المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 7 ص -5-            بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْحَجِّ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "الْحَجُّ يُقَالُ - بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا - لُغَتَانِ، قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ، أَكْثَرُ السَّبْعَةِ بِالْفَتْحِ، وَكَذَا الْحِجَّةُ فِيهَا لُغَتَانِ، وَأَكْثَرُ الْمَسْمُوعِ الْكَسْرُ وَالْقِيَاسُ. وَأَصْلُهُ الْقَصْدُ، وَقَالَ الأَزْهَرِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِكَ: حَجَجْتُهُ إذَا أَتَيْتَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ اللَّيْثُ: أَصْلُ الْحَجِّ فِي اللُّغَةِ: زِيَارَةُ شَيْءٍ تُعَظِّمُهُ، وَقَالَ كَثِيرُونَ: هُوَ إطَالَةُ الاخْتِلافِ إلَى الشَّيْءِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ: حَجَّ يَحُجُّ - بِضَمِّ الْحَاءِ - فَهُوَ حَاجٌّ، وَالْجَمْعُ حُجَّاجٌ وَحَجِيجٌ وَحَجٌّ - بِضَمِّ الْحَاءِ - حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ، كَنَازِلٍ وَنُزْلٍ، وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: ثُمَّ اخْتَصَّ الْحَجُّ فِي الاسْتِعْمَالِ بِقَصْدِ الْكَعْبَةِ لِلنُّسُكِ. "وأما: "الْعُمْرَةُ فَفِيهَا قَوْلانِ لأَهْلِ اللُّغَةِ حَكَاهُمَا الأَزْهَرِيُّ وَآخَرُونَ: أشهرهما: وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ فَارِسٍ وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا غَيْرَهُ - أَصْلُهَا الزِّيَارَةُ. والثاني أَصْلُهَا الْقَصْدُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، قَالَ الأَزْهَرِيُّ: وَقِيلَ: إنَّمَا اخْتَصَّ الاعْتِمَارُ بِقَصْدِ الْكَعْبَةِ؛ لأَنَّهُ يَقْصِدُ إلَى مَوْضِعٍ عَامِرٍ،وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي طَرَفٍ مِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ قال الله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْهُ قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجِنَّةُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. الْمَبْرُورُ الَّذِي لا مَعْصِيَةَ فِيهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِد؟ قَالَ: لَكِنْ1 أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً - أَوْ حَجَّةً مَعِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "الْحَجُّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ لِمَا رَوَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لكن اللام مفتوحة للاختصاص وضم كاف الخطاب ونون مشددة مفتوحة للنسوة.

 

ج / 7 ص -6-            ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ [وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ]1 وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ" وَفِي الْعُمْرَةِ قَوْلانِ قال: في"الجديد": هِيَ فَرْضٌ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: جِهَادٌ لا قِتَالَ فِيهِ، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ" وقال: فِي الْقَدِيمِ: لَيْسَ بِفَرْضٍ لِمَا رَوَى جَابِرٌ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَهِيَ وَاجِبَةٌ؟ قَالَ: لا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ" وَالصَّحِيحُ[هُوَ]الأَوَّلُ؛ لأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَفَعَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِيمَا يَنْفَرِدُ بِهِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَجَاءَ في"الصحيحين" "وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ" وَجَاءَ "وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ" وَكِلاهُمَا صَحِيحٌ، وَالْوَاوُ لا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا، وَسَمِعَهُ ابْنُ عُمَرَ مَرَّتَيْنِ، فَرَوَاهُ بِهِمَا وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهِ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} لأَنَّ مُرَادَهُ الاسْتِدْلَال عَلَى كَوْنِهِ رُكْنًا، وَلا تَحْصُلُ الدَّلالَةُ لِهَذَا مِنْ الآيَةِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ الْحَدِيثِ وأما حديث عَائِشَةَ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَإِسْنَادُ ابْنِ مَاجَهْ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ السَّائِلِ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتُتِمَّ الْوُضُوءَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتُ هَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: صَدَقْتَ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. هَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: "رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ وَلَمْ يَسُقْ مَتْنَهُ" هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ
وَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَلَا الْعُمْرَةُ وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءُ فِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرٌ، لَكِنَّ الْإِسْنَادَ بِهِ لِلْبَيْهَقِيِّ مَوْجُودٌ مِنْ "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِحُرُوفِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
"يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ، قَالَ: حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: (قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ فِي إيجَابِ الْعُمْرَةِ أَجْوَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ هَذَا وَلا أَصَحَّ مِنْهُ) هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ وَحَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ هَذَا صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وأما حديث جَابِرٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ" فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "جَامِعِهِ" مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ فَهُوَ أَفْضَلُ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ لا نَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا، وَلَيْسَ فِيهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق أثبتناه في هامش قد وما هنا أدق (ط).

 

ج / 7 ص -7-            شَيْءٌ ثَابِتٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ضَعِيفٌ لا تَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُوجِبُهَا، هَذَا آخِرُ كَلامِ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الْحَجَّاجِ هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ؟ قَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ مَرْفُوعًا، وَالْمَحْفُوظُ إنَّمَا هُوَ عَنْ جَابِرٍ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ، قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بِخِلافِ ذَلِكَ، قَالَ: وَكِلاهُمَا ضَعِيفٌ، ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْحَجَّاجِ قَالَ: (وَهَذَا وَهَمٌ، إنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا الْمَتْنُ بِالْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ" وَإِسْنَادُهُمَا ضَعِيفٌ). هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ
وأما: قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إنَّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَغَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلا يُغْتَرُّ بِكَلامِ التِّرْمِذِيِّ فِي هَذَا، فَقَدْ اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، كَمَا سَبَقَ فِي كَلامِ الْبَيْهَقِيّ، وَدَلِيلُ ضَعْفِهِ أَنَّ مَدَارَهُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ لا يُعْرَفُ إلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ إنَّمَا رَوَاهُ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْحَجَّاجُ ضَعِيفٌ وَمُدَلِّسٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، وَقَدْ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَالْمُدَلِّسُ إذَا قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ، لا يُحْتَجُّ بِهَا بِلا خِلافٍ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلِ الأُصُولِ، وَلأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَضْعِيفِ الْحَجَّاجِ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ التَّدْلِيسِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ سَبَبَانِ يَمْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَهُمَا الضَّعْفُ وَالتَّدْلِيسُ. فَكَيْفَ يَكُونُ حَدِيثُهُ صَحِيحًا؟ وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلامِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ شَيْءٌ ثَابِتٌ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: "لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَفَعَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ فِيمَا يَنْفَرِدُ بِهِ" فَهَذَا مِمَّا أُنْكِرَ عَلَى الْمُصَنِّفِ، وَغُلِّطَ فِيهِ؛ لأَنَّ الَّذِي رَفَعَهُ إنَّمَا هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ كَمَا سَبَقَ، لا ابْنُ لَهِيعَةَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَى الصَّوَابِ فَقَالُوا: إنَّمَا رَفَعَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ" حَدِيثَ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَضَعَّفَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا خِلافَهُ قَالَ: "الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا لَا يَصِحُّ.
وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أحدها: قَوْلُهُ: ابْنُ لَهِيعَةَ وَصَوَابُهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ كَمَا ذَكَرْنَا "والثاني" قَوْلُهُ: رَفَعَهُ وَصَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا رَفَعَهُ والثالث: قَوْلُهُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ فِيمَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَصَوَابُهُ حَذْفُ قَوْلِهِ: فِيمَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: ضَعِيفٌ؛ لأَنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ وَفِيمَا شَارَكَ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْمُ ابْنِ لَهِيعَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ بْنِ عُقْبَةَ الْحَضْرَمِيُّ، وَيُقَالُ: الْغَافِقِيُّ الْمِصْرِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَاضِي مِصْرَ وقوله: وَأَنْ تَعْتَمِرَ هُوَ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ - قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ عَدَمُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، لاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي حَقِّ السَّائِلِ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: "الْحَجُّ رُكْنٌ وَفَرْضٌ" مُجْمَعٌ

 

ج / 7 ص -8-            بَيْنَهُمَا فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ كِتَابَيْ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وأما: اسْتِدْلَالُهُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ بِالْحَدِيثِ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصِّيَامِ.
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْمَسْأَلَةِ فَالْحَجُّ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَظَاهَرَتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وأما: الْعُمْرَةُ فَهَلْ هِيَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: الصحيح: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ أَنَّهَا فَرْضٌ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ في "الجديد". والقديم أَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ "أَحْكَامِ الْقُرْآنِ" يَعْنِي مِنْ الْحَدِيثِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ فَرْضٌ، فَهِيَ فِي شَرْطِ صِحَّتِهَا وَصِحَّةِ مُبَاشَرَتِهَا وَوُجُوبِهَا وَإِحْرَامِهَا عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ كَالْحَجِّ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالاسْتِطَاعَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِهِمَا جَمِيعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهَا فَرْضٌ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ عُبَيْدٍ1 وَدَاوُد وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ: هِيَ سُنَّةٌ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ سَبَقَ بَيَانُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَلا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ أَكْثَرُ مِنْ حِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ بِالشَّرْعِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما"أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: آلْحَجُّ كُلَّ عَامٍ؟ قَالَ: لَا،بَلْ حَجَّةٌ" وَرَوَى سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: "قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلأَبَدِ؟، قَالَ: لِلْأبَدِ، دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ في"صحيحه" مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ، لَوَجَبَتْ. وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وأما حديث سُرَاقَةَ فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ سُرَاقَةَ قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ:
عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا؟ أَمْ للأبد2؟ فَقَالَ: لا بَلْ لِلأَبَدِ، دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله ابن عيينه (ط).
2 في بعض روايات جابر "بل لأبد أبد" (ط)

 

ج / 7 ص -9-            إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ عَنْ سُرَاقَةَ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَإِنَّهُمَا وُلِدَا سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ أَوْ بَعْدَهَا، وَتُوُفِّيَ سُرَاقَةُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ سُؤَالَ سُرَاقَةَ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، لَكِنْ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" فَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فِيهِ تَفْسِيرَيْنِ: أحدهما: مَعْنَاهُ دَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ إذْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِالْقِرَانِ. والثاني مَعْنَاهُ لا بَأْسَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا هُوَ الأَصَحُّ وَهُوَ تَفْسِيرُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَنَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: وَسَبَبُهُ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا لا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُجُورِ، فَأَذِنَ الشَّرْعُ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَ جَوَازَهُ وَقَطَعَ الْجَاهِلِيَّةَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَهُ الْأَرْبَعَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثَلَاثًا مِنْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَالرَّابِعَةَ مَعَ حَجَّتِهِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْحِجَّةِ". وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "وَاَللَّهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إلَّا لِيَقْطَعَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: "إذَا عَفَا الْوَبَرْ، وَبَرَأَ الدَّبَرْ، وَدَخَلَ صَفَرْ، فَقَدْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ" فَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ"، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِهِ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في "صحيحه" مُخْتَصَرًا فَذَكَرَ بَعْضَهُ
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ أَكْثَرُ مِنْ حِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ بِالشَّرْعِ، احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: بِالشَّرْعِ عَنْ النَّذْرِ، وَعَمَّنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لا تَتَكَرَّرُ إذَا قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الإِحْرَامُ. وَالْحِجَّةُ - بِكَسْرِ الْحَاءِ - أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَالْعُمْرَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْمُسْتَطِيعِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ إلَّا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَعُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ بِالشَّرْعِ، وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا، وَحَكَى صاحب "البيان" وَغَيْرُهُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يَجِبُ كُلَّ سَنَةٍ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي"تعليقه": وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَجِبُ الْحَجُّ فِي كُلِّ سَنَتَيْنِ مَرَّةً، قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، قَائِلُهُ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: وَمَنْ حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ، بَلْ يُجْزِئُهُ حِجَّتُهُ السَّابِقَةُ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ مَتَى تُحْبِطُ الْعَمَلَ؟ فَعِنْدَهُمْ تُحْبِطُهُ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ بَعْدَهَا أَمْ لَا، فَيَصِيرُ كَمَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَعِنْدَنَا لا تُحْبِطُهُ إلَّا إذَا اتَّصَلَتْ بِالْمَوْتِ لقوله تعالى:
{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً بِأَدِلَّتِهَا وَفُرُوعِهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ حِجَّةَ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتَهُ، ثُمَّ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ

 

ج / 7 ص -10-         لِحَاجَةٍ نَظَرْت - فَإِنْ كَانَ لِقِتَالٍ، أَوْ دَخَلَهَا خَائِفًا مِنْ ظَالِمٍ يَطْلُبُهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَظْهَرَ لِأَدَاءِ النُّسُكِ - جَازَ أَنْ يَدْخُلَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ"؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُقَاتَلَ وَيُمْنَعَ النُّسُكَ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِتِجَارَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أشهرهما: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ إلَّا لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لِمَا رَوَى، ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ مَكَّةَ إلَّا مُحْرِمًا. وَرَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ". والثاني أَنَّهُ يَجُوزُ لِحَدِيثِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِحَاجَةٍ تَتَكَرَّرُ كَالْحَطَّابِينَ وَالصَّيَّادِينَ جَازَ بِغَيْرِ نُسُكٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْإِحْرَامِ عَلَى هَؤُلَاءِ مَشَقَّةً، فَإِنْ دَخَلَ لِتِجَارَةٍ وَقُلْنَا: إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ فَدَخَلَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقَضَاءَ لَزِمَهُ لِدُخُولِهِ لِلْقَضَاءِ قَضَاءٌ، فَلَا يَتَنَاهَى، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ: إنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ صَارَ حَطَّابًا أَوْ صَيَّادًا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِلْقَضَاءِ قَضَاءٌ".
الشرح: حَدِيثُ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ صَحِيحٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ" هَذَا لَفْظُ إحْدَى رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ، وَثَبَتَ في"الصحيحين" عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ".
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا حَجَّ وَاعْتَمَرَ حِجَّةَ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتَهُ ثُمَّ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَا تَتَكَرَّرُ كَزِيَارَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ، أَوْ كَانَ مَكِّيًّا مُسَافِرًا فَأَرَادَ دُخُولَهَا عَائِدًا مِنْ سَفَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ قَوْلًا وَاحِدًا، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد" فِي آخِرِ بَابِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْمَرْوَزِيِّ، وَقَطَعَ بِهِ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ "الْكِفَايَةِ"، وَحَكَاهُ أَيْضًا الرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. وأصحهما: وَأَشْهَرُهُمَا فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ والثاني يَجِبُ، وَدَلِيلُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَصَحِّهِمَا فَصَحَّحَ ابْنُ الْقَاصِّ وَالْمَسْعُودِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ الْوُجُوبَ، وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ الِاسْتِحْبَابَ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ، قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ الدُّخُولُ، بِغَيْرِ إحْرَامٍ، هَذَا حُكْمُ مَنْ لَا يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ.
أما: مَنْ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ كَالْحَطَّابِ وَالْحَشَّاشِ وَالصَّيَّادِ وَالسَّقَّا وَنَحْوِهِمْ فإن قلنا: فِيمَنْ لَا يَتَكَرَّرُ: لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ فَهَذَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ والثاني فِيهِ وَجْهَانِ وَبَعْضُهُمْ يَحْكِيهِمَا قَوْلَيْنِ: أحدهما: يَلْزَمُهُ. والثاني لَا يَلْزَمُهُ، وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد" وَالْمُتَوَلِّي حَكَيَاهُ وَجْهَيْنِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَاصِّ فِي "التَّلْخِيصِ"، وَالْقَفَّالُ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ قَوْلَيْنِ. فإن قلنا: يَلْزَمُهُ فَقَدْ أَطْلَقَهُ كَثِيرُونَ، وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْخِلَافَ وَقَيَّدَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ، بِأَنَّهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةٌ، قَالَ الْمَحَامِلِيُّ في "المجموع": قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ: يَدْخُلُهَا الْحَطَّابُ وَنَحْوُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، قَالَ: وَقَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: يُحْرِمُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وقيده

 

ج / 7 ص -11-         المحاملي والبندنيجي وآخرون، بأنه في كل سنة مرة، قال المحاملي في "المجموع": قال الشافعي في عامة كتبه: يدخلها الحطاب ونحوه بغير إحرام، قال: وقال في بعض كتبه: يحرم في كل سنة مرة، لِئَلَّا يَسْتَهِينَ بِالْحَرَمِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْإِفْصَاحِ: إن قلنا: غَيْرُ الْحَطَّابِ وَنَحْوُهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ، فَالْحَطَّابُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الإملاء": يُحْرِمُونَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا: الْبَرِيدُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ إلَى مَكَّةَ لِلرَّسَائِلِ فَقَطَعَ الدَّارِمِيُّ بِأَنَّهُ كَالْحَطَّابِ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبَا "الشَّامِلِ" و"البيان": مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْحَطَّابِ لِتَكَرُّرِ دُخُولِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الْحَطَّابِ فَفِي الْبَرِيدِ وَجْهَانِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ عَلَى مَنْ دَخَلَ لِتِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ، وَلَا عَلَى مَنْ يَدْخُلُ لِمُتَكَرِّرٍ كَالْحَطَّابِ وَلَا عَلَى الْبَرِيدِ وَنَحْوِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ فَلِلْوُجُوبِ شُرُوطٌ.
أحدها: أَنْ يَجِيءَ الدَّاخِلُ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا إحْرَامَ عَلَيْهِمْ بِلَا خِلَافٍ لِدُخُولِهِ، كَمَا لَا يُشْرَعُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ لِمَنْ انْتَقَلَ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ إلَى مَوْضِعٍ مِنْهُ.
والثاني: أَلَّا يَدْخُلَهَا لِقِتَالٍ وَلَا خَائِفًا، فَإِنْ دَخَلَهَا لِقِتَالِ بُغَاةٍ أَوْ قُطَّاعِ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْقِتَالِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُبَاحِ، أَوْ خَائِفًا مِنْ ظَالِمٍ أَوْ غَرِيمٍ يَحْبِسُهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ لَا يُمْكِنُهُ الظُّهُورُ لِأَدَاءِ النُّسُكِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ وَمُخَاطَرَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ بِلَا خِلَافٍ.
الثالث: أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَا إحْرَامَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَأْذَنْ سَيِّدُهُ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا إنْ أَذِنَ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، فَلَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَكَحِجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أَذِنَ سَيِّدُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَحِقَهُ فَزَالَ بِإِذْنِهِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا: بِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ، وَاجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ فَدَخَلَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَطَرِيقَانِ: أصحهما: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ لَا قَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُتَعَذَّرٌ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ الثَّانِيَ إحْرَامٌ يَقْتَضِي إحْرَامًا آخَرَ، فَيَتَسَلْسَلُ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ مَشْرُوعٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، لِئَلَّا يَنْتَهِكَهُ بِالدُّخُولِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ. فَإِذَا دَخَلَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَاتَ بِحُصُولِ الِانْتِهَاكِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا. وَهَذَا كَمَا إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَجَلَسَ وَلَمْ يُصَلِّ، التَّحِيَّةَ، فَإِنَّهَا تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ وَلَا يُشْرَعُ قَضَاؤُهَا الطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ أصحهما: لَا قَضَاءَ والثاني يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَحَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ عَنْ ابْنِ الْقَاصِّ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَخْرُجَ ثُمَّ يَعُودَ مُحْرِمًا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَلَّلَ أَصْحَابُنَا عَدَمَ الْقَضَاءِ بِعِلَّتَيْنِ: إحداهما: أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ الثَّانِيَ يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءٍ آخَرَ، فَصَارَ كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ فَأَفْطَرَ، وَفَرَّعَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ كَالْحَطَّابِينَ، ثُمَّ صَارَ مِنْهُمْ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ. وَرُبَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ. قَالَ: وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الصَّحِيحَةُ وَبِهَا قَالَ

 

ج / 7 ص -12-         الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقَفَّالُ أَنَّهُ تَحِيَّةٌ لِلْبُقْعَةِ، فَلَا يَقْضِي كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ فَتَرَكَهُ وَتَرَكَ الْقَضَاءَ عَصَى، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَجْبُرُ الْخَلَلَ الْحَاصِلَ فِي النُّسُكِ بِالْإِحْرَامِ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي نُسُكٍ، قَالُوا: وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْإِحْرَامَ لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالصُّورَتَيْنِ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَآخَرُونَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: إذَا أَرَادَ دُخُولَ الْحَرَمِ وَلَمْ يُرِدْ دُخُولَ مَكَّةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ دُخُولِ مَكَّةَ فَفِيهِ التَّفْصِيلُ وَالْخِلَافُ السَّابِقُ، وَهَذَا الْخِلَافُ صَرَّحَ بِهِ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد" فِي بَابِ الْمَوَاقِيتِ، وَالْمَحَامِلِيُّ فِي "المقنع" وَغَيْرِهِ، وَالْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابَيْهِ الْبُلْغَةِ والتحرير وَالشَّاشِيُّ فِي الْمُسْتَظْهِرِيِّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي "الْحِلْيَةِ"، وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ صَرَّحُوا بِهِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُتَوَلِّي وَالْبَاقُونَ.
وأما: قَوْلُ الرَّافِعِيِّ: هَلْ يَنْزِلُ دُخُولُ الْحَرَمِ مَنْزِلَةَ دُخُولِ مَكَّةَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؟ قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: نَعَمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ عَلَى خِلَافٍ فِي نَظَائِرِهِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِنَظَائِرِهِ إبَاحَةَ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، فَإِنَّهَا تُبَاحُ بِمَكَّةَ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الْحَرَمِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ عَجَبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: كَوْنُهُ نَقَلَ الْمَسْأَلَةَ عَنْ بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ صَرِيحَةٌ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَغَيْرِهَا.
والثاني كَوْنُهُ قَالَ: يُحْتَمَلُ تَخْرِيجُهُ عَلَى خِلَافٍ، مَعَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، فَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ أَنَّ الْحَرَمَ كَمَكَّةَ بِلَا خِلَافٍ، وَالله تعالى أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَجَمِيعُ الْأَصْحَابِ هُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُ مَكَّةَ لِلْقِتَالِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، قَالُوا: وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَلْتَجِئَ إلَيْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - أَوْ طَائِفَةٌ مِنْ الْبُغَاةِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِمْ، وَقَطَعَ الْأَصْحَابُ هُنَا بِجَوَازِ قِتَالِهِمْ، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ "شَرْحِ التَّلْخِيصِ"، فِي كِتَابِ "خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ" خِلَافًا فِي قِتَالِهِمْ فِي مَكَّةَ وَسَائِرِ الْحَرَمِ، وَوَجْهُ التَّحْرِيمِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "
إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ".
فرع: قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ هُنَا: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُقَاتَلَ (قَدْ يُقَالُ:) إنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعِ الْأَصْحَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ صُلْحًا، وَفَتَحَهَا صُلْحًا" وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ: "فَتَحَهَا عَنْوَةً" وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَهُنَاكَ ذَكَرَهَا الرَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ. والجواب: أَنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ

 

ج / 7 ص -13-         ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَبَا سُفْيَانَ، وَكَانَ لَا يَأْمَنُ غَدْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، فَدَخَلَ صُلْحًا وَهُوَ مُتَأَهِّبٌ لِلْقِتَالِ إنْ غَدَرُوا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ أَرَادَ دُخُولَ الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ لَا تَتَكَرَّرُ، كَالتِّجَارَةِ وَالزِّيَارَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَنَحْوِهَا:
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِحْرَامُ، وَلَا يَجِبُ، سَوَاءٌ قَرُبَتْ دَارُهُ مِنْ الْحَرَمِ أَمْ بَعُدَتْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَلْزَمُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتْ دَارُهُ فِي الْمِيقَاتِ أَوْ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ جَازَ دُخُولُهُ بِلَا إحْرَامٍ، وَإِلَّا فَلَا.
وَاحْتَجُّوا لِلْوُجُوبِ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ. وَاحْتَجَّ كَثِيرُونَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" وَدَلِيلُنَا الْأَصَحُّ حَدِيثُ: "آلْحَجُّ كُلَّ عَامٍ؟ قَالَ: لا بَلْ حَجَّةٌ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَلِأَنَّهُ تَحِيَّةٌ لِبُقْعَةٍ فَلَمْ تَجِبْ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وأما: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَيُعَارِضُهُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهُ وَاجِبًا وأما حديث: "لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي" فَالْمُرَادُ بِهِ الْقِتَالُ كَمَا سَبَقَ، وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي الْإِحْرَامَ، وَإِنَّمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْقِتَالِ، وَقَدْ سَبَقَ تَأْوِيلُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا قُلْنَا: يَجِبُ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِ الْحَرَمِ فَدَخَلَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ عَصَى، وَالْمَذْهَبُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إذَا صَارَ حَطَّابًا وَنَحْوَهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَابْنِ الْقَاصِّ يَقُولُ: إنَّمَا يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ لِلْخَوْفِ مِنْ التَّسَلْسُلِ فَإِذَا صَارَ حَطَّابًا زَالَ التَّسَلْسُلُ. فَإِنَّ الْحَطَّابَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ لِلدُّخُولِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّ الْإِحْرَامَ وَجَبَ لِحُرْمَةِ الدُّخُولِ وَالْبُقْعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ فَاتَ وَلَا يُشْرَعُ قَضَاؤُهُ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ إذَا جَلَسَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلِّهَا فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ لَهُ قَضَاؤُهَا، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا هُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ قَضَاؤُهَا، وَالصَّوَابُ فِيهَا مَا قَدَّمْنَاهُ هُنَا.
قَالَ الْقَفَّالُ في "شرح التلخيص: "وَكَمَا لَوْ سَلَّمَ عَلَى إنْسَانٍ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ فَاتَ وَقْتُهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد": كَمَا لَوْ فَرَّ فِي الزَّحْفِ مِنْ اثْنَيْنِ غَيْرَ مُتَحَرِّفٍ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزٍ إلَى فِئَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى لَقِيَ اثْنَيْنِ مِمَّنْ يَجِبُ قِتَالُهُمَا وَجَبَ قِتَالُهُمَا بِاللِّقَاءِ لَا قَضَاءً، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ صَارَ حَطَّابًا وَنَحْوَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ، لِعَدَمِ إمْكَانِ تَدَارُكِ فَوَاتِ انْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ فإن قيل: إنَّمَا لَمْ نَقْضِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لِكَوْنِهَا سُنَّةً، أَمَّا الْإِحْرَامُ فَوَاجِبٌ فَيَنْبَغِي قَضَاؤُهُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: فالجواب: أَنَّ التَّحِيَّةَ لَمْ يُتْرَكْ قَضَاؤُهَا لِكَوْنِهَا سُنَّةً، فَإِنَّ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ إذَا فَاتَتْ يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْضَ لِتَعَلُّقِهَا بِحُرْمَةِ مَكَان صِيَانَةً لَهُ مِنْ الِانْتِهَاكِ وَقَدْ حَصَلَ، فَلَوْ صَلَّاهَا لَمْ يَرْتَفِعْ مَا حَصَلَ مِنْ الِانْتِهَاكِ، وَكَذَا الْإِحْرَامُ لِدُخُولِ الْحَرَمِ

 

ج / 7 ص -14-         وَاعْتُرِضَ عَلَى تَعْلِيلِ ابْنِ الْقَاصِّ فَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقَضَاءُ وَيَدْخُلَ فِيهِ إحْرَامُ الدُّخُولِ، وَكَمَا إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فَرِيضَةً فَيَدْخُلُ فِيهِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ والجواب: مَا أَجَابَ بِهِ الْبَغَوِيّ أَنَّ الْإِحْرَامَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَنْ وَاجِبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَنْ أَهَلَّ بِحِجَّتَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِهِمَا بَلْ يَنْعَقِدُ بِأَحَدِهِمَا. وَقَالَ الْقَفَّالُ في "شرح التلخيص: "قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاصِّ غَلَطٌ، وَلَيْسَ الْعِلَّةُ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ التَّسَلْسُلِ بَلْ فَوَاتُ الْوَقْتِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: اعْتَرَضَ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَلَى تَعْلِيلِ ابْنِ الْقَاصِّ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْقَضَاءُ وَاجِبًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ، سَوَاءٌ صَارَ حَطَّابًا أَوْ لَا، وَإِلَّا فَيَبْطُلُ أَنْ يَجِبَ بِمَصِيرِهِ حَطَّابًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي "التَّلْخِيصِ: "كُلُّ عِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ إذَا تَرَكَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ أَوْ الْكَفَّارَةُ إلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِ مَكَّةَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُنْتَقَضُ بِأَشْيَاءَ: منها: إمْسَاكُ يَوْمِ الشَّكِّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ إمْسَاكُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، فَلَوْ تَرَكَ الْإِمْسَاكَ لَمْ يَلْزَمْهُ لِتَرْكِ الْإِمْسَاكِ كَفَّارَةٌ، وَلَا قَضَاءُ الْإِمْسَاكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ إلَّا عَلَى مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ حُرٍّ مُسْتَطِيعٍ فأما: الْكَافِرُ فَإِنْ كَانَ أَصْلِيًّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِ الْإِيمَانِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ، وَلَا يُخَاطَبُ فِي حَالِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يُخَاطَبْ بِمَا فَاتَهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ" وَلِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ وُجُوبَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَضَمَانِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ وُجُوبَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه" مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ "يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ" - بِضَمِّ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ - مِنْ الْجَبِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَرَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ يَحُتُّ - بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدُهَا تَاءٌ مُثَنَّاةٌ فَوْقُ - مِنْ الْحَتِّ وَهُوَ الْإِزَالَةُ، وَالْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ مُتَّفِقَةُ الْمَعْنَى، وَقَدْ يُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ كَوْنُهُ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ خَبَرُ آحَادٍ يُفِيدُ الظَّنَّ لَا الْقَطْعَ، وَتَرَكَ الِاسْتِدْلَالَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الآنفال: 38] فَيُنْكَرُ اسْتِدْلَالُهُ بِظَنِّيٍّ مَعَ وُجُودِ الْقَطْعِيِّ وجوابه: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَقْتَضِي غُفْرَانَ الذُّنُوبِ لَا إسْقَاطَ حُقُوقٍ وَعِبَادَاتٍ سَبَقَ وُجُوبُهَا وأما: الْحَدِيثُ فَصَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ هُنَا هُوَ الْوَجْهَ لِانْطِبَاقِهِ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فَإِنْ كَانَ أَصْلِيًّا، فَيَعْنِي بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْمُرْتَدِّ، وَيَدْخُلُ فِي الْأَصْلِ الذِّمِّيُّ وَالْحَرْبِيُّ، سَوَاءٌ الْكِتَابِيُّ وَالْوَثَنِيُّ وَغَيْرُهُمَا وقوله: مِنْ فُرُوعِ الْإِيمَانِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ فَيُنْتَقَضُ بِالْكَفَّارَةِ وَالْعِدَّةِ وَأَشْبَاهِهِمَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: رُكْنٌ مِنْ فُرُوعِ الْإِيمَانِ وقوله: وَلَا يُخَاطَبُ بِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ، مَعْنَاهُ لَا نُطَالِبُهُ بِفِعْلِ الْحَجِّ فِي حَالِ الْكُفْرِ. وأما: الْخِطَابُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْفُرُوعِ عَلَى

 

ج / 7 ص -15-         الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصِّيَامِ مِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَبَسَطْنَا هُنَاكَ الْكَلَامَ فِيهَا وأما: قَوْلُهُ: فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يُخَاطَبْ بِمَا فَاتَهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَاجِدًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا اعْتِبَارَ بِتِلْكَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ بِهَا، بَلْ يُعْتَبَرُ حَالُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ اسْتَطَاعَ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِلَّا فَلَا، وَيَكُونُ إسْلَامُهُ كَبُلُوغِ الصَّبِيِّ الْمُسْلِمِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ بَعْدَهُ.
وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ وُجُوبَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَضَمَانِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، قَدْ يُقَالُ: هَذَا الدَّلِيلُ نَاقِصٌ، وإنما الإسلام فإن استطاع لزمه الحج وإلا فلا، ويكون إسلامه كبلوغ الصبي المسلم فيعتبر حاله بعده.
وقوله: لأنه لم يلتزم وجوبه فلم يلزمه كضمان حقوق الآدميين، قد يقال: هذا الدليل ناقص، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا فِي الْكَافِرِ وَالْحَرْبِيِّ. وأما: الذِّمِّيُّ فَإِنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ حُقُوقٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ وجوابه: أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ وَالذِّمِّيَّ لَمْ يَلْتَزِمَا الْحَجَّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُمَا إذَا أَسْلَمَا، كَمَا لَا يَلْزَمُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْهَا وَهُوَ الْحَرْبِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَبَسَطْت هُنَاكَ بَيَانَهُ وأما: قَوْلُهُ فِي الْمُرْتَدِّ: يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ وُجُوبَهُ، فَقَدْ يُقَالُ: يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا أَتْلَفَ الْمُرْتَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ شَيْئًا، فِي حَالِ قِتَالِ الْإِمَامِ لِلطَّائِفَةِ الْمُرْتَدَّةِ الْعَاصِيَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: "يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَدِّ" أَنَّهُ إذَا اسْتَطَاعَ فِي حَالِ الرِّدَّةِ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ دَامَ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إنَّمَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى مُسْلِمٍ بَالِغٍ وَعَاقِلٍ حُرٍّ مُسْتَطِيعٍ، فَإِنْ اخْتَلَّ أَحَدُ الشُّرُوطِ لَمْ يَجِبْ بِلَا خِلَافٍ، فَالْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ لَا يُطَالَبُ بِفِعْلِهِ فِي الدُّنْيَا بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ الْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ وَالْكِتَابِيُّ وَالْوَثَنِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَطَاعَ فِي حَالِ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ إلَّا أَنْ يَسْتَطِيعَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ فِي الْكُفْرِ لَا أَثَرَ لَهَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وأما: الْمُرْتَدُّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَطَاعَ فِي رِدَّتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَالْحَجُّ مُسْتَقِرٌّ فِي ذِمَّتِهِ بِتِلْكَ الِاسْتِطَاعَةِ وأما: الْإِثْمُ بِتَرْكِ الْحَجِّ فَيَأْثَمُ الْمُرْتَدُّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ وأما: الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَهَلْ يَأْثَمُ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْفُرُوعِ أَمْ لَا؟ فإن قلنا: بِالصَّحِيحِ: إنَّهُ مُخَاطَبٌ أَثِمَ وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: النَّاسُ فِي الْحَجِّ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ: لَا يَصِحُّ مِنْهُ بِحَالٍ، وَهُوَ الْكَافِرُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يَصِحُّ لَهُ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ، وَهُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَالْمَجْنُونُ الْمُسْلِمَانِ، فَيُحْرِمُ عَنْهُمَا الْوَلِيُّ، وَفِي الْجُنُونِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى
والثالث: مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْمُمَيِّزُ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَعَبْدًا.

 

ج / 7 ص -16-         والرابع: مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَيُجْزِئُهُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْمُمَيِّزُ الْبَالِغُ الْحُرُّ.
الْخَامِسُ: مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْحُرُّ الْمُسْتَطِيعُ، قَالُوا: فَشَرْطُ الصِّحَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْإِسْلَامُ فَقَطْ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكْلِيفُ، بَلْ يَصِحُّ إحْرَامُ الْوَلِيِّ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ الْمُبَاشَرَةِ بِالنَّفْسِ الْإِسْلَامُ وَالتَّمْيِيزُ، وَشَرْطُ وُقُوعِهِ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ، فَلَوْ تَكَلَّفَ غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ الْحَجَّ وَقَعَ عَنْ فَرْضِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ نَوَى غَيْرَهُ وَقَعَ عَنْهُ، وَشَرْطُ وُجُوبِهِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ، فَلَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ1 وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهما، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصِّيَامِ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْمَجْنُونِ وأما: صِحَّتُهُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: جَزَمَ: الْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَجَزَمَ: الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ بِصِحَّتِهِ مِنْهُ، كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ فِي الْعِبَادَاتِ قَالُوا: وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَائِلِ الْعَقْلِ، وَيُرْجَى بُرْؤُهُ عَنْ قَرِيبٍ، فَهُوَ كَالْمَرِيضِ فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: فَلَوْ سَافَرَ الْوَلِيُّ بِالْمَجْنُونِ إلَى مَكَّةَ فَلَمَّا بَلَغَ أَفَاقَ فَأَحْرَمَ، صَحَّ حَجُّهُ وَأَجْزَأَهُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: إلَّا أَنَّ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ قَبْلَ إفَاقَتِهِ فَقَدْرُ نَفَقَةِ الْبَلَدِ يَكُونُ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ، وَالزِّيَادَةُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهِ، هَذَا كَلَامُ الْمُتَوَلِّي، وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِ خِلَافٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ الله تعالى
أما: مَنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَتْ مُدَّةُ إفَاقَتِهِ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ الْحَجِّ وَوُجِدَتْ الشُّرُوطُ الْبَاقِيَةُ، لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِلَّا فَلَا.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ لِلْحَجِّ إفَاقَتُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ دُونَ مَا سِوَاهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِلْخَبَرِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ"أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مِحَفَّتِهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ" فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا فَأَحْرَمَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ صَحَّ إحْرَامُهُ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِالصَّلَاةِ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي أَدَائِهِ إلَى الْمَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَازَ لِأُمِّهِ أَنْ تُحْرِمَ عَنْهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَجُوزُ لِأَبِيهِ قِيَاسًا عَلَى الْأُمِّ، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَخِ وَالْعَمِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى الصَّغِيرِ، فَإِنْ عُقِدَ لَهُ الْإِحْرَامُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "المذهب" المطبوعة تقديم النائم على المجنون (ط).

 

ج / 7 ص -17-         وَيَفْعَلُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: "حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَلَبَّيْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ" وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: "كُنَّا نَحُجُّ بِصِبْيَانِنَا فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ رَمَى، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ رُمِيَ عَنْهُ "وَفِي نَفَقَةِ الْحَجِّ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ: أحدهما: يَجِبُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِيهِ الثاني: يَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِمَصْلَحَتِهِ فَكَانَ فِي مَالِهِ كَأُجْرَةِ الْمُعَلِّمِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وأما حديث جَابِرٍ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ فِيهِ أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمِحَفَّةِ - بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ - وَهِيَ مَرْكَبٌ مِنْ مَرَاكِبِ النِّسَاءِ كَالْهَوْدَجِ إلَّا أَنَّهَا لَا تُقَتَّبُ بِخِلَافِ الْهَوْدَجِ، فَإِنَّهُ مَرْكَبٌ مِنْ مَرَاكِبِ النِّسَاءِ يَكُونُ مُقَتَّبًا وَغَيْرَ مُقَتَّبٍ، وَكَانَ سُؤَالُ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الصَّبِيِّ وَيَصِحُّ مِنْهُ سَوَاءً فِي الصُّورَتَيْنِ، الصَّغِيرُ كَابْنِ يَوْمٍ وَالْمُرَاهِقُ. ثُمَّ إنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَحْرَمَ بِنَفْسِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَيَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ اسْتَقَلَّ وَأَحْرَمَ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا: أحدهما: يَصِحُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وأصحهما: لَا يَصِحُّ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَكَذَا نَقَلَهُ أَيْضًا ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فإن قلنا: يَصِحُّ فَلِوَلِيِّهِ تَحْلِيلُهُ إذَا رَآهُ مَصْلَحَةً، وَلَوْ أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ فإن قلنا: يَصِحُّ اسْتِقْلَالُ الصَّبِيِّ لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُ الْوَلِيِّ. وَإِلَّا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ: أصحهما: عِنْدَ الرَّافِعِيِّ: يَصِحُّ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إحْرَامُ الْوَلِيِّ عَنْهُ أَبًا كَانَ أَوْ جَدًّا، وَقَطَعَ بِهِ أَيْضًا صاحب "الشامل"، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي"تعليقه" وَجْهًا عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ لَهُ قَصْدًا صَحِيحًا، وَلِهَذَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ، وَكَذَا الْحَجُّ.
قَالَ الْقَاضِي: فإن قيل: قَدْ قُلْتُمْ: لَا يَتَوَلَّى الصَّبِيُّ إخْرَاجَ فِطْرَتِهِ بِنَفْسِهِ وَجَوَّزْتُمْ هُنَا إحْرَامَهُ بِنَفْسِهِ فَمَا الْفَرْقُ؟ قلنا: الْحَجُّ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالْفِطْرَةُ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ فَافْتَرَقَا، وَلِأَنَّ الْفِطْرَةَ يَتَوَلَّاهَا الْوَلِيُّ، وَالْإِحْرَامُ يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ، فَهُمَا سَوَاءٌ. هَذَا كُلُّهُ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ أما: الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: سَوَاءٌ كَانَ الْوَلِيُّ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ حَلَالًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ لَا. وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الصَّبِيِّ وَمُوَاجَهَتُهُ بِالْإِحْرَامِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي"تعليقه" وَالدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: أصحهما: لَا يُشْتَرَطُ.
قَالَ الْقَاضِي وَالدَّارِمِيُّ: لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ بِبَغْدَادَ وَالصَّبِيُّ بِالْكُوفَةِ، فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَعْقِدَ الْإِحْرَامَ لِلصَّبِيِّ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِهِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْإِحْرَامُ فَلَا يَصِحُّ فِي

 

ج / 7 ص -18-         غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْإِحْرَامُ عَنْهُ فِي غَيْبَتِهِ، لَجَازَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ عَنْهُ فِي غَيْبَتِهِ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ عَنْهُ، وَهُوَ غَائِبٌ لَا يَعْلَمُ الْإِحْرَامَ، فَرُبَّمَا أَتْلَفَ صَيْدًا أَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ الَّتِي لَوْ عَلِمَ الْإِحْرَامَ لَاجْتَنَبَهَا والثاني يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نِيَّةُ الْوَلِيِّ، وَذَلِكَ يَصِحُّ، وَيُوجَدُ مَعَ غَيْبَةِ الصَّبِيِّ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ خَوْفِ الْمَحْظُورَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: وَأَمَّا الْوَلِيُّ الَّذِي يُحْرِمُ عَنْ الصَّبِيِّ، أَوْ يَأْذَنُ لَهُ فَقَدْ اضْطَرَبَتْ طُرُقُ أَصْحَابِنَا فِيهِ. فَأَنْقُلُ جُمْلَةً مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِهِمْ، ثُمَّ أَخْتَصِرُهَا إنْ شَاءَ الله تعالى وَقَدْ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْأَبَ يُحْرِمُ عَنْهُ وَيَأْذَنُ لَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَدِّ أَبُو الْأَبِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْأَبِ، فَطَرِيقَانِ: أصحهما: لَا يَصِحُّ إحْرَامُ الْجَدِّ وَلَا إذْنُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ والثاني فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: هَذَا والثاني يَصِحُّ كَمَا يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِجَدِّهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَدَّ عَقَدَ الْإِسْلَامَ لِنَفْسِهِ لَا لِلطِّفْلِ وَصَارَ تَبَعًا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ بِحُكْمِ الْبَعْضِيَّةِ، وَالْبَعْضِيَّةُ مَوْجُودَةٌ وأما: الْإِحْرَامُ فَلَا يُحْرِمُ الْجَدُّ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَعْقِدُ لِلطِّفْلِ فَيَقْتَضِي وِلَايَةً، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي حَيَاةِ الْأَبِ، قَالَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَعَدَمِ جَدٍّ أَقْرَبَ مِنْهُ وأما: غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: إنْ كَانَ لَهُ وِلَايَةٌ بِأَنْ يَكُونَ وَصِيًّا أَوْ قَيِّمًا مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ صَحَّ إحْرَامُهُ عَنْ الصَّبِيِّ وَإِذْنُهُ فِي الْإِحْرَامِ لِلْمُمَيِّزِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ فِي هَذَا الْأُمُّ وَالْأَخُ وَالْعَمُّ وَسَائِرُ الْعَصَبَاتِ وَغَيْرُهُمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ أَنَّ الْأَخَ وَالْعَمَّ وَسَائِرَ الْعَصَبَاتِ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ، وَلِأَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي الْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَفي "الأم" طَرِيقَانِ قَالَ الْجُمْهُورُ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وِلَايَةٌ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ جَدٌّ فَإِحْرَامُهَا عَنْهُ كَإِحْرَامِ الْأَخِ فَلَا يَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا وِلَايَةٌ بِأَنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أَوْ قَيِّمَةً مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي، أَوْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ: إنَّهَا تَلِي الْمَالَ بَعْدَ الْجَدِّ صَحَّ إحْرَامُهَا وَإِذْنُهَا فِيهِ.
والطريق الثاني: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ وَطَائِفَةٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ "الْأُمَّ" أَحْرَمَتْ عَنْهُ، وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّ الْوَصِيَّ وَالْقَيِّمَ لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ عَنْهُ، وَلَا إذْنُهُ. هَذِهِ جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَحْقِيقِ الْوَلِيِّ، قَالَ صاحب "البيان": أَمَّا الْوَلِيُّ الَّذِي يُحْرِمُ عَنْ الصَّبِيِّ وَبِإِذْنِ الْمُمَيِّزِ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ؛ لِأَنَّهُمَا يَلِيَانِ مَالَهُ بِغَيْرِ تَوْلِيَةٍ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ الْعَصَبَاتِ كَالْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ فَإِنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي الْحَضَانَةِ وَتَعْلِيمِ الصَّبِيِّ وَتَأْدِيبِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ أَوْ تَوْلِيَةِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ صَحَّ إحْرَامُهُمْ عَنْ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَإِذْنُهُمْ لِلْمُمَيِّزِ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: أحدهما: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لَهُمْ تَعْلِيمُهُ وَتَأْدِيبُهُ وَالْإِنْفَاقُ فِي ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ وأصحهما: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ فَهُمْ كَالْأَجَانِبِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فِي التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّهَا قَلِيلَةٌ فَسُومِحَ بِهَا.

