْ صَامَ بِقَوْلِهِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: إذَا عَرَفَ بِحِسَابِ الْمَنَازِلِ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَخْبَرَهُ عَارِفٌ فَصَدَّقَهُ فَنَوَى وَصَامَ بِقَوْلِهِ فَوَجْهَانِ أحدهما: يُجْزِئُهُ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ حَصَلَ لَهُ بِهِ غَلَبَةُ ظَنٍّ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ عَنْ مُشَاهَدَةٍ والثاني: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ النُّجُومَ وَالْحِسَابَ لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي الْعِبَادَاتِ، قَالَ: وَهَلْ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَأَمَّا بِالْحِسَابِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوُجُوبِ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْبَيَانِ وَقَطَعَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ بِأَنَّ الْحَاسِبَ وَالْمُنَجِّمَ لَا يَعْمَلُ غَيْرُهُمَا بِقَوْلِهِمَا، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَعْمَلُ غَيْرُ الْحَاسِبِ بِقَوْلِهِ وَهَلْ يَلْزَمُهُ هُوَ الصَّوْمُ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ الْحِسَابَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَلْزَمُهُ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ بِمَا يَقْتَضِيهِ حِسَابُ الْمُنَجِّمِ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ الصَّوْمُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَكَذَا مَنْ عَرَفَ مَنَازِلَ الْقَمَرِ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ بِهِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَأَمَّا الْجَوَازُ فَقَالَ الْبَغَوِيّ: لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُنَجِّمِ فِي حِسَابِهِ، لَا فِي الصَّوْمِ وَلَا فِي الْفِطْرِ، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِحِسَابِ نَفْسِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَجَعَلَ الرُّويَانِيُّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا عَرَفَ مَنَازِلَ الْقَمَرِ وَعَلِمَ بِهِ وُجُودَ الْهِلَالِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْجَوَازَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، قَالَ: فَلَوْ عَرَفَهُ بِالنُّجُومِ لَمْ يَجُزْ الصَّوْمُ بِهِ قَطْعًا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْمُسَوَّدَاتِ تَعَدِّيَةَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ إلَى غَيْرِ الْمُنَجِّمِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ
الحَاصلَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ أصحها لَا يَلْزَمُ الْحَاسِبُ وَلَا الْمُنَجِّمُ وَلَا غَيْرُهُمَا بِذَلِكَ لَكِنْ يَجُوزُ لَهُمَا دُونَ غَيْرِهِمَا وَلَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ فَرْضِهِمَا،
والثاني: يَجُوزُ لَهُمَا وَيُجْزِئُهُمَا والثالث: يَجُوزُ لِلْحَاسِبِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُنَجِّمِ. وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ لَهُمَا وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمَا تَقْلِيدُهُمَا وَالْخَامِسُ: يَجُوزُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا تَقْلِيدُ الْحَاسِبِ دُونَ الْمُنَجِّمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ لَزِمَهُ الْفِطْرُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدنَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُفْطِرُ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ سِرًّا لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لِلتُّهْمَةِ فِي دِينِهِ وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ رُئِيَ رَجُلٌ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ يَأْكُلُ بِلَا عُذْرٍ، عُزِّرَ فَلَوْ شَهِدَ بَعْدَ الْأَكْلِ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ الْبَارِحَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إسْقَاطِ التَّعْزِيرِ عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَوَّلًا فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَكَلَ، لَا يُعَزَّرُ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ حَالَ الشَّهَادَةِ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فَالصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ صَامَ وَجَامَعَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ. هَذَا تَفْصِيلُ

 

ج / 6 ص -189-       مَذْهَبِنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُزُومِ الصَّوْمِ بِرُؤْيَتِهِ هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَوْ جَامَعَ فِيهِ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: لَا يَلْزَمُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ، وَلَكِنْ إنْ جَامَعَ فِيهِ فَلَا كَفَّارَةَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُزُومِ الْفِطْرِ لِمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ، قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ فِيهِ. دَلِيلُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْحَدِيثُ؛ وَلِأَنَّ يَقِينَ نَفْسِهِ أَبْلَغُ مِنْ الظَّنِّ الْحَاصِلِ بِالْبَيِّنَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَا يَثْبُتُ هِلَالُ شَوَّالٍ وَلَا سَائِرِ الشُّهُورِ غَيْرَ هِلَالِ رَمَضَانَ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ، لِحَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ السَّابِقِ قَرِيبًا، وَقِيَاسًا عَلَى بَاقِي الشَّهَادَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مَالًا، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمَالُ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ غَالِبًا، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ احْتِيَاطٌ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ هِلَالِ رَمَضَانَ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ عَدْلٌ وَاحِدٌ كَهِلَالِ رَمَضَانَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: لَوْ قُلْتُ بِمَا قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ لَمْ أَكُنْ مُبْعِدًا وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ هَلْ يَثْبُتُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ هِلَالُ رَمَضَانَ؟ أَمْ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا قُلْنَا يَثْبُتُ هِلَالُ رَمَضَانَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ خَاصَّةً فَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا عُلِّقَ عَلَى رَمَضَانَ فَلَا يَقَعُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لَا يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إلَيْهِ وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَلَا يَتِمُّ حَوْلُ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَالدِّيَةِ الْمُؤَجَّلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآجَالِ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مَا سِوَى الصِّيَامِ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ كَامِلَيْ الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ.
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ شَهِدَ عَدْلٌ بِإِسْلَامِ ذِمِّيٍّ مَاتَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَحْدَهُ فِي إثْبَاتِ إرْثِ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ مِنْهُ، وَحِرْمَانِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ تُقْبَلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِقَوْلِ عَدْلٍ وَاحِدٍ وَجَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الصِّيَامِ1 وَالرِّدَّةِ. 
فرع: قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْبَيَانِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا لَفْظُ صَاحِبِ الْبَيَانِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ عَقَدَ رَجُلٌ عِنْدَهُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فِي يَوْمِ الشَّكِّ فَصَامَ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ عَبْدٍ فَصَدَّقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ، وَنَوَى الصَّوْمَ وَصَامَ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ بِظَنٍّ وَصَادَفَهُ فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ، قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَهُ صَبِيٌّ عَاقِلٌ فَأَمَّا إذَا صَامَ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ فَوَافَقَ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ بِلَا خِلَافٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة الحداد (كتاب الصيال والردة)

 

ج / 6 ص -190-       فرع: لَوْ كَانَتْ لَيْلَةُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَمْ يَرَ النَّاسُ الْهِلَالَ، فَرَأَى إنْسَانٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: اللَّيْلَةُ أَوَّلُ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ الصَّوْمُ بِهَذَا الْمَنَامِ لَا لِصَاحِبِ الْمَنَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي الْفَتَاوَى وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ، عَلَيْهِ وَقَدْ قَرَّرْتُهُ بِدَلَائِلِهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّ شَرْطَ الرَّاوِي وَالْمُخْبِرَ وَالشَّاهِدَ أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا فِي حَالِ التَّحَمُّلِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّوْمَ لَا تَيَقُّظَ فِيهِ، وَلَا ضَبْطَ، فَتُرِكَ الْعَمَلُ بِهَذَا الْمَنَامِ لِاخْتِلَالِ ضَبْطِ الرَّاوِي لَا لِلشَّكِّ فِي الرُّؤْيَةِ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي" وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -191-       فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا ثُبُوتُهُ بِعَدْلَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي ثُبُوتِهِ بِعَدْلٍ خِلَافٌ، الصَّحِيحُ ثُبُوتُهُ، وَسَوَاءٌ أَصْحَتْ السَّمَاءُ أَوْ غَيَّمَتْ، وَمِمَّنْ قَالَ: يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَآخَرُونَ، وَمِمَّنْ قَالَ: يُشْتَرَطُ عَدْلَانِ عَطَاءٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَدَاوُد وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُشْتَرَطُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً ثَبَتَ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَلَا يَثْبُتُ رَمَضَانُ إلَّا بِاثْنَيْنِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً، لَمْ يَثْبُتْ رَمَضَانُ بِوَاحِدٍ وَلَا بِاثْنَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدَدِ الِاسْتِفَاضَةِ،
وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَنْظُرَ الْجَمَاعَةُ الْكَبِيرَةُ إلَى مَطْلَعِ الْهِلَالِ وَأَبْصَارُهُمْ صَحِيحَةٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ الرُّؤْيَةِ، وَيَرَاهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ دُونَهُمْ، وَاحْتَجَّ مَنْ شَرَطَ اثْنَيْنِ بِحَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ" وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، حَيْثُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:"جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ - يَعْنِي رَمَضَانَ - فَقَالَ:
أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ مُرْسَلًا، قَالَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مُرْسَلًا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ مَوْصُولًا وَمِنْ طُرُقٍ مُرْسَلًا، وَطُرُقُ الِاتِّصَالِ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ مَرَّاتٍ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا رُوِيَ مُرْسَلًا وَمُتَّصِلًا اُحْتُجَّ بِهِ، لِأَنَّ مَعَ مَنْ وَصَلَهُ زِيَادَةٌ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَقَدْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّتِهِ كَمَا سَبَقَ، فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ هُمَا الْعُمْدَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وأما: حَدِيثُ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَا:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَانَ لَا يُجِيزُ عَلَى شَهَادَةِ الْإِفْطَارِ إلَّا شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ" فرَوَاهُ

 

ج / 6 ص -192-       الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ، قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ قَالَ: وَفِي الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ كِفَايَةٌ، ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ إلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم:" أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَصَامَ، وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ، وَقَالَ: لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ"،
وَالْجَوَابُ: عَمَّا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَلَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ والثاني: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرَاهُ بَعْضُهُمْ دُونَ جُمْهُورِهِمْ لِحُسْنِ نَظَرِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مُمْتَنِعًا وَهَذَا لَوْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ اثْنَانِ أَوْ وَاحِدٌ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَمْ يُنْقَضْ بِالْإِجْمَاعِ، وَوَجَبَ الصَّوْمُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِيلًا لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ وَوَجَبَ نَقْضُهُ، وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْآخَرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نَنْسُكُ هِلَالَ شَوَّالٍ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ،
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ أَنَّهُمْ أَسْقَطُوا حُكْمَ الْأَهِلَّةِ، وَاعْتَمَدُوا الْعَدَدَ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ عَنْ الصَّحِيحَيْنِ"شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ" وَبِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ
"صَوْمُكُمْ يَوْمَ نَحْرِكُمْ" وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا مَعَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" وَالْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ فِي "الصحيحين" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ" أَيْ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، وَفِي رِوَايَاتٍ"الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الْعَشْرِ، وَحَبَسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِهِ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:"مَا صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:"مَا صُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْتُ مَعَهُ ثَلَاثِينَ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ إسْنَادُهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ،
وَالْجَوَابُ: عَنْ"شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ" أَيْ لَا يَنْقُصُ أَجْرُهُمَا أَوْ لَا يَنْقُصَانِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ مَعًا غَالِبًا، وَقَدْ سَبَقَ هَذَانِ التَّأْوِيلَانِ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِمَا.
وَالْجَوَابُ: عَنْ حَدِيثِ
"صَوْمُكُمْ يَوْمَ نَحْرِكُمْ" أَنَّهُ ضَعِيفٌ بَلْ مُنْكَرٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي هَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلَفْظُهُ"الْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ" وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -193-       فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ اللَّيْثِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيِّ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ قَبُولَهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ اشْتَبَهَتْ الشُّهُورُ عَلَى أَسِيرٍ لَزِمَهُ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَصُومَ، كَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَفِي الْقِبْلَةِ، فَإِنْ تَحَرَّى وَصَامَ فَوَافَقَ الشَّهْرَ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، فَإِنْ وَافَقَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ نَاقِصًا وَشَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي صَامَهُ النَّاسُ تَامًّا فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يُجْزِئُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ رحمه الله تعالى لِأَنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ فَصَامَ شَهْرًا نَاقِصًا بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ والثاني: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ فَاتَهُ صَوْمُ ثَلَاثِينَ، وَقَدْ صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَلَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا قَبْلَ رَمَضَانَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: يُجْزِئُهُ كَانَ مَذْهَبُنَا1، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْخَطَأِ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ وَوَقَفُوا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ والثاني: لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ".
الشَّرْحُ
: قَوْلُهُ"عِبَادَةٌ تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً" احْتِرَازٌ مِنْ الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَالِاحْتِرَازُ فِي قَوْلِهِ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَاسَهُ عَلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ تَفْرِيعٌ عَلَى الضَّعِيفِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمْ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمْ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
أَمَّا أَحْكَامُ هَذَا الْفَصْلِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا اشْتَبَهَ رَمَضَانُ عَلَى أَسِيرٍ أَوْ مَحْبُوسٍ فِي مَطْمُورَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ صَامَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِئْهُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى إلَى جِهَةٍ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، وَوَافَقَ أَوْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَصَلَّى بِلَا اجْتِهَادٍ وَوَافَقَ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ بِلَا خِلَافٍ وَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فِي الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ اجْتَهَدَ وَصَامَ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ الْإِشْكَالُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادَفَ رَمَضَانَ أَوْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، فَهَذَا يُجْزِئُهُ بِلَا خِلَافٍ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَعَلَّلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْإِصَابَةُ،
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُهُ رَمَضَانَ فَيُجْزِئُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ فَقَالَ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ صَامَ شَاكًّا فِي الشَّهْرِ، قَالَ: وَدَلِيلُنَا إجْمَاعُ السَّلَفِ قَبْلَهُ، وَقِيَاسًا عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ وَوَافَقَهَا، وَأَمَّا الشَّكُّ فَإِنَّمَا يَضُرُّ إذَا لَمْ يَعْتَضِدْ بِاجْتِهَادٍ بِدَلِيلِ الْقِبْلَةِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (كان مذهبا) (ط).

 

ج / 6 ص -194-       الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُهُ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ فَيُجْزِئُهُ بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ صَامَ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ بَعْدَ وُجُوبِهِ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْقَضَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الصَّلَاةِ، وَفَرَّقَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ هَذَا الصَّوْمُ قَضَاءً أَمْ أَدَاءً؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَحَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ قَوْلَيْنِ أصحهما: قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ خَارِجُ وَقْتِهِ، وَهَذَا شَأْنُ الْقَضَاءِ. 
وَالثَّانِي: أَدَاءً لِلضَّرُورَةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ نَاقِصًا وَكَانَ رَمَضَانُ تَامًّا، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ قُلْنَا: قَضَاءً لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ آخَرَ، وَإِنْ قُلْنَا: أَدَاءً فَلَا يَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ، وَصَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَلَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَصَامَ شَهْرًا تَامًّا وَكَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، فَإِنْ قُلْنَا: قَضَاءً فَلَهُ إفْطَارُ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ وَرَمَضَانُ تَامَّيْنِ أَوْ نَاقِصَيْنِ أَجْزَأَهُ بِلَا خِلَافٍ، هَذَا كُلُّهُ إذَا وَافَقَ غَيْرَ شَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ، فَإِنْ وَافَقَ شَوَّالًا حَصَلَ مِنْهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا إنْ كَمُلَ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا إنْ نَقَصَ، لِأَنَّ صَوْمَ الْعِيدِ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ قَضَاءً وَكَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ تَمَّ شَوَّالٌ، وَيَقْضِي يَوْمًا إنْ نَقَصَ بَدَلَ الْعِيدِ، وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ تَامًّا قَضَى يَوْمًا إنْ تَمَّ شَوَّالٌ وَإِلَّا فَيَوْمَيْنِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ أَدَاءً لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ بَدَلَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَإِنْ وَافَقَ ذَا الْحِجَّةِ حَصَلَ مِنْهُ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا إنْ تَمَّ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا إنْ نَقَصَ، لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا، الْعِيدُ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ قَضَاءً وَكَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا قَضَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنْ تَمَّ ذُو الْحِجَّةِ وَإِلَّا فَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ تَامًّا قَضَى أَرْبَعَةً إنْ تَمَّ ذُو الْحِجَّةِ وَإِلَّا فَخَمْسَةً، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ أَدَاءً قَضَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِكُلِّ حَالٍ، هَكَذَا ذَكَرَ الْأَصْحَابُ وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا، فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ فَذُو الْحِجَّةِ كَشَوَّالٍ كَمَا سَبَقَ.
الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُصَادِفَ صَوْمُهُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ فَيُنْظَرُ إنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بَعْدَ بَيَانِ الْحَالِ لَزِمَهُ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبِنْ الْحَالُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ رَمَضَانَ فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أحدهما: الْقَطْعُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَأَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: وُجُوبُ الْقَضَاءِ والثاني: لَا قَضَاءَ، قَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَادَفَ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ هَلْ هُوَ أَدَاءٌ أَمْ قَضَاءٌ؟ إنْ قُلْنَا: أَدَاءٌ لِلضَّرُورَةِ أَجْزَأَهُ هُنَا وَلَا قَضَاءَ؛ لِأَنَّهُ كَمَا جُعِلَ أَدَاءً بَعْدَ وَقْتِهِ لِلضَّرُورَةِ كَذَا قَبْلَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: قَضَاءٌ، لَمْ يُجْزِئْهُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَضَاءٌ، فَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ هُنَا، وَهَذَا الْبِنَاءُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ جَعَلَ الْخِلَافَ فِي الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ قَوْلَيْنِ،
وَأَمَّا مَنْ حَكَاهُ وَجْهَيْنِ فَلَا يَصِحُّ بِنَاءُ قَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَوْ صَامَ شَهْرًا ثُمَّ بَانَ لَهُ الْحَالُ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ لَزِمَهُ صِيَامُ مَا أَدْرَكَهُ مِنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي قَضَاءِ الْمَاضِي مِنْهُ طَرِيقَانِ أحدهما: الْقَطْعُ بِوُجُوبِهِ وَأَصَحُّهُمَا: وَأَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ فِيمَا إذَا بَانَ لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ جَمِيعِ رَمَضَانَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -195-       فرع: إذَا صَامَ الْأَسِيرُ وَنَحْوُهُ بِالِاجْتِهَادِ فَصَادَفَ صَوْمُهُ اللَّيْلَ دُونَ النَّهَارِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَقْتًا لِلصَّوْمِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ كَيَوْمِ الْعِيدِ، وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ.
فرع: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي قِيَاسِهِ أَنَّهُ لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَصَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ - يَعْنِي قَوْلًا وَاحِدًا - وَلَا يَكُونُ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي الصَّوْمِ إذَا صَادَفَ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَتِهِ وَطَرِيقَةِ مَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ، وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِلَافَ جَارٍ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَفِي بَابِ الشَّكِّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ. وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ الْخِلَافَ فِي الْمُجْتَهِدِ فِي الْأَوَانِي إذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ النَّجَسِ وَصَلَّى، هَلْ تَلْزَمُهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؟ وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْخِلَافُ فِي تَيَقُّنِ الْخَطَأِ فِي الْقِبْلَةِ، وَفِي الصَّلَاةِ بِنَجَاسَةٍ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، أَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رِحْلَةٍ وَتَيَمَّمَ أَوْ نَسِيَ تَرْتِيبَ الْوُضُوءِ، أَوْ نَسِيَ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ صَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ لِسَوَادٍ رَأَوْهُ فَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ عَدُوًّا أَوْ بَانَ بَيْنَهُمْ خَنْدَقٌ، أَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ فَبَانَ غَنِيًّا، أَوْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مَعْضُوبًا فَبَرِئَ، أَوْ غَلِطُوا وَوَقَفُوا بِعَرَفَاتٍ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ خِلَافٌ بَعْضُهُ كَبَعْضٍ، وَبَعْضُهُ مُرَتَّبٌ عَلَى بَعْضٍ أَوْ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَالصَّحِيحُ فِي الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مُقَرَّرَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا مَبْسُوطَةٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ مَجْمُوعَةً أَيْضًا فِي بَابِ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَسِيرَ وَنَحْوَهُ إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ شُهُورٌ يَتَحَرَّى وَيَصُومُ بِمَا يَظْهَرُ بِالْعَلَامَةِ أَنَّهُ رَمَضَانُ، فَلَوْ تَحَرَّى فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْمِينِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَالْمُصَلِّي إذَا لَمْ تَظْهَرْ الْقِبْلَةُ بِالِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَيَقْضِي، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ دُخُولَ رَمَضَانَ بِيَقِينٍ وَلَا ظَنٍّ لَا يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ، كَمَنْ شَكَّ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، هَذَا كَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ: أحدهما: قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ،
والثاني: قَالَ وَهُوَ الصَّحِيحُ: لَا يُؤْمَرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ دُخُولَ الْوَقْتِ وَلَا ظَنَّهُ فَلَمْ يُؤْمَرْ، بِهِ كَمَنْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ تَحَقَّقَ دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا عَجَزَ عَنْ شَرْطِهَا فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ، وَلَعَلَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ أَرَادَ إذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ رَمَضَانَ قَدْ جَاءَ أَوْ مَضَى وَلَمْ يَعْلَمْ وَلَا ظَنَّ عَيْنَهُ، لَكِنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا لَكَانَ يَصُومُ وَلَا يَقْضِي؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ فِي رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ بِالِاجْتِهَادِ فَأَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ صَادَفَ رَمَضَانَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ الثَّابِتَ بِنَوْعِ دَلَالَةٍ، فَأَشْبَهَ مَنْ وَطِئَ بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي بِالشَّهْرِ بِقَوْلِ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ صَادَفَ شَهْرًا غَيْرَهُ فَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لِحُرْمَةِ رَمَضَانَ وَلَمْ يُصَادِفْ رَمَضَانَ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَوَلَّيْ.

َفرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي صِيَامِ الْأَسِيرِ بِالِاجْتِهَادِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إنْ صَادَفَ صَوْمُهُ رَمَضَانَ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ صَادَفَ مَا قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَخَالَفَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ فَقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَإِنْ صَادَفَ رَمَضَانَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَسَبَقَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ فَرْضِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ.
فرع: إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْأَسِيرُ وَنَحْوُهُ اللَّيْلَ وَلَا النَّهَارَ، بَلْ اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الظُّلْمَةُ دَائِمًا فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ قَلَّ مَنْ ذَكَرَهَا، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ لِلْأَصْحَابِ،
 أَحَدُهَا: يَصُومُ وَيَقْضِي؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ والثاني: لَا يَصُومُ لِأَنَّ الْجَزْمَ بِالنِّيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ جَهَالَةِ الْوَقْتِ والثالث: يَتَحَرَّى وَيَصُومُ وَلَا يَقْضِي كَيَوْمِ الْغَيْمِ فِي الصَّلَاةِ قلت: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّحَرِّي وَالصَّوْمُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيمَا بَعْدُ الْخَطَأُ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَادَفَ اللَّيْلَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ بِلَا خِلَافٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّلَاةِ، وَتَجِبُ النِّيَّةُ لِكُلِّ يَوْمٍ، لِأَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِطُلُوعِ، الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ وَقْتُهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ مَا قَبْلَهُ، وَلَا بِفَسَادِ مَا بَعْدَهُ، فَلَمْ تَكْفِهِ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ كَالصَّلَوَاتِ، وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ [إلا] بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، لِمَا رَوَتْ حَفْصَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ" وَهَلْ تَجُوزُ نِيَّتُهُ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ (مِنْ) أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فَجَازَتْ بِنِيَّةٍ تُقَارِنُ ابْتِدَاءَهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِحَدِيثِ حَفْصَةَ رضي الله عنها وَلِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصَّوْمِ يَخْفَى، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَإِذَا قُلْنَا بِهَذَا فَهَلْ تَجُوزُ النِّيَّةُ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ (مِنْ) أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا تَجُوزُ النِّيَّةُ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، قِيَاسًا عَلَى أَذَانِ الصُّبْحِ وَالدَّفْعِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ؛ لِحَدِيثِ حَفْصَةَ، وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا النِّيَّةَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي ضَاقَ عَلَى النَّاسِ ذَلِكَ وَشَقَّ، وَإِنْ نَوَى بِاللَّيْلِ ثُمَّ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ لَمْ تَبْطُلْ نِيَّتُهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ يُنَافِي الصَّوْمَ فَأَبْطَلَ النِّيَّةَ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: إنَّ أَبَا إِسْحَاقَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ الْأَكْلَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَوْ كَانَ الْأَكْلُ يُبْطِلُ النِّيَّةَ لَمَا جَازَ أَنْ يَأْكُلَ إلَى الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ النِّيَّةَ".
الشرح:
حَدِيثُ
"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَسَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، وَحَدِيثُ حَفْصَةَ رضي الله عنها رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ كَثِيرَةِ الِاخْتِلَافِ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمَوْقُوفًا مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ وَإِسْنَادُهُ

 

ج / 6 ص -196-       صَحِيحٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الطُّرُقِ، فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ بَعْضِ طُرُقِهِ ضَعِيفًا أَوْ مَوْقُوفَةً، فَإِنَّ الثِّقَةَ الْوَاصِلَ لَهُ مَرْفُوعًا مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ، فَيَجِبُ قَبُولُهَا كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ مَرَّاتٍ، وَأَكْثَرُ الْحُفَّاظِ رِوَايَةً لِطُرُقِهِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّسَائِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيَّ، وَذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ فِي طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مَوْقُوفًا عَلَى حَفْصَةَ، وَفِي بَعْضِهَا مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَفِي بَعْضِهَا عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفَهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ[مِنْ] قَوْلِهِ وَهُوَ أَصَحُّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ اخْتَلَفَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي إسْنَادِهِ وَفِي رَفْعِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَقَامَ إسْنَادَهُ وَرَفَعَهُ، وَهُوَ مِنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَفَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ مِنْ الثِّقَاتِ الرُّفَعَاءِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ"مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ قلت: وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ يُحْتَجُّ بِهِ اعْتِمَادًا عَلَى رِوَايَةِ الثِّقَاتِ الرَّافِعِينَ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. 
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ"يُبَيِّتُ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ" وَفِي بَعْضِهَا يُجْمِعَ وَيُجَمِّعُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، وَكُلُّهُ بِمَعْنًى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَاحْتِرَازٌ مِنْ الْعِدَّةِ وَالْكِتَابَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهَا،
أما أحكام الفصل: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
 إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، فَلَا يَصِحُّ صَوْمٌ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا بِنِيَّةٍ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ وَلَا يُشْتَرَطُ نُطْقُ اللِّسَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَكْفِي عَنْ نِيَّةِ الْقَلْبِ بِلَا خِلَافٍ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ مَعَ الْقَلْبِ كَمَا سَبَقَ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ
الثانية: تَجِبُ النِّيَّةُ كُلَّ يَوْمٍ، سَوَاءٌ رَمَضَانُ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، فَلَوْ نَوَى فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ الشَّهْرِ كُلِّهِ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ النِّيَّةُ لِغَيْرِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَلْ تَصِحُّ لِلْيَوْمِ الْأَوَّلِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهَا لَهُ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ وَغَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ فِيهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ مِنْ حَيْثُ إنَّ النِّيَّةَ قَدْ فَسَدَ بَعْضُهَا.
الثالثة: تَبْيِيتُ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ، فَلَا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَلَا الْقَضَاءُ، وَلَا الْكَفَّارَةُ، وَلَا صَوْمُ فِدْيَةُ الْحَجِّ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي صَوْمِ النَّذْرِ طَرِيقَانِ (الْمَذْهَبُ) وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْمُخْتَصَرِ: لَا يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ. والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَسْلُكُ بِهِ فِي الصِّفَاتِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ؟ أَمْ جَائِزِهِ وَمَنْدُوبِهِ إنْ قُلْنَا: كَوَاجِبٍ، لَمْ يَصِحَّ بِنِيَّةِ النَّهَارِ، وَإِلَّا فَيَصِحُّ كَالنَّفْلِ وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الطَّرِيقَ الْمُتَوَلِّي هُنَا وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِي كِتَابِ النَّذْرِ، وَالْمَذْهَبُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَاقِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فِي النَّذْرِ، هَلْ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الْوَاجِبِ؟ أَمْ الْمَنْدُوبِ؟ بِأَنَّ الْحَدِيثَ هُنَا عَامٌّ فِي اشْتِرَاطِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ لِلصَّوْمِ خُصَّ مِنْهُ النَّفَلُ بِدَلِيلٍ، وَبَقِيَ النَّذْرُ عَلَى الْعُمُومِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -197-       قَالَ أَصْحَابُنَا: فَلَوْ نَوَى قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِلَحْظَةٍ، أَوْ عَقِبَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِلَحْظَةٍ لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ نَوَى مَعَ الْفَجْرَ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلَيْهِمَا الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرِ الْمُصَنَّفِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَطَعَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كُتُبِهِ وَآخَرُونَ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي دَلِيلِهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وأما: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ حَيْثُ ذَكَرَ هَذَا ثُمَّ قَالَ: وَلِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَوْجَبَ إمْسَاكَ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ لِيَكْمُلَ لَهُ صَوْمُ جَمِيعِ النَّهَارِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ لِيَسْتَوْعِبَهُ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَجِبُ فِيهِ إمْسَاكُ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ؛ لقوله تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: من الآية187] وَإِنَّمَا يَجِبُ إمْسَاكُ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِيَتَحَقَّقَ كَمَالُ النَّهَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ،
فرع: لَوْ نَوَى بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ صَوْمَ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ لَمْ يَنْعَقِدْ لِمَا نَوَاهُ، وَفِي انْعِقَادِهِ نَفْلًا وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي قَالَ: وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فرع: لَا يَصِحُّ صَوْمُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي رَمَضَانَ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ: تَبْيِيتُ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبِ، وَكَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَتَقْدِيرُهُ: لَا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَلَا يَصِحُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ،
الرابعة: تَصِحُّ النِّيَّةُ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ، مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: فَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ. وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ النِّيَّةُ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ اللَّيْلِ، حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجُمْهُورُ قَائِلَهُ، وَبَيَّنَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَمَالِي فَقَالَ: هُوَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى تَغْلِيطِهِ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فَإِذَا قُلْنَا بِهَذَا فَهَلْ تَجُوزُ النِّيَّةُ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَعِبَارَةٌ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُوهِمُ اخْتِصَاصَ الْخِلَافِ بِمَا إذَا قُلْنَا: لَا تَجُوزُ النِّيَّةُ مَعَ الْفَجْرِ، وَلَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، بَلْ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي جَارٍ سَوَاءٌ جَوَّزْنَا النِّيَّةَ مَعَ الْفَجْرِ أَمْ لَا، لِأَنَّ مَنْ جَوَّزَهَا مَعَ الْفَجْرِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا قَبْلَهُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قِيَاسُ ابْنِ سَلَمَةَ عَلَى أَذَانِ الصُّبْحِ وَالدَّفْعِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فَقِيَاسٌ عَجِيبٌ، وَأَيُّ عِلَّةٍ تَجْمَعُهُمَا؟ ، وَلَوْ جَمَعَتْهُمَا عِلَّةٌ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ اخْتِصَاصَ الْأَذَانِ وَالدَّفْعِ بِالنِّصْفِ الثَّانِي لَا حَرَجَ فِيهِ بِخِلَافِ النِّيَّةِ، فَقَدْ يَسْتَغْرِقُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ النِّصْفَ الثَّانِيَ بِالنَّوْمِ فَيُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ الصَّوْمِ، وَهَذَا حَرَجٌ شَدِيدٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ،
الخامسة: إذَا نَوَى بِاللَّيْلِ الصَّوْمَ ثُمَّ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ أَوْ أَتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُنَافِيَاتِ الصَّوْمِ لَمْ تَبْطُلْ نِيَّتُهُ، وَهَكَذَا لَوْ نَوَى وَنَامَ ثُمَّ انْتَبَهَ قَبْلَ الْفَجْرِ، لَمْ تَبْطُلْ نِيَّتُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُهَا هَذَا هُوَ

 

ج / 6 ص -198-       الصَّوَابُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، إلَّا مَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ، بَلْ الْأَكْثَرُونَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَبْطُلُ نِيَّتُهُ بِالْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُنَافِيَاتِ، وَيَجِبُ تَجْدِيدُهَا فَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْهَا فِي اللَّيْلِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، قَالَ وَكَذَا لَوْ نَوَى وَنَامَ ثُمَّ انْتَبَهَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَزِمَهُ تَجْدِيدُهَا، فَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْهَا لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، وَلَوْ اسْتَمَرَّ نَوْمُهُ إلَى الْفَجْرِ لَمْ يَضُرَّهُ وَصَحَّ صَوْمُهُ. وَهَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ:"وَقِيلَ: إنَّ أَبَا إِسْحَاقَ رَجَعَ عَنْهُ" وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ:" هَذَا النَّقْلُ لَا يَصِحُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ" وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:" رَجَعَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ هَذَا عَامَ حَجَّ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ" وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ:" هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ غَلَطٌ" قَالَ: وَحَكَى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا، قَالَ،" هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ" قَالَ، وَيُسْتَتَابُ أَبُو إِسْحَاقَ هَذَا. وَقَالَ الدَّارِمِيُّ حَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَازِمِيِّ أَنَّهُ حَكَى لِلْإِصْطَخْرِيِّ قَوْلَ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا، فَقَالَ: خَرَقَ الْإِجْمَاعَ، حَكَاهُ الْحَازِمِيُّ لِأَبِي إِسْحَاقَ بِحَضْرَةِ ابْنِ الْقَطَّانِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ رَجَعَ، فَحَصَلَ أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُبْطَلُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَفِي كَلَامِ الْعِرَاقِيِّينَ تَرَدُّدٌ فِي أَنَّ الْغَفْلَةَ هَلْ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّوْمِ؟ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَهَا يَجِبُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْسُوبِ إلَى أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: وَالْمَذْهَبُ اطِّرَاحُ كُلِّ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ،.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ كَالْفَرْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَصْبَحَ الْيَوْمَ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ تُطْعِمُونَ؟ فَقَالَتْ: لَا، فَقَالَ: إنِّي إذَنْ صَائِمٌ" وَيُخَالِفُ الْفَرْضَ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ أَخَفُّ مِنْ الْفَرْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ الصِّيَامِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْفَرْضِ، وَهَلْ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
رَوَى حَرْمَلَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ النَّهَارِ، فَجَازَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ فِيهِ، كَالنِّصْفِ الْأَوَّلِ وَقَالَ:فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَصْحَبْ مُعْظَمَ الْعِبَادَةِ فَأَشْبَهَ إذَا نَوَى مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيُخَالِفُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ النِّيَّةَ هُنَاكَ صَحِبَتْ مُعْظَمَ الْعِبَادَةِ وَمُعْظَمُ الشَّيْءِ يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ كُلِّ الشَّيْءِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَ مُعْظَمَ الرَّكْعَةِ مَعَ الْإِمَامِ جُعِلَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَلَوْ أَدْرَكَ دُونَ الْمُعْظَمِ لَمْ يُجْعَلْ مُدْرِكًا لَهَا، فَإِنْ صَامَ التَّطَوُّعَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ فَهَلْ يَكُونُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَمْ مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَكُونُ صَائِمًا مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ النِّيَّةِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، فَلَمْ يُجْعَلْ صَائِمًا فِيهِ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ صَائِمٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَائِمًا مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ لَمْ يَضُرَّهُ الْأَكْلُ قَبْلَهَا".
الشَّرْحُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ قَالَتْ:"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ:
يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ" هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"إذَنْ أَصُومُ" وَقَوْلُه صلى الله عليه وسلم: "إذَنْ أَصُومُ" مَعْنَاهُ أَبْتَدِئُ نِيَّةَ الصِّيَامِ، هَذَا مُقْتَضَاهُ، وَسَأَذْكُرُ بَاقِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِمَعْنَاهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

 

ج / 6 ص -199-       أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَصِحُّ صَوْمُ النَّفْلِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَشَذَّ عَنْ الْأَصْحَابِ الْمُزَنِيّ وَأَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ فَقَالَا: لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ وَالْوَجْهِ فِي الْكِتَابِ، وَهَلْ تَصِحُّ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي مُعْظَمِ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ، وَفِي الْقَدِيمِ: لَا يَصِحُّ وَنَصَّ فِي كِتَابَيْنِ مِنْ الْجَدِيدِ عَلَى صِحَّتِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي حَرْمَلَةَ، وَفِي كِتَابِ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ كُتُبِ الْأُمِّ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ فِي جَمِيعِ سَاعَاتِ النَّهَارِ، وَفِي آخِرِ سَاعَةٍ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَّصِلَ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِالنِّيَّةِ، بَلْ يَبْقَى بَيْنَهُمَا زَمَنٌ وَلَوْ أَدْنَى لَحْظَةً، صَرَّحَ بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ وَصَحَّحْنَاهُ، فَهَلْ هُوَ صَائِمٌ مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ فَقَطْ، وَلَا يُحْسَبُ لَهُ ثَوَابُ مَا قَبْلَهُ؟ أَمْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيُثَابُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أصحهما: عِنْدَ الْأَصْحَابِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ الْمَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ وَالْمُتَوَلِّي: الْوَجْهُ الْقَائِلُ: يُثَابُ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ، هُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ: هُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ، قَالُوا وَقَوْلُهُ" لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعِبَادَةَ قَبْلَ النِّيَّةِ" لَا أَثَرَ لَهُ، فَقَدْ يُدْرِكُ بَعْضَ الْعِبَادَةِ وَيُثَابُ كَالْمَسْبُوقِ يُدْرِكُ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَيَحْصُلُ لَهُ ثَوَابَ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ وَبِهَذَا رَدُّوا عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 
وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَنْ نَوَى الْوُضُوءَ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ وَلَمْ يَنْوِ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَغَسْلِ الْكَفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ يَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ وَلَوْ حُذِفَتْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْهُ صَحَّ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ قُلْنَا: يُثَابُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، اُشْتُرِطَتْ جَمِيعُ شُرُوطِ الصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَإِنْ كَانَ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ أَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُنَافِيَاتِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: يُثَابُ مِنْ أَوَّلِ النِّيَّةِ فَفِي اشْتِرَاطِ خُلُوِّ أَوَّلِ النَّهَارِ عَنْ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَغَيْرِهِمَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ أصحهما: الِاشْتِرَاطُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ والثاني: لَا يُشْتَرَطُ، فَلَوْ كَانَ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ أَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفِيَّاتِ ثُمَّ نَوَى صَحَّ صَوْمُهُ وَيُثَابُ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ. وَحَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَجْهًا مُخَرَّجًا، قَالَا: وَالْمُخَرِّجُ لَهُ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَحَكَاهُ الْمُتَوَلِّي: عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ طَلْحَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم، وَمَا أَظُنُّهُ صَحِيحًا عَنْهُمْ،
فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ شَرْطٌ، فَلَوْ كَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ كَافِرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ حَائِضًا ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَنَوَى صَوْمَ التَّطَوُّعِ فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أصحهما: لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلصَّوْمِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -200-       قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي السِّلْسِلَةِ: الْوَجْهَانِ فِي وَقْتِ ثَوَابِ الصَّائِمِ هُنَا، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ قُدُومِ زَيْدٍ فَقَدِمَ نَحْوَهُ وَهُوَ صَائِمٌ هَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ نَذْرِهِ؟ إنْ قُلْنَا: يُجْزِئُهُ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ هُنَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِلَّا فَمِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ،.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ فَرِيضَةٌ وَهُوَ قُرْبَةٌ مُضَافَةٌ إلَى وَقْتِهَا فَوَجَبَ تَعْيِينُ الْوَقْتِ فِي نِيَّتِهَا كَصَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ فَرْضِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ قَدْ يَكُونُ نَفْلًا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ فَافْتَقَرَ إلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ صَوْمِ الصَّبِيِّ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَفْتَقِرُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْبَالِغِ لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ الْفَرْضِ فَإِنْ نَوَى فِي لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: إنْ كَانَ غَدٌ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ عَنْ رَمَضَانَ أَوْ عَنْ تَطَوُّعٍ فَكَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ لِعِلَّتَيْنِ إحداهما: أَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِرَمَضَانَ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ رَمَضَانَ[وَلِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ]1 وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ غَدٌ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ عَنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ عَنْ تَطَوُّعٍ لَمْ يَصِحَّ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا تَصِحُّ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ، فَإِنْ قَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ: إنْ[كَانَ] غَدٌ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ عَنْ رَمَضَانَ أَوْ الْفِطْرِ، فَكَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِلصَّوْمِ وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ غَدٌ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ عَنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا مُفْطِرٌ، فَكَانَ مِنْ رَمَضَانَ صَحَّ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْلَصَ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ وَبَنَى عَلَى أَصْلٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ".
الشرح:
قَوْلُهُ: قُرْبَةٌ مُضَافَةٌ إلَى وَقْتِهَا احْتِرَازٌ مِنْ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَعْيِينُهَا عَنْ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ غَيْرِهِمَا،
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِلُ إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لَا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَا قَضَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا فِدْيَةُ حَجٍّ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
:"وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ، لِأَنَّ أَصْلَ النِّيَّةِ فُهِمَ اشْتِرَاطُهُ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ إلَّا الْمُتَوَلِّي فَحَكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ مَرْدُودٌ.
الثانية: صِفَةُ النِّيَّةِ الْكَامِلَةِ الْمُجْزِئَةِ بِلَا خِلَافٍ أَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ صَوْمَ غَدٍ عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ رَمَضَانَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط).

 

 

ج / 6 ص -201-       هَذِهِ السَّنَةَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَكَذَا رَمَضَانُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ إلَّا وَجْهَ الْحَلِيمِيِّ السَّابِقَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَأَمَّا الْأَدَاءُ وَالْفَرِيضَةُ فَفِيهِمَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ سَبَقَ مُوَضَّحًا بِدَلِيلِهِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا وَهُنَاكَ أَنَّ الْأَدَاءَ لَا يُشْتَرَطُ، وَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَاخْتَلَفُوا فِي الْأَصَحِّ هُنَاكَ وَهُنَا، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ هُنَاكَ الِاشْتِرَاطُ وَالْأَصَحُّ هُنَا أَيْضًا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ، الِاشْتِرَاطُ وَالْأَصَحُّ هُنَا عِنْدَ الْبَنْدَنِيجِيِّ وَصَاحِبِ الشَّامِلِ وَالْأَكْثَرِينَ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مِنْ الْبَالِغِ لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا، وَصَلَاةَ الظُّهْرِ مِنْ الْبَالِغِ قَدْ تَكُونُ نَفْلًا فِي حَقِّ مَنْ صَلَّاهَا ثَانِيًا فِي جَمَاعَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ أَنَّ فِيهَا وَجْهَيْنِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، ذَكَرَهُمَا الْخُرَاسَانِيُّونَ أصحهما: لَا تَجِبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِهَذِهِ السَّنَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَآخَرُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَجْهًا فِي اشْتِرَاطِهِ وَغَلَّطُوا قَائِلَهُ، وَحَكَى الْبَغَوِيّ وَجْهًا فِي اشْتِرَاطِ فَرْضِ هَذَا الشَّهْرِ، وَهُوَ بِمَعْنَى فَرْضِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ أَيْضًا غَلَطٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ: إذَا نَوَى يَوْمًا وَأَخْطَأَ فِي وَصْفِهِ لَا يَضُرُّهُ مِثَالُهُ: نَوَى لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ صَوْمَ الْغَدِ، وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ نَوَى صَوْمَ غَدٍ مِنْ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةَ وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ فَكَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ صَحَّ صَوْمُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ صَوْمَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، أَوْ نَوَى وَهُوَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ صَوْمَ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الْوَقْتَ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْفَرْعَ كَمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَالدَّارِمِيُّ، لَكِنْ قَالَ الدَّارِمِيُّ: لَوْ نَوَى صَوْمَ غَدٍ يَوْمَ الْأَحَدِ وَهُوَ غَيْرُهُ فَوَجْهَانِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الشَّامِلِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
فرع: قَالَ الرَّافِعِيُّ: اشْتِرَاطُ الْغَدِ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ التَّعْيِينِ، قَالَ: وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِنْ حَدِّ التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ نَظَرِهِمْ إلَى التَّبْيِيتِ،
فرع: حُكْمُ التَّعْيِينِ فِي صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ سَبَبِ الْكَفَّارَةِ، لَكِنْ لَوْ عَيَّنَ وَأَخْطَأَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْكَفَّارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إيضَاحُهُ، وَسَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ فِي بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ، وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ فَيَصْحُ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ التَّعْيِينُ فِي الصَّوْمِ الْمُرَتَّبِ كَصَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ وَأَيَّامِ الْبِيضِ وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ وَنَحْوِهَا، كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الرَّوَاتِبِ مِنْ نَوَافِلِ الصَّلَاةِ.
الثالثة: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ جَازِمَةً، فَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ صَوْمَ غَدٍ إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَلَهُ حَالَانِ أحدهما: أَنْ لَا يَعْتَقِدَ كَوْنَهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ رَدَّدَ نِيَّتَهُ فَقَالَ: أَصُومُ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ وَإِلَّا فَأَنَا مُفْطِرٌ أَوْ مُتَطَوِّعٌ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ رَمَضَانَ إذَا بَانَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ صَامَ شَاكًّا وَلَمْ يَكُنْ عَلَى أَصْلٍ يَسْتَصْحِبُهُ وَلَا ظَنٍّ يَعْتَمِدُهُ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ: يُجْزِئُهُ عَنْ رَمَضَانَ، وَلَوْ قَالَ: أَصُومُ غَدًا عَنْ رَمَضَانَ أَوْ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِئْهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ لَمْ يُرَدِّدْ نِيَّتَهُ بَلْ جَزَمَ بِالصَّوْمِ عَنْ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ

 

ج / 6 ص -202-       وَإِنْ صَادَفَ رَمَضَانَ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رَمَضَانَ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ الْجَزْمُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ حَدِيثُ نَفْسٍ لَا اعْتِبَارَ بِهِ،
وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَجْهًا عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ رَمَضَانَ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، أَمَّا: إذَا كَانَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ فَقَالَ: لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْهُ أَصُومُ غَدًا إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَتَطَوَّعُ، أَوْ قَالَ: أَصُومُ أَوْ أُفْطِرُ وَصَادَفَ رَمَضَانَ فَلَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ، وَإِنْ قَالَ: أَصُومُ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَأَنَا مُفْطِرٌ، فَكَانَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ رَمَضَانَ فَأَجْزَأَهُ اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَ كَوْنَهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ اعْتِقَادُهُ إلَى مَا يُثِيرُ ظَنًّا فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ اسْتَنَدَ إلَيْهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْمُخْتَصَرِ: لَوْ عَقَدَ رَجُلٌ عَلَى أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فِي يَوْمِ الشَّكِّ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَهَذَا نَصُّهُ
قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ اسْتَنَدَ إلَى مَا يَحْصُلُ ظَنًّا، بِأَنْ اعْتَمَدَ قَوْلَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صِبْيَانٍ ذَوِي رُشْدٍ، وَنَوَى صَوْمَ رَمَضَانَ فَبَانَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ بِلَا خِلَافٍ، هَكَذَا نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي، وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ الصِّبْيَانَ، وَصَرَّحَ بِهِ كُلَّهُ آخَرُونَ، مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ فَصَرَّحَ بِالصِّبْيَانِ ذَوِي الرُّشْدِ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ: لَوْ نَوَى الصَّوْمَ بِرُؤْيَةِ مَنْ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إلَيْهِ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ فَاسِقٍ أَوْ مُرَاهِقٍ وَكَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِاعْتِمَادِ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ وَصِحَّةِ الصَّوْمِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ، فَإِنْ قَالَ فِي نِيَّتِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَصُومُ عَنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَهُوَ تَطَوُّعٌ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: فَظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ،
قَالَ الْإِمَامُ: وَذَكَرَ طَوَائِفُ مِنْ الْأَصْحَابِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَصِحُّ لِاسْتِنَادِهِ إلَى أَصْلٍ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ، وَرَأَى الْإِمَامُ طَرْدَ الْخِلَافِ، وَإِنْ جَزَمَ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْجَزْمُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ لَهُ حَدِيثُ نَفْسٍ وَإِنْ سَمَّاهُ جَزْمًا، قَالُوا: وَيَدْخُلُ فِي قِسْمِ اسْتِنَادِ الِاعْتِقَادِ إلَى مَا يُثِيرُ ظَنًّا الصَّوْمُ مُسْتَنِدًا إلَى دَلَالَةِ الْحِسَابِ بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهُ كَمَا سَبَقَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمِنْ ذَلِكَ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِثُبُوتِ رَمَضَانَ بِعَدْلَيْنِ أَوْ بِعَدْلٍ إذَا جَوَّزْنَاهُ، فَيَجِبُ الصَّوْمُ وَيُجْزِئُ إذَا بَانَ مِنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَضُرُّ مَا قَدْ يَبْقَى مِنْ الِارْتِيَابِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِحُصُولِ الِاسْتِنَادِ إلَى ظَنٍّ مُعْتَمَدٍ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمِنْ ذَلِكَ الْأَسِيرُ وَالْمَحْبُوسُ فِي مَطْمُورَةٍ إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَبْسُوطًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ: أَصُومُ غَدًا نَفْلًا إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ، وَإِلَّا فَمِنْ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَارَةٌ وَلَا غَيْرُهَا فَصَادَفَ شَعْبَانَ صَحَّ صَوْمُهُ نَفْلًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ، صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ، وَإِنْ صَادَفَ رَمَضَانَ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ فَقَالَ: أَصُومُ غَدًا عَنْ الْقَضَاءِ أَوْ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْقَضَاءِ بِلَا خِلَافٍ

 

ج / 6 ص -203-       لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ، وَيَصِحُّ نَفْلًا إذَا كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ وَنَوَى الْخُرُوجَ مِنْهُ بَطَلَ صَوْمُهُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِهِ، فَإِذَا قَطَعَهَا فِي أَثْنَائِهِ بَقِيَ الْبَاقِي بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَبَطَلَ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَعْضُ بَطَلَ الْجَمِيعُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ الْكَفَّارَةُ بِجِنْسِهَا، فَلَمْ تَبْطُلْ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ كَالْحَجِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِمَا يُفْسِدُهُ، وَالصَّوْمُ يُخْرَجُ مِنْهُ بِمَا يُفْسِدُهُ فَكَانَ كَالصَّلَاةِ".
الشرح
: قَوْلُهُ وَتَتَعَلَّقُ الْكَفَّارَةُ بِجِنْسِهَا احْتِرَازٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُ: يُخْرَجُ مِنْ الصَّوْمِ بِمَا يُفْسِدُهُ وَلَا يُخْرَجُ مِنْ الْحَجِّ بِمَا يُفْسِدُهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أَبْطَلَ الصَّوْمَ بِالْأَكْلِ أَوْ غَيْرِهِ صَارَ خَارِجًا مِنْهُ، فَلَوْ جَامَعَ بَعْدَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ آثِمًا بِهَذَا الْجِمَاعِ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ، وَلَكِنْ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ لِحُرْمَةِ الْيَوْمِ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ الصَّوْمَ بِالْجِمَاعِ، وَهَذَا لَمْ يُفْسِدْ بِجِمَاعِهِ صَوْمًا.
وأما: الْحَجُّ فَإِذَا أُفْسِدَ بِالْجِمَاعِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِالْإِفْسَادِ، بَلْ حُكْمُ إحْرَامِهِ بَاقٍ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَلَوْ قَتَلَ بَعْدُ صَيْدًا أَوْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ، بَلْ هُوَ مُحْرِمٌ كَمَا كَانَ فَهَذَا مُرَادُ الْمُصَنِّفُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي الْخُرُوجِ وَعَدَمِهِ، وَمُتَّفِقَانِ فِي وُجُوبِ الْمُضِيِّ فِي فَاسِدِهِمَا،
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَإِذَا دَخَلَ فِي صَوْمٍ ثُمَّ نَوَى قَطْعَهُ، فَهَلْ يَبْطُلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْبَغَوِيِّ وَآخَرِينَ بُطْلَانُهُ وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَبْطُلُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَائِلِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ مَا يَبْطُلُ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ، وَمَا لَا يَبْطُلُ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَسَبَقَ أَيْضًا فِي بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، هَذَا إذَا جَزَمَ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ فِي الْحَالِ فَلَوْ تَرَدَّدَ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ أَوْ عَلَّقَ الْخُرُوجَ عَلَى دُخُولِ زَيْدٍ مَثَلًا، فَالْمَذْهَبُ - وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ - لَا يَبْطُلُ وَجْهًا وَاحِدًا،
والثاني: عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ جَزَمَ بِالْخُرُوجِ، فَإِنْ قُلْنَا فِي التَّعْلِيقِ: إنَّهُ لَا يَبْطُلُ فَدَخَلَ زَيْدٌ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ هَلْ يَبْطُلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: لَا يَبْطُلُ حَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبَغَوِيّ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ نَوَى أَنَّهُ سَيُفْطِرُ بَعْدَ سَاعَةٍ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ، وَمَتَى نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّوْمِ بِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ وَنَحْوِهِمَا وَقُلْنَا: إنَّهُ يَبْطُلُ، فَالْمَشْهُورُ بُطْلَانُهُ فِي الْحَالِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهَيْنِ أحدهما: هَذَا والثاني: لَا يَبْطُلُ حَتَّى يَمْضِيَ زَمَانُ إمْكَانِ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ كَانَ صَائِمًا عَنْ نَذْرٍ فَنَوَى قَلْبُهُ إلَى كَفَّارَةٍ أَوْ عَكْسِهِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي وَالْأَصْحَابُ: لَا يَحْصُلُ لَهُ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ نِيَّةَ الْخُرُوجِ