 

ج / 7 ص -19-         أما: الْأُمُّ فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ: إنَّهَا تَلِي الْمَالَ بَعْدَ الْجَدِّ، فَلَهَا الْإِحْرَامُ وَالْإِذْنُ، وَإِنْ قُلْنَا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَلِي الْمَالَ بِنَفْسِهَا، فَهِيَ كَالْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ قَالَ صاحب "البيان": هَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا قَالَ: وَقَالَ صَاحِبُ "المهذب: "الْأُمُّ تُحْرِمُ عَنْهُ لِلْحَدِيثِ، وَيَجُوزُ لِلْأَبِ قِيَاسًا عَلَى الْأُمِّ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا أَحْرَمَتْ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَإِنَّمَا جُعِلَ لَهَا الْأَجْرُ لِحَمْلِهَا لَهُ وَمَعُونَتِهَا لَهُ فِي الْمَنَاسِكِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ هَذَا كَلَامِ صاحب "البيان".
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ فِي "جَامِعِهِ: "يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ أَبِي الْأَبِ الْإِحْرَامُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْأُمُّ وَأُمُّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ وِلَادَتَهُمَا لَهُ حَقِيقَةٌ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يَجُوزُ لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ أَبِي أَبِيهِ وَلِوَصِيِّهِمَا وَفِي الْأَخِ وَابْنِهِ وَالْعَمِّ وَابْنِهِ وَجْهَانِ، وَالْأُمُّ وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ فَكَالْأَبِ، وَإِلَّا فَكَالْعَمِّ وَالْأَخِ، هَذَا كَلَامُ أَبِي الطَّيِّبِ، وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَجُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ مَا حَكَاهُ صاحب "البيان" عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا، وَرَجَّحَ الدَّارِمِيُّ صِحَّةَ إحْرَامِ الْأُمِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وِلَايَةُ الْمَالِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لِلْأَبِ وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ الْإِحْرَامُ وَالْإِذْنُ لِلْمُمَيِّزِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْأُمِّ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا، وَجَوَّزَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ.
وَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَعْمَامُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِوَصِيَّةٍ أَوْ إذْنِ حَاكِمٍ فَلَيْسَ لَهُمْ الْإِحْرَامُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ لَهُمْ الْحَضَانَةُ وَالْقِيَامَ بِالْمَصَالِحِ وَتَأْدِيبَهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّأْدِيبَ، وَتَعْلِيمَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ: فَأَمَّا الْوَصِيُّ وَالْقَيِّمُ فَجَوَّزَ لَهُمَا الْإِحْرَامَ عَنْهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ كَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُّونَ: لَا يَجُوزُ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، وَالْإِحْرَامُ عَقْدٌ عَلَى نَفْسِهِ تَلْزَمُهُ أَحْكَامُهُ فَهُوَ كَالنِّكَاحِ. هَذَا كَلَامُ الْمُتَوَلِّي، وَقَالَ الْبَغَوِيّ: يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ الْإِحْرَامُ عَنْهُ. وَفِي الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَصِحُّ والثاني لَا يَصِحُّ، وَسَبَقَ تَعْلِيلُهُمَا فِي كَلَامِ الْمُتَوَلِّي، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْوَلِيُّ الَّذِي يُحْرِمُ عَنْهُ أَوْ يَأْذَنُ لَهُ هُوَ الْأَبُ، وَكَذَا الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ.
وَفِي الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ طَرِيقَانِ، قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِالْجَوَازِ، وَقَالَ آخَرُونَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْمَنْعُ، وَفِي الْأَخِ وَالْعَمِّ وَجْهَانِ: أصحهما: الْمَنْعُ، وَفي "الأم" طَرِيقَانِ: أحدهما: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ وأصحهما: وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وِلَايَتِهَا الْمَالَ، فَعَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ: تَلِي الْمَالَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: لَا تَلِي الْمَالَ، فَلَا تَلِي الْإِحْرَامَ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَوْ أَذِنَ الْأَبُ لِمَنْ يُحْرِمُ عَنْ الصَّبِيِّ فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَصَحَّهُمَا والأصح: صِحَّتُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ الْأَبُ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِابْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِهِ الْوَلِيُّ، ثُمَّ أَعْطَاهُ لِمَنْ يُحْضِرُهُ الْحَجَّ صَحَّ ذَلِكَ، هَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ فِي الْوَلِيِّ الَّذِي يُحْرِمُ عَنْ صَبِيٍّ لَا يُمَيِّزُ، وَيَأْذَنُ لِلْمُمَيِّزِ، وَحَاصِلُهُ جَوَازُ ذَلِكَ لِلْأَبِ، وَكَذَا الْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ

 

ج / 7 ص -20-         الْأَبِ لَا عِنْدَ وُجُودِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُهُ لِلْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ، وَمَنْعُهُ في "الأم" وَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وَصِيَّةٌ وَلَا إذْنٌ مِنْ الْحَاكِمِ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ.
وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: فِيهِ أَوْجُهٌ أحدها: لَا يَجُوزُ إلَّا لِلْأَبِ وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِهِ والثاني يَجُوزُ لِلْأَبِ وَلِلْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَمَعَ وُجُودِهِ والثالث: يَجُوزُ لَهُمَا وَلِلْأُمِّ، والرابع: لِهَؤُلَاءِ وَلِلْأُخُوَّةِ وَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ والخامس: وَهُوَ الْأَصَحُّ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَلِلْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: صِفَةُ إحْرَامِ الْوَلِيِّ عَنْ الصَّبِيِّ أَنْ يَنْوِيَ جَعْلَهُ مُحْرِمًا، فَيَصِيرُ الصَّبِيُّ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هُوَ أَنْ يَنْوِيَهُ لَهُ، وَيَقُولَ: عَقَدْتُ الْإِحْرَامَ، فَيَصِيرُ الصَّبِيُّ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، كَمَا إذَا عَقَدَ لَهُ النِّكَاحَ فَيَصِيرُ مُتَزَوِّجًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: يَنْوِي أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِ أَوْ عَقَدَهُ لَهُ أَوْ جَعَلَهُ مُحْرِمًا، قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: كَيْفِيَّةُ إحْرَامِ الْوَلِيِّ عَنْهُ أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِهِ أَنَّهُ قَدْ عَقَدَ لَهُ الْإِحْرَامَ وَجَعَلَهُ مُحْرِمًا فَيَنْوِيَهُ فِي نَفْسِهِ.
فرع: الصَّوَابُ فِي حَقِيقَةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ أَنَّهُ الَّذِي يَفْهَمُ الْخِطَابَ، وَيُحْسِنُ رَدَّ الْجَوَابِ وَمَقَاصِدَ الْكَلَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يُضْبَطُ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: مَتَى صَارَ الصَّبِيُّ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِهِ أَوْ إحْرَامِ وَلِيِّهِ عَنْهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَفَعَلَ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الصَّبِيُّ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": يُغَسِّلُهُ الْوَلِيُّ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ، وَيُجَرِّدُهُ عَنْ الْمَخِيطِ، وَيُلَبِّسُهُ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَالنَّعْلَيْنِ إنْ تَأَتَّى مِنْهُ الْمَشْيُ وَيُطَيِّبُهُ وَيُنَظِّفُهُ وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ، ثُمَّ يُحْرِمُ أَوْ يُحْرِمُ عَنْهُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ التَّفْصِيلِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُجَنِّبَهُ مَا يَجْتَنِبُهُ الرَّجُلُ، فَإِنْ قَدَرَ الصَّبِيُّ عَلَى الطَّوَافِ بِنَفْسِهِ عَلَّمَهُ فَطَافَ، وَإِلَّا طَافَ بِهِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي مَسَائِلِ الطَّوَافِ فِي بَابِ صِفَةِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ الله تعالى وَالسَّعْيُ كَالطَّوَافِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ صَلَّى الْوَلِيُّ عَنْهُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه" وَالدَّارِمِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَنَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الإملاء"، وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَمَرَهُ بِهِمَا فَصَلَّاهَا الصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ، وَيُشْتَرَطُ إحْضَارُ الصَّبِيِّ عَرَفَاتٍ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَكْفِي حُضُورُ الْوَلِيِّ عَنْهُ، وَكَذَا يَحْضُرُ مُزْدَلِفَةَ وَالْمَشْعَرَ الْحَرَامَ وَمِنًى وَسَائِرَ الْمَوَاقِفِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ فِعْلُهُ مِنْ الصَّبِيِّ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجْمَعُ الْوَلِيُّ فِي إحْضَارِهِ عَرَفَاتٍ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِنْ تَرَكَ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَوْ تَرَكَ مَبِيتَ الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ مَبِيتَ لَيَالِيَ مِنًى، وَقُلْنَا: بِوُجُوبِ الدَّمِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَجَبَ الدَّمُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى فِي فِدْيَةِ مَا يَرْتَكِبُهُ الصَّبِيُّ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وأما: الطِّفْلُ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الرَّمْيِ أَمَرَهُ بِهِ الْوَلِيُّ، وَإِلَّا رَمَى عَنْهُ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الرَّمْيِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ فِي يَدِ الطِّفْلِ، ثُمَّ يَأْخُذَ بِيَدِهِ وَيَرْمِيَ بِالْحَصَاةِ، وَإِلَّا فَيَأْخُذُهَا مِنْ يَدِهِ ثُمَّ يَرْمِيهَا الْوَلِيُّ وَلَوْ لَمْ يَضَعْهَا فِي يَدِهِ بَلْ رَمَاهَا الْوَلِيُّ ابْتِدَاءً جَازَ أما: إذَا كَانَ

 

ج / 7 ص -21-         عَلَى الْوَلِيِّ رَمْيٌ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ رَمَى وَنَوَى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ أَطْلَقَ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ نَوَاهُ عَنْ الصَّبِيِّ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ: أحدهما: يَقَعُ عَنْ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَوَاهُ والثاني وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمُتَوَلِّي: يَقَعُ عَنْ الْوَلِيِّ لَا عَنْ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحَجِّ عَلَى أَنْ لَا يَتَبَرَّعَ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْفَرْضِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ وَقَعَ فَرْضًا لَا تَبَرُّعًا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ إذَا حَمَلَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ وَطَافَ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ صُورَةَ الطَّوَافِ، وَهِيَ الدَّوَرَانُ وُجِدَتْ مِنْ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الرَّمْيِ، فَنَظِيرُهُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَطُوفَ الْوَلِيُّ غَيْرَ حَامِلٍ لِلصَّبِيِّ، وَيَنْوِيَ عَنْ الصَّبِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ الصَّبِيِّ بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ قَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ: لَوْ أَرْكَبَهُ الْوَلِيُّ دَابَّةً وَهُوَ غَيْرُ مُمَيِّزٍ فَطَافَتْ بِهِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا، وَإِنَّمَا ضَبَطُوهُ بِغَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لِأَنَّ الْمُمَيِّزَ لَوْ رَكِبَ دَابَّةً وَطَافَ عَلَيْهَا صَحَّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْبَالِغَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: نَفَقَةُ الصَّبِيِّ فِي سَفَرِهِ فِي الْحَجِّ يُحْسَبُ مِنْهَا قَدْرُ نَفَقَتِهِ فِي الْحَضَرِ، مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ، وَفِي الزَّائِدِ بِسَبَبِ السَّفَرِ خِلَافٌ، حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَصَاحِبَا "الشَّامِلِ" و"التَّهْذِيبِ" وَالشَّاشِيُّ وَآخَرُونَ قَوْلَيْنِ، وَحَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ وَجْهَيْنِ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا، قَالَ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ: الْمَنْصُوصُ فِي "الإملاء" مُخَرَّجٌ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُهُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ والثاني يَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَصَحَّحْنَاهُ حَلَّلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْوَلِيِّ، هَكَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ مَخْصُوصَانِ بِالزَّائِدِ عَلَى نَفَقَةِ الْحَضَرِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَهْمَلَهُ لِظُهُورِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَامِلِ الْقِرَاضِ فَإِنَّهُ إذَا سَافَرَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَقُلْنَا: تَجِبُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَإِنَّهُ يَجِبُ كُلُّ النَّفَقَةِ عَلَى قَوْلٍ؛ لِأَنَّ عَامِلَ الْقِرَاضِ مُعَطَّلٌ فِي سَفَرِهِ عَنْ بَعْضِ مَكَاسِبِهِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَضَرِ، فَجَرَتْ لَهُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ السَّفَرِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ.
وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ الْقَوْلِ الثَّانِي: إنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِمَصْلَحَتِهِ، فَكَانَتْ فِي مَالِهِ كَأُجْرَةِ التَّعْلِيمِ فَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْأَصَحِّ أَنَّ أُجْرَةَ التَّعْلِيمِ تَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ مُطْلَقًا وَقَدْ سَبَقَ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَجْهٌ أَنَّ أُجْرَةَ تَعَلُّمِهِ مَا لَيْسَ مُتَعَيَّنًا بَعْدَ الْبُلُوغِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَالْفَرَائِضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي مَالِ الْوَلِيِّ، فَحَصَلَ أَنَّ الْأَصَحَّ وُجُوبُ نَفَقَةِ الْحَجِّ فِي مَالِ الْوَلِيِّ، وَوُجُوبُ أُجْرَةِ تَعَلُّمِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَصْلَحَةَ التَّعَلُّمِ كَالضَّرُورِيَّةِ وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْهَا الْوَلِيُّ فِي صِغَرِ الصَّبِيِّ احْتَاجَ الصَّبِيُّ إلَى اسْتِدْرَاكِهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ بِخِلَافِ الْحَجِّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَلِأَنَّ مُؤْنَةَ التَّعْلِيمِ يَسِيرَةٌ غَالِبًا لَا تُجْحِفُ بِمَالِ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُسَلِّمَ النَّفَقَةَ إلَى الصَّبِيِّ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ مَعَهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سَلَّمَ الْمَالَ إلَى أُمِّهِ لِتُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَلَوْ سَلَّمَهُ إلَى الصَّبِيِّ - فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مِنْ مَالِ الْوَلِيِّ - فَلَا

 

ج / 7 ص -22-         شَيْءَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ ضَمِنَهُ الْوَلِيُّ لِتَفْرِيطِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ مَنْعُ الصَّبِيِّ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَلَوْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ قَطْعًا، وَإِنْ تَعَمَّدَ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ؟ الْأَصَحُّ أَنَّهُ عَمْدٌ فإن قلنا: خَطَأٌ فَلَا فِدْيَةَ، وَإِلَّا وَجَبَتْ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُحَقِّقُونَ؛ لِأَنَّ عَمْدَهُ فِي الْعِبَادَاتِ كَعَمْدِ الْبَالِغِ، وَلِهَذَا لَوْ تَعَمَّدَ فِي صَلَاتِهِ كَلَامًا أَوْ فِي صَوْمِهِ أَكْلًا بَطَلَا، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يَلْتَذُّ بِالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَجَبَتْ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ حَلَقَ أَوْ قَلَّمَ ظُفْرًا أَوْ قَتَلَ صَيْدًا عَمْدًا، وَقُلْنَا: عَمْدُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَسَهْوُهَا سَوَاءٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَهِيَ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ.
وَمَتَى وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ، فَهَلْ هِيَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ؟ أَمْ فِي مَالِ الْوَلِيِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَخَلَائِقُ قَوْلَيْنِ، وَحَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ وَجْهَيْنِ، وَدَلِيلُهُمَا مَا سَبَقَ فِي النَّفَقَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهَا فِي مَالِ الْوَلِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ قَالَ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي "الإملاء" قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا فِي مَالِ الصَّبِيِّ هُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ وَجْهًا مُخَرَّجًا، وَأَمَّا الْمَحَامِلِيُّ في "المجموع" فَقَالَ: نَصَّ فِي "الإملاء" أَنَّهَا فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَفي "الأم" أَنَّهَا فِي مَالِ الْوَلِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ إنَّمَا هُمَا فِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَإِنْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَصَحَّحْنَاهُ فَالْفِدْيَةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ بِلَا خِلَافٍ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا لِآدَمِيٍّ، صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا فَالْفِدْيَةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَفِي مَالِهِ قَالَ الدَّارِمِيُّ: هَذَا الْوَجْهُ قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كُلِّ فِدْيَةٍ تَجِبُ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَتَى قُلْنَا: الْفِدْيَةُ عَلَى الْوَلِيِّ فَهِيَ كَالْفِدْيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْبَالِغِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، فَإِنْ اقْتَضَتْ صَوْمًا أَوْ غَيْرَهُ فَعَلَهُ وَأَجْزَأَهُ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهَا فِي مَالِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً فَحُكْمُهَا حُكْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَتْ فِدْيَةَ تَخْيِيرٍ بَيْنَ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ وَاخْتَارَ أَنْ يَفْدِيَ الصَّبِيُّ بِالصَّوْمِ فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ فِي حَالِ الصِّبَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ فِي حَالِ الصِّبَا أصحهما: يُجْزِئُهُ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ وَالدَّارِمِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ والثاني لَا؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ وَاجِبًا، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِمَّنْ يَقَعُ عَنْهُ وَاجِبٌ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: هَذَا الْوَجْهُ قَوْلُ ابْنِ الْمَرْزُبَانِ وَلَوْ أَرَادَ الْوَلِيُّ فِي فِدْيَةِ التَّخْيِيرِ أَنْ يَفْدِيَ عَنْهُ بِالْمَالِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْمَالِ فِيهِ هَكَذَا قَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَأَشَارَ الْمُتَوَلِّي إلَى خِلَافٍ فِيهِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
فرع: لَوْ طَيَّبَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ وَأَلْبَسهُ أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ قَلَّمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ، فَالْفِدْيَةُ

 

ج / 7 ص -23-         فِي مَالِ الْوَلِيِّ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لَوْ طَيَّبَهُ أَجْنَبِيٌّ فَالْفِدْيَةُ فِي مَالِ الْأَجْنَبِيِّ بِلَا خِلَافٍ. صَرَّحَ بِهَا الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ، وَهَلْ يَكُونُ الصَّبِيُّ طَرِيقًا فِي ذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ فإن قلنا: لَا، لَمْ يُتَوَجَّهْ فِي مَالِ الصَّبِيِّ مُطَالَبَةٌ، وَإِلَّا طُولِبَ وَرُجِعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَوْ الْوَلِيِّ عِنْدَ يَسَارِهِ أَوْ مَكَانِ الْأَخْذِ مِنْهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَرِيقًا. وَإِنْ فَعَلَ الْوَلِيُّ ذَلِكَ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ وَمَصْلَحَتِهِ فَطَرِيقَانِ: أحدهما: الْقَطْعُ بِأَنَّهَا فِي مَالِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ وأصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ كَمُبَاشَرَةِ الصَّبِيِّ ذَلِكَ فَيَكُونُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ أصحهما: الْوَلِيُّ والثاني الصَّبِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَلْجَأَهُ الْوَلِيُّ إلَى التَّطَيُّبِ فَالْفِدْيَةُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ بِلَا خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ فَوَّتَهُ الْوَلِيُّ الْحَجَّ فَالْفِدْيَةُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ بِلَا خِلَافٍ.
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي: إذَا تَمَتَّعَ الصَّبِيُّ أَوْ قَرَنَ فَحُكْمُ دَمِ التَّمَتُّعِ وَدَمِ الْقِرَانِ حُكْمُ الْفِدْيَةِ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ فَفِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمَوْجُودِ هُنَاكَ.
فرع: لَوْ جَامَعَ الصَّبِيُّ فِي إحْرَامِهِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا، وَقُلْنَا: عَمْدُهُ خَطَأٌ فَفِي فَسَادِ حَجِّهِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي الْبَالِغِ إذَا جَامَعَ نَاسِيًا أصحهما: لَا يُفْسِدُ حَجَّهُ والثاني يُفْسِدُ، وَإِنْ جَامَعَ عَامِدًا وَقُلْنَا: عَمْدُهُ عَمْدٌ، فَسَدَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا فَسَدَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَحَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَجْهَيْنِ، وَالْمَشْهُورُ قَوْلَانِ: أصحهما: يَجِبُ، اتَّفَقُوا عَلَى تَصْحِيحِهِ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ؛ لِأَنَّهُ إحْرَامٌ صَحِيحٌ، فَوَجَبَ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَهُ، كَحَجِّ التَّطَوُّعِ فِي حَقِّ الْبَالِغِ والثاني لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ الْقَضَاءُ، فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ فِي حَالِ الصِّبَا ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَالْبَغَوِيُّ وَطَائِفَةٌ قَوْلَيْنِ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَجْهَيْنِ أصحهما: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مِمَّنْ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَصاحب "الشامل" وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَلَحَتْ حَالَةُ الصِّبَا لِلْوُجُوبِ عَلَى الصَّبِيِّ فِي هَذَا، صَلَحَتْ لِإِجْزَائِهِ والثاني لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الصِّبَا لَيْسَ مَحَلَّ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ.
فَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا بَلَغَ يُنْظَرُ فِي الْحِجَّةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا، إنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الْإِفْسَادِ لَأَجْزَأَتْهُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ بَلَغَ قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ وَقَعَ الْقَضَاءُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تُجْزِئُ لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الْفَسَادِ، بِأَنْ بَلَغَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يَقَعْ الْقَضَاءُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِحِجَّةِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَقْضِيَ، فَإِنْ نَوَى الْقَضَاءَ أَوَّلًا وَقَعَ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا سَيَأْتِي إيضَاحُهُ بِدَلِيلِهِ إنْ شَاءَ الله تعالى هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا التَّفْصِيلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ في "المجموع": وَهَذَا أَصْلٌ لِكُلِّ حِجَّةٍ فَاسِدَةٍ إذَا قُضِيَتْ هَلْ تَقَعُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ؟ فِيهَا هَذَا التَّفْصِيلُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَشَرَعَ فِيهِ وَبَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ، انْصَرَفَ إلَى حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحَيْثُ فَسَدَ حَجُّ الصَّبِيِّ، وَقُلْنَا: يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَجَبَتْ

 

ج / 7 ص -24-         الْكَفَّارَةُ، وَهِيَ بَدَنَةٌ وَإِنْ لَمْ نُوجِبْ الْقَضَاءَ فَفِي الْبَدَنَةِ وَجْهَانِ أصحهما: الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" مَا وَالْمَحَامِلِيُّ وَصاحب "الشامل" وَآخَرُونَ وَنَقَلَ الْمَحَامِلِيُّ وَصاحب "الشامل" الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْبَدَنَةُ فَهَلْ تَجِبُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ؟ وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ فَنَفَقَةُ الْقَضَاءِ هَلْ تَجِبُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ؟ أَمْ الصَّبِيِّ؟ فِيهِ الْخِلَافُ كَالْبَدَنَةِ، صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْفَرْعَ فِي بَابِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ هُنَا، فَرَأَيْتُ ذِكْرَهُ هُنَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: مُوَافَقَةُ: الْجُمْهُورِ وَالْمُبَادَرَةُ: إلَى الْخَيْرَاتِ، وَالله تعالى أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ صَامَ الصَّبِيُّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَجَامَعَ فِيهِ جِمَاعًا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَقُلْنَا: إنَّ وَطْأَهُ فِي الْحَجِّ عَامِدًا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، فَفِي وَحُوبِ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ وَجْهَانِ أحدهما: تَلْزَمُهُ كَمَا تَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ والثاني لَا تَلْزَمُهُ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَالدَّارِمِيُّ: إذَا نَوَى الْوَلِيُّ أَنْ يَعْقِدَ الْإِحْرَامَ لِلصَّبِيِّ، فَمَرَّ بِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ وَلَمْ يَعْقِدْهُ، ثُمَّ عَقَدَهُ بَعْدَهُ فَوَجْهَانِ: أحدهما: تَجِبُ الْفِدْيَةُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ وَلَمْ يُحْرِمْ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلِأَنَّهُ لَوْ عَقَدَ الْإِحْرَامَ لِلصَّبِيِّ ثُمَّ فَوَّتَ الْحَجَّ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ والثاني لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ لَا عَلَى الْوَلِيِّ وَلَا فِي مَالِ الصَّبِيِّ أما: الْوَلِيُّ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ وَلَمْ يُرِدْ الْإِحْرَامَ وأما: الصَّبِيُّ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْإِحْرَامَ.
فرع: قَالَ الرَّافِعِيُّ: حُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ فِي جَمِيعِ مَا سَبَقَ، قَالَ: وَلَوْ خَرَجَ الْوَلِيُّ بِالْمَجْنُونِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَأَنْفَقَ عَلَى الْمَجْنُونِ مِنْ مَالِهِ نُظِرَ إنْ لَمْ يُفِقْ حَتَّى فَاتَ الْوُقُوفُ غَرِمَ الْوَلِيُّ زِيَادَةَ نَفَقَةِ السَّفَرِ، وَإِنْ أَفَاقَ وَأَحْرَمَ وَحَجَّ فَلَا غُرْمَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ إفَاقَتُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَلِلْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْأَصْحَابُ لِحَالَةِ الْحَلْقِ، قَالَ: وَقِيَاسُ كَوْنِهِ نُسُكًا اشْتِرَاطُ الْإِفَاقَةِ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَهَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، وَقَالَ: وَهُوَ قَبْلَ هَذَا الْجُنُونِ كَصَبِيٍّ لَا يُمَيِّزُ، يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ إحْرَامِ الْوَلِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ نَحْوَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ، وَقَوْلُهُمْ: يُشْتَرَطُ إفَاقَتُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَسَائِرِ الْأَرْكَانِ. مَعْنَاهُ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي وُقُوعِهِ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وأما: وُقُوعُهُ تَطَوُّعًا، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالُوا فِي صَبِيٍّ لَا يُمَيِّزُ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: هُوَ كَصَبِيٍّ لَا يُمَيِّزُ، وَسَيَأْتِي إيضَاحُهُ مَبْسُوطًا فِي فَصْلِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَمَنْ غُشِيَ لَا يَصِحُّ إحْرَامُ وَلِيِّهِ وَلَا رَفِيقِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ زَائِلِ الْعَقْلِ وَيُرْجَى بُرْؤُهُ عَنْ قُرْبٍ، فَهُوَ كَالْمَرِيضِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ خَرَجَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُ وَلِيِّهِ وَلَا رَفِيقِهِ عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ أَذِنَ فِيهِ قَبْلَ الْإِغْمَاءِ أَمْ لَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ إحْرَامُ رَفِيقِهِ عَنْهُ اسْتِحْسَانًا، وَيَصِيرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَصْدِهِ

 

ج / 7 ص -25-         ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَفْوِيتُ الْإِحْرَامِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا بِأَنَّ الْإِحْرَامَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَدَخَلَتْهُ النِّيَابَةُ لِلْعَجْزِ كَالطَّوَافِ، قَالُوا: وَقِيَاسًا عَلَى الطِّفْلِ، قَالَ الْقَاضِي: وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ بَلَغَ فَلَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْإِحْرَامِ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالنَّائِمِ فإن قيل: الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا نُبِّهَ لَا يَنْتَبِهُ بِخِلَافِ النَّائِمِ قلنا: هَذَا الْفَرْقُ يَبْطُلُ بِإِحْرَامِ غَيْرِ رَفِيقِهِ قَالَ الْقَاضِي: وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّوَافِ لَا نُسَلِّمُهُ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ الطَّوَافُ عَنْهُ، بَلْ يُطَافُ بِهِ مَحْمُولًا وأما: قِيَاسُهُمْ عَلَى الطِّفْلِ فَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِغْمَاءَ يُرْجَى زَوَالُهُ عَنْ قُرْبٍ بِخِلَافِ الصِّبَا؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَ الْوَلِيُّ النِّكَاحَ لِلصَّبِيِّ دُونَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُحْرِمَ لَهُ فَيَصِيرَ مُحْرِمًا، سَوَاءٌ كَانَ مَرِيضًا مَأْيُوسًا مِنْهُ أَوْ غَيْرَهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطِّفْلِ أَنَّ نَائِبَ الْمَرِيضِ يَحْتَاجُ أَنْ يَفْعَلَ عَنْهُ كُلَّ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّهَا مُتَعَذِّرَةُ مِنْهُ بِخِلَافِ الطِّفْلِ، فَإِنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُ مُعْظَمُ الْأَفْعَالِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حَجِّ الصَّبِيِّ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَصِحُّ حَجُّهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فأما: عَدَمُ وُجُوبِهِ عَلَى الصَّبِيِّ فَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَافِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ الْحَجِّ عَنْ الصَّبِيِّ وَعَنْ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ إذَا حَجَّ ثُمَّ أَفَاقَ أَوْ الصَّبِيَّ إذَا حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمَا عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ جِنَايَاتِ الصِّبْيَانِ لَازِمَةٌ لَهُمْ وأما: صِحَّةُ حَجِّ الصَّبِيِّ فَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد، وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَأَشَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إلَى الْإِجْمَاعِ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: لَا يَصِحُّ حَجُّهُ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَاحْتُجَّ لَهُ بِحَدِيثِ "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ" إلَى آخِرِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا وَقِيَاسًا عَلَى النَّذْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مِنْهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إذَا أَفْسَدَهُ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا يَصِحُّ عَقْدُهَا مِنْ الْوَلِيِّ لِلصَّبِيِّ كَالصَّلَاةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه قَالَ: حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَبِحَدِيثِ جَابِرٍ: "حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَلَبَّيْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ، وَقِيَاسًا عَلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ صَحَّحَهُمَا مِنْهُ، وَكَذَا صَحَّحَ حَجَّهُ عِنْدَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَنَقْلُهُ خَطَأٌ مِنْهُ وَصَحَّحَ إمَامَةَ الصَّبِيِّ فِي النَّافِلَةِ.
وأما: الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ: "رُفِعَ الْقَلَمُ" فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: الْمُرَادُ رَفْعُ الْإِثْمِ لَا إبْطَالُ أَفْعَالِهِ: الثاني: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعُ الْكِتَابَةِ لَهُ وَحُصُولُ ثَوَابِهِ والجواب:

 

ج / 7 ص -26-         عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّذْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: أحدهما: أَنَّهُ يَنْكَسِرُ بِالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ نَذْرُهُمَا وَيَصِحَّانِ مِنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْكَسْرَ هُوَ أَنْ تُوجَدَ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ، وَالنَّقْضُ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ وَلَا حُكْمَ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا فِي بَابِ صَدَقَةِ الْمَوَاشِي حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني أَنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ بِالْقَوْلِ، وَقَوْلُ الصَّبِيِّ سَاقِطٌ بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ فِعْلٌ وَنِيَّةٌ فَهُوَ كَالْوُضُوءِ وأما: قَوْلُهُمْ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْوُضُوءِ والثاني أَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ لِلتَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ فِي صِحَّتِهِ تَغْلِيظٌ وأما: قَوْلُهُمْ: لَوَجَبَ قَضَاؤُهُ إذَا أَفْسَدَهُ فَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ والجواب: عَنْ قَوْلِهِمْ: عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ إلَى آخِرِهِ أَنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْحَجَّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ "الْأَسَالِيبِ: "الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَذَكَرَ بَعْضَ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، ثُمَّ ذَكَرَ دَلَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْقِيَاسُ وَالْمَعْنَى، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا تَكَلُّفٌ بَعْدَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ قَالَ: وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ فَرْقٌ أَصْلًا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ فإن قالوا: فِي الْحَجِّ مُؤْنَةٌ قلنا: تِلْكَ الْمُؤَنُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَا ضَرَرَ عَلَى الصَّبِيِّ فإن قالوا: فِيهِ مَشَقَّةٌ قلنا: مَشَقَّةُ الْمُوَاظِبِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَشُرُوطِهِمَا أَكْثَرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "التَّمْهِيدِ: "صَحَّحَ حَجَّ الصَّبِيِّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالثَّوْرِيُّ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَسَائِرُ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِّ وَمِصْرَ قَالَ: وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَاهُ يَسْتَحِبُّ الْحَجَّ بِالصِّبْيَانِ وَيَأْمُرُ بِهِ قَالَ: وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ، قَالَ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُحَجُّ بِالصَّبِيِّ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا يُعْرَجُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "حَجَّ بِأُغَيْلِمَةِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" وَحَجَّ السَّلَفُ بِصِبْيَانِهِمْ قَالَ: وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَفَعَتْ الصَّبِيَّ وَقَالَتْ:
"أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ" قَالَ: فَسَقَطَ كُلُّ مَا خَالَفَ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، إلَّا فِرْقَةً شَذَّتْ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُحَجُّ بِهِ إلَّا طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنَعُوا ذَلِكَ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: يُكْتَبُ لِلصَّبِيِّ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ مِنْ الطَّاعَاتِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْقِرَاءَةِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ إذَا صَحَّحْنَاهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَدَلِيلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ كَحَدِيثِ
"أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ" وَحَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَحَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا سَبَقَ هُنَا، وَحَدِيثِ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَدِيثِ تَصْوِيمِ الصِّبْيَانِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهُوَ في "الصحيحين"، وَحَدِيثِ "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ" وَهُوَ صَحِيحٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ، وَحَدِيثِ إمَامَةِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.

 

ج / 7 ص -27-         قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ [الْحَجُّ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ1 مُسْتَحَقَّةٌ لِمَوْلَاهُ، وَفِي إيجَابِ الْحَجِّ عَلَيْهِ إضْرَارٌ بِالْمَوْلَى] وَيَصِحُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، فَصَحَّ مِنْهُ الْحَجُّ كَالْحُرِّ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَفَعَلَ مَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا وَقُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُهُ لَزِمَهُ الْهَدْيُ وإن قلنا: لَا يَمْلِكُ أَوْ لَمْ يُمَلِّكْهُ [السَّيِّدُ] وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ [وَيَجُوزُ] لِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي سَبَبِهِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّمَتُّعِ أَوْ الْقِرَانِ وَقُلْنَا: لَا يَمْلِكُ الْمَالَ صَامَ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى مَنْعُهُ مِنْ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِإِذْنِهِ وإن قلنا: [إنَّهُ] يَمْلِكُ فَفِي الْهَدْيِ قَوْلَانِ أحدهما: يَجِبُ فِي مَالِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ2 وَجَبَ بِإِذْنِهِ والثاني لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ رِضَاءٌ بِوُجُوبِهِ عَلَى عَبْدِهِ لَا فِي مَالِهِ، وَلِأَنَّ مُوجِبَ التَّمَتُّعِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ هُوَ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَدْيِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ".
الشرح: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مُسْتَحَقَّةٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَطِيعًا، وَيَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً، وَقَالَ دَاوُد: لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنِهِ. دَلِيلُنَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ تَحْلِيلُهُ، سَوَاءٌ بَقِيَ نُسُكُهُ صَحِيحًا أَوْ أَفْسَدَهُ، وَلَوْ بَاعَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي تَحْلِيلُهُ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ جَهِلَ إحْرَامَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَصِحُّ بَيْعُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَيُخَالِفُ بَيْعَ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى قَوْلٍ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجَرِ تَمْنَعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ التَّصَرُّفِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي إتْمَامِ نُسُكِهِ، فَإِنْ حَلَّلَهُ جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ.
وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُزَوَّجَةِ إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ، وَهَذَا شَاذٌّ مُنْكَرٌ؛ لِأَنَّ إذْنَ السَّيِّدِ تَبَرُّعٌ فَجَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْعَارِيَّةِ، فَلَوْ بَاعَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَلِلْمُشْتَرِي تَحْلِيلُهُ وَلَا خِيَارَ لَهُ، ذَكَرَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي الْمُعَايَاةِ وَآخَرُونَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الْإِذْنِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ رَجَعَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ فَأَحْرَمَ فَهَلْ لَهُ تَحْلِيلُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَتَيْ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا عَزَلَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ، وَتَصَرَّفَ بَعْدَ الْعَزْلِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ أصحهما: لَهُ تَحْلِيلُهُ كَمَا أَنَّ الْأَصَحَّ هُنَاكَ بُطْلَانُ تَصَرُّفِهِ.
وَإِنْ عَلِمَ الْعَبْدُ رُجُوعَ السَّيِّدِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَهُ تَحْلِيلُهُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ كَجٍّ، وَإِنْ رَجَعَ السَّيِّدُ بَعْدَ إحْرَامِ الْعَبْدِ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيلُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ كَالْعَارِيَّةِ يَرْجِعُ فِيهَا مَتَى شَاءَ، وَدَلِيلُنَا: أَنَّهُ عَقَدَ عَقْدَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ إبْطَالُهُ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ إحْرَامُهُ بِإِذْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه القطعة ساقطة من ش و ق وكذلك كل ما بين المعوقين (ط).
2 في ش و ق "لأنه أذن في سببه" (ط).

 

ج / 7 ص -28-         غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْغَيْرِ إبْطَالُهُ كَالزَّوْجِ والجواب: عَنْ الْعَارِيَّةِ أَنَّ الرُّجُوعَ فِيهَا لَا يُبْطِلُ مَا مَضَى بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْعُمْرَةِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَلَهُ تَحْلِيلُهُ، وَلَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيلُهُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ قَالَ: لِأَنَّ الْعُمْرَةَ دُونَ الْحَجِّ. وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: إنْ أَذِنَ لَهُ فِي حَجٍّ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ فِي عُمْرَةٍ فَأَحْرَمَ بِحَجٍّ فَلَهُ تَحْلِيلُهُ، وَقِيلَ: لَا يُحَلِّلُهُ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ كَلَامَ الْبَغَوِيِّ، ثُمَّ قَالَ فِيمَا إذَا أَذِنَ فِي حَجٍّ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ: ظَنِّي أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ عَنْ خِلَافٍ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ فَحَصَلَ فِي الصُّورَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أصحها: وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ فِيمَا إذَا أَذِنَ فِي عُمْرَةٍ فَأَحْرَمَ بِحَجٍّ دُونَ عَكْسِهِ والثاني لَهُ تَحْلِيلُهُ فِيهِمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الدَّارِمِيِّ والثالث: لَيْسَ لَهُ فِيهِمَا، وَهَذَا غَلَطٌ فِي صُورَةِ الْإِذْنِ فِي عُمْرَةٍ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّمَتُّعِ فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ الْحَجِّ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، كَمَا لَوْ رَجَعَ فِي الْإِذْنِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ عَنْ ابْنِ كَجٍّ، وَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَا مِنْ الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا.
وَلَوْ أَذِنَ فِي الْحَجِّ أَوْ التَّمَتُّعِ فَقَرَنَ لَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ بِالِاتِّفَاقِ، صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التَّمَتُّعِ إذْنٌ فِي الْحَجِّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَفِي كَلَامِ الدَّارِمِيِّ إشَارَةٌ إلَى خِلَافٍ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، وَكَذَا إنْ أَذِنَ فِي الْإِفْرَادِ فَقَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ، وَكَذَا لَوْ أَذِنَ فِي التَّمَتُّعِ أَوْ الْإِفْرَادِ فَقَرَنَ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الدَّارِمِيِّ.
قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَلَوْ أَذِنَ فِي الْإِحْرَامِ مُطْلَقًا فَأَحْرَمَ وَأَرَادَ صَرْفَهُ إلَى نُسُكٍ وَأَرَادَ السَّيِّدُ غَيْرَهُ فَوَجْهَانِ: أحدهما: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ والثاني هُوَ كَاخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ إذَا قَالَتْ: رَاجَعْتَنِي بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِي، وَقَالَ: قَبْلَهَا فإن قلنا قَوْلَانِ فَمِثْلُهُ وإن قلنا: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ. وَقَوْلُهَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَمِثْلُهُ وإن قلنا: يُرَاعَى السَّابِقُ بِالدَّعْوَى فَمِثْلُهُ، قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَحْرَمَ فِي شَوَّالٍ، فَلَهُ فِيهِ تَحْلِيلُهُ قَبْلَ دُخُولِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ مَكَان فَأَحْرَمَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَهُ تَحْلِيلُهُ، وَمُرَادُ الدَّارِمِيِّ إذَا أَحْرَمَ مِنْ أَبْعَدَ مِنْهُ قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ أَذِنْتَ لِي فِي الْإِحْرَامِ وَقَالَ السَّيِّدُ: لَمْ آذَنْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ قَالَ: وَلَوْ نَذَرَ الْعَبْدُ حِجًّا، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا فَعَلَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ وَبَعْدَ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي فِعْلِهِ رَقِيقًا فَفَعَلَهُ، فَفِي صِحَّتِهِ الْوَجْهَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي قَضَاءِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ لِلْحِجَّةِ الْفَاسِدَةِ فِي حَالِ الصِّبَا وَالرِّقِّ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ صِحَّةُ نَذْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ وَالْأَمَةُ الْمُزَوَّجَةُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى فِي إحْرَامِ الْعَبْدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سَوَاءٌ، وَلَوْ أَحْرَمَ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَفِي جَوَازِ تَحْلِيلِهِ لِسَيِّدِهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: فِيهِ قَوْلَانِ كَمَنْعِهِ مِنْ سَفَرِ التِّجَارَةِ والثاني لَهُ تَحْلِيلُهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ مَنْفَعَةً فِي سَفَرِهِ لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَهَذَا الثَّانِي أَصَحُّ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ بَابِ الْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -29-         فرع: إذَا أَفْسَدَ الْعَبْدُ الْحِجَّةَ بِالْجِمَاعِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: فِيهِ وَجْهَانِ كَالصَّبِيِّ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمُصَنِّفُ فِي بَابِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ الصحيح: لُزُومُهُ والثاني لَا يَلْزَمُهُ، وَهَذَا الطَّرِيقُ غَرِيبٌ والطريق الثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي كُلِّ الطُّرُقِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ عَلَى قَوْلٍ، وَهَلْ يُجْزِئُهُ الْقَضَاءُ فِي حَالِ رِقِّهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّبِيِّ: أصحهما: يُجْزِئُهُ فَإِنْ قُلْنَا1: لَمْ يَلْزَمْ السَّيِّدَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ إنْ كَانَ إحْرَامُهُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَذَا إنْ كَانَ بِإِذْنِهِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِفْسَادِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَآخَرُونَ: إنْ قُلْنَا: الْقَضَاءُ عَلَى التَّرَاخِي لَمْ يَلْزَمْ السَّيِّدَ الْإِذْنُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ فَإِذَا قُلْنَا: يُجْزِئُهُ الْقَضَاءُ فِي حَالِ الرِّقِّ فَشَرَعَ فِيهِ فَعَتَقَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ أَوْ حَالَ الْوُقُوفِ أَجْزَأَهُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ قَضَى بَعْدَ الْعِتْقِ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ إذَا قَضَى بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ كَانَ عِتْقُهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَوْ حَالَ الْوُقُوفِ أَجْزَأَهُ الْقَضَاءُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا فَسَادُ الْأَدَاءِ لَأَجْزَأَهُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ عِتْقُهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يُجْزِئْهُ الْقَضَاءُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَعَلَيْهِ حِجَّةُ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ حِجَّةُ الْقَضَاءِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا وَاضِحًا قَرِيبًا فِي جِمَاعِ الصَّبِيِّ فِي الْإِحْرَامِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْقَاعِدَةَ الْمُتَنَاوِلَةَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: كُلُّ دَمٍ لَزِمَ الْعَبْدَ الْمُحْرِمَ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ كَاللِّبَاسِ وَالصَّيْدِ أَوْ بِالْفَوَاتِ لَمْ يَلْزَمْ السَّيِّدَ بِحَالٍ، سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ أَمْ بِغَيْرِهِ؟؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ، ثُمَّ إنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الْجَدِيدَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ وَعَلَى الْقَدِيمِ يَمْلِكُ بِهِ، فَإِنْ مَلَكَهُ، وَقُلْنَا: يَمْلِكُ لَزِمَهُ إخْرَاجُهُ وَعَلَى الْجَدِيدِ فَرْضُهُ الصَّوْمُ، وَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ فِي حَالِ الرِّقِّ إنْ كَانَ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَذَا بِإِذْنِهِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْتِزَامِهِ، وَلَوْ قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَحُكْمُ دَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ حُكْمُ دِمَاءِ الْمَحْظُورَاتِ، وَإِنْ قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ بِإِذْنِهِ فَهَلْ يَجِبُ الدَّمُ عَلَى السَّيِّدِ أَمْ لَا؟ قَالَ في "الجديد": لَا يَجِبُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَفِي الْقَدِيمِ قَوْلَانِ: أحدهما: هَذَا والثاني يَجِبُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ يَكُونُ ضَامِنًا لِلْمَهْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لِلْمَهْرِ وَلِلدَّمِ بَدَلٌ، وَهُوَ الصَّوْمُ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِهِ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَحْرَمَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَأُحْصِرَ وَتَحَلَّلَ فإن قيل: لَا بَدَلَ لِدَمِ الْإِحْصَارِ صَارَ السَّيِّدُ ضَامِنًا عَلَى الْقَدِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا وإن قلنا: لَهُ بَدَلٌ فَفِي صَيْرُورَتِهِ ضَامِنًا لَهُ فِي الْقَدِيمِ قَوْلَانِ وَإِذَا لَمْ نُوجِبْ الدَّمَ عَلَى السَّيِّدِ فَوَاجِبُ الْعَبْدِ الصَّوْمُ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ لِإِذْنِهِ فِي سَبَبِهِ، وَلَوْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ هَدْيًا وَقُلْنَا: يَمْلِكُهُ أَرَاقَهُ وَإِلَّا لَمْ تَجُزْ إرَاقَتُهُ، وَلَوْ أَرَاقَهُ السَّيِّدُ عَنْهُ فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ أَرَاقَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ جَازَ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْإِيَاسُ مِنْ تَكْفِيرِهِ، وَالتَّمْلِيكُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْ مَيِّتٍ جَازَ.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر (ش) قلت ولعل العبارة هكذا: فإن قلنا يلزمه القضاء لم يلزم السيد الخ (ط).

 

 

ج / 7 ص -30-         وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِلَا خِلَافٍ فِيهِ، صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ قَبْلَ صَوْمِهِ وَوَجَدَ هَدْيًا، فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إنْ اعْتَبَرْنَا فِي الْكَفَّارَةِ حَالَ الْأَدَاءِ، أَوْ الْأَغْلَظَ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْوُجُوبِ فَلَهُ الصَّوْمُ، وَهَلْ لَهُ الْهَدْيُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ: أصحهما: لَهُ ذَلِكَ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ يَجِدُ الْهَدْيَ والثاني؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ حَالَ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا نَذَرَ الْعَبْدُ الْحَجَّ، فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ فِي حَالِ رِقِّهِ؟ قَالَ الرُّويَانِيُّ فِيهِ وَجْهَانِ كَمَا فِي قَضَاءِ الْحِجَّةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: حَيْثُ جَوَّزْنَا لِلسَّيِّدِ تَحْلِيلَهُ أَرَدْنَا أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالتَّحَلُّلِ لَا أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيَمْنَعَهُ الْمُضِيَّ، وَيَأْمُرَهُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ أَوْ يَفْعَلَهَا بِهِ، وَلَا يَرْتَفِعُ الْإِحْرَامُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا بِلَا خِلَافٍ. وَحَيْثُ جَازَ لِلسَّيِّدِ تَحْلِيلُهُ، جَازَ لِلْعَبْدِ التَّحَلُّلُ، وَطَرِيقُ التَّحَلُّلِ أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا - وَقُلْنَا: يَمْلِكُهُ - ذَبَحَ وَنَوَى التَّحَلُّلَ، وَحَلَقَ وَنَوَى بِهِ أَيْضًا التَّحَلُّلَ، وَإِنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ فَطَرِيقَانِ: أحدهما: أَنَّهُ كَالْحُرِّ، فَيَتَوَقَّفُ تَحَلُّلُهُ عَلَى وُجُودِ الْهَدْيِ إنْ قُلْنَا: لَا بَدَلَ لِدَمِ الْإِحْصَارِ - أَوْ عَلَى الصَّوْمِ إنْ قُلْنَا لَهُ بَدَلٌ، هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَى أَظْهَرِهِمَا لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَكْفِيهِ نِيَّةُ التَّحَلُّلِ وَالْحَلْقِ إنْ قُلْنَا: هُوَ نُسُكٌ والطريق الثاني: الْقَطْعُ بِهَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ لِعِظَمِ الْمَشَقَّةِ فِي انْتِظَارِ الْعِتْقِ، وَأَنَّ مَنَافِعَهُ لِسَيِّدِهِ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهُ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَحْلِيلَ الْعَبْدِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي بَابِ الْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: حَيْثُ جَازَ تَحْلِيلُهُ فَأَعْتَقَهُ السَّيِّدُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحْلِيلُ بَلْ يَلْزَمُهُ إتْمَامُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا جَازَ لِحَقِّ السَّيِّدِ، وَقَدْ زَالَ، فَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ فَلَهُ حُكْمُ الْفَوَاتِ فِي حَقِّ الْحُرِّ الْأَصْلِيِّ. هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ حَجَّ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ، أَوْ حَجَّ الْعَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "
أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى" فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ فِي الْإِحْرَامِ نَظَرْتَ - فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ فِي حَالِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ - أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَفْعَالِ النُّسُكِ فِي حَالِ الْكَمَالِ فَأَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ لَمْ يُجْزِئْهُ[لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ1 وَقْتَ الْعِبَادَةِ] وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ فَوَاتِ وَقْتِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمَوْقِفِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فِي حَالِ الْكَمَالِ كَفِعْلِهَا فِي حَالِ الْكَمَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ ثُمَّ كَمَلَ جُعِلَ كَأَنَّهُ بَدَأَ بِالْإِحْرَامِ فِي الْكَمَالِ. وَإِذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، جُعِلَ كَأَنَّهُ صَلَّى فِي حَالِ الْبُلُوغِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ الْوُقُوفَ فِي حَالِ الْكَمَالِ، فَأَشْبَهَ إذَا كَمَلَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَيُخَالِفُ الْإِحْرَامَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إدْرَاكَ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من نسخة "المذهب" المطبوعة (ط).

 

ج / 7 ص -31-         الْكَمَالِ، وَالْإِحْرَامُ قَائِمٌ، فَوِزَانُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ يُدْرِكَ الْكَمَالَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَيُجْزِئُهُ، وَهَا هُنَا أَدْرَكَ الْكَمَالَ وَقَدْ انْقَضَى الْوُقُوفُ فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الْكَمَالَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْرَامِ، وَيُخَالِفُ الصَّلَاةَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُجْزِئُهُ بِإِدْرَاكِ الْكَمَالِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، وَلَوْ فَرَغَ مِنْ الْحَجِّ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْكَمَالَ لَمْ يُجْزِئْهُ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِيهِ، وَرِوَايَةُ الْمَرْفُوعِ قَوِيَّةٌ. وَلَا يَضُرُّ تَفَرُّدُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ بِهَا، فَإِنَّهُ ثِقَةٌ مَقْبُولٌ ضَابِطٌ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" وقوله: كَمَلَ هُوَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا - ثَلَاثُ لُغَاتٍ، وَفِي الْكَسْرِ ضَعْفٌ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَإِذَا أَحْرَمَ الصَّبِيُّ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ، فَلَهُمَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أحدها: أَنْ يَكُونَ الْبُلُوغُ وَالْعِتْقُ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ، فَلَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، بَلْ تَكُونُ تَطَوُّعًا، فَإِنْ اسْتَطَاعَا بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَهَذَا لا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ إجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلِأَنَّ حَجَّهُ وَقَعَ تَطَوُّعًا فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْوَاجِبِ بَعْدَهُ.
الثاني: أَنْ يَكُونَ الْبُلُوغُ وَالْعِتْقُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ لَكِنَّهُ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ فَلَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ وَقْتَ الْعِبَادَةِ فَأَشْبَهَ مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ فَوَاتِ الرُّكُوعِ، فَإِنَّهُ لَا تُحْسَبُ لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ أَوْ حَالَ الْوُقُوفِ، فَيُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُمَا، وَالْخِلَافُ يُتَصَوَّرُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعَبْدِ دُونَ الصَّبِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ. دَلِيلُنَا أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ كَامِلًا فَأَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ كَمَلَ حَالَةَ الْإِحْرَامِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَقَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِأَنْ وَقَفَ يَوْمَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ فَارَقَهَا، ثُمَّ بَلَغَ أَوْ عَتَقَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى عَرَفَاتٍ فَحَصَلَ فِيهَا، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ بَاقٍ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ بَلَغَ، وَهُوَ وَاقِفٌ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا: الصحيح: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يُجْزِئُهُ، وَسَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَاضِحًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ بَلَغَ أَوْ عَتَقَ فِي حَالِ الْوُقُوفِ أَوْ بَعْدَهُ، وَعَادَ إلَى عَرَفَاتٍ فِي وَقْتِهِ أَوْ قَبْلَ الْوُقُوفِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْعَ عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ، فَلَا بُدَّ مِنْ السَّعْيِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ، وَإِنْ كَانَ سَعَى فِي حَالِ الصِّبَا وَالرِّقِّ فَفِي وُجُوبِ إعَادَتِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يَجِبُ كَمَا لَا يَجِبُ إعَادَةُ الْإِحْرَامِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: وأصحهما: يَجِبُ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي "الْإِفْصَاحِ"، وَالدَّارِمِيُّ وَآخَرُونَ، وَرَجَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي حَالِ النَّقْصِ فَوَجَبَتْ إعَادَتُهُ بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ مُسْتَدَامٌ.
وأما: السَّعْيُ فَانْقَضَى بِكَمَالِهِ فِي حَالِ النَّقْصِ، فَإِذَا وَقَعَ حَجُّهُ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ

 

ج / 7 ص -32-         الْإِسْلَامِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ طَرِيقَانِ أصحهما: عَلَى قَوْلَيْنِ: أصحهما: لَا دَمَ إذْ لَا إسَاءَةَ وَلَا تَقْصِيرَ والثاني يَجِبُ لِفَوَاتِ الْإِحْرَامِ الْكَامِلِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنَّ كَمَالَهُ أَنْ يُحْرِمَ بَالِغًا حُرًّا مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ.
والطريق الثاني: لَا يَجِبُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ، وَجَزَمَ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا لَمْ يَعُدْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ إلَى الْمِيقَاتِ، فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَلَا دَمَ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِالْعَوْدَةِ هُنَا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالطَّوَافُ فِي الْعُمْرَةِ كَالْوُقُوفِ فِي الْحَجِّ فَإِذَا بَلَغَ أَوْ عَتَقَ أَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَا لَوْ بَلَغَ أَوْ عَتَقَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَا، وَحَيْثُ أَجْزَأَهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتِهِ، فَهَلْ نَقُولُ: وَقَعَ إحْرَامُهُمَا أَوَّلًا تَطَوُّعًا؟ ثُمَّ انْقَلَبَ فَرْضًا عَقِبَ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ؟ أَمْ وَقَعَ إحْرَامُهُمَا مَوْقُوفًا؟ فَإِنْ أَدْرَكَا بِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ تَبَيَّنَّا وُقُوعَهُ فَرْضًا وَإِلَّا فَنَفْلًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ أصحهما: وَقَعَ تَطَوُّعًا وَانْقَلَبَ فَرْضًا، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ في "المجموع" قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: وَفَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّا إنْ قُلْنَا: وَقَعَ نَفْلًا وَسَعَى عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ، ثُمَّ بَلَغَ، وَجَبَتْ إعَادَةُ السَّعْيِ وَإِلَّا فَلَا.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْحَابَ قَالُوا: إذَا أَفْسَدَ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ حَجَّهُمَا وَقُلْنَا: يَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ، وَلَا يَصِحُّ فِي الصِّبَا وَالرِّقِّ، أَوْ قُلْنَا: يَصِحُّ وَلَمْ يَفْعَلَاهُ حَتَّى كَمَلَا بِالْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْحَجَّةُ لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الْإِفْسَادِ لَأَجْزَأَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ بَلَغَ أَوْ عَتَقَ قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ وَقَعَ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُجْزِئُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الْإِفْسَادِ بِأَنْ بَلَغَ أَوْ عَتَقَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ لَمْ يَقَعْ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَقْضِيَ، فَإِنْ نَوَى الْقَضَاءَ أَوَّلًا، وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا أَصْلٌ لِكُلِّ حَجَّةٍ فَاسِدَةٍ إذَا قُضِيَتْ هَلْ يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؟ فِيهِ هَذَا التَّفْصِيلُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَاضِحًا فِي جِمَاعِ الصَّبِيِّ.
قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ فَاتَ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ الْحَجُّ وَبَلَغَ وَعَتَقَ. فَإِنْ كَانَ الْبُلُوغُ وَالْعِتْقُ قَبْلَ الْفَوَاتِ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضِ الْإِسْلَامِ وَالْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَوَاتِ فَعَلَيْهِ حِجَّتَانِ حَجَّةُ الْفَوَاتِ وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيَبْدَأُ بِالْإِسْلَامِ، قَالَ: وَإِنْ أَفْسَدَ الْحُرُّ الْبَالِغُ حَجَّهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ ثُمَّ فَاتَهُ الْوُقُوفُ أَجْزَأَتْهُ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْفَوَاتِ وَالْقَضَاءِ، وَعَلَيْهِ بَدَنَتَانِ إحْدَاهُمَا لِلْإِفْسَادِ وَالْأُخْرَى لِلْفَوَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي حُكْمِ إحْرَامِ الْكَافِرِ وَمُرُورِهِ بِالْمِيقَاتِ وَإِسْلَامِهِ فِي إحْرَامِهِ، وَهَذَا الْفَرْعُ ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ فِي "مُخْتَصَرِهِ" وَالْأَصْحَابُ أَجْمَعُونَ، مَعَ مَسَائِلِ حَجِّ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ، وَتَرْجَمُوا لِلْجَمِيعِ بَابًا وَاحِدًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَسْأَلَةً مِنْهُ فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ، فَرَأَيْتُ ذِكْرَهُ هُنَا أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ، وَمُبَادَرَةً إلَى الْخَيْرَاتِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَتَى كَافِرٌ الْمِيقَاتَ يُرِيدُ النُّسُكَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ، لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ

 

ج / 7 ص -33-         بِلَا خِلَافٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ وَلَزِمَهُ الْحَجُّ لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، فَلَهُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ سَنَتِهِ، وَلَهُ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي، وَالْأَفْضَلُ حَجُّهُ مِنْ سَنَتِهِ فَإِنْ حَجَّ مِنْ سَنَتِهِ، وَعَادَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ أَوْ عَادَ مِنْهُ مُحْرِمًا بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا دَمَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بَلْ أَحْرَمَ وَحَجَّ مِنْ مَوْضِعِهِ، لَزِمَهُ الدَّمُ كَالْمُسْلِمِ إذَا جَاوَزَهُ بِقَصْدِ النُّسُكِ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ إلَّا الْمُزَنِيَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا دَمَ؛ لِأَنَّهُ مَرَّ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ النُّسُكِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ مُرِيدِ النُّسُكِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا أَسْلَمَ وَأَمْكَنَهُ مِنْ سَنَتِهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَتِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَإِنْ اسْتَطَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِإِحْرَامِهِ فِي الْكُفْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا أَوْ وَطِئَ أَوْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ حَلَقَ شَعْرَهُ أَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ، وَكُلُّ هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَوْ مَرَّ كَافِرٌ بِالْمِيقَاتِ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ لِيَحُجَّ قَابِلًا مِنْهَا وَأَسْلَمَ قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَإِنْ كَانَ حِينَ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ أَرَادَ حِجَّ تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ حَجَّ بَعْدَهَا فَلَا دَمَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى تَارِكِ الْمِيقَاتِ إذَا حَجَّ مِنْ سَنَتِهِ وَهَذَا لَمْ يَحُجَّ مِنْ سَنَتِهِ وَإِنْ كَانَ نَوَى حَالَ مُرُورِهِ حِجَّ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ وَجْهَانِ قَالَ: وَلَوْ كَانَ حِينَ مُرُورِهِ لَا يُرِيدُ إحْرَامًا بِشَيْءٍ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَفَعَلَهُ مِنْ مَكَّةَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ الْوَجْهَانِ كَالْكَافِرِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حَجِّ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ سِوَى مَا سَبَقَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ إذَا أَحْرَمَا وَبَلَغَ وَعَتَقَ قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ أَجْزَأَهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَقَالَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الْعَبْدِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُجْزِئُهُمَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أما: إذَا لَمْ يَبْلُغْ أَوْ لَمْ يُعْتَقْ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ فَلَا يُجْزِئُهُ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ ذَهَابِ وَقْتِ الْوُقُوفِ أَوْ فِي الْوَقْتِ وَلَمْ يَعُدْ إلَى عَرَفَاتٍ كَمَا سَبَقَ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُجْزِئُهُمَا إنْ كَانَ وَقْتُ الْوُقُوفِ بَاقِيًا وَإِنْ لَمْ يَرْجِعَا وَالصَّحِيحُ لِغَيْرِ ابْنِ سُرَيْجٍ الْأَوَّلُ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ خِلَافًا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ، وَالْعَبْدَ إذَا حَجَّ ثُمَّ عَتَقَ أَنَّ عَلَيْهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إنْ اسْتَطَاعَا، وَإِحْرَامُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ دَاوُد وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ بُطْلَانُهُ، وَلَوْ مَرَّ الْكَافِرُ بِالْمِيقَاتِ مُرِيدًا نُسُكًا وَجَاوَزَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ أَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ لَزِمَهُ دَمٌ كَمَا سَبَقَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ وَدَاوُد: لَا يَلْزَمُهُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ يَسُدُّ1 فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ دَفْعُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولا تستقيم العبارة هكذا وإنما يمكن أن يقال: لسفه كغيره في وجوب الحج الخ: المطيعي.

 

ج / 7 ص -34-         الْمَالِ إلَيْهِ، بَلْ يَصْحَبُهُ الْوَلِيُّ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُنَصِّبُ قَيِّمًا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ، قَالَ الْبَغَوِيّ: وَإِذَا شَرَعَ السَّفِيهُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ أَوْ حَجٍّ نَذَرَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ تَحْلِيلُهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ إلَى فَرَاغِهِ، وَلَوْ شَرَعَ فِي حَجِّ تَطَوُّعٍ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ بَعْدَ الْحَجْرِ فَلِلْوَلِيِّ تَحْلِيلُهُ إنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ تَزِيدُ عَلَى نَفَقَتِهِ الْمَعْهُودَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ أَوْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ يَفِي مَعَ قَدْرِ النَّفَقَةِ الْمَعْهُودَةِ بِمُؤْنَةِ سَفَرِهِ وَجَبَ إتْمَامُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيلُهُ.
فرع: يَصِحُّ حَجُّ الْأَغْلَفِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً وأما حديث أَبِي بُرْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لا يَحُجُّ الأَغْلَفُ حَتَّى يُخْتَنَ" فَضَعِيفٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِ الْخِتَانِ مِنْ "الْإِشْرَافِ: "هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ.
فرع: إذَا حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ أَوْ رَاكِبًا دَابَّةً مَغْصُوبَةً أَثِمَ وَصَحَّ حَجُّهُ وَأَجْزَأَهُ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْعَبْدَرِيُّ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُجْزِئُهُ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْحَجَّ أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ وَالتَّحْرِيمُ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، وَالْمُسْتَطِيعُ اثْنَانِ: مُسْتَطِيعٌ بِنَفْسِهِ وَمُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ، وَالْمُسْتَطِيعُ بِنَفْسِهِ يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَسَافَةٍ تَقْصُرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَاجِدًا لِلزَّادِ وَالْمَاءِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ، وَوَاجِدًا لِرَاحِلَةٍ تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَأَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ آمِنًا مِنْ غَيْرِ خُفَارَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْتِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ السَّيْرِ وَالْأَدَاءِ فأما: إذَا كَانَ مَرِيضًا تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ فَلَا يَلْزَمُهُ، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ" وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "سُنَنِهِ" بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ إسْنَادُهُ غَيْرَ قَوِيٍّ فَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ نَحْوَهُ وَالْخُفَارَةُ - بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ - حَكَاهُنَّ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَهِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ فِي الطَّرِيقِ لِلْحِفْظِ، وَفِي الطَّرِيقِ لُغَتَانِ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ هُنَا تَذْكِيرَهُ بِقَوْلِهِ: آمِنًا: وَلَمْ يَقُلْ: آمِنَةً.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَالِاسْتِطَاعَةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهَا وَشُرُوطِهَا. وَمَذْهَبُنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ نَوْعَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ: اسْتِطَاعَةٌ: بِمُبَاشَرَةٍ بِنَفْسِهِ وَاسْتِطَاعَةٌ: بِغَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ شُرُوطُهُ الْخَمْسَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ: أحدها: أَنْ يَكُونَ بَدَنُهُ صَحِيحًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُشْتَرَطُ فِيهِ قُوَّةٌ يَسْتَمْسِكُ بِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، فَإِنْ وَجَدَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ مُسْتَطِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -35-         قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الزَّادَ لَمْ يَلْزَمْهُ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: "قَامَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ" فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَاءِ أَشَدُّ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الزَّادِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ الزَّادَ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْلَى، وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ وَالزَّادَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ لَا يُبَاعَ مِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يَذْهَبُ بِهِ جَمِيعُ مَالِهِ، وَفِي إيجَابِ ذَلِكَ إضْرَارٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ: إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي إسْنَادِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ قَدْ قَلَّ حِفْظُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قلت: وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْحُفَّاظُ عَلَى تَضْعِيفِ إبْرَاهِيمَ الْخُوزِيِّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَشْيُ عَلَى أَحَدٍ فِي الْحَجِّ، وَإِنْ أَطَاقَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِيهَا مُنْقَطِعًا، وَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ تَثْبِيتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْخُوزِيِّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا هُوَ الَّذِي عَنَى الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: يَمْتَنِعُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ تَثْبِيتِهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنْ تَثْبِيتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْخَوْزِيِّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ الْخُوزِيِّ وَلَكِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْخُوزِيِّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَرَاهُ إلَّا مُوهَمًا فَالصَّوَابُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا وأشهرها: حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ الْخُوزِيِّ، وَيَنْضَمُّ إلَيْهِ مُرْسَلُ الْحَسَنِ، وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا، وَرَوَى الْحَاكِمُ حَدِيثَ أَنَسٍ وَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْحَاكِمَ مُتَسَاهِلٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رحمهم الله -: وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ وُجُودُ الزَّادِ وَالْمَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِوُجُودِهِ فِيهَا وَيُشْتَرَطُ وُجُودُهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَإِنْ زَادَ لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ كَعَدَمِهِ وَيُشْتَرَطُ وُجُودُ أَوْعِيَةِ الزَّادِ وَالْمَاءِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَفَرِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَتْ سَنَةَ جَدْبٍ وَخَلَتْ بَعْضُ الْمَنَازِلِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِحَمْلِ الزَّادِ مِنْهَا مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ انْقَطَعَتْ الْمِيَاهُ فِي بَعْضِهَا، لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَثَمَنُ الْمِثْلِ الْمُعَيَّنُ فِي الْمَاءِ وَالزَّادِ هُوَ الْقَدْرُ اللَّائِقُ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَإِنْ وَجَدَهُمَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ، لَزِمَهُ تَحْصِيلُهُمَا وَالْحَجُّ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَسْعَارُ غَالِيَةً أَمْ رَخِيصَةً، إذَا وَفَى مَالُهُ بِذَلِكَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجِبُ حَمْلُ الْمَاءِ وَالزَّادِ بِقَدْرِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، كَحَمْلِ الزَّادِ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى1 وَحَمْلِ الْمَاءِ مَرْحَلَتَيْنِ وَثَلَاثًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ وَالْمَوَاضِعِ، وَيُشْتَرَطُ وُجُودُ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ولعله "من الكوفة إلى مكة" كما في "الروضة" من السيد الحداد.

 

 

ج / 7 ص -36-         آلاتِ الْحَمْلِ وأما عَلَفُ الدَّوَابِّ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَعْظُمُ فِي حَمْلِهِ لِكَثْرَتِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتَبِرَ فِيهِ الْعَادَةَ كَالْمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ ظَنَّ كَوْنَ الطَّرِيقِ فِيهِ مَانِعٌ، كَعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ الْعَلَفِ، أَوْ أَنَّ فِيهِ عَدُوًّا أَمْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَتَرَكَ الْحَجَّ، فَبَانَ أَنْ لَا مَانِعَ، فَقَدْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْحَجِّ، وَصَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ الْمَانِعِ، وَلَا عَدَمَهُ قَالَ الدَّارِمِيُّ: إنْ كَانَ هُنَاكَ أَصْلٌ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَجِبُ الْحَجُّ، وَهَذَا فِي الْعَدُوِّ ظَاهِرٌ وأما: فِي وُجُودِ الْمَاءِ وَالْعَلَفِ فَمُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُمَا.
فرع: لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَصْرِفُهُ فِي الزَّادِ وَالْمَاءِ، وَلَكِنَّهُ كَسُوبٌ يَكْتَسِبُ مَا يَكْفِيهِ وَوَجَدَ نَفَقَةً، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ تَعْوِيلًا عَلَى الْكَسْبِ؟ حَكَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ إنْ كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، وَلَا يَكْتَسِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ إلَّا كِفَايَةَ يَوْمِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْ الْكَسْبِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا وَيَكْتَسِبُ فِي يَوْمٍ كِفَايَةَ أَيَّامٍ لَزِمَهُ الْحَجُّ، قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ يَوْمَ الْعِيدِ لَا تُجْعَلُ كَمِلْكِ الصَّاعِ فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ لَمْ يَجِدْ رَاحِلَةً لَمْ يَلْزَمْهُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنْ وَجَدَ رَاحِلَةً لَا تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الثُّبُوتُ عَلَى الْقَتَبِ وَالزَّامِلَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يَجِدَ عَمَارِيَّةً أَوْ هَوْدَجًا، وَإِنْ بَذَلَ لَهُ رَجُلٌ رَاحِلَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنَّةً، وَفِي تَحَمُّلِ الْمِنَّةِ مَشَقَّةٌ فَلَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ وَجَدَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّادِ.
الشرح: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الزَّامِلَةُ بَعِيرٌ يَسْتَظْهِرُ بِهِ الْمُسَافِرُ، يَحْمِلُ عَلَيْهِ طَعَامَهُ وَمَتَاعَهُ وأما: الْعِمَارِيَّةُ - فَبِفَتْحِ الْعَيْنِ - وَالصَّوَابُ تَخْفِيفُ مِيمِهَا وَسَبَقَ بَيَانُهَا وَاضِحًا فِي بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَسَبَقَ بَيَانُ الْهَوْدَجِ قَرِيبًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمِحَفَّةِ فِي حَجِّ الصَّبِيِّ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ تَقْصُرُ فِيهَا الصَّلَاةُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ، إلَّا إذَا وَجَدَ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا أَوْ وَجَدَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ أَوْ عَجَزَ عَنْ ثَمَنِهَا أَوْ أُجْرَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ وَكَانَ عَادَتَهُ، أَمْ لَا، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلنَّاذِرِ الْحَجُّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْمِلٍ، وَلَا يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي حَقِّهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَحْمِلِ، بَلْ يُشْتَرَطُ قُدْرَتُهُ عَلَى رَاحِلَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ. مُقْتَبَةً وَإِنْ كَانَتْ زَامِلَةً - فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ - فَإِنْ كَانَ شَيْخًا هَرَمًا أَوْ شَابًّا ضَعِيفًا أَوْ عَادَتُهُ التَّرَفُّهَ وَنَحْوَ ذَلِكَ - اُشْتُرِطَ وُجُودُ الْمَحْمِلِ، وَرَاحِلَةٌ تَصْلُحُ لِلْمَحْمِلِ.
قَالَ صاحب "الشامل" وَآخَرُونَ: وَلَوْ وَجَدَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً فِي رُكُوبِ الْمَحْمِلِ اُشْتُرِطَ فِي حَقِّهِ الْكَنِيسَةُ1 وَنَحْوُهَا بِحَيْثُ تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْمَشَقَّةُ الشَّدِيدَةُ قَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَآخَرُونَ: وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَرْأَةِ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأصح أن يقال: "التكنيس" وهو دخول الهودج أو الخيمة (ط).

 

ج / 7 ص -37-         وُجُودُ الْمَحْمِلِ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُسْتَمْسِكٍ عَلَى الْمُقْتَبِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِرُكُوبِ اثْنَيْنِ فِي مَحْمِلٍ، فَإِذَا وَجَدَ مُؤْنَةَ مَحْمِلٍ أَوْ شِقَّ مَحْمِلٍ وَوَجَدَ شَرِيكًا يَرْكَبُ مَعَهُ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ، لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الشَّرِيكَ لَمْ يَلْزَمْهُ سَوَاءٌ وَجَدَ مُؤْنَةَ الْمَحْمِلِ أَوْ الشِّقِّ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ تَخَرُّجُهُ عَلَى إلْزَامِ أُجْرَةِ الْبَذْرَقَةِ، قَالَ: وَفِي كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إشَارَةٌ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ لِذَهَابِهِ وَلَمْ يَجِدْ لِرُجُوعِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ فِي بَلَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْبِلَادَ كُلَّهَا فِي حَقِّهِ وَاحِدَةٌ والثاني لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْحِشُ بِالِانْقِطَاعِ عَنْ الْوَطَنِ وَالْمُقَامِ فِي الْغُرْبَةِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ".
الشرح: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ فِي بَلَدِهِ أَهْلٌ أَوْ عَشِيرَةٌ اُشْتُرِطَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَسَائِرِ مُؤَنِ الْحَجِّ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فَإِنْ مَلَكَهُ لِذَهَابِهِ دُونَ رُجُوعِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِلَا خِلَافٍ، إلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْحَنَّاطِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فَحَكَيَا وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ وَلَا عَشِيرَةٌ هَلْ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِلرُّجُوعِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ، وَهُمَا مَشْهُورَانِ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ أَصَحَّهُمَا الِاشْتِرَاطُ فَلَا يَلْزَمُهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَدَلِيلُهُ فِي الْكِتَابِ، وَالْوَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي اشْتِرَاطِ الرَّاحِلَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَهَلْ يُخَصُّ الْوَجْهَانِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِبَلَدِهِ مَسْكَنٌ؟ فِيهِ احْتِمَالَاتٌ لِلْإِمَامِ أصحها: عِنْدَهُ التَّخْصِيصُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ الْمَعَارِفُ وَالْأَصْدِقَاءُ كَالْعَشِيرَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِهِمْ مُتَيَسِّرٌ، فَيَجْرِي فِيهِ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ عَشِيرَةٌ وَلَا أَهْلٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ وَجَدَ مَا يَشْتَرِي بِهِ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِدَيْنٍ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَالًّا كَانَ الدَّيْنُ أَوْ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْحَالَّ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي فَقُدِّمَ عَلَيْهِ، وَالْمُؤَجَّلُ يَحُلُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا صَرَفَ مَا مَعَهُ فِي الْحَجِّ لَمْ يَجِدْ مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ".
الشرح: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الإملاء"، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا أَجَلًا لَا يَنْقَضِي إلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ الْحَجِّ لَزِمَهُ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَقَطَعَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ، وَنَقَلَ كَثِيرُونَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِتَأْخِيرِهِ إلَى مَا بَعْدَ الْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ - فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ فِي الْحَالِ، بِأَنْ كَانَ حَالًّا عَلَى مَلِيءٍ مُقِرٍّ، أَوْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ - فَهُوَ كَالْحَالِّ فِي يَدِهِ، وَيَجِبُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ بِأَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ حَالًّا عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ جَاحِدٍ - وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ - لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِسَبَبِ دَيْنٍ عَلَيْهِ فَعَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِدَانَةِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمْ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ لِنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْفَوْرِ وَالْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ لِمَسْكَنٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ خَادِمٍ يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ".

 

ج / 7 ص -38-         الشرح: أَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكِسْوَةُ مَنْ تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ وَسُكْنَاهُ كَنَفَقَتِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُؤَنِ أما: إذَا احْتَاجَ إلَى مَسْكَنٍ أَوْ خَادِمٍ يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ لِمَنْصِبِهِ أَوْ زَمَانَتِهِ وَنَحْوِهِمَا وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَفْضُلُ عَنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَكَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ لَا يَلْزَمُهُ، وَصَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ وَمِمَّنْ قَطَعَ بِهِ مَعَ الْمُصَنِّفِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه"، وَفِي "المجرد" وَالدَّارِمِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ في "المجموع" عَنْ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَ تَصْحِيحَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَقَاسُوهُ عَلَى الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ فِيهِمَا، وَعَلَى ثِيَابِهِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ حَاجَاتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَبَيْعُ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ فِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِيمَا نَقَلَهُ صاحب "الشامل"، وَقَطَعَ بِهِ أَيْضًا الْبَنْدَنِيجِيُّ، صَحَّحَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْمُتَوَلِّي، وَعَلَى هَذَا يَسْتَأْجِرُ مَسْكَنًا وَخَادِمًا، وَفَرَّقَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ، بِأَنَّ لَهَا بَدَلًا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ كَمَا سَبَقَ قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: وَلَمْ يَنُصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ قَرِيبًا مِنْهَا، فَإِذَا اشْتَرَطْنَا لِوُجُوبِ الْحَجِّ زِيَادَةً عَلَى الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ فَلَمْ يُوجَدَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ مَالٌ يَصْرِفُهُ فِيهِمَا، وَلَا يَفْضُلُ شَيْءٌ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ،
هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مُسْتَغْرِقَةً لِحَاجَتِهِ، وَكَانَتْ سُكْنَى مِثْلِهِ وَالْعَبْدُ لَائِقٌ بِخِدْمَةِ مِثْلِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ بِبَعْضِ الدَّارِ وَوَفَى ثَمَنُهُ بِمُؤْنَةِ الْحَجِّ، وَيَكْفِيهِ لِسُكْنَاهُ بَاقِيهَا، أَوْ كَانَا لَا يَلِيقَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ أَبْدَلَهُمَا أَوْفَى الزَّائِدُ بِمُؤْنَةِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ هُنَا وَكَذَا نَقَلَ الرَّافِعِيُّ أَنَّ الْأَصْحَابَ أَطْلَقُوهُ هُنَا، قَالَ: لِكُلٍّ فِي بَيْعِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ النَّفِيسَيْنِ الْمَأْلُوفَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ جَرَيَانِهِمَا هُنَا وَهَذَا لَمْ يَنْقُلُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ جَرَيَانُهُمَا بِلَازِمٍ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ لَهَا بَدَلٌ، وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ فِي الْكَفَّارَةِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِمَا هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فرع: لَوْ كَانَ فَقِيهًا وَلَهُ كُتُبٌ فَهَلْ يَلْزَمُهُ بَيْعُهَا لِلْحَجِّ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه": إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ إلَّا نُسْخَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى كُلِّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نُسْخَتَانِ لَزِمَهُ بَيْعُ إحْدَاهُمَا فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهَا، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَقَالَ فِي "مُجَرَّدِهِ: "لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ كُتُبِهِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ نُسْخَتَانِ مِنْ كِتَابٍ، فَيَجِبُ بَيْعُ إحْدَاهُمَا وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه": يَلْزَمُ الْفَقِيهَ بَيْعُ كُتُبِهِ فِي الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَصَرْفُ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ، وَكَذَا الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ ضَعِيفٌ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ الضَّعِيفَةِ فِي وُجُوبِ بَيْعِ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ لِلْحَجِّ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَذْهَبَ لَا يُلْزِمُهُ ذَلِكَ، فَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فَهُوَ الْجَارِي عَلَى عَادَةِ الْمَذْهَبِ، وَعَلَى مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ هُنَا فِي الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ، وَعَلَى مَا قَالُوهُ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ وَبَابِ التَّفْلِيسِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ فِي أَوَّلِ بَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، فِي فَصْلِ سَهْمِ الْفَقِيرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ احْتَاجَ إلَى النِّكَاحِ وَهُوَ يَخَافُ الْعَنَتَ قُدِّمَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْحَجُّ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ".
الشرح: قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَوْ مَلَكَ فَاضِلًا عَنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُمْكِنُهُ بِهِ الْحَجُّ، وَاحْتَاجَ إلَى

 

ج / 7 ص -39-         النِّكَاحِ لِخَوْفِ الْعَنَتِ، فَصَرْفُ الْمَالِ إلَى النِّكَاحِ أَهَمُّ مِنْ صَرْفِهِ إلَى الْحَجِّ، هَذِهِ عِبَارَةُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ حَاجَةَ النِّكَاحِ نَاجِزَةٌ، وَالْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَالسَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَيَصْرِفُ مَا مَعَهُ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِهَذَا، وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ لَكِنْ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي، ثُمَّ إنْ لَمْ يَخَفْ الْعَنَتَ فَتَقْدِيمُ الْحَجِّ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَالنِّكَاحُ. هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ خَلَائِقُ مِنْ الْأَصْحَابِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَيَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَكِنْ لَهُ صَرْفُ هَذَا الْمَالِ إلَى النِّكَاحِ وَهُوَ أَفْضَلُ، وَيَبْقَى الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ "التَّعْلِيقِ" و"المجرد" وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ الْمَجْمُوعِ و"التجريد"، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالدَّارِمِيُّ، وَصاحب "الشامل"، وَصَاحِبُ "التتمة" وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَصاحب "البيان"، وَآخَرُونَ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الرَّافِعِيِّ فِيمَا قَالَهُ عَنْ الْجُمْهُورِ وَفَهْمِهِ عَنْهُمْ.
وأما: نَقْلُهُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ صَحِيحٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْجُرْجَانِيُّ فِي "الْمُعَايَاةِ" بِهِ فَقَالَ: لَا يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا، وَهَذَا لَفْظُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ قَالَ: قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَوْ فَضَلَ شَيْءٌ وَخَافَ الْعَنَتَ لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ، وَكَانَ بِحَيْثُ يُبَاحُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحُجَّ، بَلْ لَهُ صَرْفُ الْمَالِ إلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ ضَرَرًا بِهِ، وَالْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي، قَالَ: فَإِذَنْ لَا اسْتِطَاعَةَ وَلَا وُجُوبَ قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ قَاطِعِينَ بِهِ قِيَاسُ طُرُقِنَا وَإِنْ لَمْ نَجِدْهُ مَنْصُوصًا فِيهَا، هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ بِحُرُوفِهِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ إنَّمَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الِاسْتِطَاعَةُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ، بَلْ قَالُوا: يَجِبُ الْحَجُّ وَلَهُ تَأْخِيرُهُ وَصَرْفُ الْمَالِ إلَى النِّكَاحِ، وَيَكُونُ الْحَجُّ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُمْ، وَفِي حِكَايَةِ الْإِمَامِ عَنْهُمْ إشَارَةٌ إلَى هَذَا، فَالصَّوَابُ اسْتِقْرَارُ الْحَجِّ كَمَا سَبَقَ، وَعَلَّلَهُ صاحب "الشامل" وَغَيْرُهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْمَلَاذِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ فِي بِضَاعَةٍ يَتَّجِرُ فِيهَا لِيَحْصُلَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلنَّفَقَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ هُوَ كَالْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ".
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَتْ لَهُ بِضَاعَةٌ يَتَكَسَّبُ بِهَا كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ عَرَضُ تِجَارَةٍ يُحَصِّلُ مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ سَنَةٍ كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ، وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِذَا حَجَّ بِهِ كَفَاهُ وَكَفَى عِيَالَهُ ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، وَلَا يَفْضُلُ شَيْءٌ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ؟ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَهُمَا مَشْهُورَانِ: أحدهما: لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ، وَالشَّاشِيُّ، قَالَ: لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْمُفْلِسِ: يُتْرَكُ لَهُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ وَيَحْتَاجَ إلَى النَّاسِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَقْطَعَ لَهُ مِنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِضَاعَةً فَجَوَازُهُ فِي الْحَجِّ أَوْلَى.
والثاني وَهُوَ الصَّحِيحُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهُمَا الرُّكْنُ الْمُهِمُّ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَلَوْ لَمْ نَقُلْ بِالْوُجُوبِ لَلَزِمَ أَنْ نَقُولَ: مَنْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّجِرَ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ إذَا مَلَكَهَا. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِمَا فِي الْحَالِ. وَمَا نَحْنُ فِيهِ نَجِدُهُ ذَخِيرَةً، قَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَالْأَصْحَابُ:

 

ج / 7 ص -40-         وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ فَمُرَادُهُ أَنَّهُ يُتْرَكُ لَهُ ذَلِكَ بِرِضَا الْغُرَمَاءِ، فَأَمَّا بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَلَا يُتْرَكُ، وَهَذَا الَّذِي صَحَّحْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَجِّ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ فَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه" وَالْمُتَوَلِّي وَصاحب "البيان" وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، قَالَ صاحب "الحاوي": هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ سِوَى ابْنِ سُرَيْجٍ
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَلَا أَعْرِفُ مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ عَنْهُ وَلَا أَجِدُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَقَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ خِلَافٌ لِلْإِجْمَاعِ وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ: قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ غَلَطٌ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَصاحب "البيان" وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ عَامَّةَ أَصْحَابِنَا قَالُوا بِالْوُجُوبِ خِلَافًا لِابْنِ سُرَيْجٍ، وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُمْ غَلَّطُوا ابْنَ سُرَيْجٍ فِي هَذَا وَزَيَّفُوا قَوْلَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالُوهُ. هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ، وَبِالْوُجُوبِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبِعَدَمِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ دَعْوَاهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْوُجُوبِ مَعَ مُخَالَفَةِ أَحْمَدَ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ أَرَادَ إجْمَاعَ مَنْ قَبْلَهُ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ أَحْمَدَ وَابْنَ سُرَيْجٍ مَحْجُوجَانِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ وَلَهُ صَنْعَةٌ يَكْتَسِبُ بِهَا كِفَايَتَهُ لِنَفَقَتِهِ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَحُجَّ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِ الْفَرْضِ بِمَشَقَّةٍ لَا يُكْرَهُ تَحَمُّلُهَا، فَاسْتُحِبَّ لَهُ إسْقَاطُ الْفَرْضِ، كَالْمُسَافِرِ إذَا قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَنْعَةٌ وَيَحْتَاجُ إلَى تَكَفُّفِ النَّاسِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ بِمَسْأَلَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَكْرُوهَةٌ، وَلِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ تَحَمُّلَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ فَكُرِهَ".
الشرح: قَوْلُهُ: لَا يُكْرَهُ تَحَمُّلُهَا احْتِرَازٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَقَوْلُهُ: يَتَكَفَّفُ مَعْنَاهُ: يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا فِي كَفِّهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُكْرِيَ نَفْسَهُ فِي طَرِيقِهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحَجُّ بِذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَدَلِيلُهُمَا مَا بَيَّنَّا فِي الْقَادِرِ عَلَى الصَّنْعَةِ فَإِنْ أَكْرَى نَفْسَهُ فَحَضَرَ مَوْضِعَ الْحَجِّ لَزِمَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ الْآنَ بِلَا مَشَقَّةٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاضُ مَالٍ يَحُجُّ بِهِ بِلَا خِلَافٍ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لِقَاصِدِ الْحَجِّ أَنْ يَكُونَ مُتَخَلِّيًا عَنْ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فِي طَرِيقِهِ، فَإِنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ فَحَجَّ وَاتَّجَرَ صَحَّ حَجُّهُ وَسَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ، لَكِنْ ثَوَابُهُ دُونَ ثَوَابِ الْمُتَخَلِّي عَنْ التِّجَارَةِ، وَكُلُّ هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَدَلِيلُ هَذَا مَعَ مَا سَبَقَ ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ قَالَ: "كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَكَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَالُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ، فَنَزَلَتْ:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "أَنَّ النَّاسَ فِي أَوَّلِ الْحَجِّ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِمِنًى وَعَرَفَاتٍ وَذِي الْمَجَازِ وَمَوَاسِمِ الْحَجِّ، فَخَافُوا الْبَيْعَ وَهُمْ حُرُمٌ، فَأَنْزَلَ الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ

 

ج / 7 ص -41-         قَالَ: "كُنْتُ رَجُلًا أُكْرَى فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: لَيْسَ لَك حَجٌّ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَلَيْسَ يُحْرِمُ وَيُلَبِّي وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُفْضِي مِنْ عَرَفَاتٍ وَيَرْمِي الْجِمَارَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ لَك حَجّاً، جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتنِي عَنْهُ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: لَكَ حَجٌّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ: "أُؤَاجِرُ نَفْسِي مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَأَنْسُكُ مَعَهُمْ الْمَنَاسِكَ إلَى آخِرِهَا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا، وَاَللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ عَادَتُهُ سُؤَالُ النَّاسِ أَوْ الْمَشْيُ، مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ قَالَ الْبَغَوِيّ: هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَبِهِ قَالَ دَاوُد، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الِاسْتِطَاعَةُ صِحَّةُ الْبَدَنِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ قَالَ: وَحَدِيثُ "مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ" ضَعِيفٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ آمِنٍ لَمْ يَلْزَمْهُ، لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ؛ لِأَنَّهُ فِي إيجَابِ الْحَجِّ مَعَ الْخَوْفِ تَغْرِيرٌ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا إلَّا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى خُفَارَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْخُفَارَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ، وَلِأَنَّهُ رِشْوَةٌ عَلَى وَاجِبٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْخُفَارَةَ - بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا - وَالرِّشْوَةُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا - لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
أَمَّا الأَحْكَامُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَمْنُ الطَّرِيقِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْبَضْعِ فأما: الْبَضْعُ فَمُتَعَلِّقٌ بِحَجِّ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى، وَسَنَذْكُرُهُمَا بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ حَيْثُ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ إنْ شَاءَ الله تعالى قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ الْأَمْنُ الْمُشْتَرَطُ أَمْنًا قَطْعِيًّا. قَالَ: وَلَا يُشْتَرَطُ الْأَمْنُ الْغَالِبُ فِي الْحَضَرِ بَلْ الْأَمْنُ فِي كُلِّ مَكَان بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ فأما: النَّفْسُ فَمَنْ خَافَ عَلَيْهَا مِنْ سَبُعٍ أَوْ عَدُوٍّ كَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ إنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آخَرَ آمِنًا. فَإِنْ وَجَدَهُ لَزِمَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَ طَرِيقِهِ أَوْ أَبْعَدَ إذَا وَجَدَ مَا يَقْطَعُهُ بِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ سُلُوكُ الْأَبْعَدِ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وأما: "البحر" فَسَنَذْكُرُ الْخَوْفَ مِنْهُ عَقِيبَ هَذَا إنْ شَاءَ الله تعالى وأما: الْمَالُ فَلَوْ خَافَ عَلَى مَالِهِ فِي الطَّرِيقِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ رَصَدِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ سَوَاءٌ طَلَبَ الرَّصَدِيُّ شَيْئًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا إذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الطَّرِيقُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ الَّذِي يَخَافُهُ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا، لَكِنْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ الْعَدُوُّ كُفَّارًا وَأَطَاقَ الْحَاجُّ مُقَاوَمَتَهُمْ اُسْتُحِبَّ لَهُمْ الْخُرُوجُ إلَى الْحَجِّ وَيُقَاتِلُونَهُمْ لِيَنَالُوا الْحَجَّ وَالْجِهَادَ

 

ج / 7 ص -42-         جَمِيعًا، وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ وَلَا الْقِتَالُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ بَذْلُ الْمَالِ لِلرَّاصِدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَخْفِرُهُمْ بِأُجْرَةٍ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَمْنُهُمْ فَفِي وُجُوبِ اسْتِئْجَارِهِ وَوُجُوبِ الْحَجِّ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وأصحهما: عِنْدَهُ وُجُوبُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أُهَبِ الطَّرِيقِ فَهُوَ كَالرَّاحِلَةِ والثاني لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ خَوْفُ الطَّرِيقِ وَخُرُوجُهَا عَنْ الِاعْتِدَالِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ شَرْطٌ، هَكَذَا ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى خُفَارَةٍ لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْخُفَارَةِ مَا يَأْخُذُهُ الرَّصَدِيُّونَ فِي الْمَرْصَدِ، وَهَذَا لَا يَجِبُ الْحَجُّ مَعَهُ بِلَا خِلَافٍ وَلَا يَكُونُونَ مُتَعَرِّضِينَ لِمِثْلِهِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الصُّورَتَيْنِ فَيَكُونُ خِلَافَ مَا قَالَهُ وَلَكِنْ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ، فَيَكُونُ الْأَصَحُّ عَلَى الْجُمْلَةِ وُجُوبَ الْحَجِّ إذَا وَجَدُوا مَنْ يَصْحَبُهُمْ الطَّرِيقَ بِخُفَارَةٍ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ صَحَّحَهُ إمَامَانِ مِنْ مُحَقِّقِي مُتَأَخِّرِي، أَصْحَابِنَا أَبُو الْقَاسِمِ الرَّافِعِيُّ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ مَعَ اطِّلَاعِهِمَا عَلَى عِبَارَةِ الْأَصْحَابِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ امْتَنَعَ مَحْرَمُ الْمَرْأَةِ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَهَا إلَّا بِأُجْرَةٍ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ مَقِيسٌ عَلَى أُجْرَةِ الْخَفِيرِ، وَاللُّزُومُ فِي الْمَحْرَمِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْأُجْرَةِ مَعْنًى فِي الْمَرْأَةِ، فَهُوَ كَمُؤْنَةِ الْمَحْمِلِ فِي حَقِّ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ وُجُودُ رُفْقَةٍ يَخْرُجُ مَعَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِالْخُرُوجِ فِيهِ، فَإِنْ خَرَجُوا قَبْلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَخَّرُوا الْخُرُوجَ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُونَ مَكَّةَ إلَّا بِأَنْ يَقْطَعُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا، قَالَ الْبَغَوِيّ: لَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَالَ حَالَ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ بِيَوْمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَتْبَعَهُمْ، هَذَا كُلُّهُ إذَا خَافَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَتْ آمِنَةً بِحَيْثُ لَا يَخَافُ الْوَاحِدُ فِيهَا لَزِمَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الرُّفْقَةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَّا فِي البحر فَقَدْ قَالَ في الأم: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، قَالَ فِي "الإملاء": إنْ كَانَ أَكْثَرُ مَعَاشِهِ فِي"البحر" لَزِمَهُ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ مَسْلُوكٌ فَأَشْبَهَ الْبَرَّ والثاني لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فَلَا يَجِبُ كَالطَّرِيقِ الْمَخُوفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ لَزِمَهُ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكَ لَمْ يَلْزَمْهُ كَطَرِيقِ الْبَرِّ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ بِرُكُوبِهِ لَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَادَةٌ بِرُكُوبِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ عَادَةٌ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا عَادَةَ لَهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ".
الشَّرْحُ: اخْتَلَفَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي رُكُوبِ البحر فَقَالَ في "الأم" و"الإملاء" مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ فِي "المختصر": وَلَا يَتَبَيَّنُ لِي أَنْ أُوجِبَ عَلَيْهِ رُكُوبَ البحر، قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ فِي الْبَرِّ طَرِيقٌ يُمْكِنُ سُلُوكَهُ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ لَزِمَهُ الْحَجُّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِيهِ طُرُقٌ: أصحها: وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِيمَا حَكَاهُ صاحب "الشامل" و"التتمة"

 

ج / 7 ص -43-         وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكَ إمَّا لِخُصُوصِ ذَلِكَ البحر وَإِمَّا لِهَيَجَانِ الْأَمْوَاجِ لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ، وَإِنْ غَلَبَتْ السَّلَامَةُ وَجَبَ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَوَجْهَانِ: أصحهما: أَنَّهُ لَا يَجِبُ والطريق الثاني: يَجِبُ قَوْلًا وَاحِدًا الثالث: لَا يَجِبُ والرابع: فِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ والخامس: إنْ كَانَ عَادَتُهُ رُكُوبَهُ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا، وَالسَّادِسُ: حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْ لَهُ جُرْأَةٌ وَبَيْنَ الْمُسْتَشْعِرِ وَهُوَ ضَعِيفُ الْقَلْبِ فَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَشْعِرَ وَفِي غَيْرِهِ قَوْلَانِ وَالسَّابِعُ: حَكَاهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ يَلْزَمُ الْجَرِيءَ وَفِي الْمُسْتَشْعِرِ قَوْلانِ وَالثَّامِنُ: يَلْزَمُ الْجَرِيءَ وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَشْعِرَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ رُكُوبُ البحر فَفِي اسْتِحْبَابِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يُسْتَحَبُّ مُطْلَقًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ وأصحهما: وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ يُسْتَحَبُّ إنْ غَلَبَتْ السَّلَامَةُ فَإِنْ غَلَبَ الْهَلَاكُ حَرُمَ، نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَفِي التَّحْرِيمِ وَجْهَانِ: أصحهما: التَّحْرِيمُ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ والثاني لَا يَحْرُمُ وَلَكِنْ يُكْرَهُ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ الْكَرَاهِيَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّحْرِيمِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا لَمْ نُوجِبْ رُكُوبَ البحر فَتَوَسُّطُهُ فِي بِحَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّمَادِي فِي رُكُوبِهِ إلَى الْحَجِّ أَمْ لَهُ الِانْصِرَافُ إلَى وَطَنِهِ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ إلَى مَكَّةَ أَكْثَرَ مِمَّا قَطَعَهُ مِنْ البحر، فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَزِمَهُ التَّمَادِي قَطْعًا، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَوَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ: أصحهما: يَلْزَمُهُ التَّمَادِي لِاسْتِوَاءِ الْجُهْدَيْنِ فِي حَقِّهِ والثاني لَا، قَالُوا: وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ مِنْ مَكَّةَ إلَى وَطَنِهِ طَرِيقٌ فِي الْبَرِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ قَطْعًا، لِئَلَّا يَتَحَمَّلَ زِيَادَةَ الْخَطَرِ بِرُكُوبِ "البحر" فِي الرُّجُوعِ مِنْ الْحَجِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ أُحْصِرَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ وَأَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَهَلْ لَهُ التَّحَلُّلُ أَمْ لَا؟ وَسَنُوَضِّحُهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا إنْ شَاءَ الله تعالى.
هَذَا كُلُّهُ فِي الرَّجُلِ أما: الْمَرْأَةُ فَإِنْ لَمْ نُوجِبْ رُكُوبَ "البحر" عَلَى الرَّجُلِ فَهِيَ أَوْلَى وَإِلاَّ فَفِيهَا خِلَافٌ والأصح: الْوُجُوبُ والثاني الْمَنْعُ لِضَعْفِهَا عَنْ احْتِمَالِ الْأَهْوَالِ، وَلِكَوْنِهَا عَوْرَةً مُعَرَّضَةً لِلِانْكِشَافِ وَغَيْرِهِ لِضِيقِ الْمَكَانِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ عَلَيْهَا لَمْ يُسْتَحَبَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ فِي اسْتِحْبَابِهِ: لَهَا حِينَئِذٍ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي الرَّجُلِ، وَحَكَى الْبَنْدَنِيجِيُّ قَوْلَيْنِ. هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ البحر أما: الْأَنْهَارُ الْعَظِيمَةُ كَدِجْلَةَ وَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ وَغَيْرِهَا فَيَجِبُ رُكُوبُهَا قَوْلًا وَاحِدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْمُقَامَ فِيهَا لَا يَطُولُ وَلَا يَعْظُمُ الْخَطَرُ فِيهَا وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِيهِ وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا أَنَّهُ كَالبحر، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا حَكَمْنَا بِتَحْرِيمِ رُكُوبِ "البحر" لِلْحَجِّ عِنْدَ غَلَبَةِ الْهَلَاكِ كَمَا سَبَقَ فَيَحْرُمُ رُكُوبُهُ لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَسْفَارِ الْمُبَاحَةِ، وَكَذَا الْمَنْدُوبَةُ أَوْلَى، وَهَلْ يَحْرُمُ رُكُوبُهُ فِي الذَّهَابِ إلَى الْعَدُوِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هُنَا: أحدهما: يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ الْمُحْتَمَلَ فِي الْجِهَادِ هُوَ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الْقَتْلِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ، وَ الثاني: لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَدُوِّ يُنَاسِبُهُ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْجِهَادُ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَدُوِّ لَمْ يَنْفُذْ احْتِمَالُ الْعَدُوِّ فِي السَّبَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -44-         فرع: إذَا كَانَ البحر مُغْرِقًا أَوْ كَانَ قَدْ اغْتَلَمَ وَمَاجَ، حَرُمَ رُكُوبُهُ لِكُلِّ سَفَرٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَلِقَوْلِهِ تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَصْحَابُ.
فرع: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَجُّ فِي البحر إنْ غَلَبَتْ فِيهِ السَّلَامَةُ، وَإِلَّا فَلَا1 وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ، وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْأَحَادِيثِ حَدِيثُ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
لَا يَرْكَبَنَّ أَحَدٌ بَحْرًا لَا غَازِيًا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجًّا وَإِنَّ تَحْتَ البحر نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ كَانَ أَعْمَى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قَائِدٌ؛ لأَنَّ الأَعْمَى مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ كَالزَّمِنِ وَمَعَ الْقَائِدِ كَالْبَصِيرِ".
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ وُجِدَ لِلْأَعْمَى زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَمَنْ يَقُودُهُ وَيَهْدِيهِ عِنْدَ النُّزُولِ وَيُرْكِبُهُ وَيُنْزِلُهُ، وَقَدَرَ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِلَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَكَذَلِكَ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا الِاسْتِئْجَارُ لِلْحَجِّ عَنْهُمَا، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَلِمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُمَا الْحَجُّ بِأَنْفُسِهِمَا وَيَكُونَانِ مَعْضُوبَيْنِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ: يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْحَجِّ عَنْهُ فِي الْحَالَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، قَالَ صاحب "البيان": قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَحَكَى هَذَا الْوَجْهَ أَيْضًا الدَّارِمِيُّ عَنْ ابْنِ الْقَطَّانِ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا مَا سَبَقَ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى قَادِرٌ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَأَشْبَهَ الْبَصِيرَ وَقَاسَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى جَاهِلِ الطَّرِيقِ وَأَفْعَالِ الْحَجِّ وَعَلَى الْأَصَمِّ، فَإِنَّهُمَا يَلْزَمُهُمَا الْحَجُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُمَا الْجُمُعَةُ إذَا وَجَدَا الْقَائِدَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِهَادِ أَنَّ الْجِهَادَ يَحْتَاجُ إلَى الْقِتَالِ، وَالْأَعْمَى لَيْسَ أَهْلَ الْقِتَالِ بِخِلَافِ الْحَجِّ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْقَائِدُ فِي حَقِّ الْأَعْمَى كَالْمَحْرَمِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ يَعْنِي: فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ، اسْتِئْجَارِهِ وَجْهَانِ: أصحهما: الْوُجُوبُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً، لَمْ يَلْزَمْهَا إلَّا أَنْ تَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهَا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ أَوْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ، قَالَ فِي "الإملاء": أَوْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَرَوَى الْكَرَابِيسِيُّ عَنْهُ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا جَازَ مِنْ غَيْرِ نِسَاءٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"حَتَّى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قلت: ومثل البحر وسائل الطيران كطائرات السفر المزودة بوسائل الراحة وطائرات الحرب المزودة بوسائل القتال والدفاع وغير ذلك من أنواع الطائرات المستحدثة ومعي الآن عقد "تذكرة بركوبها إلى حج بيت الله" أهدانا أياها الشيخ سالم بالعمش من أعيان جدة وبتشجيع وتحريض من العلامة الشريف السيد حامد المحضار والسيد محمد بن عبد الله باعقيل نسأله تعالى أن يتم لنا الخير وأن يحقق ما نصبوا إليه في خدمة الإسلام "آمين" كما نسأله أن يجزيهم خير الجزاء فقد كنت صرورة قبل سنة 1392 "من هامش الطبعة الأولى للوحيدة".

 

ج / 7 ص -45-         لَتُوشِكَ الظَّعِينَةُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا بِغَيْرِ جِوَارٍ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ". قَالَ عَدِيٌّ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَخْرُجُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ بِغَيْرِ جِوَارٍ" وَلِأَنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَطِيعَةً بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا تَصِيرُ مُسْتَطِيعَةً بِغَيْرِهِ".
الشرح: حَدِيثُ عَدِيٍّ هَذَا صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في "صحيحه" بِمَعْنَاهُ فِي بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَهَذَا لَفْظُهُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَى إلَيْهِ آخَرُ فَشَكَا قَطْعَ السَّبِيلِ فَقَالَ يَا عَدِيُّ، هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، قَالَ: فَإِنْ طَالَتْ بِكَ الْحَيَاةُ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ تعالى"، قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ" هَذَا اللَّفْظُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مُخْتَصَرًا، وَهُوَ بَعْضٌ مِنْ حَدِيثِ طَوِيلٍ.
وأما: قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ جِوَارٍ - فَبِكَسْرِ الْجِيمِ - وَمَعْنَاهُ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَذِمَّةٍ وَالْحِيرَةُ - بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - وَهِيَ مَدِينَةٌ عِنْدَ الْكُوفَةِ، وَالظَّعِينَةُ الْمَرْأَةُ، وَيُوشِكُ بِكَسْرِ الشِّينِ - أَيْ يدع1، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمْ الله تعالى: لَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ الْحَجُّ إلَّا إذَا أَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمِ نَسَبٍ، أَوْ غَيْرِ نَسَبٍ، أَوْ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ، فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وُجِدَ لَزِمَهَا الْحَجُّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْحَجُّ عَلَى الْمَذْهَبِ سَوَاءٌ وَجَدَتْ امْرَأَةً وَاحِدَةً أَمْ لَا وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَخْرُجَ لِلْحَجِّ وَحْدَهَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَسْلُوكًا كَمَا يَلْزَمُهَا إذَا أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ الْخُرُوجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهَا بِلَا خِلَافٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ وَطَائِفَةٍ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ.
والجواب: عَنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَمَّا سَيَقَعُ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَاز؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ بِذَلِكَ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْخَوْفَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَكْثَرُ مِنْ الْخَوْفِ فِي الطَّرِيقِ، وَإِذَا خَرَجَتْ مَعَ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ فَهَلْ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَنْ يَكُونَ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَحْرَمٌ لَهَا؟ أَوْ زَوْجٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الْأَطْمَاعَ تَنْقَطِعُ بِجَمَاعَتِهِنَّ والثاني يُشْتَرَطُ، فَإِنْ فُقِدَ لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ، قَالَ الْقَفَّالُ: لِأَنَّهُ قَدْ يَنُوبُهُنَّ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى الرَّجُلِ، وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَنَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ سِوَى الْقَفَّالِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ، قَالَ: يَقْصِدُ بِمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ حُكْمَ الْخَلْوَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُوَ بِنِسْوَةٍ، وَلَوْ خَلَا رَجُلٌ بِنِسْوَةٍ وَهُوَ مَحْرَمُ إحْدَاهُنَّ جَازَ، وَكَذَلِكَ إذَا خَلَتْ امْرَأَةٌ بِرِجَالٍ وَأَحَدُهُمْ مَحْرَمٌ لَهَا جَازَ، وَلَوْ خَلَا عِشْرُونَ رَجُلًا بِعِشْرِينَ امْرَأَةً وَإِحْدَاهُنَّ مَحْرَمٌ لِأَحَدِهِمْ جَازَ، قَالَ: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ بِنِسَاءٍ مُفْرَدَاتٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُنَّ مَحْرَمًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش و ق وصوابه "يدنو" وإنما هو تصحيف لم ينتبه له من صحح النسختين (ط).