 

ج / 6 ص -204-       لَا تُبْطِلُهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ وَلَا أَثَرَ لِمَا جَرَى، وَإِنْ قُلْنَا: تُبْطِلُهُ، فَهَلْ يَبْطُلُ؟ أَمْ يَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ فِيهِ خِلَافٌ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ، فِيمَنْ نَوَى قَلْبَ صَلَاةِ الظُّهْرِ عَصْرًا وَشَبَهَهُ. وَقَدْ سَبَقَ إيضَاحُ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: وَهَذَا الْوَجْهُ فِي انْقِلَابِهِ نَفْلًا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَإِلَّا فَرَمَضَانُ لَا يَقَعُ فِيهِ نَفْلٌ أَصْلًا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ
إحداها: إذَا نَوَتْ الْحَائِضُ صَوْمَ الْغَدِ قَبْلَ انْقِطَاعِ دَمِ حَيْضِهَا ثُمَّ انْقَطَعَ فِي اللَّيْلِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً يَتِمُّ لَهَا فِي اللَّيْلِ أَكْثَرُ الْحَيْضِ، أَوْ مُعْتَادَةً عَادَتُهَا أَكْثَرُ الْحَيْضِ، وَهِيَ تُتِمُّ فِي اللَّيْلِ صَحَّ صَوْمُهَا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ نَهَارَهَا كُلَّهُ طُهْرٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا دُونَ أَكْثَرِهِ وَيَتِمُّ بِاللَّيْلِ فَوَجْهَانِ أصحهما: تَصِحُّ نِيَّتُهَا وَصَوْمُهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ عَادَتِهَا، فَقَدْ بَنَتْ نِيَّتَهَا عَلَى أَصْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ أَوْ كَانَتْ وَلَا يَتِمُّ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي اللَّيْلِ، أَوْ كَانَتْ لَهَا عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهَا لَمْ تَجْزِمْ وَلَا بَنَتْ عَلَى أَصْلٍ وَلَا أَمَارَةٍ،.
الثانية: قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ تَسَحَّرَ لِيَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ أَوْ عَزَمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ أَنْ يَتَسَحَّرَ فِي آخِرِهِ لِيَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نِيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ قَصْدُ الشُّرُوعِ فِي الْعِبَادَةِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَكَارِمِ فِي الْعُدَّةِ: لَوْ قَالَ فِي اللَّيْلِ: أَتَسَحَّرُ لِأَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ، لَمْ يَكْفِ هَذَا فِي النِّيَّةِ، قَالَ: وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ نَوَادِرِ الْأَحْكَامِ لِأَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَتَسَحَّرُ لِلصَّوْمِ أَوْ أَشْرَبُ لَدَفْعِ الْعَطَشِ نَهَارًا أَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ كَانَ ذَلِكَ نِيَّةً لِلصَّوْمِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ إنْ خَطَرَ بِبَالِهِ الصَّوْمُ بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ، لِأَنَّهُ إذَا تَسَحَّرَ لِيَصُومَ صَوْمَ كَذَا فَقَدْ قَصِدَهُ،.
الثالثة: لَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ بِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ أَوْ وُقُوعَ الصَّوْمِ وَبَقَاءَ الْحَيَاةِ إلَى تَمَامِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ قَصَدَ تَعْلِيقَهُ وَالشَّكَّ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنْ قَالَ: أَصُومُ غَدًا إنْ شَاءَ زَيْدٌ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ النِّيَّةَ، وَإِنْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَوَجْهَانِ الصَّحِيحُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ كَقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ زَيْدٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ وَشَأْنُهُ أَنْ يُوقِعَ مَا نَطَقَ بِهِ والثاني: يَصِحُّ صَوْمُهُ هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَجَمَعَ صَاحِبُ الْبَيَانِ كَلَامَ الْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ: أَصُومُ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ يَصِحُّ، لِأَنَّ الْأُمُورَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. والثاني: لَا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّيْمَرِيِّ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُبْطِلُ حُكْمَ مَا اتَّصَلَ بِهِ. والثالث: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ: إنْ قَصَدَ الشَّكَّ فِي فِعْلِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ قَصَدَ أَنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَمْكِينِهِ صَحَّ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ التَّفْصِيلُ السَّابِقُ،.
الرابعة: إذَا نَسِيَ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، لِأَنَّ

 

ج / 6 ص -205-       شَرْطَ النِّيَّةِ اللَّيْلُ، وَيَلْزَمُهُ إمْسَاكُ النَّهَارِ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ فِي أَوَّلِ نَهَارِهِ الصَّوْمَ عَنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَحْتَاطُ بِالنِّيَّةِ.
الخامسة: إذَا نَوَى وَشَكَّ، هَلْ كَانَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَقَدْ قَطَعَ الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ وَجْهٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، كَمَنْ شَكَّ هَلْ أَدْرَكَ رُكُوعَ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ فِي حُصُولِ الرَّكْعَةِ لَهُ خِلَافًا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ، الْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ، وَلَوْ نَوَى ثُمَّ شَكَّ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَمْ لَا؟ أَجْزَأَهُ وَصَحَّ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْبَيَانِ، قَالَ هُوَ وَالصَّيْمَرِيُّ: وَلَوْ أَصْبَحَ شَاكًّا فِي أَنَّهُ نَوَى أَمْ لَا؟ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ.
السادسة: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يَتَعَيَّنُ رَمَضَانُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُهُ، فَلَوْ نَوَى فِيهِ الْحَاضِرُ أَوْ الْمُسَافِرُ أَوْ الْمَرِيضُ صَوْمَ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ تَطَوُّعٍ أَوْ أَطْلَقَ نِيَّةَ الصَّوْمِ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ، وَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ، لَا عَمَّا نَوَاهُ، وَلَا عَنْ رَمَضَانَ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي الطُّرُقِ إلَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَقَالَ: لَوْ أَصْبَحَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ غَيْرَ نَاوٍ، فَنَوَى التَّطَوُّعَ قَبْلَ الزَّوَالِ، قَالَ الْجَمَاهِيرُ: لَا يَصِحُّ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يَصِحُّ، قَالَ الْإِمَامُ: فَعَلَى قِيَاسِهِ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ التَّطَوُّعُ بِهِ وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ، وَاحْتَجَّ لَهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّ التَّشَبُّهَ بِالصَّائِمِينَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ جِنْسُ تِلْكَ الْعِبَادَةِ مَعَ قِيَامِ فَرْضِ التَّشَبُّهِ، كَمَا لَوْ أَفْسَدَ الْحَجَّ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ إحْرَامًا آخَرَ صَحِيحًا لَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
السابعة: قَالَ الْمُتَوَلِّي فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مَسَائِلِ النِّيَّةِ: لَوْ نَوَى فِي اللَّيْلِ ثُمَّ قَطَعَ النِّيَّةَ قَبْلَ الْفَجْرِ سَقَطَ حُكْمُهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ النِّيَّةِ ضِدٌّ لِلنِّيَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَ بَعْدَ النِّيَّةِ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ ضِدَّهَا.
الثَّامِنَةُ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ نَوَى صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ صَوْمٌ أَصْلًا، لِأَنَّ رَمَضَانَ لَا يُقْبَلُ غَيْرُهُ كَمَا سَبَقَ، وَلَمْ يَنْوِ رَمَضَانَ مِنْ اللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَنْعَقِدْ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا نِيَّةُ اللَّيْلِ، وَهَلْ يَنْعَقِدُ نَفْلًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ نَوَى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَعَ نَظَائِرِهَا فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ.
التَّاسِعَةُ: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ حِكَايَةً عَنْهُ: لَوْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمًا وَاجِبًا لَا يَدْرِي هَلْ هُوَ مِنْ رَمَضَانَ؟ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، فَنَوَى صَوْمًا وَاجِبًا أَجْزَأَهُ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ لَا يَعْرِفُ عَيْنَهَا، فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْخَمْسَ وَيُجْزِئُهُ عَمَّا عَلَيْهِ وَيُعْذَرُ فِي عَدَمِ جَزْمِ النِّيَّةِ لِلضَّرُورَةِ.
الْعَاشِرَةُ: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ حِكَايَةً عَنْهُ: لَوْ قَالَ: أَصُومُ غَدًا إنْ شَاءَ زَيْدٌ أَوْ نَشَطْتُ لَمْ تَصِحَّ لِعَدَمِ الْجَزْمِ، وَإِنْ قَالَ: مَا كُنْتُ صَحِيحًا مُقِيمًا أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ لَوْ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ شَكَّ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، هَلْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ؟ ثُمَّ تَذَكَّرَ بَعْدَ مُضِيِّ أَكْثَرِ النَّهَارِ أَنَّهُ

 

ج / 6 ص -206-       نَوَى، صَحَّ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي الْفَتَاوَى وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، وَقَاسَهُ الْبَغَوِيّ عَلَى مَا لَوْ شَكَّ الْمُصَلِّي فِي النِّيَّةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ قَبْلَ إحْدَاثِ رُكْنٍ.
الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ وَنَوَى قَضَاءَ الْيَوْمِ الثَّانِي، فَفِي إجْزَائِهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ، وَجَزَمَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، قَالَ: وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةٍ فَنَوَى قَضَاءَهُ مِنْ صَوْمِ[أَيَّامٍ] أُخْرَى غَلَطًا لَا يُجْزِئُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ قَتْلٍ قَتَلَ فَأَعْتَقَ بِنِيَّةِ كَفَّارَةِ ظِهَارٍ لَا يُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ عَنْ وَاجِبِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ احْتِمَالَيْنِ لَهُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ النَّقْلَ فِيهَا.
الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ: فِي مَسَائِلَ جَمَعَهَا الدَّارِمِيُّ هُنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ عَلَى شَكٍّ، وَذَكَرَ الْمَسَائِلَ السَّابِقَةَ قَرِيبًا إذَا نَوَى يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ الْغَدِ فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ مُتَطَهِّرًا وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَتَوَضَّأَ وَقَالَ: إنْ كُنْتُ مُحْدِثًا فَهَذَا لِرَفْعِهِ وَإِلَّا فَتَبَرُّدٌ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَقَالَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ عَمَلًا بِالْأَصْلِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَوْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ فَنَوَى إنْ كَانَتْ دَخَلَتْ فَعَنْهَا وَإِلَّا فَنَافِلَةٌ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَشَكَّ فِي أَدَائِهَا فَقَالَ: أُصَلِّي عَنْهَا إنْ كَانَتْ وَإِلَّا فَنَافِلَةٌ فَكَانَتْ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ قَالَ: نَوَيْتُهَا إنْ كَانَتْ أَوْ نَافِلَةً لَمْ يُجْزِئْهُ إنْ كَانَتْ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الصَّوْمِ. وَلَوْ أَخْرَجَ دَرَاهِمَ وَنَوَى: هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي إنْ كُنْتُ كَسَبْتُ نِصَابًا أَوْ نَافِلَةً، أَوْ قَالَ: وَإِلَّا فَهِيَ نَافِلَةٌ لَمْ يُجْزِئْهُ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَسْبِ، وَلَوْ أَحْرَمَ فِي يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ شَاكٌّ فَقَالَ: إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَإِحْرَامِي بِعُمْرَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَوَّالٍ فَهُوَ حَجٌّ، فَكَانَ مِنْ شَوَّالٍ كَانَ حَجًّا صَحِيحًا، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ فِي آخِرِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: إنْ كَانَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ بَاقِيًا فَجُمُعَةٌ وَإِلَّا فَظُهْرٌ، فَبَانَ بَقَاؤُهُ فَفِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ وَجْهَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمٌ إلَّا بِنِيَّةٍ، سَوَاءٌ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ مِنْ رَمَضَانَ وَغَيْرُهُ وَالتَّطَوُّعُ، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا عَطَاءً وَمُجَاهِدًا وَزُفَرَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنْ كَانَ الصَّوْمُ مُتَعَيَّنًا بِأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مُقِيمًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا صَوْمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَاحْتُجَّ لِعَطَاءٍ وَمُوَافِقِيهِ بِأَنَّ رَمَضَانَ مُسْتَحَقُّ الصَّوْمِ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى نِيَّةٍ،
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" وَبِحَدِيثِ حَفْصَةَ السَّابِقِ، وَقِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ لُغَةً وَشَرْعًا، وَلَا يَتَمَيَّزُ الشَّرْعِيُّ عَنْ اللُّغَوِيِّ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَوَجَبَ التَّمْيِيزُ.
وَالْجَوَابُ: عَمَّا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهَا إلَّا قَدْرُ الْفَرْضِ فَإِنَّ هَذَا الزَّمَانَ

 

ج / 6 ص -207-       مُسْتَحِقٌّ لِفِعْلِهَا، وَيَمْنَعُ مِنْ إيقَاعِ غَيْرِهَا فِيهِ، وَتَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ ذَلِكَ الزَّمَانَ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِيهِ صَلَاةٌ أُخْرَى لَكِنْ لَوْ فُعِلَتْ انْعَقَدَتْ، وَقَدْ يُنَازَعُ فِي انْعِقَادِهَا؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا لَوْ فُعِلَتْ فِي وَقْتِ النَّهْيِ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ قَالَ: وَكَذَا النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ وَوَافَقْنَا عَلَى صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"بَعَثَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي وَهِيَ الْقُرَى الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يَصُومُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ" قَالُوا: وَكَانَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ وَاجِبًا - ثُمَّ نُسِخَ - وَقِيَاسًا عَلَى صَوْمِ النَّفْلِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ حَفْصَةَ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنهما"لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ" وَهُمَا صَحِيحَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى صَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَالْقَضَاءِ،
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ حَدِيثِ عَاشُورَاءَ بِجَوَابَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَإِنَّمَا كَانَ تَطَوُّعًا مُتَأَكَّدًا شَدِيدَ التَّأْكِيدِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا والثاني: أَنَّهُ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَكَانَ ابْتِدَاءُ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ حِينِ بَلَغَهُمْ وَلَمْ يُخَاطَبُوا بِمَا قَبْلَهُ كَأَهْلِ قُبَاءَ فِي اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَإِنَّ اسْتِقْبَالَهَا بَلَغَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَاسْتَدَارُوا وَهُمْ فِيهَا مِنْ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَأَجْزَأَتْهُمْ صَلَاتُهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْحُكْمُ إلَّا حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ قَدْ سَبَقَ قَبْلَ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَيَصِيرُ هَذَا كَمَنْ أَصْبَحَ بِلَا نِيَّةٍ ثُمَّ نَذَرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَجَابَ الْمَاوَرْدِيُّ بِجَوَابٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاشُورَاءُ وَاجِبًا فَقَدْ نُسِخَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِذَا نُسِخَ حُكْمُ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ غَيْرُهُ،
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التَّطَوُّعِ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ التَّطَوُّعَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ وَثَبَتَ حَدِيثُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ حَدِيثَ التَّبْيِيتِ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ وَغَيْرَهُ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ صَوْمٍ
مَذْهَبُنَا أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، سَوَاءٌ نِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَالتَّطَوُّعِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَدَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا نَوَى فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ جَمِيعِهِ كَفَاهُ لِجَمِيعِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رِوَايَتَانِ أصحهما: كَمَذْهَبِنَا وَالثَّانِيَةُ: كَمَالِكٍ، وَاحْتُجَّ لِمَالِكٍ بِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَفَتْهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، كَالْحَجِّ وَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا يَرْتَبِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَلَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ

 

ج / 6 ص -208-       فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ
مَذْهَبُنَا أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَفِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْفَرِيضَةِ وَجْهَانِ أصحهما: لَا يُشْتَرَطُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ والثاني: يُشْتَرَطُ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَبِوُجُوبِ التَّعْيِينِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد وَالْجُمْهُورُ، وَأَوْجَبَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ نِيَّةَ الْفَرِيضَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَوْ نَوَى فِيهِ صَوْمًا وَاجِبًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا أَوْ تَطَوُّعًا وَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مُقِيمًا، وَكَذَا صَوْمُ النَّذْرِ الْمُتَعَيَّنِ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ قَالَ: فَلَوْ كَانَ مُسَافِرًا وَنَوَى فَرْضًا آخَرَ وَقَعَ عَنْ ذَلِكَ الْفَرْضِ، وَإِنْ نَوَى تَطَوُّعًا فَهَلْ يَقَعُ تَطَوُّعًا كَمَا نَوَى؟ أَمْ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحَجِّ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَبِالْقِيَاسِ عَلَى صَوْمِ الْقَضَاءِ، وَأَجَابُوا عَنْ الْحَجِّ بِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَلِهَذَا لَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِالْإِفْسَادِ وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى إحْرَامٍ كَإِحْرَامِ غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ أَصْبَحَ فِي رَمَضَانَ بِلَا نِيَّةٍ ثُمَّ جَامَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لَكِنْ يَأْثَمُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، قَالَ: وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا كَفَّارَةَ وَالْأَكْلُ عِنْدَهُ كَالْجِمَاعِ فِي هَذَا، قَالَ: لِأَنَّ صَوْمَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ مُرَاعًى، حَتَّى لَوْ نَوَاهُ صَحَّ عِنْدَهُ فَإِذَا أَكَلَ أَوْ جَامَعَ فَقَدْ أَسْقَطَ الْمُرَاعَاةَ، فَكَأَنَّهُ أَفْسَدَ الصَّوْمَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ نِيَّةُ رَمَضَانَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ لِإِفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَائِمٍ.

 

ج / 6 ص -209-       بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ بَدَا لَهُ الصَّوْمُ بَعْدَ مَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَامَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُدْخَلُ فِي الصَّوْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَيُخْرَجُ مِنْهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، لِمَا رَوَى عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا وَغَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" وَيَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيُبَاشِرَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: من الآية187] فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَصْبَحَ وَهُوَ جُنُبٌ جَازَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَذِنَ فِي الْمُبَاشَرَةِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّوْمِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصْبِحَ صَائِمًا وَهُوَ جُنُبٌ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ" فَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ فَأَكَلَهُ، أَوْ كَانَ مُجَامِعًا فَاسْتَدَامَ بَطَلَ صَوْمُهُ، وَإِنْ لَفَظَ الطَّعَامَ أَوْ أَخْرَجَ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهُ وَقَالَ الْمُزَنِيّ: إذَا أَخْرَجَ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ إيلَاجٌ وَإِخْرَاجٌ فَإِذَا بَطَلَ بِالْإِيلَاجِ بَطَلَ بِالْإِخْرَاجِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ صَوْمُهُ أَنَّ الْإِخْرَاجَ تَرْكٌ لِلْجِمَاعِ، وَمَا عُلِّقَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَلْبَسَ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ عَلَيْهِ فَبَدَأَ يَنْزِعُهُ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ أَكَلَ وَهُوَ يَشُكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَإِنْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ".
الشرح:
حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَيْسَ فِيهِ بَعْدَ الشَّمْسِ" مِنْ هَهُنَا" وَإِنَّمَا قَالَ:"وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ" وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى بِمَعْنَاهُ فَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ لِابْنِ أَبِي أَوْفَى"إذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ" وَلَفْظُ مُسْلِمٍ"إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَهُنَا وَجَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ"
قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّمَا ذَكَرَ غُرُوبَ الشَّمْسِ وَإِقْبَالَ اللَّيْلِ وَإِدْبَارَ النَّهَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ غُرُوبَهَا عَنْ الْعُيُونِ لَا يَكْفِي، لِأَنَّهَا قَدْ تَغِيبُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ عَنْ الْعُيُونِ وَلَا تَكُونُ غَرَبَتْ حَقِيقَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ إقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِ النَّهَارِ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَتِهِمَا، وَمِنْ رِوَايَةِ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا، وَقَوْلُهَا:"مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ" ذَكَرَتْ الْجِمَاعَ؛ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ مِنْ احْتِلَامٍ، وَإِنَّ الْمُحْتَلِمَ مَعْذُورٌ لِكَوْنِهِ قَدْ يُدْرِكُهُ الصُّبْحُ وَهُوَ نَائِمٌ مُحْتَلِمٌ، بِخِلَافِ الْمُجَامِعِ فَبَيَّنَتْ أَنْ تِلْكَ الْجَنَابَةَ مِنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ أَكَّدَتْهُ لِشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِبَيَانِهِ، فَقَالَتْ: غَيْرِ احْتِلَامٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْغُسْلِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ هَلْ كَانَ الِاحْتِلَامُ مُتَصَوَّرًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ يَحْتَجُّ مَنْ صَوَّرَهُ بِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُجِيبُ الْآخَرُ بِأَنَّهَا ذَكَرَتْهُ لِلتَّوْكِيدِ لَا لِلِاحْتِرَازِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ فِي الْمُبَاشَرَةِ، يُقَالُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَذِنَ وَضَمِّهَا، وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ، وَقَوْلُهُ:" لَفَظَ الطَّعَامَ" هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ لِأَنِّي رَأَيْتُ مَنْ يُصَحِّفُهُ،
أما أحكام الفصل: فَفِيهِ مَسَائِلُ إحداها: يَنْقَضِي الصَّوْمُ وَيَتِمُّ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ

 

ج / 6 ص -210-       لِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَسَبَقَ بَيَانُ حَقِيقَةِ غُرُوبِهَا فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجِبُ إمْسَاكُ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ بَعْدَ الْغُرُوبِ؛ لِيَتَحَقَّقَ بِهِ اسْتِكْمَالُ النَّهَارِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُلَّتَيْنِ.
الثانية: يَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي وَهُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ وَتَحْقِيقُ صِفَتِهِ فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، وَيَصِيرُ مُتَلَبِّسًا بِالصَّوْمِ بِأَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْمُرَادُ الطُّلُوعُ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا لَا الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَقَدْ يَطْلُعُ الْفَجْرُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَيَتَبَيَّنُ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلَدٍ طُلُوعُ فَجْرِهِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا غُرُوبُ شَمْسِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْفَجْرِ تَتَعَلَّقُ كُلُّهَا بِالْفَجْرِ الثَّانِي، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَجْرِ الْأَوَّلِ الْكَاذِبِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَبَقَ هُنَاكَ بَيَانُ دَلَائِلِهِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِيهِ. 
فَرْعٌ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَتَحْرِيمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ بِهِ هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ، قَالَ: وَبِهِ نَقُولُ، قَالَ: رَوَيْنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ: الْآنَ حِينَ تَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ" أَنَّهُ لَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ تَسَحَّرَ ثُمَّ صَلَّى" قَالَ: وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: لَمْ يَكُونُوا يَعُدُّونَ الْفَجْرَ فَجْرَكُمْ، إنَّمَا كَانُوا يَعُدُّونَ الْفَجْرَ الَّذِي يَمْلَأُ الْبُيُوتَ وَالطُّرُقَ، قَالَ: وَكَانَ إِسْحَاقُ يَمِيلُ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْعَنَ عَلَى الْآخَرِينَ، قَالَ إِسْحَاقُ: وَلَا قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ،
وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ الْأَعْمَشِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُمَا جَوَّزَا الْأَكْلَ وَغَيْرَهُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُمَا، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَظَاهِرَةِ. مِنْهَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ:  لَمَّا نَزَلَتْ:
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: من الآية187] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ، عِقَالًا أَبْيَضَ وَعِقَالًا أَسْوَدَ أَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنْ النَّهَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ وَسَادَكَ لَعَرِيضٌ إنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: أُنْزِلَتْ:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} وَلَمْ يَنْزِلْ: {مِنَ الْفَجْرِ} فَكَانَ رِجَالٌ إذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ اللَّيْلَ مِنْ النَّهَارِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ "رِئْيُهُمَا" بِالرَّاءِ مَهْمُوزٍ. وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا هَذَا الْعَارِضُ لِعَمُودِ الصُّبْحِ حَتَّى يَسْتَطِيرَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

ج / 6 ص -211-       وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَمْنَعْنَ أَحَدَكُمْ - أَوْ أَحَدًا مِنْكُمْ - أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ - أَوْ يُنَادِي - بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ: الْفَجْرُ أَوْ الصُّبْحُ، وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا إلَى فَوْقَ وَطَأْطَأَ إلَى أَسْفَلَ حَتَّى يَقُولَ: هَكَذَا، وَقَالَ بِسَبَّابَتَيْهِ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى ثُمَّ مَدَّهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَسَبَقَ[فِي] بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ غَيْرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَوْ شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ وَغَيْرُهَا بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْفَجْرُ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} وَلِمَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ:" كُلْ مَا شَكَكْتَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ:" أَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ الْفَجْرَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَصْبَحْتُ وَقَالَ الْآخَرُ: لَا، قَالَ: اخْتَلَفْتُمَا أَرِنِي شَرَابِي" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ:" أَرِنِي شَرَابِي" جَارٍ عَلَى الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ يَحِلُّ الشُّرْبُ وَالْأَكْلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ، وَلَوْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ لَمَّا اخْتَلَفَا الرَّجُلَانِ فِيهِ، لِأَنَّ خَبَرَيْهِمَا تَعَارَضَا وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ:" أَصْبَحْتُ" لَيْسَ صَرِيحًا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَدْ تُطْلَقُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِمُقَارَبَةِ الْفَجْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ،
وَقَدْ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ لِلشَّاكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَصَرَّحُوا بِذَلِكَ فَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَخَلَائِقُ لَا يُحْصُونَ، وأما: قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ: لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ هُجُومًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَقَوْلُ الْمُتَوَلِّي فِي مَسْأَلَةِ السَّحُورِ: لَا يَجُوزُ لِلشَّاكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ أَنْ يَتَسَحَّرَ، فَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا بِقَوْلِهِمَا (لَا يَجُوزُ) أَنَّهُ لَيْسَ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ، بَلْ الْأَوْلَى تَرْكُهُ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ عَلَى الشَّاكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَهُوَ غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ، وَلِابْنِ عَبَّاسٍ: وَلِجَمِيعِ الْأَصْحَابِ، بَلْ لِجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ إلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ حَرَّمَهُ، وَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْأَشْرَافِ بَابًا فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ لِلشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ، فَحَكَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ وَلَمْ يَنْقُلْ الْمَنْعَ إلَّا عَنْ مَالِكٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْأَفْضَلُ لِلشَّاكِّ أَنْ لَا يَأْكُلَ وَلَا يَفْعَلَ غَيْرَهُ مِنْ مَمْنُوعَاتِ الصَّوْمِ احْتِيَاطًا. الرابعة: لَوْ أَكَلَ شَاكًّا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَدَامَ الشَّكُّ وَلَمْ يَبِنْ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ، صَحَّ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَقَدْ سَبَقَتْ أَدِلَّةُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَلَّا يَأْكُلَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غُرُوبُهَا بِاجْتِهَادٍ يُورَدُ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَجْهًا لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْيَقِينِ بِصَبْرٍ يَسِيرٍ، وَلَوْ أَكَلَ ظَانًّا غُرُوبَ الشَّمْسِ فَبَانَتْ طَالِعَةً، أَوْ ظَانًّا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَبَانَ طَالِعًا، صَارَ مُفْطِرًا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ

 

ج / 6 ص -212-       أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ الْخِلَافِ فِيمَنْ غَلَطَ فِي الْقِبْلَةِ، وَمِنْ الْأَسِيرِ إذَا اجْتَهَدَ فِي الصَّوْمِ وَصَادَفَ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ، وَنَظَائِرِهِ،
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يُفْطِرُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْأُولَى، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ لِلشَّاكِّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَيَجُوزُ فِي الثَّانِيَةِ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْوَجْهَ الرَّافِعِيُّ، وَلَوْ هَجَمَ عَلَى الْأَكْلِ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ بِلَا ظَنٍّ، وَتَبَيَّنَ الْخَطَأُ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ بَانَ التَّيَقُّنُ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ فِي النَّهَارِ اسْتَمَرَّتْ صِحَّةُ صَوْمِهِ، وَإِنْ دَامَ الْإِبْهَامُ وَلَمْ يَظْهَرْ الْخَطَأُ وَلَا الصَّوَابُ فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَلَا قَضَاءَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ وَلَوْ أَكَلَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِالِاجْتِهَادِ، وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يَجُوزُ فَاسْتَمَرَّ الْإِبْهَامُ فَلَا قَضَاءَ، وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ أَكَلَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ عِنْدَهُ لَا أَثَرَ لَهُ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ أَكَلَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي آخِرِ النَّهَارِ وَصَادَفَ أَكْلُهُ اللَّيْلَ - حَيْثُ قُلْنَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ - وَبَيْنَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، أَوْ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَصَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَصَادَفَ الصَّوَابَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ، لِأَنَّ هُنَاكَ شَرَعَ فِي الْعِبَادَةِ شَاكًّا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ فَلَمْ يَصِحَّ، وَهُنَا لَمْ يَحْصُلْ الشَّكَّ فِي ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ، بَلْ مَضَتْ عَلَى الصِّحَّةِ وَشَكَّ بَعْدَ فَرَاغِهَا، هَلْ وُجِدَ مُفْسِدٌ لَهَا بَعْدَ تَحَقُّقِ الدُّخُولِ فِيهَا؟ وَقَدْ بَانَ أَنْ لَا مُفْسِدَ، وَإِنَّمَا نَظِيرُهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْهَا ثُمَّ يَشُكُّ هَلْ تَرَكَ رُكْنًا مِنْهَا أَمْ لَا؟ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ ظَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ فَجَامَعَ، فَبَانَ خِلَافُهُ، لَزِمَهُ قَضَاءُ الصَّوْمِ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ، قَالَ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ: وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ الصَّوْمَ بِجِمَاعٍ أَثِمَ بِهِ، كَمَا سَيَأْتِي إيضَاحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ جَوَازُ الْإِفْطَارِ بِالظَّنِّ، وَإِلَّا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَفَاءً بِالضَّابِطِ الْمَذْكُورِ لِوُجُوبِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا جَامَعَ فِي اللَّيْلِ وَأَصْبَحَ وَهُوَ جُنُبٌ صَحَّ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَكَذَا لَوْ انْقَطَعَ دَمُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي اللَّيْلِ فَنَوَتَا صَوْمَ الْغَدِ وَلَمْ يَغْتَسِلَا صَحَّ صَوْمُهُمَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم، وَجَمَاهِيرُ التَّابِعِينَ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْهَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَنْ طَاوُسٍ وَعُرْوَةِ بْنِ الزُّبَيْرِ رِوَايَةً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ جَنَابَتَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ لَمْ يَصِحَّ وَإِلَّا فَيَصِحُّ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَصِحُّ النَّفَلُ دُونَ الْفَرْضِ، وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُ مُنْقَطِعَةِ الْحَيْضِ حَتَّى تَغْتَسِلَ، احْتَجُّوا بِحَدِيثِ"مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ" رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ،

 

ج / 6 ص -213-       دَلِيلُنَا نَصُّ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: من الآية187] وَيَلْزَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يُصْبِحَ جُنُبًا إذَا بَاشَرَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما قَالَتَا:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَاتٍ لَهُمَا فِي الصَّحِيحِ"مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ" وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْهَا:"أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِيهِ وَهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ أَفَأَصُومُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ، فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لِأَرْجُوا أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْأَحَادِيثُ بِمَعْنَى هَذَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَيْنَا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيهِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، لِأَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمًا عَلَى الصَّائِمِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِمَاعَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ لِلْجُنُبِ إذَا أَصْبَحَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ أَنْ يَصُومَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُفْتِي بِمَا يَسْمَعَهُ مِنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعْلَمْ النَّسْخَ، فَلَمَّا سَمِعَ خَبَرَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما رَجَعَ إلَيْهِ. هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ، قَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْوَجْهُ حَمْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ، فَاسْتَدَامَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْفَجْرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إنْ احْتَلَمَ فِي اللَّيْلِ وَأَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَمْ يَغْتَسِلْ وَأَصْبَحَ جُنُبًا بِالِاحْتِلَامِ أَوْ احْتَلَمَ فِي النَّهَارِ فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي صَوْمِ الْجُنُبِ بِالْجِمَاعِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
السادسة: إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ فَلْيَلْفِظْهُ، فَإِنْ لَفَظَهُ صَحَّ صَوْمُهُ، فَإِنْ ابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ، فَلَوْ لَفَظَهُ فِي الْحَالِ فَسَبَقَ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ سَبْقِ الْمَاءِ فِي الْمَضْمَضَةِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَالْأَصَحُّ فِي الْمَضْمَضَةِ أَنَّهُ إنْ بَالَغَ أَفْطَرَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَهُوَ مُجَامِعٌ فَنَزَعَ فِي الْحَالِ صَحَّ صَوْمُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لِلنَّزْعِ عِنْدَ الْفَجْرِ ثَلَاثُ صُوَرٍ إحداها: أَنْ يَحُسَّ بِالْفَجْرِ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَيَنْزِعُ بِحَيْثُ يَقَعُ آخِرُ النَّزْعِ مَعَ أَوَّلِ الطُّلُوعِ وَالثَّانِيَةُ: يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَيَعْلَمُ الطُّلُوعَ فِي أَوَّلِهِ فَيَنْزِعُ فِي الْحَالِ الثالثة: أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الطُّلُوعِ لَحْظَةً وَهُوَ مُجَامِعٌ لَا يَعْلَمُ الْفَجْرَ ثُمَّ يَعْلَمَهُ فَيَنْزِعَ.
أَمَّا الثَّالِثَةُ فَلَيْسَتْ مُرَادَةً بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه بَلْ الْحُكْمُ فِيهَا بُطْلَانُ الصَّوْمِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهَا الْوَجْهُ السَّابِقُ فِيمَنْ أَكَلَ ظَانًّا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَكَانَ قَدْ طَلَعَ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ لَوْ مَكَثَ بَعْدَ عِلْمِهِ أَثِمَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَكَثَ بَعْدَ بُطْلَانِ الصَّوْمِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ تَلْزَمُهُ

 

ج / 6 ص -214-       الْكَفَّارَةُ بِالِاسْتِدَامَةِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الصُّورَتَانِ الْأُولَتَانِ فَهُمَا مُرَادَتَانِ بِالنَّصِّ فَلَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ فِيهِمَا، وَفِي الثَّانِيَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَبْطُلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَيْضًا كَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَ الْجَمِيعِ، أَمَّا إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَعَلِمَ طُلُوعَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مُسْتَدِيمًا لِلْجِمَاعِ فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ، نَصَّ عَلَيْهِ وَتَابَعَهُ الْأَصْحَابُ، وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَاسْتَدَامَ فَهُوَ كَالِاسْتِدَامَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفَجْرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَعْلَمُ الْفَجْرَ بِمُجَرَّدِ طُلُوعِهِ؟ وَطُلُوعُهُ الْحَقِيقِيُّ يَتَقَدَّمُ عَلَى1 عِلْمِنَا بِهِ فَأَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَوَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِجَوَابَيْنِ أحدهما: أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ عِلْمِيَّةٌ وَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُهَا، كَمَا يُقَالُ فِي الْفَرَائِضِ: مِائَةُ جَدَّةٍ والثاني: وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَنَّ هَذَا مُتَصَوَّرٌ، لِأَنَّا إنَّمَا تَعَبَّدْنَا بِمَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ، لَا بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا مَعْنَى لِلصُّبْحِ إلَّا ظُهُورَ الضَّوْءِ لِلنَّاظِرِ، وَمَا قَبْلَهُ لَا حُكْمَ لَهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ فَيَرْصُدُ بِحَيْثُ لَا حَائِلَ فَهُوَ أَوَّلُ الصُّبْحِ الْمُعْتَبَرِ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْجُمْهُورُ2، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعد الأخذ بالتوقيت الحسابي أو الزوالي في ضبط المواقيت مع انتشار استعمال الساعات أصبح علمنا بالأوقات والدقائق والثواني مما يجعلنا نعلم به بمجرد طلوعه ونترقبه قبل طلوعه ونحسب اللحظات الباقية على طلوعه (ط).
2 قلت: ومثله ضبط الوقت بالساعات وهو ليس من الفروض العلمية أو الأحكام الفرضية وإنما هو من الأمور العملية والأحكام الجارية بكثرة تطبيقها . والله أعلم (ط).

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ تَقَدَّمَتْ
مِنْهَا إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ ظَانًّا غُرُوبَ الشَّمْسِ أَوْ عَدَمَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَبَانَ خِلَافُهُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانِ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَدَاوُد: صَوْمُهُ صَحِيحٌ وَلَا قَضَاءَ وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
:"إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: من الآية187] وَهَذَا قَدْ أَكَلَ فِي النَّهَارِ، وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ:" أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَسَحَّرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا وَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ

 

ج / 6 ص -215-       مِنْ آخِرِهِ، وَمَعْنَاهُ فَقَدْ أَفْطَرَ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مَعْنَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَبِحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما قَالَتْ:"أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، قِيلَ لِهِشَامٍ: فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْإِمَامِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه:" أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَمْسَى وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: الْخَطْبُ يَسِيرٌ وَقَدْ اجْتَهَدْنَا" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: مَعْنَى (الْخَطْبُ يَسِيرٌ) قَضَاءُ يَوْمٍ مَكَانَهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَخِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ عُمَرَ مُفَسَّرًا فِي الْقَضَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْقَضَاءِ.
فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ صَدِيقًا لِعُمَرَ، قَالَ:" كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ، فَصَعِدَ الْمُؤَذِّنُ لِيُؤَذِّنَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَذِهِ الشَّمْسُ لَمْ تَغْرُبْ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: مَنْ كَانَ أَفْطَرَ فَلْيَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ" وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ عُمَرُ: لَا نُبَالِي، وَاَللَّهِ نَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي تَظَاهُرِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي الْقَضَاءِ، دَلِيلٌ عَلَى خَطَأِ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ فِي تَرْكِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ الْحَافِظِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ:" بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فِي رَمَضَانَ وَالسَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةٌ، فَرَأَيْنَا أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَأَنَّا قَدْ أَمْسَيْنَا، فَأُخْرِجَتْ لَنَا عِسَاسٌ مِنْ لَبَنٍ مِنْ بَيْتِ حَفْصَةَ فَشَرِبَ عُمَرُ رضي الله عنه وَشَرِبْنَا، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ ذَهَبَ السَّحَابُ وَبَدَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَقُولُ لِبَعْضٍ: نَقْضِي يَوْمَنَا هَذَا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا نَقْضِيهِ، وَمَا يُجَانِفُنَا الْإِثْمُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا رَوَاهُ شَيْبَانُ وَرَوَاهُ حَفْصُ بْنُ عَتَّابٍ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَانَ يَقُولُ ابْنُ سُفْيَانَ يُحْمَلُ عَلَى زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَعْدَهَا مِمَّا خُولِفَ فِيهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:" وَزَيْدٌ ثِقَةٌ إلَّا أَنَّ الْخَطَأَ غَيْرُ مَأْمُونٍ" وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْصِمُنَا مِنْ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ بِمَنِّهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:" أَفْطَرْنَا مَعَ صُهَيْبٍ الْخَيْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي يَوْمِ غَيْمٍ وَطَشٍّ فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَعَشَّى إذْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ صُهَيْبٌ: طُعْمَةُ اللَّهِ أَتِمُّوا صِيَامَكُمْ إلَى اللَّيْلِ وَاقْضُوا يَوْمًا مَكَانَهُ".
قَوْلُهُ" عِسَاسٍ مِنْ لَبَنِ" بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مُكَرَّرَةٍ، وَهِيَ الْأَقْدَاحُ، وَ أَحَدُهَا: عُسٌّ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ حَدِيثِ"إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ" أَنَّهُ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ فَإِنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ غَرَامَاتُ الْمُتْلَفَاتِ وَانْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ الْحَدَثِ سَهْوًا، وَالصَّلَاةُ بِالْحَدَثِ نَاسِيًا وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، فَيَخُصُّ هُنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -216-       فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ أَوْلَجَ ثُمَّ نَزَعَ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ وَزُفَرُ وَدَاوُد: يَبْطُلُ صَوْمُهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أَنَّهُ يُفْطِرُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَفِي رِوَايَةٍ: يَصِحُّ صَوْمُهُ وَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلُ الْمَذْهَبَيْنِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما:" كَانَ إذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَالرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يَصُومَ إذَا أَرَادَ الصِّيَامَ قَامَ وَاغْتَسَلَ وَأَتَمَّ صِيَامَهُ".
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ فَلْيَلْفِظْهُ وَيُتِمَّ صَوْمُهُ، فَإِنْ ابْتَلَعَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْفَجْرِ بَطَلَ صَوْمُهُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي الصَّحِيحِ أَحَادِيثُ بِمَعْنَاهُ،
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ
"إذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ النِّدَاءَ وَالْإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ، فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ" وَفِي رِوَايَةٍ"وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ إذَا بَزَغَ الْفَجْرُ" فَرَوَى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرِّوَايَةَ الْأُولَى، وَقَالَ: هَذَا صَحِيحٌ1 عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا إنْ صَحَّ مَحْمُولٌ عِنْدَ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُ يُنَادَى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِحَيْثُ يَقَعُ شُرْبُهُ قُبَيْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ: وَقَوْلُهُ: (إذَا بَزَغَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مَنْ دُونَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ يَكُونَ خَبَرًا مِنْ الْأَذَانِ الثَّانِي، وَيَكُونُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"إذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ النِّدَاءَ وَالْإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ" خَبَرًا عَنْ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم قَالَ: وَعَلَى هَذَا تَتَّفِقُ الْأَخْبَارُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: من الآية187] فَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ، عَالِمٌ بِتَحْرِيمِهِ مُخْتَارٌ بَطَلَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ [فَبَطَلَ] وَإِنْ اسْتَعَطَ أَوْ صَبَّ الْمَاءَ فِي أُذُنِهِ فَوَصَلَ، إلَى دِمَاغِهِ بَطَلَ صَوْمُهُ، لِمَا رَوَى لَقِيطُ بْنُ صَبِرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ"إذَا اسْتَنْشَقْتَ فَأَبْلِغْ الْوُضُوءَ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ شَيْءٌ بَطَلَ صَوْمُهُ، وَلِأَنَّ الدِّمَاغَ أَحَدُ الْجَوْفَيْنِ فَبَطَلَ الصَّوْمُ بِالْوَاصِلِ إلَيْهِ كَالْبَطْنِ وَإِنْ احْتَقَنَ بَطَلَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَطَلَ بِمَا يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ بِالسُّعُوطِ فَلَأَنْ يَبْطُلَ بِمَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ بِالْحُقْنَةِ أَوْلَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواية الحاكم هكذا: حدثنا أبو النضر الفقيه ثنا الحسن بن سفيان ثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة ثم قال بعد أن ساق الحديث: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . قلت: ورجال مسلم في هذا الإسناد من حماد بن سلمة إلى أبي هريرة وقد أقر الذهبي في التلخيص الحاكم في تصحيحه ولم يورده ابن تيمية في المنتقى (ط).

 

 

ج / 6 ص -217-       وَإِنْ كَانَ بِهِ جَائِفَةٌ أَوْ آمَّةٌ فَدَاوَاهَا فَوَصَلَ الدَّوَاءُ إلَى جَوْفِهِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ أَوْ طَعَنَ نَفْسَهُ أَوْ طَعَنَهُ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ فَوَصَلَتْ الطَّعْنَةُ إلَى جَوْفِهِ بَطَلَ صَوْمُهُ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي السُّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ وَإِنْ زَرَّقَ فِي إحْلِيلِهِ شَيْئًا أَوْ أَدْخَلَ فِيهِ مِيلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يَبْطُلُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْفَذٌ يَتَعَلَّقُ الْفِطْرُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ، فَتَعَلَّقَ بِالْوَاصِلِ إلَيْهِ كَالْفَمِ والثاني: لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ مَا يَصِلُ إلَى الْمَثَانَةِ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَرَكَ فِي فَمِهِ شَيْئًا".
الشرح: حَدِيثُ لَقِيطٍ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَلَفْظُهُمْ عَنْ لَقِيطٍ"قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْوُضُوءِ، قَالَ
أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ بَيَانُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيَانُ حَالِ لَقِيطٍ، وَابْنُ صَبِرَةَ - بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ الْبَاءِ - وَيَجُوزُ إسْكَانُ الْبَاءِ مَعَ فَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، وَوَقَعَ فِي نُسَخِ الْمُهَذَّبِ فِي حَدِيثِ لَقِيطٍ" فَأَبْلِغْ الْوُضُوءَ" وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَالْمَعْرُوفُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ رِوَايَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالسُّعُوطِ - بِضَمِّ السِّينِ - هُوَ نَفْسُ الْفِعْلِ وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ فِي الْأَنْفِ وَجَذْبُهُ إلَى الدِّمَاغِ، وَالسَّعُوطُ - بِفَتْحِهَا - اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَسَعَّطُهُ كَالْمَاءِ وَالدُّهْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْمُرَادُ هُنَا بِالضَّمِّ وَقَوْلُهُ: فَلَأَنْ يَبْطُلَ هُوَ - بِفَتْحِ اللَّامِ - وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ (وَالْآمَّةُ) بِالْمَدِّ هِيَ الْجِرَاحَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الرَّأْسِ، بِحَيْثُ تَبْلُغُ أُمَّ الدِّمَاغِ، وَالْمَنْفَذُ - بِفَتْحِ الْفَاءِ - وَالْمَثَانَةُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ - وَهِيَ مَجْمَعُ الْبَوْلِ،
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى الصَّائِمِ وَهُوَ مَقْصُودُ الصَّوْمِ، وَدَلِيلُهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالْإِجْمَاعُ. وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَضَبَطَ الْأَصْحَابُ الدَّاخِلَ الْمُفْطِرَ بِالْعَيْنِ الْوَاصِلَةِ مِنْ الظَّاهِرِ إلَى الْبَاطِنِ فِي مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ عَنْ قَصْدٍ مَعَ ذِكْرِ الصَّوْمِ، وَفِيهِ قُيُودٌ منها: الْبَاطِنُ الْوَاصِلُ إلَيْهِ، وَفِيمَا يُعْتَبَرُ بِهِ وَجْهَانِ، أحدهما: أَنَّهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَوْفِ والثاني: يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قُوَّةٌ تُحِيلُ الْوَاصِلَ إلَيْهِ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ غِذَاءٍ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِتَفْرِيعِ الْأَكْثَرِينَ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلْقَ كَالْجَوْفِ فِي إبْطَالِ الصَّوْمِ بِوُصُولِ الْوَاصِلِ إلَيْهِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إذَا جَاوَزَ الشَّيْءُ الْحُلْقُومَ أَفْطَرَ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا بَاطِنُ الدِّمَاغِ وَالْبَطْنِ وَالْأَمْعَاءِ وَالْمَثَانَةِ مِمَّا يُفْطِرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ بِبَطْنِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ مَأْمُومَةٌ، وَهِيَ الْآمَّةُ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا دَوَاءً فَوَصَلَ جَوْفَهُ، أَوْ خَرِيطَةَ دِمَاغِهِ أَفْطَرَ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ بَاطِنَ الْأَمْعَاءِ وَبَاطِنَ الْخَرِيطَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا عِنْدَنَا، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْمَثَانَةِ لَا يُفْطِرُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَهُوَ شَاذٌّ،
وأما: الْحُقْنَةُ فَتُفْطِرُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا تُفْطِرُ وَهُوَ شَاذٌّ، إنْ كَانَ مُنْقَاسًا فَعَلَى الْمَذْهَبِ، قَالَ أَصْحَابُنَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْحُقْنَةُ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، وَسَوَاءٌ وَصَلَتْ إلَى الْمَعِدَةِ أَمْ لَا، فَهِيَ مُفْطِرَةٌ بِكُلِّ حَالٍ عِنْدَنَا،
وأما: السُّعُوطُ فَإِنْ وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمَا جَاوَزَ الْخَيْشُومَ فِي الِاسْتِعَاطِ فَقَدْ حَصَلَ فِي حَدِّ الْبَطْنِ وَحَصَلَ بِهِ الْفِطْرُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَدَاخِلُ الْفَمِ وَالْأَنْفِ إلَى مُنْتَهَى

 

ج / 6 ص -218-       الْغَلْصَمَةِ وَالْخَيْشُومِ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَ إلَيْهِ الْقَيْءُ أَوْ ابْتَلَعَ مِنْهُ نُخَامَةً أَفْطَرَ، وَلَوْ أَمْسَكَ فِيهِ تَمْرَةً وَدِرْهَمًا وَغَيْرَهُمَا لَمْ يُفْطِرْ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ مِنْ التَّمْرَةِ وَنَحْوِهَا شَيْءٌ وَلَوْ تَنَجَّسَ هَذَا الْمَوْضِعُ وَجَبَ غَسْلُهُ، وَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ حَتَّى يَغْسِلَهُ، وَلَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ فِي أَشْيَاءَ منها: أَنَّهُ إذَا ابْتَلَعَ مِنْهُ الرِّيقَ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى الْجُنُبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 
وَأَمَّا: إذَا قَطَّرَ فِي إحْلِيلِهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَصِلْ إلَى الْمَثَانَةِ أَوْ زَرَّقَ فِيهِ مِيلًا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أصحها يُفْطِرُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني: لَا والثالث: إنْ جَاوَزَ الْحَشَفَةَ أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ وَصَلَ الدَّوَاءُ إلَى دَاخِلِ لَحْمِ السَّاقِ أَوْ غَرَزَ فِيهِ سِكِّينًا أَوْ غَيْرَهَا فَوَصَلَتْ مُخَّهُ لَمْ يُفْطِرْ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ عُضْوًا مُجَوَّفًا.
 فرع: لَوْ طَعَنَ نَفْسَهُ أَوْ طَعَنَهُ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ فَوَصَلَتْ السِّكِّينُ جَوْفَهُ أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، سَوَاءٌ كَانَ بَعْضُ السِّكِّينِ خَارِجًا أَمْ لَا.
فرع: إذَا ابْتَلَعَ طَرَفَ الْخَيْطِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ بَارِزًا أَفْطَرَ بِوُصُولِ الطَّرَفِ الْوَاصِلِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الِانْفِصَالُ مِنْ الظَّاهِرِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - وَجْهًا فِيمَنْ أَدْخَلَ طَرَفَ خَيْطٍ جَوْفَهُ أَوْ دُبُرَهُ، وَبَعْضُهُ خَارِجًا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَلَوْ ابْتَلَعَ طَرَفَ خَيْطٍ فِي اللَّيْلِ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ خَارِجًا فَأَصْبَحَ كَذَلِكَ - فَإِنْ تَرَكَهُ بِحَالِهِ - لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِطَرْفِهِ الْبَارِزِ - وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِنَجَاسَةٍ، وَإِنْ نَزَعَهُ أَوْ ابْتَلَعَهُ بَطَلَ صَوْمُهُ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ إذَا غَسَلَ فَمَهُ بَعْدَ النَّزْعِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ غَيْرُهُ إلَى نَزْعِهِ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَنْزِعَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ فَوَجْهَانِ أصحهما: يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَاةِ فَيَنْزِعُهُ أَوْ يَبْلَعُهُ والثاني: يَتْرُكُهُ عَلَى حَالِهِ مُحَافَظَةً عَلَى الصَّوْمِ، وَيُصَلِّي كَذَلِكَ، وَيَجِبُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي بَابِ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
فرع: لَوْ أَدْخَلَ الرَّجُلُ أُصْبُعَهُ أَوْ غَيْرَهَا دُبُرَهُ، أَوْ أَدْخَلَتْ الْمَرْأَةُ أُصْبُعَهَا أَوْ غَيْرَهَا دُبُرَهَا أَوْ قُبُلَهَا وَبَقِيَ الْبَعْضُ خَارِجًا بَطَلَ الصَّوْمُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا إلَّا الْوَجْهَ الشَّاذَّ السَّابِقَ عَنْ الْحَنَّاطِيِّ فِي الْفَرْعِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا،
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَنْبَغِي لِلصَّائِمَةِ أَلَّا تُبَالِغَ بِأُصْبُعِهَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ، قَالُوا: فَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ فَرْجِهَا إذَا قَعَدَتْ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ فَيَلْزَمُهَا تَطْهِيرُهُ، وَلَا يَلْزَمُهَا مُجَاوَزَتُهُ فَإِنْ جَاوَزَتْهُ بِإِدْخَالِ أُصْبُعِهَا زِيَادَةً عَلَيْهِ بَطَلَ صَوْمُهَا، وَقَدْ سَبَقَ إيضَاحُ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ الِاسْتِطَابَةِ، هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا كَانَ الْوَاصِلُ إلَى الْبَاطِنِ مُتَّصِلًا بِخَارِجٍ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ، دَلِيلُنَا أَنَّهُ وَصَلَ الْبَاطِنَ فَبَطَلَ صَوْمُهُ كَمَا لَوْ غَابَ كُلُّهُ.
فرع: لَوْ قَطَّرَ فِي أُذُنِهِ مَاءً أَوْ دُهْنًا أَوْ غَيْرَهُمَا فَوَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ فَوَجْهَانِ أصحهما: يُفْطِرُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني: لَا يُفْطِرُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ - بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ

 

ج / 6 ص -219-       الْمَكْسُورَةِ وَبِالْجِيمِ - وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْفُورَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ كَالِاكْتِحَالِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَا مَنْفَذَ مِنْ الْأُذُنِ إلَى الدِّمَاغِ وَإِنَّمَا يَصِلُهُ بِالْمَسَامِّ كَالْكُحْلِ، وَكَمَا لَوْ دَهَنَ بَطْنَهُ فَإِنَّ الْمَسَامَّ تَتَشَرَّبُهُ وَلَا يُفْطِرُ بِخِلَافِ الْأَنْفِ فَإِنَّ السُّعُوطَ يَصِلُ مِنْهُ إلَى الدِّمَاغِ فِي مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ مَا ذَكَرْتُهُ، فَيَكُونُ ذَكَرَ الْفِطْرَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ، فَإِنْ اسْتَفَّ تُرَابًا أَوْ ابْتَلَعَ حَصَاةً أَوْ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا بَطَلَ صَوْمُهُ، لِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ كُلِّ مَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ، وَهَذَا مَا أَمْسَكَ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَأْكُلُ الطِّينَ وَيَأْكُلُ الْحَجَرَ، وَلِأَنَّهُ إذَا بَطَلَ الصَّوْمُ بِمَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ مِمَّا لَيْسَ بِأَكْلٍ كَالسُّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ أَيْضًا بِمَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ، وَإِنْ قَلَعَ مَا يَبْقَى بَيْنَ أَسْنَانِهِ بِلِسَانِهِ وَابْتَلَعَهُ بَطَلَ صَوْمُهُ، وَإِنْ جَمَعَ فِي فَمِهِ رِيقًا كَثِيرًا وَابْتَلَعَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
 أحدهما: يَبْطُلُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ ابْتَلَعَ مَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا قَلَعَ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ وَابْتَلَعَهُ،
والثاني:
لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ مِنْ مَعِدَتِهِ فَأَشْبَهَ مَا يَبْتَلِعُهُ مِنْ رِيقِهِ عَلَى عَادَتِهِ، فَإِنْ أَخْرَجَ الْبَلْغَمَ مِنْ صَدْرِهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ أَوْ جَذَبَهُ مِنْ رَأْسِهِ [ثُمَّ ابْتَلَعَهُ] بَطَلَ صَوْمُهُ وَإِنْ اسْتِقَاءَ بَطَلَ صَوْمُهُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"مَنْ اسْتِقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ" وَلِأَنَّ الْقَيْءَ إذَا صَعِدَ [ثُمَّ] تَرَدَّدَ، فَيَرْجِعُ بَعْضُهُ إلَى الْجَوْفِ فَيَصِيرُ كَطَعَامٍ ابْتَلَعَهُ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ: وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا كَمَا ذَكَرْنَا وَمَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِسْنَادُ أَبِي دَاوُد وَغَيْرُهُ فِيهِ إسْنَادُ الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَقَدْ سَبَقَ مَرَّاتٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ إمَّا صَحِيحٌ وَإِمَّا حَسَنٌ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، قَالَ: وَبَعْضُ الْحُفَّاظِ لَا يَرَاهُ مَحْفُوظًا قَالَ: قَالَ أَبُو دَاوُد وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ ذَا شَيْءٌ،
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ ضَعِيفَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، قَالَ: وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه ثُمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ إذَا تَقَايَأَ وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْحَارِثَ1 ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ كَذَّابٌ. قَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحارث بن عبد الله المهداني أبو زهير الكوفي الأعور أحد كبار الشيعة روى عن علي وابن مسعود وعنه الشعبي وعمرو بن مرة وأبو إسحاق سمع منه أربعة أحاديث . قال الشعبي وابن المديني: كذاب ، قال ابن معين في رواية والنسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم والنسائي في رواية ليس بالقوي ابن معين: ضعيف وله في النسائي حديثان. توفي سنة خمس وستين ومائة (ط).