 

ج / 7 ص -46-         لَهُ، هَذَا كَلامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ هُنَا، وَحَكَى صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" عَنْ الْقَفَّالِ فِي الْخَلْوَةِ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِحُرُوفِهِ، وَحَكَى فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي تَحْرِيمِ خَلْوَةٍ بِنِسْوَةٍ مُنْفَرِدًا بِهِنَّ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ"، وَالْمَشْهُورُ هُوَ جَوَازُ خَلْوَةِ رَجُلٍ بِنِسْوَةٍ لَا مَحْرَمَ لَهُ فِيهِنَّ لِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ غَالِبًا؛ لأَنَّ النِّسَاءَ يَسْتَحْيِينَ مِنْ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا فِي ذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ.
فرع: هَلْ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ؟ أَوْ لِسَفَرِ زِيَارَةٍ وَتِجَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا مَعَ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ؟ أَوْ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَحَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ فِي بَابِ الْإِحْصَارِ، وَحَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ أحدهما: يَجُوزُ كَالْحَجِّ والثاني وَهُوَ الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِهِمْ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ في "الأم"، وَكَذَا نَقَلُوهُ عَنْ النَّصِّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، هَكَذَا عَلَّلَهُ الْبَغَوِيّ.
وَيُسْتَدَلُّ لِلتَّحْرِيمِ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
لا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ ثَلاثًا إلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ ثَلاثِ لَيَالٍ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ مَحْرَمٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ قَالَ: اُخْرُجْ مَعَهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ يَوْمَيْنِ إلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَيْسَ مَعَهَا ذُو حُرْمَةٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ "مَسِيرَةَ يَوْمٍ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ "مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ" وَسَأُعِيدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا مَعَ ذِكْرِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي آخِرِ بَابِ الْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ إنْ شَاءَ الله تعالى.
فرع: يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ الْبَالِغِ، وَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ مِنْ الْمَحْرَمِ مَا شُرِطَ فِي الْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِسْوَةٌ مِنْ مَحَارِمِهِ كَأَخَوَاتِهِ جَازَ، وَإِنْ كُنَّ أَجْنَبِيَّاتٍ فَلا؛ لأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الْفَتْحِ وَصاحب "البيان" وَغَيْرُهُمَا.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَزِمَهَا الْخُرُوجُ إلَى دَارِ الْإِسْلامِ وَحْدَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ نِسْوَةٍ، وَلَا امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَ طَرِيقُهَا مَسْلُوكًا أَوْ غَيْرَ مَسْلُوكٍ؛ لِأَنَّ خَوْفَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَدِينِهَا بِالْمُقَامِ فِيهِمْ أَكْثَرُ مِنْ خَوْفِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ خَافَتْ فِي الطَّرِيقِ سَبُعًا لَمْ يَجِبْ سُلُوكُهُ، هَكَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِتَفْصِيلِهَا هُنَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا وَذَكَرَهَا الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ "السِّيَرِ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ السَّيْرِ لِأَدَاءِ الْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَجِّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ فَرْضُهُ".
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: إمْكَانُ السَّيْرِ بِحَيْثُ يُدْرِكُ الْحَجَّ شَرْطٌ لِوُجُوبِهِ، فَإِذَا وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ وَتَكَامَلَتْ وَبَقِيَ بَعْدَ تَكَامُلِهَا زَمَنٌ يُمْكِنُ فِيهِ الْحَجُّ وَجَبَ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، لَكِنَّهُ يَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الشَّرَائِطِ زَمَنٌ يُمْكِنُ

 

ج / 7 ص -47-         فِيهِ الْحَجُّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، قَالُوا: الْمُرَادُ أَنْ يَبْقَى زَمَنٌ يُمْكِنُ فِيهِ الْحَجُّ إذَا سَارَ السَّيْرَ الْمَعْهُودَ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَى أَنْ يَقْطَعَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ الْأَيَّامِ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ.
وَلَمْ يَذْكُرْ الْغَزَالِيُّ هَذَا الشَّرْطَ، وَهُوَ إمْكَانُ السَّيْرِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ ذَلِكَ وَقَالَ: هَذَا الْإِمْكَانُ شَرَطَهُ الْأَئِمَّةُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ وَأَهْمَلَهُ الْغَزَالِيُّ، فَأَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلاحِ عَلَى الرَّافِعِيِّ اعْتِرَاضَهُ هَذَا عَلَى الْغَزَالِيِّ، وَجَعْلَهُ إمْكَانَ السَّيْرِ رُكْنًا لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ اسْتِقْرَارِ الْحَجِّ لِيَجِبَ قَضَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِأَصْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ، بَلْ مَتَى وُجِدَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ حُرٍّ لَزِمَهُ الْحَجُّ فِي الْحَالِ، كَالصَّلَاةِ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُهَا، ثُمَّ اسْتِقْرَارُهَا فِي الذِّمَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُضِيِّ زَمَنِ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهَا، هَذَا اعْتِرَاضُهُ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ كَمَا نُقِلَ وأما: إنْكَارُ الشَّيْخِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، فَلَا حِجَّ عَلَيْهِ وَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا وَهُوَ عَاجِزٌ حِسًّا.
وأما: الصَّلاةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، لِإِمْكَانِ تَتْمِيمِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ إمْكَانَ السَّيْرِ، وَأَمْنَ الطَّرِيقِ لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ دَلِيلُنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا بِدُونِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ كَانَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَسَافَةٍ تَقْصُرُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَلَمْ يَجِدْ رَاحِلَةً نَظَرْت - فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ - وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحَجُّ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَإِنْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَيَقْدِرُ عَلَى الْحَبْوِ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْحَبْوِ فِي الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِي السَّيْرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ إلَى مَوَاضِعِ النُّسُكِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا بِذَلِكَ".
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ كَانَ فِي مَكَّةَ أَوْ كَانَتْ دَارُهُ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تَقْصُرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْمَشْيِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَلا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَشْيِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَشَقَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْوَى عَلَى الْمَشْيِ أَوْ يَنَالُهُ بِهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ اُشْتُرِطَتْ الرَّاحِلَةُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمَحْمِلُ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّكُوبُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الزَّحْفُ وَالْحَبْوُ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجَمَاهِيرُ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَبْوُ، حَكَاهُ عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الْقَطَّانِ وَهُوَ شَاذٌّ أَوْ غَلَطٌ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ أَنَّ الْقَرِيبَ مِنْ مَكَّةَ كَالْبَعِيدِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ إلَّا بِوُجُودِ الرَّاحِلَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ، وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى اشْتِرَاطِ وُجُودِ الزَّادِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى هَذَا الْقَرِيبِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزَّادَ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ بِخِلَافِ الرَّاحِلَةِ، وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه" وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى هَذَا الْقَرِيبِ وُجُودُ الزَّادِ، وَالصَّوَابُ الْمَشْهُورُ اشْتِرَاطُهُ.
لَكِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصاحب "البيان" وَآخَرُونَ فِي اعْتِبَارِ زَادِهِ كَلَامًا حَسَنًا، قَالُوا: إنْ عَدِمَ الزَّادَ، وَكَانَ لَهُ صَنْعَةٌ يَكْتَسِبُ بِهَا كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ، وَيَفْضُلُ لَهُ مُؤْنَةُ حَجَّةٍ، لَزِمَهُ

 

ج / 7 ص -48-         الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَنْعَةٌ، أَوْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، وَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْحَجِّ أَضَرَّ بِعِيَالِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَامُهُ عَلَى عِيَالِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الْقَرِيبَ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ الرَّاحِلَةُ إذَا أَطَاقَ الْمَشْيَ هُوَ مَنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ مَكَّةَ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ الْحَرَمِ، وَهَكَذَا صَرَّحَ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ مَكَّةَ شَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد"، وَالدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصاحب "الشامل" وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبَا "الْعُدَّةِ" و"الْبَيَانِ"، وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَضَبَطَهُ آخَرُونَ بِالْحَرَمِ، فَقَالُوا: الْقَرِيبُ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ مِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَهَذَا الْخِلَافُ نَحْوَ الْخِلَافِ فِي حَاضِرِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مَنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ مِنْ مَكَّةَ أَمْ مِنْ الْحَرَمِ؟ وَسَنُوَضِّحُهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَكِنَّ الْأَشْهَرَ هُنَا اعْتِبَارُ مَكَّةَ وَهُنَاكَ اعْتِبَارُ الْحَرَمِ وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، فَالأَفْضَلُ أَنْ يَحُجَّ رَاكِبًا"؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ رَاكِبًا"؛ وَلأَنَّ الرُّكُوبَ أَعْوَنُ عَلَى الْمَنَاسِكِ.
الشرح: الْمَنْصُوصُ لَلشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى في "الإملاء" وَغَيْرِهِ، أَنَّ الرُّكُوبَ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ الْمَشْيِ، وَنَصَّ أَنَّهُ إذَا نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا لَزِمَهُ، وَأَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِحَجِّهِ مَاشِيًا لَزِمَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَنْهُ مَنْ يَحُجُّ مَاشِيًا، وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَمُعْظَمُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ "لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ رَاكِبًا"؛ وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى الْمَنَاسِكِ وَالدُّعَاءِ وَسَائِرِ عِبَادَاتِهِ فِي طَرِيقِهِ، وَأَنْشَطُ لَهُ والثاني: وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: هَذَا والثاني: الْمَشْيُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ رضي الله عنها:
"عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ" وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي بَابِ النَّذْرِ قَوْلًا ثَالِثًا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: هُمَا قَبْلُ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا أَحْرَمَ فَالْمَشْيُ أَفْضَلُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ سَهُلَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ ضَعُفَ وَسَاءَ خُلُقُهُ بِالْمَشْيِ، فَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا عَنْ نَصِّهِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْحِجِّ مَاشِيًا أَنَّ الْوَصِيَّةَ يُتَّبَعُ فِيهَا مَا سَمَّاهُ الْمُوصِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ، وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عَنْهُ بِدِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ عَنْهُ بِدِينَارٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَجِّ مَاشِيًا وَرَاكِبًا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الرَّاكِبَ أَفْضَلُ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ دَاوُد: مَاشِيًا أَفْضَلُ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَائِشَةَ:
"وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ - أَوْ نَصَبِكِ" - رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: "عَلَى قَدْرِ عَنَائِكِ وَنَصَبِكِ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ مَا آسَى أَنِّي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا" وَعَنْ عُبَيْدَةَ وَابْنِ عُمَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي فِي شَبَابِي إلاَّ أَنِّي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا" "وَلَقَدْ حَجَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حَجَّةً مَاشِيًا، وَإِنَّ النَّجَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ وَلَقَدْ قَاسَمَ اللَّهَ تَعَالَى مَالَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى كَانَ يُعْطِي الْخُفَّ وَيُمْسِكُ النَّعْلَ" وَابْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مِنْ رِوَايَةِ

 

ج / 7 ص -49-         ابْنِ عَبَّاسٍ - وَفِيهِ ضَعْفٌ - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِيًا حَتَّى رَجَعَ إلَيْهَا كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، وَحَسَنَاتُ الْحَرَمِ الْحَسَنَةُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ" وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ "أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ حَجَّا مَاشِيَيْنِ" وَمَنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلِهَذَا كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْفِطْرِ لِمَنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ، وَصِيَامُ الصَّيْفِ أَفْضَلُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ رَاكِبًا" فإن قيل: حَجَّ رَاكِبًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَكَانَ يُوَاظِبُ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ عَلَى الصِّفَةِ الْكَامِلَةِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهِ وَمِنْهُ الْحَجُّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحُجَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم
"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"؛ وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى الْمَنَاسِكِ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَجُّ عَلَى الْمُقْتَبِ وَالزَّامِلَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَحْمِلِ لِمَنْ أَطَاقَ ذَلِكَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ حَدِيثُ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: "حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَةً" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَالْمُسْتَطِيعُ بِغَيْرِهِ اثْنَانِ أحدهما: مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ لِزَمَانَةٍ أَوْ كِبَرٍ، وَلَهُ مَالٌ يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ بِغَيْرِهِ، كَمَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ بِنَفْسِهِ، فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ والثاني: مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ وَلَكِنْ لَهُ وَلَدٌ يُطِيعُهُ إذَا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ، فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْتَطِيعًا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ الْحَجُّ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَ الْوَلَدَ بِأَدَائِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ بِوَلَدِهِ كَمَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ مَالٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ الْحَجِّ بِطَاعَتِهِ والثاني: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ، فَالْمَعْضُوبُ أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُطِيعُهُ غَيْرَ الْوَلَدِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِطَاعَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَلَدِ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَضْعَةٌ مِنْهُ فَنَفْسُهُ كَنَفْسِهِ وَمَالُهُ كَمَالِهِ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَجُّ بِطَاعَتِهِ والثاني: يَلْزَمُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِمَنْ يُطِيعُهُ، فَأَشْبَهَ الْوَلَدَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّ الْحَاكِمَ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْإِذْنِ كَمَا يَنُوبُ عَنْهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ والثاني: لا يَنُوبُ عَنْهُ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، وَلَمْ يُجَهِّزْ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَمْ يُنِبْ الْحَاكِمُ عَنْهُ فِي تَجْهِيزِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَإِنْ بَذَلَ لَهُ الطَّاعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ الْبَاذِلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمَبْذُولِ لَهُ أَنْ يَرُدَّ لَمْ يَجُزْ لِلْبَاذِلِ أَنْ يَرْجِعَ الثاني: أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْبَذْلِ، فَلا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا بَذَلَ وأما: إذَا بَذَلَ لَهُ مَالاً يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الطَّاعَةِ والثاني: لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لأَنَّهُ إيجَابُ كَسْبٍ لِإِيجَابِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَالْكَسْبِ بِالتِّجَارَةِ".
الشرح: قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ بَضْعَةٌ مِنْهُ وَهُوَ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - لَا غَيْرُ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ اللَّحْمِ، وَأَمَّا الْبِضْعُ

 

ج / 7 ص -50-         وَالْبِضْعَةُ فِي الْعَدَدِ فَفِيهِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ - كَسْرُ الْبَاءِ وَفَتْحُهَا - وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ، وَأَمَّا الْمَعْضُوبُ - فَهُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ - وَأَصْلُ الْعَضَبِ لِلْقَطْعِ، كَأَنَّهُ قُطِعَ عَنْ كَمَالِ الْحَرَكَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْمَعْصُوبُ - بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - قَالَ الرَّافِعِيُّ: كَأَنَّهُ قَطَعَ عَصَبَهُ أَوْ ضَرَبَ عَصَبَهُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَأَوَّلُهَا بَيَانُ حَقِيقَةِ الْمَعْضُوبِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ يُرْجَى زَوَالُهَا، فَلَيْسَ هُوَ بِمَعْضُوبٍ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَاضِحًا بَعْدَ هَذَا، حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنْ شَاءَ الله تعالى وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ عَجْزًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، لِكِبَرٍ أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ. أَوْ كَانَ كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، أَوْ كَانَ شَابًّا نِضْوَ1 الْخَلْقِ لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا مَعْضُوبٌ فَيُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ يُطِيعُهُ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ - وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ، أَوْ وَجَدَهُ وَطَلَبَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ - لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ، وَلَا يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَلَوْ دَامَ حَالُهُ هَكَذَا حَتَّى مَاتَ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ.
وَإِنْ وَجَدَ مَالًا، وَوَجَدَ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ وَحَجَّ الْأَجِيرُ عَنْهُ، وَإِلَّا فَقَدْ اسْتَقَرَّ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ لِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ بِالْمَالِ، وَهَكَذَا إذَا كَانَ لِلْمَعْضُوبِ وَلَدٌ لَا يُطِيعُهُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، أَوْ يُطِيعُهُ وَلَمْ يَحُجَّ الْوَلَدُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْمَعْضُوبِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ يُطِيعُهُ - وَقَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ - وَجَبَ الْحَجُّ عَلَى الْمَعْضُوبِ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْوَلَدِ فِي أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَعْضُوبَ الِاسْتِنَابَةُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ عَنْ نَفْسِهِ فِي صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: أَنْ يَجِدَ مَالًا يَسْتَأْجِرُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَاتِ الْمُشْتَرَطَةِ فِيمَنْ يَحُجُّ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ هُنَاكَ أَنْ يَكُونَ الْمَصْرُوفُ إلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ ذَهَابًا وَرُجُوعًا، وَهُنَا لَا يُشْتَرَطُ إلَّا كَوْنُهُ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ يَوْمَ الِاسْتِئْجَارِ خَاصَّةً. وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ ذَلِكَ مُدَّةَ ذَهَابِ الْأَجِيرِ2 كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ.
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْفِطْرَةِ وَالْكَفَّارَةِ، بِخِلَافِ مَنْ يَحُجُّ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُفَارِقْ وَلَدَهُ أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُ نَفَقَاتِهِمْ، ثُمَّ إنْ وَفَى مَا يَجِدُهُ بِأُجْرَةِ رَاكِبٍ، فَقَدْ اسْتَقَرَّ الْحَجُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ إلَّا بِأُجْرَةِ مَاشٍ، فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِئْجَارِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَجِبُ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى عَاجِزٍ عَنْ الرَّاحِلَةِ وأصحهما: يَجِبُ؛ إذْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي مَشْيِ الْأَجِيرِ، بِخِلَافِ مَنْ يَحُجُّ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَوْ طَلَبَ الْأَجِيرُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْأَجِيرِ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَعَدَمِهِ كَمَا فِي نَظَائِرِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَوْ رَضِيَ الْأَجِيرُ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَوَجَدَ الْمَعْضُوبُ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النضو بكسر النون الهزيل البدن من الإنساس والحيوان (ط).
2 هكذا بالأصول ولعله: (مدة ذهاب الأجير وعودته والله أعلم (ط).

 

ج / 7 ص -51-         مُسْتَطِيعٌ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَثِيرُ مِنَّةٍ. وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ بِشَرْطِهِ، فَلَمْ يَسْتَأْجِرْ، فَهَلْ يَسْتَأْجِرُ عَنْهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أصحهما: لَا؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ الْقَادِرُ مِنْ تَعْجِيلِ الْحَجِّ والثاني: يَسْتَأْجِرُ عَنْهُ كَمَا يُؤَدِّي زَكَاةَ الْمُمْتَنِعِ، هَكَذَا عَلَّلَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ.
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إذَا لَزِمَهُ الْحَجُّ، فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى صَارَ مَعْضُوبًا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ؟ أَمْ يَبْقَى عَلَى التَّرَاخِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ إنْ قُلْنَا: عَلَى الْفَوْرِ فَامْتَنَعَ، اسْتَأْجَرَ الْحَاكِمُ عَنْهُ وَإِلَّا، فَلَا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَعْضُوبِ أَنْ لَا يَجِدَ الْمَالَ، لَكِنْ يَجِدُ مَنْ يُحَصِّلُ لَهُ الْحَجَّ، وَلَهُ أَحْوَالٌ.
أحدها: أَنْ يَبْذُلَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ مَالًا لِيَسْتَأْجِرَ بِهِ، فَفِي وُجُوبِ قَبُولِهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ لَا يَلْزَمُهُ، وَادَّعَى الْمُتَوَلِّي الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ والثاني: يَلْزَمُهُ وَيَسْتَقِرُّ بِهِ الْحَجُّ عَلَى هَذَا فِي ذِمَّتِهِ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ.
الثاني: أَنْ يَبْذُلَ وَاحِدٌ مِنْ بَنِيهِ أَوْ بَنَاتِهِ أَوْ أَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا الْإِطَاعَةَ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْإِذْنُ لِلْمُطِيعِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيع كُتُبِهِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، إلَّا السَّرَخْسِيَّ فَحَكَى في "الأمالي" وَجْهًا عَنْ حِكَايَةِ أَبِي طَاهِرِ الزِّيَادِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُطَاعَ الْحَجُّ بِذَلِكَ، وَهَذَا غَلَطٌ وَالصَّوَابُ اللُّزُومُ، وَسَنُوَضِّحُ دَلِيلَهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْحَجُّ وَاجِبًا عَلَى الْمُطَاعِ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ أحدها: أَنْ يَكُونَ الْمُطِيعُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ فَرْضُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا والثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُطِيعُ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ عَنْ إسْلَامٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ والثالث: أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِوَفَائِهِ بِطَاعَتِهِ والرابع: أَلَّا يَكُونَ مَعْضُوبًا، هَكَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الشُّرُوطَ الْأَصْحَابُ فِي الطَّرِيقَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا إلَّا الدَّارِمِيَّ فَقَالَ: إذَا كَانَ عَلَى الْمُطِيعِ حَجٌّ فَفِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُطَاعِ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ لَا يَلْزَمُهُ كَمَا قَالَ الْأَصْحَابُ والثاني: يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ الْمُطِيعَ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ عَنْ الْمُطَاعِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ شَكَّ فِي طَاعَةِ الْوَلَدِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ بِلَا خِلَافٍ لِلشَّكِّ فِي حُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَوْ تَوَسَّمَ فِيهِ أَمْرَ الطَّاعَةِ وَظَنَّهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْحَجِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَالشَّاشِيُّ الصَّحِيحُ: الْمَنْصُوصُ يَلْزَمُهُ لِحُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ والثاني: لَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يُصَرِّح بِالطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ قَدْ يُخْطِئُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْقُدْرَةَ بِذَلِكَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَلَوْ بَذَلَ الْمُطِيعُ الطَّاعَةَ وَجَبَ عَلَى الْوَالِدِ الْمُطَاعِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَهَلْ يَنُوبُ الْحَاكِمُ عَنْهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا الصحيح: لَا؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي: قَالَ الدَّارِمِيُّ: قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ والثاني: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.

 

ج / 7 ص -52-         وَإِذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ بِالطَّاعَةِ، فَمَاتَ الْمُطِيعُ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَوْ رَجَعَ عَنْ الطَّاعَةِ - وَصَحَّحْنَا رُجُوعَهُ، فَإِنْ مَضَى بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ زَمَنُ إمْكَانِ الْحَجِّ - اسْتَقَرَّ وُجُوبُ الْحَجِّ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَنْ يُطِيعُهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِطَاعَتِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ مَوْرُوثٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَهَكَذَا أَطْلَقَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَآخَرُونَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا حُكْمَهُ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ: هُوَ كَمَنْ فَقَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ إعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَجِيءُ هُنَا خِلَافٌ كَذَلِكَ الْخِلَافُ فَيَكُونُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَجُّ، وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ والثاني: يُعْذَرُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَقَالَ الشَّاشِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ هُوَ شَبِيهٌ بِالْمَالِ الضَّالِّ فِي الزَّكَاةِ وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهَا فِيهِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَك أَنْ تَقُولَ: لَا يَجِبُ بِمَالٍ مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمَالِ وَالطَّاعَةِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ وَرِثَ الْمَعْضُوبُ مَالًا وَلَمْ يَعْلَمْهُ حَتَّى مَاتَ، فَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ الْحَجِّ مِنْ تِرْكَتِهِ هَذَا الْخِلَافُ، قَالَ: وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ مَنْ يُطِيعُهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى مَاتَ.
وَلَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ الطَّاعَةَ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ - فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إحْرَامِهِ - لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أصحهما: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِشَيْءٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الشُّرُوعُ، فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ حَجِّ أَهْلِ بَلَدِهِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حَجَّ عَلَى الْمُطَاعِ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: الْوَجْهَانِ إذَا بَذَلَ الطَّاعَةَ وَقَبِلَهَا الْوَالِدُ، فَأَمَّا إذَا بَذَلَهَا، وَلَمْ يَقْبَلْ الْوَالِدُ وَلَا الْحَاكِمُ - إذَا قُلْنَا: يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ - فَلِلْبَاذِلِ الرُّجُوعُ.
الحال الثالث: أَنْ يَبْذُلَ الْأَجِيرُ الطَّاعَةَ، فَيَجِبُ قَبُولُهَا عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ظَاهِرٌ، وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الرُّجُوعِ والثاني: لَا يَجِبُ وَالْأَخُ كَالْأَجْنَبِيِّ مُطِيعًا؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَهُ يَثْقُلُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَاسْتِخْدَامِ الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وأما: ابْنُ الْأَخِ وَالْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ فَكَالْأَخِ وأما: الْجَدُّ وَالْأَبُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا كَالْأَخِ وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ في "الأم" وَالْإِمْلَاءِ، وَقِيلَ: هُمَا كَالْوَلَدِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّفَقَةِ وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ. وَمَنْعِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِهَا حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ بَعْدَ الْقَبُولِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ رَجَعَ فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الْأَبُ: رَجَعْتُ بَعْدَ قَبُولٍ، وَقَالَ الِابْنُ: بَلْ قَبْلَهُ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ وَاعْلَمْ: أَنَّ مَا صَحَّحْنَاهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ جَوَازُ الرُّجُوعِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَجَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ فِي الطَّرِيقَيْنِ وَشَذَّ الْمَاوَرْدِيُّ فَصَحَّحَ مَنْعَ الرُّجُوعِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَذْلِ الْمَاءِ لِلْمُتَيَمِّمِ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ قَبْضِهِ بِأَنَّ لِلْمَاءِ بَدَلًا وَهُوَ التَّيَمُّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَبْذُلَ لَهُ الْوَلَدُ الْمَالَ، فَهَلْ يَجِبُ قَبُولُهُ وَالْحَجُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَذَكَرَ

 

ج / 7 ص -53-         الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أصحهما: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمَنُّ بِهِ بِخِلَافِ خِدْمَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى بَذْلِ الْأَجْنَبِيِّ الْمَالَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقَبُولَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَالْوَلَدُ أَوْلَى وَإِلَّا فَوَجْهَانِ الأصح: لَا يَجِبُ، وَلَوْ بَذَلَ الْمَالَ لِلْمَعْضُوبِ أَبُوهُ، فَهَلْ هُوَ كَبَذْلِ الْأَجْنَبِيِّ؟ أَمْ كَبَذْلِ الْوَلَدِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ ذَكَرَهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أصحهما: كَالْوَلَدِ لِعَدَمِ الْمِنَّةِ بَيْنَهُمَا غَالِبًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي بَذْلِ الطَّاعَةِ كُلُّهُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَاذِلُ يَحُجُّ رَاكِبًا، فَلَوْ بَذَلَ الِابْنُ لِيَحُجَّ مَاشِيًا فَفِي لُزُومِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ أصحهما: لَا يَلْزَمُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ: هُمَا مُرَتَّبَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ اسْتِئْجَارِ الْمَاشِي وَهُنَا الْأَوْلَى مَنْعُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشْيُ وَلَدِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْوَلَدُ إذَا أَطَاعَ - وَأَوْجَبْنَا قَبُولَهُ - وَلَا يَجِيءُ التَّرْتِيبُ إذَا كَانَ الْمُطِيعُ أَجْنَبِيًّا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَبُولُ إذَا كَانَ الْمُطِيعُ مَاشِيًا أَبًا أَوْ وَلَدًا وَيَجِبُ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا.
وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقَبُولَ - وَالْمُطِيعُ مَاشٍ - فَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ زَادٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَعُوِّلَ عَلَى الْكَسْبِ فِي طَرِيقِهِ، فَفِي وُجُوبِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ قَدْ يَنْقَطِعُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْتَسِبًا وَعُوِّلَ عَلَى السُّؤَالِ، قَالَ الْإِمَامُ: فَالْخِلَافُ قَائِمٌ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَجِبَ، قَالَ: فَإِنْ احْتَاجَ إلَى رُكُوبِ مَفَازَةٍ لَيْسَ بِهَا كَسْبٌ وَلَا سُؤَالٌ يَنْفَعُ، لَمْ يَجِبْ الْقَبُولُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ التَّغْرِيرُ بِالنَّفْسِ عَلَى الِابْنِ الْمُطِيعِ، فَإِذَا حَرُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ اسْتَحَالَ وُجُوبُ اسْتِنَابَتِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ فِي اشْتِرَاطِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِلْمُطِيعِ وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ، وَعَلَّلَ الْمُتَوَلِّي الْوُجُوبَ بِأَنَّ الْمُطَاعَ صَارَ قَادِرًا فَلَزِمَهُ الْحَجُّ كَمَنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ، وَلَا يَكْفِيهِ لِحَجِّ فَرْضٍ، وَوَجَدَ مَنْ يَحُجُّ بِذَلِكَ الْمَالِ، يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْجَارُ لِتَمَكُّنِهِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَفْسَدَ الْمُطِيعُ الْبَاذِلُ حَجَّهُ انْقَلَبَ إلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَجِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: قَالَ الدَّارِمِيُّ: إذَا بَذَلَ الْوَلَدُ الطَّاعَةَ لِأَبَوَيْهِ فَقَبِلَا لَزِمَهُ، وَيَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، قَالَ: وَإِذَا قَبِلَ الْوَالِدُ الْبَذْلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَعْضُوبِ حَجَّةُ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ فَهِيَ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِيمَا سَبَقَ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُجْزِئُ الْحَجُّ عَنْ الْمَعْضُوبِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْحَجَّ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْإِذْنِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرُّوذِيِّ، وَحَكَاهُ أَيْضًا الرَّافِعِيُّ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ، وَيَجِبُ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ كَالدَّيْنِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيُخَالِفُ مَا لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَأَعْتَقَهَا أَجْنَبِيٌّ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي الْوَلَاءَ، وَالْوَلَاءُ يَقْتَضِي الْمِلْكَ، وَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُسْتَحِيلٌ.
وأما: صِحَّةُ الْحَجِّ فَلَا تَقْتَضِي ثُبُوتَ مِلْكٍ لَهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ عَنْ الْمَيِّتِ إذَا كَانَ

 

ج / 7 ص -54-         عَلَيْهِ حَجَّةٌ، وَلَهُ تَرِكَةٌ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ "الْوَصَايَا" إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وأما: الْمَعْضُوبُ فَتَلْزَمُهُ الِاسْتِنَابَةَ سَوَاءٌ طَرَأَ الْعَضَبُ بَعْدَ الْوُجُوبِ، أَوْ بَلَغَ مَعْضُوبًا وَاجِدًا لِلْمَالِ، وَلِوُجُوبِ الِاسْتِنَابَةِ صُورَتَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي: الْمَعْضُوبُ إذَا كَانَ مِنْ مَكَّةَ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْثُرُ الْمَشَقَّةُ عَلَيْهِ فِي أَدَاءِ الْحَجِّ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ قَادِرًا لَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ الرَّاحِلَةُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا طَلَبَ الْوَالِدُ الْمَعْضُوبُ الْعَاجِزُ عَنْ الِاسْتِئْجَارِ مِنْ الْوَلَدِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، اُسْتُحِبَّ لِلْوَلَدِ إجَابَتُهُ وَلَا تَلْزَمُهُ إجَابَتُهُ وَلَا الْحَجُّ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِعْفَافِ وَهُوَ التَّزْوِيجُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْوَلَدَ عِنْدَ حَاجَةِ الْأَبِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوَالِدِ فِي امْتِنَاعِ الْوَلَدِ مِنْ الْحَجِّ ضَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ لَمْ يَأْثَمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ، الْإِعْفَافِ، فَإِنَّهُ حَقُّ الْأَبِ وَاضْطِرَارُهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالنَّفَقَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ اسْتَأْجَرَ الْمُطِيعُ إنْسَانًا لِيَحُجَّ عَنْ الْمُطَاعِ الْمَعْضُوبِ فَإِنْ كَانَ الْمُطِيعُ وَلَدًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُطَاعَ الْحَجُّ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَقُلْنَا: يَجِبُ الْحَجُّ بِطَاعَةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَوَجْهَانِ: أحدهما: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَنْ يُطِيعُهُ، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَذَلَ الطَّاعَةَ بِنَفْسِهِ والثاني: لَا؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ بَذْلُ مَالٍ، وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِبَذْلِ الْأَجْنَبِيِّ الْمَالَ، وَهَذَا إذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّ بَذْلَ الْأَجْنَبِيِّ الْمَالَ لَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَقَدْ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَصاحب "الشامل" وَغَيْرُهُمْ بِاللُّزُومِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُطِيعُ وَلَدًا.
فرع: إذَا كَانَ لِلْمَعْضُوبِ مَالٌ، وَلَمْ يَسْتَأْجِرْ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لِامْتِنَاعِهِ، فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: أَنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ كَالْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِيمَا إذَا امْتَنَعَ الْمُطَاعُ مِنْ الْإِذْنِ لِلْمُطِيعِ الْبَاذِلِ لِلطَّاعَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الْفُورَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ والثاني: لَا يَسْتَأْجِرُ عَنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا قَالَ صاحب "البيان": وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِذْنِ لِلْمُطِيعِ أَنَّ لِلْمَعْضُوبِ غَرَضًا فِي تَأْخِيرِ الِاسْتِئْجَارِ بِأَنْ يَنْتَفِعُ بِمَالِهِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ الْبَاذِلُ لِلْحَجِّ عَنْ الْمَعْضُوبِ.
فرع: إذَا بَذَلَ الْوَلَدُ الطَّاعَةَ وَقَبِلَهَا الْأَبُ ثُمَّ مَاتَ الْبَاذِلُ قَبْلَ الْحَجِّ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: لِمَنْ كَانَ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ فَلَمْ يَحُجَّ قَضَى مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْدِرْ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لِلْبَاذِلِ الرُّجُوعُ يَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي اخْتِيَارِ الرُّجُوعِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ وُجُوبِ قَضَائِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْبَاذِلَ فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ.
فرع: قَالَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ: يَلْزَمُ الْبَاذِلَ أَنْ يَحُجَّ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ جَاوَزَهُ لَزِمَهُ دَمٌ، وَكَذَا كُلُّ عَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِدْيَةٌ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَشُرُوطُ الْبَاذِلِ الَّذِي يَصِحُّ بَذْلُهُ وَيَجِبُ بِهِ الْحَجُّ أَرْبَعَةٌ: أحدها: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِنَفْسِهِ، بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا مُسْلِمًا والثاني: كَوْنُهُ لَا حَجَّ عَلَيْهِ.

 

ج / 7 ص -55-         والثالث: أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِبَذْلِهِ لَهُ والرابع: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْضُوبًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَقَدْ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ بِإِيضَاحِهَا، فَأَرَدْتُ التنبيه عَلَيْهَا مُفْرَدَةً لِتُحْفَظَ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَذَكَرَ الْقَفَّالُ مَعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ بَقَاءُ الْمُطِيعِ عَلَى الطَّاعَةِ مُدَّةَ إمْكَانِ الْحَجِّ، فَلَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، فَلَا وُجُوبَ، كَمَا إذَا اسْتَجْمَعَ أَسْبَابَ الِاسْتِطَاعَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَفَاتَ بَعْضُهَا قَبْلَ إمْكَانِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْوُجُوبُ، وَلَا نَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يَجِبْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَعْضُوبِ، إذَا وَجَدَ مَالًا وَأَجِيرًا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُهُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ إلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وَهَذَا لَا يَسْتَطِيعُ وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَكَذَا مَعَ الْعَجْزِ كَالصَّلَاةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ قَالَ: حُجَّ عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه "أَنَّ جَارِيَةً شَابَّةً مِنْ خَثْعَمَ اسْتَفْتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ:
إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ أَقَرَّ، وَقَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ، فَهَلْ يُجْزِئُ عَنْهُ أَنْ أُؤَدِّيَ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَدِّي عَنْ أَبِيكِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دِينٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْجُجْ عَنْهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] أَنَّهُ وَجَدَ مِنْ الْمَعْضُوبِ السَّعْيَ وَهُوَ بَذْلُ الْمَالِ وَالِاسْتِئْجَارُ، عَنْ قوله تعالى: {مَنْ اسْتَطَاعَ} [آل عمران:97] أَنَّ هَذَا مُسْتَطِيعٌ بِمَالِهِ، وَعَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَا يَدْخُلُهَا الْمَالُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْمَعْضُوبِ، إذَا لَمْ يَجِدْ مَالًا يَحُجُّ بِهِ غَيْرُهُ، فَوَجَدَ مَنْ يُطِيعُهُ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَدَلِيلُنَا وَدَلِيلُهُمْ يُعْرَفُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ مَا ذَكَرْتُهُ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَا إذَا أَحَجَّ الْمَعْضُوبُ عَنْهُ، ثُمَّ شُفِيَ، وَقَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ. قَدْ ذَكَرنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ،

 

ج / 7 ص -56-         وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُجْزِئُهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ أَنْ يُقَدِّمَهُ لقوله تعالى:
{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وَلِأَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ عَرَّضَهُ لِلْفَوَاتِ بِحَوَادِثِ الزَّمَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ؛ لِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَأَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَّ إلَى سَنَةِ عَشْرٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ لَمَا أَخَّرَهُ".
الشرح: قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ قَدْ يُنْكَرُ، فَيُقَالُ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْتَحْ مَكَّةَ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْحَجِّ إلَّا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ مِنْ حِينِ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ، وَهَذَا اعْتِرَاضٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَمَكَّنَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَنَةَ تِسْعٍ وَتَمَكَّنَ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَحُجَّ وَيَحُجُّوا إلَّا سَنَةَ عَشْرٍ، وَلَمْ يَقُلْ الْمُصَنِّفُ إنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا: الْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ تَعْجِيلُهُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلِحَدِيثِ مِهْرَانَ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ مِهْرَانَ، وَمِهْرَانُ هَذَا مَجْهُولٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْهُ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
الثانية: إذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ وَجَبَ1 التَّرَاخِي عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ إلَّا الْمُزَنِيَّ، فَقَالَ: هُوَ عَلَى الْفَوْرِ فَعَلَى الْمَذْهَبِ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بَعْدَ سَنَةِ الْإِمْكَانِ مَا لَمْ يَخْشَ الْعَضَبَ، فَإِنْ خَشِيَهُ فَوَجْهَانِ: مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَآخَرُونَ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ أصحهما: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ إلَى وَقْتِ فِعْلِهِ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا والثاني: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيَجْرِي هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ خَافَ أَنْ يَهْلِكَ مَالُهُ، هَلْ لَهُ تَأْخِيرُ الْحَجِّ أَمْ لَا؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي كَوْنِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ رضي الله عنهم وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ: هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا نَصَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ.
وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَهَذَا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ فِي هَذَا الْفَصْلِ: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ" وَبِالْحَدِيثِ الْآخَرِ السَّابِقِ: "مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْحَجِّ حَاجَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا"؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا، فَوَجَبَتْ عَلَى الْفَوْرِ كَالصَّوْمِ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أظنه "وجب على التراخي" وإلا فإن التراخي ليس واجبا، ولو كان التراخي واجبا لحرم الفور (ط).

 

ج / 7 ص -57-         بَعِيدَةٍ كَالْجِهَادِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إذَا لَزِمَهُ الْحَجُّ وَأَخَّرَهُ إمَّا أَنْ تَقُولُوا يَمُوتُ عَاصِيًا، وَإِمَّا غَيْرَ عَاصٍ فإن قلتم: لَيْسَ بِعَاصٍ خَرَجَ الْحَجُّ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا وَإِنْ قُلْتُمْ: عَاصٍ، فَأَمَّا أَنَّ تَقُولُوا عَصَا بِالْمَوْتِ أَوْ بِالتَّأْخِيرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْصِيَ بِالْمَوْتِ؛ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ بِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَفَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَتِهِ وَاسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، فَأَقَامَ النَّاسُ الْحَجَّ سَنَةَ ثَمَانٍ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ غَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهَا قَبْلَ الْحَجِّ. فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه فَأَقَامَ النَّاسُ الْحَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ قَادِرِينَ1 عَلَى الْحَجِّ غَيْرَ مُشْتَغِلِينَ بِقِتَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَزْوَاجِهِ وَأَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ سَنَةَ عَشْرٍ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِهِ، هَذَا دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْأَصْحَابِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَخْبَارِ قَالَ فأما: نُزُولُ فَرْضِ الْحَجِّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَكَمَا قَالَ. وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا لَهُ بِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: "وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا، فَقَالَ:
يُؤْذِيَكَ هَوَامُّك؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: فَقَالَ: قَدْ آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَاحْلِقْ رَأْسَكَ قَالَ: فَفِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] إلَى آخِرِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُسْلِمٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] إلَى آخِرِهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ، وَنَزَلَ بَعْدَهَا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ كَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَزَا حُنَيْنًا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَسَّمَ غَنَائِمَهَا وَاعْتَمَرَ مِنْ سَنَتِهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ إلَّا أَيَّامٌ يَسِيرَةٌ، فَلَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ مَعَ أَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا حِينَئِذٍ مُوسِرِينَ، فَقَدْ غَنِمُوا الْغَنَائِمَ الْكَثِيرَةَ وَلَا عُذْرَ لَهُمْ وَلَا قِتَالَ وَلَا شُغْلَ آخَرَ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَنَةِ ثَمَانٍ بَيَانًا لِجَوَازِ التَّأْخِيرِ، وَلِيَتَكَامَلَ الْإِسْلَامُ وَالْمُسْلِمُونَ، فَيَحُجَّ بِهِمْ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَيَحْضُرُهَا الْخَلْقُ فَيُبَلِّغُوا عَنْهُ النَّاسَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
"لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ وَلْتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَنَزَلَ فِيهَا قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 منصوب على الحال (ط).

 

ج / 7 ص -58-         قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ فِيمَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ حَضَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشْرَ أَلْفًا كُلُّهُمْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ، فَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي زُرْعَةَ الَّذِي لَمْ يَحْفَظْ أَحَدٌ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَحِفْظِهِ، وَلَا مَا يُقَارِبُهُ فإن قيل إنَّمَا أَخَّرَهُ إلَى سَنَةِ عَشْرٍ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِطَاعَةِ لِعَدَمِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، أَوْ الْخَوْفِ عَلَى الْمَدِينَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْجِهَادِ فَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ قَرِيبًا.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ:
يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ خَلْقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ؟ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَبِاَلَّذِي خَلْقَ السَّمَاءَ وَخَلْقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا، قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا، قَالَ صَدَقَ، قَالَ: فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ هَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَك آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ؟ قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حِجَّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ: صَدَقَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه" فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَصْلَهُ.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَقُدُومُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ وَآخَرُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سَنَةَ تِسْعٍ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِوُجُوبِ الْحَجِّ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَيَجْعَلُهُ عُمْرَةً، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ مَعَ التَّمَكُّنِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِأَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَفَعَلَهُ يُسَمَّى مُؤَدِّيًا لِلْحَجِّ لَا قَاضِيًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، هَكَذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ أَيْضًا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَآخَرُونَ وَلَوْ حَرُمَ التَّأْخِيرُ لَكَانَ قَضَاءً لَا أَدَاءً فَإِنْ قَالُوا: هَذَا يُنْتَقَضُ بِالْوُضُوءِ، فَإِنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، ثُمَّ فَعَلَهُ كَانَ أَدَاءً، مَعَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ قلنا: قَدْ مَنَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ كَوْنَهُ أَدَاءً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَالَ: بَلْ، هُوَ قَضَاءٌ لِبَقَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهَا لَا لِنَفْسِهِ وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ، فَلَا يُوصَفُ بِالْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الِاصْطِلَاحِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِأَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْحَجِّ وَأَخَّرَهُ، ثُمَّ فَعَلَهُ لَا تَرُدُّ شَهَادَتُهُ فِيمَا بَيْنَ تَأْخِيرِهِ وَفِعْلِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ حَرُمَ لَرُدَّتْ لِارْتِكَابِهِ الْمُسِيءَ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْأَسَالِيبِ: "أُسْلُوبُ الْكَلَامِ

 

ج / 7 ص -59-         فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَقُولَ: الْعِبَادَةُ الْوَاجِبَةُ ثَلَاثَةُ1 أَقْسَامٍ: أحدها: مَا يَجِبُ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمَسَاكِينِ الْعَاجِزَةِ وَهُوَ الزَّكَاةُ، فَيَجِبْ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ بِهَا.
والثاني: مَا تَعَلَّقَ بِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ، وَتَعَلَّقَ بِأَوْقَاتٍ شَرِيفَةٍ كَالصَّلَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ، فَيَتَعَيَّنُ فِعْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَشْرُوعَةِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِعْلُهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ.
والثالث: عِبَادَةٌ تَسْتَغْرِقُ الْعُمْرَ وَتُبْسَطُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ الْإِيمَانُ فَيَجِبُ التَّدَارُكُ إلَيْهِ لِيَثْبُتَ وُجُوبُ اسْتِغْرَاقِ الْعُمْرِ بِهِ.
والرابع: عِبَادَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِوَقْتٍ وَلَا حَاجَةٍ وَلَمْ تُشْرَعْ مُسْتَغْرِقَةً لِلْعُمْرِ، وَكَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمْرِ، وَهِيَ الْحَجُّ، فَحُمِلَ أَمْرُ الشَّرْعِ بِهَا لِلِامْتِثَالِ الْمُطْلَقِ، وَالْمَطْلُوبُ تَحْصِيلُ الْحَجِّ فِي الْجُمْلَةِ وَلِهَذَا إذَا فَاتَتْ الصَّلَاةُ كَانَ قَضَاؤُهَا عَلَى التَّرَاخِي لِعَدَمِ الْوَقْتِ الْمُخْتَصِّ، وَكَذَا الْقِيَاسُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا فَاتَ لَا يَخْتَصُّ قَضَاؤُهُ بِزَمَانٍ، وَلَكِنْ تَثْبُتُ آثَارٌ اقْتَضَتْ غَايَتَهُ بِمُدَّةِ السَّنَةِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا قُلْنَا إنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَلَنَا طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ الْأَمْرَ - مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرَائِنِ - لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِامْتِثَالُ"المجرد"، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ نَقْلنَا الْكَلَامَ إلَى أُصُولِ الْفِقْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تُنَالُ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وَلَا يَتَأَتَّى الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا بَلْ يَقْتَضِي لِلتَّشَاغُلِ بِأَسْبَابِهَا وَالنَّظَرِ فِي الرِّفَاقِ وَالطُّرُقِ، وَهَذَا مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ يَقْتَضِي مُهْلَةً فَسِيحَةً لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِوَقْتٍ، وَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي إضَافَةِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا قَرِينَةٌ فِي اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ لِلتَّرَاخِي فَنَقُولُ: الْأَمْرُ بِالْحَجِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَا يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، هَذَا كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ رحمه الله.
وَأَمَّا: الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ الْحَنَفِيَّةِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا قَالُوا: إنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ"المجرد" عَنْ الْقَرَائِنِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، بَلْ هُوَ عَلَى التَّرَاخِي، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِهِمْ فِي الْأُصُولِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا والثاني: أَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَهُنَا قَرِينَةٌ وَدَلِيلٌ يَصْرِفُهُ إلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ مَعَ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ الْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ.
وأما: الْحَدِيثُ:
"مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلِيُعَجِّلْ" فَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ أحدها: أَنَّهُ ضَعِيفٌ والثاني: أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّهُ فَوَّضَ فَعْلَهُ إلَى إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يُفَوِّضْ تَعْجِيلَهُ إلَى اخْتِيَارِهِ والثالث: أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ جَمَعَا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وأما: الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ "فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا" فَمِنْ أَوْجُهٍ أحدها: أَنَّهُ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ والثاني: أَنَّ الذَّمَّ لِمَنْ أَخَّرَهُ إلَى الْمَوْتِ، وَنَحْنُ نُوَافِقُ عَلَى تَحْرِيمِ تَأْخِيرِهِ إلَى الْمَوْتِ، وَاَلَّذِي نَقُولُ بِجَوَازِهِ هُوَ التَّأْخِيرُ بِحَيْثُ يُفْعَلُ قَبْلَ الْمَوْتِ الثالث: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا قال في النسخ كلها "ثلاثة" وعند التفصيل قال: "والرابع" فحرر (ط).

 

ج / 7 ص -60-         تَرَكَهُ مُعْتَقِدًا عَدَمَ وُجُوبِهِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَهَذَا كَافِرٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّهُ قَالَ: "فَلِيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا" وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا إذَا اعْتَقَدَ عَدَمَ وُجُوبِهِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ وَإِلَّا فَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ الْحَجِّ فَلَمْ يَحُجَّ وَمَاتَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، بَلْ هُوَ عَاصٍ، مُوجِبُ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ لَوْ صَحَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
والجواب: عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّوْمِ أَنَّ وَقْتَهُ مَضِيقٌ فَكَانَ فِعْلُهُ مُضَيَّقًا بِخِلَافِ الْحَجِّ.
والجواب: عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ: لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَهُ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى رَأْي الْإِمَامِ بِحَسْبِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي والثاني: أَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْجِهَادِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْحَجِّ.
والجواب: عَنْ قَوْلِهِمْ: إذَا أَخَّرَهُ وَمَاتَ هَلْ يَمُوتُ عَاصِيًا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِنَا مَوْتُهُ عَاصِيًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا عَصَى لِتَفْرِيطِهِ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ كَمَا إذَا ضَرَبَ وَلَدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ، أَوْ الْمُعَلِّمُ الصَّبِيَّ، أَوْ عَزَّرَ السُّلْطَانُ إنْسَانًا فَمَاتَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ نَظَرْت فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ فَسَقَطَ فَرْضُهُ، وَلَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ، وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ: يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَأَخْرَجَ إلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فَرَجَعَ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ أَنَّهُ هَلَكَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْفَرْضُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ فَسَقَطَ الْفَرْضُ، كَمَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لَمْ يَسْقُطْ الْفَرْضُ وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ تِرْكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَالَ: "أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ قَالَ: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ"؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ لَزِمَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ عَنْهُ مِنْ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَيَجِبُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَاجِبٌ، فَكَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ وَإِنْ اجْتَمَعَ الْحَجُّ وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ وَالتَّرِكَةُ لَا تَتَّسِعُ لَهُمَا فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي آخِرِ الزَّكَاةِ".
الشرح: حَدِيثُ بُرَيْدَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ:
إحداها: إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ - فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَدَاءِ، بِأَنْ مَاتَ قَبْلَ حَجِّ النَّاسِ مِنْ سَنَةِ الْوُجُوبِ - تَبَيَّنَّا عَدَمَ الْوُجُوبِ لَتَبَيُّنِ عَلَامَةِ عَدَمِ الْإِمْكَانِ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَكَانَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: يَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ تِرْكَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ أَخْرَجَ إلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَدَلِيلَهُ فِي الْكِتَابِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بِأَنَّ مَاتَ بَعْدَ حَجِّ النَّاسِ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ، وَوَجَبَ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ تِرْكَتِهِ.
قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: وَرُجُوعُ النَّاسِ لَيْسَ مُعْتَبَرًا إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ إمْكَانُ فَرَاغِ أَفْعَالِ الْحَجِّ حَتَّى وَلَوْ

 

ج / 7 ص -61-         مَاتَ بَعْدَ انْتِصَافِ لَيْلَةِ النَّحْرِ وَمَضَى إمْكَانُ السَّيْرِ إلَى مِنَى وَالرَّمْيُ بِهَا وَإِلَى مَكَّةَ وَالطَّوَافُ بِهَا اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ جُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ هَلَكَ مَالُهُ بَعْدَ رُجُوعِ النَّاسِ أَوْ بَعْدَ مُضِيّ إمْكَانِ الرُّجُوعِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ هَلَكَ مَالُهُ بَعْدَ حَجِّهِمْ وَقَبْلَ الرُّجُوعِ أَوْ إمْكَانِهِ فَوَجْهَانِ أصحهما: أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ فِي الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ، وَقَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ مَالَهُ لَا يَبْقَى إلَى الرُّجُوعِ. هَذَا حَيْثُ نَشْتَرِطُ أَنْ يَمْلِكَ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فَإِنْ لَمْ نَشْتَرِطْهَا اسْتَقَرَّ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ أُحْصِرُوا وَأَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ، فَتَحَلَّلُوا، لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا عَجْزَهُ وَعَدَمَ إمْكَانِ الْحَجِّ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَوْ سَلَكُوا طَرِيقًا آخَرَ وَحَجُّوا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَكَذَا لَوْ حَجُّوا فِي السَّنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا إذَا عَاشَ وَبَقِيَ مَالُهُ.
الثانية: قَالَ أَصْحَابُنَا: حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَأَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ، فَمَاتَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ يَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ تِرْكَتِهِ كَمَا سَبَقَ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، هَذَا إذَا لَمْ يُوصِ بِهِ. فَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالثُّلُثِ وَلَا بِرَأْسِ الْمَالِ، فَهَلْ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ الثُّلُثِ؟ أَمْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ دَيْنُ آدَمِيٍّ وَضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْهُمَا، فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ السَّابِقَةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أصحها: يُقَدَّمُ الْحَجُّ والثاني: دَيْنُ الْآدَمِيِّ والثالث: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ قَوْلًا غَرِيبًا لِلشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يُحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ الْحَجَّةَ الْوَاجِبَةَ إلَّا إذَا أَوْصَى بِهَا، فَإِذَا أَوْصَى حُجَّ عَنْهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَسَنُوَضِّحُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ1 إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ، فَلَوْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَلَا تَرِكَةَ لَهُ بَقِيَ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ الْحَجُّ عَنْهُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ بِنَفْسِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ سَقَطَ الْفَرْضُ، عَنْ الْمَيِّتِ، سَوَاءٌ كَانَ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ إذْنُهُ بِخِلَافِ الْمَعْضُوبِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ إذْنُهُ كَمَا سَبَقَ لِإِمْكَانِ أَدَائِهِ، وَلَوْ حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ أَجْنَبِيٌّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْوَارِثُ، كَمَا يَقْضِي دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَارِثِ وَيَبْرَأُ الْمَيِّتُ بِهِ.
الثَّالِثَةُ: إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهِ وَاسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ، فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَحُجَّ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَهَلْ نَقُولُ مَاتَ عَاصِيًا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أصحها: وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَمُوتُ عَاصِيًا، وَاتَّفَقَ الَّذِينَ ذَكَرُوا فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، قَالُوا: وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ والثاني: لَا يَعْصِي لِأَنَّا حَكَمْنَا بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ والثالث: يَعْصِي الشَّيْخُ دُونَ الشَّابِّ، لِأَنَّ الشَّيْخَ يُعَدُّ مُقَصِّرًا لِقِصَرِ حَيَّاتِهِ فِي الْعَادَةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْخِلَافُ جَارٍ فِيمَا لَوْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ، فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شاء الله ألا يمتد الأجل بالإمام النووي ليبر بوعده وقد شاء الله أن نتولى شرح الوصية نرجو أن نكون قد قاربنا وسددنا وله الحمد والمنة سبحانه (ط).