 

ج / 6 ص -220-       الْبَيْهَقِيُّ: وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْدَانَ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"قَاءَ فَأَفْطَرَ" قَالَ مَعْدَانُ"لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ أَخْبَرَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ، فَقَالَ صَدَقَ، أَنَا صَبَبْتُ عَلَيْهِ وُضُوءَهُ" فَهَذَا حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي إسْنَادِهِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَيْءِ عَامِدًا، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ صَائِمًا تَطَوُّعًا، قَالَ: رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ:"أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فَقَاءَ فَأَفْطَرَ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي قِئْتُ" قَالَ: وَهُوَ أَيْضًا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمْدِ،
قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"لَا يُفْطِرُ مَنْ قَاءَ وَلَا مَنْ احْتَلَمَ وَلَا مَنْ احْتَجَمَ" فَهُوَ مَحْمُولٌ إنْ صَحَّ عَلَى مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ وَالْحِجَامَةُ" قَالَ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ هُوَ الْأَوَّلُ، هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ.
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ هَذَا وَضَعَّفَهُ وَقَالَ: هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ قَالَ: وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا، لَمْ يَذْكُرُوا أَبَا سَعِيدٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا حَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَثَوْبَانَ مِنْ رِوَايَةِ مَعْدَانَ بْنِ طَلْحَةَ كَمَا سَبَقَ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَ فِيهِ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، قَالَ: وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا،
قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ، وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَثَوْبَانَ وَفَضَالَةَ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ" قَالَ:" وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا فَقَاءَ فَضَعُفَ فَأَفْطَرَ لِذَلِكَ" هَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ مُفَسَّرًا قَالَ: وَالْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتِقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ، هَذَا كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَثَوْبَانَ وَقَالَ: هُمَا صَحِيحَانِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ وَشَوَاهِدِهِ الْمَذْكُورَةِ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَكَذَا نَصَّ عَلَى حُسْنِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ، وَكَوْنُهُ تَفَرَّدَ بِهِ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ ثِقَةٌ وَزِيَادَةٌ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَقَوْلُهُ (ذَرَعَهُ الْقَيْءُ) هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ غَلَبَهُ، وَإِنَّمَا قَاسَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْوَاصِلِ بِالسَّعُوطِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَّ فِيهِ، وَهُوَ حَدِيثُ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ السَّابِقُ،
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله: إذَا ابْتَلَعَ الصَّائِمُ مَا لَا يُؤْكَلُ فِي الْعَادَةِ كَدِرْهَمٍ

 

ج / 6 ص -221-       وَدِينَارٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ حَصَاةٍ، أَوْ1 حَشِيشًا أَوْ نَارًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَيْطًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِذَلِكَ، وَحَكَوْا عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُ الْبَرَدَ وَهُوَ صَائِمٌ وَيَبْتَلِعُهُ وَيَقُولُ:" لَيْسَ هُوَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ" وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ:" إنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ، وَإِنَّمَا الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ" وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الثانية: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا بَقِيَ فِي خَلَلِ أَسْنَانِهِ طَعَامٌ فَيَنْبَغِي إنْ يُخَلِّلَهُ فِي اللَّيْلِ وَيُنَقِّيَ فَمَهُ، فَإِنْ أَصْبَحَ صَائِمًا وَفِي خَلَلِ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ عَمْدًا أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْطِرُ، وَقَالَ زُفَرُ: يُفْطِرُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَدَلِيلُنَا فِي فِطْرِهِ أَنَّهُ ابْتَلَعَ مَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا تَدْعُو حَاجَتُهُ إلَيْهِ فَبَطَلَ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ إلَى يَدِهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى زُفَرَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْجِمَاعِ لِفُحْشِهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ مَا دُونَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ،
أَمَّا إذَا جَرَى بِهِ الرِّيقُ فَبَلَعَهُ بِغَيْرِ قَصْدٍ، فَنَقَلَ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ أَنَّهُ يُفْطِرُ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ: فِي فِطْرِهِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ عَمَلًا بِالنَّصَّيْنِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ: إنَّهُمَا عَلَى حَالَيْنِ، فَحَيْثُ قَالَ: لَا يُفْطِرُ أَرَادَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ، وَحَيْثُ قَالَ: يُفْطِرُ أَرَادَ إذَا قَدَرَ فَلَمْ يَفْعَلْ وَابْتَلَعَهُ، وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: إنْ نَقَّى أَسْنَانَهُ بِالْخِلَالِ عَلَى الْعَادَةِ لَمْ يُفْطِرْ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَإِلَّا أَفْطَرَ لِتَقْصِيرِهِ كَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَتَنَازَعَهُمَا فِي إلْحَاقِهِ بِالْمُبَالَغَةِ الَّتِي وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنْهَا، وَلِأَنَّ مَاءَ الْمُبَالَغَةِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوْفِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ ابْتَلَعَ شَيْئًا يَسِيرًا جِدًّا كَحَبَّةِ سِمْسِمٍ أَوْ خَرْدَلٍ وَنَحْوِهِمَا أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يُفْطِرُ عِنْدَنَا، وَلَا يُفْطِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا قَالَ فِي الْبَاقِي فِي خَلَلِ الْأَسْنَانِ.
الثالثة: ابْتِلَاعُ الرِّيقِ لَا يُفْطِرُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ عَلَى الْعَادَةِ، لِأَنَّهُ يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا لَا يُفْطِرُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَمَحَّضَ الرِّيقُ فَلَوْ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَفْطَرَ بِابْتِلَاعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُغَيِّرُ طَاهِرًا كَمَنْ فَتَلَ خَيْطًا مَصْبُوغًا تَغَيَّرَ بِهِ رِيقُهُ، أَوْ نَجِسًا كَمَنْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ أَوْ انْقَلَعَتْ سِنُّهُ أَوْ تَنَجَّسَ فَمُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْفُوَّ، عَنْهُ هُوَ الرِّيقُ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ الرِّيقِ وَهُوَ مُقَصِّرٌ بِهِ بِخِلَافِ غُبَارِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، فَلَوْ بَصَقَ حَتَّى ابْيَضَّ الرِّيقُ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش وق والصواب: أو حشيش أو نار أو حديد أو خيط؛ لأن هذه معطوفات على المجرور بالكاف (كدرهم) وممكن تقديره أو ابتلع حشيشا أو نارا ... الخ وهو تجويز قريب الاحتمال. والله أعلم (ط).

 

ج / 6 ص -222-       تَغَيُّرٌ فَفِي إفْطَارِهِ بِابْتِلَاعِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ، قَالَ: أصحهما: أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَقَطَعَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَآخَرُو وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ تَصْحِيحَهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ ابْتِلَاعُهُ وَلَا يَطْهُرُ الْفَمُ إلَّا بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَكَلَ بِاللَّيْلِ شَيْئًا نَجِسًا وَلَمْ يَغْسِلْ فَمَهُ حَتَّى أَصْبَحَ فَابْتَلَعَ الرِّيقَ أَفْطَرَ، صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَبْتَلِعَهُ مِنْ مَعْدِنِهِ، فَلَوْ خَرَجَ عَنْ فِيهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِلِسَانِهِ أَوْ غَيْرِ لِسَانِهِ وَابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: حَتَّى لَوْ خَرَجَ إلَى ظَاهِرِ الشَّفَةِ فَرَدَّهُ وَابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ الْعَفْوِ قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ خَرَجَ إلَى شَفَتِهِ ثُمَّ رَدَّهُ وَابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ، وَلَوْ خَرَجَ لِسَانُهُ وَعَلَيْهِ رِيقٌ حَتَّى بَرَزَ لِسَانُهُ إلَى خَارِجِ فِيهِ ثُمَّ رَدَّهُ وَابْتَلَعَهُ فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ (الْمَذْهَبُ) وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْخُرُوجِ لِلشَّيْءِ إلَّا بِانْفِصَالِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارٍ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ أَوْ رَجْلَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ أَخْرَجَ الْمُعْتَكِفُ رَأْسَهُ أَوْ رَجْلَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ. والثاني: فِي إبْطَالِهِ، وَجْهَانِ كَمَا لَوْ جَمَعَ الرِّيقَ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي بَابِ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِيمَا لَوْ أَخْرَجَتْ دُودَةٌ رَأْسَهَا مِنْ فَرْجِهِ ثُمَّ رَجَعَتْ قَبْلَ انْفِصَالِهَا هَلْ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الأصحيَنْتَقِضُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْتَلِعَهُ عَلَى الْعَادَةِ، فَلَوْ جَمَعَهُ قَصْدًا ثُمَّ ابْتَلَعَهُ فَهَلْ يُفْطِرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: لَا يُفْطِرُ، وَلَوْ اجْتَمَعَ رِيقٌ كَثِيرٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَابْتَلَعَهُ لَمْ يُفْطِرْ بِلَا خِلَافٍ.
فرع: لَوْ بَلَّ الْخَيَّاطُ خَيْطًا بِالرِّيقِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى فِيهِ عَلَى عَادَتِهِمْ حَالَ الْفَتْلِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رُطُوبَةٌ تَنْفَصِلُ، لَمْ يُفْطِرْ بِابْتِلَاعِ رِيقِهِ بَعْدَهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ شَيْءٌ يَدْخُلُ جَوْفَهُ، وَمِمَّنْ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا الْمُتَوَلِّي، وَإِنْ كَانَتْ رُطُوبَةٌ تَنْفَصِلُ وَابْتَلَعَهَا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمُتَابَعُوهُ وَالْمُتَوَلِّي.  أَحَدُهُمَا) وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ لَا يُفْطِرُ، قَالَ: كَمَا لَا يُفْطِرُ بِالْبَاقِي مِنْ مَاءِ الْمَضْمَضَةِ وَأَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ، وَقَدْ ابْتَلَعَهُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَعِدَتِهِ وَانْفِصَالِهِ، وَخَصَّ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ الْوَجْهَيْنِ بِمَا إذَا كَانَ جَاهِلًا تَحْرِيمَ ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ عَالَمًا بِتَحْرِيمِهِ أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ لِتَقْصِيرِهِ.
فرع: لَوْ اسْتَاكَ بِسِوَاكٍ رَطْبٍ فَانْفَصَلَ مِنْ رُطُوبَتِهِ أَوْ خَشَبِهِ الْمُتَشَعِّبِ شَيْءٌ وَابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
فرع: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا ابْتَلَعَ رِيقَ غَيْرِهِ أَفْطَرَ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ وَيَمُصُّ لِسَانَهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ فِيهِ سَعْدُ بْنُ أَوْسٍ1 وَمِصْدَعٌ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سعد بن أوس العدوي البصري عن مصدع بن يحيى وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين وقال ابن حجر في التقريب: العدوي والعبدي أو البصري صدوق له أغاليط. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه ابن معين ووثقه غيره وذكره ابن حبان في الثقات . أما مصدع المعرقب فقد قال الذهبي: صدوق تكلم فيه. قال السعدي: زائغ جائر عن الحق (ط).

 

ج / 6 ص -223-       وَهُمَا مِمَّنْ اُخْتُلِفَ فِي جَرْحِهِ وَتَوْثِيقِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بَصَقَهُ وَلَمْ يَبْتَلِعْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: النُّخَامَةُ إنْ لَمْ تَحْصُلْ فِي حَدِّ الظَّاهِرِ مِنْ الْفَمِ لَمْ تَضُرَّ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ حَصَلَتْ فِيهِ بِانْصِبَابِهَا مِنْ الدِّمَاغِ فِي الثُّقْبَةِ النَّافِذَةِ مِنْهُ إلَى أَقْصَى الْفَمِ فَوْقَ الْحُلْقُومِ، نَظَرَ - إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَرْفِهَا وَمَجِّهَا حَتَّى نَزَلَتْ إلَى الْجَوْفِ لَمْ تَضُرَّ، وَإِنْ رَدَّهَا إلَى فَضَاءِ الْفَمِ أَوْ ارْتَدَّتْ إلَيْهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهَا أَفْطَرَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ، لِأَنَّ جِنْسَهَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ، هَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَطْعِهَا مِنْ مَجْرَاهَا وَمَجِّهَا فَتَرَكَهَا حَتَّى جَرَتْ بِنَفْسِهَا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أحدهما: يُفْطِرُ؛ لِتَقْصِيرِهِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْأَوْفَقُ لِكَلَامِ الْأَصْحَابِ والثاني: لَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَرَكَ الدَّفْعَ فَلَمْ يُفْطِرْ، كَمَا لَوْ وَصَلَ الْغُبَارُ إلَى جَوْفِهِ مَعَ إمْكَانِ إطْبَاقِ فِيهِ وَلَمْ يُطْبِقْهُ، فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَقْرَبُ، قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ ذِكْرًا لِأَصَحِّهِمَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الخامسة: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا تَقَايَأَ عَمْدًا بَطَلَ صَوْمُهُ، وَإِنْ زَرَعَهُ الْقَيْءُ أَيْ غَلَبَهُ لَمْ يَبْطُلْ، وَهَذَانِ الطَّرَفَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا عِنْدَنَا، وَفِي سَبَبِ الْفِطْرِ بِالْقَيْءِ عَمْدًا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَقَدْ يُفْهَمَانِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أصحهما: أَنَّ نَفْسَ الِاسْتِقَاءِ مُفْطِرَةٌ كَإِنْزَالِ الْمَنِيِّ بِالِاسْتِمْنَاءِ والثاني: أَنَّ الْمُفْطِرَ رُجُوعُ شَيْءٍ مِمَّا خَرَجَ وَإِنْ قَلَّ، فَلَوْ تَقَايَأَ عَمْدًا مَنْكُوسًا أَوْ تَحَفَّظَ بِحَيْثُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ شَيْءٌ إلَى جَوْفِهِ - فَإِنْ قُلْنَا: الْمُفْطِرُ نَفْسُ الِاسْتِقَاءَةِ - أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَلَوْ اسْتِقَاءَ عَمْدًا وَتَحَفَّظَ جُهْدَهُ فَغَلَبَهُ الْقَيْءُ وَرَجَعَ شَيْءٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الِاسْتِقَاءَةُ مُفْطِرَةٌ بِنَفْسِهَا فَهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُفْطِرُ إلَّا بِرُجُوعِ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ إذَا سَبَقَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحَيْثُ أَفْطَرَ بِالْقَيْءِ عَمْدًا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ،.
فرع: إذَا اقْتَلَعَ نُخَامَةً مِنْ بَاطِنِهِ وَلَفَظَهَا لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْحَنَّاطِيُّ وَكَثِيرُونَ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ أصحهما: لَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَدْعُوا إلَيْهِ الْحَاجَةُ والثاني: يُفْطِرُ كَالْقَيْءِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَخْرَجُ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْبَاطِنِ، وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ الظَّاهِرِ، وَوَافَقَهُ الرَّافِعِيُّ فَقَالَ: هَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُهْمَلَةَ تَخْرُجُ مِنْ الْحَلْقِ وَالْحَلْقُ بَاطِنٌ، وَالْمُعْجَمَةُ تَخْرُجُ مِمَّا قَبْلَ الْغَلْصَمَةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَكِنْ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ مِمَّا بَعْدَ مَخْرَجِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الظَّاهِرِ أَيْضًا. هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُهْمَلَةَ أَيْضًا مِنْ الظَّاهِرِ، وَعَجَبٌ كَوْنُهُ ضَبَطَ بِالْمُهْمَلَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ وَلَمْ يَضْبِطْ بِالْهَاءِ أَوْ الْهَمْزَةِ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَأَمَّا الْخَاءُ الْمُعْجَمَةِ فَمِنْ أَدْنَى الْحَلْقِ، وَكُلُّ هَذَا مَشْهُورٌ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْقَيْءِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ مَنْ تَقَايَأَ عَمْدًا أَفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَقَايَأَ عَمْدًا أَفْطَرَ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَعَلْقَمَةُ

 

ج / 6 ص -224-       وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، قَالَ: وَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَقَالَ: وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ، قَالَ: وَأَمَّا مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَبِهِ أَقُولُ، قَالَ: وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رِوَايَتَانِ: الْفِطْرُ وَعَدَمُهُ هَذَا نَقْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِالْقَيْءِ عَمْدًا قَالَ: وَعَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي فِطْرِ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ خِلَافٌ قَالَ: وَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ تَقَايَأَ فَاحِشًا أَفْطَرَ فَخَصَّهُ بِالْفَاحِشِ، دَلِيلُنَا عَلَى الْجَمِيعِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فرع فِي مَسَائِلَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا
مِنْهَا الْحُقْنَةُ1. ذَكَرْنَا أَنَّهَا مُفْطِرَةٌ عِنْدَنَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نشرت لنا مجلة الاعتصام السائرة على مبادئ الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة عدد رمضان سنة 1390 ما يأتي ردا على مبتدعة القول بعدم إفطاره متعاطي الحقن العضلية والوريدية حت  لقد ذهبوا إلى حقن التغذية:
الرد على من قال: الحقنة لا تفطر.
إن الطعام يلتقم عن طريق الفم بالمضغ إلى مرحلة الهضم الأولى بخلطه بعصارة الفم (اللعاب) ليسهل بلعه وازدراده ثم يصل إلى المعدة عن طريق المريء بما يحدثه من حركة القبض والبسط، وبعد ذلك يحدث هضم شبه كلي، ثم ينزل إلى الاثني عشر فتفرز الكبد صفراؤها لإتمام عملية الهضم النهائي، لأن بعض المواد الغذائية كالدهنيات والبروتينات لايتم هضمهما نهائيا إلا في االاثني عشر ثم يحدث امتصاص في الأمعاء الدقيقة وهذه الأمعاء تنتشر حولها الأوردة المستقبلة للأشياء التي تم هضمها فيصل إلى الوريد السفلي الحامل للدم إلى الكبد وفي الكبد تتم عملية تنقيته من المواد السامة والفاسدة، ثم يندفع حتى يصل إلى القلب ليدفع به إلى الرئتين ليرجع إلى القلب مرة أخرى حاملا معه الأوكسجين ليتخلص الدم من ثاني أكسيد الكربون، هذا هو الطعام. إذا ثبت هذا فإن حقنة الجلوكوز والفيتامين أو غيرهما من التي تعطى في الوريد أو العضل على اختلاف في السرعة بين الطريقتين تصل مع  الدم المراد تنقيته إلى القلب لكي يدفعه القلب إلى الرئتين فينقي من ثاني أكسيد الكربون باستبداله بالأوكسجين الناجم عن عملية التنفس الذي لا محيص عنه، ثم يرجع الدم مرة أخرى إلى القلب لكي يعاود توزيعه إلى جميع أجزاء الجسم لإمداده بالطاقة والقوة وتكوين الخلايا وتجديدها كما يفعل الطعام سواء بسواء، ويمكن للإنسان إذا تكاملت في الحقن عناصر كافية من السكريات والبروتينات أن يعيش مستغنيا بذلك عن الطعام بل إن المرء إذا مكث أياما لا يأكل فقد شهيته إلى الطعام كما يعرف ذلك المجربون وكاتب هذا واحد منهم، وعلى هذا تكون الحقنة العضلية والجلدية والعرقية سواء كانت للتداوي أو للتقوية مفطرة للصائم مفسدة للصوم لأنها تؤدي وظيفة الطعام وتؤدي وظيفة الاستدواء من الفم بل هي أبلغ وأسرع وأكثر تأثيرا في دفع المرض والهزال الناجم عن الجوع وما إلى ذلك من فوائد الطعام والدواء حتى المعدة نفسها تتجدد خلاياها وتشفى أمراضها.
ثم أقول: وقد قصدنا سوق هذا الحكم وإن كان مراد الشيخ بالحقنة هنا الحقنة  التي تؤخذ من الدبر وهي الشرجة أن نوضح حكم الحقنة العرقية أو العضلية أو الجلدية وإن كان محلها حكم الجائفة فإن الإبرة المثقوبة ذات المجرى التي يسلك الدواء منها إلى العرق أو العضل إنما تحدث جائفة بقدرها وتوصل الغذاء والدواء إلى سائر البدن حتى المعدة (ط).   

 

ج / 6 ص -225-       وَإِسْحَاقَ وَحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ، وَنَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَدَاوُد: لَا يُفْطِرُ.
وَمِنْهَا لَوْ قَطَّرَ فِي إحْلِيلِهِ شَيْئًا فَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُفْطِرُ كَمَا سَبَقَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَدَاوُد: لَا يُفْطِرُ.
وَمِنْهَا: السُّعُوطُ إذَا وَصَلَ لِلدِّمَاغِ أَفْطَرَ عِنْدَنَا وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ دَاوُد: لَا يُفْطِرُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ.
وَمِنْهَا: لَوْ صَبَّ الْمَاءَ أَوْ غَيْرَهُ فِي أُذُنَيْهِ فَوَصَلَ دِمَاغَهُ أَفْطَرَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُد: لَا يُفْطِرُ إلَّا أَنْ يَصِلَ حَلْقَهُ.
وَمِنْهَا: لَوْ دَاوَى جُرْحَهُ فَوَصَلَ الدَّوَاءُ إلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ أَفْطَرَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُفْطِرَ إنْ كَانَ دَوَاءٌ رَطْبًا، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَلَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد: لَا يُفْطِرُ مُطْلَقًا.
وَمِنْهَا: لَوْ طَعَنَ نَفْسَهُ بِسِكِّينٍ أَوْ غَيْرِهَا فَوَصَلَتْ جَوْفَهُ أَوْ دِمَاغَهُ أَوْ طَعَنَهُ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ فَوَصَلَتْهُمَا أَفْطَرَ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُفْطِرُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ نَفَذَتْ الطَّعْنَةُ إلَى الْجَانِبِ الْآخِرِ أَفَطَرَ وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهَا: الطَّعَامُ الْبَاقِي بَيْنَ أَسْنَانِهِ إذَا ابْتَلَعَهُ، قَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الصَّائِمِ فِيمَا يَبْلَعُهُ مِمَّا يَجْرِي مَعَ الرِّيقِ مِمَّا بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ قَالَ: فَإِنْ قَدَرَ عَلَى رَدِّهِ فَابْتَلَعَهُ عَمْدًا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْطِرُ، وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ: يُفْطِرُ، وَبِهِ أَقُولُ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ سَبَقَتْ فِي مَوَاضِعِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَتَحْرُمُ الْمُبَاشَرَةُ فِي الْفَرْجِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: من الآية187] فَإِنْ بَاشَرَهَا فِي الْفَرْجِ بَطَلَ صَوْمُهُ، لِأَنَّهُ أَحَدُ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ، فَهُوَ كَالْأَكْلِ، وَإِنْ بَاشَرَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ صَوْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَبْطُلْ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ:"قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ وَأَنْتَ صَائِمٌ" فَشَبَّهَ الْقُبْلَةَ بِالْمَضْمَضَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ إذَا تَمَضْمَضَ فَوَصَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ أَفْطَرَ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ لَمْ يُفْطِرْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُبْلَةَ مِثْلُهَا، فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَخْرَجَ مَعَ الطُّلُوعِ وَأَنْزَلَ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ، لِأَنَّ الْإِنْزَالَ تَوَلَّدَ مِنْ مُبَاشَرَةٍ هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهَا، فَلَمْ يَبْطُلْ الصَّوْمُ. وَإِنْ نَظَرَ وَتَلَذَّذَ فَأَنْزَلَ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْزَالٌ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ فَلَمْ يَبْطُلْ الصَّوْمُ كَمَا لَوْ نَامَ فَاحْتَلَمَ. وَإِنْ اسْتَمْنَى فَأَنْزَلَ بَطَلَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْزَالٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، فَهُوَ كَالْإِنْزَالِ عَنْ الْقُبْلَةِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِمْنَاءَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي الْإِثْمِ وَالتَّعْزِيرِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِفْطَارِ".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مِمَّا غَيَّرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَجَعَلَهُ عَنْ جَابِرٍ وَأَنَّهُ هُوَ الْمُقَبِّلُ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُقَبِّلُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَهُوَ السَّائِلُ، وَهَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي سُنَنِ

 

ج / 6 ص -226-       أَبِي دَاوُد وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسُنَنِ الْبَيْهَقِيّ وَجَمِيعِ كُتُبِ الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ:"قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا، قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْت مِنْ الْمَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ قَالَ: فَمَهْ" هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إنَّهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، إنَّمَا هُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إثْبَاتُ الْقِيَاسِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الشَّبَهِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ بِالْمَاءِ ذَرِيعَةٌ إلَى نُزُولِهِ إلَى الْبَطْنِ فَيَفْسُدُ الصَّوْمُ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْجِمَاعِ الْمُفْسِدِ لِلصَّوْمِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مُفْطِرٍ وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ فَكَذَا الْآخَرُ. وَقَوْلُهُ: هَشَشْتُ، مَعْنَاهُ نَشَطْتُ وَارْتَحْتُ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ تَمَضْمَضَ فَوَصَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ أَفْطَرَ، هَذَا تَفْرِيعٌ مِنْهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَضْمَضَةِ،
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ:
 إحداها: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ عَلَى الصَّائِمِ وَعَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ يُبْطِلُ صَوْمَهُ؛ لِلْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ فَأَبْطَلَهُ كَالْأَكْلِ، وَسَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا، فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ فِي الْحَالَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ، وَلِحُصُولِ الْمُنَافِي، وَلَوْ لَاطَ بِرَجُلٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ أَوْلَجَ فِي قُبُلِ بَهِيمَةٍ أَوْ دُبُرِهَا بَطَلَ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اللِّوَاطِ كَمَذْهَبِنَا، وَقَالَ فِي الْبَهِيمَةِ: إنْ أَنْزَلَ بَطَلَ صَوْمُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَسَوَاءٌ فِي الْوَطْءِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ بِزِنًا أَوْ شُبْهَةٍ، فَكُلُّهُ يُفْطِرُ بِهِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالصَّوْمِ.
الثانية: إذَا قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِذَكَرِهِ أَوْ لَمَسَ بَشَرَةَ امْرَأَةٍ بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ بَطَلَ صَوْمُهُ وَإِلَّا فَلَا، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْحَاوِي وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى بُطْلَانِ صَوْمِ مَنْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ، وَيُسْتَدَلُّ أَيْضًا لِعَدَمِ الْفِطْرِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ" وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ وَالِدِهِ أَنَّهُ حَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَنْ ضَمَّ امْرَأَةً إلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَأَنْزَلَ، قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي كَسَبْقِ مَاءِ الْمَضْمَضَةِ، قَالَ: فَإِنْ ضَاجَعَهَا مُتَجَرِّدًا فَهُوَ كَالْمُبَالَغَةِ، فِي الْمَضْمَضَةِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُ لِلشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ فِي الشَّرْحِ رَمْزًا إلَى هَذَا قلت: قَدْ جَزَمَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَوْ قَبَّلَهَا فَوْقَ خِمَارٍ فَأَنْزَلَ لَا يُفْطِرُ؛ لِعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ، قَالَ: وَلَوْ لَمَسَ شَعْرَهَا فَأَنْزَلَ فَفِي بُطْلَانِ صَوْمِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّهِ.
الثالثة: إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ نَزَعَ مَعَ طُلُوعِهِ أَوْ عَقِبَ طُلُوعِهِ وَأَنْزَلَ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ مُبَاشَرَةٍ مُبَاحَةٍ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ قِصَاصًا فَمَاتَ مِنْهُ فَهَذَا هُوَ التَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ مُبَاشَرَةٍ هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهَا فَلَيْسَ بِمَقْبُولٍ.
الرابعة: إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ وَنَحْوِهِ وَتَلَذَّذَ فَأَنْزَلَ بِذَلِكَ لَمْ يُفْطِرْ، سَوَاءٌ كَرَّرَ النَّظَرَ أَمْ لَا، وَهَذَا لَا

 

ج / 6 ص -227-       خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا إلَّا وَجْهًا شَاذًّا حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ إذَا كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ صَوْمُهُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ التَّابِعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ هُوَ كَالْجِمَاعِ، فَيَجِبُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَنَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ، إحداهما: كَالْحَسَنِ وَالثَّانِيَةُ) إنْ تَابَعَ النَّظَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِلَّا فَالْقَضَاءُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ احْتَاطَ فَقَضَى يَوْمًا فَحَسَنٌ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: أَمَّا إذَا فَكَّرَ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فَتَلَذَّذَ فَأَنْزَلَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ بِالْإِجْمَاعِ، قَالَ: وَإِذَا كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ أَثِمَ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ.
الخامسة: إذَا اسْتَمْنَى بِيَدِهِ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الْمَنِيِّ أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَوْ حَكَّ ذَكَرَهُ لِعَارِضٍ فَأَنْزَلَ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ، قَالُوا: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ سَبَقَ مَاءُ الْمَضْمَضَةِ إلَى جَوْفِهِ.
قلت: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ فِي مَسْأَلَةِ حَكِّ الذَّكَرِ لِعَارِضٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مُبَاشَرَةٍ مُبَاحَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا: إذَا احْتَلَمَ فَلَا يُفْطِرُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ كَمَنْ طَارَتْ ذُبَابَةٌ فَوَقَعَتْ فِي جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ وأما: الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"لَا يُفْطِرُ مَنْ قَاءَ وَلَا مَنْ احْتَلَمَ وَلَا مَنْ احْتَجَمَ" فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَيْءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً وَتَلَذَّذَ فَأَمْذَى وَلَمْ يُمْنِ، لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُفْطِرُ، دَلِيلُنَا أَنَّهُ خَارِجٌ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: إذَا أَمْنَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ عَنْ مُبَاشَرَةٍ وَهُوَ صَائِمٌ أَوْ رَأَى الدَّمَ يَوْمًا كَامِلًا مِنْ فَرْجِ النِّسَاءِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عُضْوٌ زَائِدٌ، وَإِنْ أَمْنَى مِنْ فَرْجِ الرِّجَالِ عَنْ مُبَاشَرَةٍ وَرَأَى الدَّمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ فَرْجِ النِّسَاءِ، وَاسْتَمَرَّ الدَّمُ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَيْضِ، بَطَلَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ أَنْزَلَ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، وَإِلَّا فَقَدْ حَاضَتْ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ بِهِ الدَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا وَلَمْ يُنْزِلْ عَنْ، مُبَاشَرَةٍ مِنْ آلَةِ الرَّجُلِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ فِي انْفِرَادِ الدَّمِ أَوْ الْإِنْزَالِ، وَلَا كَفَّارَةَ حَيْثُ قُلْنَا بِفِطْرِهِ لِلِاحْتِمَالِ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْبَيَانِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ نَاسِيًا لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلَا يُفْطِرُ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ" فَنَصَّ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَقِسْنَا عَلَيْهِ كُلَّ مَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ مِنْ الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِتَحْرِيمِهِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ، لِأَنَّهُ يَجْهَلُ تَحْرِيمَهُ فَهُوَ كَالنَّاسِي، وَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِأَنْ أُوجِرَ الطَّعَامُ فِي حَلْقِهِ مُكْرَهًا لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ، وَإِنْ شَدَّ امْرَأَتَهُ وَوَطِئَهَا وَهِيَ مُكْرَهَةً لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهَا، وَإِنْ اسْتَدْخَلَتْ الْمَرْأَةُ ذَكَرَ الرَّجُلِ وَهُوَ نَائِمٌ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ؛

 

ج / 6 ص -228-       لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه"وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ" فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْقَضَاءُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَضَافَ أَكَلَ النَّاسِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَسْقَطَ بِهِ الْقَضَاءَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَإِنْ أُكْرِهَ حَتَّى أَكَلَ بِنَفْسِهِ، أَوْ أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ حَتَّى مُكِّنَتْ مِنْ الْوَطْءِ فَوَطِئَهَا، فَفِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يَبْطُلُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ لَدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ فَبَطَلَ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ أَكَلَ لِخَوْفِ الْمَرَضِ أَوْ شَرِبَ لَدَفْعِ الْعَطَشِ. والثاني: لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَأَشْبَهَ إذَا أُوجِرَ فِي حَلْقِهِ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ"مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ" سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَيْءِ، وَحَدِيثُهُ الْأَوَّلُ"مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا" إلَى آخِرِهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِلَفْظِهِ الَّذِي هُنَا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"إذَا نَسِيَ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ"مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَإِنْ شَدَّ امْرَأَتَهُ، لَوْ قَالَ: امْرَأَةً، لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَعَمَّ،
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إحداها: إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ تَقَايَأَ أَوْ اسْتَعَطَ أَوْ جَامَعَ أَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُنَافِيَاتِ الصَّوْمِ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَنَا، سَوَاءٌ قَلَّ ذَلِكَ أَمْ كَثُرَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِي أَكْلِ النَّاسِي إذَا كَثُرَ وَجْهَيْنِ كَكَلَامِ النَّاسِي فِي الصَّلَاةِ إذَا كَثُرَ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ هُنَا وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَمِرُّ بِهِ النِّسْيَانُ حَتَّى يَأْكُلَ كَثِيرًا، وَيَنْدُرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ.
وَذَكَرَ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِي جِمَاعِ النَّاسِي طَرِيقَيْنِ أصحهما: مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ؛ لِلْأَحَادِيثِ. والثاني: عَلَى قَوْلَيْنِ كَجِمَاعِ الْمُحْرِمِ نَاسِيًا. أصحهما: لَا يُفْطِرُ والثاني: يُفْطِرُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ الْحَجِّ لَيْسَ مَنْصُوصًا، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ أَحْمَدُ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ جِمَاعِ النَّاسِي فِي الْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَهُ هَيْئَةٌ يَتَذَكَّرُ بِهَا ، فَإِذَا نَسِيَ كَانَ مُقَصِّرًا بِخِلَافِ الصَّائِمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فرع فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ نَاسِيًا
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُنَافِيَاتِ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: يَجِبُ قَضَاؤُهُ فِي الْجِمَاعِ نَاسِيًا دُونَ الْأَكْلِ، وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ: يَفْسُدُ صَوْمُ النَّاسِي فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجِبُ بِالْجِمَاعِ نَاسِيًا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَلَا شَيْءَ فِي الْأَكْلِ، دَلِيلُنَا عَلَى الْجَمِيعِ الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -229-       الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ - فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ بِحَيْثُ يَخْفَى عَلَيْهِ كَوْنُ هَذَا مُفْطِرًا - لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ النَّصُّ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِطًا لِلْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَحْرِيمُهُ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يَنْزِلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ أَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ، وَلَوْ فَصَّلَ الْمُصَنِّفُ كَمَا فَصَّلَ غَيْرُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ كَانَ أَوْلَى. الثالثة: إذَا فَعَلَ بِهِ غَيْرُهُ الْمُفْطِرَ، بِأَنْ أَوْجَرَ الطَّعَامَ قَهْرًا أَوْ أَسَعَطَ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ، أَوْ طُعِنَ بِغَيْرِ رِضَاهُ بِحَيْثُ وَصَلَتْ الطَّعْنَةُ جَوْفَهُ، أَوْ رُبِطَتْ الْمَرْأَةُ وَجُومِعَتْ، أَوْ جُومِعَتْ نَائِمَةً فَلَا فِطْرَ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَكَذَا لَوْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ نَائِمًا أَفْطَرَتْ هِيَ دُونَهُ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا وَالْأَجْنَبِيَّةُ وَالْأَجْنَبِيُّ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إلَّا وَجْهًا حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِيمَا أَوْجَرَ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ، وَلَوْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ وَقَدْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ وَأَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَقُلْنَا: يَصِحُّ صَوْمُهُ فَأَوْجَرَهُ غَيْرُهُ شَيْئًا فِي حَالِ إغْمَائِهِ لِغَيْرِ الْمُعَالَجَةِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْحَنَّاطِيِّ، وَإِنْ أَوْجَرَهُ مُعَالَجَةً وَإِصْلَاحًا لَهُ فَهَلْ يُفْطِرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أصحهما: لَا يُفْطِرُ كَغَيْرِ الْمُعَالَجَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ. والثاني: يُفْطِرُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُعَالَجِ لِمَصْلَحَتِهِ فَصَارَ كَفِعْلِهِ، قَالُوا: وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ: إذَا عُولِجَ الْمُحْرِمُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ هَلْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَنُوَضِّحُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: لَوْ طَعَنَهُ غَيْرُهُ طَعْنَةً وَصَلَتْ جَوْفَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَكِنْ أَمْكَنَهُ دَفْعُهُ فَلَمْ يَدْفَعْهُ فَفِي فِطْرِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ أَقْيَسُهُمَا لَا يُفْطِرُ، إذْ لَا فِعْلَ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الرابعة: لَوْ أُكْرِهَ الصَّائِمُ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَشْرَبَ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، أَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ فَمُكِّنَتْ، فَفِي بُطْلَانِ الصَّوْمِ بِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ قَلَّ مَنْ بَيَّنَ الْأَصَحَّ مِنْهُمَا (وَالْأَصَحُّ) لَا يَبْطُلُ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ وَالْعَبْدَرِيِّ فِي الْكِفَايَةِ وَالرَّافِعِيُّ فِي (الشَّرْحِ) وَآخَرُونَ وَهُوَ الصَّوَابُ وَلَا تَغْتَرَّ بِتَصْحِيحِ الرَّافِعِيِّ فِي الْمُحَرَّرِ الْبُطْلَانَ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِ الْمُحَرَّرِ. وَاحْتَجُّوا لِعَدَمِ الْبُطْلَانِ بِأَنَّهُ بِالْإِكْرَاهِ سَقَطَ أَثَرُ فِعْلِهِ، وَلِهَذَا لَا يَأْثَمُ بِالْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَأْمُورًا بِالْأَكْلِ لَا مَنْهِيًّا عَنْهُ فَهُوَ كَالنَّاسِي، بَلْ أَوْلَى مِنْهُ بِأَنْ لَا يُفْطِرَ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْأَكْلِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ النَّاسِي فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ الْآخَرِ: إنَّهُ أَكَلَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَكَانَ كَالْآكِلِ لِدَفْعِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي اخْتِيَارِهِ وَأَمَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ فَلَا يَقْدَحَانِ فِي اخْتِيَارِهِ، بَلْ يَزِيدَانِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ قُلْنَا: يُفْطِرُ الْمُكْرَهُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلٍ أَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ، وَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ رَجُلٌ عَلَى الْوَطْءِ فَيَنْبَغِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إكْرَاهُهُ عَلَى الْوَطْءِ أَمْ لَا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ قُلْنَا: يُتَصَوَّرُ إكْرَاهُهُ فَهُوَ كَالْمُكْرَهِ، فَفِي إفْطَارِهِ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: يُفْطِرُ فَلَا كَفَّارَةَ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ جَامَعَ جِمَاعًا يَأْثَمُ بِهِ، وَهَذَا لَمْ يَأْثَمْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُتَصَوَّرُ إكْرَاهُهُ أَفْطَرَ قَوْلًا وَاحِدًا وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: لَوْ شُدَّتْ يَدَا الرَّجُلِ وَأُدْخِلَ ذَكَرُهُ فِي الْفَرْجِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا قَصْدٍ مِنْهُ

 

ج / 6 ص -230-       فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ وَإِنْ أَنْزَلَ فَوَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ بِالْإِيلَاجِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَا حَدَثَ مِنْهُ وَكَأَنَّهُ أَنْزَلَ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ سَقَطَ أَثَرُهَا بِالْإِكْرَاهِ. والثاني: يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ لَا يَحْدُثُ إلَّا عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، أحدهما: تَجِبُ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ مُفْطِرًا بِاخْتِيَارِهِ والثاني: لَا تَجِبُ؛ لِلشُّبْهَةِ. هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْحَاوِي،
قلت: هَذَا الْخِلَافُ فِي فِطْرِهِ شَبِيهٌ بِالْخِلَافِ فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الطَّلَاقِ فَقَصَدَ إيقَاعَهُ فَفِي وُقُوعِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ وَجْهَيْنِ: أحدهما: لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ سَقَطَ أَثَرُهُ بِالْإِكْرَاهِ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ، وَالنِّيَّةُ وَحْدَهَا لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ وَأَصَحُّهُمَا: يَقَعُ؛ لِوُجُودِ قَصْدِ الطَّلَاقِ بِلَفْظِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ فِي مَسْأَلَةِ الصَّوْمِ أَنَّهُ إنْ حَصَلَ بِالْإِنْزَالِ تَفَكُّرٌ وَقَصْدٌ وَتَلَذُّذٌ أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ،
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يَبْطُلُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ تَمَضْمَضَ أَوْ اسْتَنْشَقَ فَوَصَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ فَقَدْ نُصَّ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ (فَمِنْ) أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْقَوْلَانِ إذَا لَمْ يُبَالِغْ: فَأَمَّا إذَا بَالَغَ فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ:"إذَا اسْتَنْشَقْتَ فَأَبْلِغْ الْوُضُوءَ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" فَنَهَاهُ عَنْ الْمُبَالَغَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وُصُولُ الْمَاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ يُبْطِلُ الصَّوْمَ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي الصَّوْمِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ سَبَبٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا جَرَحَ إنْسَانًا فَمَاتَ، جُعِلَ كَأَنَّهُ بَاشَرَ قَتْلَهُ، وَمَنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَالَغَ أَوْ لَمْ يُبَالِغْ أحدهما: يَبْطُلُ صَوْمُهُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ قَبَّلَ وَهُوَ صَائِمٌ"أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ" فَشَبَّهَ الْقُبْلَةَ بِالْمَضْمَضَةِ وَإِذَا قَبَّلَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ صَوْمُهُ فَكَذَلِكَ إذَا تَمَضْمَضَ فَنَزَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ صَوْمُهُ. والثاني: لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَغَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ".
الشرح:
حَدِيثُ لَقِيطٍ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي فَصْلِ تَحْرِيمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى الصَّائِمِ وَحَدِيثُ قُبْلَةِ الصَّائِمِ وَتَشْبِيهِهَا بِالْمَضْمَضَةِ بَيَّنَّاهُ قَرِيبًا،
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَنُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي وُضُوئِهِ، كَمَا يُسْتَحَبَّانِ لِغَيْرِهِ لَكِنْ تُكْرَهُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِمَا لِمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ، فَلَوْ سَبَقَ الْمَاءُ فَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إذَا وَصَلَ الْمَاءُ مِنْهُمَا جَوْفَهُ أَوْ دِمَاغَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أصحها عِنْدَ الْأَصْحَابِ إنْ بَالَغَ أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا. والثاني: يُفْطِرُ مُطْلَقًا. والثالث: لَا يُفْطِرُ مُطْلَقًا، وَالْخِلَافُ فِيمَنْ هُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا لَمْ يَبْطُلْ بِلَا خِلَافٍ كَمَا سَبَقَ، وَلَوْ غَسَلَ فَمَهُ مِنْ نَجَاسَةٍ فَسَبَقَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ فَهُوَ كَسَبْقِهِ فِي الْمَضْمَضَةِ فَلَوْ بَالَغَ هَهُنَا قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذِهِ الْمُبَالَغَةُ لِحَاجَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَالْمَضْمَضَةِ بِلَا مُبَالَغَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْمُبَالَغَةِ

 

ج / 6 ص -231-       قَالَ الْمُنَصِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَكَانَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ وَلَمْ تَغْرُبْ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ؛ لِمَا رَوَى حَنْظَلَةُ قَالَ:" كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي السَّمَاءِ شَيْءٌ مِنْ السَّحَابِ فَظَنَنَّا أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاسِ فَأَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه مَنْ كَانَ قَدْ أَفْطَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَكَانَهُ" وَلِأَنَّهُ مُفْطِرٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَثْبُتَ1 إلَى أَنْ يَعْلَمَ فَلَمْ يُعْذَرْ".
الشرح:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَدَلِيلُهَا وَفُرُوعُهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا سَبَقَ بَيَانُهُ كُلِّهِ قَرِيبًا فِي فَصْلٍ يَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الصَّحِيحَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ آخَرَانِ سَبَقَا هُنَاكَ، وَسَبَقَ بَيَانُ حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه هَذَا الْمَذْكُورُ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"مَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ" وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ، فَلَأَنْ يَجِبَ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ أَوْلَى، وَيَجِبُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَلَزِمَهُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَفَّارَةِ إلَّا فِيمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْجِمَاعِ وَمَا سِوَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ أَغْلَظُ وَلِهَذَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَلَا يَجِبُ فِيمَا سِوَاهُ فَبَقِيَ الْأَصْلُ، وَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ السُّلْطَانَ عَزَّرَهُ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ وَلَا كَفَّارَةٌ فَثَبَتَ فِيهِ التَّعْزِيرُ كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ بَيَانُهُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُخْتَارًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، بِأَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ اسْتَعَطَ أَوْ بَاشَرَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ، أَوْ اسْتَمْنَى فَأَنْزَلَ أَثِمَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَامِسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ؟ وَهِيَ مُدٌّ مِنْ الطَّعَامِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَا يَلْزَمُهُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. والثاني: حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ: لَا يَلْزَمُهُ والثاني: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَزِمَتْ الْمُرْضِعَ وَالْحَامِلَ وَهُمَا مَعْذُورَتَانِ فَهَذَا أَوْلَى. وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَإِذَا عَلِمَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ بِهَذَا عَزَّرَهُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (يمسك) بدل (يثبت) (ط).

 

ج / 6 ص -232-       فَرْعٌ ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُّونَ
قَالُوا: لَوْ رَأَى الصَّائِمُ فِي رَمَضَانَ مُشْرِفًا عَلَى الْغَرَقِ وَنَحْوَهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَخْلِيصُهُ إلَّا بِالْفِطْرِ لِيَتَقَوَّى فَأَفْطَرَ لِذَلِكَ جَازَ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَفِي الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: بِاتِّفَاقِهِمْ لُزُومُهَا كَالْمُرْضِعِ والثاني: لَا يَلْزَمُهُ كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -233-       فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْإِمْسَاكُ تَشْبِيهًا بِالصَّائِمِينَ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ كَالْكَفَّارَةِ فَلَا إمْسَاكَ عَلَى مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ فِي نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ كَفَّارَةٍ كَمَا لَا كَفَّارَةَ وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
قَالَ أَصْحَابُنَا: ثُمَّ إنْ أَمْسَكَ تَشَبُّهًا فَلَيْسَ هُوَ فِي صَوْمٍ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ إذَا أَفْسَدَ إحْرَامَهُ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلَوْ ارْتَكَبَ الْمُمْسِكُ مَحْظُورًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ سِوَى الْإِثْمِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَسْأَلَةِ الْإِمْسَاكِ إذَا بَانَ يَوْمُ الشَّكِّ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَلَى كُلِّ مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، سَوَاءٌ أَكَلَ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّوْمِ إذَا قُلْنَا: يَخْرُجُ مِنْهُ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا أَقَامَ وَالْمَرِيضُ إذَا بَرَأَ وَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ وَالْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ فِي مَعْنَاهُمْ فَسَبَقَ بَيَانُ حُكْمِهِمْ فِي الْإِمْسَاكِ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ مَبْسُوطًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 

 فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عُدْوَانًا
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ يَوْمٍ بَدَلَهُ وَإِمْسَاكَ بَقِيَّةِ النَّهَارِ، وَإِذَا قَضَى يَوْمًا كَفَاهُ عَنْ الصَّوْمِ وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً إلَّا مَنْ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَلْزَمُهُ صَوْمُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَالَ النَّخَعِيُّ صَوْمُ ثَلَاثَةِ آلَافِ يَوْمٍ كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُنَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما" لَا يَقْضِيهِ صَوْمُ الدَّهْرِ".
وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ لَكِنْ لَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فِيهِ وَالْفِدْيَةُ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ فِي الْعَادَةِ كَالْعَجِينِ وَبَلْعِ حَصَاةٍ وَنَوَاةٍ وَلُؤْلُؤَةٍ يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَكَذَا إنْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ اسْتَمْنَى فَلَا كَفَّارَةَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَمَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ الْعُظْمَى فِي كُلِّ فِطْرٍ لِمَعْصِيَةٍ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَحُكِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ عَلَيْهِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَبَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ دَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وأما: الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ هُشَيْمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"أَنَّهُ أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ" وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ.

 

ج / 6 ص -234-       فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أَنَّهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى مُرْسَلَةٌ، وَالثَّانِيَةَ فِيهَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: جَوَابُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ هَذَا اخْتِصَارٌ وَقَعَ مِنْ هُشَيْمٍ، فَقَدْ رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ لَيْثٍ عَنْهُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مُفَسَّرًا فِي قِصَّةِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَكَذَا كُلُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ، مُطْلَقًا مِنْ وَجْهٍ فَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُ فِي قِصَّةِ الْوَاقِعِ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَلَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِطْرِ بِالْأَكْلِ شَيْءٌ هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الَّذِي وَاقَعَ أَهْلَهُ فِي رَمَضَانَ بِقَضَائِهِ" وَلِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَهُمَا مَعْذُورَانِ، فَعَلَى الْمُجَامِعِ أَوْلَى، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَفِي الْكَفَّارَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ مُخْتَصٌّ بِالْجِمَاعِ فَاخْتَصَّ بِهِ الرَّجُلُ دُونَ الْمَرْأَةِ كَالْمَهْرِ والثاني: تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فَاسْتَوَى فِيهَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ كَحَدِّ الزِّنَا والثالث: تَجِبُ عَلَيْهِ عَنْهُ وَعَنْهَا كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فِعْلٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَأَوْجَبَ عِتْقَ رَقَبَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْهَا".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَصْلُهُ فِي "الصحيحين" لَفْظُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ"جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ بِهِ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ جَلَسَ فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعِرْقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ" وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ،" أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ" وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد قَالَ" فَأَتَى بِعِرْقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَدْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا" وَفِيهَا قَالَ" كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ، وَصُمْ يَوْمًا وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ" وَاسِنَادُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد هَذِهِ جَيِّدٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ رَجُلًا ضَعَّفَهُ، وَقَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَلَمْ يُضَعِّفْ أَبُو دَاوُد هَذِهِ الرِّوَايَةَ.
وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ، احْتِرَازٌ مِنْ الْغُسْلِ وَالْحَدِّ وَقَوْلُهُ: يَخْتَصُّ بِالْجِمَاعِ احْتِرَازٌ مِنْ غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ وَالزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ، احْتِرَازٌ مِنْ الْمَهْرِ، وَمِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ وَحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّ الشُّبْهَةَ تُعْتَبَرُ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلُهُ: تَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ، احْتِرَازٌ مِنْ الدِّيَةِ وَمِنْ قَتْلِ الْحَرْبِيِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ دُونَ الْمَرْأَةِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَإِذَا أَفْطَرَ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ طَرِيقَانِ أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَأَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ يَجِبُ والثاني: ذَكَرَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ

 

ج / 6 ص -235-       أصحها وُجُوبُهُ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني: لَا يَجِبُ وَتَنْدَرِجُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ والثالث: إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ لَمْ يَجِبْ وَإِلَّا وَجَبَ.
وَحَكَى بَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ هَذَا الْخِلَافَ قَوْلَيْنِ وَوَجْهًا وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ: أَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْأُمِّ إلَى قَوْلَيْنِ، سَوَاءٌ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ أَمْ بِغَيْرِهِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ إذَا لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. 
وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ عَلَى الرَّجُلِ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ الْمَوْطُوءَةُ فَإِنْ كَانَتْ مُفْطِرَةً بِحَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ صَائِمَةً وَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهَا لِكَوْنِهَا نَائِمَةً، مَثَلًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَائِمَةً فَمَكَّنَتْهُ طَائِعَةً فَقَوْلَانِ أحدهما: وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ يَلْزَمُهَا كَفَّارَةٌ أُخْرَى فِي مَالِهَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهَا بَلْ يَخْتَصُّ الزَّوْجُ بِهَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْأُمِّ" وَالْقَدِيمِ
.
فَعَلَى هَذَا هَلْ الْكَفَّارَةُ الَّتِي تَلْزَمُ الزَّوْجَ عَنْهُ خَاصَّةً؟ أَمْ عَنْهُ وَعَنْهَا وَيَتَحَمَّلُهَا هُوَ عَنْهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مُسْتَنْبَطَانِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَرُبَّمَا قِيلَ: مَنْصُوصَانِ وَرُبَّمَا قِيلَ: وَجْهَانِ وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ يَجْمَعُ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ وَيَقُولُ: فِي الْكَفَّارَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أصحها تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ خَاصَّةً والثاني: تَجِبُ عَلَيْهِ وَعَنْهَا والثالث: يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ. وَالْأَصَحُّ عَلَى الْجُمْلَةِ وُجُوبُ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَيْهِ خَاصَّةً عَنْ نَفْسِهِ فَقَطْ وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَا يُلَاقِيهَا الْوُجُوبُ، وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ وَالرَّابِعُ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ فِي مَالِهِ كَفَّارَتَانِ كَفَّارَةٌ عَنْهُ وَكَفَّارَةٌ عَنْهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً، قَالَ: لَا أَجِدُ، قَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَ: لَا أَجِدُ فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا قَالَ: خُذْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، قَالَ: عَلَى أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِي، وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِزُهُ قَالَ: خُذْهُ، وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ تَعَالَى وَأَطْعِمْ أَهْلَكَ" فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ عَلَيْهِ دُونَهَا اُعْتُبِرَ حَالُهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَعْتَقَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ صَامَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ أَطْعَمَ وإن قلنا: يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ اُعْتُبِرَ حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَعْتَقَ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ صَامَ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ أَطْعَمَ كَرَجُلَيْنِ أَفْطَرَا بِالْجِمَاعِ.
فإن قلنا: يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا اُعْتُبِرَ حَالُهُمَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَعْتَقَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ أَطْعَمَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يُحْتَمَلُ، وَإِنْ اخْتَلَفَ حَالُهُمَا نَظَرْت - فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ - أَعْتَقَ رَقَبَةً وَيُجْزِئُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَنْ فَرْضُهُ الصَّوْمُ إذَا أَعْتَقَ أَجْزَأَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ وَيُطْعِمَ عَنْهَا سِتِّينَ

 

ج / 6 ص -236-       مِسْكِينًا؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ تَصِحُّ فِي الْإِطْعَامِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا كَفَّارَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَتَبَعَّضُ، فَوَجَبَ تَكْمِيلُ نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ، مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ صَامَ عَنْ نَفْسِهِ شَهْرَيْنِ، وَأَعْتَقَ عَنْهَا رَقَبَةً، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ أَطْعَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَصُمْ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ، لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً وَقُلْنَا: إنَّ الْأَمَةَ لَا تَمْلِكُ الْمَالَ فَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ وَلَا يُجْزِئُ عَنْهَا عِتْقٌ فإن قلنا: إنَّهَا تَمْلِكُ الْمَالَ أَجْزَأَ عَنْهَا الْعِتْقُ كَالْحُرَّةِ الْمُعْسَرَةِ. وَإِنْ قَدِمَ الرَّجُلُ مِنْ السَّفَرِ وَهُوَ مُفْطِرٌ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَتْ: أَنَا مُفْطِرَةٌ فَوَطِئَهَا، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَمْ يَلْزَمْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْكَفَّارَةَ عَنْهُ وَعَنْهَا، وَجَبَ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهَا، لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِقَوْلِهَا: إنِّي مُفْطِرَةٌ. وَإِنْ أَخْبَرَتْهُ بِصَوْمِهَا فَوَطِئَهَا وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْكَفَّارَةَ عَنْهُ دُونَهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْكَفَّارَةَ عَنْهُ وَعَنْهَا، لَزِمَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ لَزِمَهَا أَنْ تَصُومَ. وَإِنْ وَطِئَ الْمَجْنُونُ زَوْجَتَهُ وَهِيَ صَائِمَةٌ مُخْتَارَةً - فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْكَفَّارَةَ عَنْهُ دُونَهَا - لَمْ تَجِبْ، وَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ عَنْهُ وَعَنْهَا، فَهَلْ يَتَحَمَّلُ الزَّوْجُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَا يَتَحَمَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَتَحَمَّلُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِوَطْئِهِ، وَالْوَطْءُ كَالْجِنَايَةِ وَجِنَايَةُ الْمَجْنُونِ مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ نَائِمًا فَاسْتَدْخَلَتْ الْمَرْأَةُ ذَكَرَهُ فَإِنْ قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عَنْهُ دُونَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَنْهُمَا، لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ وَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُكَفِّرَ وَلَا يَتَحَمَّلُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَتِهِ فِعْلٌ، وَإِنْ زَنَى بِهَا فِي رَمَضَانَ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْكَفَّارَةَ عَنْهُ دُونَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: عَنْهُ وَعَنْهَا، وَجَبَ عَلَيْهِمَا كَفَّارَتَانِ، وَلَا يَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ كَفَّارَتَهَا، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تُتَحَمَّلُ بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ هَهُنَا".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَأَصْلُهَا مِنْ الْكَفْرِ، بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهُوَ السِّتْرُ، لِأَنَّهَا تَسْتُرُ الذَّنْبَ وَتُذْهِبُهُ. هَذَا أَصْلُهَا ثُمَّ اُسْتُعْمِلَتْ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ صُورَةٌ مُخَالِفَةٌ أَوْ انْتِهَاكٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْمٌ كَالْقَاتِلِ خَطَأً وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ (عِتْقُ رَقَبَةٍ) فَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إنَّمَا قِيلَ لِمَنْ أَعْتَقَ نَسَمَةً وَأَعْتَقَ رَقَبَةً وَفَكَّ رَقَبَةً، فَخُصَّتْ الرَّقَبَةُ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ السَّيِّدِ وَمِلْكَهُ كَالْحَبْلِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَكَالْغُلِّ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْهُ، فَإِذَا أُعْتِقَ فَكَأَنَّهُ أُطْلِقَ مِنْ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي تَهْذِيبُ الْعِتْقِ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ (بِعَرَقِ تَمْرٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَيُقَالُ أَيْضًا: بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فَتْحُهَا وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْمِكْتَلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَالزِّنْبِيلُ بِكَسْرِ الزَّايِ وَالزَّنْبِيلُ بِفَتْحِهَا، وَالْقُفَّةُ وَالسَّفِيفَةُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَاءٍ مُكَرَّرَةٍ، وَكُلُّهُ اسْمٌ لِهَذَا الْوِعَاءِ الْمَعْرُوفِ، لَيْسَ لِسِعَتِهِ قَدْرٌ مَضْبُوطٌ، بَلْ قَدْ يَصْغُرُ وَيَكْبُرُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد" فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا" وَقَوْلُهُ: "مَا بَيْنَ لَابَّتَيْ الْمَدِينَةِ" يَعْنِي حَرَّتَيْهَا، وَالْحَرَّةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمُكَبَّسَةُ حِجَارَةً سَوْدَاءَ، وَيُقَالُ لَهَا لَابَةٌ وَلُوبَةٌ وَنَوْبَةٌ بِالنُّونِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهَا فِي التَّهْذِيبِ وَقَوْلُهُ"حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ" وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُهَذَّبِ" نَوَاجِذُهُ" وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَالنَّوَاجِذُ هِيَ الْأَنْيَابُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مُتَعَيِّنُ هُنَا جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَيُقَالُ: هِيَ الْأَضْرَاسُ، وَهِيَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَقُلْنَا: إنَّ الْأَمَةَ لَا

 

ج / 6 ص -237-       تَمْلِكُ الْمَالَ فَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ وَلَا يُجْزِئُ عَنْهَا الْعِتْقُ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهَا تَمْلِكُ أَجْزَأَ عَنْهَا الْعِتْقُ، هَكَذَا يَقَعُ عَنْهَا الْعِتْقُ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهَا تَمْلِكُ أَجْزَأَ عَنْهَا الْعِتْقُ هَكَذَا يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ وَلَا يُجْزِئُ عَنْهَا الْعِتْقُ، وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ" وَلَا يَجِبُ" وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
أما أحكام الفصل: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةٌ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَيَجِبُ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الْمَذْكُورِ، وَصِفَةُ هَذِهِ الرَّقَبَةِ وَبَيَانُ الْعَجْزِ عَنْهَا الْمُجَوِّزُ لِلِانْتِقَالِ إلَى الصَّوْمِ، وَالْعَجْزُ عَنْ الصَّوْمِ الْمُجَوِّزُ لِلِانْتِقَالِ إلَى الطَّعَامِ وَبَيَانُ التَّتَابُعِ مَا يَقْطَعُهُ، وَالْإِطْعَامُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كُلِّهِ مُسْتَقْصَى فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ عَقِبَ كِتَابِ الظِّهَارِ، وَقَدْ سَبَقَ فِيمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أصحها تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَا يُلَاقِيهَا الْوُجُوبُ.
والثاني: تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَتَكُونُ عَنْهُ وَعَنْهَا، وَهِيَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
والثالث: تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَعَلَيْهَا كَفَّارَةٌ أُخْرَى قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ اُعْتُبِرَ حَالُهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَعْتَقَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ صَامَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ أَطْعَمَ وَلَا نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبٌ.
وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ اُعْتُبِرَ حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَعْتَقَ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ صَامَ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ أَطْعَمَ، وَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا مُوَافَقَةُ صَاحِبِهِ إذَا اخْتَلَفَتْ صِفَتُهُمَا، بَلْ هُمَا كَرَجُلَيْنِ أَفْطَرَا بِالْجِمَاعِ فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ. وإن قلنا: بِالْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا، فَهَذَا مَحَلُّ التَّفْصِيلِ وَالتَّفْرِيعِ الطَّوِيلِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَدْ يَتَّفِقُ حَالُهُمَا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ، فَإِنْ اتَّفَقَ نُظِرَ - إنْ كَانَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ - أَعْتَقَ الرَّجُلُ رَقَبَةً عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ بِأَنْ كَانَا مَمْلُوكَيْنِ أَوْ حُرَّيْنِ مُعْسِرَيْنِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ,؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ لَا تُتَحَمَّلُ.
وأما: إذَا اخْتَلَفَ حَالُهُمَا فَقَدْ يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنْهَا، وَقَدْ يَكُونُ أَدْنَى، فَإِنْ كَانَ أَعْلَى نُظِرَ - إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ أَوْ الْإِطْعَامِ - فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْخُرَاسَانِيُّونَ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: يُجْزِئُ الْإِعْتَاقُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَنْ فَرْضُهُ الصَّوْمُ أَمْ الْإِطْعَامُ إذَا تَكَلَّفَ الْعِتْقَ أَجْزَأَهُ وَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَهُوَ أَفْضَلُ، كَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ أَمَةً فَعَلَيْهَا الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يُجْزِئُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْوَلَاءَ وَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهِ هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَهُنَا: لَا يُجْزِئُ عَنْهَا الْعِتْقُ إلَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْعَبْدَ يُمْلَكُ بِالتَّمْلِيكِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهَا كَالْحُرَّةِ الْمَعْسَرَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَرِيبٌ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْعِتْقُ عَنْ الْأَمَةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ فِي الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَقَالَ:

 

ج / 6 ص -238-       لَا يَصِحُّ إعْتَاقُ الْعَبْدِ سَوَاءٌ قُلْنَا: يَمْلِكُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْوَلَاءَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقِينَ عَنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ: لَا يُجْزِئُ الْإِعْتَاقُ عَنْ الْمَرْأَةِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا الصَّوْمُ إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِهِ، وَفِيمَنْ يَلْزَمُهُ الْإِطْعَامُ عَنْهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِهِ وَجْهَانِ.
أحدهما: يَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَخْرَجَ وَظِيفَتَهُ وَهِيَ الْعِتْقُ وَأَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُ الزَّوْجَ، فَإِنْ عَجَزَ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَنْ يَقْدِرَ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعْدُودَةٌ مِنْ مُؤَنِ الزَّوْجَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الزَّوْجِ.
أَمَّا: إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ، فَإِنْ تَكَلَّفَ الْإِعْتَاقَ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً أَجْزَأَتْ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَأَمَّا إنْ أَرَادَ الصِّيَامَ. فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يُطْعِمَ عَنْهَا، قَالُوا: لِأَنَّ النِّيَابَةَ تَصِحُّ فِيهِمَا، قَالُوا: وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا كَفَّارَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَتَبَعَّضُ فَوَجَبَ تَكْمِيلُ كُلِّ نِصْفٍ مِنْهَا، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ. 
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمُقْتَضَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ فِي إجْزَاءِ الْإِعْتَاقِ عَنْهُمَا عَنْ الصِّيَامِ أَنْ يُجْزِئَ هُنَا الصِّيَامُ عَنْ الْإِطْعَامِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ أَعْلَى حَالًا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ أَدْنَى نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ أَطْعَمَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَزِمَهَا الصِّيَامُ عَنْ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا نِيَابَةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ أَوْ الْإِطْعَامِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ صَامَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ أَطْعَمَ وَلَزِمَهُ الْإِعْتَاقُ عَنْهَا إذَا قَدِرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَجْنُونًا فَوَطِئَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ مُخْتَارَةً فإن قلنا: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ، لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهَا، وَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ دُونَهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا، وإن قلنا: تَجِبُ كَفَّارَةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا، فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أصحهما: يَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهَا، وَلَا يَتَحَمَّلُهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ، كَمَا لَا تَلْزَمُهُ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ. والثاني: قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ مَالَهُ صَالِحٌ لِلتَّحَمُّلِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِوَطْئِهِ، وَالْوَطْءُ كَالْجِنَايَةِ وَجِنَايَةُ الْمَجْنُونِ مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُرَاهِقًا فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ كَالْبَالِغِ تَخْرِيجًا مِنْ قَوْلِنَا: عَمْدُهُ عَمْدٌ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ نَائِمًا فَاسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ فَكَالْمَجْنُونِ وَقَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ بِأَنَّا إذَا قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عَنْهُ وَعَنْهَا وَجَبَتْ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِدْخَالِ فِي مَالِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِلزَّوْجِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 فرع: لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسَافِرًا صَائِمًا وَهِيَ حَاضِرَةً صَائِمَةً، فَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّرَخُّصَ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَةِ خُرَاسَانَ أصحهما: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فَصَارَ كَقَاصِدِ التَّرَخُّصِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَكَذَا حُكْمُ الْمَرِيضِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ إذَا أَصْبَحَ صَائِمًا فَجَامَعَ وَكَذَا الصَّحِيحُ إذَا مَرِضَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ ثُمَّ

 

ج / 6 ص -239-       جَامَعَ، فَحَيْثُ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ، فَيَجِيءُ فِي الْكَفَّارَةِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ، وَحُكْمُ التَّحَمُّلِ مَا سَبَقَ، وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا كَفَّارَةَ فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ مُفْطِرًا فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا مُفْطِرَةٌ وَكَانَتْ صَائِمَةً فَوَطِئَهَا - فَإِنْ قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عَنْهُ فَقَطْ - فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: عَنْهُ وَعَنْهَا، وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ. هَكَذَا قَالُوهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِنَا: الْمَجْنُونُ لَا يَتَحَمَّلُ وَإِلَّا فَلَيْسَ الْعُذْرُ هُنَا بِأَوْضَحَ مِنْهُ فِي الْمَجْنُونِ قلت: الْفَرْقُ أَنَّهُ لَا تَغْرِيرَ مِنْهَا فِي صُورَةِ الْمَجْنُونِ، أَمَّا إذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ مُفْطِرًا فَأَخْبَرَتْهُ بِصَوْمِهَا فَوَطِئَهَا مُطَاوِعَةً، فَإِنْ قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عَنْهُ فَقَطْ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: عَنْهُ وَعَنْهَا، لَزِمَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ لَزِمَهَا الصِّيَامُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: إذَا أَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ وَهُمَا صَائِمَانِ فِي الْحَضَرِ فَلَهُمَا حَالَانِ أحدهما: أَنْ يَقْهَرَهَا بِرَبْطِهَا أَوْ بِغَيْرِهِ وَيَطَأَ فَلَا تُفْطِرُ هِيَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عَنْهُ قَطْعًا والثاني: أَنْ يُكْرِهَهَا حَتَّى تُمَكِّنَهُ فَفِي فِطْرِهَا قَوْلَانِ سَبَقَا أصحهما: لَا تُفْطِرُ فَيَكُونُ كَالْحَالِ الْأَوَّلِ والثاني: تُفْطِرُ وَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ وَحْدُهُ قَطْعًا. فرع: هَذَا الَّذِي سَبَقَ كُلُّهُ فِيمَا إذَا وَطِئَ زَوْجَتَهُ، فَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فَطَرِيقَانِ أحدهما: الْقَطْعُ بِوُجُوبِ كَفَّارَتَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ وَلَا زَوْجِيَّةَ هُنَا وَأَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ إنْ قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عَنْهُ خَاصَّةً، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: عَنْهُ وَعَنْهَا، فَعَلَيْهِمَا فِي مَالِهِمَا كَفَّارَةٌ أُخْرَى، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ فِي أَيَّامٍ وَجَبَ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَفَّارَتُهَا كَالْعُمْرَتَيْنِ، وَإِنْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ الثَّانِيَ لَمْ يُصَادِفْ صَوْمًا".
الشَّرْحُ:
اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ أَيَّامٍ وَجَبَ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ، سَوَاءٌ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ أَمْ لَا، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، بِخِلَافِ مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ تَطَيَّبَ فِي الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ الْيَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ جَامَعَ زَوْجَتَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ عَنْ الثاني: بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ.
فرع: قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُعَايَاةِ: فِيمَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ دُونَهَا والثاني: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ عَنْهُمَا والثالث: يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ وَيَتَحَمَّلُ الزَّوْجُ مَا دَخَلَهُ التَّحَمُّلُ، وَهُوَ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ، قَالَ: فَإِذَا وَطِئَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَزِمَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَفَّارَةٌ فَقَطْ عَنْ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِبَاقِي الْوَطْئَاتِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ: كَفَّارَةٌ عَنْ وَطْئَتِهِ الْأُولَى عَنْهُ وَعَنْهَا، وَثَلَاثٌ عَنْ الْبَاقِيَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ

 

ج / 6 ص -240-       يُوجِدُ التَّحَمُّلَ، وَعَلَى الثَّالِثِ يَلْزَمُهُ خَمْسُ كَفَّارَاتٍ كَفَّارَتَانِ عَنْهُ وَعَنْ الْأُولَى بِوَطْئِهَا، وَثَلَاثٌ عَنْ الْبَاقِيَاتِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَتَانِ مُسْلِمَةٌ وَكِتَابِيَّةٌ فَوَطِئَهُمَا فِي يَوْمٍ لَزِمَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَإِنْ قَدَّمَ وَطْءَ الْمُسْلِمَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَإِلَّا فَكَفَّارَتَانِ، وَعَلَى الثَّالِثِ يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَدَّمَ الْمُسْلِمَةَ لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ عَنْهُ وَعَنْهَا وَلَا شَيْءَ بِسَبَبِ الْكِتَابِيَّةِ. وَإِنْ قَدَّمَ الْكِتَابِيَّةَ لَزِمَهُ لِنَفْسِهِ كَفَّارَةٌ ثُمَّ أُخْرَى عَنْ الْمُسْلِمَةِ، هَذَا كَلَامُ الْجُرْجَانِيِّ وَفِي بَعْضِهِ نَظَرٌ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: إذَا وَطِئَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ فِي يَوْمٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عَنْهُنَّ، فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ وَإِلَّا فَكَفَّارَةٌ، وَذَكَرَ فِي الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ نَحْوَ قَوْلِ الْجُرْجَانِيِّ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ كَرَّرَ جِمَاعَ زَوْجَتِهِ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ أَمْ لَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانَ الْوَطْءُ الثَّانِي قَبْلَ تَكْفِيرِهِ عَنْ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ فَأَشْبَهَ الْأَوَّلَ. دَلِيلُنَا أَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ صَوْمًا مُنْعَقِدًا بِخِلَافِ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ وَطِئَ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَجِبُ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ، سَوَاءٌ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ أَمْ لَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُد وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ وَطِئَ فِي الثاني: قَبْلَ تَكْفِيرِهِ عَنْ الْأَوَّلِ، كَفَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ، قَالَ: وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ فَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَرَمَضَانَ وَاحِدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ، وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ، وَقَاسَهُ عَلَى الْحُدُودِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ فَلَمْ تَتَدَاخَلْ بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ فَرَدَّ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ فَصَامَ وَجَامَعَ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ مِنْ غَيْرَ عُذْرٍ، فَأَشْبَهَ إذَا قَبِلَ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ".
الشرح: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لَزِمَهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِنْ صَامَهُ وَجَامَعَ فِيهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَسَبَقَ إيضَاحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي أَوَائِلِ الْبَابِ، وَلَوْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ لَزِمَهُ الْفِطْرُ كَمَا سَبَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالْجِمَاعِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ رَمَضَانَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ، فَاسْتَدَامَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَجْرِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ صِحَّةَ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وَإِنْ جَامَعَ وَعِنْدَهُ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَكَانَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ وَلَمْ تَكُنْ غَرَبَتْ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ جَامَعَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَكَفَّارَةُ الصَّوْمِ عُقُوبَةٌ تَجِبُ مَعَ الْمُسْلِمِ فَلَا تَجِبُ مَعَ اعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ كَالْحَدِّ، وَإِنْ أَكَلَ نَاسِيًا فَظَنَّ

 

ج / 6 ص -241-       أَنَّهُ أَفْطَرَ بِذَلِكَ ثُمَّ جَامَعَ عَامِدًا فَالْمَنْصُوصُ فِي الصِّيَامِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ فَأَشْبَهَ إذَا وَطِئَ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْلٌ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ نَهَارٌ، وَقَالَ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ رحمه الله: يُحْمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِي ظَنَّهُ لَا يُبِيحُ الْوَطْءَ بِخِلَافِ، مَا لَوْ جَامَعَ وَظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ غَرَبَتْ؛ لِأَنَّ الَّذِي ظَنَّ شَاكٌّ يُبِيحُ لَهُ الْوَطْءَ فَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ مَعَ إبَاحَةِ الْفِطْرِ، وَإِنْ أَصْبَحَ الْمُقِيمُ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ وَجَامَعَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ أَصْبَحَ الصَّحِيحُ صَائِمًا ثُمَّ مَرِضَ وَجَامَعَ لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَإِنْ جَامَعَ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ فِي يَوْمِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا وَجَبَ فِيهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ جَامَعَ ثُمَّ مَرِضَ أَوْ جُنَّ فَفِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَلَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ كَالسَّفَرِ والثاني: أَنَّهُ تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَرْتَبِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضِ، فَإِذَا خَرَجَ1 جُزْؤُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فِيهِ أَوْ عَنْ الصَّوْمِ فِيهِ مُسْتَحَقًّا خَرَجَ أَوَّلُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا أَوْ يَكُونَ الصَّوْمُ فِيهِ مُسْتَحَقًّا، فَيَكُونُ جِمَاعُهُ فِي يَوْمِ فِطْرٍ، أَوْ فِي يَوْمِ صَوْمٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ فَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ".

الشرح: فِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ إحداها: إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَاسْتَدَامَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَجْرِ بَطَلَ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ طَرِيقَانِ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ وُجُوبُهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَحَكَى جَمَاعَاتٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَيْنِ الْمَنْصُوصُ وُجُوبُهَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني: لَا تَجِبُ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْ بِهَذَا الْجِمَاعِ صَوْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ هُنَا عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ انْعِقَادَ الصَّوْمِ لَا لِإِفْسَادِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، قَالَ: وَمَنْ قَالَ انْعَقَدَ صَوْمُهُ ثُمَّ فَسَدَ فَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ هُنَا عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالِاسْتِدَامَةِ، وَنَصَّ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَوَطِئَهَا وَاسْتَدَامَ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَهْرٌ بِالِاسْتِدَامَةِ، قَالُوا: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا فَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ وَخَرَّجَ فَجَعَلَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلَيْنِ: أحدهما: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَالْمَهْرُ كَمَا لَوْ نَزَعَ ثُمَّ أَوْلَجَ والثاني: لَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْفِعْلِ كَانَ مُبَاحًا.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ دُونَ الْمَهْرِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ هُنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ كَفَّارَةٌ، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِاسْتِدَامَتِهِ لِئَلَّا يَخْلُوَ جِمَاعٌ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا عَنْ كَفَّارَةٍ. وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْوَطْءِ تَعَلَّقَ بِهِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ مَهْرَ النِّكَاحِ يُقَابِلُ جَمِيعَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "المهذب" لابن بطال الركبي: "فإذا خرج جزؤه عن أ، يكون صائما فيه أو عن الصوم فيه مستحقا.... الخ" (ط).

 

ج / 6 ص -242-       الْوَطَآتِ فَلَمْ يَجِبْ بِاسْتِدَامَتِهِ مَهْرٌ آخَرُ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى إيجَابِ مَهْرَيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ بِوَطْأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَوْلُنَا: لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، احْتِرَازٌ مِمَّنْ وَطِئَ زَوْجَةَ أَبِيهِ أَوْ ابْنَهُ بِشُبْهَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ زَوْجِهَا وَيَلْزَمُ الْوَاطِئَ مَهْرَانِ بِالْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ: مَهْرٌ لِلزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا بِشُبْهَةٍ، وَمَهْرٌ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ نِكَاحَهُ.
فرع: لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُجَامِعًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ سَأُوَضِّحُهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أصحها لَا يَنْعَقِدُ حَجُّهُ. كَمَا لَا يَنْعَقِدُ صَوْمُهُ، وَلَا صَلَاةُ مَنْ أَحْرَمَ بِهَا مَعَ خُرُوجِ الْحَدَثِ.
والثاني: يَنْعَقِدُ حَجُّهُ صَحِيحًا، فَإِنْ نَزَعَ فِي الْحَالِ صَحَّ حَجُّهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَسَدَ، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَالْقَضَاءُ وَالْبَدَنَةُ وَالثَّالِثُ: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْمُضِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ مَكَثَ أَوْ نَزَعَ فِي الْحَالِ وَلَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ إنْ نَزَعَ فِي الْحَالِ فَإِنْ مَكَثَ وَجَبَتْ شَاةٌ فِي الْأَصَحِّ. وَفِي قَوْلِ: بَدَنَةٌ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ أَنَّ الصَّوْمَ يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْإِفْسَادِ، فَلَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِيهِ مَعَ وُجُودِ الْمُفْسِدِ بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْبَابِ بَيَانُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: يَخْرُجُ مِنْ الصَّوْمِ بِالْإِفْسَادِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَجِّ بِالْإِفْسَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ جَامَعَ ظَانًّا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ أَنَّ الشَّمْسَ غَرَبَتْ فَبَانَ غَلَطُهُ فَلَا كَفَّارَةَ هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ إلَّا إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى النَّاسِي بِالْجِمَاعِ يَقُولُ بِمِثْلِهِ هُنَا لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَحْثِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقَوْلُهُمْ فِيمَنْ ظَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ: لَا كَفَّارَةَ، تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ الْفِطْرِ بِظَنِّ ذَلِكَ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ بِالظَّنِّ فَيَنْبَغِي وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ مُحَرَّمٌ صَادَفَ الصَّوْمَ.
الثالثة: إذَا أَكَلَ الصَّائِمُ، نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِذَلِكَ لِجَهْلِهِ بِالْحُكْمِ ثُمَّ جَامَعَ فَهَلْ يَبْطُلُ صَوْمُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أحدهما: وَبِهِ قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: لَا كَمَا لَوْ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ نَاسِيًا، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَامِدًا فَإِنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ وَأَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: تَبْطُلُ كَمَا لَوْ جَامَعَ أَوْ أَكَلَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَبَانَ طَالِعًا.
فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُفْطِرُ، فَلَا كَفَّارَةَ، وَإِنْ قُلْنَا: يُفْطِرُ، فَلَا كَفَّارَةَ أَيْضًا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ "الْأُمِّ"، وَفِيهِ الِاحْتِمَالُ الَّذِي حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَذَكَرَ دَلِيلَهُمَا، أَمَّا إذَا أَكَلَ نَاسِيًا وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِهِ ثُمَّ جَامَعَ فِي يَوْمِهِ فَيُفْطِرُ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا.
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَظَنَّ بُطْلَانَ صَوْمِهِ فَمَكَثَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ هَتْكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: وَكَذَا لَوْ قَبَّلَ1 وَلَمْ يُنْزِلْ أَوْ اغْتَابَ إنْسَانًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح القاف وتشديد الباء مع فتحها.

 

ج / 6 ص -243-       فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ فَجَامَعَ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ قَبَّلَ ثُمَّ جَامَعَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا أَنْ يُفْتِيَهُ فَقِيهٌ أَوْ يَتَأَوَّلَ خَبَرًا فِي ذَلِكَ. وَقَالَ فِي الَّذِي اغْتَابَ ثُمَّ جَامَعَ: يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَفْتَى أَوْ تَأَوَّلَ خَبَرًا. دَلِيلُنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ إفْسَادَ صَوْمٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ فَإِنْ قَصَدَ بِالْجِمَاعِ التَّرَخُّصَ فَلَا كَفَّارَةَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْخُرَاسَانِيُّونَ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ: لَا كَفَّارَةَ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
الخامسة: إذَا أَصْبَحَ الْمُقِيمُ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ وَجَامَعَ فِي يَوْمِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ قَالَهُ الْمُزَنِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَإِذَا جَامَعَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً فِي فَصْلِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ.
السادسة: إذَا أَصْبَحَ الصَّحِيحُ صَائِمًا ثُمَّ مَرِضَ فَجَامَعَ فَلَا كَفَّارَةَ إنْ قَصَدَ التَّرَخُّصَ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَقْصِدْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ قَرِيبًا.
السابعة: لَوْ أَفْسَدَ الْمُقِيمُ صَوْمَهُ بِجِمَاعٍ ثُمَّ سَافَرَ فِي يَوْمِهِ، لَمْ تَسْقُطْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ كطرآن الْمَرَضِ، حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، وَلَوْ أَفْسَدَ الصَّحِيحُ صَوْمَهُ بِالْجِمَاعِ ثُمَّ مَرِضَ فِي يَوْمِهِ فَطَرِيقَانِ أحدهما: لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَأَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: لَا تَسْقُطُ والثاني: تَسْقُطُ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ، وَلَوْ أَفْسَدَ بِجِمَاعٍ ثُمَّ طَرَأَ جُنُونٌ أَوْ حَيْضٌ أَوْ مَوْتٌ فِي يَوْمِهِ فَقَوْلَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أَصَحَّهُمَا: السُّقُوطُ؛ لِأَنَّ يَوْمَهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلصَّوْمِ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ، وَصُورَةُ الْحَيْضِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُفْطِرَةَ بِالْجِمَاعِ يَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْجِمَاعِ فِي يَوْمِهِ لَمْ تَسْقُطْ الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ وَهُوَ وَاضِحٌ. هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا. وَمِمَّنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِطَرَآنِ الْجُنُونِ وَالْمَرَضِ وَالْحَيْضِ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُخْتَصَرِ وَغَيْرِهِ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ والثاني: فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى إيجَابِ الْحَدِّ بِهِ إنْ أَوْجَبْنَاهُ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ، وَإِلَّا فَلَا، حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ ابْنِ خَيْرَانَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا الطَّرِيقُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ لَيْسَ مُرْتَبِطًا بِالْحَدِّ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي وَطْءِ الزَّوْجَةِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الْحَدِّ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنْزَلَ أَمْ لَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا قُلْنَا فِي إتْيَانِ الْبَهِيمَةِ: لَا كَفَّارَةَ، لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ أَيْضًا كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، هَذَا إنْ لَمْ يُنْزِلْ، فَإِنْ أَنْزَلَ أَفْسَدَ، كَمَا لَوْ قَبَّلَ فَأَنْزَلَ.
فرع: الْوَطْءُ بِزِنًا أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَطْءُ أَمَتِهِ وَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ وَالْكَافِرَةِ وَسَائِرِ النِّسَاءِ سَوَاءٌ فِي إفْسَادِ الصَّوْمِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ وَإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ النَّهَارِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
فرع: إذَا أَفْسَدَ صَوْمَهُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالِاسْتِمْنَاءِ وَالْمُبَاشَرَاتِ الْمُفْضِيَاتِ إلَى الْإِنْزَالِ فَلَا كَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ

 

ج / 6 ص -244-       وَالْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا عَنْ أَبِي خَلَفٍ الطَّبَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ تَلَامِذَةِ الْقَفَّالِ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ مَا يَأْثَمُ بِالْإِفْطَارِ بِهِ. وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ صَاحِبُ الْحَاوِي عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجِبُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَفَّارَةٌ فَوْقَ كَفَّارَةِ الْمُرْضِعِ وَدُونَ كَفَّارَةِ الْمَجَامِعِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ غَلَطٌ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ رَوَى عَنْ الشَّافِعِيِّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا اسْتَمْنَى مُتَعَمِّدًا بَطَلَ صَوْمُهُ وَلَا كَفَّارَةَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَلَوْ حَكَّ ذَكَرَهُ لِعَارِضٍ وَلَمْ يَقْصِدْ الِاسْتِمْنَاءَ فَأَنْزَلَ، فَلَا كَفَّارَةَ، وَفِي بُطْلَانِ الصَّوْمِ وَجْهَانِ قلت: أَصَحُّهُمَا لَا يَبْطُلُ كَالْمَضْمَضَةِ بِلَا مُبَالَغَةٍ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً أَوْ رَجُلًا فِي الدُّبْرِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ  قال: َالثَّوْرِيُّ: تَسْقُطُ وَأَسْقَطَهَا زَفَرُ بِالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ دُونَ الْمَرَضِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالسَّفَرِ إلَّا ابْنَ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيَّ فَأَسْقَطَهَا بِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَوَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي الدُّبُرِ، وَاللِّوَاطُ كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ وَطْءٌ، وَلِأَنَّ الْجَمِيعَ فِي إيجَابِ الْحَدِّ وَاحِدٌ فَكَذَلِكَ فِي إفْسَادِ الصَّوْمِ وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا إتْيَانُ الْبَهِيمَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ، أَفْسَدَ الصَّوْمَ وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ لَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ وَلَمْ تَجِبْ بِهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ كَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فِي التَّعْزِيرِ فَكَانَ مِثْلَهُ فِي إفْسَادِ الصَّوْمِ وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ؛ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَفْسُدُ الصَّوْمُ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ كَوَطْءِ الْمَرْأَةِ".
الشرح:
قَوْلُهُ: "فَفِيهِ وَجْهَانِ" كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: طَرِيقَانِ فَعَبَّرَ، بِالْوَجْهَيْنِ عَنْ الطَّرِيقَيْنِ مَجَازًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حِكَايَةٌ لِلْمَذْهَبِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مِثْلِ هَذَا الْمَجَازِ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ1، وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ وَطْءَ الْمَرْأَةِ فِي الدُّبُرِ وَاللِّوَاطَ بِصَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ كَوَطْءِ الْمَرْأَةِ فِي الْقُبُلِ فِي جَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ، وَوُجُوبِ إمْسَاكِ بَقِيَّةِ النَّهَارِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ وَجْهًا شَاذًّا بَاطِلًا فِي الْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَهَذَا غَلَطٌ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال النووي رحمه الله  في "المقدمة": وأما الطرق فهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب فيقول بعضهم مثلا: في المسألة قولان أو وجهان، ويقول الآخر: لا يجوز قولا واحدا أو وجها واحدا، أو يقول أحدهما: في المسألة تفصيل، ويثقول الآخر: فيها خلاف مطلق، وقد يستعملون الوجهين في موضع الطريقين وعكسه. ثم ساقر أمثلة من "المهذب" فارجع إليه فإنه مفيد وهو في الجزء الأول ص (111) (ط).

 

ج / 6 ص -245-       وَأَمَّا إتْيَانُ الْبَهِيمَةِ فِي دُبُرِهَا أَوْ قُبُلِهَا فَفِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أصحهما: الْقَطْعُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ رِوَايَتَانِ عَنْهُ أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ لَا كَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ وَالتَّحْلِيلُ فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ جِمَاعٌ أَثِمَ بِهِ لِسَبَبِ الصَّوْمِ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ كَالْقَتْلِ، قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: وَلَا كَفَّارَةَ فِي إتْيَانِ الْبَهِيمَةِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، سَوَاءٌ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالْإِنْزَالِ أَمْ لَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ دَاوُد: كُلُّ إنْزَالٍ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ حَتَّى الِاسْتِمْنَاءُ إذَا كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ فَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجِبُ بِالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ الْكَفَّارَةُ وَفِي الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ رِوَايَتَانِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَأَشْبَهَ الْجِمَاعَ فِي الْفَرْجِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْ فِي الْفَرْجِ فَأَشْبَهَ الرِّدَّةَ فَإِنَّهَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَمَا قَالَهُ الْآخَرُونَ يُنْتَقَضُ بِالرِّدَّةِ.
فرع: قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: الضَّابِطُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ أَثِمَ بِهِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، وَفِي هَذَا الضَّابِطِ قُيُودٌ: أَحَدُهَا: الْإِفْسَادُ، فَمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا لَا يُفْطِرُ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ. وَقِيلَ فِي فِطْرِهِ قَوْلَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُفْطِرُ، فَلَا كَفَّارَةَ لِعَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ أصحهما: لَا كَفَّارَةَ أَيْضًا لِعَدَمِ الْإِثْمِ الثاني: قَوْلُنَا: "مِنْ رَمَضَانَ" فَلَا كَفَّارَةَ بِإِفْسَادِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَالنَّذْرِ وَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ لِحُرْمَةِ رَمَضَانَ الثالث: قَوْلُنَا: "بِجِمَاعٍ" احْتِرَازٌ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالِاسْتِمْنَاءِ وَالْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ قَرِيبًا وَالرَّابِعُ:  قَوْلُنَا: "تَامٍّ" احْتِرَازٌ مِنْ الْمَرْأَةِ إذَا جُومِعَتْ فَإِنَّهَا يَحْصُلُ فِطْرُهَا بِتَغْيِيبِ بَعْضِ الْحَشَفَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْجِمَاعُ التَّامُّ إلَّا وَقَدْ أَفْطَرَتْ لِدُخُولِ دَاخِلٍ فِيهَا فَالْفِطْرُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الدُّخُولِ، وَأَحْكَامُ الْجِمَاعِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِتَغْيِيبِ كُلِّ الْحَشَفَةِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا أَفْطَرَتْ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ تَمَامِهِ. 
وَقَوْلُنَا: "أَثِمَ بِهِ" احْتِرَازٌ مِمَّنْ جَامَعَ بَعْدَ الْفَجْرِ ظَانًّا بَقَاءَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَوْمَهُ يَفْسُدُ وَلَا كَفَّارَةَ كَمَا سَبَقَ. وَقَوْلُنَا: "بِسَبَبِ الصَّوْمِ" احْتِرَازٌ مِنْ الْمُسَافِرِ إذَا شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَفْطَرَ بِالزِّنَا مُتَرَخِّصًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ أَثِمَ بِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ بِهِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ جَائِزٌ لَهُ وَإِنَّمَا أَثِمَ بِالزِّنَا، وَلَوْ زَنَى الْمُقِيمُ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ وَقُلْنَا: الصَّوْمُ يَفْسُدُ بِجِمَاعِ النَّاسِي فَلَا كَفَّارَةَ أَيْضًا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ بِسَبَبِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ نَاسٍ لَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَجِمَاعُ الْمَرْأَةِ إذَا قُلْنَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَلَا يُلَاقِيهَا الْوُجُوبُ، مُسْتَثْنَى عَنْ الضَّابِطِ.
فرع: لَوْ صَامَ الصَّبِيُّ رَمَضَانَ فَأَفْسَدَهُ بِالْجِمَاعِ وَقُلْنَا: إنَّ وَطْأَهُ فِي الْحَجِّ يُفْسِدُهُ وَيُوجِبُ

 

ج / 6 ص -246-       الْبُدْنَ1، فَفِي وُجُوبِ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَسَأُوَضِّحُهُمَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَفَّارَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا تَجِبُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"
[خُذْهُ وَاسْتَغْفِرْ] اللَّهَ تَعَالَى أَطْعِمْ أَهْلَكَ" أَوْ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَ الْعَجْزِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ. والثاني: أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا قَدِرَ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ بِسَبَبٍ مَنْ جِهَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَجْزِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ".
الشرح:
هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَقَوْلُهُ: "حَقُّ مَالٍ" احْتِرَازٌ مِنْ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بَلْ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَقَوْلُهُ: "لِلَّهِ تَعَالَى" احْتِرَازٌ مِنْ الْمُتْعَةِ. وَقَوْلُهُ: "لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ" احْتِرَازٌ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَقَوْلُهُ: "لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى" قَالَ الْقَلَعِيُّ: لَيْسَ هُوَ احْتِرَازًا بَلْ لِتَقْرِيبِ الْفَرْعِ مِنْ الْأَصْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ احْتِرَازٌ مِنْ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ. وَقَوْلُهُ: "بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ" احْتِرَازٌ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ. 
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثُ أَضْرُبٍ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهَا الْمُصَنِّفُ. ضَرْبٌ: يَجِبُ لَا بِسَبَبِ مُبَاشَرَةٍ مِنْ الْعَبْدِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ. وَضَرْبٌ: يَجِبُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْحَلْقِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ وُجُوبِهِ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْغَرَامَةِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ مَحْضٌ. وَضَرْبٌ" يَجِبُ بِسَبَبِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ كَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: وَدَمُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَالنَّذْرُ وَكَفَّارَةُ قَوْلِهِ: أَنْتِ حَرَامٌ، وَدَمُ التَّمَتُّعِ وَالطِّيبُ وَاللِّبَاسُ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، فَمَتَى قَدِرَ عَلَى أَحَدِ الْخِصَالِ لَزِمَتْهُ والثاني: لَا تَثْبُتُ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا، وَشَبَهُهَا بِجَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْلَى مِنْ الْفِطْرَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُؤَاخَذَةٌ عَلَى فِعْلِهِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ بِخِلَافِ الْفِطْرَةِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِلْقَوْلِ بِسُقُوطِهَا بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أَطْعِمْ أَهْلَكَ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تُصْرَفُ إلَى الْأَهْلِ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَالْمُحَقِّقُونَ: حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ دَلِيلٌ لِثُبُوتِهِمَا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ جَمِيعِ الْخِصَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَجْزَهُ عَنْ جَمِيعِ الْخِصَالِ ثُمَّ مَلَّكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَرَقَ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ لِقُدْرَتِهِ الْآنَ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَتْ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ لَمَا أَمَرَهُ بِهَا.
وَأَمَّا إطْعَامُهُ أَهْلَهُ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْكَفَّارَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ صَارَ مِلْكًا لَهُ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْهَا، فَلَمَّا ذَكَرَ حَاجَتَهُ إلَيْهِ أَذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ لَا عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَبَقِيَتْ
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الباء وتسكين الدال

 

ج / 6 ص -247-       الْكَفَّارَةُ فِي الذِّمَّةِ وَتَأْخِيرُهَا لِمِثْلِ هَذَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا لَهُ عليه السلام فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَهَا لَهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْ بِهَذَا بَعْدَ إعْلَامِهِ بِعَجْزِهِ، فَفَهِمَ الْأَعْرَابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ هَذَا أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ. والثاني: أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ، وَهَذَا لَيْسَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ.
وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَجْهًا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ خَاصَّةً إلَى زَوْجَةِ الْمُكَفِّرِ وَأَوْلَادِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَوَافَقَ هَذَا الْقَائِلَ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ وَبَاقِيَ الْكَفَّارَاتِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ الْفُقَرَاءِ، وَقَاسَ الْجُمْهُورُ عَلَى الزَّكَاةِ وَبَاقِي الْكَفَّارَاتِ، وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِمَا سَبَقَ.

فرع فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ
إحداها: إذَا نَسِيَ النِّيَّةَ وَجَامَعَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَا كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْ بِهِ صَوْمًا.
الثَّانِيَةِ: إذَا وَطِئَ الصَّائِمُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَقَالَ: جَهِلْتُ تَحْرِيمَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ؛ لِقُرْبِ إسْلَامِهِ وَنَحْوِهِ فَلَا كَفَّارَةَ، وَإِلَّا وَجَبَتْ، وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ تَحْرِيمَهُ وَجَهِلْتُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ وَلَهُ نَظَائِرُ مَعْرُوفَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ.
الثَّالِثَةِ: إذَا أَفْسَدَ الْحَجَّ بِالْجِمَاعِ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَفِي الْكَفَّارَةِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ السَّابِقَةُ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي الصَّوْمِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا
وَفِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ أَثِمَ بِهِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا مَا حَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِ الصَّلَاةِ، دَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقُ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، وَيُخَالِفُ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْمَالِ فِي جُبْرَانِهَا.
الثانية: يَجِبُ عَلَى الْمُكَفِّرِ مَعَ الْكَفَّارَةِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِإِيجَابِ قَضَائِهِ قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ سِوَى الْأَوْزَاعِيِّ فَقَالَ: إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَفَّرَ بِالْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ قَضَاهُ.
 الثالثة: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الرابعة: هَذِهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ فَيَجِبُ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ عَجَزَ فَصَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ عَجَزَ

 

ج / 6 ص -248-       فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَأَفْضَلُهَا عِنْدَهُ الْإِطْعَامُ. وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ عِتْقِ رَقَبَةٍ وَنَحْرِ بَدَنَةٍ، وَاحْتَجَّا بِحَدِيثَيْنِ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبَيْهِمَا. دَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَسَنِ فَضَعِيفٌ جِدًّا، وَحَدِيثُ مَالِكٍ يُجَابُ بِجَوَابَيْنِ أحدهما: حَدِيثُنَا أَصَحُّ وَأَشْهَرُ. والثاني: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّرْتِيبِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ.
الخامسة: يُشْتَرَطُ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ التَّتَابُعُ وَجَوَّزَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَفْرِيقَهُ، لِحَدِيثٍ فِي صَوْمِ شَهْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ التَّرْتِيبِ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالتَّتَابُعِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ.
السادسة: إذَا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ فَهُوَ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلُّ مِسْكِينٍ مُدٌّ، سَوَاءٌ الْبُرُّ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ وَغَيْرُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ حِنْطَةً أَوْ صَاعٌ مِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ، وَفِي الزَّبِيبِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ: رِوَايَةٌ: صَاعٌ، وَرِوَايَةٌ: مُدَّانِ.
السابعة: لَوْ جَامَعَ فِي صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ مِنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلَا كَفَّارَةَ كَمَا سَبَقَ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي إفْسَادِ قَضَاءِ رَمَضَانَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ: يَصِحُّ صَوْمُهُ كَمَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ أَنَّ الصَّوْمَ نِيَّةٌ وَتَرْكٌ، ثُمَّ لَوْ انْفَرَدَ التَّرْكُ عَنْ النِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا انْفَرَدَتْ النِّيَّةُ عَنْ التَّرْكِ لَمْ يَصِحَّ، وَأَمَّا النَّوْمُ فَإِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ قَالَ: إذَا نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، كَمَا إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَصِحُّ صَوْمُهُ إذَا نَامَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِغْمَاءِ أَنَّ النَّائِمَ ثَابِتُ الْعَقْلِ، لِأَنَّهُ إذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ النَّائِمَ كَالْمُسْتَيْقِظِ، وَلِهَذَا وِلَايَتُهُ ثَابِتَةٌ عَلَى مَالِهِ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ وَمُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ: إذَا كَانَ فِي أَوَّلِهِ مُفِيقًا صَحَّ صَوْمُهُ، وَفِي كِتَابِ الصَّوْمِ إذَا كَانَ فِي بَعْضِهِ مُفِيقًا أَجْزَأَهُ. وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: إذَا كَانَتْ صَائِمَةً فَأُغْمِيَ عَلَيْهَا أَوْ حَاضَتْ بَطَلَ صَوْمُهَا، وَخَرَّجَ أَبُو الْعَبَّاسِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُفِيقًا فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَتَأَوَّلَ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ عَلَى هَذَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْإِفَاقَةُ فِي أَوَّلِهِ كَالنِّيَّةِ تُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِهِ.
والثاني: أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْإِفَاقَةُ فِي طَرَفَيْهِ كَمَا أَنَّ فِي الصَّلَاةِ يُعْتَبَرُ الْقَصْدُ فِي الطَّرَفَيْنِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا بَيْنَهُمَا. والثالث: أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْإِفَاقَةُ فِي جَمِيعِهِ، فَإِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِهِ لَمْ يَصِحَّ [صَوْمُهُ]؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى إذَا طَرَأَ أَسْقَطَ فَرْضَ الصَّلَاةِ فَأَبْطَلَ الصَّوْمَ كَالْحَيْضِ. وَالرَّابِعُ: تُعْتَبَرُ الْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ وَلَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا، إنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ جُنَّ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْجَدِيدِ:

 

ج / 6 ص -249-       يَبْطُلُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ، فَأَبْطَلَ الصَّوْمَ كَالْحَيْضِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: هُوَ كَالْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْعَقْلَ وَالْوِلَايَةَ فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ".
الشرح: قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ عَارِضٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ، يُنْتَقَضُ بِالْإِغْمَاءِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَلَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِهِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ عَلَى الْأَصَحِّ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ:
إحداها: إذَا نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ وَكَانَ قَدْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ صَحَّ صَوْمُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَصِحُّ، حَكَاهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَيْضًا، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَيْقَظَ لَحْظَةً مِنْ النَّهَارِ وَنَامَ بَاقِيَهُ صَحَّ صَوْمُهُ الثانية: لَوْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ وَلَمْ يَنَمْ النَّهَارَ وَلَكِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ الصَّوْمِ فِي جَمِيعِهِ صَحَّ صَوْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِ ذِكْرِهِ حَرَجًا.
الثالثة: لَوْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ مِنْ النَّوْمِ أَنَّهُ يَصِحُّ خَرَّجَهُ الْمُزَنِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ.
الرابعة: إذَا نَوَى مِنْ اللَّيْلِ وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْضَ النَّهَارِ دُونَ بَعْضٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: إنْ أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ أَوَّلَ النَّهَارِ أَوْ غَيْرَهُ وَهَذَا هُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ الصِّيَامِ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الطَّرِيقَ الْبَغَوِيّ وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْقَائِلُ النَّصَّيْنِ الْآخَرَيْنِ فَتَأَوَّلَ نَصَّهُ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَى أَنَّ بُطْلَانَ الصَّوْمِ عَائِدٌ إلَى الْحَيْضِ خَاصَّةً لَا إلَى الْإِغْمَاءِ، قَالُوا: وَقَدْ يَفْعَلُ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ هَذَا وَتَأَوَّلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ تَأْوِيلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِغْمَاءِ هُنَا الْجُنُونُ، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْقَائِلُ نَصَّهُ فِي الظِّهَارِ وَالْبُوَيْطِيُّ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِفَاقَةَ فِي أَوَّلِهِ لِلتَّمْثِيلِ بِالْجُزْءِ لَا لِاشْتِرَاطِ الْأَوَّلِ. والطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ إنْ أَفَاقَ فِي أَوَّلِهِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا، وَتَأَوَّلَ نَصَّهُ فِي الصَّوْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُزْءِ الْمُبْهَمِ أَوَّلُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الظِّهَارِ، وَتَأَوَّلَ نَصُّ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا سَبَقَ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ، أَصَحُّ الْأَقْوَالِ يَشْتَرِطُ الْإِفَاقَةَ فِي جُزْءٍ مِنْهُ والثاني: فِي أَوَّلِهِ خَاصَّةً والثالث: فِي طَرَفَيْهِ وَالرَّابِعُ: فِي جَمِيعِهِ كَالنَّقَاءِ مِنْ الْحَيْضِ. هَذَا الرَّابِعُ تَخْرِيجٌ لِابْنِ سُرَيْجٍ خَرَّجَهُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ مَنْصُوصًا لِلشَّافِعِيِّ قَالَ: وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ إلَّا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الْأَصَحَّ. فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا، فَالْأَصَحُّ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ كُلِّهِ إنْ كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ أَيَّ جُزْءٍ كَانَ صَحَّ صَوْمُهُ وَإِلَّا فَلَا.
الخامسة: إذَا نَوَى الصَّوْمَ بِاللَّيْلِ وَجُنَّ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ

 

ج / 6 ص -250-       مِنْ الْأَصْحَابِ الْجَدِيدُ: بُطْلَانُ صَوْمِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ كَالْحَيْضِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: هُوَ كَالْإِغْمَاءِ فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ حَكَى بَدَلَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهَيْنِ كَصَاحِبِ الْإِبَانَةِ وَآخَرِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَاهُمَا طَرِيقَيْنِ وَهُوَ أَحْسَنُ، وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ بِبُطْلَانِ الصَّوْمِ بِالْجُنُونِ فِي لَحْظَةٍ كَالْحَيْضِ. وَلَوْ جُنَّ جَمِيعَ النَّهَارِ لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ.
السادسة: لَوْ حَاضَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ أَوْ ارْتَدَّ، بَطَلَ صَوْمُهُمَا بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَفِسَتْ بَطَلَ صَوْمُهَا بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا أَصْلًا، فَفِي بُطْلَانِ صَوْمِهَا خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ بِخُرُوجِ الْوَلَدِ وَحْدَهُ (إنْ قُلْنَا) لَا غُسْلَ، لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهَا وَإِلَّا بَطَلَ عَلَى أَشْهَرِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَلَمْ يَبْطُلْ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ دَلِيلًا، وَقَدْ سَبَقَ إيضَاحُ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ.
السابعة: حَيْثُ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ صَوْمُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إمَّا لِوُجُودِ الْإِغْمَاءِ فِي كُلِّ النَّهَارِ أَوْ بَعْضِهِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ نِيَّتِهِ بِاللَّيْلِ، يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ رَمَضَانَ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَفِيهِ وَجْهٌ لِابْنِ سُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ، كَمَا لَا قَضَاءَ عَلَى الْمَجْنُونِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ.
فرع: لَوْ نَوَى الصَّوْمَ فِي اللَّيْلِ ثُمَّ شَرِبَ دَوَاءً فَزَالَ عَقْلُهُ نَهَارًا بِسَبَبِهِ، قَالَ الْبَغَوِيّ: إنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ صَوْمُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَهَذَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أصحهما: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ لَيْلًا وَبَقِيَ سُكْرُهُ جَمِيعَ النَّهَارِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ. وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ صَحَا فِي بَعْضِهِ فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَنْزِلَ الْمَاءَ وَيَنْغَطِسَ فِيهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ:"حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ صَائِفٍ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْعَطَشِ وَهُوَ صَائِمٌ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتَحِلَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ"أَنَّهُ كَانَ يَكْتَحِلُ وَهُوَ صَائِمٌ" وَلِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَ بِمَنْفَذٍ، فَلَمْ يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِمَا يَصِلُ إلَيْهَا".
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِمَا، وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى "الصحيحين" وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَإِسْنَادُ مَالِكٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَلَفْظُ رِوَايَتِهِمْ" مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ أَوْ الْعَطَشِ" وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ" الْحَرُّ" وَلَفْظُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ:"لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ الْعَطَشِ أَوْ مِنْ الْحَرِّ" هَذَا لَفْظُهُ. وَكَذَا لَفْظُ الْبَاقِينَ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ الَّذِي حَدَّثَ أَبَا بَكْرٍ صَحَابِيٌّ، وَلَوْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ كَذَلِكَ لَكَانَ أَحْسَنَ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَاهُ، فَإِنَّ الَّذِي رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْلِمٌ صَحَابِيٌّ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الصَّحَابِيَّ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الِاسْمِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ. وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ.