 

ج / 7 ص -62-         صَارَ زَمِنًا والأصح: الْعِصْيَانُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ، فَإِذَا زَمِنَ وَقُلْنَا بِالْعِصْيَانِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِنَابَةُ عَلَى الْفَوْرِ بِخُرُوجِهِ بِالتَّقْصِيرِ عَنْ اسْتِحْقَاقِ التَّرْفِيهِ؟ وَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي مَعْنَى الْمَيِّتِ؟ أَمْ لَهُ تَأْخِيرُ الِاسْتِنَابَةِ؟ كَمَا لَوْ بَلَغَ مَعْضُوبًا، فَإِنَّ لَهُ تَأْخِيرَ الِاسْتِنَابَةِ قَطْعًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: يَلْزَمُهُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ امْتَنَعَ وَأَخَّرَ الِاسْتِنَابَةَ، هَلْ يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَيْهَا وَيَسْتَأْجِرُ عَنْهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: نَعَمْ، كَزَكَاةِ الْمُمْتَنِعِ وأصحهما: لَا، وَقَدْ سَبَقَ الْوَجْهَانِ، وَنَظَائِرُهُمَا قَرِيبًا، فِيمَا إذَا بَذَلَ لِلْمَعْضُوبِ وَلَدُهُ الطَّاعَةَ فَلَمْ يَقْبَلْ، هَلْ يَقْبَلُ الْحَاكِمُ عَنْهُ؟ الأصح: لَا يَقْبَلُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا: يَمُوتُ عَاصِيًا فَمِنْ أَيْ وَقْتٍ يُحْكَمُ بِعِصْيَانِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ أصحها: مِنْ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ، لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إلَيْهَا جَائِزٌ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ والثاني: مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى لِاسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ فِيهَا والثالث: يَمُوتُ عَاصِيًا، وَلَا يُضَافُ الْعِصْيَانُ إلَى سَنَةٍ بِعَيْنِهَا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فِي صُوَرٍ منها: أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ وَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، لَمْ يُحْكَمْ لِبَيَانِ فِسْقِهِ، وَلَوْ قُضِيَ بِشَهَادَتِهِ بَيْنَ السَّنَةِ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ - فَإِنْ قُلْنَا عِصْيَانُهُ مِنْ الْأَخِيرَةِ - لَمْ يُنْقَضْ ذَلِكَ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ فِسْقَهُ لَمْ يُقَارِنْ الْحُكْمَ، بَلْ طَرَأَ بَعْدَهُ فَلَا يُؤَثِّرُ، وَإِنْ قُلْنَا: عِصْيَانُهُ مِنْ الْأَوْلَى فَفِي نَقْضِهِ الْقَوْلَانِ، فِيمَا إذَا بَانَ أَنَّ فِسْقَ الشُّهُودِ كَانَ مُقَارِنًا لِلْحُكْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا حُكْمُ الْحَجِّ، وَلَوْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ الْمُوسَعِ، فَمَاتَ فِي أَثْنَائِهِ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ هَلْ يَمُوتُ عَاصِيًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ الأصح: لَا يَمُوتُ عَاصِيًا والأصح: فِي الْحَجِّ الْعِصْيَانُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْفَرْقُ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الصَّلَاةِ مَعْلُومٌ وَقَرِيبٌ، فَلَا يُعَدُّ مُفْرِطًا فِي التَّأْخِيرِ إلَيْهِ، مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِالسَّلَامَةِ بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ أَنَّ تَأْخِيرَ الْوَاجِبِ الْمُوسَعِ إنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ إلَى أَنْ يَفْعَلَ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّأْخِيرُ بِلَا خِلَافٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ الْحَجِّ، فَمَاتَ يَجِبُ الْإِحْجَاجُ مِنْ تِرْكَتِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يُحَجُّ عَنْهُ إلَّا إذَا أَوْصَى بِهِ وَيَكُونُ تَطَوُّعًا. دَلِيلُنَا حَدِيثُ بُرَيْدَةُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ فِي مَوْضِعَيْنِ أحدهما: فِي حَقِّ الْمَيِّتِ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجٌّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ والثاني: فِي حَقِّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، كَالزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ، أَدْرَكْت أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ أَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ نَفَعَهُ"؛ وَلِأَنَّهُ أَيِسَ مِنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَنَابَ عَنْهُ غَيْرُهُ كَالْمَيِّتِ، وَفِي حَجِّ التَّطَوُّعِ قَوْلَانِ أحدهما: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ

 

ج / 7 ص -63-         إلَى الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، فَلَمْ تَجُزْ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ والثاني: أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازَتْ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهَا جَازَتْ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهَا كَالصَّدَقَةِ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَتَطَوَّعُ عَنْهُ، وَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ الْحَجَّ لِلْحَاجِّ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ، لِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ انْعَقَدَ لَهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَالصَّرُورَةِ والثاني: يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِهَذَا الْحَجِّ مَنْفَعَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ عَنْهُ فَرْضٌ وَلَا حَصَلَ لَهُ بِهِ ثَوَابٌ بِخِلَافِ الصَّرُورَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ.
فأما: الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ، فَلَا يَنْتَقِلُ الْفَرْضُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ، وَهُوَ إذَا أَيِسَ وَبَقِيَ فِيمَا سِوَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِيهِ وأما: الْمَرِيضُ، فَيُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْيُوسٍ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ فَإِنْ خَالَفَ وَأَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ مَاتَ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْهُ والثاني: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَجَّ وَهُوَ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْهُ فِي الْحَالِ، فَلَمْ يُجْزِهِ، كَمَا لَوْ بَرِئَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَأْيُوسًا مِنْهُ جَازَتْ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مَأْيُوسٍ مِنْهُ فَأَشْبَهَ الزَّمِنَ وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ، فَإِنْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ بَرِئَ مِنْ الْمَرَضِ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ أحدهما: أَنَّهُ كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِيهَا قَوْلَانِ والثاني: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا الْخَطَأَ فِي الْإِيَاسِ، وَيُخَالِفُ مَا إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْيُوسٍ مِنْهُ فَمَاتَ، لِأَنَّا لَمْ نَتَبَيَّنْ الْخَطَأَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ، ثُمَّ زَادَ الْمَرَضُ، فَصَارَ مَأْيُوسًا مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْيُوسًا مِنْهُ، ثُمَّ يَصِيرُ غَيْرَ مَأْيُوسٍ مِنْهُ".
الشرح: حَدِيثُ بُرَيْدَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحَانِ سَبَقَ بَيَانُهُمَا قَرِيبًا، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ سَبَقَ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حَجِّ الْمَعْضُوبِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا رَوَيَاهُ، وَلَيْسَ فِيهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي آخِرِهِ، وَهُنَاكَ سَبَقَ بَيَانُ لَفْظِهِ في "الصحيحين"، وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْحَجِّ عَنْ الْحَيِّ الْمَعْضُوبِ، وَكَذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ هُنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَتَرْجَمَ لَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَخَلَائِقُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ "بَابُ الْحَجُّ عَنْ الْحَيِّ الْمَعْضُوبِ أَوْ الْعَاجِزِ" وَنَحْوِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ بَابِ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى جَوَازِ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ، وَكَذَا احْتَجَّ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا، وَقَدْ يُنْكَرُ ذَلِكَ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ عَنْ الْحَيِّ الْمَعْضُوبِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، كَانَ جَوَازُهُ عَنْ الْمَيِّتِ أَوْلَى، فَيَكُونُ الِاسْتِدْلَال بِهِ لِلْمَيِّتِ مِنْ بَابِ التنبيه بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله: كُلُّ عِبَادَةٍ جَازَتْ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهَا جَازَتْ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهَا، كَالصَّدَقَةِ، يُنْتَقَضُ بِالصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ فِي الْفَرْضِ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، كَمَا سَبَقَ، وَلَا تَجُوزُ فِي النَّفْلِ بِلَا خِلَافٍ وَقَوْلُهُ: كَالصَّرُورَةِ هُوَ - بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ" قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ بِلَا حَجَّةٍ وَلَا يَحِلُّ لِمُسْتَطِيعٍ تَرْكُهُ.

 

ج / 7 ص -64-         وأما: قَوْلُهُ: وَلَا حَصَلَ لَهُ ثَوَابٌ، هَكَذَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "البيان" وَآخَرُونَ، وَالْمُخْتَارُ حُصُولُ الثَّوَابِ لَهُ بِوُقُوعِ الْحَجِّ لَهُ وقوله: لَمْ يَيْأَسْ هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وقوله: بَرِئَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفِيهِ لُغَتَانِ أُخْرَيَانِ سَيَأْتِي1 مُتَعَلِّقَةٌ بِاللَّفْظِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ قوله: الْإِيَاسُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيُقَالُ: بِفَتْحِهَا وَالْأَحْسَنُ الْيَأْسُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَفِيهَا مَسَائِلُ إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ الْمُسْتَقَرِّ فِي الذِّمَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أحدهما: الْمَعْضُوبُ والثاني: الْمَيِّتُ وَسَبَقَ بَيَانُ الْمَعْضُوبِ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ.
فأما: حَجُّ التَّطَوُّعِ فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ عَنْ حَيٍّ لَيْسَ بِمَعْضُوبٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ، وَلَا عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يُوصِ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ وَهَلْ يَجُوزُ عَنْ مَيِّتٍ أَوْصَى بِهِ أَوْ حَيٍّ مَعْضُوبٍ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ مَنْصُوصَانِ لِلشَّافِعِيِّ في "الأم" ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَصَحِّهِمَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: أصحهما: الْجَوَازُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَصْحِيحِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد" وَالْمُصَنَّفُ هُنَا وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَصَحَّحَ الْمَحَامِلِيُّ في "المجموع" الْمَنْعَ، وَالْجُرْجَانِيُّ فِي "التحرير" وَالشَّاشِيُّ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ مَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُ بِالْمَنْعِ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا جَازَ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْفَرْضِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا يَجُوزُ فِي النَّفْلِ، فَيَلْتَبِسُ بِالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ فِي الْفَرْضِ لِلْحَاجَةِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا فِي النَّفْلِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْمُتَيَمِّمِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُمَا لَا يَفْعَلَانِ النَّفَلَ أَبَدًا تَخْرِيجًا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: الْحَجَّةُ الْوَاجِبَةُ بِقَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ، فَيَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمَعْضُوبِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ عَنْ الْمَعْضُوبِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَيَجُوزُ عَنْ الْمَيِّتِ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَجُوزُ مِنْ الْوَارِثِ وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْوَارِثُ أَمْ لَا بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ حَجٌّ وَلَا لَزِمَهُ حَجٌّ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَفِي جَوَازِ الْإِحْجَاجِ عَنْهُ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أحدهما: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ لِوُقُوعِهِ وَاجِبًا. والثاني: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَالتَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا قُلْنَا: تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمَعْضُوبِ جَازَ حَجَّتَانِ وَثَلَاثٌ وَأَكْثَرُ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ "البيان"، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا جَوَّزْنَاهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ بِخِلَافِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُمَا فِيهَا، وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُمَا فِي حَجَّةِ النَّذْرِ؟ قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنْ قُلْنَا: يَسْلُكُ بِالنَّذْرِ مَسْلَكَ جَائِزِ التَّبَرُّعِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا صَحَحْنَا النِّيَابَةَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ اسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ بِلَا خِلَافٍ2. [وَإِنْ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل ولعل الصواب سيأتي بينهما في باب القسامة (ط).
2 من جريدة مراجعات السيد الحداد ومنها نقلنا ما بين المعقوفين.

 

ج / 7 ص -65-         لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِئْجَارَ وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْأَجِيرِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُسَمَّى]، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرُهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: لَا يُجْزِئُهُ والثاني: يُجْزِئُهُ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ الصُّورَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ إذَا مَاتَ بِذَلِكَ الْمَرَضِ، فَلَوْ مَاتَ فِيهِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ بِأَنْ قُتِلَ أَوْ لَسَعَتْهُ حَيَّةٌ وَنَحْوُهَا أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ سَقْفٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِئْهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَبَيَّنْ كَوْنَ الْمَرَضِ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ.
أما: إذَا كَانَ الْمَرَضُ وَالْعِلَّةُ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، فَلَهُ الِاسْتِنَابَةُ، فَإِنْ حَجَّ النَّائِبُ وَاتَّصَلَ بِالْمَوْتِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ شُفِيَ فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفِ بِدَلِيلِهِمَا أحدهما: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ، وَهُوَ نَصُّهُ في "الأم" وأصحهما: فِيهِ الْقَوْلَانِ كَالصُّورَةِ الَّتِي قَبْلهَا أصحهما: لَا يُجْزِئُهُ فإن قلنا: فِي الصُّورَتَيْنِ: يُجْزِئُهُ اسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ وإن قلنا: لَا يُجْزِئُهُ فَعَمَّنْ يَقَعُ الْحَجُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَقَعُ عَنْ الْأَجِيرِ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَعَلَيْهِ فَرْضٌ وأصحهما: عِنْدَ الْغَزَالِيِّ يَقَعُ عَنْ تَطَوُّعِ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَكُونُ هَذَا غَرَرًا فِي وُقُوعِ النَّفْلِ قَبْلَ الْفَرْضِ كَالرِّقِّ وَالصِّبَا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ.
فإن قلنا: يَقَعُ عَنْ الْأَجِيرِ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَيْنِ، قَالَ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ: أصحهما: لَا يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا والثاني: يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَهُ فِي اعْتِقَادِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنَيَانِ عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ إذَا أَحْرَمَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ صَرَفَ الْإِحْرَامَ إلَى نَفْسِهِ لَا يَنْصَرِفُ، بَلْ يَبْقَى لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّ حَجَّهُ وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَرْضًا كَأَنَّهُ لَمْ يَصْرِفْهُ والثاني: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ لَهُ فِي اعْتِقَادِهِ، وَالْفَرْقُ فِي الصُّورَتَيْنِ فِي الْأَصَحِّ حَيْثُ قُلْنَا: الْأَصَحُّ فِي هَذِهِ الثَّانِيَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَالْأَصَحُّ فِي الْأُولَى الْمَبْنِيَّةِ لَا يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّ فِي الثَّانِيَةِ وَقَعَ الْحَجُّ فَرْضًا عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا اسْتَأْجَرَهُ، وَفِي الْأُولَى لَمْ يَقَعْ عَنْهُ.
وَقَاسَ أَصْحَابُنَا وُجُوبَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي صُورَةِ صَرْفِ الْإِحْرَامِ إلَى نَفْسِ الْأَجِيرِ، عَلَى مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ إنْسَانٌ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا فَبَنَاهُ الْأَجِيرُ، مُعْتَقِدًا أَنَّ الْحَائِطَ لِنَفْسِهِ فَبَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْفَرْقُ عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ أَنَّ الْأَجِيرَ فِي صَرْفِ الْإِحْرَامِ جَائِرٌ مُخَالِفٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْصَرِفُ، بِخِلَافِ الثَّانِي، فَإِنْ قُلْنَا فِي أَصْلِ مَسْأَلَتِنَا: يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، فَهَلْ هِيَ الْمُسَمَّى؟ أَمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ، وَغَيْرُهُ أحدهما: الْمُسَمَّاةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَبْطُلْ والثاني: أُجْرَةُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَعَيَّنُ عَمَّا عُقِدَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَصَحُّ وإن قلنا: عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ اسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَلْ هِيَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَمْ الْمُسَمَّى؟ الصحيح: أَنَّهَا الْمُسَمَّى، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْبَغَوِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ مَرِيضًا غَيْرَ مَأْيُوسٍ، مِنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَلَوْ اسْتَنَابَ وَمَاتَ لَا يُجْزِئُهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا إذَا مَاتَ بَعْدَ حَجِّ الْأَجِيرِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ حَجِّ الْأَجِيرِ أَجْزَأَهُ وَوَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا لَوْ تَفَاحَشَ ذَلِكَ الْمَرَضُ، فَصَارَ مَأْيُوسًا مِنْهُ،

 

ج / 7 ص -66-         صَرَّحَ بِهِ صاحب "الشامل" وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "البيان" وَآخَرُونَ.
فرع: يُعْرَفُ كَوْنُ الْمَرِيضِ مَأْيُوسًا مِنْهُ بِقَوْلِ مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ ذَكَرَهُ1 وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي كَوْنِ الْمَرَضِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بِسُهُولَةٍ أَمْرُ التَّيَمُّمِ.
فرع: الْجُنُونُ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْ زَوَالِهِ، قَالَ صاحب "الشامل" وَالْأَصْحَابُ: فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، ثُمَّ جُنَّ لَا يُسْتَنَابُ عَنْهُ، فَإِذَا مَاتَ حَجَّ عَنْهُ، وَإِنْ اسْتَنَابَ وَحَجَّ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَّاتِهِ، ثُمَّ أَفَاقَ لَزِمَهُ الْحَجُّ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا سَبَقَ فِي الْمَرِيضِ إذَا شُفِيَ، وَإِنْ اسْتَمَرَّ جُنُونُهُ حَتَّى مَاتَ قَالَ صاحب "الشامل": فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَرِيضِ إذَا اتَّصَلَ مَرَضُهُ بِالْمَوْتِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْمَرِيضَ غَيْرَ الْمَأْيُوسِ مِنْهُ لَا يَصِحُّ اسْتِنَابَتُهُ فِي الْحَجِّ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ لَا يَجُوزُ اسْتِنَابَتُهُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدْ وَدَاوُد، وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، قَالَ: وَيَكُونُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ فِعْلُهُ، وَإِنْ مَاتَ أَجْزَأَهُ. وَاحْتَجَّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَعْضُوبِ، قُلْنَا: الْمَعْضُوبُ آيِسٌ مِنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ هَذَا.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ لَا يَصِحُّ اسْتِنَابَتُهُ فِي حَجِّ فَرْضٍ وَلَا نَفْلٍ هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد. وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ اسْتِنَابَتَهُ فِي التَّطَوُّعِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. دَلِيلُنَا الْقِيَاسُ عَلَى الْفَرْضِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ حَيٍّ وَلَا يُصَلِّي وَلَا يَعْتَكِفُ تَطَوُّعًا.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا الْمَشْهُورَ أَنَّهُ إنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجُّ الْإِسْلَامِ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ، وَجَبَ قَضَاؤُهَا مِنْ تِرْكَتِهِ، أَوْصَى بِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا لَمْ يُوصِ بِهِ يُتَطَوَّعُ عَنْهُ بِغَيْرِ الْحَجِّ وَيُهْدَى عَنْهُ أَوْ يُتَصَدَّقُ أَوْ يُعْتَقُ عَنْهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَلَا يَحُجُّ عَنْ الْغَيْرِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ: أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَحُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ،" وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَعْتَمِرْ عَنْ نَفْسِهِ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَأَكْرَهُ أَنْ يُسَمَّى مَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةً، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: "لا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ" وَلا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُمَا، وَلَا يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَنْ النَّذْرِ، وَعَلَيْهِ فَرْضُ حَجَّةَ الإِسْلامِ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ وَالنَّذْرَ أُضَعَّفُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُمَا عَلَيْهَا كَحَجِّ غَيْرِهِ عَلَى حَجِّهِ، فَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ لِنَفْسِهِ، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ولعله ذكره المصنف في باب التيمم (ط).

 

ج / 7 ص -67-         عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ"
فَإِنْ أَحْرَمَ بِالنَّفْلِ، وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ عَنْ الْفَرْضِ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ النَّذْرِ، وَعَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ عَنْ فَرْضِ الْإِسْلَامِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ، فَإِنْ أَمَرَ الْمَعْضُوبُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ عَنْ النَّذْرِ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَأَحْرَمَ عَنْهُ انْصَرَفَ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَلَوْ أَحْرَمَ هُوَ عَنْ النَّذْرِ انْصَرَفَ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ النَّائِبُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَحَجَّةُ نَذْرٍ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَحُجَّانِ عَنْهُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ نَصَّ في "الأم" أَنَّهُ يَجُوزُ، وَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّمْ النَّذْرَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحُجُّ بِنَفْسِهِ حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بَعْضُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَبَاقِيهِ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَالصَّرُورَةُ - بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - قَدْ بَيَّنَّاهُ قَرِيبًا، وَأَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَرَّ بِنَفْسِهِ عَنْ خَرَاجِهَا فِي الْحَجِّ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ: صَرُورَةٌ؛ لِأَنَّهُ صَرَّ بِنَفْسِهِ عَنْ إخْرَاجِهَا فِي النِّكَاحِ.
وأما حديث ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ شُبْرُمَةَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ قَالَ أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ" هَذَا لَفْظُ أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ: مَنْ شُبْرُمَةَ؟ فَذَكَرَ أَخًا لَهُ أَوْ قَرَابَةً، فَقَالَ: أَحَجَجْتَ قَطُّ؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي هَذَا؟ الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ كَذَلِكَ مَرْفُوعًا، قَالَ: وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَمَنْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا حَافِظٌ ثِقَةٌ، فَلا يَضُرُّهُ خِلافُ مَنْ خَالَفَهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"سَمِعَ رَجُلًا يَقُول: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ فَقَالَ: أَخٌ لِي، فَقَالَ: هَلْ حَجَجْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ اُحْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ"، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَهْمٌ، قَالَ: إنَّ الْحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ كَانَ يَرْوِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الصَّوَابِ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وأما: شُبْرُمَةُ فَبِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ، ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ رَاءٍ مَضْمُومَةٍ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ فَفِيهِ مَسَائِلُ إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لا يَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةُ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا لِمَنْ عَلَيْهِ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ إذَا أَوْجَبْنَاهَا، أَوْ عُمْرَةُ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْ غَيْرِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، فَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ الْغَيْرِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ عَنْ نَفْسِهِ

 

ج / 7 ص -68-         وَلَا غَيْرِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ عَنْ الْغَيْرِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَيُّوبُ السِّجِسْتَانِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَنْعَقِدُ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ؟ نُظِرَ، إنْ ظَنَّهُ قَدْ حَجَّ فَبَانَ لَمْ يَحُجُّ لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً لِتَغْرِيرِهِ، وَإِنْ عِلْمَ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ، وَقَالَ: يَجُوزُ فِي اعْتِقَادِي أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ، فَحِجُّ الْأَجِيرِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ. أُجْرَةُ الْمِثْلِ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ سَبَقَ نَظَائِرُهُمَا.
وَأَمَّا:1 إذَا اسْتَأْجَرَ لِلْحَجِّ مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ أَوْ لِلْعُمْرَةِ مَنْ اعْتَمَرَ وَلَمْ يَحُجَّ، فَقَرَنَ الْأَجِيرُ، وَأَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ أَحْرَمَ بِمَا اُسْتُؤْجِرَ لَهُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَبِالْأَجِيرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ الجديد: الْأَصَحُّ يَقَعَانِ عَنْ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ نُسُكَيْ الْقِرَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ لِاتِّحَادِ الْإِحْرَامِ، وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ إلَيْهِ والثاني: أَنَّ مَا اُسْتُؤْجِرَ لَهُ يَقَعُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْآخَرُ عَنْ الْأَجِيرِ، وَقَطَعَ كَثِيرُونَ بِالْجَدِيدِ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ عَنْهُ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا وَقَعَ النُّسُكَانِ جَمِيعًا عَنْ الْمَيِّتِ بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْمَيِّتَ يَجُوز أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ الْأَجْنَبِيُّ، وَيَعْتَمِرَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَلَا إذْنِ وَارِثٍ بِلَا خِلَافٍ كَمَا يَقْضِي دَيْنَهُ.
أما:2 إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلَانِ شَخْصًا أحدهما: لِيَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ: لِيَعْتَمِرَ عَنْهُ فَقَرَنَ عَنْهُمَا، فَعَلَى الْجَدِيدِ يَقَعَانِ عَنْ الْأَجِيرِ، وَعَلَى الثَّانِي يَقَعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مَا اسْتَأْجَرَ لَهُ.
فرع: لَوْ أَحْرَمَ الْأَجِيرُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، ثُمَّ نَذْرَ حَجَّةً - نَظَرَ إنْ نَذَرَهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ - لَمْ يَنْصَرِفْ حَجُّهُ إلَيْهِ، بَلْ يَقَعُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ نَذْرَهُ قَبْلَهُ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ أصحهما: انْصِرَافُهُ إلَى الْأَجِيرِ والثاني: لَا يَنْصَرِفُ. وَلَوْ أَحْرَمَ رَجُلٌ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ، ثُمَّ نَذْرَ حَجًّا بَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى النَّذْرِ، وَقَبْلَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
المسألة الرابعة: نَقَلَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُسَمَّى مَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةً، قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: سَبَبُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلْعِشَاءِ عَتَمَةٌ وَلِلْمَغْرِبِ عِشَاءٌ وَلِلطَّوَافِ شَوْطٌ قَالُوا: وَكَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمِّي مَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةً لِصَرِّهِ النَّفَقَةَ وَإِمْسَاكِهَا، وَتُسَمِّي مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ صَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ صَرَّ الْمَاءَ فِي ظَهْرِهِ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي.
وَقَوْلُهُ: يُكْرَهْ تَسْمِيَةُ الطَّوَافِ شَوْطًا هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَدْ ثَبَتَ في "الصحيحين" عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ تَسْمِيَةُ الطَّوَافِ شَوْطًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا اسْتَعْمَلَاهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهَذَا جَوَابٌ ضَعِيفٌ، وَسَنُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ فِي مَسَائِلِ الطَّوَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وأما: كَرَاهِيَةُ تَسْمِيَةِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةً، وَاسْتِدْلَالَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكر من المسائل سوى الأولى والرابعة ولعل الثانية هي هذه والمسألة الثالثة "أما إذا استأجر رجلان شخصا ورقمنا عليها 2 فتأمله" (ط).

 

ج / 7 ص -69-         الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا يَحُجُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَحَجَّةُ نَذْرٍ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ تَقْدِيمِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِئُهُ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ عَنْهُمَا، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا أَرَادَ بِذَلِكَ وَفَاءَ نَذْرِهِ فَهِيَ عَنْ النَّذْرِ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ مَنْ قَابِلٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِلْحَجِّ
هَذَا الْفَصْلُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَهُ فِي كِتَابِ "الْإِجَارَةِ"، وَبَعْضًا مِنْهُ فِي كِتَابِ "الْوَصِيَّةِ" وَحَذَفَ بَعْضًا مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ فِي "المختصر" هُنَا، وَتُرْجَمَ لَهُ بَابًا مُسْتَقِلًّا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ "الْحَجِّ"، وَتَابَعَهُ الْأَصْحَابُ عَلَى ذِكْرِهِ هُنَا إلَّا الْمُصَنِّفُ. فَأَرَدْتُ مُوَافَقَةَ الْمُزَنِيِّ وَالْأَصْحَابِ فَأَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَقَاصِدَ مَا ذَكَرُوهُ مُخْتَصِرَةً.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ وَعَلَى الْعُمْرَةِ لِدُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهِمَا كَالزَّكَاةِ، وَيَجُوزُ بِالْبَذْلِ كَمَا يَجُوزُ بِالْإِجَارَةِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد" وَالْأَصْحَابُ، قَالُوا: وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: حُجَّ عَنَى وَأُعْطِيكَ، نَفَقَتَكَ، أَوْ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ حَيْثُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ فِي صُورَتَيْنِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ وَفِي الْمَعْضُوبِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَأُجْرَةُ الْحَجِّ حَلَالٌ مِنْ أَطْيَبِ الْمَكَاسِبِ.
فرع: الِاسْتِئْجَارُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ ضَرْبَانِ أحدهما: اسْتِئْجَارُ عَيْنِ الشَّخْصِ والثاني: إلْزَامُ ذِمَّتِهِ الْعَمَلَ، مِثَالُ الْأَوَّلِ مِنْ الْحَجِّ أَنْ يَقُولَ الْمَعْضُوبُ اسْتَأْجَرْتُكَ أَنْ تَحُجَّ [عَنِّي، أَوْ] عَنْ مَيِّتِي، وَلَوْ قَالَ: اُحْجُجْ بِنَفْسِكَ كَانَ تَأْكِيدًا وَمِثَالُ الثَّانِي: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ تَحْصِيلَ الْحَجِّ لِي أَوْ لَهُ، وَيَفْتَرِقُ النَّوْعَانِ فِي أُمُورٍ سَتَرَاهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ لِصِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ شُرُوطٌ وَآثَارٌ وَأَحْكَامٌ مَوْضِعُهَا كِتَابُ الْإِجَارَةِ، وَاَلَّذِي نَذْكُرُ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ الْحَجِّ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ضَرْبَيْ الْإِجَارَةِ قَدْ يُعَيَّنُ فِيهِ زَمَنُ الْعَمَلِ وَقَدْ لَا يُعَيَّنُ، وَإِذَا عُيِّنَ فَقَدْ تُعَيَّنُ السَّنَةُ الْأُولَى، وَقَدْ تُعَيَّنُ غَيْرُهَا، فَأَمَّا فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ فَإِنْ عَيَّنَّا السَّنَةَ الْأُولَى جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ وَالْحَجُّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا مَقْدُورًا لِلْأَجِيرِ، فَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ آمِنٍ، أَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً بِحَيْثُ لَا تَنْقَطِعُ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِلْعَجْزِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ عَيَّنَّا غَيْرَ السَّنَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، كَاسْتِئْجَارِ الدَّارِ لِلشَّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهَا فِي سَنَةٍ فَلَا يَضُرُّ التَّأْخِيرُ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ السَّنَةُ الْأُولَى مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا مَا سَبَقَ وأما: الْإِجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا السَّنَةُ الْأُولَى، بَلْ يَجُوزُ تَعَيُّنُ السَّنَةِ الْأُولَى وَتَعَيُّنُ غَيْرِهَا، فَإِنْ عَيَّنَ الْأُولَى أَوْ غَيْرَهَا تَعَيَّنَتْ، وَإِنْ أَطْلَقَ حُمِلَ عَلَى الْأُولَى وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ مَرَضُ الْأَجِيرِ، وَلَا خَوْفُ الطَّرِيقِ، لِإِمْكَانِ

 

ج / 7 ص -70-         الِاسْتِنَابَةِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا أَيْضًا ضِيقُ الْوَقْتِ، إنْ عَيَّنَ غَيْرَ السَّنَةِ الْأُولَى.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ أَنْ يَسْتَنِيبَ بِحَالٍ، وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ أَنَّ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ، وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ: إنْ قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي جَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَإِنْ قَالَ اُحْجُجْ بِنَفْسِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَعْيَانِ الْأُجَرَاءِ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْفَصْلَ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ وَخَطَّأَهُ فِيهِ، وَقَالَ: الْإِجَارَةُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الدِّينِيَّةَ مَعَ الرَّبْطِ بِالْعَيْنِيَّةِ1 يَتَنَاقَضَانِ كَمَنْ أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ مُعِينٍ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا إشْكَالٌ قَوِيٌّ.
فرع: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه" وَالْمَحَامِلِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْقَسِمُ إلَى ضَرْبَيْنِ كَالْإِجَارَةِ أحدهما: بَيْعُ عَيْنٍ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَيَقُول: بِعْتُكَ هَذَا، فَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ اقْتَضَى الصِّحَّةَ وَتَسْلِيمَ الْعَيْنِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ التَّسْلِيمُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ، سَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِلَا عُذْرٍ، وَإِنْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ تَأْخِيرَ السَّلَمِ وَلَوْ سَاعَةً بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ لَا يُفْتَقَرُ الْعَقْدُ إلَيْهِ، وَرُبَّمَا تَلِفَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالصَّوَابُ الثَّانِي، وَهُوَ بَيْعُ صِفَةٍ وَهُوَ السَّلَمُ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ اقْتَضَى الْحُلُولَ، وَإِنْ شَرَطَ أَجَلًا صَحَّ، بِخِلَافِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ تَلَفُهُ، فَلَا غَرَرَ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: أَعْمَالُ الْحَجِّ مَعْرُوفَةٌ فَإِنْ عَلِمَهَا الْمُتَعَاقِدَانِ عِنْدَ الْعَقْدِ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ جَهِلَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمِيقَاتِ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ الْأَجِيرُ؟ نَصَّ الشَّافِعِيُّ في "الأم" و"مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ" أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، وَنَصَّ في "الإملاء" أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَالْأَصْحَابُ أَرْبَعُ طُرُقٍ أصحها: وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَوَافَقَ الْمُصَنَّفُونَ عَلَى تَصْحِيحِهِ: فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: لَا يُشْتَرَطُ، وَيُحْمَلُ عَلَى مِيقَاتِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَقَعُ عَلَى حَجٍّ شَرْعِيٍّ وَالْحَجُّ الشَّرْعِيُّ لَهُ مِيقَاتٌ مَعْقُودٌ شَرْعًا وَغَيْرُهَا، فَانْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ.
وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُقَرِّرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ وَمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَوْ الْعُرْفِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ النَّقْدُ الْغَالِبُ وَيَكُونُ كَمَا قَرَّرَاهُ، وَمِمَّنْ، نَصَّ عَلَى تَصْحِيحِ هَذَا الْقَوْلِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه" وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمِيقَاتِ وَفَوْقَهُ وَدُونَهُ، وَالْغَرَضُ يَخْتَلِفُ، بِذَلِكَ، فَوَجَبَ بَيَانُهُ.
والطريق الثاني: إنْ كَانَ لِلْبَلَدِ طَرِيقَانِ مُخْتَلِفَا الْمِيقَاتِ، أَوْ طَرِيقٌ يُفْضِي إلَى مِيقَاتَيْنِ، كَقَرْنٍ وَذَاتِ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَكَالْجُحْفَةِ وَذِي الْحُلَيْفَةِ لِأَهْلِ الشَّامِّ فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَمُرُّونَ بِهَذَا وَتَارَةً يَمُرُّونَ بِهَذَا، اشْتَرَطَ بَيَانُهُ وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا الطَّرِيقُ مَشْهُورٌ فِي طَرِيقِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالأصول بالرجوع إلى ما حكاه إمام الحرمين في مخطوطة دار الكتب وجدنا العبارة هكذا "لأن الدينية مع الربط بالعينية يتناقضان.. الخ" وهكذا تحققنا من المصدر الذي نقل عنه الشارح رحمه الله (ط).

 

ج / 7 ص -71-         والثالث:1 إنْ كَانَ الاسْتِئْجَارُ عَنْ حَيٍّ اُشْتُرِطَ، وَإِنْ كَانَ عَنْ مَيِّتٍ فَلَا؛ لِأَنَّ الْحَيَّ قَدْ يَتَعَلَّقُ لَهُ بِهِ غَرَضٌ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي حَقِّهِ تَحْصِيلُ الْحَجِّ، وَهَذَا الطَّرِيقُ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَضَعَّفَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَآخَرُونَ وَقَالُوا: هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
والرابع: يُشْتَرَطُ قَوْلًا وَاحِدًا حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ شَرَطَا تَعْيِينَهُ فَأَهْمَلَاهُ فَسَدَتْ الإِجَارَةُ، لَكِنْ يَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ وَيَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَهَذَا لا خِلَافَ فِيهِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ، وَلَوْ عَيَّنَّا مِيقَاتًا أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَتَفْسُدُ الْإِجَارَةُ، لَكِنْ يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَا سَبَقَ، وَلَوْ عَيَّنَّا مِيقَاتًا أَبْعَدَ عَنْ مَكَّةَ مِنْ مِيقَاتِهِ صَحَتْ الْإِجَارَةُ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمِيقَاتُ كَمَا لَوْ نَذَرَهُ، وَأَمَّا تَعْيِينُ زَمَانِ الْإِحْرَامِ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ لِلْإِحْرَامِ وَقْتًا مَضْبُوطًا لَا يَجُوزُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ، فَلَوْ شُرِطَ الْإِحْرَامُ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ جَازَ، وَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي: وَعَلَى هَذَا لَوْ أَحْرَمَ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ وَأَفْسَدَهُ لَزِمَهُ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يُحْرِمَ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ كَمَا فِي مِيقَاتِ الْمَكَانِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، اُشْتُرِطَ بِلَا خِلَافٍ بَيَانُ أَنَّهُمَا فِرَادٌ أَوْ تَمَتُّعٌ أَوْ قِرَانٌ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ.
فرع: نَقَلَ الْمُزَنِيّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ في "المنثور" أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمَعْضُوبُ: مَنْ حَجَّ عَنَى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَحَجَّ عَنْهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ، قَالَ الْمُزَنِيّ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا إجَارَةٌ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْأَجْرِ، هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَّلِ بَابِ الْجَعَالَةِ، وَلِلْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصحيح: وُقُوعُ الْحَجِّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ، قَالُوا: لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ، وَالْجَعَالَةُ تَجُوزُ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، فَالْمَعْلُومُ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَسْتَحِقُّ الأَجِيرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لا الْمُسَمَّى، حَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ مُعْظَمَ الْإِصْحَابِ مَالُوا إلَى هَذَا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: لَا تَجُوزُ الْجَعَالَةُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.
والثالث: أَنَّهُ يَفْسُدُ الْإِذْنُ وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ إلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ دَارِي فِي بَيْعِهَا، فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ، وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا التَّوْكِيلِ، وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الشَّيْخَ وَالِدَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ أَشَارَ إلَيْهِ، فَقَالَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسَادِ الْإِذْنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، بَلْ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْمَذْهَبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الطرق الأربعة في اشتراط تعيين الميقات (ط).

 

ج / 7 ص -72-         وَالدَّلِيلِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، فَقَالَ: مَنْ حَجَّ عَنْهُ، فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَسَمِعَهُ رَجُلَانِ وَأَحْرَمَا عَنْهُ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْأَصْحَابُ إنْ سَبَقَ إحْرَامُ أَحَدِهِمَا وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْقَائِلِ، وَيَسْتَحِقُّ السَّابِقُ الْمِائَةَ، وَإِحْرَامُ الثَّانِي يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَإِنْ أَحْرَمَا مَعًا أَوْ شَكَّ فِي السَّبْقِ وَالْمَعِيَّةِ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، بَلْ يَقَعُ إحْرَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَصَارَ كَمَنْ عَقَدَ نِكَاحَ أُخْتَيْنِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ قَالَ: مَنْ حَجَّ عَنِّي، فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَحْرَمَ عَنْهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، وَقَعَ إحْرَامُ السَّابِقِ بِالْإِحْرَامِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْقَائِلِ، وَلَهُ عَلَيْهِ الْمِائَةُ، وَلَوْ أَحْرَمَا مَعًا وَقَعَ حَجُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُمَا عَلَى الْقَائِلِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَوَّلٌ، وَلَوْ كَانَ الْعِوَضُ مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ: مَنْ حَجَّ عَنِّي، فَلَهُ عَبْدٌ أَوْ ثَوْبٌ أَوْ دَرَاهِمُ، وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْقَائِلِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ فَاسِدَةٍ أَوْ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ، وَحَجَّ الْأَجِيرُ وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا، وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ. قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ كَمَا لَوْ وَكُلَّهُ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ عِوَضٍ فَاسِدٍ لِلْوَكِيلِ فَالْإِذْنُ صَحِيحٌ، وَالْعِوَضُ فَاسِدٌ، فَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ صَحَّ وَاسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ.
فرع: قَالَ الرَّافِعِيُّ: مُقْتَضَى كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ تَجْوِيزَ تَقْدِيمِ إجَارَةِ الْعَيْنِ عَلَى وَقْتِ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ، وَأَنَّ لِلْأَجِيرِ انْتِظَارَ خُرُوجِهِمْ، وَيَخْرُجُ مَعَ أَوَّلِ رُفْقَةٍ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ يُنَازَعُ فِيهِ، وَيَقْتَضِي اشْتِرَاطُ وُقُوعِ الْعَقْدِ فِي وَقْتِ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، حَتَّى قَالَ الْبَغَوِيّ: لَا تَصِحُّ إجَارَةُ الْعَيْنِ إلَّا فِي وَقْتِ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، بِحَيْثُ يَشْتَغِلْ عَقِبَ الْعَقْدِ بِالْخُرُوجِ أَوْ بِأَسْبَابِهِ، مِثْلُ شِرَاءِ الزَّادِ وَنَحْوِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ: وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ بِمَكَّةَ لَمْ يَجُزْ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعَمَلِ عَقِبَ الْعَقْدِ، قَالَ: وَعَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ لَوْ جَرَى الْعَقْدُ فِي وَقْتِ تَرَاكُمِ الثُّلُوجِ وَالْأَنْدَادِ فَوَجْهَانِ أحدهما: يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْوَجِيزِ"، وَصَحَّحَهُ فِي "الوسيط"؛ لِأَنَّ تَوَقُّعَ زَوَالِهَا مَضْبُوطٌ والثاني: لَا، لِتَعَذُّرِ الِاشْتِغَالِ بِالْعَمَلِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ انْتِظَارِ خُرُوجِ الرُّفْقَةِ، فَإِنَّ خُرُوجَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ هَذَا كُلُّهُ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ.
أما: إجَارَةُ الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْخُرُوجِ بِلَا شَكٍّ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ - هَذَا النَّقْلَ عَنْ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ الْبَغَوِيِّ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِ الْإِمَامِ، أَوْ هُوَ شُذُوذٌ مِنْ الْبَغَوِيِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَى جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، فَإِنَّ الَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي "الشَّامِلِ" و"التنبيه" و"البحر" وَغَيْرِهَا، مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْخُرُوجُ وَالسَّيْرُ عَلَى الْعَادَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِأَسْبَابِ الْخُرُوجِ قَالَ صَاحِبُ "البحر": أَمَّا عَقْدُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ: فَيَجُوزُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لِإِمْكَانِ الْإِحْرَامِ فِي الْحَالِ، هَذَا كَلَامُ أَبِي عَمْرٍو.
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه": إنَّمَا يَجُوزُ عَقْدُ إجَارَةِ الْعَيْنِ فِي وَقْتِ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ وَاتِّصَالِ الْقَوَافِلِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالَ بِعَمَلِ الْحَجِّ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَالِاشْتِغَالَ بِشِرَاءِ الزَّادِ، وَالتَّأَهُّبَ لِلسَّفَرِ

 

ج / 7 ص -73-         مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ السَّفَرِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ قَبْلَ الرُّفْقَةِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَخَاهُ مِنْ قَبْلِ زَمَانِ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ لَمْ تَنْعَقِدْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ بَاطِلَةٌ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ بَابِ الْإِجَارَةِ: فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ لَمْ يَجُزْ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّوَجُّهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ حَالِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ إلَّا أَنْ يَسِيرَ قَبْلَ أَشْهُرِهِ لَمْ يَسْتَأْجِرْ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الشُّرُوعِ فِي الِاسْتِيفَاءِ.
وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ في "المجموع" فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ كِتَابِ "الْحَجِّ: "لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَوْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَيْرِهِ إلَى الْحَجِّ عَقِبَ الْعَقْدِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي يُمْكِنُ ابْتِدَاءُ الْحَجِّ فِيهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيُدْرِكُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى شَرْطِ تَأْخِيرِ السَّلَمِ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَأْخُذَ فِي أَفْعَالِهِ عَقِبَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَنْ حَالِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ بِبَلَدٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحُجَّ إلَّا بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، جَازَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى السَّيْرِ إلَى الْحَجِّ، وَالْخُرُوجِ لَهُ مِنْ الْبَلَدِ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَذَكَرَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَكَثِيرُونَ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد": لَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْعَيْنِ إلَّا فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِيهِ، أَوْ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى السَّبَبِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي بِلَادٍ قَرِيبَةٍ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ السَّيْرِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ كَبِلَادِ الْعِرَاقِ، لَمْ يَجُزْ عَقْدُهَا إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ السَّيْرِ قَبْلَ أَشْهُرِهِ كَبِلَادِ خُرَاسَانَ جَازَ تَقْدِيمُ الْعَقْدِ عَلَى، أَشْهُرِ الْحَجِّ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، فَأَمَّا عَقْدُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَيَجُوزُ فِي كُلِّ مَكَان لِإِمْكَانِ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: إذَا اسْتَأْجَرَ عَنْهُ، فَإِنْ وَصَلَ الْعَقْدُ بِالرَّحِيلِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْهُ - فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ - لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ بِبَلَدٍ قَرِيبٍ كَبَغْدَادَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا جَازَ.
فرع: إذَا لَمْ يَشْرُعْ فِي الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ انْفَسَخَتْ بِلَا خِلَافٍ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ يُنْظَرُ - إنْ لَمْ يُعَيِّنَا سَنَةً - فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ كَتَعْيِينِ السَّنَةِ الْأُولَى وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى وَالْحَالَةُ هَذِهِ، لَكِنْ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ، وَإِنْ عَيَّنَا السَّنَةَ الْأُولَى أَوْ غَيْرَهَا وَأَخَّرَ عَنْهَا فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فِي مَحِلِّهِ أظهرهما: لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ والثاني: يَنْفَسِخُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ، وَبِهِ قَطَعَ غَيْرُهُ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ - فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الْمَعْضُوبُ عَنْ نَفْسِهِ - فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ، لِيَحُجَّ الْأَجِيرُ فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى.
وَإِنْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَنْ مَيِّتٍ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: لَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْأُجْرَةِ إذَا فُسِخَ الْعَقْدُ، وَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْجَارِ غَيْرِهِ

 

ج / 7 ص -74-         فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَا وَجْهَ لِلْفَسْخِ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيمَا ذَكَرُوهُ نَظَرٌ قَالَ: وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْوَرَثَةِ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ وَسَيُعِيدُونَ بِالْفَسْخِ اسْتِرْدَادَ الْأُجْرَةِ، وَصَرْفَهَا إلَى إحْرَامٍ آخَرَ أَحْرَى بِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ عَلَى ذَلِكَ، فَحَكَى قَوْلَ الْعِرَاقِيِّينَ وَجَزَمَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، وَذَكَرَ احْتِمَالَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ: يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى مُرَاعَاةُ الْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي تَرْكِ الْفَسْخِ تَرَكَهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْفَسْخِ لِخَوْفِ إفْلَاسِ الْأَجِيرِ أَوْ هَرَبِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يَفْسَخَ فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ ضَمِنَ
قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، قَالَ: فَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ وَأَثْبَتَهُمَا الْأَئِمَّةُ أحدهما: صَوَّرَ بَعْضُهُمْ الْمَنْعَ بِمَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ مَثَلًا، وَوَجْهُهُ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُسْتَحِقَّةُ الصَّرْفِ إلَيْهِ.
وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "الشَّرْحِ: "لِلْمُسْتَأْجِرِ عَنْ الْمَيِّتِ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي لِيَفْسَخَ الْعَقْدَ، إنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِيهِ، وَأَنْ لَا يَسْتَقِلَّ بِهِ، فَإِذَا نَزَلَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ، وَإِنْ نَزَلَ عَلَى الثَّانِي هَانَ أَمْرُهُ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ.
أما: إذَا اسْتَأْجَرَ إنْسَانٌ مِنْ حَالِ نَفْسِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ، فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ الْمَعْضُوبِ لِنَفْسِهِ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِالِاتِّفَاقِ وأما: إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَعْضُوبُ لِنَفْسِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، فَمَاتَ الْمَعْضُوبُ وَأَخَّرَ الْأَجِيرُ الْحَجَّ عَنْ السَّنَةِ الْمُعِينَةِ، فَقَالَ الرَّافِعِيُّ: لَمْ أَرَ الْمَسْأَلَةَ مَسْطُورَةً. قَالَ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْقِيَاسُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْوَارِثِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَنَحْوِهِ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ إذْ لَا مِيرَاثَ فِي هَذِهِ الْأُجْرَةِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ قَدَّمَ الْأَجِيرُ عَلَى السَّنَةِ الْمُعِينَةِ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَجَّلَ الْمُسْلَمَ فِيهِ قَبْلَ الْمَحِلِّ، فَإِنَّ فِي وُجُوبِ قَبُولِهِ خِلَافًا وَتَفْصِيلًا بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَأْخِيرِ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، لِيُحْفَظَ فِي الذِّمَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْحَجِّ.
فرع: إذَا انْتَهَى الْأَجِيرُ إلَى الْمِيقَاتِ الْمُتَعَيَّنِ لِلْإِحْرَامِ، إمَّا بِشَرْطِهِ وَإِمَّا بِالشَّرْعِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ تَعْيِينَهَا، فَلَمْ يُحْرِمْ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، بَلْ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْحَجِّ فَلَهُ حَالَانِ أحدهما: أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْمِيقَاتِ فَيَصِحُّ الْحَجُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْإِذْنِ، وَيَحُطُّ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِإِخْلَالِهِ بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ الْمُلْتَزَمِ، وَفِي قَدْرِ الْمَحْطُوطِ خِلَافٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا سَارَ الْأَجِيرُ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ وَحَجَّ، فَالْأُجْرَةُ تَقَعُ عَنْ مُقَابَلَةِ أَصْلِ الْحَجِّ وَحْدَهَا؟ أَمْ مُوَزَّعَةً عَلَى السَّيْرِ وَالْأَعْمَالِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ سَنُوَضِّحُهُمَا قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا مَاتَ الْأَجِيرُ أصحهما: تُوَزَّعُ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالسَّيْرِ جَمِيعًا والثاني: عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي، يُقَسَّطُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَقَطْ وَإِنْ قَالَ: لِتَحُجَّ عَنِّي مِنْ بَلَدِ كَذَا يُقَسَّطُ عَلَيْهِمَا، وَحَمْلُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ، فَإِنْ خَصَصْنَاهَا بِالْأَعْمَالِ وُزِّعَتْ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى حَجَّةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ وَحَجَّةٍ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْمُقَابَلَ بِالْأُجْرَةِ عَلَى هَذَا هُوَ الْحَجُّ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةَ الْحَجَّةِ الْمُسَمَّاةِ مِنْ مَكَّةَ دِينَارَانِ، وَالْمُسَمَّاةُ مِنْ الْمِيقَاتِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، فَالتَّفَاوُتُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، فَيَحُطُّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْمُسَمَّى.