 

ج / 6 ص -251-       وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَنَسٍ فِي الِاكْتِحَالِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ إلَّا رَجُلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الَّذِي ضَعَّفَهُ سَبَبَ تَضْعِيفِهِ، مَعَ أَنَّ الْجَرْحَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مُفَسَّرًا وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَ بِمَنْفَذٍ. هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ الْمُهَذَّبِ "لَيْسَ" وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ غَرِيبَةٌ وَالْمَشْهُورُ الْفَصِيحُ لَيْسَتْ بِإِثْبَاتِ التَّاءِ. وَأَمَّا الْمَنْفَذُ فَبِفَتْحِ الْفَاءِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
إحداهما: يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْمَاءِ وَيَنْغَطِسَ فِيهِ وَيَصُبَّهُ عَلَى رَأْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَمَّامٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا، وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا فِي "الصحيحين" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ يَغْتَسِلُ"
الثانية: يَجُوزُ لِلصَّائِمِ الِاكْتِحَالُ بِجَمِيعِ الْأَكْحَالِ وَلَا يُفْطِرُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ بِجَوْفٍ وَلَا مَنْفَذَ مِنْهَا إلَى الْحَلْقِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُكْرَهُ الِاكْتِحَالُ عِنْدَنَا، قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ: سَوَاءٌ تَنَخَّمَهُ أَمْ لَا.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الِاكْتِحَالِ
ذَكَرْنَا أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَلَا يُكْرَهُ وَلَا يُفْطِرُ بِهِ، سَوَاءٌ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ أَمْ لَا. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى الصَّحَابِيَّيْنِ رضي الله عنهم وَبِهِ قَالَ دَاوُد. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمْ قَالُوا: يَبْطُلُ بِهِ صَوْمُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَجُوزُ بِالْإِثْمِدِ وَيُكْرَهُ بِالصَّبْرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ: يُكْرَهُ. قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُكْرَهُ وَإِنْ وَصَلَ إلَى الْحَلْقِ أَفْطَرَ. وَاحْتَجَّ لِلْمَانِعِينَ بِحَدِيثِ مَعْبَدِ بْنِ هَوْذَةَ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوِّحِ عِنْدَ النَّوْمِ. وَقَالَ: لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ نَذْكُرُهَا لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهَا. مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ:"اكْتَحَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ1 الزُّبَيْدِيِّ شَيْخِ بَقِيَّةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَسَعِيدُ الزُّبَيْدِيُّ هَذَا مِنْ مَجَاهِيلِ شُيُوخِ بَقِيَّةَ يَنْفَرِدُ بِمَا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ قلت: وَقَدْ اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ بَقِيَّةَ عَنْ الْمَجْهُولِينَ مَرْدُودَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي رِوَايَتِهِ عَنْ الْمَعْرُوفِينَ2 فَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ هَذَا بِلَا خِلَافٍ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ:"جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اشْتَكَتْ عَيْنِي أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ إسْنَادُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  ذكره الذهبي في الميزان قال: عن هشام بن عروة وعنه بقية، لا يعرف وأحاديث ساقطة: قال ابن عدي: أحاديثه ليست محفوظة ا هـ (ط).
2 اتفق المحدثون على أن أحاديث بقية ليست نقية فكن منها على تقية. المطيعي.

 

ج / 6 ص -252-       بِالْقَوِيِّ. قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ.
وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ مِنْ الْكُحْلِ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ" فِي إسْنَادِهِ مَنْ اُخْتُلِفَ فِي تَوْثِيقِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ وَهُوَ صَائِمٌ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ؛ لِأَنَّ رَاوِيهِ مُحَمَّدٌ هَذَا ضَعِيفٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَاحْتَجُّوا بِالْأَثَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ بَيَّنَّا إسْنَادَهُ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْرَهُ الْكُحْلَ لِلصَّائِمِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَجُوزُ أَنْ يَحْتَجِمَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ" قَالَ فِي "الْأُمِّ": وَلَوْ تُرِكَ لَكَانَ أَحَبَّ إلَيَّ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحِجَامَةِ وَالْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ إبْقَاءً عَلَى الصَّحَابَةِ".
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ. . إلَى آخِرِهِ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلَفْظِ رِوَايَةِ الْمُهَذَّبِ وَقَوْلُهُ (إبْقَاءً) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْقَافِ وَبِالْمَدِّ، أَيْ رِفْقًا بِهِمْ.
 أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: تَجُوزُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ وَلَا تُفْطِرُهُ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهَا. هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ: يُفْطِرُ بِالْحِجَامَةِ. مِمَّنْ قَالَهُ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ وَالْحَاكِمُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْفَصْدُ كَالْحِجَامَةِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حِجَامَةِ الصَّائِمِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِهَا لَا الْحَاجِمُ وَلَا الْمَحْجُومُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ. قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الْحِجَامَةُ تُفْطِرُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُفْطِرُ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَلْزَمُ الْمُحْتَجِمَ فِي رَمَضَانَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَاحْتَجَّ لِهَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ:" سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ"أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَإِسْنَادُ أَبِي دَاوُد عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

 

ج / 6 ص -253-       وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ"أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ بِهِ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ صَحِيحٌ. وَرَوَى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ ثَوْبَانَ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهَا أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. قَالَ الْحَاكِمُ: فَقَدْ حَكَمَ أَحْمَدُ لِأَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ بِالصِّحَّةِ، وَعَلَى1 الْآخَرِ بِالصِّحَّةِ. وَحَكَمَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ لِحَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ بِالصِّحَّةِ ثُمَّ رَوَى الْحَاكِمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ شَدَّادٍ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ.
قَالَ إِسْحَاقُ: وَقَدْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَسَانِيدَ وَبِهِ نَقُولُ. قَالَ الْحَاكِمُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ إِسْحَاقَ فَقَدْ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ لِحَدِيثٍ صِحَّتُهُ ظَاهِرَةٌ وَقَالَ بِهِ. قَالَ الْحَاكِمُ: وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِأَسَانِيدَ مُسْتَقِيمَةٍ مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ. ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ الْحَافِظِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ قَالَ: صَحَّ عِنْدِي حَدِيثُ"أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَثَوْبَانَ، قَالَ عُثْمَانُ، وَبِهِ أَقُولُ، قَالَ: وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ بِهِ، وَيَقُولُ: صَحَّ عِنْدَهُ حَدِيثُ ثَوْبَانَ وَشَدَّادٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ"أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ رِوَايَةِ عَطَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَعَنْ عَطَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا قَالَ هَذَا الْمُرْسَلُ هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَذِكْرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ وَهْمٌ، وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الْحَافِظِ قَالَ: حَدِيثُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فِي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ:" إنَّ ابْنَ عُمَرَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ إذَا صَامَ لَمْ يَحْتَجِمْ حَتَّى يُفْطِرَ".
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ ثَابِتِ الْبُنَانِيِّ قَالَ:"سُئِلَ أَنَسٌ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لَا، إلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُ:"عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:" حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْحِجَامَةِ وَالْمُوَاصَلَةِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُمَا إلَّا إبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ كَمَا سَبَقَ. وَاحْتَجَّ بِهِ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِي أَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُفْطِرُ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:"رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَالْحِجَامَةِ"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني علي بن المديني فإنه حكم للحديث الآخر بالصحة (ط).

 

ج / 6 ص -254-       رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَقَالَ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ:"أَوَّلُ مَا كَرِهْتُ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَانِ، ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً. وَعَنْ عَائِشَةَ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَيْنَا فِي الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهم، وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ أَيْضًا بِأَحَادِيثَ أُخَرَ فِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفَصْدِ وَالرُّعَافِ،
وَأَمَّا حَدِيثُ
" أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: جَوَابُ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَهُ فِي "الْأُمِّ" وَفِيهِ اخْتِلَافٌ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَدَلِيلُ النَّسْخِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَالْبَيْهَقِيَّ رَوَيَاهُ بِإِسْنَادِهِمَا الصَّحِيحِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ:"كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَمَانَ الْفَتْحِ فَرَأَى رَجُلًا يَحْتَجِمُ لِثَمَانِ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَابْنُ عَبَّاسٍ إنَّمَا صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَصْحَبْهُ مُحْرِمًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ الْفَتْحُ سَنَةَ ثَمَانٍ بِلَا شَكٍّ، فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ حَدِيثِ شَدَّادٍ بِسَنَتَيْنِ وَزِيَادَةٍ، قَالَ: فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَاسِخٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ فِي قِصَّةِ جَعْفَرٍ:"ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، قَالَ: وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ السَّابِقُ أَيْضًا فِيهِ لَفْظُ التَّرْخِيصِ، وَغَالِبًا مَا يُسْتَعْمَلُ التَّرْخِيصُ بَعْدَ النَّهْيِ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ، وَيُعَضِّدُهُ أَيْضًا الْقِيَاسُ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ.
والْجَوَابُ الثَّالِثِ: جَوَابُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَالْخَطَّابِيِّ وَأَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِأَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ فِي صَوْمِهِمَا.  وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِإِفْطَارِهِمَا أَنَّهُ ذَهَبَ أَجْرُهُمَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِمَنْ تَكَلَّمَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ: لَا جُمُعَةَ لَكَ، أَيْ لَيْسَ لَكَ أَجْرُهَا وَإِلَّا فَهِيَ صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ عَنْهُ.
وَالْجَوَابُ الرَّابِعِ: ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ تَعَرَّضَا لِلْفِطْرِ. أَمَّا: الْمَحْجُومُ فَلِضَعْفِهِ بِخُرُوجِ الدَّمِ فَرُبَّمَا لَحِقَتْهُ مَشَقَّةٌ فَعَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ، فَأَفْطَرَ بِسَبَبِهَا وأما: الْحَاجِمُ فَقَدْ يَصِلُ جَوْفَهُ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ وَغَيْرِهِ إذَا ضَمَّ شَفَتَيْهِ عَلَى قَصَبِ الْمُلَازِمِ كَمَا يُقَالُ لِلْمُتَعَرِّضِ لِلْهَلَاكِ: هَلَكَ فُلَانٌ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا سَلِيمًا، وَكَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ" أَيْ تَعَرَّضَ لَلذَّبْحِ بِغَيْرِ سِكِّينٍ.

 

ج / 6 ص -255-       الْخَامِسِ: ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا أَنَّهُ مَرَّ بِهِمَا قُرَيْبَ الْمَغْرِبِ فَقَالَ: أَفْطَرَ، أَيْ حَانَ فِطْرُهُمَا، كَمَا يُقَالُ: أَمْسَى الرَّجُلُ، إذَا دَخَلَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَوْ قَارَبَهُ.
السَّادِسِ: أَنَّهُ تَغْلِيظٌ وَدُعَاءٌ عَلَيْهِمَا لِارْتِكَابِهِمَا مَا يُعَرِّضُهُمَا لِفَسَادِ صَوْمِهِمَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ خُزَيْمَةَ اعْتَرَضَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَى عَنْهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّهُ قَالَ: ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ
:"أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" فَقَالَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: لَا يُفْطِرُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ" وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُحْرِمًا مُقِيمًا بِبَلَدِهِ، وَالْمُسَافِرُ إذَا نَوَى الصَّوْمَ لَهُ الْفِطْرُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحِجَامَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ حِجَامَتِهِ أَنَّهَا لَا تُفْطِرُ فَاحْتَجَمَ وَصَارَ مُفْطِرًا، وَذَلِكَ جَائِزٌ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ:" احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَثْبَتَ لَهُ الصِّيَامَ مَعَ الْحِجَامَةِ، وَلَوْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِهَا لَقَالَ: أَفْطَرَ بِالْحِجَامَةِ، كَمَا يُقَالُ: أَفْطَرَ الصَّائِمُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ، وَلَا يُقَالُ: أَكَلَهُ وَهُوَ صَائِمٌ" قُلْتُ: وَلِأَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ" احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ" الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ، وَيُؤَيِّدُهُ بَاقِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"قَالَ: وَأَكْرَهُ لَهُ الْعِلْكَ؛ لِأَنَّهُ يُجَفِّفُ الْفَمَ وَيُعَطِّشُ وَلَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ يَدُورُ فِي الْفَمِ وَلَا يَنْزِلُ إلَى الْجَوْفِ شَيْءٌ، فَإِنْ تَفَرَّكَ وَتَفَتَّتَ فَوَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى الْجَوْفِ بَطَلَ الصَّوْمُ، وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَمْضَغَ الْخُبْزَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَمْضُغُ غَيْرُهُ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ".
الشرح:
قَوْلُهُ: قَالَ: يَعْنِي الشَّافِعِيَّ، وَالْعِلْكُ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَيَجُوزُ فَتْحُ الْعَيْنِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ الْفِعْلَ وَهُوَ مَضْغُ الْعِلْكِ، وَإِدَارَتُهُ، وَقَوْلُهُ (يَمْضَغُ) هُوَ - بِفَتْحِ الضَّادِ وَضَمِّهَا - لُغَتَانِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
إحداهما: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ الْعِلْكُ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الرِّيقَ وَيُورِثُ الْعَطَشَ وَالْقَيْءَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ:" لَا يَمْضَغُ الْعِلْكَ الصَّائِمُ" وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ (وَأَكْرَهُ الْعِلْكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْلُبُ الْفَمَ) قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: رُوِيَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ بِالْجِيمِ وَبِالْحَاءِ فَمَنْ قَالَ بِالْجِيمِ فَمَعْنَاهُ يَجْمَعُ الرِّيقَ فَرُبَّمَا ابْتَلَعَهُ وَذَلِكَ يُبْطِلُ الصَّوْمَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَمَكْرُوهٌ فِي الْآخَرِ، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ يُطَيِّبُ الْفَمَ وَيُزِيلُ الْخُلُوفَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَهُ بِالْحَاءِ فَمَعْنَاهُ يَمْتَصُّ الرِّيقَ وَيُجْهِدُ الصَّائِمَ فَيُورِثُ الْعَطَشَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُفْطِرُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْكِ وَلَا بِنُزُولِ الرِّيقِ مِنْهُ إلَى جَوْفِهِ، فَإِنْ تَفَتَّتَ فَوَصَلَ مِنْ جُرْمِهِ شَيْءٌ إلَى جَوْفِهِ عَمْدًا أَفْطَرَ، وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ لَمْ يُفْطِرْ وَلَوْ نَزَلَ طَعْمُهُ فِي جَوْفِهِ أَوْ رِيحُهُ دُونَ جُرْمِهِ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الطَّعْمَ بِمُجَاوَرَةِ الرِّيقِ لَهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى

 

ج / 6 ص -256-       الدَّارِمِيُّ وَجْهًا عَنْ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ إنْ ابْتَلَعَ الرِّيقَ وَفِيهِ طَعْمُهُ أَفْطَرَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
الثانية: يُكْرَهُ لَهُ مَضْغُ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَكَذَا ذَوْقُ الْمَرَقِ وَالْخَلِّ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ مَضَغَ أَوْ ذَاقَ وَلَمْ يَنْزِلْ إلَى جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يُفْطِرْ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى مَضْغِهِ لِوَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ مَضْغِهِ، لَمْ يُكْرَهْ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ:" لَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَاعَمَ الصَّائِمُ بِالشَّيْءِ" يَعْنِي الْمَرَقَةَ وَنَحْوَهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ حَرَّكَتْ الْقُبْلَةُ شَهْوَتَهُ كُرِهَ لَهُ أَنْ يُقَبِّلَ وَهُوَ صَائِمٌ، وَالْكَرَاهَةُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَإِنْ[تَكُنْ] لَمْ تُحَرِّكْ[الْقُبْلَةُ] شَهْوَتَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَا بَأْسَ بِهَا وَتَرْكُهَا أَوْلَى وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَرْخَصَ فِيهَا لِلشَّيْخِ وَكَرِهَهَا لِلشَّابِّ وَلِأَنَّهُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يُنْزِلَ فَيَفْسُدُ الصَّوْمُ وَفِي الْآخَرِ يَأْمَنُ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا".
الشرح:
حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"يُقَبِّلُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ" وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ"أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ: سَلْ هَذِهِ لِأُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
وَاَللَّهِ إنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ1 هَذَا هُوَ الْحِمْيَرِيُّ هَكَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ وَلَيْسَ هُوَ ابْنَ أُمِّ سَلَمَةَ. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:"هَشَشْتُ يَوْمًا فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إنِّي صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا، قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، قَالَ: فَفِيمَ؟" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَدِيثٍ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمِمَّا جَاءَ فِي كَرَاهَتِهَا لِلشَّبَابِ وَنَحْوِهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"رُخِّصَ لِلْكَبِيرِ الصَّائِمِ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَكُرِهَ لِلشَّابِّ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ هَكَذَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدِهِمْ الصَّحِيحَةِ. وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَأَرْخَصَ فِيهَا لِلشَّيْخِ، وَكَرِهَهَا لِلشَّابِّ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَوْقُوفًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ"أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَنَهَاهُ، هَذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ، شَيْخٌ وَاَلَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلَمْ يُضَعِّفْهُ. وَعَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ:"كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ شَابٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ فَقَالَ:
لا. فَجَاءَ شَيْخٌ فَقَالَ: أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ نَعَمْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكر النووي في "تهذيب الأسماء" غير ابن أم سلمة، وكذلك ليس في "الاستيعاب" لابن عبد البر غيره، وكذا "أسد الغابة"  وقد سكت عنه النووي في "صحيح مسلم" والذي رواه عنه عبد الله بن كعب الحميري وهو مولى عثمان رضي الله عنه (ط).

 

ج / 6 ص -257-       وأما: الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ مَيْمُونَةَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ:"سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا صَائِمَانِ، فَقَالَ: قَدْ أَفْطَرَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَاوِيهِ مَجْهُولٌ، قَالَ: وَلَا يَثْبُتُ هَذَا.
وَعَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ:"قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَيُبَاشِرُ الصَّائِمُ؟ قَالَتْ: لَا، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُ؟ قُلْتُ: كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُبْلَةِ وَقَوْلُهَا: لِإِرْبِهِ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَعَ إسْكَانِ الرَّاءِ - وَرُوِيَ أَيْضًا بِفَتْحِهِمَا جَمِيعًا. 
أَمَّا أَحْكَامُ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ تُكْرَهُ الْقُبْلَةُ عَلَى مَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَا تُكْرَهُ لِغَيْرِهِ، لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ فِي ذَلِكَ، فَالِاعْتِبَارُ بِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ وَخَوْفِ الْإِنْزَالِ، فَإِنْ حَرَّكَتْ شَهْوَةَ شَابٍّ أَوْ شَيْخٍ قَوِيٍّ كُرِهَتْ، وَإِنْ لَمْ تُحَرِّكْهَا لِشَيْخٍ أَوْ شَابٍّ ضَعِيفٍ لَمْ تُكْرَهْ وَالْأَوْلَى تَرْكُهَا وَسَوَاءٌ قَبَّلَ الْخَدَّ أَوْ الْفَمَ أَوْ غَيْرَهُمَا، وَهَكَذَا الْمُبَاشَرَةُ بِالْيَدِ وَالْمُعَانَقَةُ لَهُمَا حُكْمُ الْقُبْلَةِ ثُمَّ الْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ مَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَشَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ مَا لَمْ يُنْزِلْ، وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي. قَالَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: الْأَصَحُّ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَإِذَا قَبَّلَ وَلَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ، عِنْدَنَا سَوَاءٌ قُلْنَا: كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ.

فرع فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا كَرَاهَتُهَا لِمَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ وَلَا تُكْرَهُ لِغَيْرِهِ وَالْأَوْلَى تَرْكُهَا فَإِنْ قَبَّلَ مَنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ وَلَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَخَّصَ فِي الْقُبْلَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، قَالَ: وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ لَا يَرَى بِالْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَكَرِهَ مَالِكٌ الْقُبْلَةَ لِلشَّابِّ وَالشَّيْخِ فِي رَمَضَانَ، وَأَبَاحَتْهَا طَائِفَةٌ لِلشَّيْخِ دُونَ الشَّابِّ، مِمَّا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ خَافَ الْمُجَاوَزَةَ مِنْ الْقُبْلَةِ إلَى غَيْرِهَا لَمْ يُقَبِّلْ، هَذَا نَقْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَذْهَبِنَا.
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ مَنْ قَبَّلَ فِي رَمَضَانَ قَضَى يَوْمًا مَكَانَهُ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: الْقُبْلَةُ لَا تُفْطِرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا إنْزَالٌ فَإِنْ أَنْزَلَ مَعَهَا أَفْطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ تُعْرَفُ مِمَّا سَبَقَ فِي الْأَحَادِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يُنَزِّهَ صَوْمَهُ عَنْ الْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ، فَإِنْ شُوتِمَ قَالَ: إنِّي صَائِمٌ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالرَّفَثُ الْفُحْشُ فِي الْكَلَامِ، وَمَعْنَى شَاتَمَهُ

 

ج / 6 ص -258-       شَتَمَهُ مُتَعَرِّضًا لِمُشَاتَمَتِهِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: فَلْيَقُلْ: "إنِّي صَائِمٌ" ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ تَأْوِيلَيْنِ إحداهما: يَقُولُ بِلِسَانِهِ وَيُسْمِعُهُ لِصَاحِبِهِ لِيَزْجُرَهُ عَنْ نَفْسِهِ والثاني: وَبِهِ جَزَمَ الْمُتَوَلِّي بِقَوْلِهِ: فِي قَلْبِهِ لَا بِلِسَانِهِ، بَلْ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ وَيُذَكِّرُهَا أَنَّهُ صَائِمٌ لَا يَلِيقُ بِهِ الْجَهْلُ وَالْمُشَاتَمَةُ وَالْخَوْضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِ الرِّيَاءَ إذَا تَلَفَّظَ بِهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ يَقْصِدُ زَجْرَهُ لَا لِلرِّيَاءِ، وَالتَّأْوِيلَانِ حَسَنَانِ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى، وَلَوْ جَمَعَهُمَا كَانَ حَسَنًا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: "يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يُنَزِّهَ صَوْمَهُ عَنْ الْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ" مَعْنَاهُ يَتَأَكَّدُ التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّائِمِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَغَيْرُ الصَّائِمِ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا وَيُؤْمَرُ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالتَّنَزُّهُ التَّبَاعُدُ، فَلَوْ اغْتَابَ فِي صَوْمِهِ عَصَى وَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا الْأَوْزَاعِيَّ فَقَالَ: يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِالْغِيبَةِ وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ.
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ وَبِحَدِيثِهِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلَّا السَّهَرُ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمَا، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ قَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَطْ، الصِّيَامُ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَبِالْحَدِيثِ الْآخَرِ"خَمْسٌ يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالْكَذِبُ وَالْقُبْلَةُ وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ" وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ سِوَى الْأَخِيرِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كَمَالَ الصَّوْمِ وَفَضِيلَتَهُ الْمَطْلُوبَةَ إنَّمَا يَكُونُ بِصِيَانَتِهِ عَنْ اللَّغْوِ وَالْكَلَامِ الرَّدِيءِ لَا أَنَّ الصَّوْمَ يَبْطُلُ بِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ، خَمْسٌ1 يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ" فَحَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بُطْلَانُ الثَّوَابِ لَا نَفْسَ الصَّوْمِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى وَيُكْرَهُ الْوِصَالُ فِي الصَّوْمِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ قَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" وَهَلْ هُوَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ؟ أَوْ هُوَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. والثاني: أَنَّهُ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْهُ حَتَّى لَا يُضْعِفَ عَنْ الصَّوْمِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ غَيْرُ مُحَقَّقٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ إثْمٌ، فَإِنْ وَاصَلَ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَرْجِعُ إلَى الصَّوْمِ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَالْوِصَالُ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَيُطْعِمُنِي بِضَمِّ الْيَاءِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" بلفظ
"خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء ...الخ" من حديث أنس وفيه عتبة بن سعود وثلاثة آخرون مجروحون ، ورواه أبو الفتح الأزدي في "الضعفاء" في ترجمة محمد بن الحجاج الحمصي وأعله به وقال: لا يكتب حديثه. وقال ابن أبي حاتم في "العلل": سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديث كذب واقتصر تقي الدين السبكي في شرحه على "المنهاج" على تضعيفه مع بدو ملامح الوضع عليه. والله أعلم (ط).

 

ج / 6 ص -259-       وَيَسْقِينِي بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْهُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا. أَمَّا حُكْمُ الْوِصَالِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَهَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَمْ تَنْزِيهٍ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَهُمَا مَشْهُورَانِ وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ أصحهما: عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ رَسُولِهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي أُمُورٍ أَبَاحَهَا لَهُ، وَحَظَرَهَا عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْوِصَالَ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا بِتَصْحِيحِ تَحْرِيمِهِ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ الْمُجَرَّدِ، وَالْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيّ فِي الْكِفَايَةِ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ فِي كِتَابِهِ الْكَافِي، وَآخَرُونَ كُلُّهُمْ صَرَّحُوا بِتَحْرِيمِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحَقِيقَةُ الْوِصَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ يَصُومُ يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا وَلَا يَتَنَاوَلُ فِي اللَّيْلِ شَيْئًا لَا مَاءً وَلَا مَأْكُولًا، فَإِنْ أَكَلَ شَيْئًا يَسِيرًا أَوْ شَرِبَ فَلَيْسَ وِصَالًا. وَكَذَا إنْ أَخَّرَ الْأَكْلَ إلَى السَّحَرِ لِمَقْصُودٍ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِوِصَالٍ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْوِصَالَ أَلَّا يَأْكُلَ وَلَا يَشْرَبَ، وَيَزُولُ الْوِصَالُ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ - وَإِنْ قَلَّ - صَاحِبُ الْحَاوِي وَسُلَيْمٌ الرَّازِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ، وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا قَوْلُ الْمَحَامِلِيِّ فِي الْمَجْمُوعِ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَرَ الْبَنْدَنِيجِيِّ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ وَالْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ وَالْبَغَوِيِّ فِي التَّهْذِيبِ: الْوِصَالُ أَلَّا يَأْكُلَ شَيْئًا فِي اللَّيْلِ، وَخَصُّوهُ بِالْأَكْلِ فَضَعِيفٌ بَلْ هُوَ مُتَأَوِّلٌ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَصْحَابِ وَيَكُونُ مُرَادُهُمْ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ كَمَا قَالَهُ الْجَمَاهِيرُ، وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِ أَحَدِ الْقَرِينَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: من الآية81] َيْ وَالْبَرْدَ، وَنَظَائِرُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ بَالَغَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي بَيَانِ مَا يَزُولُ بِهِ الْوِصَالُ: فَقِيلَ: يَزُولُ الْوِصَالُ بِقَطْرَةٍ يَتَعَاطَاهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، وَلَا يَكْفِي اعْتِقَادُهُ أَنَّ مَنْ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ فَقَدْ أَفْطَرَ، هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُمْهُورَ قَدْ أَطْلَقُوا فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْوِصَالِ أَنَّهُ صَوْمُ يَوْمَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ أَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ فِي اللَّيْلِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ: الْوِصَالُ أَنْ يَصِلَ صَوْمَ اللَّيْلِ بِصَوْمِ النَّهَارِ قَصْدًا، فَلَوْ تَرَكَ الْأَكْلَ بِاللَّيْلِ لَا عَلَى قَصْدِ الْوِصَالِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ بِهِ لَمْ يُحَرَّمْ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: الْعِصْيَانُ فِي الْوِصَالِ لِقَصْدِهِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَالْفِطْرُ حَاصِلٌ بِدُخُولِ اللَّيْلِ، كَالْحَائِضِ إذَا صَلَّتْ عَصَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا صَلَاةٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ خِلَافُ إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ وَخِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا، وَقَدْ قَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: الْوِصَالُ تَرْكُ الْأَكْلِ بِاللَّيْلِ دُونَ نِيَّةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ يَحْصُلُ بِاللَّيْلِ، سَوَاءٌ نَوَى الْإِفْطَارَ أَمْ لَا. هَذَا كَلَامُهُ. وَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الرُّويَانِيِّ وَالْبَغَوِيِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَالصَّوَابُ أَنَّ الْوِصَالَ تَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي اللَّيْلِ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ عَمْدًا بِلَا عُذْرٍ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْوِصَالَ لَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ سَوَاءٌ حَرَّمْنَاهُ أَوْ كَرَّهْنَاهُ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ النَّهْيَ لَا يَعُودُ إلَى الصَّوْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ الْوِصَالَ مِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ

 

ج / 6 ص -260-       مَكْرُوهٌ فِي حَقِّنَا، إمَّا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عَلَى الصَّحِيحِ وَإِمَّا تَنْزِيهٍ، وَمُبَاحٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم كَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ قُرْبَةٌ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ نَبَّهَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
:"إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي الْحَاوِي وَمِنْهَاجِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْمَعَالِمِ لِلْخَطَّابِيِّ وَالْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ وَغَيْرِهَا:
أحدهما: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ الطَّاعِمِ الشَّارِبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَكْلَ حَقِيقَةً إذْ لَوْ أَكَلَ حَقِيقَةً لَمْ يَبْقَ وِصَالٌ، وَلَقَالَ: مَا أَنَا مُوَاصِلٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا فِي فَرْعِ بَيَانِ الْأَحَادِيثِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
:"إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي" وَلَا يُقَالُ: ظَلَّ إلَّا فِي النَّهَارِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ.
والثاني: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ مِنْ الْجَنَّةِ كَرَامَةً لَهُ لَا تُشَارِكُهُ فِيهَا الْأُمَّةُ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ تَأْوِيلًا ثَالِثًا مَعَ هَذَيْنِ قَالَا: وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَشْغَلُنِي عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْحُبُّ الْبَالِغُ يَشْغَلُ عَنْهُمَا.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْوِصَالِ لِئَلَّا يَضْعُفَ عَنْ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ، أَوْ يَمَلَّهَا وَيَسْأَمَ مِنْهَا لِضَعْفِهِ بِالْوِصَالِ، أَوْ يَتَضَرَّرَ بَدَنُهُ أَوْ بَعْضُ حَوَاسِّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْوِصَالِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ، عَنْهُ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي نَعِيمٍ يُوَاصِلَانِ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَاصَلَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى سَمْنٍ وَلَبَنٍ وَصَبْرٍ. قَالَ: وَتَأَوَّلَ فِي السَّمْنِ أَنَّهُ يُلَيِّنُ الْأَمْعَاءَ، وَاللَّبَنُ أَلْطَفُ غِذَاءً، وَالصَّبْرُ يُقَوِّي الْأَعْضَاءَ دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ وَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: فِي بَيَانِ جُمْلَةٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْوِصَالِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ قَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى" وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاصَلَ فِي رَمَضَانَ فَوَاصَلَ النَّاسُ فَنَهَاهُمْ قِيلَ لَهُ: أَنْتَ تُوَاصِلُ، قَالَ:
إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ فَقَالَ رَجُلٌ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ لَا يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ مَرَّتَيْنِ قِيلَ: إنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ: أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي فَاكْلَفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا

 

ج / 6 ص -261-       تُطِيقُونَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ وَاكْلَفُوا بِفَتْحِ اللَّامِ: مَعْنَاهُ خُذُوا بِرَغْبَةٍ وَنَشَاطٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ قَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تُوَاصِلُوا قَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ: إنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِهِ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ وَعَنْهُ قَالَ:"وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَوَاصَلَ نَاسٌ فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالًا، وَيَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ إنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِي - أَوْ قَالَ: إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ هُنَا، وَالْبُخَارِيُّ فِي بَابِ: لَوْ مِنْ كِتَابِ التَّمَنِّي فِي صَحِيحِهِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ
:"لَا تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَسَحَّرَ لِلصَّوْمِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةٌ" وَلِأَنَّ فِيهِ مَعُونَةً عَلَى الصَّوْمِ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعَائِشَةَ:"إنَّ عَبْدَ اللَّهِ يُعَجِّلُ الْفِطْرَ وَيُؤَخِّرُ السَّحُورَ، فَقَالَتْ: هَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ" وَلِأَنَّ السَّحُورَ يُرَادُ لِلتَّقَوِّي عَلَى الصَّوْمِ، وَالتَّأْخِيرُ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ أَوْلَى، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَجِّلَ الْفِطْرَ إذَا تَحَقَّقَ غُرُوبُ الشَّمْسِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ، إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ".
الشرح:
حَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ: رَوَى بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا تُقَالُ صِيغَةُ التَّمْرِيضِ فِي ضَعِيفٍ. وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِهِ هَذَا، إلَّا أَنَّهُ قَالَ:"لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ" وَفِي نُسَخِ الْمُهَذَّبِ (أَنَّ الْيَهُودَ) وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرَةِ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَنَّ؛ لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلُهُ فِي "الصحيحين" مِنْ رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي فَرْعٍ مُنْفَرِدٍ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي السَّحُورِ، وَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَأَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
:"فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً" رُوِيَ - بِفَتْحِ السِّينِ - وَهُوَ الْمَأْكُولُ كَالْخُبْزِ وَغَيْرِهِ - وَبِضَمِّهَا - وَهُوَ الْفِعْلُ وَالْمَصْدَرُ، وَسَبَبُ الْبَرَكَةِ فِيهِ تَقْوِيَتُهُ الصَّائِمَ عَلَى الصَّوْمِ، وَتَنْشِيطُهُ لَهُ، وَفَرَحُهُ بِهِ - وَتَهْوِينُهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الصَّوْمِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السَّحُورَ سُنَّةٌ، وَأَنَّ تَأْخِيرَهُ أَفْضَلُ

 

ج / 6 ص -262-       وَعَلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْفِطْرِ سُنَّةٌ بَعْدَ تَحَقُّقِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ كُلُّهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَلِأَنَّ فِيهِمَا إعَانَةً عَلَى الصَّوْمِ، وَلِأَنَّ فِيهِمَا مُخَالَفَةً لِلْكُفَّارِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى"فَصَلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ" وَلِأَنَّ مَحَلَّ الصَّوْمِ هُوَ النَّهَارُ فَلَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِ الْفِطْرِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ السَّحُورِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ؛ وَلِأَنَّ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ صَارَ مُفْطِرًا فَلَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِ الْفِطْرِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ مَا دَامَ مُتَيَقِّنًا بَقَاءَ اللَّيْلِ: فَمَتَى حَصَلَ شَكٌّ فِيهِ فَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي فَصْلِ وَقْتِ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" عَلَى أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي بَقَاءِ اللَّيْلِ وَلَمْ يَتَسَحَّرْ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُ السَّحُورِ، فَإِنْ تَسَحَّرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَحَّ صَوْمُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ إذَا أَخَّرَ الْإِفْطَارَ بَعْدَ تَحَقُّقِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ كَانَ يَرَى الْفَضْلَ فِي تَأْخِيرِهِ كَرِهْتُ ذَلِكَ؛ لِمُخَالَفَةِ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ لَمْ يَرَ الْفَضْلَ فِي تَأْخِيرِهِ فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصْلُحُ فِي اللَّيْلِ. هَذَا نَصُّهُ.
فرع: وَقْتُ السَّحُورِ بَيْنَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ.
فرع: يَحْصُلُ السَّحُورُ بِكَثِيرِ الْمَأْكُولِ وَقَلِيلِهِ، وَيَحْصُلُ بِالْمَاءِ أَيْضًا، وَفِيهِ حَدِيثٌ سَنَذْكُرُهُ.
فرع: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْأَشْرَافِ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ السَّحُورَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مُسْتَحَبٌّ لَا إثْمَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ.

فَرْعٌ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي السَّحُورِ وَتَأْخِيرِهِ وَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أَكْلَةُ السَّحَرِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ هِيَ السَّحُورُ، وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"عَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّحُورِ فَإِنَّهُ هُوَ الْغِذَاءُ الْمُبَارَكُ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ بِمَعْنَاهُ وَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَبَقَ فِي الْكِتَابِ مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةٍ.
وَعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ قَالَ:"دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ، وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ، وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ فَقَالَتْ: أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟  قُلْنَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. قَالَتْ: كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ" يُعَجِّلُ الْمَغْرِبَ". وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
:"لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ وَأَخَّرُوا السَّحُورَ" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:"أَحَبُّ عِبَادِي إلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

 

ج / 6 ص -263-       وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنَانِ بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ"أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:"تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ:
خَمْسِينَ آيَةً" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:" كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجَرْعَةِ مَاءٍ" وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"أَكْلَةُ السَّحَرِ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ، وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ" رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادَيْنِ ضَعِيفِينَ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ.
وأما: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدِهِمْ الصَّحِيحَةِ عَنْ حَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ" أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما كَانَا يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ حِينَ يَنْظُرَانِ إلَى اللَّيْلِ الْأَسْوَدِ ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ" فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَأَنَّهُمَا يَرَيَانِ تَأْخِيرَ الْفِطْرِ وَاسِعًا، لَا أَنَّهُمَا يَتَعَمَّدَانِ فَضِيلَةً فِي ذَلِكَ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانَا يُؤَخِّرَانِ الْإِفْطَارَ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُمَا أَرَادَا بَيَانَ جَوَازِ ذَلِكَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُ التَّعْجِيلِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ظَاهِرٌ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ التَّابِعِينَ قَالَ:" كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَعْجَلَ النَّاسِ إفْطَارًا وَأَبْطَأَهُمْ سَحُورًا" وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"
إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُعَجِّلَ إفْطَارَنَا وَنُؤَخِّرَ سَحُورَنَا وَنَضَعَ أَيْمَانَنَا عَلَى شَمَائِلِنَا فِي الصَّلَاةِ" فَضَعِيفٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ هَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ: كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ (وَأَصَحُّ) مَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى تَمْرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ، لِمَا رَوَى سَلْمَانُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ طَهُورٌ". وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ إفْطَارِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَامَ ثُمَّ أَفْطَرَ قَالَ:
اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ". وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَطِّرَ الصَّائِمَ، لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ".
الشرح:
حَدِيثُ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَغَيْرُهُ وأما: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَغَرِيبٌ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُعَاذِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُسْنَدًا مُتَّصِلًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

 

ج / 6 ص -264-       أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
 إحداها: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى تَمْرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ وَلَا يُخَلِّلُ بَيْنَهُمَا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ.  وَنُصَّ عَلَيْهِ فِي حَرْمَلَةَ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ سَلْمَانَ السَّابِقُ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ يُفْطِرُ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى حَلَاوَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: الْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا أَنْ يُفْطِرَ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ بِكَفِّهِ مِنْ النَّهْرِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ شَاذٌّ، وَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ التَّمْرَ وَنَقَلَ مِنْهُ إلَى الْمَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ.
فرع: ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَيَانِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَمُجَّهُ، وَكَأَنَّ هَذَا شَبِيهٌ بِكَرَاهَةِ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ، يُكْرَهُ لِكَوْنِهِ يُزِيلُ الْخَلُوفَ.
الثانية: قَالَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ إفْطَارِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَفْطَرَ قَالَ:
ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى". وَفِي كِتَابِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةً مَا تُرَدُّ" كَانَ ابْنُ عَمْرٍو إذَا أَفْطَرَ يَقُولُ:" اللَّهُمَّ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ اغْفِرْ لِي".
الثالثة: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ الصَّائِمَ وَيُفَطِّرَهُ فِي وَقْتِ الْفِطْرِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَدِيثِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عَشَائِهِ فَطَّرَهُ عَلَى تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ أَوْ لَبَنٍ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:"إنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ كُلُّنَا يَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ؟ فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
يُعْطِي اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ أَوْ مَزْقَةِ لَبَنٍ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ، فَإِنْ أَخَّرَهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ:" يُطْعِمُ عَنْ الْأَوَّلِ". فَإِنْ أَخَّرَهُ سَنَتَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لِكُلِّ سَنَةٍ مُدٌّ؛ لِأَنَّهُ تَأْخِيرُ سَنَةٍ فَأَشْبَهَتْ السَّنَةَ الْأُولَى. الثاني: لَا يَجِبُ لِلثَّانِيَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ، فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى فَقَدْ أَخَّرَهُ، عَنْ وَقْتِهِ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَ السَّنَةِ الْأُولَى فَلَمْ يَجِبْ بِالتَّأْخِيرِ كَفَّارَةٌ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مُتَتَابِعًا لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ فَلْيَسْرُدْهُ وَلَا يَقْطَعْهُ" وَلِأَنَّ فِيهِ مُبَادَرَةً إلَى أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَشْبَهَ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ قَضَاهُ مُتَفَرِّقًا جَازَ؛ لقوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: من الآية184] وَلِأَنَّ التَّتَابُعَ وَجَبَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ فَسَقَطَ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَصَامَ وَنَوَى بِهِ الْيَوْمَ الثَّانِيَ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ

 

ج / 6 ص -265-       الْيَوْمِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى غَيْرَ مَا عَلَيْهِ فَلَمْ تُجْزِئْهُ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ عِتْقٌ عَنْ الْيَمِينِ فَنَوَى عِتْقَ الظِّهَارِ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
:"مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ فَلْيَسْرُدْهُ وَلَا يَقْطَعْهُ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَاهُ وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِطْعَامِ، فَرَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ فِي إسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَاسِنَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَلَفْظُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ" مَنْ مَرِضَ ثُمَّ صَحَّ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، قَالَ: يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ ثُمَّ يَصُومُ الشَّهْرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا" وَلَفْظُ الْبَاقِي بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ الصَّوْمِ. وَقَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ تَتَابُعٌ وَجَبَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، فِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ أَوْ فِي نَذْرِ الْمُتَتَابِعِ.
 أما أحكام الفصل: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إحداها: إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَوْ بَعْضِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَأْخِيرِ الْقَضَاءِ بِأَنْ اسْتَمَرَّ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ وَنَحْوُهُمَا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ مَا دَامَ عُذْرُهُ وَلَوْ بَقِيَ سِنِينَ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ بِهَذَا التَّأْخِيرِ، وَإِنْ تَكَرَّرَتْ رَمَضَانَات، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ أَدَاءِ رَمَضَانَ بِهَذَا الْعُذْرِ، فَتَأْخِيرُ الْقَضَاءِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ لَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ قَبْلَ مَجِيءِ رَمَضَانَ السَّنَةَ الْقَابِلَةَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ قَضَاءِ رَمَضَانَ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى مَا بَعْدَ صَلَاةٍ أُخْرَى مِثْلِهَا، بَلْ إلَى سِنِينَ - إنَّ تَأْخِيرَ الصَّوْمِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ تَأْخِيرٌ لَهُ إلَى زَمَنٍ لَا يَقْبَلُ صَوْمَ الْقَضَاءِ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ، فَهُوَ كَتَأْخِيرِهِ إلَى الْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ.
فَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ بِلَا عُذْرٍ أَثِمَ وَلَزِمَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ الْحَاضِرِ وَيَلْزَمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَضَاءُ رَمَضَانَ الْفَائِتِ وَيَلْزَمُهُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ رَمَضَانَ الثَّانِي عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْفَائِتِ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ مَعَ الْقَضَاءِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ إلَّا الْمُزَنِيَّ فَقَالَ: لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى مَضَى رَمَضَانَانِ فَصَاعِدًا فَهَلْ يَتَكَرَّرُ الْمُدُّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ؟ أَمْ يَكْفِي مُدٌّ عَنْ كُلِّ السِّنِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: يَتَكَرَّرُ، صَحَّحَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ الْمُجَرَّدِ، وَخَالَفَهُمْ صَاحِبُ الْحَاوِي فَقَالَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَكْفِي مُدٌّ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ السِّنِينَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَلَوْ أَفْطَرَ عُدْوَانًا وَقُلْنَا: تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ فَأَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مَعَ الْقَضَاءِ فِدْيَتَانِ، فِدْيَةٌ لِلْإِفْطَارِ عُدْوَانًا، وَأُخْرَى لِلتَّأْخِيرِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ.
وَاحْتَجَّ لَهُ الْبَغَوِيّ بِأَنَّ سَبَبَهُمَا مُخْتَلِفٌ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ:

 

ج / 6 ص -266-       إنْ عَدَدْنَا الْفِدْيَةَ بِتَعَدُّدِ رَمَضَانَ، فَهُنَا أَوْلَى وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ مَعَ الْإِمْكَانِ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ، وَقُلْنَا: الْمَيِّتُ يُطْعَمُ عَنْهُ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا أصحهما: عِنْدَ الْأَصْحَابِ يَجِبُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّانِ مِنْ تَرِكَتِهِ مُدٌّ عَنْ الصَّوْمِ وَمُدٌّ عَنْ التَّأْخِيرِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا سِوَى ابْنِ سُرَيْجٍ. والثاني: يَجِبُ مُدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ يُضْمَنُ بِمُدٍّ وَاحِدٍ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا غَلَطٌ، وَأَمَّا إذَا قُلْنَا: يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ فَصَامَ حَصَلَ تَدَارُكُ أَصْلِ الصَّوْمِ وَيَجِبُ مُدٌّ لِلتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ.
وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ وَهُوَ التَّكْرَارُ فَكَانَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَمَاتَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ إلَّا خَمْسَةُ أَيَّامٍ وَجَبَ فِي تَرِكَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ مُدًّا، عَشَرَةٌ لِأَجْلِ الصَّوْمِ وَخَمْسَةٌ لِلتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَاشَ لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا قَضَاءُ خَمْسَةٍ. وَأَمَّا إذَا أَفْطَرَ بِلَا عُذْرٍ وَقُلْنَا: يَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فَأَخَّرَ الصَّوْمَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ وَمَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ السُّنُونَ زَادَتْ الْأَمْدَادُ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَمَضَانَ الثَّانِي مَا يَتَأَتَّى فِيهِ قَضَاءُ جَمِيعِ الْفَائِتِ فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فِي الْحَالِ عَمَّا لَا يَسَعُهُ مِنْ الْوَقْتِ؟ أَمْ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ غَدًا فَتَلِفَ قَبْلَ الْغَدِ، هَلْ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ؟ أَمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْغَدِ؟.
فرع: إذَا أَرَادَ تَعْجِيلَ فِدْيَةِ التَّأْخِيرِ قَبْلَ مَجِيءِ رَمَضَانَ الثَّانِي لِيُؤَخِّرَ الْقَضَاءَ مَعَ الْإِمْكَانِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ، فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ عَنْ الْحِنْثِ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ نَظَائِرَ كَثِيرَةٍ لَهَا فِي آخِرِ بَابِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ.
فرع: إذَا أَخَّرَ الشَّيْخُ الْهَرِمُ الْمُدَّ عَنْ السَّنَةِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ: فِي تَكَرُّرِ مُدٍّ آخَرَ لِتَأْخِيرِهِ وَجْهَانِ وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ رَمَضَانَ يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ مُتَتَابِعًا فَإِنْ فَرَّقَهُ جَازَ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا.
الثالثة: إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ وَنَوَى بِهِ الْيَوْمَ الثَّانِيَ، فَفِي إجْزَائِهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ أصحهما: لَا يُجْزِئُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلِ النِّيَّةِ، وَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ الِاحْتِمَالَيْنِ لَهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرَ النَّقْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَعَ نَظَائِرِهَا فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَسَائِلِ النِّيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا لَزِمَهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَوْ بَعْضُهُ، فَإِنْ كَانَ فَوَاتُهُ بِعُذْرٍ، كَحَيْضٍ وَنِفَاسٍ وَمَرَضٍ وَإِغْمَاءٍ وَسَفَرٍ وَمَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ أَوْ أَكَلَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْلٌ فَبَانَ نَهَارًا أَوْ الْمُرْضِعُ وَالْحَامِلُ، فَقَضَاؤُهُ عَلَى التَّرَاخِي بِلَا خِلَافٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ بِهِ رَمَضَانَ الْمُسْتَقْبَلَ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهُ، وَإِنْ فَاتَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ بِلَا عُذْرٍ (أَرْجَحُهُمَا) عَنْ أَكْثَرِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي أَيْضًا والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ. صَحَّحَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَمُحَقِّقُو الْعِرَاقِيِّينَ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَاتٌ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي قَضَاءِ الْحَجَّةِ الْمُفْسَدَةِ الأصح عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ، هِيَ كَالصَّوْمِ سَوَاءٌ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا وَجَبَتْ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 6 ص -267-       فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَوْمُ رَمَضَانَ الْحَاضِرِ ثُمَّ يَقْضِي الْأَوَّلَ وَيَلْزَمُهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فِدْيَةٌ، وَهِيَ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، إلَّا أَنَّ الثَّوْرَيَّ قَالَ: الْفِدْيَةُ مُدَّانِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ وَدَاوُد: يَقْضِيهِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، أَمَّا إذَا دَامَ سَفَرُهُ وَمَرَضُهُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْأَعْذَارِ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ الثَّانِي فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَصُومُ رَمَضَانَ الْحَاضِرَ ثُمَّ يَقْضِي الْأَوَّلَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ وَدَاوُد. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: يَصُومُ رَمَضَانَ الْحَاضِرَ عَنْ الْحَاضِرِ، وَيُفْدِي عَنْ الْغَائِبِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي تَفْرِيقِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَتَتَابُعِهِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَتَابُعُهُ وَيَجُوزُ تَفْرِيقُهُ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ رضي الله عنهم، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالنَّخَعِيِّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ التَّتَابُعُ، قَالَ دَاوُد: هُوَ وَاجِبٌ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: التَّتَابُعُ وَالتَّفْرِيقُ سَوَاءٌ، وَلَا فَضِيلَةَ فِي التَّتَابُعِ.
فرع: يَجُوزُ قَضَاءُ رَمَضَانَ عِنْدَنَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ غَيْرَ رَمَضَانَ التَّالِي وَأَيَّامِ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ ذُو الْحِجَّةِ وَغَيْرُهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَرِهَ قَضَاءَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ؛ لقوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: من الآية184].
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ نَظَرْت فَإِنْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ - لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ إلَى الْمَوْتِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ كَالْحَجِّ، وَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ وَتَمَكَّنَ فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى مَاتَ أَطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُصَامُ عَنْهُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَجَازَ أَنْ يُقْضَى عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْحَجِّ، وَالْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ فَلْيُطْعَمْ1 عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ" وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَا تَدْخُلُهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الياء وفتح العين.
 