 

ج / 7 ص -75-         وَإِنْ وَزَّعْنَا الْأُجْرَةَ عَلَى السَّيْرِ وَالْأَعْمَالِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ - فَقَوْلَانِ أحدهما: لَا تُحْسَبُ لَهُ الْمَسَافَةُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ صَرَفَهَا إلَى غَرَضِ نَفْسِهِ لِإِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَعَلَى هَذَا تُوَزَّعُ عَلَى حَجَّةٍ تَنْشَأُ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ، وَيَقَعُ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنْ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى حَجَّةٍ تَنْشَأُ مِنْ مَكَّةَ فَيَحُطُّ مِنْ الْمُسَمَّى بِنِسْبَتِهِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْمُنْشَأَةِ مِنْ الْبَلَدِ مِائَةً، وَالْمُنْشَأَةُ مِنْ مَكَّةَ عَشْرَةً، حَطَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْمُسَمَّى وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ يُحْسَبُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ إلَى الْمِيقَاتِ لِجَوَازِ أَنَّهُ قَصَدَ الْحَجَّ مِنْهُ، إلَّا أَنَّهُ عُرِضَ لَهُ الْعُمْرَةُ، فَعَلَى هَذَا تُوَزَّعُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى حَجَّةٍ مُنْشَأَةٍ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ، إحْرَامُهَا مِنْ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى حَجَّةٍ مُنْشَأَةٍ مِنْ الْبَلَدِ إحْرَامُهَا مِنْ مَكَّةَ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْأُولَى مِائَةً، وَالثَّانِيَةُ تِسْعِينَ، حَطَّ عُشْرَ الْمُسَمَّى، فَحَصَلَ فِي الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْمَذْهَبُ: مِنْهَا هَذَا الْأَخِيرُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: ثُمَّ إنَّ الْأَجِيرَ فِي مَسْأَلَتِنَا يَلْزَمُهُ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا فِي غَيْرِ صُورَةِ الِاعْتِمَارِ، أَنَّ إسَاءَةَ الْمُجَاوَزَةِ هَلْ تَنْجَبِرُ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ حَتَّى لَا يُحَطَّ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ؟ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ الْخِلَافُ يَجِيءُ هُنَا، ذَكَرَهُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ وَآخَرُونَ فَإِذْنُ الْخِلَافِ فِي قَدْرِ الْمَحْطُوطِ فَرْعٌ لِلْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ أَصْلِ الْحَطِّ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ وَيُقْطَعُ بِعَدَمِ الِانْجِبَارِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَقَ بِالْمُجَاوَزَةِ هُنَا، حَيْثُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لِنَفْسِهِ الحال الثاني: أَنْ يَعُودَ إلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ، فَيُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْهُ، فَهَلْ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ؟ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ إن قلنا: الْأُجْرَةُ مُوَزَّعَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالسَّيْرِ لَمْ يُحْسَبْ السَّيْرُ لِانْصِرَافِهِ إلَى عُمْرَةٍ، وَوُزِّعَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى حَجَّةٍ مُنْشَأَةٍ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ، إحْرَامُهَا مِنْ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى حَجَّةٍ مُنْشَأَةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ قَطْعِ مَسَافَةٍ. وَيُحَطُّ بِالنِّسْبَةِ مِنْ الْمُسَمَّى وإن قلنا: الْأُجْرَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ أَوْ وَزَّعْنَاهَا عَلَيْهِ وَعَلَى السَّيْرِ، وَحُسِبَتْ الْمَسَافَةُ، فَلَا حَطَّ. وَتَجِبُ الْأُجْرَةُ كُلُّهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَكَثِيرُونَ غَيْرُهُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ أَوْ الشَّرْطِ، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْهُ. فَقَدْ فَعَلَ وَاجِبًا، وَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَهُ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا هَذِهِ عِبَارَةُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ، فَإِنْ جَاوَزَ الْأَجِيرُ الْمِيقَاتَ الْمُعْتَبَرَ بِالشَّرْطِ أَوْ الشَّرْعِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لِلْمُسْتَأْجِرِ - فَيُنْظَرُ إنْ عَادَ إلَيْهِ وَأَحْرَمَ مِنْهُ - فَلَا دَمَ، وَلَا يُحَطُّ مِنْ الْأُجْرَةِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ أَوْ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ وَلَمْ يَعُدْ، لَزِمَهُ دَمٌ لِلْإِسَاءَةِ بِالْمُجَاوَزَةِ، وَهَلْ يَنْجَبِرُ بِهِ الْخَلَلُ حَتَّى لَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ وَالْأَصْحَابُ أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ: فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يَنْجَبِرُ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ، فَيَجِبُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّهِ في "الإملاء" وَالْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ الدَّمُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَطَّ وأصحهما: وَهُوَ نَصُّهُ في "الأم" و"المختصر" يُحَطُّ.
والطريق الثاني: الْقَطْعُ بِالْحَطِّ وَتَأَوَّلُوا مَا قَالَهُ في "الإملاء" و"الْقَدِيمِ" بِأَنَّهُ سَكَتَ عَنْ وُجُوبِ الْحَطِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُكُوتِهِ عَنْهُ عَدَمُ وُجُوبِهِ، مَعَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ الْحَطِّ فِي "المختصر" و"الْأُمِّ" فإن قلنا: بِالِانْجِبَارِ، فَهَلْ نَعْتَبِرُ قِيمَةَ الدَّمِ؟ وَنُقَابِلُهَا بِالتَّفَاوُتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ أصحهما: لَا، لِأَنَّ التَّعْوِيلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى

 

ج / 7 ص -76-         جَبْرِ الْخَلَلِ، وَقَدْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الدَّمَ يَجْبُرُهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ والثاني: نَعَمْ، فَلَا يَنْجَبِرُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الدَّمِ، فَعَلَى هَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الدَّمِ، فَإِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ مِثْلَهَا أَوْ أَقَلَّ، حَصَلَ الِانْجِبَارُ وَلَا حَطَّ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، وَجَبَ الزَّائِدُ. هَذَا إذَا قُلْنَا بِالِانْجِبَارِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَهُوَ الْحَطُّ، فَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ السَّابِقِ وَهُوَ أَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَاذَا؟ إن قلنا: فِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ فَقَطْ، وَزَّعْنَا الْمُسَمَّى عَلَى حَجَّةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ وَحَجَّةٍ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ وإن قلنا: فِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ وَالسَّيْرِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَزَّعْنَا الْمُسَمَّى عَلَى حَجَّةٍ مِنْ بَلْدَةِ إحْرَامِهَا مِنْ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى حَجَّةٍ مِنْ بَلْدَةِ إحْرَامِهَا مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ وَعَلَى هَذَا يَقِلُّ الْمَحْطُوطُ، ثُمَّ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ تَابَعَهُمَا وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرَاسِخِ وَحْدَهَا أَمْ يُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ السُّهُولَةُ وَالْحُزُونَةُ أصحهما: الثَّانِي.
أما: إذَا عَدَلَ الْأَجِيرُ عَنْ طَرِيقِ الْمِيقَاتِ الْمُعْتَبَرِ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ مِيقَاتُهُ مِثْلُ الْمُعْتَبَرِ أَوْ أَقْرَبُ إلَى مَكَّةَ فَطَرِيقَانِ أصحهما: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْجُمْهُورُ، أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ الْبَغَوِيّ وَغَيْرِهِمَا فِيهِ وَجْهَيْنِ أصحهما: هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمِيقَاتِ الْمُعْتَبَرِ والثاني: أَنَّهُ كَمَنْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ وَأَحْرَمَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالشَّرْطِ تَعَيَّنَ الْمَكَانُ أما: إذَا عَيَّنَّا مَوْضِعًا آخَرَ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ الشَّرْعِيِّ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ كَمَا سَبَقَ إذْ لَا يَجُوزُ لِمُرِيدِ النُّسُكِ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ بِأَنْ عَيَّنَّا الْكُوفَةَ، فَيَلْزَمُ الْأَجِيرَ الْإِحْرَامُ مِنْهَا وَفَاءٌ بِالشَّرْطِ، فَلَوْ جَاوَزَهَا وَأَحْرَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الأصح: الْمَنْصُوصُ نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ الْوَاجِبَ بِالشَّرْطِ، فَأَشْبَهَ مُجَاوَزَةَ الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ والثاني: لَا؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَجِبُ فِي مُجَاوَزَةِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَجَبَ حَطُّ قِسْطٍ مِنْ الْأُجْرَةِ قَطْعًا. وَإِنْ أَلْزَمْنَاهُ الدَّمَ، فَفِي حُصُولِ الِانْجِبَارِ بِهِ الطَّرِيقَانِ السَّابِقَانِ الْمَذْهَبُ: لَا يَنْجَبِرُ.
وَكَذَا لَوْ لَزِمَهُ الدَّمُ لِتَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ، كَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: فَإِنْ تَرَكَ نُسُكًا لَا دَمَ فِيهِ كَالْمَبِيتِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ - إذَا قُلْنَا لَا دَمَ فِيهِمَا - لَزِمَهُ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَنْجَبِرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا دَمٌ يَنْجَبِرُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ، فَإِنْ لَزِمَهُ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ كَاللُّبْسِ وَالْقَلْمِ لَمْ يُحَطَّ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ، اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى التَّصْرِيحِ بِهَذَا، وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَيَجِب الدَّمُ فِي مَالِ الْأَجِيرِ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ شَرَطَ الْإِحْرَامَ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ فَأَخَّرَهُ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَفِي الِانْجِبَارِ الْخِلَافُ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا، فَحَجَّ رَاكِبًا؛ لِأَنَّهُ تَرْكَ مَقْصُودًا، هَكَذَا حَكَى الْمَسْأَلَتَيْنِ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالرَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا مُفَرِّعِينَ، عَلَى أَنَّ الْمِيقَاتَ الْمَشْرُوطَ الشَّرْعِيَّ وَإِلَّا، فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْكُوفَةِ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ.
وَقَطَعَ الْبَغَوِيّ بِأَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ مَاشِيًا فَحَجَّ رَاكِبًا فإن قلنا: الْحَجُّ رَاكِبًا أَفْضَلُ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا وإن قلنا: الْحَجُّ مَاشِيًا أَفْضَلُ فَقَدْ أَسَاءَ بِتَرْكِ الْمَشْيِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَفِي وُجُوبِ رَدِّ التَّفَاوُتِ، بَيْنَ أُجْرَةِ الرَّاكِبِ وَالْمَاشِي وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُتَوَلِّي هُوَ الْأَصَحُّ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِرَانِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَتَارَةً يَمْتَثِلُ، وَتَارَةً يَعْدِلُ إلَى جِهَةٍ

 

ج / 7 ص -77-         أُخْرَى، فَإِنْ امْتَثَلَ فَقَدْ وَجَبَ دَمُ الْقِرَانِ، وَعَلَى مَنْ يَجِبُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ أصحهما: عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ، كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ؛ لأَنَّهُ الَّذِي شَرَطَ الْقِرَانَ والثاني: عَلَى الأَجِيرِ؛ لأَنَّهُ الْمُتَرَفِّهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ شَرْطَاهُ عَلَى الْأَجِيرِ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ مَجْهُولٍ وَإِجَارَةٍ؛ لِأَنَّ الدَّمَ مَجْهُولُ الصِّفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُعْسِرًا فَالصَّوْمُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْهَدْيِ عَلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْحَجِّ لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَاَلَّذِي فِي الْحَجِّ مِنْهُمَا هُوَ الْأَجِيرُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي، هُوَ كَالْعَاجِزِ عَنْ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ جَمِيعًا وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةِ بِكَمَالِهَا.
فأما: إذَا عَدَلَ، فَيَنْظُرُ إنْ عَدَلَ إلَى الْإِفْرَادِ، فَحَجَّ، ثُمَّ اعْتَمَرَ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ مِنْ الْأُجْرَةِ حِصَّةَ الْعُمْرَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ". وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ عَنْ، الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ نَظَرَ فَإِنْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ - فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا، وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْرِنْ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ، فَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ لِلْعُمْرَةِ، وَهَلْ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الأُجْرَةِ؟ أَمْ تَنْجَبِرُ الْإِسَاءَةُ بِالدَّمِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.
وَإِنْ عَدَلَ إلَى التَّمَتُّعِ، فَقَدْ أَشَارَ الْمُتَوَلِّي إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَتْ إجَارَةُ عَيْنٍ لَمْ يَقَعْ الْحَجُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَهَذَا هُوَ قِيَاسُ مَا سَبَقَ قَرِيبًا مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ - نَظَرَ إنْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ لِلْحَجِّ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَوَجْهَانِ أحدهما: لَا يُجْعَلُ مُخَالِفًا لِتَقَارُبِ الْجِهَتَيْنِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ امْتَثَلَ، وَفِي كَوْنِ الدَّمِ عَلَى الْأَجِيرِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ الْوَجْهَانِ وأصحهما: يُجْعَلُ مُخَالِفًا، فَيَجِبُ الدَّمُ عَلَى الْأَجِيرِ لِإِسَاءَتِهِ، وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنْ الْأُجْرَةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْأَجِيرِ إذَا أَحْرَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ قِيلَ: يُحَطُّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْأَصَحُّ قَوْلَانِ أصحهما: يُحَطُّ والثاني: لَا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْأَجِيرَ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَمٌ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ يَتَضَمَّنُهُ، قَالَ: وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ.
فرع: إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلتَّمَتُّعِ فَامْتَثَلَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِرَانِ فَامْتَثَلَ، وَإِنْ أَفْرَدَ - نَظَرَ، إنْ قَدَّمَ الْعُمْرَةَ وَعَادَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ - فَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَلِمَنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ - نَظَرْتُ، فَإِنْ كَانَتْ إجَارَةُ عَيْنٍ - انْفَسَخَتْ فِي الْعُمْرَةِ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا الْمُعِينِ، فَيَرُدُّ حِصَّتَهَا مِنْ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ وَعَادَ إلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنْ الْأُجْرَةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَإِنْ قَرَنَ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَكَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ إنْ عَدَّدَ الْأَفْعَالَ بِالنِّسْكَيْنِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهَلْ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الأُجْرَةِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى الْأَفْعَالِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي أَنَّ الدَّمَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَمْ الأَجِيرِ؟

 

ج / 7 ص -78-         فرع: لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْإِفْرَادِ، فَامْتَثَلَ، فَذَاكَ، فَلَوْ قَرَنَ - نُظِرَ، إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ - فَالْعُمْرَةُ وَاقِعَةٌ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْحَجِّ وَحْدَهُ فَقَرَنَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَرْعٍ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ: مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَبْلَ فَصْلِ الِاسْتِئْجَارِ، وَذَكَرْنَا فِيهِ قَوْلَيْنِ بِتَفْرِيعِهِمَا الجديد: الْأَصَحُّ: وُقُوعُ النُّسُكَيْنِ عَنْ الْأَجِيرِ وأما: إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، فَيَقَعَانِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَى الْأَجِيرِ الدَّمُ، وَهَلْ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ لِلْخَلَلِ؟ أَمْ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ، وَإِنْ تَمَتَّعَ - فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِتَأْخِيرِ الْعُمْرَةِ - فَقَدْ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، فَيَرُدُّ مَا يَخُصُّهَا مِنْ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِتَقْدِيمِهَا، أَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، وَقَعَا عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَزِمَ الْأَجِيرَ دَمٌ إنْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنْ الْأُجْرَةِ الْخِلَافُ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَقَرَنَ الْأَجِيرُ أَوْ تَمَتَّعَ وَقَعَ النُّسُكَانِ عَنْ الْمَيِّتِ بِكُلِّ حَالٍ، صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهِ فِي وُقُوعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَادَرَ أَجْنَبِيٌّ، فَحَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ صَحَّ وَوَقَعَ عَنْ فَرْضِ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَلَا إذْنَ وَارِثٍ، وَلَوْ قَالَ الْحَيُّ لِلْأَجِيرِ: حُجَّ عَنِّي وَإِنْ تَمَتَّعْتَ أَوْ قَرَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، فَقَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ وَقَعَ النُّسُكَانِ1 بِلَا خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَوْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْحَجِّ فَاعْتَمَرَ، أَوْ لِلْعُمْرَةِ فَحَجَّ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ لِمَيِّتِ وَقَعَ عَنْ الْمَيِّتِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ حَيٍّ وَقَعَتْ عَنْ الْأَجِيرِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ.
فرع: إذَا جَامَعَ الْأَجِيرُ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَسَدَ حَجُّهُ. وَانْقَلَبَ الْحَجُّ إلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فِي مَالِهِ، وَالْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ، وَالْقَضَاءُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ وَلَا يَفْسُدُ وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بَلْ يَبْقَى صَحِيحًا وَاقِعًا عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا تَفْسُدُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ الْمُزَنِيّ أَيْضًا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّمَا قُلْنَا: تَنْقَلِبُ الْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ إلَى الْأَجِيرِ وَلَا تُضَافُ بَعْدَ الْفَسَادِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ الْمَطْلُوبَةَ لَا تَحْصُلُ بِالْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ، بِخِلَافِ مَنْ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا غَيْرَ مُفْسِدٍ وَهُوَ أَجِيرٌ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَجَّةِ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، فَوَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْحَجُّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْإِضَافَاتُ، وَالْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ لَا تُبْرِئُ الذِّمَّةَ.
فإذا قلنا: بِالْمَذْهَبِ فَإِنْ كَانَتْ إجَارَةُ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ، وَيَكُونُ الْقَضَاءُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ وَاقِعًا عَنْ الْأَجِيرِ، وَيَرُدُّ الْأُجْرَةَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَنْفَسِخْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، فَإِذَا قَضَى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَعَمَّنْ يَقَعُ الْقَضَاءُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُمَا قَوْلَانِ أحدهما: عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ، وَلَوْ سَلِمَ الْأَوَّلُ مِنْ الْإِفْسَادِ لَكَانَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، فَكَذَا قَضَاؤُهُ وأصحهما: عَنْ الْأَجِيرِ وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَآخَرُونَ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ الْفَاسِدَ وَقَعَ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ سِوَى الْقَضَاءِ حَجَّةٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل العبارة وقع النسكان صحيحين وحق الأجر له.

 

ج / 7 ص -79-         أُخْرَى، فَيَقْضِي عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَحُجُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ فِي سَنَةٍ أُخْرَى أَوْ يَسْتَنِيبُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِذَا لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِتَأَخُّرِ الْمَقْصُودِ هَذَا إنْ كَانَ مَعْضُوبًا، فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَنْ مَيِّتٍ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا إذَا لَمْ يَحُجَّ الْأَجِيرُ فِي السَّنَةِ الْمُعِينَةِ فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ، قَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَمَنَعَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَقَدْ سَبَقَ تَوْجِيهُهُمَا.
فرع: إذَا أَحْرَمَ الْأَجِيرُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، ثُمَّ صَرَفَ الْإِحْرَامَ إلَى نَفْسِهِ ظَنَّا مِنْهُ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ، وَأَتَمَّ الْحَجَّ عَلَى هَذَا الظَّنِّ فَلَا يَنْصَرِفُ الْحَجُّ إلَى الْأَجِيرِ بَلْ يَبْقَى لِلْمُسْتَأْجِرِ بِلَا خِلَافٍ، نَصَّ عَلَيْهِ1 وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، فَإِذَا انْعَقَدَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجِيرِ الْأُجْرَةَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَيْنِ أحدهما: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لِإِعْرَاضِهِ عَنْهَا؛ وَلِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَعْتَقِدُ وأصحهما: عِنْدَ الْأَصْحَابِ فِي الطَّرِيقَيْنِ يَسْتَحِقُّ لِحُصُولِ غَرَضِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا فَبَنَاهُ الْأَجِيرُ، ظَانًّا أَنَّ الْحَائِطَ لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ سَبَقَ هَذَا وَسَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجِيرِ فِي الْحَجِّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَجِيرَ فِي الْبِنَاءِ لَمْ يَجُرْ، وَلَا خَالَفَ وَفِي الْحَجِّ جَارٍ وَخَالَفَ.
فَإِنْ قُلْنَا: يَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ فِي الْحَجِّ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى أَمْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَفْسُدْ فَبَقِيَ الْمُسَمَّى والثاني: أُجْرَةُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْعَقْدَ بِنِيَّتِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ نَقْلًا وَدَلِيلًا، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ بَنَاهُمَا الْأَئِمَّةُ عَلَى مَا إذَا دَفَعَ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ لِيَصْبِغَهُ بِأُجْرَةٍ فَجَحَدَ الثَّوْبَ وَأَصَرَّ عَلَى أَخْذِهِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَبَغَهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ نَدِمَ وَرَدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ، هَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ عَلَى مَالِكِ الثَّوْبِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا مَاتَ الْحَاجُّ عَنْ نَفْسِهِ فِي أَثْنَائِهِ، هَلْ تَجُوزُ الْبِنَايَةُ عَلَى حَجِّهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ الأصح: الْجَدِيدُ لَا يَجُوزُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ والقديم: يَجُوزُ لِدُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ يَبْطُلُ الْمَأْتِيُّ بِهِ إلَّا فِي الثَّوَابِ، وَيَجِب الْإِحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ تِرْكَتِهِ، إنْ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوَّعَا أَوْ لَمْ يَسْتَطِعْ إلَّا هَذِهِ السَّنَةَ لَمْ يَجِبْ وَعَلَى الْقَدِيمِ قَدْ يَمُوتُ وَقَدْ بَقِيَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ وَقَدْ يَمُوتُ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهِ، فَإِنْ بَقِيَ أَحْرَمَ النَّائِبُ بِالْحَجِّ، وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ وَقَفَ، وَلَا يَقِفُ إنْ كَانَ وَقَفَ، وَيَأْتِي بِبَاقِي الْأَعْمَالِ، فَلَا بَأْسَ بِوُقُوعِ إحْرَامِ النَّائِبِ دَاخِلِ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى إحْرَامٍ أُنْشِئَ مِنْهُ.
وَإِنْ لَمْ يَبْقَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ فَبِمَ يُحْرِمُ بِهِ النَّائِبُ؟ وَجْهَانِ أحدهما: وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى، فَيُجْزِئَانِهِ عَنْ طَوَافِ الْحَجِّ وَسَعْيِهِ، وَلَا يَبِيتُ وَلَا يَرْمِي؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْعُمْرَةِ، وَلَكِنْ يُجْبَرَانِ بِالدَّمِ وأصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَيَأْتِي بِبَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ أَشْهُرِ الْحَجِّ إذَا ابْتَدَأَهُ، وَهَذَا لَيْسَ مُبْتَدَأً، بَلْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأص فحرر ولعل العبارة: نص عليه الشافعي، وهو في "الأم". المطيعي.

 

ج / 7 ص -80-         مَبْنِيٌّ عَلَى إحْرَامٍ قَدْ وَقَعَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَعَلَى هَذَا إذَا مَاتَ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ أَحْرَمَ إحْرَامًا لَا يُحَرِّمُ اللُّبْسَ وَالْقَلْمَ، وَإِنَّمَا يُحَرِّمُ النِّسَاءَ كَمَا لَوْ بَقِيَ الْمَيِّتُ. هَذَا كُلُّهُ إذًا مَاتَ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُمَا لَمْ تَجُزْ النِّيَابَةُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَبْرُ الْبَاقِي بِالدَّمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَأَوْهَمَ بَعْضُهُمْ إجْرَاءَ الْخِلَافِ وَهَذَا غَلَطٌ.
فرع: إذَا مَاتَ الْأَجِيرُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ، فَلَهُ أَحْوَالٌ أحدها: يَمُوتُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَرْكَانِ، وَقَبْلَ فَرَاغِهَا، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ أحدهما: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ، فَرَدَّهُ إلَى بَابِ الدَّارِ، ثُمَّ هَرَبَ أَوْ مَاتَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا وأصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بَعْضَ مَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ لَهُ قِسْطُهُ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِبِنَاءِ عَشْرَةِ أَذْرُعِ فَبَنَى بَعْضَهَا، ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِقِسْطِهِ بِخِلَافِ الْجَعَالَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَقْدًا لَازِمًا، إنَّمَا هِيَ الْتِزَامٌ بِشَرْطٍ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ بِكَمَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ وَالثَّانِي الْأَصَحُّ هُوَ نَصُّهُ في"الأم" و"الْإِمْلَاءِ".
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ مَاتَ بَعْدِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ أَوْ قَبْلَهُ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَقِيلَ: يَسْتَحِقُّ بَعْدَهُ قَطْعًا، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، فَإِذَا قُلْنَا: يَسْتَحِقُّ، فَهَلْ يُقَسَّطُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَقَطْ أَمْ عَلَيْهَا وَعَلَى قَطْعِ الْمَسَافَةِ جَمِيعًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَقَدْ ذَكَرُهُمَا الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ وَسَبَقَ بَيَانُهُمَا قَرِيبًا فَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَطَائِفَةٍ عَلَى الْأَعْمَالِ فَقَطْ وأصحهما: عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْمَسَافَةِ جَمِيعًا، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقٌ آخَرُ قَدَّمْنَاهُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ إنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي قُسِّطَ عَلَى الْعَمَلِ فَقَطْ، وَإِنْ قَالَ: لِتَحُجَّ مِنْ بَلَدِ كَذَا قُسِطَ عَلَيْهِمَا، وَحَمْلُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ هَلْ يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى فِعْلِ الْأَجِيرِ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ إجَارَةُ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ وَلَا بِنَاءَ لِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَهَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَبْنِيَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ، فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ فإن قلنا: لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ فَلِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا مَنْ يَسْتَأْنِفُ الْحَجَّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِبَقَاءِ الْوَقْتِ، فَذَلِكَ وَإِنْ تَأَخَّرَ إلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ كَمَا سَبَقَ وَإِنْ جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ، فَلِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ أَنْ يَبْنُوا، ثُمَّ الْقَوْلُ فِيمَا يُحْرِمُ بِهِ النَّائِبُ وَفِي حُكْمِ إحْرَامِهِ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ.
الحال الثاني: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ. الشُّرُوعِ فِي السَّفَرِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ الصحيح: الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ بِنَاءُ عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُقَابِلُ قَطْعَ الْمَسَافَةِ بِسَبَبٍ إلَى الْحَجِّ، وَلَيْسَ بِحَجٍّ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِي مُقَابَلَتِهِ أُجْرَةً كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ فَأَحْضَرَ الْآلَةَ وَأَوْقَدَ النَّارَ وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْبِزَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، هَذَا تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ وَعَلَّلَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ شَيْئًا

 

ج / 7 ص -81-         مِنْ الْمَقْصُودِ والثاني وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ: يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ مِنْ الْمَسَافَةِ وَافِيًا، بِهَذَا نَسَبَهُ العرامطة1 وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا عَنْ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَبْدَانَ أَنَّهُ إنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ مِنْ بَلَدِ كَذَا اسْتَحَقَّ بِقِسْطِهِ، وَهَذَا نَحْوُ مَا سَبَقَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ.
الحال الثالث: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَرْكَانِ وَقَبْلَ فَرَاغِ بَاقِي الْأَعْمَالِ، فَيُنْظَرُ إنْ فَاتَ وَقْتُهَا أَوْ لَمْ يَفُتْ، وَلَكِنْ إذَا: لَمْ نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ وَجَبَ جَبْرُ الْبَاقِي بِالدَّمِ مِنْ مَالِ الْأَجِيرِ، وَهَلْ يَرُدُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنْ أَحْرَمَ بَعْد مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ وَجَبْرُهُ بِالدَّمِ وَهُوَ طَرِيقَانِ الْمَذْهَبُ: وُجُوبُ الرَّدِّ، وَإِنْ جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ وَكَانَ وَقْتُهَا بَاقِيًا، فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ - انْفَسَخَتْ الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَةُ. وَوَجَبَ رَدُّ قِسْطِهَا مِنْ الْأُجْرَةِ، وَيَسْتَأْجِرُ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْ يَرْمِي وَيَبِيتُ، وَلَا دَمَ فِي تِرْكَةِ الْأَجِيرِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ اسْتَأْجَرَ وَارِثُ الْأَجِيرِ مَنْ يَرْمِي وَيَبِيتُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُمَا عَمَلَانِ يُفْعَلَانِ بَعْدَ التَّحَلُّلَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ الدَّمُ وَلَا رَدَّ شَيْءٍ مِنْ الْأُجْرَةِ، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.
فرع: إذَا أُحْصِرَ الْأَجِيرُ قَبْلَ إمْكَانِ الْأَرْكَانِ تَحَلَّلَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ في "الأم" وَالْأَصْحَابُ: وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، كَأَنَّهُ أَهَلَّ وَتَحَلَّلَ فَإِنْ كَانَتْ حَجَّةَ تَطَوُّعٍ أَوْ كَانَتْ حَجَّةَ إسْلَامٍ، وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ بَقِيَ الِاسْتِقْرَارُ، وَإِنْ كَانَ اسْتَطَاعَهَا هَذِهِ السَّنَةَ سَقَطَتْ الِاسْتِطَاعَةُ، فَإِذَا تَحَلَّلَ الْأَجِيرُ، فَعَمَّنْ يَقَعُ مَا أَتَى بِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لَوْ مَاتَ إذْ لَا تَقْصِيرَ والثاني: عَنْ الْأَجِيرِ كَمَا لَوْ أَفْسَدَهُ، فَعَلَى هَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْأَجِيرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَوْتِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَلَّلْ وَدَامَ عَلَى الْإِحْرَامِ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ انْقَلَبَ الْإِحْرَامُ إلَيْهِ كَمَا فِي الْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ حَيْثُ لَمْ يَتَحَلَّلْ بِأَعْمَالِ عُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ دَمُ الْفَوَاتِ، وَلَوْ حَصَلَ الْفَوَاتُ بِنَوْمٍ أَوْ تَأَخُّرٍ عَنْ الْقَافِلَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ إحْصَارٍ انْقَلَبَ الْمَأْتِيُّ بِهِ إلَى الْأَجِيرِ أَيْضًا كَمَا فِي الْإِفْسَادِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَوْتِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ هَلْ لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَهُ إلَى حِينِ انْقَلَبَ الْإِحْرَامُ إلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ.
فرع: لَوْ اسْتَأْجَرَ الْمَعْضُوبُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، فَأَحْرَمَ الْأَجِيرُ عَنْ نَفْسِهِ تَطَوُّعًا، فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَذَا كُلُّ مَنْ فِي ذِمَّتِهِ حَجَّةٌ مُرْسَلَةٌ بِإِجَارَةٍ، فَإِذَا نَوَى التَّطَوُّعَ بِالْحَجِّ انْصَرَفَ إلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا لَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَوْ النَّذْرِ أَوْ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ دُونَ التَّطَوُّعِ بِلَا خِلَافٍ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْأَصْحَابِ يَقَعُ تَطَوُّعًا لِلْأَجِيرِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَمَا قَالَهُ شَيْخِي أَبُو مُحَمَّدٍ انْفَرَدَ بِهِ، وَلَا يُسَاعِدُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ، لِأَنَّا إنَّمَا نُقَدِّمُ وَاجِبَ الْحَجِّ عَلَى نَفْلِهِ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْحَجِّ مَعَ بَقَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى فِي مَرَاتِبِ الْحَجِّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل العبارة: نسبه للعراقيون للشافعي (ط).

 

ج / 7 ص -82-         وأما: الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْأَجِيرِ، فَلَيْسَ مِنْ خَاصَّةِ الْحَجِّ، وَلَوْ أَلْزَمَ الْأَجِيرُ ذِمَّتَهُ بِالْإِجَارَةِ مَا لَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ، لَكَانَ حُكْمُ الْوُجُوبِ فِيهِ حُكْمَ الْوُجُوبِ فِي الْحَجِّ قَالَ: وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّةَ قَدْ تَكُونُ تَطَوُّعًا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا جَوَّزْنَا الِاسْتِئْجَارَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ اللُّزُومَ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَانِ رَجُلًا يَحُجُّ عَنْهُمَا، فَأَحْرَمَ عَنْهُمَا مَعًا أَنْعَقَدَ إحْرَامُهُ لِنَفْسِهِ تَطَوُّعًا، وَلَا يَنْعَقِدُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَنْعَقِدُ عَنْ اثْنَيْنِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَوْ أَحْرَمَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَعَنْ نَفْسِهِ مَعًا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عَنْ اثْنَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ فَانْعَقَدَ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في "الأم" وَتَابَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ.
فرع: إذَا اسْتَأْجَرَهُ اثْنَانِ لِيَحُجَّ عَنْهُمَا أَوْ أَمَرَاهُ بِلَا إجَارَةٍ، فَأَحْرَمَ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، انْعَقَدَ إحْرَامُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَكَانَ لَهُ صَرْفُهُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَنَقَلَهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِنَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ. دَلِيلُنَا أَنَّ مَالِكًا يَعْتَقِدُ ابْتِدَاءَ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ بِهِ مُطْلَقًا، ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى مَا يَشَاءُ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ صَرَفَهُ إلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِإِحْرَامٍ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا أَحْرَمَ مُطْلَقًا لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ فِيهِ قلنا: نَقِيضُ مَا أُسْنِدَ لِلنِّيَابَةِ هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَاهُ لِيَحُجَّ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ عَقَدَا مَعًا، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِمَا، وَإِنْ عَقَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، فَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي بَاطِلٌ، وَإِنْ عَقَدَ الْعَقْدَيْنِ فِي الذِّمَّةِ صَحَّا، فَإِنْ تَبَرَّعَ بِالْحَجِّ عَنْ أَحَدِهِمَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ لِتَأْخِيرِ حَقِّهِ.
فرع: قَالَ صاحب "الحاوي" فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ: لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَصِحَّ قَالَ: وَأَمَّا الْجَعَالَةُ عَلَى زِيَارَةِ الْقَبْرِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُجَرَّدِ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَمُشَاهَدَتِهِ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الدُّعَاءِ عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم صَحَّتْ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ تَدْخُلهُ النِّيَابَةُ وَلَا تَضُرُّ الْجَهَالَةُ بِنَفْسِ الدُّعَاءِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِلْحَجِّ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا صِحَّةُ الْإِجَارَةِ لِلْحَجِّ بِشَرْطِهِ السَّابِقِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْطِي رِزْقًا عَلَيْهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطِيهِ نَفَقَةَ الطَّرِيقِ فَإِنْ أَفْضَلَ مِنْهَا شَيْئًا رَدَّهُ، وَيَكُونُ الْحَجُّ لِلْفَاعِلِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ ثَوَابُ نَفَقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ طَاعَةً، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ دَلِيلُنَا أَنَّهُ عَمَلٌ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، كَتَفْرِقَةِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ دُخُولَ النِّيَابَةِ، بَلْ يَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْفَاعِلِ قلنا: هَذَا مُنَابِذٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فِي إذْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْحَجِّ عَنْ الْعَاجِزِ، وَقَوْلُ صلى الله عليه وسلم:
"فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ" "وَحُجَّ عَنْ أَبِيك" وَغَيْرُ ذَلِكَ.
فإن قيل يُنْتَقَضُ بِشَاهِدِ الْفَرْعِ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ عَنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ قلنا: شَاهِدُ الْفَرْعِ لَيْسَ ثَابِتًا عَنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا هُوَ شَاهِدٌ عَلَى شَهَادَتِهِ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا عَنْهُ لَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِأَصْلِ الْحَقِّ، لَا عَلَى شَهَادَتِهِ، وَدَلِيلٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ الْحَجَّ يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَجَازَ

 

ج / 7 ص -83-         أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ فإن قيل يُنْتَقَضُ بِالْجِهَادِ قلنا: الْفَرْقُ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الصَّفَّ تَعَيَّنَ الْجِهَادُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاهِدَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ وأما: الرِّزْقُ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ لِقَطْعِ الْمَسَافَةِ وأما: الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِخِلَافِ الْحَجِّ وَعَنْ قَوْلِهِ: الْحَجُّ يَقَعُ طَاعَةً، فَيُنْتَقَضُ بِأَخْذِ الرِّزْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُفْرِدَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَقَرَنَ عَنْهُ وَقَعَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ مَيِّتٍ أَوْ يَعْتَمِرَ، فَقَرَنَ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ دَلِيلُنَا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، فَأَتَى بِهِمَا وَزَادَهُ خَيْرًا بِتَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَرِيَ الْمُسْلِمُ جُمَلًا مِنْ ذِمِّيٍّ لِلْحَجِّ عَلَيْهَا لَكِنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَدْخُلُ الْحَرَمَ، فَيُوَجِّهُ مَعَ جُمَلِهِ مُسْلِمًا يَقُودُهَا وَيَحْفَظُهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُ نَصْرَانِيٌّ خَلَفَهُ فِي الْحِلِّ وَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ مَعَهُ الْحَرَمَ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا قَالَ الْمُوصِي: أَحِجُّوا عَنِّي فُلَانًا، فَمَاتَ فُلَانٌ، وَجَبَ إحْجَاجُ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: اعْتِقُوا عَنِّي رَقَبَةً، فَاشْتَرَوْا رَقَبَةً لِيَعْتِقُوهَا، فَمَاتَ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ وَجَبَ شِرَاءُ أُخْرَى، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا تَحْصِيلُ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ إيقَاعِهَا أُقِيمَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَلَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ إحْرَامِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَشْهُرٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ وَقْتَ الْإِحْرَامِ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ نُسُكٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَكَانَ مُؤَقَّتًا، كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرِ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ قَالُوا: "أَشْهُرُ الْحَجِّ مَعْلُومَاتٌ، شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ" فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، فَإِذَا عَقَدَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا انْعَقَدَ غَيْرُهَا مِنْ جِنْسِهَا، كَصَلَاةِ الظُّهْرِ إذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِالنَّفْلِ وَلَا يَصِحُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرُ مِنْ حَجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَسْتَغْرِقُ أَفْعَالَ الْحَجَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الْحَجَّةِ الْأُخْرَى".
الشرح: قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْوَقْتَ يَسْتَغْرِقُ أَفْعَالَ الْحَجَّةِ، الْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ تَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ. ثُمَّ فِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ إحداها: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَلْفَاظِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ" قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَلْزَمَهَا الْحَجَّ، وَمَعْنَى الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ الْإِلْزَامُ وَالْإِيجَابُ وأما: الرَّفَثُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ، وَقَالَ كَثِيرُونَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّعَرُّضُ لِلنِّسَاءِ بِالْجِمَاعِ، وَذِكْرُهُ بِحَضْرَتِهِنَّ، فَأَمَّا ذِكْرُهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ النِّسَاءِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَآخَرِينَ وأما: الْفُسُوقُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالْجُمْهُورُ: هُوَ الْمَعَاصِي كُلُّهَا.

 

ج / 7 ص -84-         وأما الْجِدَالُ، فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ جِدَالِ صَاحِبِهِ وَمُمَارَاتِهِ حَتَّى يُغْضِبَهُ وَسُمِّيَتْ الْمُخَاصَمَةُ مُجَادَلَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ يَرُومُ أَنْ يَفْتِلَ صَاحِبَهُ عَنْ رَأْيِهِ وَيَصْرِفَهُ عَنْهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمَا مَعْنَاهُ هُنَا وَلَا شَكَّ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُرَادُ إبْطَالُ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْخِيرِهِ، وَفِعْلِهِمْ النَّسَاءَ وَهُوَ النَّسِيءُ وَالتَّأْخِيرُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَفْسِيرَ ابْنَ عَبَّاسٍ الْآيَةَ فِي آخِرِ بَابِ الْإِحْرَامِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ الْمَعَانِي وَغَيْرُهُمْ: ظَاهِرُ الْآيَةِ نَفْيٌ وَمَعْنَاهَا نَهْيٌ، أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا وَلَا تُجَادِلُوا. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو "فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةُ بِالنَّصْبِ بِلَا تَنْوِينٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى نَصْبِ اللَّامَ مِنْ جِدَالَ.
وأما: قوله تعالى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] وَالْمُرَادُ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ، فَجَازَ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فِي إطْلَاقِهِمْ لَفْظَ الْجَمْعِ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَيَكْفِيهَا طُهْرَانِ وَبَعْضُ الطُّهْرِ الْأَوَّلِ وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَقْتُ إحْرَامِ الْحَجِّ، فَهَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وأما: النَّحْوِيُّونَ وَأَصْحَابُ الْمَعَانِي وَمُحَقِّقُو الْمُفَسِّرِينَ فَذَكَرُوا فِي الْآيَةِ قَوْلَيْنِ أحدهما تَقْدِيرُهَا: أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ والثاني تَقْدِيرُهَا: الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ، أَيْ لَا حَجَّ إلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، خِلَافَ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ حَجِّهِمْ فِي غَيْرِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَذْفُ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ لِلْأَشْهُرِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ إضْمَارٍ وَهُوَ أَنَّ الْأَشْهُرَ جُعِلَتْ نَفْسَ الْحَجِّ لِيَكُونَ الْحَجُّ فِيهَا، كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ نَائِمٌ لِمَا كَانَ النَّوْمُ فِيهِ جُعِلَ نَائِمًا.
وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ نُسُكٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَكَانَ مُؤَقَّتًا كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ فَمَقْصُودُهُ بِهِ إلْزَامُ تَعْبِيرِ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ قَبْلَ أَشْهُرِهِ، وَوَافَقُونَا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ وَالطَّوَافَ لَا يَكُونَانِ فِي كُلِّ السَّنَةِ، بَلْ هُمَا مُؤَقَّتَانِ، فَقَاسَ الْمُصَنِّفُ الْإِحْرَامَ عَلَيْهِمَا وأما: قَوْلُهُ: أَشْهُرُهُ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ أَوْ الْقَعْدَةِ - بِفَتْحِ الْقَافِ - عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَذُو الْحِجَّةِ - بِكَسْرِ الْحَاءِ - عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا وأما: الْآثَارُ الْمَذْكُورَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ فَسَنَذْكُرُهَا فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَقَالَ الْقَلَعِيُّ: اُحْتُرِزَ بِمُؤَقَّتَةٍ عَنْ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَهُوَ مَا إذَا تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ مَثَلًا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وُضُوءُهُ لِلظُّهْرِ وَغَيْرِهِ، وَتَنْعَقِدُ طَهَارَتُهُ الَّتِي عَيَّنَهَا بِعَيْنِهَا، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا كَانَ مُتَطَهِّرًا، فَتَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ بِنِيَّةِ الْحَدَثِ أَوْ الْجَنَابَةِ اللَّذَيْنِ يُوجَدَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ مَا نَوَاهُ، وَلَا يَنْعَقِدُ وُضُوءُهُ تَجْدِيدًا، وَلَا غُسْلُهُ مَسْنُونًا، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ إذَا تَيَمَّمَ لِلظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرِيضَةً وَلَا نَافِلَةً. فأما: الْفَرِيضَةُ؛ فَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ لَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وأما: النَّافِلَةُ؛ فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَبِيحُهَا بِالتَّيَمُّمِ تَبَعًا

 

ج / 7 ص -85-         لِلْفَرِيضَةِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَبِحْ الْمَتْبُوعَ لَمْ يَسْتَبِحْ التَّابِعَ.
وأما: قَوْلُهُ: كَصَلَاةِ الظُّهْرِ إذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِالنَّفْلِ، فَهَكَذَا قَاسَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ فِي "المختصر" وَهَذَا الَّذِي قَالَ مِنْ انْعِقَادِ الظُّهْرِ نَفْلًا إذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ، وَسَبَقَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: إذَا ظَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ فَبَانَ خِلَافُهُ فأما: إذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ عَالِمًا بِأَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَدْخُلْ، فَلَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ جِدًّا سَبَقَ هُنَاكَ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ قِيَاسَ الْمُصَنِّفِ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَرَادُوا بِهِ مَا إذَا كَانَ جَاهِلًا عَدَمَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: لَيْسَتْ صُورَةُ الْحَجِّ مِثْلَهَا إلَّا أَنْ يُفْرَضَ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ظَانًّا جَوَازَ ذَلِكَ، عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْحَجُّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، فَيَنْبَنِي الْإِشْكَالُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثانية: لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَأَشْهُرُهُ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ آخِرُهَا طُلُوعُ الْفَجْرِ لَيْلَةَ النَّحْرِ فأما: كَوْنُ أَوَّلِهَا أَوَّلَ شَوَّالٍ فَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ وأما: امْتِدَادُهَا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر"، وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ فِي الطَّرِيقَيْنِ، وَحَكَى الْخُرَاسَانِيِّينَ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ لَيْلَةَ الْعَشْرِ، بَلْ آخِرَ الشَّهْرِ آخِرَ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" وَالْمَحَامِلِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَصَاحِبُ "البيان" وَآخَرُونَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ، حَكَاهُ الْمَحَامِلِيُّ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَصاحب "البيان" عَنْ نَصِّهِ في "الإملاء"، وَنَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ مَعَ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَنْعَقِدْ حَجًّا بِلَا خِلَافٍ، وَفِي انْعِقَادِهِ عُمْرَةً ثَلَاثُ طُرُقٍ: الصحيح: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ عُمْرَةً مُجْزِئَةٌ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْقَدِيمِ" والثاني: أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ عُمْرَةٍ وَلَا يُحْسَبُ عُمْرَةً، كَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَأَخْرَجَهُ مِنْ السِّتَّةِ: إنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِعَدَمِ الْوَقْتِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ والثالث: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِهِمَا، فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى عُمْرَةٍ كَانَ عُمْرَةً صَحِيحَةً، وَإِلَّا تَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ وَلَا يُحْسَبُ عُمْرَةً، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا خِلَافَ فِي انْعِقَادِ إحْرَامِهِ وَأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ عُمْرَةٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا عُمْرَةٌ مُجْزِئَةٌ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ أما: إذَا أَحْرَمَ بِنُسُكٍ مُطْلَقًا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَيَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ عُمْرَةً عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ أَصْحَابُنَا فِي كُلِّ الطُّرُقِ إلَّا الرَّافِعِيُّ، فَحَكَى فِيهِ طَرِيقًا آخَرَ أَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ أصحهما: هَذَا والثاني: هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْخُضَرِيِّ يَنْعَقِدُ بِهِمَا، فَإِذَا دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ صَرَفَهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْعُمْرَةَ فَتَعَيَّنَ إحْرَامُهُ لَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الرابعة: قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: لَا يَصِحُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرُ مِنْ حَجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَسْتَغْرِقُ

 

ج / 7 ص -86-         أَفْعَالَ الْحَجَّةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي أَفْعَالِ الْحَجَّةِ لَا يَصْلُحُ إحْرَامُهُ لِحَجَّةٍ أُخْرَى، وَلَا يَفْرُغُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ إلَّا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِيهَا، وَلَوْ صَحَّ الْإِحْرَامُ فِيهَا عَلَى الْقَوْلِ السَّابِقِ عَنْ الْإِمْلَاءِ وَالْقَدِيمِ لَمْ يُمْكِنَ حَجَّةٌ أُخْرَى لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ انْعَقَدَتْ إحْدَاهُمَا وَلَا تَنْعَقِدُ الْأُخْرَى وَلَا تَثْبُتُ فِي ذِمَّتَهُ عِنْدِنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا، فَلَمْ يَصِحَّ الدُّخُولُ فِيهِمَا قِيَاسًا عَلَى صَوْمِ النَّذْرِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْإِحْرَامِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجَّةً أُخْرَى أَوْ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا عُمْرَةً أُخْرَى فَالثَّانِيَةُ لَغْوٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَإِنْ قِيلَ: قُلْتُمْ: لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ انْعَقَدَتْ إحْدَاهُمَا، وَلَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاتَيْنِ لَمْ تَنْعَقِدْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، فَمَا الْفَرْقُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْحَجِّ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ يُحَافِظُ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ وَلَا يُلْغَى، وَلِهَذَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ انْعَقَدَ عُمْرَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ صاحب "البيان": لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ؟ أَمْ بِعُمْرَةٍ؟ فَهِيَ عُمْرَةٌ قَطْعًا، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ شَكَّ، هَلْ كَانَ إحْرَامُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؟ أَمْ قَبْلَهَا؟ قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: كَانَ حَجًّا؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ، وَعَلَى شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ" أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَتِسْعٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ إلَى الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، هَذَا نَصُّهُ بِحَرْفِهِ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الطَّاهِرِيُّ فَقَالَ: قَوْلُهُ: إنْ أَرَادَ بِهِ اللَّيَالِيَ، فَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ عَشْرٌ وَإِنْ أَرَادَ الْأَيَّامَ، فَهُوَ خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ، فَإِنَّ الْأَيَّامَ مُذَكَّرَةٌ، فَالصَّوَابُ تِسْعَةٌ وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْ هَذَا، بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِيَ وَغَلَبَ لَفْظُ التَّأْنِيثِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُغَلِّبُ لَفْظَ التَّأْنِيثِ فِي اسْمِ الْعَدَدِ يَقُولُونَ: صُمْنَا عَشْرًا وَيُرِيدُونَ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ وَيَقُولُونَ صُمْنَا خَمْسًا وَيُرِيدُونَ الْأَيَّامَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] وَالْمُرَادُ بِاللَّيَالِيِ وَالْأَيَّامِ وَمِنْهُ قوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} [طه: 234] وَمَنْ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ" وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ وَاضِحًا فِي بَابِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَقُولُونَ: صُمْنَا عَشْرًا وَلَوْ قُلْتَ: صُمْتُ عَشَرَةً لَمْ تَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْأَصْحَابُ: إنَّمَا أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ لَيْلَةَ النَّحْرِ بِالذِّكْرِ وَذَكَرهَا بَعْدَ التِّسْعِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَفْرَدَهَا؛ لِأَنَّهَا تَنْفَرِدُ عَنْ الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَفْرَدَهَا لَتَعَلُّقِ الْفَوَاتِ بِهَا.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِهِ عِنْدَنَا، فَإِنْ أَحْرَمَ فِي غَيْرِهَا انْعَقَدَ عُمْرَةً، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِهِ. وَقَالَ دَاوُد: لَا يَنْعَقِدُ وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يَجُوزُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنْ يُكْرَهُ، قَالُوا: فَأَمَّا الْأَعْمَالُ، فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ، وَاحْتُجَّ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:

 

ج / 7 ص -87-         189] فَأَخْبَرَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي إفْسَادِهَا، فَلَمْ تُخَصَّ بِوَقْتٍ كَالْعُمْرَةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يَصِحُّ فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الْأَفْعَالِ فِيهِ، وَهُوَ شَوَّالٌ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّوْقِيتَ ضَرْبَانِ تَوْقِيتُ مَكَان وَزَمَانٍ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ إحْرَامُهُ عَلَى مِيقَاتِ الْمَكَانِ صَحَّ، فَكَذَا الزَّمَانُ، قَالُوا: وَأَجْمَعَنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ انْعَقَدَ، لَكِنْ اخْتَلَفْنَا هَلْ يَنْعَقِدُ حَجًّا أَمْ عُمْرَةً؟ فَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ حَجًّا لَمَا انْعَقَدَ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] قَالُوا: وَتَقْدِيرُهُ: وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَفْعَالُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَكُونُ فِي أَشْهُرٍ وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ جُمْهُورُ أَهْلُ الْمَعَانِي وَالنَّحْوِيِّينَ: مَعْنَى الْآيَةِ أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ قلنا: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَفِي التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَائِدَةٌ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى فإن قيل: تَقْدِيرُ وَقْتِ الْإِحْرَامِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَهُ لَا يَصِحُّ كَالسَّعْيِ، فَإِنَّهُ مُؤَقَّتٌ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ تَقْدِيمِ السَّعْيِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَأْخِيرُ السَّعْيِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِهَا قلنا: هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِيَوْمِ الْعِيدِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الْإِحْرَامُ فِيهِ.
فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ لَا نُجِيزُ الْحَجَّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ وَإِنَّمَا نُجِيزُ الْإِحْرَامَ بِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ الْحَجِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فالجواب: أَنَّ الْإِحْرَامَ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الْحَجِّ - إلَّا أَنَّ الْمُحْرِمَ يَدْخُلُ بِهِ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِهِ قَبْلَ أَشْهُرِهِ دَخَلَ فِي الْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: "سُئِلَ جَابِرٌ: أَهِلُّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ؟ قَالَ: لَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَا يُحْرَمُ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِهِ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ يُحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَكَانَ الْإِحْرَامُ بِهَا مُؤَقَّتًا كَالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ آخِرُ1 أَرْكَانِ الْحَجِّ، فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةِ.
وأما: الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ قوله تعالى:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] فَهُوَ أَنَّ الْأَشْهُرَ هُنَا مُجْمَلَةٌ، فَوَجَبَ حَمْلَهَا عَلَى الْمُبَيَّنِ، وَهُوَ قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَالْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] مَعَ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ مَجْهُولٌ عَلَى دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ الْإِحْرَامُ مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ والثاني: إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَا، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ، وَإِذَا أَخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ لَمْ يُعْمَلْ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وأما: الْقِيَاسُ عَلَى الْعُمْرَةِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ أَفْعَالَهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، فَكَذَا إحْرَامُهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل ولعله من أركان.