 

ج / 6 ص -268-       النِّيَابَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ.
فإن قلنا: [إنَّهُ يُصَامُ عَنْهُ فَصَامَ1 عَنْهُ] وَلِيُّهُ أَجْزَأَهُ، فَإِنْ أَمَرَ أَجْنَبِيًّا فَصَامَ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ أَجْزَأَهُ كَالْحَجِّ، وَإِنْ قُلْنَا: يُطْعِمُ عَنْهُ، نَظَرْت فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ أَطْعَمَ عَنْهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَا أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَلْزَمُهُ مُدَّانِ مُدٌّ لِلصَّوْمِ، وَمُدٌّ لِلتَّأْخِيرِ. والثاني: يَكْفِيهِ مُدٌّ وَاحِدٌ لِلتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ مُدًّا لِلتَّأْخِيرِ زَالَ التَّفْرِيطُ بِالْمُدِّ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ أَخَّرَهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ".
الشرح:
حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ احْتِرَازٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُ: عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، احْتِرَازٌ مِنْ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْمَعْضُوبِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَوْ بَعْضُهُ فَلَهُ حَالَانِ:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فِي تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ وَدَامَ عُذْرُهُ إلَى الْمَوْتِ كَمَنْ اتَّصَلَ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ أَوْ إغْمَاؤُهُ أَوْ حَيْضُهَا أَوْ نِفَاسُهَا أَوْ حَمْلُهَا أَوْ إرْضَاعُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَلَا فِي تَرِكَتِهِ لَا صِيَامَ وَلَا إطْعَامَ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْحَجِّ. 
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ قَضَائِهِ سَوَاءٌ فَاتَهُ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَقْضِيهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَشْهَرُهُمَا وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْجُمْهُورِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَلَا يَصِحُّ صِيَامُ وَلِيِّهِ عَنْهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ: هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ، وَأَكْثَرِ الْقَدِيمَةِ والثاني: وَهُوَ الْقَدِيمُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ وَيُجْزِئُهُ عَنْ الْإِطْعَامِ وَتَبْرَأُ بِهِ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الصَّوْمُ، بَلْ هُوَ إلَى خِيَرَتِهِ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ، وَسَأُفْرِدُ لَهُ فَرْعًا أَبْسُطُ أَدِلَّتَهُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ فَأَمَرَ الْوَلِيُّ أَجْنَبِيًّا فَصَامَ عَنْ الْمَيِّتِ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، جَازَ بِلَا خِلَافٍ كَالْحَجِّ، وَلَوْ صَامَ الْأَجْنَبِيُّ مُسْتَقِلًّا بِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: لَا يُجْزِئُهُ، قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَمَرَ أَجْنَبِيًّا، وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ الَّذِي يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ وَلَا يُصَامُ عَنْهُ، قَالَ وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ؛ لِأَنَّهُ. قَالَ فِيهِ: قَدْ رُوِيَ لَكَ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).

 

ج / 6 ص -269-       ذَلِكَ خَبَرٌ، فَإِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ، فَجَعَلَهُ قَوْلًا ثَانِيًا قَالَ: وَأَنْكَرَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ صَوْمُ الْوَلِيِّ عَنْهُ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَتَأَوَّلُوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ"مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" إنْ صَحَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِطْعَامُ، أَيْ يَفْعَلُ عَنْهُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيَامِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ بِأَنَّ الْحَجَّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ وَلَا تَدْخُلُ الصَّوْمَ النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ بِلَا خِلَافٍ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ جَازَ، فَهُوَ عَلَى الْقَدِيمِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، هَكَذَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَلَى الْقَدِيمِ وَهَذَا الْقَدِيمُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ منها: حَدِيثُ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ:"جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا تَعْلِيقًا بِمَعْنَاهُ.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ:"بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ:
وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: صُومِي عَنْهَا، قَالَتْ: إنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ"أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتْ الْبَحْرَ فَنَذَرَتْ إنْ اللَّهُ نَجَّاهَا أَنْ تَصُومَ شَهْرًا فَنَجَّاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَمْ تَصُمْ حَتَّى مَاتَتْ، فَجَاءَتْ بِنْتُهَا أَوْ أُخْتُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةً بِمَعْنَاهَا، ثُمَّ قَالَ: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الصِّيَامِ، قَالَ: وَكَانَ الشَّافِعِيُّ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: قَدْ رُوِيَ فِي الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا صِيمَ عَنْهُ كَمَا يُحَجُّ عَنْهُ.
وَأَمَّا فِي الْجَدِيدِ فَقَالَ: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" أَنَّهُ يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ" قَالَ: وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ مَعَ حِفْظِ الزُّهْرِيِّ وَطُولِ مُجَالَسَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا رَوَى غَيْرُهُ عَنْ رَجُلٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرَ مَا فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَشْبَهَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْفُوظًا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي بِهِ حَدِيثَ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ"أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
اقْضِهِ عَنْهَا" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ، إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ"أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ"

 

ج / 6 ص -270-       يَعْنِي عَنْ الصَّوْمِ عَنْ أُمِّهَا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ بُرَيْدَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ: قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ قَضَاءِ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَكْثَرِهِمْ" أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ" وَقَدْ ثَبَتَ الصَّوْمُ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ وَرِوَايَةِ بُرَيْدَةَ ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْكِتَابَيْنِ: فَالْأَشْبَهُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ السُّؤَالِ فِيهَا عَنْ الصِّيَامِ بِعَيْنِهِ غَيْرُ قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، الَّتِي سَأَلَ فِيهَا عَنْ نَذْرٍ مُطْلَقٍ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ الصَّوْمُ عَنْهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ بُرَيْدَةَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يُضَعِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَا رَوَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ حَجَّاجِ الْأَحْوَلِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَيُطْعِمُ عَنْهُ". وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ يُطْعِمُ عَنْهُ، وَفِي النَّذْرِ يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ قَالَ: وَرَأَيْتُ بَعْضَهُمْ ضَعَّفَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ امْرَأَةٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ قَالَتْ: يُطْعَمُ عَنْهَا، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ" لَا تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا عَنْهُمْ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوا مَا يُوجِبُ ضَعْفَ الْحَدِيثِ فِي الصِّيَامِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ يُجَوِّزُ الصِّيَامَ عَنْ الْمَيِّتِ يُجَوِّزُ الْإِطْعَامَ عَنْهُ، قَالَ: وَفِيمَا رُوِيَ عَنْهَا فِي النَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ نَظَرٌ، وَالْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ أَصَحُّ إسْنَادًا وَأَشْهَرُ رِجَالًا، وَقَدْ أَوْدَعَهَا صَاحِبَا "الصحيحين" كِتَابَيْهِمَا، وَلَوْ وَقَفَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَمِيعِ طُرُقِهَا وَنَظَائِرِهَا لَمْ يُخَالِفْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ.
قلت: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ صَوْمِ الْوَلِيِّ عَنْ الْمَيِّتِ سَوَاءٌ صَوْمُ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ، وَلَا مُعَارِضَ لَهَا وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ:" إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي وَاتْرُكُوا قَوْلِي الْمُخَالِفَ لَهُ" وَقَدْ صَحَّتْ فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَمَا سَبَقَ، وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا وَقَفَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا سَبَقَ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ طُرُقِهِ وَعَلَى حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخَالِفْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهَا لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ لَهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْإِطْعَامِ عَنْهُ فَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ: لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا رَفَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ"عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي يَمُوتُ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ لَمْ يَقْضِهِ، قَالَ:
يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ بُرٍّ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: رَفْعُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ الثاني: قَوْلُهُ (نِصْفُ صَاعٍ) فَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ.

 

ج / 6 ص -271-       قلت: وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِ مُحَمَّدِ1 بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا فِي الْفِقْهِ. وَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مِنْ تَضْعِيفِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ بِمُخَالَفَتِهِمَا لِرِوَايَتِهِمَا فَغَلَطٌ مِنْ زَاعِمِهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْعَالِمِ وَفُتْيَاهُ بِخِلَافِ حَدِيثٍ رَوَاهُ لَا يُوجِبُ ضَعْفَ الْحَدِيثِ وَلَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ لَا سِيَّمَا وَحَدِيثَاهُمَا فِي إثْبَاتِ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ فِي الصَّحِيحِ وَالرِّوَايَةُ عَنْ عَائِشَةَ فِي فُتْيَاهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهَا بِمَنْعِ الصَّوْمِ ضَعِيفٌ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهَا شَيْءٌ، كَيْفَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ مِنْ أَصْحَابِنَا" صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" أَيْ أَطْعَمَ بَدَلَ الصِّيَامِ، فَتَأْوِيلٌ بَاطِلٌ يَرُدُّهُ بَاقِي الْأَحَادِيثِ.
فرع: إذَا قُلْنَا: لَا يُصَامُ عَنْ الْمَيِّتِ بَلْ يُطْعَمُ عَنْهُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ الثَّانِي أُطْعِمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَجِيءِ رَمَضَانَ الثَّانِي فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ وَهُمَا مَشْهُورَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أحدهما: قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ يُطْعَمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ وَأَصَحُّهُمَا: عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدَّانِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى تَصْحِيحِهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً مَعَ نَظَائِرِهَا قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ بِقَلِيلٍ، وَسَبَقَ تَفْرِيعٌ كَثِيرٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
فرع: حُكْمُ صَوْمِ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَفِي الْجَدِيدِ يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ، وَفِي الْقَدِيمِ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ وَلَهُ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ كَمَا سَبَقَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَدِيمُ كَمَا سَبَقَ.
فرع: إذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُ الْوَلِيِّ فَصَامَ عَنْهُ ثَلَاثُونَ إنْسَانًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ هَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ صَوْمِ جَمِيعِ رَمَضَانَ؟ فَهَذَا مِمَّا لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا كَلَامًا فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَلَا يُصَامُ عَنْ أَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ عَاجِزًا أَوْ قَادِرًا.
فرع: لَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ أَوْ اعْتِكَافٌ، لَمْ يَفْعَلْهُمَا عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْفِدْيَةِ صَلَاةٌ وَلَا اعْتِكَافٌ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَعْرُوفِ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَغَيْرِهِ. نَقَلَ الْبُوَيْطِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الِاعْتِكَافِ: يَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ يُطْعِمُ عَنْهُ. قَالَ الْبَغَوِيّ: وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُ هَذَا فِي الصَّلَاةِ فَيُطْعَمُ عَنْ كُلِّ صَلَاةٍ مُدٌّ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْإِطْعَامِ فِي الِاعْتِكَافِ فَالْقَدْرُ الْمُقَابِلُ بِالْمُدِّ هُوَ اعْتِكَافُ يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ نَقْلِ شَيْخِهِ. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ وَهُوَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محمد بن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن الكوفي صدوق سيء الحفظ أجاز حديث أحمد ووثقه أحمد بن يونس وزائدة وأبو يوسف وقال الدارقطني: رديء الحفظ كثير الوهم. وقال أبو أحمد الحاكم: عامة أحاديثه مقلوبة. وقال يحيى القطان: سيء الحفظ جدا. وقال يحيى بن معين: ليس بذاك. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال شعبة: ما رأيت أسوأ من حفظه (ط).

 

ج / 6 ص -272-       مُشْكِلٌ، فَإِنَّ اعْتِكَافَ لَحْظَةٍ عِبَادَةٌ تَامَّةٌ. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْبَيَانِ فِي آخِرِ كِتَابِ الِاعْتِكَافِ أَنَّ الصَّيْدَلَانِيَّ حَكَى أَنَّهُ يُطْعَمُ فِي الِاعْتِكَافِ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ، قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ هَذَا لِغَيْرِ الصَّيْدَلَانِيِّ.
فرع: فِي حُكْمِ الْفِدْيَةِ وَبَيَانِهَا، سَوَاءٌ الْفِدْيَةُ الْمُخْرَجَةُ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَمَنْ عَصَى بِتَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَمَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا وَأَلْزَمْنَاهُ الْفِدْيَةَ عَلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ فِدْيَةُ الصَّوْمِ وَهِيَ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ لِكُلِّ يَوْمٍ جِنْسُهُ جِنْسُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَيُعْتَبَرُ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِهِ فِي أَصَحِّ الْأَوْجُهِ، وَفِي الثَّانِي: قُوتُ نَفْسِهِ، وَفِي الثَّالِثِ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَقْوَاتِ وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ وَالتَّفْرِيعُ السَّابِقُ هُنَاكَ، وَلَا يُجْزِئُ الدَّقِيقُ وَلَا السَّوِيقُ وَلَا الْحَبُّ الْمَعِيبُ وَلَا الْقِيمَةُ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ هُنَاكَ. وَمَصْرِفُهَا الْفُقَرَاءُ أَوْ الْمَسَاكِينُ، وَكُلُّ مُدٍّ مِنْهَا مُنْفَصِلٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ صَرْفُ أَمْدَادٍ كَثِيرَةٍ عَنْ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَالشَّهْرِ الْوَاحِدِ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَوْ فَقِيرٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ إمْدَادِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ كُلِّ مُدٍّ إلَى مِسْكِينٍ وَلَا يُصْرَفُ إلَى مِسْكِينٍ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ مُدَّانِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْفِدْيَةُ عَنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَكُلُّ يَوْمٍ مُسْتَقْبِلٍ بِنَفْسِهِ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ مَا قَبْلَهُ وَلَا مَا بَعْدَهُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ فَاتَهُ بِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَعْذَارِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَضَائِهِ حَتَّى مَاتَ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يُصَامُ عَنْهُ وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا طَاوُسًا وَقَتَادَةَ فَقَالَا: يَجِبُ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فَأَشْبَهَ الشَّيْخَ الْهَرِمَ. وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا لِمَذْهَبِنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحَجِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْخِ الْهَرِمِ بِأَنَّ الشَّيْخَ عَامِرُ الذِّمَّةِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى مَاتَ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي مَذْهَبِنَا قَوْلَيْنِ أَشْهُرُهُمَا: يُطْعَمُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ وَأَصَحُّهُمَا: فِي الدَّلِيلِ يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالصِّيَامِ عَنْهُ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُصَامُ عَنْهُ صَوْمُ النَّذْرِ، وَيُطْعَمُ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: يُطْعَمُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ الصِّيَامُ عَنْهُ، لَكِنْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يُطْعَمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدَّانِ.

 

ج / 6 ص -273-       اللَّهُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ" رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ سُنَنِهِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ"إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ آمَنْتُ بِاَلَّذِي خَلَقَكَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا" هَكَذَا رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَذْكَارٌ أُخَرُ ذَكَرْتُهَا فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ.
الثانية: يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يَدْعُوَ فِي حَالِ صَوْمِهِ بِمُهِمَّاتِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا لَهُ وَلِمَنْ يُحِبُّ وَلِلْمُسْلِمِينَ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ وَالْمَظْلُومُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَكَذَا الرِّوَايَةُ حَتَّى - بِالتَّاءِ - الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ، فَيَقْتَضِي اسْتِحْبَابُ دُعَاءِ الصَّائِمِ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى صَائِمًا فِي كُلِّ ذَلِكَ.
الثالثة: عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"
لَا يَقُولُ أَحَدُكُمْ: إنِّي صُمْتُ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَقُمْتُهُ }، فَلَا أَدْرِي أَكَرِهَ التَّزْكِيَةَ أَوْ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ نَوْمَةٍ أَوْ رَقْدَةٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ أَوْ صَحِيحَةٍ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا صَاحِبُ الْبَيَانِ.
الرابعة: قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ صَمْتُ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ لِلصَّائِمِ وَلِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ:" دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: مَا لَهَا لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالُوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً، فَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَكَلَّمَتْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ
قَوْلُهُ: امْرَأَةٌ مِنْ أَحْمَسَ هُوَ - بِالْحَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ - وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِمْ أَحْمَسِيُّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نُسُكِهِمْ الصُّمَاتُ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَعْتَكِفُ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ فَيَصْمُتُ لَا يَنْطِقُ، فَنُهُوا - يَعْنِي فِي الْإِسْلَامِ - عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرُوا بِالذِّكْرِ وَالْحَدِيثِ بِالْخَيْرِ. هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ لِأَصْحَابِنَا وَلِغَيْرِهِمْ أَنَّ الصَّمْتَ إلَى اللَّيْلِ مَكْرُوهٌ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ: جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ بِتَرْكِ الْكَلَامِ فِي رَمَضَانَ جُمْلَةً، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَمْ يُلَازِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ الصَّمْتَ فِي رَمَضَانَ، لَكِنْ لَهُ أَصْلٌ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَهُوَ قِصَّةُ زَكَرِيَّا عليه السلام:
{إِنِّي نَذَرْتُ1 لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: من الآية26] أَرَادَ بِالصَّوْمِ الصَّمْتَ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: شَرْعُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قول مريم في قصة كفالة زكريا إياها (ط).

 

ج / 6 ص -274-       مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا عِنْدَ عَدَمِ النَّهْيِ، جَعَلَ ذَلِكَ قُرْبَةً، وَمَنْ قَالَ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَا يَلْزَمُنَا، قَالَ: لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ، وَهُوَ كَلَامٌ بَنَاهُ عَلَى شَرْعِنَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَهُوَ الصَّوَابُ.
الخامسة: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله: الْجُودُ وَالْأَفْضَالُ يُسْتَحَبُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَهُوَ فِي رَمَضَانَ آكَدُ، وَيُسَنُّ زِيَادَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَقَوْلُهُ كَالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ أَيْ فِي الْإِسْرَاعِ وَالْعُمُومِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُهُ فِي غَيْرِهِ" وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَيَرْفَعُ الْمِئْزَرَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ:"قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:
صَدَقَةُ رَمَضَانَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْجُودُ وَالْأَفْضَالُ مُسْتَحَبٌّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِالسَّلَفِ، وَلِأَنَّهُ شَهْرٌ شَرِيفٌ فَالْحَسَنَةُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِصِيَامِهِمْ وَزِيَادَةِ طَاعَتِهِمْ عَنْ الْمَكَاسِبِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى الْمُوَاسَاةِ وَإِعَانَتِهِمْ.
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى عِيَالِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَنْ يُحْسِنَ إلَى أَرْحَامِهِ وَجِيرَانِهِ لَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ.
السادسة: قَالَ أَصْحَابُنَا: السُّنَّةُ كَثْرَةُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ وَمُدَارَسَتِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُسَنُّ الِاعْتِكَافُ فِيهِ وَآكَدُ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْهُ؛ لِحَدِيثِ، ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مَعْنَاهُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُولَى وَالْعَشْرَ الْوَسَطَ مِنْ رَمَضَانَ" مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
السابعة: يُسْتَحَبُّ صَوْنُ نَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ عَنْ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ سِرُّ الصَّوْمِ، وَمَقْصُودُهُ الْأَعْظَمُ، وَسَبَقَ أَنَّهُ يَحْتَرِزُ عَنْ الْغِيبَةِ وَالْكَلَامِ الْقَبِيحِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَالْمُسَافَهَةِ وَكُلِّ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ.
الثَّامِنَةُ: يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ احْتِلَامٍ عَلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي تَأْخِيرِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَإِلَّا فَالْكَثِيرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقْدِيمُهُ عَلَى الْفَجْرِ.

 

ج / 6 ص -275-       التَّاسِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ صَوْمِ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يُكْرَهُ فِي النَّفْلِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ الرِّيَاءِ، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ غَرِيبٌ أَنَّ السِّوَاكَ لَا يُكْرَهُ فِي كُلِّ صَوْمٍ لَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَا بَعْدَهُ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ السِّوَاكِ مَبْسُوطَةً، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا اسْتَاكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ السِّوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ بِشَرْطِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ ابْتِلَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ رُطُوبَتِهِ، فَإِنْ ابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ. وَالِاسْتِيَاكُ قَبْلَ الزَّوَالِ بِالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَأَيُّوبُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد، وَكَرِهَهُ بِالرَّطْبِ جَمَاعَةٌ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ قَالَ بِالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَكَرِهَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
الْعَاشِرَةُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ وَالْجُنُونَ وَالرِّدَّةَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ، سَوَاءٌ طَالَ أَمْ كَانَ لَحْظَةً مِنْ النَّهَارِ، وَصَوْمُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ صَحِيحٌ وَاَلَّذِي لَا يُمَيِّزُ لَا يَصِحُّ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ صَوْمُ السَّكْرَانِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: شَرْطُ الصَّوْمِ الْإِسْلَامُ وَالتَّمْيِيزُ إلَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمَ كَمَا سَبَقَ فِيهِمَا، وَالنَّقَاءُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْوَقْتُ الْقَابِلُ لِلصَّوْمِ احْتِرَازٌ عَنْ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَدَّمَتْ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ: كُلِي. فَقَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
الصَّائِمُ تُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ إذَا أُكِلَ عِنْدَهُ حَتَّى يَفْرُغُوا" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَالْأَيَّامِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ أَنْ يَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ"مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ" وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِهِ فِي الْمُهَذَّبِ وَاسْمُ أَبِي أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدِ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيِّ - بِالنُّونِ وَالْجِيمِ - شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
:"بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ أَوْ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ" مِنْ غَيْرِ" هَاءِ التَّأْنِيثِ فِي آخِرِهِ، هَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ الْفَصِيحَةُ الْمَعْرُوفَةُ يَقُولُونَ: صُمْنَا خَمْسًا وَصُمْنَا سِتًّا وَصُمْنَا عَشْرًا وَثَلَاثًا، وَشَبَهُ ذَلِكَ بِحَذْفِ الْهَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مُذَكَّرَا وَهُوَ الْأَيَّامُ، فَمَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِذِكْرِ الْأَيَّامِ يَحْذِفُونَ الْهَاءَ، فَإِنْ ذَكَرُوا الْمُذَكَّرَ أَثْبَتُوا الْهَاءَ فَقَالُوا: صُمْنَا سِتَّةَ أَيَّامٍ وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ وَشَبَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي جَوَازِهِ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ

 

ج / 6 ص -276-       عَنْ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْمَشْهُورِينَ وَفُضَلَائِهِمْ الْمُتْقِنِينَ وَمُعْتَمَدِيهِمْ الْمُحَقِّقِينَ الْفَرَّاءُ، ثُمَّ ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: من الآية234] إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ سِرْنَا خَمْسًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَأَنْشَدَ الْجَعْدِيُّ1:
فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
وَمِمَّا جَاءَ مِثْلَهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: من الآية234] مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ وَتَدْخُلَ اللَّيْلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} [طـه:103] أَيْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طـه: من الآية104] قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْبَابِ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِتَغْلِيبِ اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ اللَّيْلُ، فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيَالِي هِيَ الْأَوَائِلُ غَلَبَتْ؛ لِأَنَّ الْأَوَائِلَ أَقْوَى، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ: خَرَجْنَا لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ، وَخِفْنَا لَيَالِيَ إمَارَةِ الْحَجَّاجِ، وَالْمُرَادُ الْأَيَّامُ بِلَيَالِيِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَة: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَهَا مُتَتَابِعَةً فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ فَإِنْ فَرَّقَهَا أَوْ أَخَّرَهَا عَنْ شَوَّالٍ جَازَ. وَكَانَ فَاعِلًا لِأَصْلِ هَذِهِ السُّنَّةِ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَإِطْلَاقِهِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد.
قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ صَوْمُهَا. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ:" وَصَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا، وَلَمْ يَبْلُغْهُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ أَهْلُ الْجَفَاءِ وَالْجَهَالَةِ مَا لَيْسَ مِنْهُ لَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرَأَوْهُمْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ" هَذَا كَلَامُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ. وَدَلِيلُنَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ السَّابِقُ وَلَا مُعَارِضَ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ:" لَمْ أَرَ أَحَدًا يَصُومُهَا" فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ ثَبَتَتْ فِي ذَلِكَ بِلَا مُعَارِضٍ، فَكَوْنُهُ لَمْ يَرَ لَا يَضُرُّ. وَقَوْلُهُمْ: لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى ذَلِكَ فَيُعْتَقَدُ وُجُوبُهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ، وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ: "إنَّهُ يُكْرَهُ" صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ وَسَائِرِ الصَّوْمِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الْحَاجِّ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ، لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"صَوْمُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الله بن قيس من بني جعدة بن كعب بن ربيعة وكان أبا ليلى من مخضرمي الجاهلية والإسلام ، ويقال أنه قدم من النابغة الذ بياني- الذبياني نادم النعام وهذا ندم أباه ومات بأصبهان وهو ابن مائتين وعشرين سنة. أفاده في "الاستيعاب" (ط).

 

ج / 6 ص -277-       سَنَةٍ قَبْلَهَا مَاضِيَةٍ وَسَنَةٍ بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلَةٍ" وَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْحَاجِّ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ"أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَ" وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ فِي هَذَا الْيَوْمِ يَعْظُمُ ثَوَابُهُ وَالصَّوْمُ يُضَعِّفُهُ فَكَانَ الْفِطْرُ أَفْضَلَ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، قَالَ:" عَنْ أَبِي قَتَادَةَ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالسَّنَةَ الْبَاقِيَةَ" وَحَدِيثُ أُمِّ الْفَضْلِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ الْفَضْلِ، وَرَوَيَا أَيْضًا مِثْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ أُخْتِهَا مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْمُ أُمِّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ أُمُّ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِخْوَتِهِ، وَكَانُوا سِتَّةَ نُجَبَاءَ، وَلَهَا أُخْتٌ يُقَالُ لَهَا: لُبَابَةُ الصُّغْرَى، وَهِيَ أُمُّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكُنَّ عَشْرَ أَخَوَاتٍ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إحْدَاهُنَّ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ بَعْدَ خَدِيجَةَ رضي الله عنهما.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ بِعَرَفَةَ. وَأَمَّا الْحَاجُّ الْحَاضِرُ فِي عَرَفَةَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لَهُ فِطْرُهُ لِحَدِيثِ أُمِّ الْفَضْلِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ لَهُ صَوْمُهُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِكَرَاهَتِهِ الدَّارِمِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَآخَرُونَ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ كَرَاهَتَهُ عَنْ كَثِيرِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمْهُورُ الْكَرَاهَةَ، بَلْ قَالُوا: يُسْتَحَبُّ فِطْرُهُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْحَاجِّ فَعِبَارَةٌ نَاقِصَةٌ، لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ اسْتِحْبَابَ فِطْرِهِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ.
وَاحْتُجَّ لِمَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَجْهُولٌ. وَعَنْ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ:"سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ، فَأَنَا لَا أَصُومُهُ وَلَا آمُرُ بِهِ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ لَا دَلَالَةَ فِيهِمَا لِمَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ضَعِيفٌ، وَالثَّانِيَ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافُ الْأَفْضَلِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْحَاجِّ بِعَرَفَةَ الْفِطْرُ يَوْمَ عَرَفَةَ. هَكَذَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إنْ كَانَ الشَّخْصُ مِمَّنْ لَا يَضْعُفُ بِالصَّوْمِ عَنْ الدُّعَاءِ وَأَعْمَالِ الْحَجِّ فَالصَّوْمُ أَوْلَى لَهُ، وَإِلَّا فَالْفِطْرُ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ: إنْ كَانَ قَوِيًّا وَفِي الشِّتَاءِ وَلَا يَضْعُفُ بِالصَّوْمِ عَنْ الدُّعَاءِ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ لَهُ، قَالَ وَبِهِ قَالَتْ: عَائِشَةُ وَعَطَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا. هَذَا كَلَامُ الرُّويَانِيِّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: لَوْ عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ الصَّوْمَ بِعَرَفَةَ لَا يُضْعِفُهُ فَصَامَهُ كَانَ حَسَنًا وَاخْتَارَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا. وَالْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُ الْفِطْرِ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ.

 

ج / 6 ص -278-       فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي صَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ
 ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ فِطْرِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم، وَنَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَنَقَلَهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ غَيْرَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الصَّحَابِيِّ وَعَائِشَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ اسْتِحْبَابَ الصَّوْمِ، وَاسْتَحَبَّهُ عَطَاءٌ فِي الشِّتَاءِ وَالْفِطْرَ فِي الصَّيْفِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا بَأْسَ بِالصَّوْمِ إذَا لَمْ يُضْعِفْ عَنْ الدُّعَاءِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ الْفِطْرُ بِعَرَفَةَ. وَدَلِيلُنَا مَا سَبَقَ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْحَاجِّ فِطْرُ عَرَفَةَ لِيَقْوَى عَلَى الدُّعَاءِ هَكَذَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَلِأَنَّ الْحَاجَّ ضَاحٍ مُسَافِرٌ، وَالْمُرَادُ بِالضَّاحِي الْبَارِزُ لِلشَّمْسِ، لِأَنَّهُ يَنَالُهُ مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصُومَ مَعَهَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَوْمَ دُعَاءٍ، وَسَبَقَ هُنَاكَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّ الْوُقُوفَ يَكُونُ آخِرَ النَّهَارِ، وَوَقْتَ تَأْثِيرِ الصَّوْمِ مَعَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ وَالِاسْتِسْقَاءُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَبْلَ ظُهُورِ أَثَرِ الصِّيَامِ مَعَ أَنَّهُ مُقِيمٌ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، هَكَذَا ذَكَرُوهُ هُنَا، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ.
 فرع: قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: يَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ: اُخْتُلِفَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَوْمُ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ صِيَامَهُ كَفَّارَةَ سَنَتَيْنِ وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ" هَذَا كَلَامُ السَّرَخْسِيِّ وَالْمَشْهُورُ تَفْضِيلُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَسَنُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ فِي فَصْلِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَفِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى أَفْضَلِ الْأَيَّامِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِتَرْجِيحِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَنَّهُ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ، وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَلِأَنَّهُ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ يَوْمٍ يُعْتِقُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ النَّارِ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ".
فرع: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ عَرَفَةَ
:"يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْمُسْتَقْبِلَةَ" قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي: فِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ. والثاني: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُهُ فِي هَاتَيْنِ السَّنَتَيْنِ فَلَا يَعْصِي فِيهِمَا. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: أَمَّا السَّنَةُ الْأُولَى فَتُكَفِّرُ مَا جَرَى فِيهَا، قَالَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى تَكْفِيرِ السَّنَةِ الْبَاقِيَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. فَقَالَ: بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إذَا ارْتَكَبَ فِيهِ مَعْصِيَةً جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ الْمَاضِي كَفَّارَةً لَهَا، كَمَا جَعَلَهُ مُكَفِّرًا لِمَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُهُ فِي السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عَنْ ارْتِكَابِ مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَفَّارَةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ فِي تَكْفِيرِ السَّنَةِ الْأُخْرَى يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحدهما: الْمُرَادُ السَّنَةُ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ مَاضِيَتَيْنِ. والثاني: أَنَّهُ أَرَادَ سَنَةً مَاضِيَةً وَسَنَةً مُسْتَقْبَلَةً. قَالَ وَهَذَا لَا

 

ج / 6 ص -279-       يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ الزَّمَانَ الْمُسْتَقْبَلَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ خَاصٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ بِحُرُوفِهِمَا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَكُلُّ مَا يَرِدُ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ فَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى الصَّغَائِرِ دُونَ الْمُوبِقَاتِ. هَذَا كَلَامُهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إلَّا كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً. وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:"الصَّلَاةُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مِنْ الذُّنُوبِ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قلت: وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَأْوِيلَانِ: أحدهما: يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ كَبَائِرُ، فَإِنْ كَانَتْ كَبَائِرَ لَمْ يُكَفِّرْ شَيْئًا لَا الْكَبَائِرَ وَلَا الصَّغَائِرَ. 
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ كُلَّ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ، وَتَقْدِيرُهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا إلَّا الْكَبَائِرَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: هَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ غُفْرَانِ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ الْكَبَائِرَ إنَّمَا تُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَوَقَعَ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُهَا مِمَّا فِي مَعْنَاهَا، فَإِذَا كَفَّرَ الْوُضُوءُ فَمَاذَا تُكَفِّرُهُ الصَّلَاةُ؟ وَإِذَا كَفَّرَ الصَّلَوَاتُ فَمَاذَا تُكَفِّرُهُ الْجُمُعَات وَرَمَضَانُ؟ وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ، وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَإِذَا وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
فَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنْ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَتْ لَهُ بِهِ دَرَجَاتٌ، وَذَلِكَ كَصَلَوَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالصِّبْيَانِ وَصِيَامِهِمْ وَوُضُوئِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ، وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ وَلَمْ يُصَادِفْ صَغَائِرَ، رَجَوْنَا أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ الْكَبَائِرِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْأَشْرَافِ فِي آخِرِ كِتَابِ الِاعْتِكَافِ فِي بَابِ الْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
:"مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" قَالَ: هَذَا قَوْلٌ عَامٌّ يُرْجَى لِمَنْ قَامَهَا إيمَانًا وَاحْتِسَابًا أَنْ تُغْفَرَ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ تَاسُوعَاءَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"لَئِنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ الْيَوْمَ التَّاسِعَ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ سَبَقَ بَيَانُهُ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فِيهِ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ

 

ج / 6 ص -280-       عَاشُورَاءَ فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ" وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ زِيَادَةٌ قَالَ:"فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" وَعَاشُورَاءُ وَتَاسُوعَاءُ اسْمَانِ مَمْدُودَانِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو الشَّيْبَانِيِّ قَصْرُهُمَا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: عَاشُورَاءُ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ، وَتَاسُوعَاءُ هُوَ التَّاسِعُ مِنْهُ هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ، الْعُلَمَاءِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاشُورَاءُ هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ الْمُحَرَّمِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَتَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ إظْمَاءِ الْإِبِلِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْيَوْمَ الْخَامِسَ مِنْ أَيَّامِ الْوَرْدِ رِبْعًا - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَكَذَا تُسَمِّي بَاقِيَ الْأَيَّامِ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ فَيَكُونُ التَّاسِعُ عَلَى هَذَا عِشْرًا - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَهُوَ أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ وَمُقْتَضَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وأما: تَقْدِيرُ أَخْذِهِ مِنْ إظْمَاءِ الْإِبِلِ فَبَعِيدٌ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَرُدُّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَذَكَرُوا أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَصُومُهُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
إنَّهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ يَصُومُ التَّاسِعَ" وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَصُومُهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ هُوَ التَّاسِعَ فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ الْعَاشِرَ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ.
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ صَوْمِ تَاسُوعَاءَ أَوْجُهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم
"صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا". الثاني: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَصْلُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ، كَمَا نَهَى أَنْ يُصَامَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ، ذَكَرَهُمَا الْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ. الثَّالِثَ: الِاحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلَالِ، وَوُقُوعِ غَلَطٍ فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
فرع: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ هَلْ كَانَ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ؟ ثُمَّ نُسِخَ؟ أَمْ لَمْ يَجِبْ فِي وَقْتٍ أَبَدًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُمَا احْتِمَالَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ أصحهما: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، بَلْ صَرِيحُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا قَطُّ. الثاني: أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ الْيَوْمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ، فَأَمَّا دَلِيلُ مَنْ قَالَ: كَانَ وَاجِبًا فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ منها:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ إلَى قَوْمِهِ يَأْمُرُهُمْ فَلْيَصُومُوا هَذَا الْيَوْمَ، وَمَنْ طَعِمَ مِنْهُمْ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَرَوَيَاهُ فِي صَحِيحَيْهِمَا بِمَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الرُّبَيِّعِ - بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاء - بِنْتِ مُعَوِّذٍ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ فَلَمَّا فُرِضَ صِيَامُ رَمَضَانَ، كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ عَاشُورَاءَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَالْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ فَلَمَّا اُفْتُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

ج / 6 ص -281-       وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ قَالَ:"إنَّمَا كَانَ يَوْمًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ، نَزَلَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تَرَكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سُمْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَلَمْ يَتَعَهَّدْنَا عِنْدَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِصِيَامِهِ" رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ: وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ" دَلِيلٌ عَلَى تَخْيِيرِهِ مَعَ أَنَّهُ سُنَّةُ الْيَوْمِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَمْ يَصِحَّ التَّخْيِيرُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بَلْ كَانَ سُنَّةً بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ منها: حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ"أَنَّهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَالَ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
إنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَوْلُهُ"لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا قَطُّ؛ لِأَنَّ" لَمْ" لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ"يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ كَانَ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَرِهَهُ فَلْيَدَعْهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وأما: الْجَوَابُ عَنْ الْأَحَادِيثِ فَهُوَ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى تَأَكُّدِ الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَقَوْلُهُ:" فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ" أَيْ تُرِكَ تَأَكُّدُ الِاسْتِحْبَابِ وَكَذَا قَوْلُهُ:"فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ صِيَامُ أَيَّامِ الْبِيضِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ:"أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَثَبَتَتْ أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِوَقْتِهَا وَظَاهِرُهَا أَنَّهُ مَتَى صَامَهَا حَصَلَتْ الْفَضِيلَةُ، وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ1، أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ"أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: قُلْتُ: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ" وَجَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ تَخْصِيصُ أَيَّامِ الْبِيضِ فِي أَحَادِيثَ: منها: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"إذَا صُمْتَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثًا فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ قَتَادَةَ بْنِ مِلْحَانَ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِصِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَجْهُولٌ2 وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أم الصهباء البصرية. قال ابن حجر في التقريب: ثقة من الثالثة.
2 في سنن النسائي: أخبرنا محمد بن منصور عن سفيان عن بيان بن بشر عن موسى بن طاحة عن ابن الحوتكية عن أبي ذر ... الحديث، قال: ولعل سفيان قال: حدثنا اثنان فسقط الألف فصار بيان. وقد جاء الإسناد مرة أخرى عن النسائي أيضا: محمد بن المثنى حدثنا سفيان قال: حدثنا رجلان محمد وحكيم عن موسى بن طلحة عن ابن الحوتكية (ط).

 

ج / 6 ص -282-       أَيَّامَ الْبِيضِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِهِ"وَالْأَيَّامُ الْبِيضُ }، وَفِي بَعْضِهَا"وَأَيَّامُ الْبِيضِ" بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَهُوَ أَوْضَحُ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَيَّامُ الْبِيضِ هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ الْمُهَذَّبِ أَيَّامُ الْبِيضِ بِإِضَافَةِ أَيَّامٍ إلَى الْبِيضِ، وَهَكَذَا ضَبَطْنَاهُ فِي التَّنْبِيهِ عَنْ نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ التَّنْبِيهِ أَوْ أَكْثَرِهَا الْأَيَّامُ الْبِيضُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَعْدُودٌ فِي لَحْنِ الْعَوَامّ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ كُلَّهَا بِيضٌ، وَإِنَّمَا صَوَابُهُ أَيَّامُ الْبِيضِ، أَيْ أَيَّامُ اللَّيَالِي الْبِيضِ.
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ أَيَّامِ الْبِيضِ، قَالُوا هُمْ وَغَيْرُهُمْ: وَهِيَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشْرَ وَالرَّابِعَ عَشْرَ وَالْخَامِسَ عَشْرَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا حَكَاهُ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهَا الثَّانِي عَشْرَ وَالثَّالِثَ عَشْرَ وَالرَّابِعَ عَشْرَ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَيْضًا وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا سَبَبُ تَسْمِيَةِ هَذِهِ اللَّيَالِي بِيضًا فَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالْجُمْهُورُ: لِأَنَّهَا تَبْيَضُّ بِطُلُوعِ الْقَمَرِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
فرع: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَيَّامَ الْبِيضِ لَا يَجِبُ صَوْمُهَا الْآنَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؟  فَقِيلَ: كَانَتْ وَاجِبَةً فَنُسِخَتْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَطُّ، وَمَا زَالَتْ سُنَّةً. قَالَ: وَهُوَ أَشْبَهَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ. لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"كَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:
إنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ".
الشرح:
حَدِيثُ أُسَامَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ، لَفْظُ الدَّارِمِيِّ كَلَفْظِهِ فِي الْمُهَذَّبِ وأما: لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ فَقَالَ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: قُلْتُ:"يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّكَ تَصُومُ حَتَّى لَا تَكَادَ تُفْطِرُ وَتُفْطِرُ حَتَّى لَا تَكَادَ تَصُومُ إلَّا فِي يَوْمَيْنِ إنْ دَخَلَا فِي صِيَامِكَ وَإِلَّا صُمْتُهُمَا، قَالَ: أَيُّ يَوْمَيْنِ؟ قُلْتُ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ" وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي صَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ.
منها: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالَ:
ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"قَالَ: تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اُتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ"تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ

 

ج / 6 ص -283-       الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اُنْظُرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: سُمِّيَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ ثَانِي الْأَيَّامِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: سَبِيلُهُ أَنْ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعَ، بَلْ يُقَالُ: مَضَتْ أَيَّامُ الِاثْنَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ حَكَى الْبَصْرِيُّونَ: الْيَوْمُ الِاثْنُ، وَالْجَمْعُ الثني. وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ جَمْعَهُ الأثانين وَالْأَثَّانِ، وَفِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ الْيَوْمُ الثَّنِيُّ فَعَلَى هَذَا جَمْعُهُ الْأَثْنَاءُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ؛ لِأَنَّهُ مُثَنًّى، فَإِنْ أَحْبَبْتَ جَمْعَهُ قُلْتَ: أَثَانِينَ، وَأَمَّا يَوْمُ الْخَمِيسِ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَامِسُ الْأُسْبُوعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: جَمْعُهُ أَخْمِسَةٌ وَخَمْسٌ وَخُمْسَانُ، كَرَغِيفٍ وَرَغْفٍ وَرُغْفَانَ، وَأَخْمِسَاءُ كَأَنْصِبَاءِ وَأَخَامِسِ، حَكَاهُ الْفَرَّاءُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمِنْ الصَّوْمِ الْمُسْتَحَبِّ صَوْمُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، وَأَفْضَلُهَا الْمُحَرَّمُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: أَفْضَلُهَا رَجَبٌ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى"أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ" وَمِنْ الْمَسْنُونِ صَوْمُ شَعْبَانَ، وَمِنْهُ صَوْمُ الْأَيَّامِ التِّسْعَةِ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ، وَجَاءَتْ فِي هَذَا كُلِّهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ مُجِيبَةَ الْبَاهِلِيَّةِ عَنْ أَبِيهَا أَوْ عَمِّهَا أَنَّهُ"أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ انْطَلَقَ فَأَتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالَتُهُ وَهَيْئَتُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ:
وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الْبَاهِلِيُّ الَّذِي جِئْتُكَ عَامَ الْأَوَّلِ، قَالَ: فَمَا غَيَّرَكَ وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ؟ قَالَ: مَا أَكَلْتُ طَعَامًا مُنْذُ فَارَقْتُكَ إلَّا بِلَيْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِمَا عَذَّبْتَ نَفْسَكَ؟ ثُمَّ قَالَ: صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَيَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ: زِدْنِي فَإِنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ: صُمْ يَوْمَيْنِ قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ زِدْنِي، قَالَ: صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
:"صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ" إنَّمَا أَمَرَهُ بِالتَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ إكْثَارُ الصَّوْمِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ.  فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ فَصَوْمُ جَمِيعِهَا فَضِيلَةٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ. وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا مِنْ شَعْبَانَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا".

 

ج / 6 ص -284-       قَالَ الْعُلَمَاءُ: اللَّفْظُ الثَّانِي مُفَسِّرٌ لِلْأَوَّلِ وَبَيَانٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَهَا بِكُلِّهِ غَالِبُهُ وَقِيلَ: كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ وَيَصُومُ بَعْضَهُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى، وَقِيلَ: كَانَ يَصُومُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ وَتَارَةً مِنْ وَسَطِهِ وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ وَلَا يُخَلِّي مِنْهُ شَيْئًا بِلَا صِيَامٍ، لَكِنْ فِي سِنِينَ. وَقِيلَ فِي تَخْصِيصِهِ شَعْبَانَ بِكَثْرَةِ الصِّيَامِ: لِأَنَّهُ تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ فِي سَنَتِهِمْ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ، فَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ الْمُحَرَّمُ، فَكَيْفَ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي شَعْبَانَ دُونَ الْمُحَرَّمِ.
فَالْجَوَابُ: لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ الْمُحَرَّمِ إلَّا فِي آخِرِ الْحَيَاةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ صَوْمِهِ. أَوْ لَعَلَّهُ كَانَتْ تَعْرِضُ فِيهِ أَعْذَارٌ تَمْنَعُ مِنْ إكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ؟ كَسَفَرٍ وَمَرَضٍ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ شَهْرًا غَيْرَ رَمَضَانَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْعِيدِ. وَعَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَأَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ، وَالْخَمِيسَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَا: وَخَمِيسَيْنِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ:"مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ" وَفِي رِوَايَةٍ"لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ" رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهُوَ مُتَأَوِّلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكُونُ عِنْدَهَا فِي يَوْمٍ مِنْ تِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَالْبَاقِي عِنْدَ بَاقِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهن، أَوْ لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ بَعْضَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَكُلَّهُ فِي بَعْضِهَا، وَيَتْرُكُهُ فِي بَعْضِهَا لِعَارِضِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ إذَا أَفْطَرَ أَيَّامَ النَّهْيِ وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ حَقًّا، وَلَمْ يُخَفِّفْ ضَرَرًا، لِمَا رَوَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ مَوْلَاةُ أَسْمَاءَ قَالَتْ:"قِيلَ لِعَائِشَةَ: تَصُومِينَ الدَّهْرَ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ، وَلَكِنْ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ الْفِطْرِ فَلَمْ يَصُمْ الدَّهْرَ". وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ:" أُولَئِكَ فِينَا مِنْ السَّابِقِينَ، يَعْنِي مَنْ صَامَ الدَّهْرَ" فَإِنْ خَافَ ضَرَرًا أَوْ ضَيَّعَ حَقًّا كُرِهَ" لِمَا رُوِيَ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَجَاءَ سَلْمَانُ يَزُورُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ سَلَمَةَ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ مَا شَأْنُكِ؟ فَقَالَتْ: إنَّ أَخَاكَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا، فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَأْتِ أَهْلَكَ وَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَذَكَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ سَلْمَانُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا قَالَ سَلْمَانُ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَسَلْمَانَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ فِيهِ: رُوِيَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ، وَقَوْلُهُ:" فَرَأَى

 

ج / 6 ص -285-       أُمَّ1 سَلَمَةَ مُتَبَذِّلَةً" هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمُهَذَّبِ أُمُّ سَلَمَةَ وَهُوَ غَلَطٌ صَرِيحٌ، وَصَوَابُهُ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ، وَهِيَ زَوْجَةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَجَمِيعِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا، وَاسْمُ أُمِّ الدَّرْدَاءِ هَذِهِ: خَيْرَةُ - وَهِيَ صَحَابِيَّةٌ - وَلِأَبِي الدَّرْدَاءِ زَوْجَةٌ أُخْرَى: يُقَالُ لَهَا: أُمُّ الدَّرْدَاءِ وَهِيَ تَابِعِيَّةٌ فَقِيهَةٌ فَاضِلَةٌ حَكِيمَةٌ، اسْمُهَا هَجِيمَةُ وَقِيلَ: جَهِيمَةُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهَا فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ عَنْ عَائِشَةَ2. وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَلَفْظُهُ" كُنَّا نَعُدُّ أُولَئِكَ فِينَا مِنْ السَّابِقِينَ".
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ فِي صَوْمِ الدَّهْرِ نَحْوَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ. وَالْمُرَادُ بِصَوْمِ الدَّهْرِ سَرْدُ الصَّوْمِ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ إلَّا الْأَيَّامَ الَّتِي لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا وَهِيَ الْعِيدَانِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَحَاصِلُ حُكْمِهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إنْ خَافَ ضَرَرًا أَوْ فَوَّتَ حَقًّا بِصِيَامِ الدَّهْرِ كُرِهَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا وَلَمْ يُفَوِّتْ حَقًّا لَمْ يُكْرَهْ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَأَطْلَقَ الْبَغَوِيّ وَطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ مَكْرُوهٌ، وَأَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ أَنَّهُ مَسْنُونٌ. وَكَذَا قَالَ الدَّارِمِيُّ: مَنْ قَدَرَ عَلَى صَوْمِ الدَّهْرِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَفَعَلَ فَهُوَ فَضْلٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ: لَا بَأْسَ بِسَرْدِ الصَّوْمِ إذَا أَفْطَرَ أَيَّامَ النَّهْيِ الْخَمْسَةِ. قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ النَّصَّ: وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسخة المطبوعة من "المهذب" (أم الدرداء) ولعل ذلك من مصحح المطبوعة وعلى مسؤوليته وكثيرا ما يفعل ذلك المصححون دون أن يسجلوا الأصل الذي غيروا هيئته حتى يتضح عملهم (ط).
2 كذا بالأصل فحرر ولعل السقط ( فصحيح ) (ط).

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي صِيَامِ الدَّهْرِ إذَا أَفْطَرَ أَيَّامَ النَّهْيِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ الْعِيدَانِ وَالتَّشْرِيقُ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ضَرَرًا وَلَمْ يُفَوِّتْ بِهِ حَقًّا. قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ مِنْ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَمِمَّنْ نَقَلُوا عَنْهُ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو طَلْحَةَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَالْجُمْهُورِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ مُطْلَقًا،
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ:"يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ أَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ" وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: صُمْ إنْ شِئْتَ وَأَفْطِرْ إنْ شِئْتَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سَرْدَ الصَّوْمِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ عَرَضَ بِهِ فِي السَّفَرِ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى

 

ج / 6 ص -286-       الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ هَكَذَا مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى أَبِي مُوسَى، احْتَجَّ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي صَوْمِ الدَّهْرِ وَافْتَتَحَ الْبَابَ بِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَشَارَ غَيْرُهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ، وَمَعْنَى ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ، أَيْ عَنْهُ فَلَمْ يَدْخُلْهَا، أَوْ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا مَوْضِعٌ.
وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"إنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَتَابَعَ الصِّيَامَ وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ1 وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ:" كُنَّا نَعُدُّ أُولَئِكَ فِينَا مِنْ السَّابِقِينَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ" كَانَتْ تَصُومُ الدَّهْرَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ:" كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لَا يَصُومُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ أَوْ الْأَضْحَى". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ
"لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ" بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: جَوَابُ عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ. الْمُصَنِّفُ وَتَابَعَهَا عَلَيْهِ خَلَائِقُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ صَامَ الدَّهْرَ حَقِيقَةً بِأَنْ يَصُومَ مَعَهُ الْعِيدَ وَالتَّشْرِيقَ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ. والثاني: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مِنْ مَشَقَّتِهِ مَا يَجِدُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَأْلَفُهُ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ خَبَرًا لَا دُعَاءً، وَمَعْنَاهُ لَا صَامَ صَوْمًا يَلْحَقُهُ فِيهِ مَشَقَّةٌ كَبِيرَةٌ، وَلَا أَفْطَرَ بَلْ هُوَ صَائِمٌ لَهُ ثَوَابُ الصَّائِمِينَ. والثالث: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِصَوْمِ الدَّهْرِ أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَ النَّهْيُ خِطَابًا لَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَجَزَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَنَدِمَ عَلَى كَوْنِهِ لَمْ يَقْبَلْ الرُّخْصَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَقَرَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِلَا ضَرَرٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر (ش) قلت: لعل السقط (حسن) والحديث أخرجه غير البيهقي ابن حبان عن أبي مالك الأشعري وأيضا لفظه " أن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام" وليس فيه " الصيام" وكذلك أخرجه الطبراني في الكبير بإسناد حسن والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرطهما عن عبد الله بن عمرو ولفظه "أن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وبات قائما والناس نيام" وليس فيه أيضا صيام. (ط).

فَرْعٌ فِي تَسْمِيَةِ بَعْضِ الْأَعْلَامِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِمَّنْ صَامَ الدَّهْرَ غَيْرَ أَيَّامِ النَّهْيِ
الْخَمْسَةِ  الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ
فَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو أُمَامَةَ وَامْرَأَتُهُ، وَعَائِشَةُ

 

ج / 6 ص -287-       رضي الله عنهم. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَمِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ حِمَاسٍ - بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ سِينٌ - وَسَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ التَّابِعِيُّ، سَرَدَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْهُمْ الْبُوَيْطِيُّ وَشَيْخُنَا أَبُو إبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَقْدِسِيُّ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ صَحَّ نَذْرُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَتَكُونُ الْأَعْيَادُ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَشَهْرُ رَمَضَانَ وَقَضَاؤُهُ مُسْتَثْنَاةً، فَإِنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ بِعُذْرٍ، وَزَالَ الْعُذْرُ لَزِمَهُ قَضَاءُ فَائِتِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ مِنْ النَّذْرِ، وَهَلْ يَكُونُ نَذْرُهُ مُتَنَاوِلًا لِأَيَّامِ الْقَضَاءِ؟ (الصَّوْمُ) فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقَضَاءِ مَعْصِيَةٌ فَتَصِيرُ أَيَّامُ الْقَضَاءِ كَشَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَا تَدَاخُلَ فِي النَّذْرِ، فَعَلَى هَذَا يَقْضِي عَنْ رَمَضَانَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ النَّذْرِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ. والثاني: وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَنْدَنِيجِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ شَيْخُ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ، وَحَكَاهُمَا صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ: أحدهما: هُوَ كَالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ. والثاني: يَتَنَاوَلُهَا النَّذْرُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُتَصَوَّرُ صَوْمُهَا عَنْ نَذْرِهِ فَأَشْبَهَتْ غَيْرَهَا مِنْ الْأَيَّامِ بِخِلَافِ أَيَّامِ رَمَضَانَ، فَعَلَى هَذَا إذَا قَضَى رَمَضَانَ هَلْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ بِسَبَبِ الْقَضَاءِ؟ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أحدهما: لَا، كَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِعُذْرٍ وَدَامَ عُذْرُهُ حَتَّى مَاتَ. والثاني: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى صَوْمِهِ عَنْ النَّذْرِ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْفِدْيَةَ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَيِسَ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فَصَارَ كَالشَّيْخِ الْهَرَمِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرٍ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ: هَذَا الْحُكْمُ جَارٍ سَوَاءٌ فَاتَهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا كُلُّهُمْ: وَهَكَذَا الْحُكْمُ إذَا نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ ثُمَّ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ بِالصَّوْمِ فَيَجِبُ صَوْمُ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَتْ آكَدَ مِنْ النَّذْرِ الَّذِي يُوجِبُهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ الْفِدْيَةِ عَنْ صَوْمِ النَّذْرِ مَا سَبَقَ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ. وَقَطَعَ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ إذَا صَامَ عَنْ الْكَفَّارَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَمْ يُمْكِنْ قَضَاؤُهُ، وَلَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ إنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ وَإِلَّا فَتَجِبُ، قَالُوا: وَلَوْ نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ صَوْمَ الدَّهْرِ فَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا فَإِنْ مَنَعَهَا، فَلَا قَضَاءَ وَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهَا مَعْذُورَةٌ، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا أَوْ مَاتَ لَزِمَهَا الصَّوْمُ فَإِنْ أَفْطَرَتْ بِلَا عُذْرٍ أَثِمَتْ وَلَزِمَتْهَا الْفِدْيَةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ التَّطَوُّعَ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"لَا تَصُومَنَّ الْمَرْأَةُ التَّطَوُّعَ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ" وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَرْضٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِنَفْلٍ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ"لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ" وَلَفْظُ مُسْلِمٍ"لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ" وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد"لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ غَيْرَ رَمَضَانَ" إسْنَادُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.

 

ج / 6 ص -288-       أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ صَوْمُ تَطَوُّعٍ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَلَوْ صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا صَحَّ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ حَرَامًا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِمَعْنًى آخَرَ لَا لِمَعْنًى يَعُودُ إلَى نَفْسِ الصَّوْمِ، فَهُوَ كَالصَّلَاةِ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، فَإِذَا صَامَتْ بِلَا إذْنٍ قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: الثَّوَابُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. هَذَا لَفْظُهُ، وَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ فِي نَظَائِرِهَا الْجَزْمُ بِعَدَمِ الثَّوَابِ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّلَاةِ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ.
وَأَمَّا صَوْمُهَا التَّطَوُّعَ فِي غِيبَةِ الزَّوْجِ عَنْ بَلَدِهَا فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ وَلِزَوَالِ مَعْنَى النَّهْيِ وأما: قَضَاؤُهَا رَمَضَانَ وَصَوْمُهَا الْكَفَّارَةَ وَالنَّذْرَ فَسَيَأْتِي إيضَاحُهُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْأَمَةُ الْمُسْتَبَاحَةُ لِسَيِّدِهَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ كَالزَّوْجَةِ وأما: الْأَمَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ لِسَيِّدِهَا بِأَنْ كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ كَأُخْتِهِ أَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً أَوْ غَيْرَهُمَا وَالْعَبْدُ، فَإِنْ تَضَرَّرَا بِصَوْمِ التَّطَوُّعِ بِضَعْفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ نَقَصَا، لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرَا وَلَمْ يَنْقُصَا جَازَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ اُسْتُحِبَّ لَهُ إتْمَامُهُمَا فَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا جَازَ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ:"دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: إذَنْ أَصُومُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيَّ يَوْمًا آخَرَ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: إذَنْ أُفْطِرُ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ فَرَضْتُ الصَّوْمَ".
الشرح:
حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، وَسَنَذْكُرُ لَفْظَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، وَمَعْنَى فَرَضْتُ الصَّوْمَ نَوَيْتُهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا دَخَلَ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ اُسْتُحِبَّ لَهُ إتْمَامُهُمَا؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: من الآية33] وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُمَا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا بِلَا عُذْرٍ؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْخُرُوجُ بِلَا عُذْرٍ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى.
وَأَمَّا الْخُرُوجُ مِنْهُ بِعُذْرٍ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ، وَيُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ سَوَاءٌ خَرَجَ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِهِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَالْأَعْذَارُ مَعْرُوفَةٌ منها: أَنْ يَشُقَّ عَلَى ضَيْفِهِ أَوْ مُضِيفِهِ صَوْمُهُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْطِرَ فَيَأْكُلَ مَعَهُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"وَإِنَّ لِزُوَّارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
:"مَنْ نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ فَلَا يَصُومَنَّ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِمْ" فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.  وَقَالَ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى ضَيْفِهِ أَوْ مُضِيفِهِ صَوْمُهُ التَّطَوُّعَ فَالْأَفْضَلُ بَقَاؤُهُ وَصَوْمُهُ، وَسَنُوَضِّحُ الْمَسْأَلَةَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وأما: إذَا دَخَلَ فِي حَجِّ تَطَوُّعٍ أَوْ عُمْرَةِ تَطَوُّعٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ أَفْسَدَهُمَا لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدهمَا، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُمَا بِلَا خِلَافٍ.

 

ج / 6 ص -289-       فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الشُّرُوعِ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْبَقَاءُ فِيهِمَا، وَأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُمَا بِلَا عُذْرٍ لَيْسَ بِحِرَامٍ، وَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُمَا، وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُمَا لِعُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَا إثْمَ وَإِنْ خَرَجَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، فَإِنْ خَرَجَ بِلَا عُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ فَلَا قَضَاءَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ يَظُنُّهُمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ بَانَ فِي أَثْنَائِهِمَا أَنَّهُمَا لَيْسَا عَلَيْهِ هَلْ يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا أَمْ لَا؟ وَاحْتُجَّ لِمَنْ أَوْجَبَ إتْمَامَ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَصَلَاتِهِ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فِيهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَبِحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَالُوا: وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. فَمُقْتَضَاهُ وُجُوبُ التَّطَوُّعِ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فِيهِ قَالُوا: وَلَا يَصِحُّ حَمْلُكُمْ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْدِرُ لَكِنْ لَكَ أَنْ تَطَّوَّعَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الِانْقِطَاعِ فِيهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ وَعُمْرَتِهِ، فَإِنَّهُمَا يَلْزَمَانِ بِالشُّرُوعِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ:"دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ:
هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي إذَنْ صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ: أَرِنِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا" وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ قَالَتْ عَائِشَةُ:"فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَحَبَسْنَاهُ لَكَ، فَقَالَ: أَدْنِيهِ فَأَصْبَحَ صَائِمًا وَأَفْطَرَ" هَذَا لَفْظُهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ:"دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: أَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: إنِّي إذَنْ أَصُومُ. قَالَتْ: وَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا آخَرَ فَقَالَ: أَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ: إذَنْ أُفْطِرُ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ فَرَضْتُ الصَّوْمَ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ:"آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً. فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ فِي الدُّنْيَا حَاجَةٌ، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ قَالَ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ فَنَامَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
صَدَقَ سَلْمَانُ." رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

 

ج / 6 ص -290-       وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ" وَفِي رِوَايَاتٍ"أَمِينُ أَوْ أَمِيرُ نَفْسِهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَأَلْفَاظُ رِوَايَاتِهِمْ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى وَإِسْنَادُهَا جَيِّدٌ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:" إذَا أَصْبَحْتَ وَأَنْتَ نَاوٍ الصَّوْمَ فَأَنْتَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إنْ شِئْتَ صُمْتَ وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ" لَمْ يَكُنْ يَرَى1 بِإِفْطَارِ التَّطَوُّعِ بَأْسًا" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وأما: الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"الصَّائِمُ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ" فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ رَفْعُهُ، كَذَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَى مِثْلَهُ مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَأَنَسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ رَوَاهَا كُلَّهَا الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهَا لِضَعْفِ رُوَاتِهَا، وَكَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا بَأْسَ أَنْ أُفْطِرَ مَا لَمْ يَكُنْ نَذْرٌ أَوْ قَضَاءُ رَمَضَانَ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَضَعَّفَهُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِحَدِيثِ طَلْحَةَ فَهُوَ مِنْ مَعْنَاهُ لَكِنْ لَكَ أَنْ تَطَّوَّعَ وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، وَهُوَ إنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ لِيُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْإِفْسَادِ لِتَأَكُّدِ الدُّخُولِ فِيهِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ سَوَاءٌ أَخْرَجَ مِنْهُ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَبَقَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ: يَجِبُ الْقَضَاءُ. وَاحْتُجَّ لَهُ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:"بَلَغَنِي أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ لَهُمَا طَعَامٌ فَأَفْطَرَتَا عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَتْ حَفْصَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَصْبَحْتُ أَنَا وَعَائِشَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، وَقَدْ أُهْدِيَ لَنَا هَدِيَّةٌ فَأَفْطَرْنَا عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْمًا آخَرَ"
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الثِّقَاتُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ هَكَذَا مُنْقَطِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَمَالِكِ2 بْنِ أَنَسٍ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَمَعْمَرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَسُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيِّ وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ - بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ لَنَا طَعَامٌ فَاشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَتْنِي حَفْصَةُ وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا حَقًّا، فَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَكَذَا رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ وَصَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَوَهَمُوا فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ:" قُلْتُ لَهُ: أَحَدَّثَكَ عُرْوَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الياء وفتح الراء.
2 هؤلاء بينه وبين عائشة وحفصة وإنما هؤلاء الثقات الحفاظ من أصحابه الذين رووه عنه (ط).

 

ج / 6 ص -291-       عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَصْبَحْنَا أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ؟ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا شَيْئًا، لَكِنْ حَدَّثَنِي نَاسٌ فِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ"أَنَّهَا قَالَتْ: أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ فَأُهْدِيَ لَنَا هَدِيَّةٌ فَأَكَلْنَاهَا فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَتْنِي حَفْصَةٌ وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ" وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرُوهُ وَقَالَ فِيهِ:"صُومَا يَوْمًا مَكَانَهُ".
قَالَ سُفْيَانُ: فَسَأَلُوا الزُّهْرِيَّ وَأَنَا شَاهِدٌ فَقَالُوا: أَهُوَ عَنْ عُرْوَةَ؟ فَقَالَ: لَا، ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحُمَيْدِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلًا، قَالَ سُفْيَانُ فَقِيلَ لَلزُّهْرِيِّ: هُوَ عَنْ عُرْوَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ سُفْيَانُ: وَكُنْتُ سَمِعْتُ صَالِحَ بْنَ أَبِي الْأَخْضَرِ حَدَّثَنَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَيْسَ هُوَ عَنْ عُرْوَةَ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَالِحًا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ الْعَرْضِ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: لَوْ كَانَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ مَا نَسِيتُهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَدْ شَهِدَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى الزُّهْرِيِّ وَهُمَا شَاهِدَا عَدْلٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عُرْوَةَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ وَصْلُ مَنْ وَصَلَهُ؟ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَاحْتَجَّ بِحِكَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَسُفْيَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَبِإِرْسَالِ مَنْ أَرْسَلَ الْحَدِيثَ عَنْ الزُّهْرِيِّ مِنْ الْأَئِمَّةِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَقَدْ وَهِمَ فِيهِ، وَقَدْ خَطَّأَهُ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلًا، ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زُمَيْلِ بْنِ عَبَّاسٍ مَوْلَى عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هَذَا ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ عَنْ عَائِشَةَ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا وَقَدْ بَيَّنْتُهَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ السَّابِقَ مِنْ طَرِيقٍ قَالَا فِيهِ: قَالَتْ:"دَخَلَ عَلِيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: خَبَّأْنَا لَكَ حَيْسًا فَقَالَ:
إنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصَّوْمَ وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ وَأَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ"وَأَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ" لَيْسَتْ مَحْفُوظَةً.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا لِعَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:"صَنَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَأَتَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمَّا وُضِعَ الطَّعَامُ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَفْطِرْ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ إنْ شِئْتَ" قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَضَاءِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي وُجُوبِهِ شَيْءٌ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ السَّابِقُ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ والثاني: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَحُمِلَ الْقَضَاءُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَمَّا الْخُرُوجُ

 

ج / 6 ص -292-       مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ الْمَكْتُوبَةِ وَالْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَصِيَامِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ فَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، وَفِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصِّيَامِ قُبَيْلَ هَذَا الْبَابِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم" فَإِنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
:"وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا" وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْعِبَادَةِ وَهُوَ فِي شَكٍّ مِنْ وَقْتِهَا فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي الظُّهْرِ وَهُوَ يَشُكُّ فِي وَقْتِهَا، وَإِنْ صَامَ فِيهِ عَنْ فَرْضٍ عَلَيْهِ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، وَإِنْ صَامَ عَنْ تَطَوُّعٍ نَظَرْت - فَإِنْ لَمْ يَصُمْهُ بِمَا قَبْلَهُ وَلَا وَافَقَ عَادَةً لَهُ - لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُرْبَةٌ - فَلَمْ يَصِحَّ بِقَصْدِ مَعْصِيَةٍ، وَإِنْ وَافَقَ عَادَةً جَازَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تُقَدِّمُوا1 الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ" وَإِنْ وَصَلَهُ بِمَا قَبْلَ النِّصْفِ جَازَ، وَإِنْ وَصَلَهُ بِمَا بَعْدَهُ لَمْ يَجُزْ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا صِيَامَ حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ".
الشرح:
حَدِيثُ عَمَّارٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ:"لَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصِّيَامِ فِي وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ"لَا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ"إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا صِيَامَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بَلْ رَوَاهُ وَسَكَتَ عَلَيْهِ. وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا يُحَدِّثُ بِهِ - يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ - وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَذَا الْكَلَامَ، قَالَ أَحْمَدُ:" وَالْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ حَدِيثِهِ إلَّا هَذَا الْحَدِيثَ" قَالَ النَّسَائِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ الْعَلَاءِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَصِحُّ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ صَامَهُ عَنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَجْزَأَهُ وَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يُكْرَهُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ والثاني: لَا يُكْرَهُ، وَبِهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَالْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يُكْرَهُ وَيُجْزِئُهُ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَصُومَ فِيهِ تَطَوُّعًا لَهُ سَبَبٌ فَالْفَرْضُ أَوْلَى، كَالْوَقْتِ الَّذِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ قَضَائِهِ قَدْ ضَاقَ. وَأَمَّا إذَا صَامَهُ تَطَوُّعًا فَإِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ بِأَنْ كَانَ عَادَتُهُ صَوْمَ الدَّهْرِ أَوْ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ أَوْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح التاء والقاف مع تشديد الدال وفتحها.

 

ج / 6 ص -293-       صَوْمَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَصَادَفَهُ جَازَ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ احْتَجَّ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ كَمَا سَبَقَ. وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ فَصَوْمُهُ حَرَامٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُ، فَإِنْ خَالَفَ؛ وَصَامَ أَثِمَ بِذَلِكَ. وَفِي صِحَّةِ صَوْمِهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَةِ خُرَاسَانَ أصحهما: بُطْلَانُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ والثاني: يَصِحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَصَحَّحَهُ السَّرَخْسِيُّ؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلصَّوْمِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ صَوْمِ الْعِيدِ. قَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ، قَالُوا: وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُ فَفِي صِحَّةِ نَذْرِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ إنْ صَحَّ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. قَالُوا: فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ فَلْيَصُمْ يَوْمًا غَيْرَهُ فَإِنْ صَامَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ نَذْرِهِ. هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَصِلْ يَوْمَ الشَّكِّ بِمَا قَبْلَ نِصْفِ شَعْبَانَ، فَأَمَّا إذَا وَصَلَهُ بِمَا قَبْلَهُ فَيَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِمَا بَعْدَ نِصْفِ شَعْبَانَ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، أَمَّا إذَا صَامَ بَعْدَ نِصْفِ شَعْبَانَ غَيْرَ يَوْمِ الشَّكِّ فَفِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ وَمَنْ الْمُحَقِّقِينَ لَا يَجُوزُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ والثاني: يَجُوزُ وَلَا يُكْرَهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ إلَى اخْتِيَارِهِ، وَأَجَابَ الْمُتَوَلِّي عَنْ الْحَدِيثِ السَّابِقِ"إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا صِيَامَ حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ" بِجَوَابَيْنِ: أحدهما: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. والثاني: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَخَافُ الضَّعْفَ بِالصَّوْمِ فَيُؤْمَرُ بِالْفِطْرِ حَتَّى يَقْوَى لِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَمُوَافِقُوهُ، وَالْجَوَابَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُتَوَلِّي يُنَازَعُ فِيهِمَا.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَوْمُ الشَّكِّ هُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا وَقَعَ فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ أَنَّهُ رُئِيَ وَلَمْ يَقُلْ عَدْلٌ: إنَّهُ رَآهُ أَوْ قَالَهُ، وَقُلْنَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ، أَوْ قَالَهُ عَدَدٌ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ الصِّبْيَانِ أَوْ الْعَبِيدِ أَوْ الْفُسَّاقِ. وَهَذَا الْحَدُّ لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
قَالُوا: فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَحَدَّثْ بِرُؤْيَتِهِ أَحَدٌ فَلَيْسَ بِيَوْمِ شَكٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَوْ أَطْبَقَ الْغَيْمُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَافِيِّ1 - بِالْمُوَحَّدَةِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال النووي في المهذب: تكرر في الروضة فذكره في شروط الصوم. من غرائبه قوله في تفسير يوم الشك ينقل من الروضة. وقال ابن السبكي في الطبقات الكبرى: نسبة إلى باف بالباء والفاء الموحدتين قرية من قرى خوارزم كان من أفقه أهل زمانه مع المعرفة بالنحو والأدب إلى آخر ما وصف. تفقه على أبي علي ابن أبي هريرة وأبي إسحاق المروزي أخذ عنه القاضي أبو الطيب والماوردي وطوائف. مات في المحرم سنة 398وحكى من حضر مجلسه أنه جاء غلام حدث وبيده رقعة دفعها إليه فقرأ متبسما وأجاب عنها وكان فيها:

عاشق خاطر حتى اسـ                               تلب المعشوق قبله

أفتنا لا زلت تقتى                                       هل يبيح الشرع قتله

فأجاب:

أيها السائل عما                                         لا يبيح الشرع فعله

قبلة العاشق للمعـ                                      شوق لا توجب قتله

 

ج / 6 ص -294-       وَبِالْفَاءِ - وَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً - وَلَمْ يُرَ الْهِلَالُ فَهُوَ شَكٌّ - وَحَكَى أَيْضًا وَجْهًا آخَرَ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الزِّيَادِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ يَوْمَ الشَّكِّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْجَائِزَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ فَإِنْ شَهِدَ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ فَقَدْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ فَلَيْسَ بِشَكٍّ، وَلَوْ كَانَ فِي السَّمَاءِ قِطَعُ سَحَابٍ يُمْكِنُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ مِنْ خِلَالِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى تَحْتَهَا وَلَمْ يُتَحَدَّثْ بِرُؤْيَتِهِ فَوَجْهَانِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهُوَ يَوْمُ الشَّكِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ بِيَوْمِ شَكٍّ وَهُوَ أَصَحُّ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ كَانُوا فِي سَفَرٍ وَلَمْ تَبْعُدْ رُؤْيَةُ أَهْلِ الْقُرَى فَيُحْتَمَلُ جَعْلُهُ يَوْمَ شَكٍّ، هَذَا كَلَامُهُ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ عِنْدَنَا، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ1 وَحُذَيْفَةَ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي وَائِلٍ وَعِكْرِمَةَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ عَنْهُ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَيْضًا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأُخْتُهَا أَسْمَاءُ: نَصُومُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ:" لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ" وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: إنْ صَامَ الْإِمَامُ صَامُوا، وَإِنْ أَفْطَرَ أَفْطَرُوا، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُغَيِّمَةً وَجَبَ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَمَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ كَمَذْهَبِ الْحَسَنِ هَذَا بَيَانُ مَذَاهِبِهِمْ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ، فَلَوْ صَامَهُ تَطَوُّعًا بِلَا عَادَةٍ وَلَا وَصْلَةٍ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.  وَحُذَيْفَةَ وَعَمَّارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْمَالِكِيِّ وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُكْرَهُ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا وَيَحْرُمُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ.
وَاحْتُجَّ لِمَنْ قَالَ بِصَوْمِهِ عَنْ رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
:"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَاهُ ضَيِّقُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَبِأَنَّ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ وَابْنَ عُمَرَ كَانُوا يَصُومُونَهُ، فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَقَالَتْ:" لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ" وَعَنْ أَسْمَاءَ" أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ" لَأَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّهْيِ عَنْ تَقَدُّمِ الشَّهْرِ بِصَوْمٍ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في ش و ق ولعل (ابن) هنا زائدة خطأ من الناسخ أو أن اسما مكنى سقط من حرف العطف فتكون وابن فلان وعمار لما نعلم من أنه ليس في فقهاء الصحابة من كنى بأبي عمار (ط).

 

ج / 6 ص -295-       صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَصَحَّ مِنْ هَذَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ، فَإِنَّمَا قَالَهُ عِنْدَ شَهَادَةِ رَجُلٍ عَلَى رِوَايَةِ الْهِلَالِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. قَالَ: وَأَمَّا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:" لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ كُلَّهَا لَأَفْطَرْتُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ" وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَأْمُرُ رَجُلًا بِفِطْرٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ" قَالَ: وَرِوَايَةُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ كَمَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّوْمِ إذَا غُمَّ الشَّهْرُ دُونَ أَنْ يَكُونَ صَحْوًا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَمُتَابَعَةُ السَّنَةِ الثَّابِتَةِ وَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَعَوَامُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْلَى بِنَا وَهُوَ مَنْعُ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ. هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ
:"إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، ثُمَّ عَقَدَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ وَقَالَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ" وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ زِيَادَةٌ قَالَ:" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نُظِرَ لَهُ فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرَةٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
:"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْهُ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ:"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ" وَفِي رِوَايَةٍ"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ: قَدَرْتُ الشَّيْءَ أَقْدُرُهُ وَأَقْدِرُهُ - بِضَمِّ الدَّالِ وَكَسْرِهَا - وَقَدَّرْتُهُ وَأَقْدَرْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مِنْ التَّقْدِيرِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23]
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ
" فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ" وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِ" اُقْدُرُوا لَهُ" وَلِهَذَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي رِوَايَةٍ، بَلْ تَارَةً يَذْكُرُ هَذَا، وَتَارَةً يَذْكُرُ هَذَا وَتُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ السَّابِقَةُ" فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ" قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَاوَرْدِيُّ: حَمَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم" فَاقْدُرُوا لَهُ" عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إكْمَالُ الْعُدَّةِ ثَلَاثِينَ، كَمَا فَسَّرَهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، قَالُوا: وَيُوَضِّحُهُ وَيَقْطَعُ كُلَّ احْتِمَالٍ وَتَأْوِيلٍ فِيهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ" فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا"
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"
لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ:"أَهْلَلْنَا رَمَضَانَ وَنَحْنُ بِذَاتِ عِرْقٍ فَأَرْسَلْنَا رَجُلًا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّهُ لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

ج / 6 ص -296-       وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"لَا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَمَامَةٌ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَعَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَكَمِّلُوا ثَلَاثِينَ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْهُ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصِيَامِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ، لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَمَامَةٌ فَأَتِمُّوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ صَاحِبِ الصَّحِيحِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ قَالَ: لَا نَعْرِفُ مِثْلَ هَذَا إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقَةُ"لَا تَقَدَّمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ" هَذَا كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
:"لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
وَعَنْ عَمَّارٍ قَالَ:"مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْأَحَادِيثُ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْتُهُ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمُخَالِفُونَ سَبَقَ بَيَانُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا يَعْلَى مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيَّ صَنَّفَ جُزْءًا فِي وُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا حَالَ دُونَ مَطْلَعِ الْهِلَالِ غَيْمٌ، ثُمَّ صَنَّفَ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْبَغْدَادِيُّ الشَّافِعِيُّ جُزْءًا فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ الْفَرَّاءِ وَالشَّنَاعَةِ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَنَسَبْتُهُ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ، وَقَدْ حَصَلَ الْجُزْءَانِ عِنْدِي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَأَنَا أَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَقَاصِدَهُمَا وَلَا أُخِلُّ بِشَيْءٍ يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِمَّا فِيهِمَا مَضْمُومًا إلَى مَا قَدَّمْتُهُ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْفِرَاءِ: جَاءَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله فِيمَا إذَا حَالَ دُونَ مَطْلَعِ الْهِلَالِ غَيْمٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ: إحداها: وُجُوبُ صِيَامِهِ عَنْ رَمَضَانَ رَوَاهَا عَنْهُ الْأَثْرَمُ وَالْمَرْوَزِيُّ وَمُهَنَّا وَصَالِحٌ وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عُمَرَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَنَسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي عُثْمَانَ وَابْنِ أَبِي مَرْيَمَ وَطَاوُسٍ وَمُطَرِّفٍ وَمُجَاهِدٍ فَهَؤُلَاءِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَسَبْعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجِبُ صَوْمُهُ بَلْ يُكْرَهُ إنْ لَمْ يُوَافِقْ عَادَتَهُ. وَالثَّالِثَةُ: إنْ صَامَ الْإِمَامُ صَامُوا، وَإِلَّا أَفْطَرُوا، وَبِهِ قَالَ

 

ج / 6 ص -297-       الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ قَالَ ابْنُ الْفَرَّاءِ: وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَوَّلَ شُيُوخُنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُي1 وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ.
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ
"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَأَنَّهُ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد زِيَادَةٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ" أَنَّهُ إذَا كَانَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ صَامَ" قَالَ: وَالدَّلَالَةُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ" وَكَانَ يُصْبِحُ فِي الْغَيْمِ صَائِمًا" وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرُهُ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ:" لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ لَأَفْطَرْتُ هَذَا الْيَوْمَ - يَعْنِي يَوْمَ الشَّكِّ -" وَرُوِيَ عَنْهُ" صُومُوا مَعَ الْجَمَاعَةِ وَأَفْطِرُوا مَعَ الْجَمَاعَةِ" قُلْنَا: الْمُرَادُ لَأَفْطَرْتُ يَوْمَ الشَّكِّ الَّذِي فِي الصَّحْوِ، وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ مُمْسِكًا احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ قِيَامِ بَيِّنَةٍ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ بِأَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَنُسَمِّي إمْسَاكَهُ صَوْمًا، قُلْنَا: الْإِمْسَاكُ لَيْسَ بِصَوْمٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلِاحْتِيَاطِ لَأَمْسَكَ فِي يَوْمِ الصَّحْوِ لِاحْتِمَالِ قِيَامِ بَيِّنَةٍ بِالرُّؤْيَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِ: أَنَّ مَعْنَى" اُقْدُرُوا لَهُ" ضَيِّقُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
"وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ" أَيْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ التَّضْيِيقَ بِأَنْ يَجْعَلَ شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ ثَلَاثِينَ لِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَأْوِيلُ ابْنِ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ. والثاني: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَكَرِّرٌ فِي الْقُرْآنِ. والثالث: أَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلصِّيَامِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ" فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِصَرِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ رُجُوعُهُ إلَى هِلَالِ شَوَّالٍ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَهُ بِقَوْلِهِ" وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ" يَعْنِي هِلَالَ شَوَّالٍ. فَنَسْتَعْمِلُ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَوْضِعَيْنِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُقَيَّدُ مُحْتَمَلًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَفْطِرُوا".
وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ الْحَدِيثِ دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ اُقْدُرُوا لَهُ زَمَانًا يَطْلُعُ فِي مِثْلِهِ الْهِلَالُ، وَهَذَا الزَّمَانُ يَصْلُحُ وُجُودُ الْهِلَالِ فِيهِ، وَلِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُعَاوِيَةَ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ.
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:" كَانَ أَبِي إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَأْنُ الْهِلَالِ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ بِصِيَامِ يَوْمٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ"
لَأَنْ أَتَعَجَّلَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَخَّرَ؛ لِأَنِّي إذَا تَعَجَّلْتُ لَمْ يَفُتْنِي وَإِذَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان في ش و ق (الخلال) ولكنه أبو بكر بن محمد بن أحمد بن علي الخلالي بكسر المعجمة ولام مخففة آخره ياء نسبة كان من أصحاب المزني وضبط اسمه ابن نقطة عن خط مؤتمن في غير موضع كما أفاده ابن السبكي في الطبقات الكبرى (ط).

 

ج / 6 ص -298-       تَأَخَّرْتُ فَاتَنِي" وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ" أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ" وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:" إنَّ رَمَضَانَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَنَحْنُ مُتَقَدِّمُونَ، فَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَتَقَدَّمَ فَلْيَتَقَدَّمْ، وَلَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ" وَعَنْ عَائِشَةَ وَقَدْ سُئِلَتْ عَنْ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَالَتْ:" لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ" قَالَ الرَّاوِي:" فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَا: أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا" وَعَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ ظَاهِرٌ لِصَحَابَةٍ؟ فَقَدْ رَوَى مَنْعَ صَوْمِهِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ عَنْهُمْ مِنْ طُرُقٍ، وَفِي الرِّوَايَةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:"إنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ السَّنَةِ يَوْمَ الشَّكِّ وَالنَّحْرِ وَالْفِطْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ" وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ" أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ" عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ" لَأَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ" لَا تَصُومُوا الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ لَا يُسْبَقُ فِيهِ الْإِمَامُ" وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ" إذَا رَأَيْتَ هِلَالَ رَمَضَانَ فَصُمْ وَإِذَا لَمْ تَرَهُ فَصُمْ مَعَ جُمْلَةِ النَّاسِ وَأَفْطِرْ مَعَ جُمْلَةِ النَّاسِ" وَنَهَى حُذَيْفَةُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ. فَهَذَا كُلُّهُ يُخَالِفُ مَا رَوَيْتُمُوهُ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ صَوْمِهِ.
قُلْنَا: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَنْ نَهَى عَنْ الصِّيَامِ أَرَادَ إذَا كَانَ الشَّكُّ بِلَا حَائِلِ سَحَابٍ، وَكَانَ صِيَامُهُمْ مَعَ وُجُودِ الْغَيْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ صَوْمِهِ تَطَوُّعًا وَتَقَدُّمًا عَلَى الشَّهْرِ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ أَيْضًا نَتَنَاوَلُ مَا رَوَيْتُمُوهُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ صَامَ مِنْهُمْ صَامَ مَعَ وُجُودِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ.  مُسْنَدًا عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ" أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَصَامَ. وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ. وَقَالَ:" لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ، وَصَارَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ يَصُومُهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَفِيمَا سَبَقَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا (لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ) وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِي يَوْمِ شَكٍّ، وَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَنْظُرُ لِلْهِلَالِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ غَيْمٌ أَصْبَحَ صَائِمًا وَإِلَّا أَفْطَرَ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِاجْتِهَادِهِ لَا بِشَهَادَةٍ، وَلِأَنَّهُ سَمَّوْهُ يَوْمَ الشَّكِّ، وَلَوْ كَانَ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ شَكٍّ.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَهُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَعَلَّهُمْ صَامُوهُ تَطَوُّعًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ" فَسَمَّوْهُ شَعْبَانَ، وَشَعْبَانُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، قُلْنَا: هَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ؛ وَلِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ قَصَدُوا الِاحْتِيَاطَ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ. وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ. وَمَنْ الْقِيَاسِ أَنَّهُ يَوْمٌ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِي صَوْمِهِ عَنْ رَمَضَانَ، فَوَجَبَ صِيَامُهُ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِالْهِلَالِ وَاحِدٌ، وَاحْتَرَزْنَا بِيَسُوغُ الِاجْتِهَادُ عَنْ يَوْمِ الصَّحْوِ، وَلِهَذَا يَتَنَاوَلُ مَا أَطْلَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى الصَّحْوِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ صَرِيحًا عَنْ

 

ج / 6 ص -299-       ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَقْصُودَةٌ فَوَجَبَتْ مَعَ الشَّكَّ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَاتَيْنِ، وَاحْتَرَزْنَا بِبَدَنِيَّةٍ عَنْ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَبِمَقْصُودِهِ عَمَّنْ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا؟ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. قَالَ: وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"نَهَى عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ، الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ". وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: حَمْلُهُ عَلَى مَنْ صَامَهُ تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا أَوْ قَضَاءً والثاني: حَمْلُهُ عَلَى الشَّكِّ إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْمٌ، قَالَ: وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ قَبْلَهُ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ" وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مُحَوَّلٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْمٌ
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَ دُونَهُ غَمَامَةٌ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ".
وجَوَابُهُ: أَنَّ مَعْنَاهُ أَكْمِلُوا رَمَضَانَ، وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ" وَيَعُودُ الضَّمِيرُ فِي رُؤْيَتِهِ إلَى هِلَالِ شَوَّالٍ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ" فَأَتِمُّوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا" وَمِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ" مَعْنَاهُ غُمَّ هِلَالُ شَوَّالٍ.
قَالَ: وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ السَّابِقِ قَالَ:"أَهْلَلْنَا هِلَالَ رَمَضَانَ فَشَكَكْنَا فِيهِ فَبَعَثْنَا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَجُلًا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَدَّهُ لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"
صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" قُلْنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْإِغْمَامُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ بِأَنْ يُغَمَّ هِلَالُ رَمَضَانَ فَنَعُدُّ شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَصُومُ ثَلَاثِينَ، فَيَحُولُ دُونَ مَطْلَعِ هِلَالِ شَوَّالٍ غَيْمُ لَيْلَةِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ، فَإِنَّا نَعُدُّ شَعْبَانَ مِنْ الْآنَ ثَلَاثِينَ وَنَعُدُّ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ وَنَصُومُ يَوْمًا، فَيَصِيرُ الصَّوْمُ وَاحِدًا وَثَلَاثِينَ، كَمَا إذَا نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ فَاتَتْهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ صَلَوَاتُ الْيَوْمِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ:" هَذَا الْيَوْمُ يُكْمِلُ إلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم" قَالَ:" جَوَابُهُ مَا سَبَقَ قَبْلَهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْإِغْمَامُ فِي طَرَفَيْ رَمَضَانَ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّأْوِيلُ بَا
صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ صُومُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا إلَّا أَنْ تَرَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ" طِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ قَالَ:" فَعُدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ صُومُوا" وَالصَّوْمُ إنَّمَا هُوَ أَوَّلُ الشَّهْرِ. والثاني: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:" فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا" فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَامَ فِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ. وَاَلَّذِي فِي أَوَّلِهِ يَقْتَضِي الِاعْتِدَادَ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَقْتَضِي أَنَّ الِاعْتِدَادَ بِهِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ.

 

ج / 6 ص -300-       قُلْنَا: التَّأْوِيلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّا نُكْمِلُ عِدَّةَ شَعْبَانَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، وَنَصُومُ يَوْمًا آخَرَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ:" ثُمَّ صُومُوا" رَاجِعًا إلَى هَذَا الْيَوْمِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَهُ:" فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا" فَمَعْنَاهُ إذَا غُمَّ فِي أَوَّلِهِ وَغُمَّ فِي آخِرِهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّا نَعُدُّ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ نَصُومُ يَوْمًا وَهُوَ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ، وَنَصُومُ يَوْمًا آخَرَ فَقَدْ حَصَلَ الْعَدَدَانِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ وَيَتَخَلَّلُهُمَا صَوْمُ يَوْمٍ قَالَ: وَاحْتُجَّ بِأَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقًا أَوْ عَتَاقًا عَلَى رَمَضَانَ لَمْ يَقَعْ يَوْمَ الشَّكِّ، وَكَذَا لَا يَحِلُّ فِيهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إلَى رَمَضَانَ فَكَذَا الصَّوْمُ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّا لَا نَعْرِفُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا نُسَلِّمَ ذَلِكَ وَنَقُولَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَيَحِلُّ الدَّيْنُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ نُسَلِّمَهُ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَنُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَةِ بِوَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ الصَّوْمُ بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَالْحُلُولُ وَهُوَ شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ. والثاني: أَنَّ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَحُلُولِ الدَّيْنِ إسْقَاطَ حَقٍّ ثَابِتٍ لِمُعَيَّنٍ بِالشَّكِّ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ إيجَابُ عِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ عَلَى الْبَدَنِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا مَعَ الشَّكِّ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إذَا تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِلْأَصْلِ، وَلَوْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ؟ لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْبُضْعَ حَقٌّ لَهُ، فَلَا يَسْقُطَانِ بِالشَّكِّ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ تَسَحَّرَ الرَّجُلُ وَهُوَ شَاكٌّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَلَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ شَاكًّا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ صَحَّ وُقُوفُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْأَصْلِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ لَمْ يُسْقِطْ الْعِبَادَةَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْوُقُوفَ وُجِدَا. 
وَأَمَّا: فِي مَسْأَلَتِنَا فَالْبِنَاءُ عَلَى الْأَصْلِ يُسْقِطُ الصَّوْمَ وَجَوَابٌ: آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَلَوْ مَنَعْنَاهُمْ السَّحُورَ مَعَ الشَّكِّ لَحِقَتْهُمْ الْمَشَقَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي إلْزَامِهِمْ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ نَادِرٌ فَلَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ لَوْ مَنَعْنَاهُمْ الْوُقُوفَ مَعَ الشَّكِّ لَفَاتَهُمْ، وَفِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ: وَاحْتُجَّ بِأَنَّهُ شَكٌّ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ كَالصَّحْوِ وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ يَبْطُلُ بِآخِرِ رَمَضَانَ إذَا حَالَ غَيْمٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ الصَّوْمُ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ صَحْوٌ وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُهُ بِخِلَافِ الْغَيْمِ، فَوَجَبَ صَوْمُهُ احْتِيَاطًا. قَالَ: وَاحْتُجَّ بِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ صَامَهُ فِي الصَّحْوِ لَا يَجِبُ فِي الْغَيْمِ كَالثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ مَا سَبَقَ، وَلِأَنَّا تَحَقَّقْنَا فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ كَوْنَهُ مِنْ شَعْبَانَ بِخِلَافِ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ، وَلِهَذَا لَوْ حَالَ الْغَيْمُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ صُمْنَا، وَلَوْ حَالَ لَيْلَةَ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ لَمْ نَصُمْ، قَالَ: وَاحْتُجَّ بِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا يَجِبُ الدُّخُولُ فِيهَا حَتَّى يُعْلَمَ وَقْتُهَا كَالصَّلَاةِ وَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. أَمَّا الْأَصْلُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الشَّكِّ، وَهُوَ إذَا نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ وأما: الْفَرْعُ فَإِنَّ الْأَسِيرَ إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ صَامَ بِالتَّحَرِّي وَجَوَابٌ: آخَرُ وَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْيَقِينِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ الْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، قَالَ: وَاحْتُجَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْجَزْمُ بِالنِّيَّةِ مَعَ الشَّكِّ، وَلَا يَصِحُّ الصَّوْمُ إلَّا بِجَزْمِ النِّيَّةِ وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ التَّرَدُّدُ فِي النِّيَّةِ لِلْحَاجَةِ

 

 

ج / 6 ص -301-       كَمَا فِي الْأَسِيرِ إذَا صَامَ بِالِاجْتِهَادِ وَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ فَصَلَّاهُنَّ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَلَفَ أَنَّ الْهِلَالَ تَحْتَ الْغَيْمِ قُلْنَا: لَا يَحْنَثُ لِلشَّكِّ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ، وَلَا هُوَ تَحْتَ الْغَيْمِ كَمَا لَوْ طَارَ طَائِرٌ فَحَلَفَ أَنَّهُ غُرَابٌ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِغُرَابٍ أَوْ تَجَهَّلْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ وَطِئَ فِي هَذَا الْيَوْمِ قُلْنَا: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ قُلْنَا: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ: لَا يُصَلِّي، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُصَلِّي وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَلِأَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَحْكُمُوا بِالْهِلَالِ تَحْتَ الْغَيْمِ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ؟ قُلْنَا: لَا فَائِدَةَ فِيهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ هِلَالُ رَمَضَانَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّ الدَّارَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قُلْنَا: لَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ حَتَّى يَدْخُلَهَا فِي يَوْمَيْنِ يَوْمِ الشَّكِّ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَوَاتِ يَوْمٍ وَجَهِلَهَا فَحَلَفَ لَيَدْخُلَنَّ الدَّارَ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَدْخُلَ بَعْدَ جَمِيعِ صَلَوَاتِ الْيَوْمِ، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ وَاحِدَةٌ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ رحمه الله تعالى.
قَالَ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ: وَقَفْتُ عَلَى كِتَابٍ لِبَعْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ يَوْمَ الشَّكِّ الْمُكَمِّلَ لِعِدَّةِ شَعْبَانَ يَجِبُ صَوْمُهُ عَنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا ظُهُورُ اعْتِلَالِهِ يُغْنِي النَّاظِرَ فِيهِ عَنْ إبْطَالِهِ، إذْ الْحَقُّ لَا يَدْفَعُهُ بَاطِلُ الشُّبُهَاتِ، وَالسُّنَنُ الثَّابِتَةُ لَا يُسْقِطُهَا فَاسِدُ التَّأْوِيلَاتِ، وَمَعَ كَوْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ فِيهَا الْتِبَاسٌ فَرُبَّمَا خَفِيَ حُكْمُهَا عَنْ بَعْضِ النَّاسِ، مَنْ قَصَرَ فَهْمُهُ، وَقَلَّ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ عِلْمُهُ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَنْصَحُوا لَهُ فِيمَا اسْتَحْفَظَهُمْ، وَيَبْذُلُوا الْجَهْدَ فِيمَا قَلَّدَهُمْ، وَيَنْهَجُوا لِلْحَقِّ سُبُلَ نَجَاتِهِمْ، وَيَكْشِفُوا لِلْعَوَامِّ عَنْ شُبُهَاتِهِمْ، لَا سِيَّمَا فِيمَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ، وَيَبِينُ فِي الدِّينِ ضَرَرُهُ، وَمِنْ أَعْظَمِ الضَّرَرِ إثْبَاتُ قَوْلٍ يُخَالِفُ مَذْهَبَ السَّلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فِي حُكْمِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَأَنَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَذْكُرُ مِنْ السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ، وَأُورِدُ فِي ذَلِكَ مِنْ صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ، عَنْ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَحَابَتِهِ الْأَخْيَارِ الْمَرْضِيِّينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَعَنْ خَالِفِيهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ، مَا يُوَضِّحُ مَنَارَ الْحَقِّ وَدَلِيلَهُ، وَيَرُدُّ مَنْ تَنَكَّبَ سَبِيلَهُ، وَيُبْطِلُ شُبْهَةَ قَوْلِ الْمُخَالِفِ وَتَأْوِيلَهُ.
ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقَ فِي الصَّحِيحَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"لَا تَقَدَّمُوا صَوْمَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمًا يَصُومُهُ رَجُلٌ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الصَّوْمَ" ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقَ فِي "الصحيحين" عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ وَيَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ". ثُمَّ ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ السَّابِقَةَ"لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ" وَحَدِيثَ حُذَيْفَةَ الصَّحِيحَ السَّابِقَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
:"لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ، أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ" وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:" قَالَ إنَّ اللَّهَ أَمَدَّهُ لِلرُّؤْيَةِ" وَحَدِيثَ"أَحْصُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ" وَسَبَقَ بَيَانُهُ.

 

ج / 6 ص -302-       ثُمَّ قَالَ: بَابُ الْأَمْرِ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ، قَالَ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَاتِهِمْ بِأَسَانِيدِهِ مِنْ طُرُقٍ وَأَلْفَاظَهَا كَمَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ، وَفِي جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ". ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً فِي آخِرِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَمْ يَشْهَدْ عَدْلٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَيَوْمُ الثَّلَاثِينَ يَوْمُ الشَّكِّ، فَكَرِهَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ صِيَامَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَادَةٌ بِصَوْمٍ فَيَصُومُهُ عَنْ عَادَتِهِ، أَوْ كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ فَيَأْتِي ذَلِكَ فِي صِيَامِهِ فَيَصُومُهُ،
قَالَ: فَمِمَّنْ مَنَعَ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ، وَتَابَعَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ الْجُهَنِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْمُسَيِّبُ بْنُ رَافِعٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَأَبُو السِّوَارِ الْعَدَوِيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَتَابَعَهُمْ مِنْ الْخَالِفِينَ وَالْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. 
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ عَنْ رَمَضَانَ وَيَجُوزُ تَطَوُّعًا. وأما: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَرُوِيَ عَنْهُ كَمَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ صَوْمُهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ، وَرُوِيَ عَنْهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِي صَوْمِهِ وَفِطْرِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ غَيْمٌ صَامَهُ وَإِلَّا أَفْطَرَهُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَزَعَمَ الْمُخَالِفُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي عَلَيْهَا التَّعْوِيلُ عِنْدَهُ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَرَاهُ عَوَّلَ عَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ: خَالِفْ تُعْرَفْ، وَاحْتَجَّ لِقَوْلِهِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقُ"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" قَالَ الْخَطِيبُ: قَالَ الْمُخَالِفُ: وَدَلَالَتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي كَلَامِ الْفَرَّاءِ، وَمُخْتَصَرُهُمَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ لَيْلَةِ الْغَيْمِ، وَهُوَ الرَّاوِي، فَاعْتِمَادُهُ أَوْلَى والثاني: أَنَّ مَعْنَى" اُقْدُرُوا لَهُ" ضَيِّقُوا شَعْبَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ.
 قَالَ الْخَطِيبُ: أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ اخْتِلَافًا يَئُولُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَنَا، فَإِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ عَنْهُ:" فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا" ثُمَّ رَوَى" عَنْهُ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ" وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ" فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ" ثُمَّ ذَكَرَ الْخَطِيبُ بِأَسَانِيدِهِ مِنْ طُرُقٍ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا وَأَنَّهَا صَحِيحَةٌ، ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: لَقَدْ ثَبَتَ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا فَسَّرَ الْمُجْمَلَ، وَأَوْضَحَ الْمُشْكِلَ وَأَبْطَلَ شُبْهَةَ الْمُخَالِفِ، وَكَشَفَ عُوَارَ تَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم
" فَاقْدُرُوا لَهُ" مُجْمَلٌ فَسَّرَهُ بِرِوَايَةٍ" فَعُدُّوا لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا" وَ" فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ لَهُ ثَلَاثِينَ" وَ" فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ" مَعَ مُوَافَقَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ ابْنَ عُمَرَ عَلَى رِوَايَتِهِ مِثْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ذَكَرَ الْخَطِيبُ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقَيْنِ فِي بَعْضِهَا"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ" وَفِي الثَّانِيَةِ" فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ". 

 

ج / 6 ص -303-       قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْمُخَالِفِ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ وَيُفْتِي بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَفُتْيَاهُ أَصَحُّ مِنْ فِعْلِهِ يَعْنِي لِتَطَرُّقِ التَّأْوِيلِ إلَى فِعْلِهِ، ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ:" سَأَلُوا ابْنَ عُمَرَ فَقَالُوا" نَسْبِقُ قَبْلَ رَمَضَانَ حَتَّى لَا يَفُوتَنَا مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أُفٍّ أُفٍّ، صُومُوا مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَأَفْطِرُوا مَعَ الْجَمَاعَةِ" إسْنَادُهُ صَحِيحٌ إلَّا عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ حَكِيمٍ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعِينٍ: هُوَ ثِقَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" لَا أَتَقَدَّمُ قَبْلَ الْإِمَامِ وَلَا أَصِلُهُ بِصِيَامٍ".
وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ1 قَالَ: "ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ يَوْمُ الشَّكِّ فَقَالَ: لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ كُلَّهَا لَأَفْطَرْتُهُ" قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِابْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ خَالَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَرَكَ قَوْلَهُ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعَمَلِ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ إكْمَالِ الْعِدَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ مُمْسِكًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ هَلْ تَقُومُ بَيِّنَةٌ بِالرُّؤْيَةِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَسِبُ بِهِ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:" لَا أَتَقَدَّمُ قَبْلَ الْإِمَامِ" وَقَوْلُهُ:" لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ لَأَفْطَرْتُهُ" يَعْنِي يَوْمَ الشَّكِّ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ الصِّيَامَ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَ مُمْسِكًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إمْسَاكِهِ بِلَا نِيَّةٍ لِلصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ تَعْظِيمُ حُرْمَةِ رَمَضَانَ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِابْنِ عُمَرَ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي اقْتِفَاءِ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ، وَطَرِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مَحْفُوظَةٌ قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ تَأَوَّلَ الْمُخَالِفُ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ" لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ لَأَفْطَرْتُ يَوْمَ الشَّكِّ" عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ أَصُمْهُ تَطَوُّعًا وَإِنْ تَطَوَّعْتُ بِجَمِيعِ السَّنَةِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الشَّكِّ فِي الصَّحْوِ، قَالَ: وَهَكَذَا قَوْلُهُ" صُومُوا مَعَ الْجَمَاعَةِ" الْمُرَادُ مَعَ الصَّحْوِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ أَنَّهُ لَا يَصُومُهُ بِحَالٍ. وَكَذَا الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ مِنْ يَوْمِ الشَّكِّ إنَّمَا هُوَ مَعَ وُجُودِ السَّحَابِ لَا مَعَ الصَّحْوِ، مَعَ أَنَّ مَا تَأَوَّلَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجْهٌ إلَّا مَا قَالَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِثُبُوتِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ الصَّرِيحَةِ، بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِلَافَ مَا ادَّعَى الْمُخَالِفُ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ وَلَا غَيْرِهِ. ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ جَعَلَ الْمُخَالِفُ الْعِلَّةَ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ الْمُجْمَلِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ مُجَرَّدَ فِعْلِهِ مَعَ احْتِمَالِهِ غَيْرَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، وَكَانَ يَلْزَمُهُ تَرْكُ رَأْيِهِ وَالْأَخْذُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ ذَكَرَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبد العزيز بن حكيم الحضرمي أغفله ابن حجر في التقريب كما أغفله الخزرجي في التذهيب مع توثيق أبي داود له يرد أن الذهبي أورده  ومعه حديثه الذي تفرد به: "صليت على ميت خلف زيد بن أرقم فكبر خمسا" سمعه منه معتمر وقال فيه: لا يعرف. وذكره ابن حجر في اللسان وأورد ما في الميزان وزاد توثيق أبي داود له وتضعيف العقيلي وترك جرير بن أبي حازم له، والله أعلم. (ط).