 

ج / 7 ص -88-         وأما: قَوْلُهُمْ: إنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يَصِحُّ فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الْأَفْعَالِ فِيهِ وَهُوَ شَوَّالٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَجَوَابُهُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ والثاني: يُنْتَقَضُ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَإِنَّ الْإِحْرَامَ بِهَا يَجُوزُ عَقِيبَ الزَّوَالِ، وَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَهِيَ مُؤَقَّتَةٌ وأما: قَوْلُهُمْ: التَّوْقِيتُ ضَرْبَانِ إلَى آخِرِهِ، فَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى التَّوْقِيتِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ خَالَفْنَا ذَلِكَ فِي الْمَكَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّمَانُ وأما: قَوْلُهُمْ: وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى صِحَّةِ إحْرَامِهِ فَجَوَابُهُ: إنَّمَا صَحَّ إحْرَامُهُ عِنْدَنَا بِالْعُمْرَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صِحَّةُ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، وَنَظِيرُهُ إذَا أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ غَلَطًا يَصِحُّ نَفْلًا لَا ظُهْرًا.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهَا شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيِّ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَدَاوُد، وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ دَاوُد: شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَخَالَفَ أَصْحَابُ دَاوُد فِي هَذَا. وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُوَافِقِيهِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، هُوَ عِنْدَهُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَنَا مِنْهَا، وَقَدْ نَقَلَ الْمَحَامِلِيُّ في "المجموع" إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ أَشْهُرِ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي آخِرِهَا.
قَالَ صاحب "الشامل" وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ يُجَوِّزُ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُمَا فِي الْفَرْعِ السَّابِقِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا إيقَاعُ الْفِعْلِ إلَّا فِي أَوْقَاتِهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَا فَرْقَ بَيْن أَنْ يُوَافِقُونَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ يُخَالِفُونَا. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْخِلَافِ إلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ يُكْرَهُ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَالْعُمْرَةُ عِنْدَهُ مَكْرُوهَةٌ فِي جَمِيعِ ذِي الْحِجَّةِ، وَهَذَا الَّذِي اسْتَثْنَاهُ الْمُتَوَلِّي لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تُكْرَهُ عِنْدَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ السَّنَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوَافِقَنَا مَالِكٌ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ يُخَالِفَنَا، وَهَكَذَا قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: إنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ عِنْدَ مَالِكٍ إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَنْ ذِي الْحِجَّةِ لَزِمَ دَمٌ، وَهَذَا أَيْضًا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَجِبُ عِنْدَنَا بِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ، وَلَوْ أَخَّرَهُ سِنِينَ.
وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم قَالُوا: أَشْهُرُ الْحَجِّ شَهْرَانِ وَعَشْرُ لَيَالٍ، قَالُوا: وَإِذَا أُطْلِقَتْ اللَّيَالِي تَبِعَتْهَا الْأَيَّامُ، فَيَكُونُ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا؛ وَلِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ يُفْعَلُ فِيهِ مُعْظَمُ الْمَنَاسِكِ، فَكَانَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ الْأَشْهُرَ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ" وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنٍ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُهُ، رَوَاهَا كُلَّهَا الْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَ الرِّوَايَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحَةٌ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ: إذَا أُطْلِقَتْ اللَّيَالِي تَبِعَتْهَا الْأَيَّامُ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَا نُسَلِّمُ بِوُجُودِ الْإِرَادَةِ هُنَا. بَلْ الظَّاهِرُ عَدَمُهَا فَنَحْنُ قَائِلُونَ بِمَا قَالَتْهُ الصَّحَابَةُ.

 

ج / 7 ص -89-         والجواب: عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ يَوْمَ النَّحْرِ يُفْعَلُ فِيهِ مُعْظَمُ الْمَنَاسِكُ، فَيُنْتَقَضُ بِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ والجواب: قَوْلُ مَالِكٍ: إنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنْ اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَأَجْمَعنَا نَحْنُ وَمَالِكٌ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ، وَأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِي بَقِيَّةِ طُهْرٍ حُسِبَتْ تِلْكَ الْبَقِيَّةُ قُرْءًا. فَاتَّفَقْنَا عَلَى حَمْلِ الْأَقْرَاءِ عَلَى قُرْأَيْنِ وَبَعْضٍ، وَاتَّفَقَتْ الْعَرَبُ وَأَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ مِثْلِهِ فِي التَّوَارِيخِ وَغَيْرِهَا، يَقُولُونَ: كَتَبْتُ لِثَلَاثٍ، وَهُوَ فِي بَعْضِ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ إحْدَاهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُ الْأُخْرَى [وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْعَقِدَانِ وَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأُخْرَى]1، وَاَلَّذِي حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ يَصِيرُ نَاقِضًا لِإِحْدَاهُمَا حَتَّى يَتَوَجَّهُ إلَى مَكَّةَ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَمَّا أَنَا فَأَرَاهُ نَاقِضًا لِإِحْدَاهُمَا حِينَ يُحْرِمُ بِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَى مَكَّةَ، دَلِيلُنَا مَا سَبَقَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّهَا تَجُوزُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا لِمَا رَوَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَفِي شَوَّالٍ" وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً" وَلَا يُكْرَهُ فِعْلُ عُمْرَتَيْنِ وَأَكْثَرَ فِي سَنَةٍ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَرَوَتْ أُمُّ مَعْقِلٍ الصَّحَابِيَّةِ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ: وَفِي الْبَابِ بِغَيْرِ عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَوَهْبِ بْنِ خَنْبَشٍ قَالَ: وَيُقَالُ هَرِمُ بْنُ خَنْبَشٍ رضي الله عنهما قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ إِسْحَاقُ - يَعْنِي ابْنُ رَاهْوَيْهِ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِثْلُ:
"قِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ".
وأما حديث عَائِشَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْتَمَرَ مَرَّتَيْنِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَفِي شَوَّالٍ" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِعْلُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ منها: حَدِيثُ أَنَسٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ إلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرَ إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً قَطُّ إلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، وَمَا اعْتَمَرَ قَطُّ فِي رَجَبٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ الْبَرَاءِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
أَمَّا الأَحْكَامُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: جَمِيعُ السَّنَةِ وَقْتٌ لِلْعُمْرَةِ فَيَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ السَّنَةِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَسَوَاءٌ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَغَيْرُهَا فِي جَوَازِهَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلَا يُكْرَهُ عُمْرَتَانِ وَثَلَاثٌ وَأَكْثَرُ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين من جريدة السيد الحداد.

 

ج / 7 ص -90-         مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفِي رَمَضَانَ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: وَالْعُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي بَاقِي السَّنَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي بَعْضِ السَّنَةِ لِعَارِضٍ لَا بِسَبَبِ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ كَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي التَّحَلُّلِ مِنْ الْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي التَّحَلُّلِ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْرَامِ الْقَارِنِ.قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ تَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ التَّحَلُّلَيْنِ وَأَقَامَ بِمِنَى لِلرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ، فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، نَصَّ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّشَاغُلِ بِهَا لِوُجُوبِ مُلَازَمَةِ إتْمَامِ الْحَجِّ بِالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ.
فأما: إذَا نَفَرَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ وَهُوَ بَعْدَ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَعُمْرَتُهُ صَحِيحَةٌ بِلَا خِلَافٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفُرُوقِ وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الْمُقِيمَ بِمِنًى يَوْمَ النَّفْرِ وَإِنْ كَانَ خَالِيًا مِنْ عَلَائِقِ الْإِحْرَامِ بِالتَّحَلُّلَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى نُسُكٍ مُشْتَغِلٌ بِإِتْمَامِهِ وَهُوَ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ، وَهُمَا مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ، فَلَا تَنْعَقِدُ عُمْرَتُهُ مَا لَمْ يُكْمِلْ حَجَّهُ بِخِلَافِ مَنْ نَفَرَ فَإِنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْحَجِّ وَصَارَ كَغَيْرِ الْحَاجِّ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَا يُتَصَوَّرُ حِينَ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتٍ، وَلَا تَنْعَقِدُ عُمْرَتُهُ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ يَرِدُ عَلَى هَذَا مَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي حَالِ جِمَاعِهِ الْمَرْأَةَ، فَإِنَّهُ حَلَالٌ وَلَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ عَلَى أَصَحِّ الْأَوْجُهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جِمَاعِ الْمُحْرِمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ عَدَمَ انْعِقَادِ الْعُمْرَةِ هُنَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمُحْرِمِ لَا لِعَارِضٍ، فَهُوَ كَالْكَافِرِ وَغَيْرِهِ، مِمَّنْ لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَافِرَ وَنَحْوَهُ لَا يَرِدُ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ الْعُمْرَةِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَلَا تُكْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّهْيُ الشَّرْعِيُّ، وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْخَبَرُ؛ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الْقِرَانُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ بِلَا كَرَاهَةٍ، فَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُ الْعُمْرَةِ فِيهِ كَمَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يُكْرَهُ فِيهِ اسْتِدَامَةُ الْعُمْرَةِ لَا يُكْرَهُ فِيهِ إنْشَاؤُهَا كَبَاقِي السَّنَةِ.
وأما: قَوْلُ عَائِشَةَ فَأَجَابَ: أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ أَجْوَدُهَا أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُعْرَفُ عَنْهَا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْهَا أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَمْ يُشْتَهَرْ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ صَحَّ وَاشْتُهِرَ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالْحَجِّ وأما: قَوْلُهُمْ: إنَّهَا أَيَّامُ الْحَجِّ فَكُرِهَتْ فِيهَا الْعُمْرَةُ، فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ لَا شُبْهَةَ لَهَا.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ. مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ بَلْ يُسْتَحَبُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالْعَبْدَرِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهما، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ: تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنْ

 

ج / 7 ص -91-         مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَلَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً كَالْحَجِّ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَخَلَائِقُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ "أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَحْرَمَتْ بِعُمْرَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَحَاضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُحْرِمَ بِحَجٍّ فَفَعَلَتْ، وَصَارَتْ قَارِنَةً وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ وَسَعَتْ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ"، فَطَلَبَتْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً أُخْرَى، فَأَذِنَ لَهَا فَاعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ عُمْرَةً أُخْرَى" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مُطَوَّلًا، وَنَقَلْته مُخْتَصَرًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَانَتْ عُمْرَتُهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ أَعْمَرَهَا الْعُمْرَةَ الْأُخْرَى فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَكَانَ لَهَا عُمْرَتَانِ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا: "أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ أَيْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُ عُمَرَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَعْوَامًا فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ، ذَكَرَ هَذِهِ الْآثَارَ كُلَّهَا الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدِهِمَا.
وأما: الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقُلْ: اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَشَوَّالٍ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ قَدْ احْتَجُّوا بِهِ، وَصَدَّرَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ الْبَابَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَجْهُ دَلالَتِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَوْنِ الْعُمْرَتَيْنِ فِي سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، وَهَذَا تَعْلِيقٌ ضَعِيفٌ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ فَقَالُوا: عِبَادَةٌ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، فَلَمْ يُكْرَهْ تَكْرَارُهَا فِي السَّنَةِ كَالصَّلَاةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر": مَنْ قَالَ: لَا يَعْتَمِرُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي حَدِيثَ عَائِشَةَ السَّابِقَ.
فإن قيل: قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "اُرْفُضِي عُمْرَتَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" فَفَعَلَتْ، ثُمَّ اعْتَمَرَتْ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا إلَّا عُمْرَةً وَاحِدَةً فالجواب: أَنَّهَا لَمْ تَرْفُضْهَا، يَعْنِي الْخُرُوجَ مِنْهَا وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ لَا يُخْرَجُ مِنْهُمَا بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا رَفْضُهَا رَفْضَ أَعْمَالِهَا مُسْتَقِلَّةً؛ لِأَنَّهَا أَحْرَمَتْ بَعْدَهَا بِالْحَجِّ، فَصَارَتْ قَارِنَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اُرْفُضِيهَا" أَيْ اُتْرُكِي أَعْمَالَهَا الْمُسْتَقِلَّةَ لِانْدِرَاجِهَا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ وأما: امْتِشَاطُهَا، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَنَا الِامْتِشَاطُ وأما: الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ مَالِكٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحَجِّ، فَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ مُؤَقَّتٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُهُ فِي السَّنَةِ وَالْعُمْرَةُ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، فَتُصَوِّرَ تَكْرَارُهَا كَالصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيَجُوزُ إفْرَادُ الْحَجِّ عَنْ الْعُمْرَةِ، وَالتَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَالْقِرَانُ بَيْنُهُمَا، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنَّا، مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ: وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ" وَالْإِفْرَادُ وَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ الْقِرَانُ أَفْضَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّ الْمُفْرِدَ وَالْمُتَمَتِّعَ يَأْتِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِكَمَالِ أَفْعَالِهِ، وَالْقَارِنُ يَقْتَصِرُ عَلَى عَمَلِ الْحَجِّ وَحْدَهُ، فَكَانَ الْإِفْرَادُ وَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ، وَفِي التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ

 

ج / 7 ص -92-         قَوْلَانِ أحدهما: أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ" والثاني: أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: "أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَجٍّ لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ" وَلِأَنَّ التَّمَتُّعَ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ دَمٍ، فَكَانَ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ مِنْهُ كَالْقِرَانِ وأما حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَمَرَ بِالتَّمَتُّعِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ رَجَمَ مَاعِزًا وَأَرَادَ أَنَّهُ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ هُوَ الرَّاوِي، وَقَدْ رَوَى "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ بِالْحَجِّ".
الشرح: حَدِيثُ عَائِشَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهَا كُلَّهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِلَفْظِهَا، إلَّا حَدِيثَ جَابِرٍ فَلَفْظُهُمَا فِيهِ: "أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ" وأما: قَوْلُهُ لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ فَلَيْسَتْ فِي رِوَايَتِهِمَا وَرَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
أَمَّا الأَحْكَامُ، فَقَدْ أَتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ عَلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ، الْإِفْرَادُ، وَالتَّمَتُّعُ، وَالْقِرَانُ، وَالْإِطْلَاقُ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِنُسُكٍ مُطْلَقًا، ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَالتَّعْلِيقُ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِإِحْرَامٍ كَإِحْرَامِ1 فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْخَمْسَةُ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا الثَّلَاثَةَ الْأَوْلَى وأما: النَّوْعَانِ الْآخَرَانِ: فَذَكَرَهُمَا فِي بَابِ الْإِحْرَامِ وَسَنُوَضِّحُهُمَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وأما: الْأَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى فَفِيهِ طُرُقٌ وَأَقْوَالٌ مُنْتَشِرَةٌ الصحيح: مِنْهَا الْإِفْرَادُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ، ثُمَّ الْقِرَانُ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَفْضَلَهَا التَّمَتُّعُ، ثُمَّ الْإِفْرَادُ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا الثَّانِي نَصَّهُ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ، حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ والثالث: أَفْضَلُهَا الْإِفْرَادُ، ثُمَّ الْقِرَانُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ، حَكَاهُ صَاحِبُ "الْفُرُوعِ"، وَالسَّرَخْسِيُّ وَصاحب "البيان"، وَآخَرُونَ، قَالُوا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُزَنِيّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه". قَالَ أَصْحَابُنَا: وَشَرْطُ تَقْدِيمِ الْإِفْرَادِ أَنْ يَحُجَّ، ثُمَّ يَعْتَمِرَ فِي سَنَةٍ، فَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ عَنْ سَنَةٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَفْضَلُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةَ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ مَكْرُوهٌ. هَكَذَا قَالَهُ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه". وَصاحب "الشامل" و"الْبَيَانِ" وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي: الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، سَوَاءٌ اعْتَمَرَ فِي سَنَتِهِ أَمْ فِي سَنَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُ الثَّلَاثَةِ، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إلَّا مَا ثَبَتَ في "الصحيحين" عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ عَنْ التَّمَتُّعِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تعليقه وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي نَهْي عُمَرَ وَعُثْمَانَ تَأْوِيلَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُمَا نَهَيَا عَنْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله كإحرام زيد مثلا (ط).

 

ج / 7 ص -93-         تَنْزِيهًا، وَحَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْإِفْرَادُ، لَا أَنَّهُمَا يَعْتَقِدَانِ بُطْلَانَ التَّمَتُّعِ هَذَا مَعَ عِلْمِهِمَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] والثاني: أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ عَنْ التَّمَتُّعِ الَّذِي فَعَلَتْهُ الصَّحَابَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا لَهُمْ كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَاضِحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا وَسِيَاقُ الْأَحَادِيثِ، الصَّحِيحَةِ يَقْتَضِي خِلَافَهُ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّ مَذْهَبَ عُمَرَ بُطْلَانُ التَّمَتُّعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَيْهِ، بَلْ الْمُخْتَارُ فِي مَذْهَبِهِ مَا قَدِمْتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. قَدْ ذَكَرنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْمُزَنِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ. وَحَكَى أَبُو يُوسُفَ أَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ لَا أَفْضَلِيَّةَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَمِمَّا سَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَالَ الْمُزَنِيّ فِي "المختصر": قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ أَيْسَرَ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ، ثُمَّ السُّنَّةَ، ثُمَّ مَا لَا عُلِمَ فِيهِ خِلَافٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَإِفْرَادُ الْحَجِّ وَالْقِرَانِ وَاسِعٌ كُلُّهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم "خَرَجَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ - وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ - أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَقَالَ:
لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ يَعْنِي رِوَايَتَهُمْ لِلْإِفْرَادِ دُونَ حَدِيثِ مَنْ قَالَ قَرَنَ؟ قِيلَ: لِتَقَدُّمِ صُحْبَةِ جَابِرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُسْنِ سِيَاقِهِ لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ، وَفَضْلِ حِفْظِهَا عَنْهُ، وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ، هَذَا نَصُّهُ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ" قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي قَوْلَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ مِنْ الْخِلَافِ أَيْسَرَ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ حُكْمٍ؛ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ وَالتَّمَتُّعَ كُلَّهَا جَائِزَةٌ، قَالَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ أَرَادَ الْإِنْكَارَ عَلَى الرُّوَاةِ حَيْثُ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى نَقْلِهَا، وَهِيَ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ والثاني: أَنَّهُ أَرَادَ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْأَحَادِيثِ وَتَرْتِيبِ مُخْتَلَفِهَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَضَادَّةٍ، بَلْ يُجْمَعُ بَيْنَهَا، هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ.
َقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: وَإِنَّمَا اسْتَيْسَرَ الْخِلَافُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ، وَكُلُّهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم صَحِيحَةٌ عَنْهُ، وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ أما: الْإِفْرَادُ فَبَيِّنٌ فِي قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وأما: التَّمَتُّعُ فَفِي قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَأَمَّا الْقِرَانُ فَفِي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}.

 

ج / 7 ص -94-         [البقرة: 196] هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَخِيرَةِ لِلْقِرَانِ نَظَرٌ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَذْهَبِهِمْ فِي تَرْجِيحِ الْقِرَانِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا وَقَالُوا: لَا دَلَالَة فِي الْآيَةِ لِلْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَكْثَرُ مِنْ جَمْعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي الذِّكْرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَمْعُهُمَا فِي الْفِعْلِ، نَظِيرُهُ قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" فِي شَرْحِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَذَا وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا يَعْنِي اخْتِلَافَهُمْ فِيهَا قَبِيحٌ، قَالَ: ثُمَّ عَذَرَهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْإِفْرَادَ وَالتَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ كُلَّهَا جَائِزَةٌ لَمْ يَهْتَمُّوا بِمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَيْثُ يَعْلَمُونَهُ عِلْمًا قَطْعِيًّا، وَيَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، بَلْ اقْتَصَرَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَمَا رَوَاهُ وَسَمِعَهُ مِنْهُ، مَعَ أُمُورٍ فَوْقَ ظَنِّهِ فِي رِوَايَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: أَذْكُرُ فِيهِ إنْ شَاءَ الله تعالى جُمْلَةً مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فأما: جَوَازُهَا كُلُّهَا فَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "مِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، وَمِنَّا مَنْ قَرَنَ، وَمِنَّا مَنْ تَمَتَّعَ"، وأما: تَرْجِيحُ الْإِفْرَادِ فَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ.
فأما: حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ سَبَقَ الْآنَ فِي قَوْلِهَا: "وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا عَنْهَا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا" وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَذْكُرُ لَنَا الْحَجَّ، فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمَثْت - وَذَكَرَتْ تَمَامَ الْحَدِيثِ إلَى قَوْلِهَا - ثُمَّ رَجَعُوا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ - يَعْنِي إلَى مِنًى".
وأما حديث ابْنِ عُمَرَ فَعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَنَا إلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ "أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: بِمَ أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: بِالْحَجِّ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَلَمْ تَأْتِنِي عَامَ أَوَّلٍ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّ أَنَسًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَرَنَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّ أَنَسًا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُنْكَشِفَاتُ الرُّءُوسِ، وَإِنِّي كُنْتُ تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ مُنْفَرِدًا".
وأما حديث جَابِرٍ فَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "أَهْلَلْنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ، فَقَدِمْنَا صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ" وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنَاسِكِ الْحَجِّ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: حَتَّى إذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ

 

ج / 7 ص -95-         وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَتَحَلَّلْ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً" قوله: آخِرُ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ، يَعْنِي: السَّعْيَ.
وأما حديث ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِيهِ قَالَ: "أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ فَقَدِمَ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَّى الصُّبْحَ وَقَالَ لَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ:
مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ أَفْرِدْ الْحَجَّ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ" وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِفْرَادِ الْحَجِّ.
وأما: تَرْجِيحُ التَّمَتُّعِ فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ:
مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيُحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يُحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: مِثْلُ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ فِيمَا سَبَقَ فِي إفْرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُخَالِفُ هَذَا، قَالَ: وَكَوْنُهُ قَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إحْرَامِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا. وَعَنْ غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ - بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - قَالَ: "سَأَلْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: فَعَلْنَاهَا، وَهَذَا يَوْمئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ - يَعْنِي: بُيُوتَ مَكَّةَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وقوله: الْعُرُشُ هُوَ - بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ - وَهِيَ بُيُوتُ مَكَّةَ وقوله: وَهَذَا كَافِرٌ يَعْنِي: مُعَاوِيَةَ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ: "فَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا يَوْمئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ"
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ "سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَامَ حَجِّ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُمَا يَذْكُرَانِ التَّمَتُّعَ وَالْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَصْنَعُ مِثْلَ هَذَا إلَّا مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ تعالى فَقَالَ سَعْدٌ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ الضَّحَّاكُ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ

 

ج / 7 ص -96-         صَحِيحٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَآخَرُونَ أَيْضًا، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ"بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى قَوْمِي بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ فَقُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا، فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْت فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي - أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي -" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ حَلَالٌ، قَالَ الشَّامِيُّ: إنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ قَوْلُهُ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: "تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ قَالَ: "مُتِّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ" وَعَنْ أَبِي جَمْرَةَ - بِالْجِيمِ - قَالَ"تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَمَرَنِي بِهَا. فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا يَقُولُ لِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وأما: الْقِرَانُ فَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ منها: حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَهُمَا بِعُسْفَانْ فَكَانَ عُثْمَانُ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ أَوْ الْعُمْرَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْنَا مِنْكَ، فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ومنها: حَدِيثُ أَنَسٍ فَعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا. قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثَهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَنَا إلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ قَالَ: "سَمِعَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَبُو قِلَابَةَ مِنْ أَنَسٍ وَأَبُو قِلَابَةَ فَقِيهٌ" قَالَ: وَقَدْ رَوَى حُمَيْدٌ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ" قَالَ سُلَيْمَانُ: وَلَمْ يَحْفَظَا، إنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ" فَأَمَّا سَمْعُ أَنَسٍ فَعَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَالِاشْتِبَاهُ وَقَعَ لِأَنَسٍ لَا لِمَنْ دُونَهُ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ رَجُلًا كَيْفَ صُورَةُ الْقِرَانِ، لَا أَنَّهُ قَرَنَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِهِمَا لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْهَ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِوَادِي الْعَقِيقِ:
"أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقَالَ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَقَالَ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ، وَفِي بَعْضِهَا وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيَكُونُ ذَلِكَ إذْنًا

 

ج / 7 ص -97-         فِي إدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ فِي نَفْسِهِ وَعَنْ الصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: "كُنْتُ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَأَسْلَمْتُ فَأَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَمَّا أَتَيْتُ الْعُذَيْبَ لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ قَالَ: فَكَأَنَّمَا أَلْقَى عَلَيَّ جَبَلٌ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي كُنْتُ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا، وَإِنِّي أَسْلَمْتُ وَأَنَا حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ، وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ، فَأَتَيْتُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ لِي: اجْمَعْهُمَا وَاذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، وَإِنِّي أَهْلَلْتُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَقَالَ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي كِتَابِ "الْعِلَلِ: "هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمُقْتَضَى هَذَا جَوَازُ الْقِرَانِ لَا تَفْضِيلُهُ وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بِالْإِفْرَادِ. قلت: وَهَذَا أَوَدُّ1 مَا قُلْتُهُ مِنْهُ فِي تَأْوِيلِ نَهْيِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه عَنْ التَّمَتُّعِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِتَفْضِيلِهِ أَمْرَ الْإِفْرَادِ لَا لِبُطْلَانِ التَّمَتُّعِ، وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: "إنَّمَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ بَعْدَهَا" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: "قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: إنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَوْلُهَا مِنْ عُمْرَتِكَ أَيْ مِنْ إحْرَامِكَ، قَالَ: إنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ، أَيْ حَتَّى يَحِلَّ الْحَاجُّ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ نَزَلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ جَعَلَ إحْرَامَهُ حَجًّا.
وَاعْلَمْ: أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ ذَكَرَ بَابًا فِي جَوَازِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، ثُمَّ بَابًا فِي تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ، ثُمَّ بَابَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَذَكَرَ فِي كُلٍّ نَحْوَ مَا ذَكَرْتُهُ؟ ثُمَّ قَالَ: بَابُ كَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ، وَبَيَانِ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كُنَّا اخْتَرْنَا الْإِفْرَادَ فَذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُضِيَ فِيهِ يَنْهَى عَنْ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ"، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ عُمَرَ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرْوَ هُنَا عَنْ عُمَرَ، بَلْ عَنْ صَحَابِيٍّ غَيْرِ مُسْمًى، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ.
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: "تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فَلْيَقُلْ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى السَّابِقُ فِي الْقِرَانِ وَأَنَّ أَبَا مُوسَى قَالَ: "قُلْتُ: أُفْتِي النَّاسَ بِاَلَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ التَّمَتُّعِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرِ خِلَافَةِ عُمَرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِيهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: "أَنَّ أَبَا مُوسَى سَأَلَ عُمَرَ عَنْ نَهْيِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَعَلَهُ وَأَصْحَابُهُ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ يَظَلُّوا مُعْرِسِينَ بِهِنَّ فِي الْأَرَاكِ، ثُمَّ يَرُوحُونَ فِي الْحَجِّ تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ إلَّا قَوْلَهُ: "وَأَصْحَابُهُ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعله "وهذا ما يؤيد ما نقلته الخ أو نحوه فليراجع (ط).

 

 

ج / 7 ص -98-         يَظَلُّوا مُعْرِسِينَ بِهِنَّ تَحْتَ الْأَرَاكِ ثُمَّ يَرُوحُونَ" وَالْإِعْرَاسُ: كِنَايَةٌ عَنْ وَطْءِ النِّسَاءِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ فِي تَمَتُّعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، وَتَمَتُّعِ النَّاسِ مَعَهُ" بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقُلْتُ لِسَالِمٍ فَلِمَ يَنْهَى عَنْ التَّمَتُّعِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفَعَلَهُ النَّاسُ مَعَهُ؟ قَالَ سَالِمٌ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُمَرَ أَنَّ الْأَتَمَّ لِلْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرِدُوهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ: "لِلْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ" شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، فَأَخْلِصُوا فِيهِنَّ الْحَجَّ وَاعْتَمِرُوا فِيمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الشُّهُورِ، قَالَ: وَإِنْ أَعْمَرَ بِذَلِكَ لَزِمَهُ إتْمَامُ الْعُمْرَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] وَذَلِكَ أَنَّ الْعُمْرَةَ إنَّمَا يُتَمَتَّعُ بِهَا إلَى الْحَجِّ، وَالتَّمَتُّعُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْهَدْيِ أَوْ الصِّيَامِ إذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَالْعُمْرَةُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ تَتِمُّ بِلَا هَدْيٍ وَلَا صِيَامٍ، فَأَرَادَ عُمَرُ بِتَرْكِ التَّمَتُّعِ تَمَامَ الْعُمْرَةِ كَمَا أَمَرَ الله تعالى بِإِتْمَامِهَا وَأَرَادَ أَيْضًا أَنْ تُكَرَّرَ زِيَارَةُ الْكَعْبَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ. فَكَرِهَ التَّمَتُّعَ لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى زِيَارَةِ مَرَّةٍ فَتَرَدَّدَ الْأَئِمَّةُ فِي التَّمَتُّعِ حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ يَرَوْنَ ذَلِكَ حَرَامًا، قَالَ: وَلَعَمْرِي لَمْ يَرَ الْأَئِمَّةُ ذَلِكَ حَرَامًا، وَلَكِنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه إحْسَانًا لِلْخَيْرِ" وَبِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: "سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَأَمَرَ بِهَا، فَقِيلَ: إنَّك تُخَالِفُ أَبَاكَ، فَقَالَ: إنَّ أَبِي لَمْ يَقُلْ الَّذِي يَقُولُونَ، إنَّمَا قَالَ: أَفْرِدُوا الْحَجَّ مِنْ الْعُمْرَةِ، أَيْ إنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتِمُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَعَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ حَرَامًا وَعَاقَبْتُمْ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَعَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: فَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ عُمَرُ؟".
وَعَنْ سَالِمٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِاَلَّذِي أَنْزَلَ الله تعالى مِنْ الرُّخْصَةِ فِي التَّمَتُّعِ، وَبَيَّنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ نَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ أَبَاكَ وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ ابْنُ عُمَرَ: أَلَا تَتَّقُونَ اللَّهَ؟ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ عُمَرُ نَهَى ذَلِكَ يَبْغِي فِيهِ الْخَيْرَ وَيَلْتَمِسُ فِيهِ تَمَامَ الْعُمْرَةِ، فَلِمَ كَرِهْتُمُوهَا وَقَدْ أَحَلَّهَا الله تعالى ؟ وَعَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا ؟ أَمْ عُمَرُ ؟ إنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، إنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إنَّ إتْمَامَ الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرِدَهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ" ثُمَّ رَوَى، الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ: "عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما: أَنَهَيْتَ عَنْ الْمُتْعَةِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَرَدْتُ كَثْرَةَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَحَسَنٌ، وَمَنْ تَمَتَّعَ فَقَدْ أَخَذَ بِكِتَابِ اللَّهِ تعالى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ".
عَنْ أَبِي نُصْرَةَ قَالَ: "قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهَا، فَقَالَ جَابِرٌ: عَلَى يَدَيَّ دَارَ الْحَدِيثُ، تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ وَابْتَغُوا نِكَاحَ هَذِهِ النِّسَاءِ فَلَنْ أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ إلَّا رَجَمْتُهُ بِالْحِجَارَةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: "فَإِنَّهُ أَتَمُّ بِحَجِّكُمْ، وَأَتَمُّ بِعُمْرَتِكُمْ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: "كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ" وَكَانَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ كَلِمَةً ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا قَدْ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَجَلُ، وَلَكِنَّنَا كُنَّا خَائِفِينَ" رَوَاهُ

 

ج / 7 ص -99-         مُسْلِمٌ وَأَرَادَ بِكُنَّا خَائِفِينَ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَكَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنَّمَا أَرَادَ فَسْخَهُمْ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ هُوَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْعَلُوهُ عُمْرَةً لِيُنْقَضَ بِذَلِكَ عَادَتُهُمْ فِي تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ الْيَوْمَ وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ حَجَّ ثُمَّ فَسَخَهَا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا الرَّكْبُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ صَاحِبَ "الْمَغَازِي" هَذَا مُدَلِّسٌ وَقَدْ قَالَ: عَنْ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُدَلِّسَ إذَا قَالَ: عَنْ لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ لَيْسَ فِيهَا عُمْرَةٌ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ. وَكَرَاهَةُ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ أَظُنُّهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا1 قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَوَازُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ وَثَبَتَ بِمُضِيِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجٍّ مُفْرَدٍ ثُمَّ بِاخْتِلَافِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي كَرَاهَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دُونَ الْإِفْرَادِ كَوْنُ إفْرَادِ الْحَجِّ عَنْ الْعُمْرَةِ أَفْضَلُ وَأَنَّهُ أَسْلَمُ.
فرع: فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ طُرُقُهَا. قَدْ سَبَقَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُفْرِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَكُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ وَهِيَ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَجِبُ تَأْوِيلُ جَمِيعِهَا بِبَعْضِهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَصَنَّفَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ كِتَابًا فِيهَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ اخْتَارَ الْقِرَانَ وَتَأَوَّلَ بَاقِي الْأَحَادِيثِ وَتَأْوِيلُ بَعْضِهَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِيمَا قَالَهُ، والصواب الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ أَوَّلًا بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ فَصَارَ قَارِنًا، وَإِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ جَائِزٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا، وَعَلَى الْأَصَحِّ. لَا يَجُوزُ لَنَا، وَجَازَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ السَّنَةَ لِلْحَاجَةِ، وَأَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: "
لَبَّيْكَ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ" كَمَا سَبَقَ.
فَإِذَا عَرَفْتَ مَا قُلْنَاهُ سَهُلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، فَمَنْ رَوَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُفْرِدًا وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ كَمَا سَبَقَ أَرَادَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَوَّلَ الْإِحْرَامِ، وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا أَرَادَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ آخِرَهُ، وَمَا بَعْدُ إحْرَامٌ وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَرَادَ التَّمَتُّعَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَالِالْتِذَاذُ، وَقَدْ انْتَفَعَ بِأَنْ كَفَاهُ عَنْ النُّسُكَيْنِ فِعْلٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَمَلٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ تِلْكَ السَّنَةِ عُمْرَةً مُفْرَدَةً، لَا قَبْلَ الْحَجِّ وَلَا بَعْدَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ إفْرَادِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ عُمْرَةٍ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ جُعِلَتْ حَجَّتُهُ صلى الله عليه وسلم مُفْرَدَةً لَزِمَ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ اعْتَمَرَ تِلْكَ السَّنَةَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ الْحَجَّ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ، وَعَلَى هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ يَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي حَجَّتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر ولعل السقط "سنة ماضية" المطيعي.

 

ج / 7 ص -100-       نَفْسِهِ.
وأما: الصَّحَابَةُ فَكَانُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ أَحْرَمُوا بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، أَوْ بِحَجٍّ وَمَعَهُمْ هَدْيٌ فَبَقُوا عَلَيْهِ حَتَّى تَحَلَّلُوا مِنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَقِسْمٌ بِعُمْرَةٍ فَبَقُوا فِي عُمْرَتِهِمْ حَتَّى تَحَلَّلُوا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ ثُمَّ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَقِسْمٌ بِحَجٍّ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فِيهَا وَلَا أَمَرَهُمْ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْلِبُوا حَجَّهُمْ عُمْرَةً وَهُوَ مَعْنَى فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، وَعَلَى هَذَا تَنْتَظِمُ الرِّوَايَاتُ فِي إحْرَامِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَارِنِينَ أَوْ مُتَمَتِّعِينَ أَوْ مُفْرِدِينَ أَرَادَ بَعْضَهُمْ وَهُمْ الطَّائِفَةُ الَّذِينَ عَلِمَ مِنْهُمْ وَظَنَّ أَنَّ الْبَاقِينَ مِثْلُهُمْ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ الْجَمْعِ وَالتَّأْوِيلِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَحَاصِلُهُ تَرْجِيحُ الْإِفْرَادِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اخْتَارَهُ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لِتِلْكَ الْمُصْلِحَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ بَيَانُ جَوَازِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، وَأَرَادَ بَيَانَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي جَمَعَتْ مِنْ الْخَلْقِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ قَبْلَهَا مِثْلُهَا، لِيَظْهَرَ فِيهِمْ ذَلِكَ وَيَشْتَهِرَ جَوَازُهُ وَصِحَّتُهُ عِنْدَ جَمْعِهِمْ، وَإِنْ كَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ اعْتَمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَشْتَهِرْ اشْتِهَارَ هَذِهِ1 فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهَا، وَكُلُّ هَذَا لَا يُخْرِجُ الْإِفْرَادَ عَنْ كَوْنِهِ الْأَفْضَلَ. وَتَأَوَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأَحَادِيثَ الَّتِي جَاءَتْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ، كَمَا قَالُوا: رَجَمَ مَاعِزًا أَيْ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ صَرِيحُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ، بَلْ الصَّوَابُ مَا قَدَّمْتُهُ قَرِيبًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: طَعَنَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْجُهَّالِ وَكَفَرَةٌ مِنْ الْمُلْحِدِينَ فِي الْأَحَادِيثِ وَالرُّوَاةِ، حَيْثُ اخْتَلَفُوا فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا؟ وَهِيَ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَفْعَالِ، وَلَوْ يُسِّرُوا لِلتَّوْفِيقِ وَاغْتَنَوْا بِحُسْنِ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَدْفَعُوهُ، قَالَ: وَقَدْ أَنْعَمَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله تعالى بِبَيَانِ هَذَا فِي كِتَابِ "اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ". وَجَوَّدَ الْكَلَامَ فِيهِ، وَفِي اقْتِصَاصِ كُلِّ مَا قَالَهُ تَطْوِيلٌ، وَلَكِنَّ الْوَجِيزَ المختصر مِنْ جَوَامِعِ مَا قَالَ أَنَّ مَعْلُومًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ جَوَازُ إضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الْآمِرِ بِهِ، لِجَوَازِ إضَافَتِهِ إلَى الْفَاعِلِ، كَقَوْلِكَ: بَنَى فُلَانٌ دَارًا إذَا أَمَرَ بِبِنَائِهَا، وَضَرَبَ الْأَمِيرُ فُلَانًا إذَا أَمَرَ بِضَرْبِهِ، وَرَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَاعِزًا وَقَطَعَ سَارِقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ.
وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ الْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ وَالْمُتَمَتِّعُ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَأْخُذُ عَنْهُ أَمْرَ نُسُكِهِ وَيَصْدُرُ عَنْ تَعْلِيمِهِ، فَجَازَ أَنْ تُضَافَ كُلُّهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا وَأَذِنَ فِيهَا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَهُ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ، فَحَكَى أَنَّهُ أَفْرَدَ وَخَفِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَعُمْرَةٍ، فَلَمْ يَحْكِ إلَّا مَا سَمِعَ، وَسَمِعَ أَنَسٌ وَغَيْرُهُ الزِّيَادَةَ، وَهِيَ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَلَا يُنْكَرُ قَبُولُ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّنَاقُصُ لَوْ كَانَ الزَّائِدُ نَافِيًا لِقَوْلِ صَاحِبِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُثْبِتًا لَهُ وَزَائِدًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ، فَيَقُولُ لَهُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّلْقِينِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ولعلها العمرة.

 

 

ج / 7 ص -101-       فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الظَّاهِرِ لَيْسَ فِيهَا تَكَاذُبٌ وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا سَهْلٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "أَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ إحْرَامًا مَوْقُوفًا، وَخَرَجَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ عَلَى الصَّفَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهُ عُمْرَةً، وَأَمَرَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَحُجَّ" هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: "قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ عُلَمَاءَ وَغَيْرِهِمْ، فَمِنْ مُجِيدٍ مُنْصِفٍ وَمِنْ مُقَصِّرٍ مُتَكَلِّفِ، وَمِنْ دَخِيلٍ مُكْرَهٍ، وَمِنْ مُقْتَصِرٍ مُخْتَصِرٍ، وَأَوْسَعُهُمْ نَفَسًا فِي ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ الْحَنَفِيُّ" وَإِنْ كَانَ تَكَلَّفَ فِي ذَلِكَ فِي زِيَادَةٍ عَلَى أَلْفِ وَرَقَةٍ، وَتَكَلَّمَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ. ثُمَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ بْنِ الْمُهَلِّبِ، وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ، وَالْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَصَّارِ الْبَغْدَادِيُّ وَالْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَأَوْلَى مَا يُقَالُ فِي هَذَا مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَاخْتَرْنَاهُ مِنْ اخْتِيَارَاتِهِمْ مِمَّا هُوَ أَجْمَعُ لِلرِّوَايَاتِ وَأَشْبَهُ بِمَسَاقِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لِلنَّاسِ مِنْ فِعْلِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِيَدُلَّ عَلَى جَوَازِ جَمِيعِهَا إذْ لَوْ أَمَرَ بِوَاحِدٍ لَكَانَ غَيْرُهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، فَأُضِيفَ الْجَمِيعُ إلَيْهِ، وَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَأَبَاحَهُ لَهُ، وَنَسَبَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إمَّا لِأَمْرِهِ بِهِ، وَإِمَّا لِتَأْوِيلِهِ عَلَيْهِ.
وأما: إحْرَامُهُ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ فَأَخَذَ بِالْأَفْضَلِ فَأَحْرَمَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ، وَبِهِ تَظَاهَرَتْ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ، وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَمَعْنَاهَا أَمَرَ بِهِ، وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ بِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا فَإِخْبَارٌ عَنْ حَالَتِهِ الثَّانِيَةِ لَا عَنْ ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِ بَلْ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ حِينَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ حَجِّهِمْ، وَقَلَبَهُ إلَى عُمْرَةٍ لِمُخَالِفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَكَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ فِي الْهَدْيِ فِي آخِرِ إحْرَامِهِمْ قَارِنِينَ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَرْدَفُوا الْحَجَّ بِالْعُمْرَةِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُوَاسَاةً لِأَصْحَابِهِ، وَتَأْنِيسًا لَهُمْ فِي فِعْلِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، لِكَوْنِهَا كَانَتْ مُنْكَرَةً عِنْدَهُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّحَلُّلُ مَعَهُمْ لِسَبَبِ الْهَدْيِ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي تَرْكِ مُوَاسَاتِهِمْ فَصَارَ صلى الله عليه وسلم قَارِنًا فِي آخِرِ أَمْرِهِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَشَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَمَنَعَهُ وَقَالَ: لَا يَدْخُلُ إحْرَامٌ عَلَى إحْرَامٍ كَمَا لَا يَدْخُلُ صَلَاةٌ عَلَى صَلَاةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي إدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَجَوَّزَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ وَجَعَلُوا هَذَا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِضَرُورَةِ الِاعْتِمَارِ حِينَئِذٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، قَالَ: وَكَذَلِكَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَ مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَيْ تَمَتَّعَ بِفِعْلِهِ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفَعَلَهَا مَعَ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُتْعَةِ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ فَانْتَظَمَتْ الْأَحَادِيثُ وَاتَّفَقَتْ. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ رَدُّ مَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ فِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ إلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا. فَيَكُونُ الْإِفْرَادُ إخْبَارًا عَنْ فِعْلِهِمْ أَوَّلًا، وَالْقِرَانُ إخْبَارًا عَنْ إحْرَامِ الَّذِينَ مَعَهُمْ هَدْيٌ بِالْعُمْرَةِ ثَانِيًا، وَالتَّمَتُّعُ لِفَسْخِهِمْ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ، ثُمَّ إهْلَالُهُمْ بِالْحَجِّ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا كَمَا فَعَلَهُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّهُ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا مُنْتَظِرًا مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ إفْرَادٍ أَوْ

 

ج / 7 ص -102-       تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ ثُمَّ أُمِرَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْعُمْرَةِ فِي وَادِي الْعَقِيقِ بِقَوْلِهِ: "أَهِلَّ فِي هَذَا الْوَادِي، وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ" قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي سَبَقَ أَبْيَنُ وَأَحْسَنُ فِي التَّأْوِيلِ. هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي عِيَاضٌ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي فِي وَضْعٍ آخَرَ بَعْدَهُ: لَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أَحْرَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إحْرَامًا مُطْلَقًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَرُدُّهُ، وَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِخِلَافِهِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا مَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِطْلَاقِ، وَاخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهَا، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا، وَفِي الْجَوَابِ عَنْ اعْتِرَاضِ الْمُلْحِدِينَ عَلَيْهَا، وَذَكَرْنَا أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ جَائِزَةٌ، وَأَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَمَّا نُقِلَ مِنْ كَرَاهَةِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ رضي الله عنهم مِنْ التَّمَتُّعِ أَوْ الْقِرَانِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ تَفْضِيلُ الْإِفْرَادِ، وَرَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ بِأَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّهُ الْأَكْثَرُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ومنها: أَنَّ رُوَاتَهُ أَخَصُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْحَجَّةِ. فَإِنَّ مِنْهُمْ جَابِرًا، وَهُوَ أَحْسَنُهُمْ سِيَاقًا لِحَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا أَوَّلَ خُرُوجِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى فَرَاغِهِ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَبْطِهِ لَهَا وَاعْتِنَائِهِ بِهَا.
وَمِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ قَالَ: "كَانَ تَحْتَ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّنِي لُعَابُهَا، أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ" وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا عَنْهُ وَمِنْهُمْ عَائِشَةُ وَقُرْبُهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْرُوفٌ، وَاطِّلَاعُهَا عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ فِي خَلْوَتِهِ وَعَلَانِيَتِهِ مَعَ فِقْهِهَا وَعِظَمِ فِطْنَتِهَا وَمِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ بِالْمَحِلِّ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ الثَّاقِبِ، مَعَ كَثْرَةِ بَحْثِهِ وَحِفْظِهِ أَحْوَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي لَمْ يَخْفِهَا، وَأَخْذِهِ إيَّاهَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ.
ومنها: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدُوا الْحَجَّ وَوَاظَبُوا عَلَيْهِ، كَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ: وَاخْتَلَفَ فِعْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنهم أجمعين، وَقَدْ حَجَّ عُمَرُ بِالنَّاسِ عَشْرَ حِجَجٍ مُدَّةَ خِلافَتِهِ كُلِّهَا مُفْرِدًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الأَفْضَلُ عِنْدَهُمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ مُفْرِدًا، لَمْ يُوَاظِبُوا عَلَى الإِفْرَادِ، مَعَ أَنَّهُمْ الأَئِمَّةُ الْأَعْلامُ وَقَادَةُ الْإِسْلامِ وَيُقْتَدَى بِهِمْ فِي عَصْرِهِمْ وَبَعْدَهُمْ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى خِلَافِ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ أَوْ أَنَّهُمْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم؟ وأما: الْخِلَافُ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّمَا فَعَلُوهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُمْ مَا يُوَضِّحُ هَذَا.
ومنها: أَنَّ الْإِفْرَادَ لَا يَجِبُ فِيهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ لِكَمَالِهِ. وَيَجِبُ الدَّمُ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. وَذَلِكَ الدَّمُ دَمُ جُبْرَانٍ لِسُقُوطِ الْمِيقَاتِ وَبَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَلِأَنَّ مَا لَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا مُحْتَاجَ إلَى جَبْرٍ أَفْضَلُ ومنها: أَنَّ الأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِ الْإِفْرَادِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَكَرِهَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا التَّمَتُّعِ، وَبَعْضُهُمْ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ، وَإِنْ كَانُوا يُجَوِّزُونَهُ عَلَى مَا سَبَقَ تَأْوِيلُهُ، فَكَانَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ أَفْضَلُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَرْجِيحِ الْقِرَانِ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِيهِ، وَبِقَوْلِهِ تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَمَشْهُورٌ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالا: "إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ" وَبِحَدِيثِ الصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ السَّابِقِ، وَقَوْلِ عُمَرَ لَهُ: "هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم" وَبِحَدِيثِ وَادِي الْعَقِيقِ "وَقُلْ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ" قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمُفْرِدَ لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقَارِنِ دَمٌ وَلَيْسَ هُوَ دَمُ جُبْرَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ حَرَامًا، بَلْ دَمَ عِبَادَةٍ وَالْعِبَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُخْتَصَّةِ بِالْبَدَنِ، قَالَ الْمُزَنِيّ: وَلِأَنَّ

 

ج / 7 ص -103-       الْقَارِنَ مُسَارِعٌ إلَى الْعِبَادَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ تَحْصِيلَ الْعُمْرَةِ فِي زَمَنِ الْحَجِّ وَهُوَ أَشْرَفُ.
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْقِرَانِ بِجَوَابَيْنِ: أحدهما: أَنَّ أَحَادِيثَ الْإِفْرَادِ أَكْثَرُ وَأَرْجَحُ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا سَبَقَ، والثاني أَنَّ أَحَادِيثَ الْقِرَانِ مُؤَوَّلَةٌ كَمَا سَبَقَ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّأْوِيلِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ سَبَقَ إيضَاحُ الْجَمْعِ وَالتَّأْوِيلِ والجواب: عَنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قَرْنُهُمَا فِي الْفِعْلِ، كَمَا فِي قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وأما: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فَمَعْنَاهُ الْإِحْرَامُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ كَرَاهَتُهُ لِلتَّمَتُّعِ وَأَمْرُهُ بِالْإِفْرَادِ.
والجواب: عَنْ حَدِيثِ الصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ عُمَرَ أَخْبَرَهُ بِأَنَّ الْقِرَانَ سُنَّةٌ، أَيْ جَائِزٌ قَدْ أَذِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ بَلْ الْمَعْرُوفُ عَنْ عُمَرَ تَرْجِيحُ الْإِفْرَادِ كَمَا سَبَقَ والجواب: عَنْ حَدِيثِ وَادِي الْعَقِيقِ مِنْ وَجْهَيْنِ سَبَقَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ ذِكْرِهِ، والثاني أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ الْقِرَانِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَا فِي أَوَّلِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ سَبَقَ إيضَاحُ هَذَا والجواب: عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَارِنَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَهُوَ دَمُ نُسُكٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: بَلْ هُوَ عِنْدَنَا دَمُ جُبْرَانٍ عَلَى الصَّحِيحِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصِّيَامَ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَلَوْ كَانَ دَمَ نُسُكٍ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ كَالْأُضْحِيَّةِ.
وأما: قَوْلُهُمْ: إنَّ الْقَارِنَ لَمْ يَفْعَلْ حَرَامًا فَلَيْسَ شَرْطَ وُجُوبِ دَمِ الْجُبْرَانِ أَنْ يَكُونَ فِي ارْتِكَابِ حَرَامٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي مَأْذُونٍ كَمَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِلْأَذَى أَوْ لَبِسَ لِلْمَرَضِ أَوْ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ أَكَلَ صَيْدًا لِمَجَاعَتِهِ أَوْ احْتَاجَ إلَى التَّدَاوِي بِطَيِّبٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الدَّمُ وَلَمْ يَفْعَلْ حَرَامًا، والجواب: عَمَّا قَالَ الْمُزَنِيّ: إنَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا تَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ لِمَعْنًى، كَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ وَعَلِمَ وُجُودَهُ أَوَاخِرَ الْوَقْتِ، فَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، وَكَتَأْخِيرِ صَلَاةِ عِيدِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ صَلَاةِ الضُّحَى إلَى امْتِدَادِ النَّهَارِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِأَنَّ الْإِفْرَادَ فِعْلُ كُلِّ عِبَادَةٍ وَحْدَهَا وَإِفْرَادُهَا بِوَقْتٍ فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَمْعِهِمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وأما: قَوْلُهُمْ: لِأَنَّ فِي الْقِرَانِ تَحْصُلُ الْعُمْرَةُ فِي زَمَنِ الْحَجِّ وَهُوَ أَشْرَفُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ هُوَ أَشْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُمْرَةِ، بَلْ رُخْصَةٌ فِي فِعْلِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا شَرَفُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَرْجِيحِ التَّمَتُّعِ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"وَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً" فَتَأَسَّفَ عَلَى فَوَاتِ الْعُمْرَةِ وَالتَّمَتُّعِ فَدَلَّ عَلَى رُجْحَانِهِ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَمَنْ الدَّلَائِلِ عَلَى تَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ وأما: تَأَسُّفُهُ صلى الله عليه وسلم فَسَبَبُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ هَدْيٌ أُمِرُوا بِجَعْلِهَا عُمْرَةً، فَحُصِلَ لَهُمْ حُزْنٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ هَدْيٌ، وَيُوَافِقُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ، فَتَأَسَّفَ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ عَلَى فَوَاتِ مُوَافَقَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَرَغْبَةً فِيمَا يَكُونُ فِي مُوَافَقَتِهِمْ. لَا أَنَّ التَّمَتُّعَ دَائِمًا أَفْضَلُ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: وَلِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعُمْرَةِ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 7 ص -104-       فرع: ذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ "تعليقه" وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي آخِرِ بَابِ صَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ مِنْ "تعليقه" وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَقَلَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُطْلَقًا. وَكَانَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، وَهُوَ نُزُولُ جِبْرِيلَ بِبَيَانِ مَا يَصْرِفُ إحْرَامَهُ الْمُطْلَقَ إلَيْهِ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام وَأَمَرَهُ بِصَرْفِهِ إلَى الْحَجِّ الْمُفْرَدِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "السُّنَنِ الْكَبِيرِ" فِي هَذَا بَابًا قَالَ: بَابُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، ثُمَّ أُمِرَ بِإِفْرَادِ الْحَجِّ وَمَضَى فِيهِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَحَادِيثَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا أَصْلًا لَا فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا الصَّحِيحِ عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ لَا يُسَمِّي حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، وَقَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ".
وَذَكَرَ فِي الْبَابِ أَيْضًا حَدِيثَ جَابِرٍ الطَّوِيلَ بِكَمَالِهِ، قَالَ فِيهِ: "فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ. وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ، قَالَ جَابِرٌ: لَسْنَا نَنْوِي إلَّا الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَذَكَرَ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ آخِرَ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَالَ:
لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحْلِلْ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ.
قلت: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كُلِّهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحْرِمْ إحْرَامًا مُطْلَقًا، بَلْ مُعَيَّنًا، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه"، وَصاحب "البيان" وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: الْمَشْهُورُ فِي الْأَحَادِيثِ خِلَافُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ فَسَخَهُ إلَى الْعُمْرَةِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا يَجُوزُ لَهُ فَسْخُهُ وَقَلْبُهُ عُمْرَةً، وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ فَسْخُهَا حَجًّا لَا لِعُذْرٍ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ سَاقَ الْهَدْيَ أَمْ لَا، هَذَا مَذْهَبُنَا، قَالَ1 ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْعَبْدَرِيُّ وَآخَرُونَ وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أَحْمَدُ يَجُوزُ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ لِمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي "شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، كَانَ خَاصًّا لِلصَّحَابَةِ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: هُوَ جَائِزٌ الْآنَ. وَاحْتُجَّ لِأَحْمَدَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْفَرْعِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً" وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَّى الْأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ. فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: "حِلٌّ كُلُّهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: "الْحِلُّ كُلُّهُ" وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش و ق ولعل العبارة "قاله ابن الصباغ والعبدري...الخ".