 

ج / 6 ص -304-       بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"تَمَارَى النَّاسُ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْيَوْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: غَدًا فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَنَّهُ رَآهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: صُومُوا، ثُمَّ قَالَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا، وَلَا تَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا".
قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَيَانِ الشَّافِي بِاللَّفْظِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَاقَ السَّبَبَ الَّذِي خَرَجَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَالَ الْخَطِيبُ: وَالْمُرَادُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إنَّمَا يَقَعُ إذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ غَيْمٌ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ لَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِالصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةِ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى الرُّؤْيَةِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ الْعُقَيْلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا فِيهِ كِفَايَةٌ عَمَّا سِوَاهُ فَذَكَرَ بِإِسْنَادٍ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ:"أَصْبَحْنَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ صِيَامًا وَكَانَ الشَّهْرُ قَدْ أُغْمِيَ عَلَيْنَا.  فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَصَبْنَاهُ مُفْطِرًا فَقُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، صُمْنَا الْيَوْمَ، فَقَالَ: أَفْطِرُوا إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ يَصُومُ هَذَا الْيَوْمَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، لَأَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مُتَمَارِيًا فِيهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ لَيْسَ مِنْهُ" يَعْنِي لَيْسَ مِنْ رَمَضَانَ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ حُجَّةٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ مَعْنَى" اُقْدُرُوا لَهُ" ضَيِّقُوا شَعْبَانَ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ خَطَأٌ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اُقْدُرُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا فِي الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ، وَقَدَرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَّرْتُهُ - بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِهَا - بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23]
ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الْفَرَّاءِ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ قَالَ فِي قوله تعالى"فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ" ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُمَا شَدَّدَا وَخَفَّفَهَا الْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَقُولُ: قَدَرَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، وَقَدَّرَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ وَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَقَدَّرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ. بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ. ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ التَّشْدِيدَ وَالتَّخْفِيفَ، ثُمَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ أَوْحَدَ وَقْتِهِ فِي التَّفْسِيرِ. ثُمَّ الْفَرَّاءِ ثُمَّ ثَعْلَبٍ: إنَّهُمْ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى"فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" مَعْنَاهُ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَهُ غَيْرُهُ مِنْ النُّحَاةِ. فَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ فِي الْحَدِيثِ مَا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ غَيْرُهُ فِي وُضُوحِ الْحُجَّةِ وَإِسْقَاطِ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم" فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ" أَيْ فَعُدُّوا لَهُ ثَلَاثِينَ، وَهُوَ بِمَعْنَى عُدُّوا، وَكُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم" فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" قَالَ الْخَطِيبُ: قَالَ الْمُخَالِفُ: وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم" فَاقْدُرُوا لَهُ" مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيرِ شَعْبَانَ بِثَلَاثِينَ، إذْ لَيْسَ تَقْدِيرُهُ بِثَلَاثِينَ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ بِتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَدَدَيْنِ يَكُونُ قَدْرًا لِلشَّهْرِ"لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَ مِنْ الْغُرْفَةِ وَقَدْ آلَى شَهْرًا فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ: إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ" وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ" مَا صُمْنَا تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ". 
قَالَ الْخَطِيبُ: مَا أَعْظَمَ غَفْلَةَ هَذَا الرَّجُلِ، وَمَنْ الَّذِي نَازَعَهُ فِي أَنَّ الشَّهْرَ تَارَةً يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَتَارَةً يَكُونُ ثَلَاثِينَ، وَأَيُّ حَجَّةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِينَ أَوْلَى مِنْ التَّقْدِيرِ

 

ج / 6 ص -305-       بِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ بَاطِلٌ وَمُحَالٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِتَمَامِ الْعَدَدِ وَالْكَمَالِ. وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: من الآية36]
َقالَ الْخَطِيبُ: قَالَ الْمُخَالِفُ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ثَلَاثِينَ؟ قُلْنَا: لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَأْوِيلُ ابْنِ عُمَرَ الرَّاوِي، وَهُوَ أَعْرَفُ. والثاني: أَنَّهُ مَشْهُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الثالث: أَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ. قَالَ الْخَطِيبُ: أَمَّا تَأْوِيلُ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُفْسِدُهُ مِنْ مُعَارَضَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا. وَذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الرِّوَايَاتِ مَا يُوجِبُ تَأْوِيلَ فِعْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُخَالِفُ، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْآيَاتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ:" إنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا" فَالِاحْتِيَاطُ فِي اتِّبَاعِ السُّنَنِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهَا، دُونَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا بِالْآرَاءِ، وَالْحَمْلِ لَهَا عَلَى الْأَهْوَاءِ، وَمَنْزِلَةُ مَنْ زَادَ فِي الشَّرْعِ كَمَنْزِلَةِ مَنْ نَقَصَ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْخَطِيبُ: قَالَ الْمُخَالِفُ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى مُسْلِمٌ "فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ" مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، قُلْنَا: هَذَا التَّفْسِيرُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ لِاحْتِمَالِ رُجُوعِهِ إلَى هِلَالِ شَوَّالٍ.
قَالَ الْخَطِيبُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْزِلَ الْكَلَامَ عَنْ أَصْلِهِ الْمَوْضُوعِ وَظَاهِرِهِ الْمُسْتَعْمَلِ الْمَعْرُوفِ، وَيَعْدِلَ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
:"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ" رَاجِعٌ إلَى الْغَيْمِ فِي ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ وَفِي انْتِهَائِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّصُّ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ وَعُمُومُهُ وَحَقِيقَتُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ": صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ غَمَامَةٌ أَوْ ضَبَابَةٌ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، وَلَا تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا وَلَا تَصُومُوا قَبْلَهُ بِيَوْمٍ" وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ" فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَاسْتَدَلَّ الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" رَاجِعٌ إلَى غَمِّ هِلَالِ شَوَّالٍ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآخَرِ
"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا" قَالَ الْخَطِيبُ: وَلَيْسَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ غَمِّ الْهِلَالِ آخِرَ الشَّهْرِ وَأَنَّهُ يَجِبُ إكْمَالُ عِدَّةِ الصَّوْمِ، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِهِ. فَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ غَمِّهِ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ فَمُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ صُومُوا" وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى "فَعُدُّوا شَعْبَانَ وَفِي الْأُخْرَى فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا" وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ". قَالَ الْخَطِيبُ. قَالَ الْمُخَالِفُ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا غُمَّ هِلَالُ رَمَضَانَ فَإِنَّا نَعُدُّ شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَصُومُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَإِنْ حَالَ دُونَ مَطْلَعِ هِلَالِ شَوَّالٍ لَيْلَةَ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ غَيْمٌ، عَدَدْنَا حِينَئِذٍ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ. ثُمَّ نَعُدُّ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ وَنَصُومُ يَوْمًا آخَرَ فَيَكُونُ إحْدَى وَثَلَاثِينَ.

 

ج / 6 ص -306-       قَالَ الْخَطِيبُ: مَنْ خَلَتْ يَدَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ وَعَدَلَ عَنْ نَهْجِ السَّبِيلِ لَجَأَ إلَى مِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَمَعَ كَوْنِهِ إحْدَى الْعَظَائِمِ وَالْكُبَرِ1، وَأَعْجَبَ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّظَرِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يُسْنِدْهُ إلَى أَصْلٍ يَرُدُّهُ إلَيْهِ، وَلَا أَوْرَدَ أَمْرًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَازَ تَخْصِيصُ الْحَدِيثِ الْعَامِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَبَطَلَتْ الْأَخْبَارُ، وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمٌ بِظَاهِرٍ، وَتَعَلَّقَ كُلُّ مُبْطِلٍ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَلَئِنْ سَاغَ لِلْمُخَالِفِ هَذَا التَّأْوِيلُ الْبَاطِلُ لِيَسُوغَنَّ لِغُلَاةِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ النَّاسَ فِي الْفِطْرِ وَالصَّوْمِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" أَنَّ الْمُرَادَ تَقَدُّمُ الصِّيَامِ لِلرُّؤْيَةِ وَتَقَدُّمُ الْفِطْرِ لِلرُّؤْيَةِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَمُخَالِفُنَا يَعْلَمُ فَسَادَ هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي قَالَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَسَمِعْتَ هَذَا التَّأْوِيلَ عَنْ أَحَدٍ؟ فَإِنْ زَعَمَهُ فَلْيَأْتِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ يَتَضَمَّنُهُ، وَأَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ كَانَ إذَا غُمَّ عَلَيْهِ هِلَالُ شَوَّالٍ اسْتَأْنَفَ عَدَدَ شَعْبَانَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي خَبَرٍ وَلَا أَثَرٍ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَجِدَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَا تَأَوَّلَهُ خِلَافُ الصَّوَابِ، فَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، فَإِنْ قَالَ: اسْتَخْرَجْتُهُ بِنَظَرِي، قُلْنَا: الِاسْتِخْرَاجُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلٍ وَلَا سَبِيلَ لَكَ إلَيْهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَزَعَمَ الْمُخَالِفُ أَنَّ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِهِ، وَهَذِهِ دَعْوَى مِنْهُ لَيْسَ عَلَيْهَا بُرْهَانٌ. وَلَا يَعْجَزُ كُلُّ مَنْ غَلَبَ هَوَاهُ عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَدَّعِيَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَنَا أَذْكُرُ هُنَا مَا ثَبَتَ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْخَالِفِينَ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَرَوَاهَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ2 بْنِ عُكَيْمٍ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ كُلَّمَا أَقْبَلَ رَمَضَانُ وَيَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا وَلَا يَتَقَدَّمَنَّ الشَّهْرَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، يَقُولُهَا ثَلَاثًا، وَفِي الرِّوَايَةِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ الْمُجَنَّدَةِ" صُومُوا لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا وَأَفْطِرُوا، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ عَلَى رَمَضَانَ، فَقُلْتُ لَهُ مَنْ ذَكَرَهُ؟ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قُلْتُ لَهُ: مَنْ ذَكَرَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَرَوْحٌ. قَالَ الْخَطِيبُ: فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ عُثْمَانُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ، فَالْغَيْمُ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَمِدَهُ. 
وَعَنْ مُجَالَدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ إذَا حَضَرَ رَمَضَانُ وَيَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ:" لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ. إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ" وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَعَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ" أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا كَانَا يَنْهَيَانِ عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ" قُلْتُ: مُجَالِدٌ ضَعِيفٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِخَبَرٍ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ:" أَصُومُ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ" قَالَ الْخَطِيبُ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الكاف وفتح الباء.
2 عبد الله بن عكيم بضم أوله وفتح الكاف أبو معبد الكوفي مخضرم عن أبي بكر وعمر وعنه ابن أبي ليلى والقاسم بن مخيمرة مات في إمارة الحجاج (ط).

 

ج / 6 ص -307-       فِي الصَّوْمِ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ لِهِلَالِ رَمَضَانَ، ثُمَّ رَأَى عَلِيٌّ قَبُولَ شَهَادَةِ وَاحِدٍ، ثُمَّ رَوَى عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ عَلِيٍّ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، فَصَامَ وَقَالَ:" أَصُومُ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ" فَصِيَامُ عَلِيٍّ رضي الله عنه كَانَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَبُولِ الْوَاحِدِ صَارَ إلَيْهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ لَا يَصُومُ إلَّا لِلرُّؤْيَةِ أَوْ اكْتِمَالِ الْعَدَدِ لِشَعْبَانَ مَا أَخْبَرَنَاهُ أَحْمَدُ وَذَكَرَ إسْنَادَهُ إلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ:" صُمْنَا عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَأَمَرَنَا عَلِيٌّ بِقَضَاءِ يَوْمٍ".
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ تِلْكَ السَّنَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَشَعْبَانُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَغُمَّ الْهِلَالُ فِي آخِرِ شَعْبَانَ، فَأَكْمَلَ عَلِيٌّ وَالنَّاسُ الْعَدَدَ لِشَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، وَصَامُوا فَرَأَوْا الْهِلَالَ عَشِيَّةَ الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ الصَّوْمِ وَلَوْ كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ فِي الصَّوْمِ كَقَوْلِ الْمُخَالِفِ مِنْ اعْتِمَادِ الْغَيْمِ لَمْ يَرَ النَّاسُ الْهِلَالَ بَعْدَ صَوْمِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وأما: ابْنُ مَسْعُودٍ فَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِهِ" صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ" لَأَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ يَوْمًا لَيْسَ مِنْهُ وَعَنْ صِلَةَ1 قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَتَى بِشَاةٍ فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم": وَعَنْ حُذَيْفَةَ" أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" لَا تَصِلُوا رَمَضَانَ بِشَيْءٍ، وَلَا تَقَدَّمُوهُ بِيَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ" وَعَنْهُ" مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ" إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ".
قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا مَا رُوِّينَاهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ:" سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَأَنْ أَتَقَدَّمَ فِي رَمَضَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَخَّرَ؛ لِأَنِّي إنْ تَقَدَّمْتُ لَمْ يَفُتْنِي" فَرِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تُحْفَظُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَبُو مَرْيَمَ مَجْهُولٌ فَلَا يُعَارَضُ بِرِوَايَتِهِ مَا نَقَلَهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَمِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْمُخَالِفُ مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: رَأَيْتُ هِلَالَ الْفِطْرِ إمَّا عِنْدَ الظُّهْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَفْطَرَ نَاسٌ فَأَتَيْنَا أَنَسًا فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ:" هَذَا يَوْمٌ يَكْمُلُ إلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، لِأَنَّ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ أَرْسَلَ إلَيَّ قَبْلَ صِيَامِ النَّاسِ أَنِّي صَائِمٌ غَدًا فَكَرِهْتُ الْخِلَافَ عَلَيْهِ فَصُمْتُ، وَأَنَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو صلة بن زفر قال ابن تيمية المجد في المنتقى: رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي وهو للبخاري تعليقا وقال الشوكاني: وأخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة وصححاه والحاكم والدارقطني والبيهقي ثم قال: وليس هو عند مسلم وقد وهم من عزاه إليه. قال ابن عبد البر: هذا مرفوع لا يختلفون في ذاك وزعم أبو القاسم الجوهري أنه موقوف ورد عليه ورواه إسحاق بن راهويه عن وكيع عن سفيان عن سمك عن عكرمة وزاد فيه ابن عباس (ط).

 

ج / 6 ص -308-       مُتِمٌّ يَوْمِي هَذَا إلَى اللَّيْلِ" قَالَ الْخَطِيبُ: قَالَ الْمُخَالِفُ: وَلَا يَتَقَدَّمُ أَنَسٌ عَلَى صَوْمِ الْجَمَاعَةِ إلَّا بِصَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ.
قَالَ الْخَطِيبُ: فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ قَالَ أَنَسٌ: إنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ مُعْتَقِدًا وُجُوبَهُ وَإِنَّمَا تَابَعَ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ وَكَانَ هُوَ الْأَمِيرُ عَلَى الْإِمْسَاكِ فِيهِ، وَلَعَلَّ الْأَمِيرَ عَزَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَكَرِهَ مُخَالَفَتَهُ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ، كَذَا رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَحَسْبُكَ بِهِ فَهْمًا وَعَقْلًا وَصِدْقًا وَفَضْلًا، وَمِنْ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ:" لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ لِي مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ" قَالَ الْخَطِيبُ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ صَوْمَ الشَّكِّ إذَا شَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ عَدْلٌ، فَيَجِبُ صَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ قَدْ شَهِدَ بِبَاطِلٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَأَرَادَتْ بِقَوْلِهَا مُخَالَفَةَ مَنْ شَرَطَ لِصَوْمِ رَمَضَانَ شَاهِدِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ مَسْرُوقًا رَوَى عَنْهَا النَّهْيَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، ثُمَّ رَوَاهُ الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ" أَنَّهَا كَانَتْ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ تَقَدَّمَتْهُ وَصَامَتْ، وَتَأْمُرُ بِذَلِكَ". قَالَ الْخَطِيبُ: لَيْسَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ تَقَدُّمِهَا بِالصَّوْمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ لَا وَاجِبٌ وَإِذَا اُحْتُمِلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُخَالِفِ فِيهِ حُجَّةٌ، مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَمِمَّا جَاءَ عَنْ التَّابِعِينَ فِيهِ مَا رُوِّينَاهُ - فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ"مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُفْطِرَ بَعْدَ الظُّهْرِ". وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ:" لَا تَصُمْ الْيَوْمَ الَّذِي تَشُكُّ فِيهِ إذَا كَانَ فِيهِ سَحَابٌ" وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ "لَا بَأْسَ بِصَوْمِهِ إلَّا أَنْ يُغَمَّ الْهِلَالُ". وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْيَوْمِ الَّذِي يَقُولُ النَّاسُ: إنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ؟ قَالَ: "لَا يُصَمْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ" وَفِي رِوَايَةٍ "عَنْهُ لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ كُلَّهَا مَا صُمْتُ يَوْمَ الشَّكِّ" وَعَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ "لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ كُلَّهَا مَا صُمْتُ يَوْمَ الشَّكِّ" وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَبْغَضُ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَصُومَهُ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي يُقَالُ: إنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي وَائِلٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يُقَالُ: إنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: لَأَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَا أَتَعَمَّدُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَصِلُ بِهِ رَمَضَانَ أَتَعَمَّدُهُ، وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَرِهَا صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَذَكَرَ الْمُخَالِفُ شُبَهًا مِنْ الْقِيَاسِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَنْ اعْتَمَدَ الْآثَارَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصٌّ يُخَالِفُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَيَحْرُمُ الْعَمَلُ بِهِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ تَوَسُّعِهِ فِي الْقَضَاءِ بِالْقِيَاسِ: الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ أَحْسَنُ مِنْ بَعْضِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ إذَا قَابَلَ الْقِيَاسَ نَصٌّ يُخَالِفُهُ، أَوْ كَانَ فَاسِدًا لِنَقْصٍ، أَوْ مُعَارَضَةِ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الْمُخَالِفِ وُجُوبَ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَوَاتِ يَوْمٍ، فَهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ لِثُبُوتِ النَّصِّ بِخِلَافِهِ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَجِبْ بِالشَّكِّ، بَلْ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا شَغْلَ ذِمَّتِهِ بِكُلِّ صَلَاةٍ، وَشَكَكْنَا فِي بَرَاءَتِهِ مِنْهَا وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَلَا طَرِيقَ بِهِ إلَى الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ إلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيعِ، وَإِنَّمَا نَظِيرُ مَسْأَلَةِ يَوْمِ الشَّكِّ أَنْ يَشُكَّ هَلْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ فَلَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ لَوْ صَلَّى شَاكًّا فِيهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، قَالَ الْمُخَالِفِ: وَقِيَاسٌ آخَرُ وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَا إذَا غُمَّ الْهِلَالُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

 

ج / 6 ص -309-       قَالَ الْخَطِيبُ: لَيْسَ بِهَذَا الْمُخَالِفُ مِنْ الْغَبَاوَةِ مَا يَنْتَهِي إلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَكِنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَمْرًا أَلْجَأَهُ إلَيْهَا، وَكَيْفَ اسْتَجَازَ أَنْ يَقُولَ: يَوْمُ الشَّكِّ أَحَدُ طَرَفَيْ الشَّهْرِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلْزَمُهُ وَلَا يَسْلَمُ لَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: بَنَيْتُهُ عَلَى أَصْلٍ، قِيلَ لَهُ: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَيَجِبُ اطِّرَاحُهُ، وَيُقَالُ لَهُ: إنْ قُلْتَ: يَوْمُ الشَّكِّ أَحَدُ طَرَفَيْ رَمَضَانَ فَأْتِ بِحُجَّةٍ عَلَى ذَلِكَ وَهَيْهَاتَ السَّبِيلُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْتَ: الشَّكُّ أَحَدُ طَرَفَيْ شَعْبَانَ، قِيلَ: أَصَبْتَ، وَلَا يَجِبُ صَوْمُ شَعْبَانَ، (ثُمَّ يُقَالُ) الْأَصْلُ بَقَاءُ شَعْبَانَ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
قَالَ الْخَطِيبُ: قَالَ الْمُخَالِفُ: وَلَا يَمْتَنِعُ تَرْكُ الْأَصْلِ لِلِاحْتِيَاطِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ، وَكَمَا لَوْ شَكَّ مَاسِحُ الْخُفِّ فِي انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ فَلَا يَمْسَحُ، وَلَوْ شَكَّتْ الْمُسْتَحَاضَةُ فِي انْقِطَاعِ الْحَيْضِ تَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ، قَالَ الْخَطِيبُ: أَمَّا مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ فَسَبَقَ جَوَابُهَا وأما: مَاسِحُ الْخُفِّ فَشَرْطُ مَسْحِهِ بَقَاءُ الْمُدَّةِ فَإِذَا شَكَّ فِيهَا رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ وأما: الْمُسْتَحَاضَةُ فَسَقَطَتْ عَنْهَا الصَّلَاةُ بِسَبَبِ الْحَيْضِ، فَإِذَا شَكَّتْ فِيهِ رَجَعَتْ إلَى الْأَصْلِ، وَمُقْتَضَى هَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ لَا يَجِبَ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْخَطِيبِ رحمه الله تعالى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُكْرَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِيَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بِيَوْمٍ بَعْدَهُ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ:"سَأَلْتُ جَابِرًا أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ اللَّيَالِيِ، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: فَأَفْطِرِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ:" حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ فَإِنْ وَصَلَهُ بِصَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ وَافَقَ عَادَةً لَهُ بِأَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ شِفَاءِ مَرِيضِهِ، أَوْ قُدُومِ زَيْدٍ أَبَدًا، فَوَافَقَ الْجُمُعَةَ لَمْ يُكْرَهْ" لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ مِمَّا سَبَقَ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ كَرَاهَةِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ: رَوَى الْمُزَنِيّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَسْتَحِبُّ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ كَانَ إذَا صَامَهُ مَنَعَهُ مِنْ الصَّلَاةِ مَا لَوْ كَانَ مُفْطِرًا فَعَلَهُ، هَذَا نَقْلُ

 

ج / 6 ص -310-       الْقَاضِي، وَقَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: وَذَكَرَ فِي جَامِعِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَبِينُ لِي أَنْ أَنْهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلَّا عَلَى اخْتِيَارٍ لِمَنْ كَانَ إذَا صَامَهُ مَنَعَهُ عَنْ الصَّلَاةِ الَّتِي لَوْ كَانَ مُفْطِرًا فَعَلَهَا.
قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي التَّعْلِيقِ أَنَّهُ يُكْرَهُ صَوْمُهُ مُفْرَدًا قَالَ: وَهَذَا خِلَافُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ، قَالَ: وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَلَى مَنْ كَانَ الصَّوْمُ يُضْعِفُهُ وَيَمْنَعُهُ عَنْ الطَّاعَةِ. هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الشَّامِلِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ مُخْتَصَرًا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ غَيْرَهُ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: فِي كَرَاهَةِ إفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ وَجْهَانِ (الْمَنْصُوصُ) الْجَوَازُ، وَيُحْتَجُّ لِظَاهِرِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ السَّابِقِ، وَمَنْ قَالَ بِالْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ الْخَمِيسَ فَوَصَلَ الْجُمُعَةَ بِهِ، وَهَذَا لَا كَرَاهَةَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ.
فرع: قَالَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ: الْحِكْمَةُ فِي كَرَاهَةِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ أَرْجَى فَهُوَ، يَوْمُ دُعَاءٍ وَذِكْرٍ وَعِبَادَةٍ مِنْ الْغُسْلِ وَالتَّبْكِيرِ إلَى الصَّلَاةِ وَانْتِظَارِهَا وَاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ وَإِكْثَارِ الذِّكْرِ بَعْدَهَا لقوله تعالى:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الجمعة: من الآية10] وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ أَيْضًا الْإِكْثَارُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي يَوْمِهَا فَاسْتُحِبَّ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ لِيَكُونَ أَعْوَنَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ وَأَدَائِهَا بِنَشَاطٍ وَانْشِرَاحٍ وَالْتِذَاذٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَلَلٍ وَلَا سَآمَةٍ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَاجِّ بِعَرَفَاتٍ فَإِنَّ الْأَوْلَى لَهُ الْفِطْرُ كَمَا سَبَقَ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ،
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَزُلْ الْكَرَاهَةُ بِصِيَامٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لِبَقَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي نَهَى بِسَبَبِهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِفَضِيلَةِ الصَّوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مَا يَجْبُرُ مَا قَدْ يَحْصُلُ مِنْ فُتُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي وَظَائِفِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِسَبَبِ صَوْمِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي كَرَاهَةِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ.  وَقِيلَ: سَبَبُهُ خَوْفُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ بِحَيْثُ يُفْتَتَنُ بِهِ كَمَا اُفْتُتِنَ قَوْمٌ بِالسَّبْتِ، وَهَذَا بَاطِلٌ مُنْتَقَضٌ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ مَا شُرِعَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِمَّا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالشَّعَائِرِ، وَقِيلَ بِسَبَبِهِ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ وَمُنْتَقَضٌ بِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ صَوْمُهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى هَذَا الْخَيَالِ الْبَعِيدِ وَبِيَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِنَا كَرَاهَتُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يُكْرَهُ، قَالَ مَالِكٌ فِي: "الْمُوَطَّأِ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ1، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ. قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ وَأُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ" فَهَذَا كَلَامُ مَالِكٍ وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُمْ بِحَدِيثِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روجعت العبارة على ما جاء في الموطأ عن يحيى بن يحيى ولذا قومت عبارتها في ش و ق (ط).

 

ج / 6 ص -311-       ابْنِ مَسْعُودٍ السَّابِقِ وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ فِي النَّهْيِ، وَسَبَقَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ فَلَا يُفْرِدُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّهُ مَا رَأَى مَنْ يَنْهَى فَيُعَارِضُهُ، أَنَّ غَيْرَهُ رَأَى، فَالسُّنَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَا رَآهُ هُوَ وَغَيْرُهُ وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْ إفْرَادِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهَا لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ لَهَا وَمَالِكٌ مَعْذُورٌ فِيهَا فَإِنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا حَدِيثَ النَّهْيِ وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ.
فرع: يُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ السَّبْتِ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ صَامَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مَعَهُ لَمْ يُكْرَهُ صَرَّحَ بِكَرَاهَةِ إفْرَادِهِ أَصْحَابُنَا، مِنْهُمْ الدَّارِمِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ - عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ وَمَعْنَى النَّهْيِ أَنْ يَخْتَصَّهُ الرَّجُلُ بِالصِّيَامِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ يُعَظِّمُونَهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُقْبَلُ، فَقَدْ صَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَلَهُ مُعَارِضٌ صَحِيحٌ وَهُوَ حَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ السَّابِقُ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَالَ: وَلَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ"عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثُوهُ إلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا أَيُّ الْأَيَّامِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ صِيَامًا لَهَا؟ قَالَتْ: يَوْمُ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ، فَرَجَعْتُ إلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ1، فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَامُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهَا فَقَالُوا: إنَّا بَعَثْنَا إلَيْكِ هَذَا فِي كَذَا وَكَذَا فَذَكَرَ أَنَّكِ قُلْتِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَتْ: صَدَقَ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مَا كَانَ يَصُومُ مِنْ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ، وَكَانَ يَقُولُ
إنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ" هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْحَاكِمِ. وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ الشَّهْرِ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنَ، وَمِنْ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَالصَّوَابُ عَلَى الْجُمْلَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ إفْرَادُ السَّبْتِ بِالصِّيَامِ إذَا لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً لَهُ؛ لِحَدِيثِ الصَّمَّاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي دَاوُد: إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ، وَأَيُّ دَلِيلٍ عَلَى نَسْخِهِ؟ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي صِيَامِ السَّبْتِ فَكُلُّهَا وَارِدَةٌ فِي صَوْمِهِ مَعَ الْجُمُعَةِ وَالْأَحَدِ فَلَا مُخَالَفَةَ فِيهَا لِمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ كَرَاهَةِ إفْرَادِ السَّبْتِ.  وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الصَّمَّاءِ (لِحَاءَ عِنَبَةٍ) - هُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمَدِّ - وَهُوَ قِشْرُ الشَّجَرِ وَيَمْضَغُهُ - بِفَتْحِ الضَّادِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القائل ابن عباس وجاء بضمير المتكلم على سبيل الالتفات.

 

ج / 6 ص -312-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ، فَإِنْ صَامَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ لِمَا رَوَى عُمَرُ رضي الله عنه"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ أَمَّا يَوْمُ الْأَضْحَى فَتَأْكُلُونَ مِنْ لَحْمِ نُسُكِكُمْ، وَأَمَّا يَوْمُ الْفِطْرِ فَفِطْرُكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ".
الشرح:
حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ. وَرَوَيَا أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ، يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ" وَرَوَيَا مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ: الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى؛ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَإِنْ صَامَ فِيهِمَا لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، وَإِنْ نَذَرَ صَوْمَهُمَا لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ صَوْمُ يَوْمٍ غَيْرِهِمَا، قَالَ: فَإِنْ صَامَهُمَا أَجْزَأَهُ مَعَ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَوَافَقَ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ صَوْمُهَا عَنْ نَذْرٍ مُطْلَقٍ، دَلِيلُنَا أَنَّهُ نَذَرَ صَوْمًا مُحَرَّمًا فَلَمْ يَنْعَقِدْ كَمَنْ نَذَرَتْ صَوْمَ أَيَّامِ حَيْضِهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ صَوْمًا غَيْرَ صَوْمِ التَّمَتُّعِ، فَإِنْ صَامَ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"نَهَى عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ، يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ" وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ صَوْمُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا:" لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إلَّا لِمُتَمَتِّعٍ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ" وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُ غَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ لَمْ يُجِزْ فِيهِ صَوْمُ التَّمَتُّعِ كَيَوْمِ الْعِيدِ".
الشَّرْحُ
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"نَهَى عَنْ صِيَامٍ قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَالْأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ" هَذَا لَفْظُهُ وَضُعِّفَ إسْنَادُهُ، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ نُبَيْشَةَ - بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتَ سَاكِنَةٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ - الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَأَنَسَ بْنَ الْحَدَثَانِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: "هَذِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِإِفْطَارِهَا وَيَنْهَى عَنْ صِيَامِهَا. قَالَ مَالِكٌ: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ فِي صَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ فَصَحِيحٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَلَفْظُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: "لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَضْمَنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ" وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْهُمَا قَالَا: "الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنَى" فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى مَرْفُوعَةٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: "أُمِرْنَا بِكَذَا وَنُهِينَا عَنْ كَذَا وَرُخِّصَ لَنَا فِي كَذَا "وَكُلُّ هَذَا وَشِبْهُهُ مَرْفُوعٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْزِلَةِ

 

ج / 6 ص -313-       قَوْلِهِ: قَالَ صلى الله عليه وسلم كَذَا. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ، ثُمَّ فِي مَوَاضِعَ. وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ هِيَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي بَعْدَ النَّحْرِ وَيُقَالُ لَهَا: أَيَّامُ مِنَى؛ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ يُقِيمُونَ فِيهَا بِمِنَى، وَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ يُقَالُ لَهُ: يَوْمُ الْقَرِّ - بِفَتْحِ الْقَافِ - لِأَنَّ الْحُجَّاجَ يَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنَى، وَالثَّانِي يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ النَّفْرُ فِيهِ لِمَنْ تَعَجَّلَ، وَالثَّالِثُ يَوْمُ النَّفْرِ الثَّانِي. وَسُمِّيَتْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ يُشَرِّقُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَضَاحِيّ وَالْهَدَايَا - أَيْ يَنْشُرُونَهَا وَيُقَدِّدُونَهَا - وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ هِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَفِي صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أحدهما: وَهُوَ الْجَدِيدُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا لَا لِمُتَمَتِّعٍ وَلَا غَيْرِهِ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. والثاني: وَهُوَ الْقَدِيمُ يَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ الْعَادِمِ الْهَدْيَ صَوْمُهَا عَنْ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَذَكَرَهُمَا جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ الْمَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ وَآخَرُونَ مِنْهُمْ أصحهما: عِنْدَ جَمِيعِ الْأَصْحَابِ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ؛ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ فِي مَنْعِ صَوْمِهَا، وَإِنَّمَا رُخِّصَ لِلْمُتَمَتِّعِ والثاني: يَجُوزُ.
قَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ: هَذَا الْقَائِلُ بِالْجَوَازِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا الَّذِينَ حَكَوْا هَذَا الْوَجْهَ: "إنَّمَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ صَوْمٌ لَهُ سَبَبٌ مِنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ لَهُ سَبَبٌ" فَأَمَّا تَطَوُّعٌ لَا سَبَبَ لَهُ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ. كَذَا نَقَلَ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَآخَرُونَ. وَأَكْثَرُ الْقَائِلِينَ قَالُوا: هُوَ نَظِيرُ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِيهَا مَا لَهَا سَبَبٌ دُونَ مَا لَا سَبَبَ لَهَا.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: مَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ إبَاحَتَهَا لِلْمُتَمَتِّعِ لِلْحَاجَةِ، أَوْ لِكَوْنِهَا سَبَبًا. وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَصْحَابِنَا مَنْ عَلَّلَ بِالْحَاجَةِ، خَصَّهُ بِالْمُتَمَتِّعِ فَلَمْ يُجَوِّزْهَا لِغَيْرِهِ وَمَنْ عَلَّلَ بِالسَّبَبِ جَوَّزَ صَوْمَهَا عَنْ كُلِّ صَوْمٍ لَهُ سَبَبٌ دُونَ مَا لَا سَبَبَ لَهُ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ نَذَرَ صَوْمَهَا بِعَيْنِهَا فَهُوَ كَنَذْرِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوَجْهَ الْقَائِلَ بِجَوَازِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ مُخْتَصٌّ بِصَوْمٍ لَهُ سَبَبٌ، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا مَا لَا سَبَبَ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ. 
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَدِيمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَقْبَلُ هَذِهِ غَيْرَ صَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ لِضَرُورَةٍ تَخْتَصُّ بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ. إنَّهَا كَيَوْمِ الشَّكِّ، ثُمَّ ذَكَرَ مُتَّصِلًا بِهِ فِي يَوْمِ الشَّكِّ أَنَّهُ إنْ صَامَهُ بِلَا سَبَبٍ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ هُوَ الْقَوْلُ الْجَدِيدُ أَنَّهَا لَا يَصِحُّ فِيهَا صَوْمٌ أَصْلًا، لَا لِلتَّمَتُّعِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَالْأَرْجَحُ فِي الدَّلِيلِ صِحَّتُهَا لِلتَّمَتُّعِ وَجَوَازُهَا لَهُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِي التَّرْخِيصِ لَهُ صَحِيحٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ فَلَا عُدُولَ عَنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الشَّامِلِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ: إنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فَبَاطِلٌ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ جِهَةٍ ضَعِيفَةٍ وَضَعَّفَهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَّصِلِ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ كَلَامَ صَاحِبِ الشَّامِلِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ.

 

ج / 6 ص -314-       فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَنَا فِيهَا، وَأَنَّ الْجَدِيدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهَا صَوْمٌ (وَالْقَدِيمُ) صِحَّتُهُ لِمُتَمَتِّعٍ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنْ السَّلَفِ الْعُلَمَاءِ بِامْتِنَاعِ صَوْمِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَلِغَيْرِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ جَوَازَ صَوْمِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ سِيرِينَ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ صَوْمُهَا. .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ فِي رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِ رَمَضَانَ حَاضِرًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا، فَإِنْ صَامَ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ، وَلَا يَصِحُّ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ الزَّمَانَ مُسْتَحِقٌّ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُهُ".
الشرح:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَمَا قَالَهَا الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا مَبْسُوطَةً فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصِّيَامِ فِي مَسَائِلِ النِّيَّةِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهُ يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ التَّطَوُّعِ وَذَكَرْنَا بَعْدَهُ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وَيُطْلَبُ ذَلِكَ فِي لَيَالِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فِي كُلِّ وِتْرٍ". قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: وَاَلَّذِي يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَانْصَرَفَ عَلَيْنَا وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ إحْدَى وَعِشْرِينَ" وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأُرَانِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ" قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أُحِبُّ تَرْكَ طَلَبِهَا فِيهَا كُلِّهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ قَبْلَ مُضِيِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ حُكِمَ بِالطَّلَاقِ مِنْ اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الشَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَتْ لَيْلَةٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا ذَلِكَ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِيهَا: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي، لِمَا رُوِيَ"أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَاذَا أَقُولُ؟ قَالَ تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي".
الشَّرْحُ:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَوَّلُ، وَحَدِيثُهُ الثَّانِي رَوَاهَا كُلَّهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ أُنَيْسٍ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ - وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَآخَرُونَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَسَيَأْتِي فَرْعٌ مُسْتَقِلٌّ فِي ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْنَى قِيَامِهَا إيمَانًا أَيْ

 

ج / 6 ص -315-       تَصْدِيقًا بِأَنَّهَا حَقٌّ وَطَاعَةٌ، وَاحْتِسَابًا أَيْ طَلَبًا لِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَنَحْوِهِ، وَسَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بَيَانُ الذُّنُوبِ الَّتِي تُغْفَرُ وَبَيَانُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ، الْوَارِدَةِ فِيهِ.
أما أحكام الفصل: فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إحداها: لَيْلَةُ الْقَدْرِ فَاضِلَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] إلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَهِيَ أَفْضَلُ لَيَالِي السَّنَةِ، قَالُوا: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] مَعْنَاهُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَفْضَلِ لَيَالِيِ السَّنَةِ طَلُقَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَيَكُونُ كَمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
 الثانية: لَيْلَةُ الْقَدْرِ مُخْتَصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا، فَلَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَهَا وَسُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَيْ لَيْلَةَ الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ وَقِيلَ: لِعِظَمِ قَدْرِهَا. قَالَ أَصْحَابُنَا كُلُّهُمْ: وَهِيَ الَّتِي "فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ" هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هِيَ لَيْلَةُ نِصْفِ شَعْبَانَ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لقوله تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] فَهَذَا بَيَانُ الْآيَةِ الْأُولَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَكْتُبُ لِلْمَلَائِكَةِ فِيهَا مَا يُعْمَلُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَقَعُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَيَأْمُرُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِ مَا هُوَ مِنْ وَظِيفَتِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَتَقْدِيرُهُ لَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ كَوْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مُخْتَصَّةً بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَهَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ أَصْحَابُنَا كُلُّهُمْ، وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا: اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ، قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إلَّا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي سَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ.
الثالثة: لَيْلَةُ الْقَدْرِ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُسْتَحَبُّ طَلَبُهَا وَالِاجْتِهَادُ فِي إدْرَاكُهَا. وَقَدْ سَبَقَ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْتَهِدُ فِي طَلَبِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ وَأَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ" وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ فِي "الصحيحين" وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مُبْهَمَةٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّهَا فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهَا وَلَا تَزَالُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مُحْتَمِلَةٌ لَهَا لَكِنَّ لَيَالِيَ الْوِتْرِ أَرْجَاهَا وَأَرْجَى الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَمَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ إلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ.
وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَرْجَاهَا عِنْدَهُ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ: وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فَهُمَا أَرْجَى لَيَالِيهَا عِنْدَهُ وَبَعْدَهُمَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ إمَامَانِ جَلِيلَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا،

 

ج / 6 ص -316-       وَهُمَا الْمُزَنِيّ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: إنَّهَا مُتَنَقِّلَةٌ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ، تَنْتَقِلُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ إلَى لَيْلَةٍ وَفِي بَعْضِهَا إلَى غَيْرِهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ، لِتَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا طَرِيقَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ إلَّا بِانْتِقَالِهَا. 
قَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي التَّجْرِيدِ وَصَاحِبُ التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُمَا: تُطْلَبُ فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ وَجْهًا، وَادَّعَى الْمَحَامِلِيُّ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ التَّجْرِيدِ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تُلْتَمَسُ فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَآكَدُهُ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْهُ وَآكَدُ الْعَشْرِ لَيَالِي الْوِتْرِ، هَذَا لَفْظُهُ فِي التَّجْرِيدِ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ لَهَا وَمَا يَدُلُّ لِقَوْلِ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَصِفَةُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَعَلَامَتُهَا أَنَّهَا لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، وَأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ صَبِيحَتَهَا بَيْضَاءَ لَيْسَ لَهَا كَثِيرُ شُعَاعٍ وَفِيهَا حَدِيثٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِمَعْرِفَةِ صِفَتِهَا بَعْدَ فَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا تَنْقَضِي بِمَطْلَعِ الْفَجْرِ.
فَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ فِي يَوْمِهَا الَّذِي بَعْدَهَا كَاجْتِهَادِهِ فِيهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. والثاني: أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ، فَإِذَا عُرِفَتْ لَيْلَتُهَا فِي سَنَةٍ اُنْتُفِعَ بِهِ فِي الِاجْتِهَادِ فِيهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا.
الرابعة: يُسَنُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا وَالدُّعَاءُ وَالِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِيهَا؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
:"مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الدُّعَاءِ وَهُمَا صَحِيحَانِ سَبَقَ، بَيَانُهُمَا وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ فِيهَا بِمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ، وَيُسْتَحَبُّ إحْيَاؤُهَا بِالْعِبَادَةِ إلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5] قَالَ أَصْحَابُنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهَا سَلَامٌ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: أَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ فِي يَوْمِهَا كَاجْتِهَادِهِ فِي لَيْلَتِهَا، هَذَا نَصٌّ فِي الْقَدِيمِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الْجَدِيدِ نَصٌّ يُخَالِفُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مُقَدَّمَةِ الشَّرْحِ أَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْجَدِيدِ بِمَا يُخَالِفُهُ وَلَا بِمَا يُوَافِقُهُ فَهُوَ مَذْهَبُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .
الخامسة: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، أَوْ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنْ قَالَهُ قَبْلَ رَمَضَانَ أَوْ فِيهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ لَيْلَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ طَلُقَتْ الْمَرْأَةُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهِمَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فِي إحْدَى لَيَالِي الْعَشْرِ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ لَيَالِي الْعَشْرِ طَلُقَتْ وَعَتَقَ الْعَبْدُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي قَبْلَ

 

ج / 6 ص -317-       تَمَامِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَالَهُ فِي اللَّيْلِ أَمْ فِي النَّهَارِ، لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّتْ بِهِمَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، هَكَذَا تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ، وَهَكَذَا صَرَّحَ بِهَا الْمُحَقِّقُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَمَنْ وَافَقَهُ: طَلُقَتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَفِيهِ تَسَاهُلٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ الطَّلَاقُ لَيْلَةً عَنْ مَحَلِّ وُقُوعِهِ: وَكَذَا قَوْلُ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ إنْ قَالَهُ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ عَتَقَ وَطَلُقَتْ فِي آخِرِ يَوْمٍ. هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ إلَى آخِرِ يَوْمٍ، بَلْ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، طَلُقَتْ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِوُجُودِ الِاسْمِ، وَمِثْلُ قَوْلِ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ: طَلُقَتْ بِانْقِضَاءِ لَيَالِي الْعَشْرِ، وَهُوَ تَسَاهُلٌ أَيْضًا، وَصَوَابُهُ أَوْ جُزْءٌ مِنْ اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ، هَكَذَا نَقَلَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَوَافَقَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُعَيَّنَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لَا تَنْتَقِلُ بَلْ هِيَ فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا كُلَّ سَنَةٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ، وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُمَا: إنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ قَبْلَ مُضِيِّ لَيْلَةٍ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ طَلُقَتْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ وَعَتَقَ، وَإِنْ عَلَّقَهُ بَعْدَ مُضِيِّ لَيْلَةٍ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ إلَّا فِي اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْقَوْلِ بِانْتِقَالِهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي السَّنَةِ الْأُولَى فِي اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَتَكُونُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَكَأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ وَمُوَافِقِيهِ فَرَّعُوا عَلَى انْتِقَالِهَا مَعَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ تَعْيِينُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قُلْنَا: تَتَعَيَّنُ أَوْ تَنْتَقِلُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى تَعْيِينِهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ بِالشَّكِّ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ يُحْتَمَلُ فِي كَلَامِ غَيْرِ صَاحِبِ الشَّامِلِ، وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا فِي آخِرِ الشَّهْرِ لِجَوَازِ اخْتِلَافِهَا، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ كَلَامِهِ أَيْضًا.
وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَقَالَ فِي الْوَسِيطِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ:"لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ فِي مُنْتَصَفِ رَمَضَانَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمْضِيَ سَنَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ" قَالَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا نَعْرِفُ اعْتِبَارَ مُضِيِّ سَنَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا فِي كُتُبِ الْغَزَالِيِّ وَقَوْلُهُ: الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ رحمه الله فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:" الشَّافِعِيُّ رحمه الله مُتَرَدِّدٌ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ، وَيَمِيلُ إلَى بَعْضِهَا مَيْلًا لَطِيفًا" قَالَ: وَانْحِصَارُهَا فِي الْعَشْرِ ثَابِتٌ عِنْدَهُ بِالظَّنِّ الْقَوِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا، قَالَ: وَالطَّلَاقُ يُنَاطُ وُقُوعُهُ بِالْمَذَاهِبِ الْمَظْنُونَةِ، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ وَهَذَا الَّذِي نَسَبَهُ الرَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُهُ إلَى الْغَزَالِيِّ مِنْ الِانْفِرَادِ بِمَا قَالَهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوهُ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْمَحَامِلِيِّ وَصَاحِبِ التَّنْبِيهِ أَنَّهُ يَطْلُبُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي جَمِيعِ رَمَضَانَ، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ مَا سَبَقَ عَنْ الْجُمْهُورِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي انْحِصَارِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَتَعَيُّنِهَا فِي لَيْلَةٍ.
فرع: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ هُنَا تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا لِسُورَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمِنْ أَحْسَنِهِمْ لَهُ ذِكْرًا

 

ج / 6 ص -318-       الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ. قَالُوا: قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} أَيْ الْقُرْآنَ، فَعَادَ الضَّمِيرُ إلَى مَعْلُومٍ مَعْهُودٍ قَالُوا: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَنْزَلَهُ مِنْ السَّمَاءِ الدُّنْيَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُجُومًا آيَةً وَآيَتَيْنِ وَالْآيَاتِ وَالسُّورَةَ عَلَى مَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ. قَالُوا: وقوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}  مَعْنَاهُ الْعِبَادَةُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الْعِبَادَةِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ، لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ الْعِبَادَةُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْعِبَادَةِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ بِصِيَامِ نَهَارِهَا وَقِيَامِ لَيْلِهَا لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ}  أَيْ جِبْرِيلُ عليه السلام {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أَيْ بِأَمْرِهِ {مِنْ كُلِّ أَمْرٍسلام} أَيْ يُسَلِّمُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُسَلِّمُونَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ إلَّا مُدْمِنِ خَمْرٍ أَوْ مُصِرٍّ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ كَاهِنٍ أَوْ مُشَاحِنٍ، فَمَنْ أَصَابَهُ السَّلَامُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ. وقوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا سَلَامٌ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ.

فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
وَقَدْ جَمَعَهَا الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ السَّبْتِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَاسْتَوْعَبَهَا وَأَتْقَنَهَا، وَمُخْتَصَرُ مَا حَكَاهُ أَنَّهُ قَالَ:" أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّ لَيْلَةُ الْقَدْرِ بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِلْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَمْرِ بِطَلَبِهَا، قَالَ: وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: رُفِعَتْ" وَكَذَا حَكَى أَصْحَابُنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ قَوْمٍ، وَلَمْ يُسَمِّهِمْ الْجُمْهُورُ وَسَمَّاهُمْ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فَقَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّوَافِضِ وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"حِينَ تَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي فَرْعِ الْأَحَادِيثِ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي اخْتَرَعَهُ هَؤُلَاءِ الشَّاذُّونَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ وَغَبَاوَةٌ بَيِّنَةٌ، لِأَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ تَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ" هَكَذَا هُوَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِرَفْعِهَا عِلْمُهُ بِعَيْنِهَا ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ رَفْعَ وُجُودِهَا، لَمْ يَأْمُرْ بِالْتِمَاسِهَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَعَلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ اخْتَلَفُوا فِي مُحَلِّهَا فَقِيلَ: هِيَ مُتَنَقِّلَةٌ، تَكُونُ فِي سَنَةٍ فِي لَيْلَةٍ وَفِي سَنَةٍ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَيُقَالُ: كُلُّ حَدِيثٍ جَاءَ بِأَحَدِ أَوْقَاتِهَا فَلَا تَعَارُضَ فِيهَا. قَالَ: وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: وَإِنَّمَا تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ: وَقِيلَ فِي كُلِّهِ، وَقِيلَ: إنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لَا تَنْتَقِلُ أَبَدًا، بَلْ هِيَ لَيْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ فِي جَمِيعِ السِّنِينَ لَا تُفَارِقُهَا، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: هِيَ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ[وَقِيلَ: بَلْ كُلُّ رَمَضَانَ خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ] وَقِيلَ: بَلْ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ وَالْأَوَاخِرِ، وَقِيلَ: فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَقِيلَ: تَخْتَصُّ بِأَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَقِيلَ: بِأَشْفَاعِهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: بَلْ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: تُطْلَبُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما.

 

ج / 6 ص -319-       وَقِيلَ: لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بِلَالٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ رضي الله عنهم وَقِيلَ: لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ رضي الله عنهم، وَقِيلَ: لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَقِيلَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَقِيلَ: آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ، هَذَا آخِرُ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله، وَذَكَرَ غَيْرُ الْقَاضِي هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ مُفَرَّقَةً. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْحَاوِي: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلَا يُقْبَلُ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِهِ مَشْهُورٌ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْحِلْيَةِ: إنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَمُخَالِفٌ لِنَقْلِ الْجُمْهُورِ.
فرع: اعْلَمْ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ يَرَاهَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَنِي آدَمَ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، كَمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَأَخْبَارُ الصَّالِحِينَ بِهَا، وَرُؤْيَتُهُمْ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي عِيَاضٍ عَنْ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ الْفَقِيهِ الْمَالِكِيِّ لَا تُمْكِنُ رُؤْيَتُهَا حَقِيقَةً فَغَلَطٌ فَاحِشٌ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ يَكْتُمَهَا وَيَدْعُوَا بِإِخْلَاصٍ وَنِيَّةٍ وَصِحَّةِ يَقِينٍ بِمَا أَحَبَّ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا، وَيَكُونُ أَكْثَرُ دُعَائِهِ لِلدِّينِ وَالْآخِرَةِ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
"أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا" لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْوَارَ عَيَانًا ثُمَّ أُنْسِيَ فِي أَيِّ لَيْلَةٍ رَأَى ذَلِكَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا قَلَّمَا يُنْسَى، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أُنْسِيَ كَيْفَ قِيلَ لَهُ.

فَرْعٌ فِي بَيَانِ جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ"أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَطَّأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ"تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فِي تَاسِعِهِ تَبْقَى، فِي سَابِعِهِ تَبْقَى، فِي خَامِسِهِ تَبْقَى" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:"خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ:
خَرَجْتُ لَأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ مَعْنَاهُ رَفْعُ بَيَانِ عَيْنِهَا وَلَا رَفْعُ وُجُودِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ رَفَعَ وُجُودَهَا لَمْ يَأْمُرْ بِطَلَبِهَا، قَالَ الْعُلَمَاءُ وَمَعْنَى"عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ" أَيْ

 

ج / 6 ص -320-       لِتُرْغبُوا فِي طَلَبِهَا وَالِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ اللَّيَالِي.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
:"أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنَسِيتُهَا فِي الْعَشْرِ الْعَوَابِرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ - الْعَوَابِرُ الْبَوَاقِي - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:"اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ: إنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا - أَوْ نُسِّيتُهَا - فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي الْوِتْرِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَرْجِعْ فَرَجَعْنَا وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِهِ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ، ثُمَّ كَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ: إنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ وَقَالَ: إنِّي أُرِيتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَأَصْبَحَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه1 فيها الطين والماء وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأُرَانِي صَبِيحَتَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْصَرَفَ. وَأَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلَاثٌ وَعِشْرِينَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ2 بْنِ الصُّنَابِحِيِّ رضي الله عنه قَالَ:"خَرَجْنَا مِنْ الْيَمَنِ مُهَاجِرِينَ فَقَدِمْنَا الْجُحْفَةَ ضُحًى، فَأَقْبَلَ رَاكِبٌ فَقُلْتُ لَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: دَفَنَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَمْسٍ قلت: مَا سَبَقَكَ إلَّا بِخَمْسٍ، هَلْ سَمِعْتُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ شَيْئًا، قَالَ: أَخْبَرَنِي بِلَالٌ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا أَوَّلُ السَّبْعِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَقِيلَ: إنَّهُ جَيِّدٌ وَلَمْ أَرَهُ وَعَنْ زِرٍّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: "سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: إنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقَالَ: رحمه الله، أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَا إنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَثْنِيَ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟ قَالَ: بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ"وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روثة الأنف: طرف الأرنبة (ط).
2 كذا في ش و ق وصوابه: ( عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي) وكان عبد الله مسلما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقصده فلما انتهى إلى الجحفة لحقه الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهو معدود في كبار التابعين (ط).

 

ج / 6 ص -321-       وَعِشْرِينَ" وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ"قُلْتُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لِزِرٍّ: مَا الْآيَةُ، قَالَ تُصْبِحُ الشَّمْسُ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِثْلَ الطَّسْتِ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ حَتَّى تَرْتَفِعَ".
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ:
"لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد هَكَذَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَقَالَ: رَوَاهُ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا كَلَامُ أَبِي دَاوُد، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا فَالصَّحِيحُ الْحُكْمُ بِرَفْعِهِ؛ لِأَنَّهَا رِوَايَةُ ثِقَةٍ. وَعَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:"قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي بَادِيَةً أَكُونُ فِيهَا وَأَنَا أُصَلِّي بِحَمْدِ اللَّهِ، فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُهَا إلَى هَذَا الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَقِيلَ لِابْنِهِ: كَيْفَ كَانَ أَبُوكَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إذَا صَلَّى الْعَصْرَ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِحَاجَتِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ وَجَدَ دَابَّتَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا فَلَحِقَ بِبَادِيَتِهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلَمْ يُضَعِّفْهُ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:"اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَإِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنَسِيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ، قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، إنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا، قَالَ: أَجَلْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: فَإِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ، فَإِذَا مَضَى ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:"قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
اُطْلُبُوهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ سَكَتَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَمْ يُضَعِّفْهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا وَهُوَ حَكِيمُ بْنُ1 سَيْفٍ الرَّقِّيُّ، فَقَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ شَيْخٌ صَدُوقٌ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، لَيْسَ بِالْمُتْقِنِ.
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:" قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ:"سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ:
أَنَا كُنْتُ أَسْأَلُ النَّاسَ عَنْهَا يَعْنِي أَشَدَّ النَّاسِ مَسْأَلَةً عَنْهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، أَفِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا، فَإِذَا قُبِضُوا وَرُفِعُوا رُفِعْتَ مَعَهُمْ أَوْ هِيَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ هِيَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو حكيم بن سيف بن حكيم مولى بني أسد أبو عمرو الرقي من الطبقة الخامسة قال ابن حجر: صدوق (ط).

 

ج / 6 ص -322-       قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي فِي أَيِّ شَهْرِ رَمَضَانَ هِيَ؟ قَالَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْعَشْرِ الْأُوَلِ ثُمَّ حَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ؟ قَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ هَذَا، ثُمَّ حَدَّثَ وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَتُحَدِّثَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ، فَغَضِبَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَضَبًا مَا غَضِبَ مِثْلَهُ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، ثُمَّ قَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، وَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدُ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:"تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ؟" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنِّي"رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَأُنْسِيتُهَا، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ لَيَالِيهَا، وَهِيَ لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ الَّذِي فِيهَا قَمَرٌ وَلَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا" رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ فِي كِتَابِهِ.