 

ج / 7 ص -105-       وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ وَكَانَ عَلِيٌّ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا وَيُقَصِّرُوا وَيُحِلُّوا، إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إلَى مِنًى، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
"لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْ لَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ، وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَقَبَةِ وَهُوَ يَرْمِيهَا فَقَالَ: أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بَلْ لِلْأَبَدِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَذْكُرُ إلَّا الْحَجَّ حَتَّى جِئْنَا سَرِفَ فَطَمِثْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: اجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَأَحَلَّ النَّاسُ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ قَالَتْ: فَكَانَ الْهَدْيُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَذَوِي الْيَسَارَةِ، ثُمَّ أَهَلُّوا حِينَ رَاحُوا إلَى مِنًى" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَرُحْنَا إلَى مِنًى أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَوْلُهُ: رُحْنَا أَيْ أَرَدْنَا الرَّوَاحَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ: "أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلُوا إهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ: قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَتَّابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ فِي "الْأَطْرَافِ: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَمْ أَرَهُ عِنْدَ أَحَدٍ إلَّا عِنْدَ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ في "صحيحه" مَنْ أَخَذَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَعِنْدِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَهُ عَنْ مُسْلِمٍ قُلْتُ: يُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ أَبُو مَسْعُودٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَهُ مِنْ أَبِي كَامِلٍ بِلَا وَاسِطَةٍ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْبُخَارِيُّ يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِيمَا أَخَذَهُ عَرَضًا وَمُنَاوَلَةً لَا سَمَاعًا، وَالْعَرَضُ وَالْمُنَاوَلَةُ صَحِيحَانِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذَا الْفَسْخَ كَانَ خَاصًّا بِالصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْفَسْخِ لِيُحْرِمُوا بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا أَفْجَرُ الْفُجُورِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَمُوَافِقُوهُمْ لِلتَّخْصِيصِ بِحَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ لَكُمْ خَاصَّةً" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إلَّا الْحَارِثَ بْنَ بِلَالٍ، وَلَمْ أَرَ فِي الْحَارِثِ جَرْحًا وَلَا تَعْدِيلًا، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَمْ يُضَعِّفْهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَرَّاتٍ أَنَّ مَا لَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عِنْدَهُ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي ضَعْفَهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ عِنْدِي وَلَا أَقُولُ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَى الْفَسْخَ أَحَدَ عَشْرَ صَحَابِيًّا أَيْنَ يَقَعُ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ مِنْهُمْ؟ قُلْتُ: لا مُعَارَضَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ حَتَّى يُقَدَّمُوا عَلَيْهِ لأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْفَسْخَ لِلصَّحَابَةِ، وَلَمْ

 

ج / 7 ص -106-       يَذْكُرُوا حُكْمَ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ فِي إثْبَاتِ الْفَسْخِ لِلصَّحَابَةِ لَكِنَّهُ زَادَ زِيَادَةً لَا نُخَالِفُهُمْ وَهِيَ اخْتِصَاصُ الْفَسْخِ بِهِمْ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ لأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي ذَرٍّ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الأَئِمَّةِ: أَرَادَ بِالْمُتْعَةِ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ، وَهِيَ بَيَانُ جَوَازِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَدْ زَالَتْ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَحَدٍ. وَاحْتَجَّ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِي ذَلِكَ بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ حَجَّ ثُمَّ فَسَخَهَا بِعُمْرَةٍ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلاَّ لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادُهُ هَذَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ قَالَ عَنْ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُدَلِّسَ إذَا قَالَ: عَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
وَأَجَابَ: أَصْحَابُنَا عَنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَسُرَاقَةَ:
"بَلْ لِلأَبَدِ" أَنَّ الْمُرَادَ جَوَازُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لا فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ دُخُولُ أَفْعَالِهَا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ وَهُوَ الْقِرَانُ، وَحَمَلَهُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ انْدَرَجَتْ فِي الْحَجِّ، فَلا تَجِبُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَجَّةُ الإِسْلَامِ دُونَ الْعُمْرَةِ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّ الْمَكِّيَّ لا يُكْرَهُ لَهُ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ، وَإِنْ تَمَتَّعَ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ لَهُ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ، وَلِمَنْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] فَأَبَاحَ التَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ شُرِعَ لَهُ أَنْ لَا يَلُمَّ بِأَهْلِهِ، وَالْمَكِّيُّ مُلِمٌّ بِأَهْلِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْغَرِيبَ إذَا تَمَتَّعَ لَزِمَهُ دَمٌ، وَقُلْتُمْ: إذَا تَمَتَّعَ مَكِّيٌّ فَلَا دَمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُسُكَهُ نَاقِصٌ عَنْ نُسُكِ الْغَرِيبِ فَكُرِهَ لَهُ فِعْلُهُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ النُّسُكِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَكِّيِّ، كَانَ قُرْبَةً وَطَاعَةً فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ كَالْإِفْرَادِ والجواب: عَنْ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهَا فَمَنْ تَمَتَّعَ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ كَانَ فَلَا دَمَ، فَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ فإن قيل: فَقَوْلُهُ تعالى:
{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ} [البقرة: 196] وَلَمْ يَقُلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ، قُلْنَا: اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أَيْ فَعَلَيْهَا، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] أَيْ عَلَيْهِمْ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] شَرْطٌ قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] جَزَاءُ الشَّرْطِ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ} [البقرة: 196] بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ عَائِدٌ إلَى الْجَزَاءِ دُونَ الشَّرْطِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ إلَّا بَنِي تَمِيمٍ، أَوْ قَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إلَى الْجَزَاءِ دُونَ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ دُخُولُ الدَّارِ كَذَا هَهُنَا.
وأما: قَوْلُهُمْ: الْمُتَمَتِّعُ شُرِعَ لَهُ أَنْ لَا يَلُمَّ بِأَهْلِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ وَلا تَأْثِيرَ لِلإِلْمَامِ

 

ج / 7 ص -107-       بِأَهْلِهِ فِي التَّمَتُّعِ، وَلِهَذَا لَوْ تَمَتَّعَ غَرِيبٌ عَنْ أَهْلِهِ فَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ يَصِحُّ تَمَتُّعُهُ، وَكَذَا لَوْ تَمَتَّعَ مِنْ غَيْرِ إلْمَامٍ بِأَهْلِهِ فَتَمَتُّعُهُ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهٌ وأما: قَوْلُهُ: إنَّ نُسُكَهُ نَاقِصٌ لِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْغَرِيبِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا لَزِمَ الْغَرِيبَ الدَّمُ لِأَنَّهُ تَرَفَّهَ بِالتَّمَتُّعِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَالْمَكِّيُّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مِنْ مِيقَاتِهِ الأَصْلِيِّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ لِعَدَمِ التَّرَفُّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، سَوَاءٌ حَجَّ فِي سَنَتِهِ أَمْ لَا، وَكَذَا الْحَجُّ قَبْلَ الْعُمْرَةِ وَاحْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَبِالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرَ قَبْلَ حَجَّتِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَقْسَامًا، مِنْهُمْ مَنْ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَجَّ قَبْلَ الْعُمْرَةِ" كَمَا سَبَقَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْإِفْرَادُ أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعْتَمِرَ، وَالتَّمَتُّعُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ، وَالْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ الطَّوَافِ جَازَ وَيَصِيرُ قَارِنًا، لِمَا رُوِيَ "أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ فَحَاضَتْ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
أَهِلِّي بِالْحَجِّ وَاصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَلا تُصَلِّي" وَإِنْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ بَعْدَ الطَّوَافِ لَمْ يَجُزْ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي التَّحَلُّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَقْصُودِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ فَجَازَ إدْخَالُهُ عَلَى الْآخَرِ كَالْحَجِّ، والثاني لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ اُسْتُحِقَّتْ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، فَلَا يُعَدُّ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ شَيْئًا. فإن قلنا: إنَّهُ يَجُوزُ، هَلْ يَجُوزُ بَعْدَ الْوُقُوفِ؟ يُبْنَى عَلَى الْعِلَّتَيْنِ فِي إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ، فإن قلنا: لَا يَجُوزُ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي التَّحَلُّلِ جَازَ هَهُنَا بَعْدَ الْوُقُوفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ فِي التَّحَلُّلِ وإن قلنا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَقْصُودِ لَمْ يَجُزْ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَأَفْسَدَهَا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَنْعَقِدُ الْحَجُّ، وَيَكُونُ فَاسِدًا لِأَنَّهُ إدْخَالُ حَجٍّ عَلَى عُمْرَةٍ، فَأَشْبَهَ إذَا كَانَ صَحِيحًا والثاني لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ إدْخَالُ حَجٍّ عَلَى إحْرَامٍ فَاسِدٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْسُدَ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَمْ يُصَادِفْهُ الْوَطْءُ فَلَا يَجُوزُ إفْسَادُهُ.
الشرح: حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ إلَّا قَوْلَهُ: "وَلَا تُصَلِّي" فَإِنَّهَا لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ لَيْسَتْ مَعْرُوفَةً.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ صُوَرٌ مُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهَا، أما: الْإِفْرَادُ فَصُورَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ وَيَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ، وَسَيَأْتِي بَاقِي صُوَرِهِ فِي شُرُوطِ التَّمَتُّعِ الْمُوجِبِ لِلدَّمِ إنْ شَاءَ الله تعالى وأما: التَّمَتُّعُ فَصُورَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ. مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَيَدْخُلَ مَكَّةَ وَيَفْرُغَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُنْشِئَ الْحَجَّ مِنْ مَكَّةَ، وَيُسَمَّى مُتَمَتِّعًا لِاسْتِمْتَاعِهِ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ جَمِيعُ الْمَحْظُورَاتِ إذَا تَحَلَّلَ مِنْ الْعُمْرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ أَمْ لَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ، وَلِوُجُوبِهِ شُرُوطٌ تَأْتِي إنْ شَاءَ الله تعالى.

 

ج / 7 ص -108-       وأما: الْقِرَانُ فَصُورَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، فَتُدْرَجَ أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَيَتَّحِدُ الْمِيقَاتُ وَالْفِعْلُ فَيَكْفِي لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ وَحَلْقٌ وَاحِدٌ وَإِحْرَامٌ وَاحِدٌ فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدُخَّل عَلَيْهَا الْحَجَّ أَيْ أَحْرَمَ بِهِ نُظِرَ إنْ أَدْخَلَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَغَا إدْخَالَهُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ وَإِنْ أَدْخَلَهُ فِي أَشْهُرِهِ نُظِرَ إنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَفِي صِحَّةِ إدْخَالِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْجِيمِ وَحَكَاهُ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِدْخَالُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى صِحَّةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ، "وأصحهما: "يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبَا "الشَّامِلِ" و"الْبَيَانِ" وَآخَرُونَ، لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فِي حَالِ إدْخَالِهِ، وَهُوَ وَقْتٌ صَالِحٌ لِلْحَجِّ، لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَهُ عَلَيْهَا فِي أَشْهُرِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ طَوَافِهَا صَحَّ، وَصَارَ قَارِنًا بِلَا خِلَافٍ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ شَرَعَ فِيهِ وَخَطَى مِنْهُ خُطْوَةً لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ لِلشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ، وَلَمْ يَمَسَّهُ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ صَحَّ وَصَارَ قَارِنًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّوَافِ، وَإِنْ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَلَمْ يَمْشِ ثُمَّ أَحْرَمَ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْمَشْيِ فَإِنْ كَانَ اسْتِلَامُهُ لَيْسَ بِنِيَّةِ الِاسْتِلَامِ لِلطَّوَافِ صَحَّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَإِنْ كَانَ اسْتِلَامُهُ بِنِيَّةِ أَنْ يَطُوفَ فَفِي صِحَّةِ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ بَعْدَهُ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَصاحب "البيان" وَآخَرُونَ: أحدهما: يَصِحُّ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلطَّوَافِ، والثاني لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَبْعَاضِ الطَّوَافِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَصَحَّ، وَلَوْ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: صَحَّ إحْرَامُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ الْمَنْعَ، فَصَارَ كَمَنْ أَحْرَمَ وَتَزَوَّجَ، وَلَمْ يَدْرِ هَلْ كَانَ إحْرَامُهُ قَبْلَ تَزَوُّجِهِ أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَجْزَأَهُ وَصَحَّ تَزَوُّجُهُ، هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا شَرَعَ الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ فِي الطَّوَافِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ. فَقَدْ قُلْتُ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي غَايَةِ بُطْلَانِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٍ حَكَى الْمُصَنِّفُ مِنْهَا اثْنَيْنِ، أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ: أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، والثاني لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي فَرْضٍ مِنْ فُرُوضِهَا والثالث: لِأَنَّهُ أَتَى بِمُعْظَمِ أَفْعَالِهَا، والرابع: لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي سَبَبِ التَّحَلُّلِ وَهَذَا الرَّابِعُ هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ نَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ فِي "عُيُونِ الْمَسَائِلِ" وَصَحَّحَ الْبَنْدَنِيجِيُّ الثَّالِثَ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ، وَجَوَّزْنَاهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ الْآنَ إنْ شَاءَ الله تعالى.
هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الْعُمْرَةُ الَّتِي أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ صَحِيحَةً، فَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً بِأَنْ أَفْسَدَهَا بِجِمَاعٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَفِي صِحَّةِ إدْخَالِهِ وَمَصِيرِهِ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ والثاني لَا يَصِيرُ وَصَحَّحَهُ صاحب"البيان"، وَإِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ فَهَلْ يَكُونُ حَجُّهُ صَحِيحًا مُجْزِئًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: نَعَمْ، لِأَنَّ الْمُفْسِدَ مُتَقَدِّمٌ، وأصحهما: لَا، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِعُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا مِنْ أَصْلِهِ؟ أَمْ

 

ج / 7 ص -109-       صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَنْعَقِدُ صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ فَجَامَعَ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ الله تعالى وأصحهما: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، إذْ لَوْ انْعَقَدَ صَحِيحًا لَمْ يَفْسُدْ إذَا لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ انْعِقَادِهِ مُفْسِدٌ.
فإن قلنا: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي النُّسُكَيْنِ، وَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُمَا وإن قلنا: يَنْعَقِدُ صَحِيحًا وَلَا يَفْسُدُ قَضَى الْعُمْرَةَ دُونَ الْحَجِّ وَعَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ إلَّا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ. كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ إذَا حَكَمْنَا بِانْعِقَادِ حَجِّهِ فَاسِدًا: أحدهما: يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ أُخْرَى لِفَسَادِ الْحَجِّ، والثاني يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ لِلْعُمْرَةِ وَشَاةٌ لِلْحَجِّ كَمَا لَوْ جَامَعَ ثُمَّ جَامَعَ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا كُلُّهُ فِي الْإِحْرَامِ لِلْحَجِّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ أما: إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: القديم صِحَّتُهُ وَيَصِيرُ قَارِنًا والجديد لَا يَصِحُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ فإن قلنا: بِالْقَدِيمِ، فَإِلَى مَتَى يَجُوزُ الْإِدْخَالُ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ مُفَرَّعَةٍ عَلَى الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ: أحدها: يَجُوزُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، قَالَ الْبَغَوِيّ: هَذَا أَصَحُّهَا، والثاني يَجُوزُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي السَّعْيِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ. قَالَهُ الْخُضَرِيُّ، والثالث: يَجُوزُ، وَإِنْ فَعَلَ فَرْضًا مَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَاتٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ سَعَى لَزِمَهُ إعَادَةُ السَّعْيِ لِيَقَعَ عَنْ النُّسُكَيْنِ جَمِيعًا. كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَغَيْرُهُ، والرابع: يَجُوزُ؟ وَإِنْ وَقَفَ مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ مِنْ الرَّمْيِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ سَعَى فَقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وُجُوبُ إعَادَتِهِ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ. وَجْهَيْنِ وَقَالَ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ دَمٌ لقوله تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ: أحدها: أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ كَالْمُفْرِدِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَتَى بِأَفْعَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قال: فِي "الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ: "يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ، لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْإِحْرَامِ بِمَنْزِلَةِ الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ ابْتَدَأَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَزِمَهُ الدَّمُ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَدَامَهُ، وقال: في"الأم": يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ نُسُكٌ لَا تَتِمُّ الْعُمْرَةُ إلَّا بِهِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ كَالطَّوَافِ. والثاني أَنْ يَحُجَّ مِنْ سَنَتِهِ فَأَمَّا إذَا حَجَّ فِي سَنَةٍ أُخْرَى لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِذَا لَمْ يَحُجُّوا مِنْ عَامِهِمْ ذَلِكَ لَمْ يُهْدُوا، وَلِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا لَمْ يَتْرُكْ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِنَّهُ إنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ صَارَتْ مَكَّةُ مِيقَاتَهُ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ وَعَادَ فَقَدْ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ. والثالث: أَنْ لَا يَعُودَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ فَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ وَجَبَ بِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا لَمْ يَتْرُكْ الْمِيقَاتَ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا دَمَ

 

ج / 7 ص -110-       عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مُحْرِمًا مِنْ الْمِيقَاتِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِنُسُكٍ فَأَشْبَهَ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ أَحْرَمَ وَعَادَ إلَى الْمِيقَاتِ والثاني يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ مَكَّةَ فَلَا يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ إلَى الْمِيقَاتِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ وَأَحْرَمَ دُونَهُ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِنُسُكٍ، والرابع: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فأما: إذَا كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] وَحَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ الْحَرَمِ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَرِيبُ وَلَا يَكُونُ قَرِيبًا إلَّا فِي مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَفِي الْخَامِسِ وَجْهَانِ وَهُوَ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَذَلِكَ يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، والثاني أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا، فَافْتَقَرَ إلَى نِيَّةِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فإذا قلنا: بِهَذَا فَفِي وَقْتِ النِّيَّةِ وَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ والثاني يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعُمْرَةِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وَقْتِ نِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ أحدهما: يَنْوِي فِي ابْتِدَاءِ الْأُولَى مِنْهُمَا والثاني يَنْوِي مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْأُولَى.
الشرح: هَذَا الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ حَسَنٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الدَّمُ لقوله تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِوُجُوبِ هَذَا الدَّمِ شُرُوطٌ: أحدها: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُمْ مَنْ مَسْكَنِهِ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ الْحَرَمِ، وَقِيلَ: مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ دُونَ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ فَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسَ بِحَاضِرٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنَانِ أَحَدُهُمَا فِي حَدِّ الْقُرْبِ وَالْآخَرُ بَعِيدٌ، فَإِنْ كَانَ مَقَامُهُ بِأَحَدِهِمَا فَالْحُكْمُ لَهُ، فَإِنْ اسْتَوَى مَقَامُهُ بِهِمَا وَكَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ فِي أَحَدِهِمَا دَائِمًا أَوْ أَكْثَرُ فَالْحُكْمُ لَهُ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ وَكَانَ عَزْمُهُ الرُّجُوعَ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْحُكْمُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ فَالْحُكْمُ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا التَّفْصِيلَ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ في "الإملاء"، قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: إلَّا الْمَسْأَلَةَ الْأَخِيرَةَ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا وَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرِيقَ دَمًا بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ اسْتَوْطَنَ غَرِيبٌ مَكَّةَ فَهُوَ حَاضِرٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ اسْتَوْطَنَ مَكِّيٌّ الْعِرَاقَ أَوْ غَيْرَهُ فَلَيْسَ بِحَاضِرٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ قَصَدَ الْغَرِيبُ مَكَّةَ فَدَخَلَهَا مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا الْإِقَامَةَ بِهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ النُّسُكَيْنِ أَوْ مِنْ الْعُمْرَةِ أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا بَعْدَمَا اعْتَمَرَ فَلَيْسَ بِحَاضِرٍ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَلَوْ خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى بَعْضِ الْآفَاقِ لِحَاجَةٍ ثُمَّ رَجَعَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ، وَقَالَ طَاوُسٌ: يَلْزَمُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ مَسْأَلَةً، وَهِيَ مِنْ مَوَاضِعِ التَّوَقُّفِ، قَالَ: وَلَمْ أَجِدْهَا لِغَيْرِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مَرِيدٍ نُسُكًا فَاعْتَمَرَ عَقِبَ دُخُولِهِ مَكَّةَ ثُمَّ حَجَّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا إذَا صَارَ مِنْ الْحَاضِرِينَ إذْ لَيْسَ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ الْإِقَامَةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَتَعَلَّقُ

 

ج / 7 ص -111-       بِالْخِلَافِ السَّابِقِ فِي أَنَّ قَصْدَ مَكَّةَ هَلْ يُوجِبُ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَمْ لَا؟ ثُمَّ قَالَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ اعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ الْإِقَامَةِ يُنَازِعُهُ فِيهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ وَنَقْلُهُمْ عَنْ نَصِّهِ في "الإملاء" و"الْقَدِيمِ"، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اعْتِبَارِ الْإِقَامَةِ، بَلْ فِي اعْتِبَارِ الِاسْتِيطَانِ. وَفِي "الوسيط" حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ فِي صُورَةٍ تُدَانِي هَذِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ الْغَرِيبُ الْمِيقَاتَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ نُسُكًا وَلَا دُخُولَ الْحَرَمِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَنْ يَعْتَمِرَ فَاعْتَمَرَ مِنْهُ وَحَجَّ بَعْدَهَا عَلَى صُورَةِ التَّمَتُّعِ هَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؟ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ حِينَ بَدَا لَهُ كَانَ فِي مَسَافَةِ الْحَاضِرِ، وأصحهما: لَا يَلْزَمُهُ لِوُجُودِ صُورَةِ التَّمَتُّعِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْدُودٍ مِنْ الْحَاضِرِينَ، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَالْمُخْتَارُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ لَيْسَ بِحَاضِرٍ، بَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرِي1 الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ دَمُ الْقِرَانِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَحَكَى، الْحَنَّاطِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِلَافُ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ دَمُ جَبْرٍ أَمْ دَمُ نُسُكٍ؟ وَالْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ دَمُ جَبْرٍ قلت: الَّذِي قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ وَدَمَ الْقِرَانِ دَمُ جَبْرٍ، وَإِنَّمَا الْقَائِلُ بِأَنَّهُمَا دَمُ نُسُكٍ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ بِدَلِيلِهِ فِي مَسْأَلَةِ تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ عَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.
فرع: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّ إذَا قَرَنَ إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَ الْعُمْرَةَ؟ أَمْ يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ إدْرَاجًا لِلْعُمْرَةِ تَحْتَ الْحَجِّ فِي الْمِيقَاتِ؟ كَمَا أُدْرِجَتْ أَفْعَالُهَا فِي أَفْعَالِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا2 وَآخَرُونَ: أصحهما: الثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ قَالُوا: وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي الْآفَاقِيِّ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْقِرَانَ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا وَفَرَغَ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ طَاوُسٌ: يَلْزَمُهُ، دَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَتَى بِجَمِيعِ أَفْعَالِهَا فِي أَشْهُرِهِ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: نَصَّهُ في "الأم": لَا دَمَ، والثاني نَصَّهُ فِي "الْقَدِيمِ" و"الإملاء": يَجِبُ الدَّمُ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلْ عَلَى حَالَيْنِ إنْ أَقَامَ بِالْمِيقَاتِ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ مَتَى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ أَوْ عَادَ إلَيْهِ فِي أَشْهُرِهِ مُحْرِمًا بِهَا وَجَبَ الدَّمُ، وَإِنْ جَاوَزَهُ قَبْلَ الْأَشْهُرِ وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ فَلَا دَمَ وَلَوْ وُجِدَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ وَبَعْضَ أَعْمَالِهَا قَبْلَ أَشْهُرِهِ، فإن قلنا: لَا دَمَ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ الْإِحْرَامُ فَهِيَ أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ: أصحهما: عِنْدَهُمْ لَا يَجِبُ. وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، قَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: وَإِذَا لَمْ نُوجِبْ دَمَ التَّمَتُّعِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ فَفِي وُجُوبِ دَمِ الْإِسَاءَةِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَجِبُ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وأصحهما: لَا. لِأَنَّ الْمُسِيءَ مَنْ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ قَاصِدًا لِلنُّسُكِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجميع هنا على تقدير "أهله".
2 بياض بالأصل فحرر ولعل السقط "المصنف" راجع المتن.

 

ج / 7 ص -112-       وَيُجَاوِزُهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَهَذَا جَاوَزَهُ مُحْرِمًا.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَقَعَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ فَلَا دَمَ، سَوَاءٌ أَقَامَ بِمَكَّةَ إلَى أَنْ حَجَّ أَمْ رَجَعَ وَعَادَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ: أصحهما: بِاتِّفَاقِ الْمُصَنِّفِينَ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يُشْتَرَطُ، والثاني يُشْتَرَطُ انْفَرَدَ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ بْنُ خَيْرَانَ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْمِيقَاتِ بِأَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ نَفْسِ مَكَّةَ وَاسْتَمَرَّ، فَلَوْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ وَإِلَى مَسَافَةِ مِثْلِهِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَلَا دَمَ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا فَفِي سُقُوطِهِ الْخِلَافُ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ عَادَ مُحْرِمًا، وَلَوْ عَادَ إلَى مِيقَاتٍ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ مِيقَاتِ عُمْرَتِهِ وَأَحْرَمَ مِنْهُ، بِأَنْ كَانَ مِيقَاتُ عُمْرَتِهِ الْجُحْفَةَ فَعَادَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ فَهَلْ هُوَ كَالْعَوْدِ إلَى مِيقَاتِ عُمْرَتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وأصحهما: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ لَيْسَ سَاكِنُوهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَالْمُعْتَبَرِينَ، وَقَطَعَ الْفُورَانِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ سَافَرَ بَعْدَ عُمْرَتِهِ مَكَّةَ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ سَنَتِهِ لَا دَمَ عَلَيْهِ.
فرع: لَوْ دَخَلَ الْقَارِنُ مَكَّةَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا دَمَ نَصَّ عَلَيْهِ في "الإملاء"، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ وَصَحَّحَهُ الْحَنَّاطِيُّ وَآخَرُونَ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إن قلنا: الْمُتَمَتِّعُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْمَ الْقِرَانِ لَا يَزُولُ بِالْعَوْدِ بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَدَخَلَ مَكَّةَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ طَوَافِهِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَهُوَ قَارِنٌ، قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي آخِرِ بَابِ الْفَوَاتِ: إن قلنا إذَا أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَجَعَ سَقَطَ الدَّمُ فَهُنَا أَوْلَى وَإِلَّا فَوَجْهَانِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ وُقُوعُ النُّسُكَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، قَالَ الْخُضَرِيُّ: يُشْتَرَطُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُشْتَرَطُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُتَصَوَّرُ فَوَاتُ هَذَا الشَّرْطِ فِي صُوَرٍ: إحداها: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ شَخْصٌ لِحَجٍّ وَآخَرُ لِعُمْرَةٍ، الثانية: أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا فِي عُمْرَةٍ، فَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ لِنَفْسِهِ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا لِحَجٍّ فَيَعْتَمِرَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَحُجَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ فإن قلنا: بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَجَبَ نِصْفُ دَمِ التَّمَتُّعِ عَلَى مَنْ يَقَعُ لَهُ الْحَجُّ، وَنِصْفُهُ عَلَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْعُمْرَةُ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاقُ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ أما: فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَقَالَ: إنْ أَذِنَ الْمُسْتَأْجِرَانِ فِي التَّمَتُّعِ فَالدَّمُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْأَجِيرِ، وَعَلَى قِيَاسِهِ أَنَّهُ إنْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ فَالنِّصْفُ عَلَى الْآذِنِ وَالنِّصْفُ عَلَى الْأَجِيرِ.
وأما: فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَقَالَ: إنْ أَذِنَ لَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي التَّمَتُّعِ، فَالدَّمُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَإِلَّا فَالْجَمِيعُ عَلَى الْأَجِيرِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاعْلَمْ بَعْدَ هَذَا أُمُورًا: أحدها: أَنَّ إيجَابَ الدَّمِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِينَ أَوْ أَحَدِهِمَا مُفَرَّعٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الْأَجِيرِ بِكُلِّ

 

ج / 7 ص -113-       حَالٍ، الثاني: إذَا لَمْ يَأْذَنْ الْمُسْتَأْجِرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الثَّالِثَةِ، وَكَانَ مِيقَاتُ الْبَلَدِ مُعَيَّنًا فِي الْإِجَارَةِ أَوْ نَزَّلْنَا الْإِطْلَاقَ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ مَعَ دَمِ التَّمَتُّعِ دَمُ الْإِسَاءَةِ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِ نُسُكِهِ، الثالث: إذَا أَوْجَبْنَا الدَّمَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِينَ وَكَانَا مُعْسِرَيْنِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوْمُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، لَكِنَّ صَوْمَ التَّمَتُّعِ بَعْضُهُ فِي الْحَجِّ وَبَعْضُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ، وَهُمَا لَمْ يُبَاشِرَا حَجًّا، وَقَدْ سَبَقَ فِي فُرُوعِ الْإِجَارَةِ فِيمَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِيَقْرِنَ، فَقَرَنَ أَوْ لِيَتَمَتَّعَ فَتَمَتَّعَ، وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُعْسِرًا، وَقُلْنَا الدَّمُ1 خِلَافٌ بَيْنَ الْبَغَوِيِّ وَالْمُتَوَلِّي فَعَلَى قِيَاسِ الْبَغَوِيِّ الصَّوْمُ عَلَى الْأَجِيرِ، وَعَلَى قِيَاسِ الْمُتَوَلِّي هُوَ كَمَا لَوْ عَجَزَ الْمُتَمَتِّعُ عَنْ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ جَمِيعًا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُتَمَتِّعِ إذَا لَمْ يَصُمْ فِي الْحَجِّ كَيْفَ يَقْضِي؟ فَإِذَا أَوْجَبْنَا التَّفْرِيقَ فَتَفْرِيقُ الْخَمْسَةِ بِنِسْبَةِ الثَّلَاثَةِ وَالسَّابِعَةِ بِبَعْضِ الْقِسْمَيْنِ، فَيُكْمِلَانِ وَيَصُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا إذَا أَوْجَبْنَا الدَّمَ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ عَلَى الْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ.
وأما: إذَا قُلْنَا بِقَوْلِ الْخُضَرِيِّ: هَذَا اعْتَمَرَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَفِي كَوْنِهِ مُسِيئًا الْخِلَافُ السَّابِقُ، فِيمَنْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا أَنَّهُ مُسِيءٌ لِإِمْكَانِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ حِينَ حَضَرَ الْمِيقَاتُ، قَالَ الْإِمَامُ: فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ الدَّمُ فَفَوَاتُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي فَوَاتِ فَضِيلَةِ التَّمَتُّعِ فِي قَوْلِنَا: إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ وَإِنْ أَلْزَمْنَاهُ الدَّمَ فَلَهُ أَثَرَانِ: أحدهما: هَذَا، والثاني أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إلَى الْمِيقَاتِ، وَإِذَا عَادَ وَأَحْرَمَ مِنْهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ بِلَا خِلَافٍ، وَالْمُسِيءُ يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ، وَإِذَا عَادَ فَفِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ خِلَافٌ، وَأَيْضًا فَالدَّمَانِ يَخْتَلِفُ بَدَلُهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيْضًا، وَهُوَ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ، وَفِي اشْتِرَاطِهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: لَا يُشْتَرَطُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقِرَانُ، فَإِنْ شَرَطْنَاهَا فَفِي وَقْتِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الدَّارِمِيُّ وَآخَرُونَ: أحدها: حَالَةُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، والثاني وَهُوَ الْأَصَحُّ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعُمْرَةِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي الْكِتَابِ، والثالث: مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.
الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَلَوْ جَاوَزَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِهَا فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ، بَلْ يَلْزَمُهُ دَمُ الْإِسَاءَةِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا إذَا كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنْ بَقِيَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ فَعَلَيْهِ الدَّمَانِ مَعًا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ صَاحِبَيْ "الْبَيَانِ" و"الشَّامِلِ" ذَكَرَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ حَكَى عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْقَدِيمِ" أَنَّهُ إذَا مَرَّ بِالْمِيقَاتِ فَلَمْ يُحْرِمْ حَتَّى بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، فَعَلَيْهِ دَمُ الْإِسَاءَةِ بِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر، ولعل تقديره "فقد رأينا" أو "فقد حكينا".

 

ج / 7 ص -114-       فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذِهِ الشُّرُوطُ السَّبْعَةُ مُعْتَبَرَةٌ لِوُجُوبِ الدَّمِ وِفَاقًا وَخِلَافًا، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي تَسْمِيَتِهِ مُتَمَتِّعًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" و"الْبَيَانِ" وَآخَرُونَ: أحدهما: يُعْتَبَرُ، فَلَوْ فَاتَهُ شَرْطٌ كَانَ مُفْرِدًا، والثاني لَا يُعْتَبَرُ، بَلْ يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا مَتَى أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَرْجَحِ مِنْهُمَا فَقَالَ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" و"البيان": قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يُعْتَبَرُ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يُعْتَبَرُ وَذَكَرَ أَنَّهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْأَشْهَرُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ، قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ: يَصِحُّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ مِنْ الْمَكِّيِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ قلت: الْأَصَحُّ لَا يُعْتَبَرُ لِمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ.
فرع: إذَا اعْتَمَرَ الْمُتَمَتِّعُ وَلَمْ يُرِدْ الْعَوْدَ إلَى الْمِيقَاتِ لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ نَفْسِ مَكَّةَ، وَهِيَ فِي حَقِّهِ كَهِيَ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ، وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ لِلْإِحْرَامِ، وَإِحْرَامُهُ مِنْ خَارِجِ مَكَّةَ أَوْ خَارِجِ الْحَرَمِ، مِنْ غَيْرِ عَوْدٍ إلَى الْمِيقَاتِ، وَلَا إلَى مَسَافَتِهِ فَحُكْمُهُ كُلُّهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ، فِي الْمَكِّيِّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ الله تعالى، وَإِذَا اقْتَضَى الْحَالُ وُجُوبَ دَمِ الْإِسَاءَةِ وَجَبَ أَيْضًا مَعَ دَمِ التَّمَتُّعِ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ إلَى الْحِلِّ وَأَحْرَمَ مِنْ طَرَفِهِ بِالْحَجِّ، فَإِنْ عَادَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا قَبْلَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَاتٍ لَزِمَهُ دَمُ التَّمَتُّعِ دُونَ الْإِسَاءَةِ، وَإِنْ ذَهَبَ إلَى عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَعُدْ إلَى، مَكَّةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمَانِ، دَمُ التَّمَتُّعِ وَدَمُ الْإِسَاءَةِ، وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ هَذَا عَنْ الْأَصْحَابِ ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ لِلتَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ وَجَبَ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ مِنْهُ مَسَافَةً قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ خَارِجَ مَكَّةَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى مَكَّةَ، فَهَلْ هُوَ كَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ؟ أَمْ كَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ؟ قَالَ صاحب "الشامل" و"البيان": فِيهِ وَجْهَانِ: وَقِيلَ قَوْلَانِ: أحدهما: كَمَكَّةَ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْإِحْرَامِ، وَتَحْرِيمِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ، والثاني كَالْحِلِّ لِأَنَّ مَكَّةَ صَارَتْ مِيقَاتَهُ فَهُوَ كَمَنْ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ قَرْيَتِهِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمِيقَاتِ فَجَاوَزَهَا وَأَحْرَمَ، وَهَذَا الثَّانِي أَصَحُّ.
فرع: قَالَ صاحب "البيان": قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْقَدِيمِ: "إذَا حَجَّ رَجُلٌ لِنَفْسِهِ مِنْ مِيقَاتٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَمَّا تَحَلَّلَ مِنْهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، أَوْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، لَمْ يَلْزَمْهُ عَنْ الْعُمْرَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ دَمٌ، وَكَذَا لَوْ أَفْرَدَ عَنْ غَيْرِهِ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ عَنْهُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، أَوْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ عَنْ زَيْدٍ ثُمَّ أَحْرَمَ عَنْهُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا دَمُ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، قَالَ: فَإِنَّمَا إذَا اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ ثُمَّ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ مَكَّةَ، أَوْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ ثُمَّ اعْتَمَرَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، فَعَلَيْهِ الدَّمُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. دَلِيلُنَا أَنَّ الْإِحْرَامَيْنِ إذَا كَانَا عَنْ شَخْصَيْنِ وَجَبَ فِعْلُهُمَا مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا تَرَكَ الْمِيقَاتَ فِي أَحَدِهِمَا لَزِمَ الدَّمُ كَمَنْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ.
وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ قَالَ صاحب "البيان": وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا إذَا أَحْرَمَ الْأَجِيرُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، وَتَحَلَّلَ مِنْهَا، ثُمَّ أَقَامَ يَعْتَمِرُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ لَزِمَهُ الدَّمُ لِلْعُمْرَةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، وَلَا يَلْزَمُ الدَّمُ لِمَا بَعْدَهَا

 

ج / 7 ص -115-       مِنْ الْعُمْرِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ صاحب "البيان".
فرع: إذَا فَرَغَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ صَارَ حَلَالًا، وَحَلَّ لَهُ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ وَالنِّسَاءُ وَكُلُّ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ، سَوَاءٌ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ أَمْ لَا، هَذَا مَذْهَبُنَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ تَحَلَّلَ كَمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَلَّلَ، بَلْ يُقِيمُ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَتَحَلَّلَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، لِحَدِيثِ حَفْصَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ:
"مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا لِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ أَكْمَلَ أَفْعَالَ عُمْرَتِهِ فَتَحَلَّلَ، كَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وأما حديث حَفْصَةَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا كَمَا سَبَقَ إيضَاحُهُ. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً" وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ، فإن قيل: فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيُحْلِلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَتَحَلَّلُ، حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ" فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ رِوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا مُسْلِمٌ قَبْلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَبَعْدَهَا، قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مِنْ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا" فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْأُولَى، وَيَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ فَصَحَّتْ الرِّوَايَاتُ.
فرع: إذَا تَحَلَّلَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ الْعُمْرَةِ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إلَّا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، هَذَا إنْ كَانَ وَاجِدَ الْهَدْيِ، وَإِنْ كَانَ عَادِمَهُ اُسْتُحِبَّ لَهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الْيَوْمِ السَّادِسِ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ الصَّوْمُ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَوَاجِبُهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إذَا رَجَعَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَيَتَعَيَّنُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قَبْلَهُ. وَهِيَ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ وَالثَّامِنُ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَثَبَتَ ذَلِكَ في "الصحيحين" عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ فِعْلِهِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَآخَرُونَ، مِنْهُمْ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَآخَرُونَ وَقَالَ مَالِكٌ وَآخَرُونَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ وَاجِدًا لِلْهَدْيِ أَمْ لَا، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَالْخِلَافُ فِي الِاسْتِحْبَابِ، فَكِلَاهُمَا جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ.
دَلِيلُنَا مَا ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ - يَعْنِي حَجَّةَ الْوَدَاعِ - وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا وَأَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً" وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "تَحَلَّلْنَا فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ وَتَطَيَّبْنَا وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ

 

ج / 7 ص -116-       إلَّا أَرْبَعَ لَيَالٍ، ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ يَعْنِي بِالْحَجِّ" وَفِي رِوَايَةٍ: "فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ" وَفِي رِوَايَةٍ: "حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ" وَفِي رِوَايَةٍ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَهْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا إلَى مِنًى".
هَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَبَعْضُهَا فِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا. وَثَبَتَ في "الصحيحين" عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ1 بْنُ جُرَيْجٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ" قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَجَابَهُ ابْنُ عُمَرَ بِضَرْبٍ مِنْ الْقِيَاسِ حَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِنَفْسِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، فَاسْتَدَلَّ بِمَا فِي مَعْنَاهُ وَوَجْهُ قِيَاسِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَحْرَمَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالذَّهَابِ إلَيْهِ فَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْإِحْرَامَ إلَى حَالِ شُرُوعِهِ فِي الْحَجِّ وَالذَّهَابِ وَتَوَجُّهِهِ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَخْرُجُونَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ سَبَقَتْ مِنْهَا: إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفَعَلَ أَفْعَالَهَا فِي أَشْهُرِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ، وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَتَادَةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ يَلْزَمُهُ وَمِنْهَا: إذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ عِنْدَنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْقُطُ وَمِنْهَا: حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَنَا مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ: هُوَ مَنْ كَانَ بِالْحَرَمِ خَاصَّةً، وَقَالَ مَالِكٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَذِي طُوًى وَقَالَ مَكْحُولٌ: هُمْ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هُوَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيقَاتِ أَوْ دُونَهُ.وَمِنْهَا: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ، مَا لَمْ يَفْتَتِحْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي إدْخَالِهِ عَلَيْهَا بَعْدَ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَمَنَعَهُ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي إدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ وَيَصِيرُ قَارِنًا، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ. وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مِصْرَ، وَنَقَلَ مَنْعَهُ عَنْ أَكْثَرِ مَنْ لَقِيَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِقَوْلِ مَالِكٍ أَقُولُ.وَمِنْهَا: وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُرِيدًا لِلْمُقَامِ بِهَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ، يَعْنِي وَعَلَيْهِ الدَّمُ وَمِنْهَا: إذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى بَعْضِ الْآفَاقِ لِحَاجَةٍ ثُمَّ عَادَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ مِيقَاتِهِ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ طَاوُسٌ: يَجِبُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لقوله تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] وَلِأَنَّ شَرَائِطَ الدَّمِ إنَّمَا تُوجَدُ بِوُجُودِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِهِ، وَفِي وَقْتِ جَوَازِهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا يَجُوزُ قَبْلَ أَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تابعي من الطبقة الثالثة ثقة ط.

 

ج / 7 ص -117-       يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، لِأَنَّ الذَّبْحَ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ وُجُوبِهَا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، والثاني يَجُوزُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ، لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ إلَى أَحَدِهِمَا كَالزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ".
الشرح: قَوْلُهُ: يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ احْتِرَازٌ مِنْ الزَّكَاةِ، وقوله: حَقُّ مَالٍ احْتِرَازٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وقوله: يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ احْتِرَازٌ مِنْ مَالٍ يَجِبُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ كَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهَا مِمَّا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي آخِرِ بَابِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَوَقْتَ وُجُوبِهِ عِنْدَنَا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ، وأما: وَقْتُ جَوَازِهِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعُمْرَةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ سَبَبٌ، وَيَجُوزُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِلَا خِلَافٍ وَلَا يَتَوَقَّفُ بِوَقْتٍ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْجُبْرَانِ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلَ ذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَلْ تَجُوزُ إرَاقَتُهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَحَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ وَجْهَيْنِ، وَالْمَشْهُورُ قَوْلَانِ، وَذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: الْجَوَازُ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: لَا يَجُوزُ قَطْعًا، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَكَثِيرِينَ، وَنَقَلَهُ صاحب "البيان" عَنْ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، والثاني فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: لَا يَجُوزُ، والثاني يَجُوزُ لِوُجُودِ بَعْضِ السَّبَبِ، حَكَاهُ أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُّونَ وَصاحب البيان، فَالْحَاصِلُ فِي وَقْتِ جَوَازِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَأَصَحُّهَا بَعْدَ فَرَاغِهَا، والثالث: بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ وُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ. ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُهُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد، وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يَجِبُ حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَاتٍ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وأما: جَوَازُهُ فَذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ، وَفِيمَا قَبْلَهُ خِلَافٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَمَعْنَاهُ فَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ، وَبِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا فَوَجَبَ الدَّمُ حِينَئِذٍ، وَلِأَنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَلِأَنَّ شُرُوطَ التَّمَتُّعِ وَجَدَتْ مُوجِبَ الدَّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: قوله تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} [البقرة: 196] أَيْ بِسَبَبِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَتَّعُ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، بِسَبَبِ الْعُمْرَةِ، قَالُوا: وَالتَّمَتُّعُ هُنَا التَّلَذُّذُ وَالِانْتِفَاعُ، يُقَالُ: تَمَتَّعَ بِهِ أَيْ أَصَابَ مِنْهُ وَتَلَذَّذَ بِهِ، وَالْمَتَاعُ كُلُّ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاحْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِمَا بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلِأَنَّهُمَا وَافَقَا عَلَى جَوَازِ صَوْمِ التَّمَتُّعِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، أَعْنِي صَوْمَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، فَالْهَدْيُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ دَمُ جُبْرَانٍ فَجَازَ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَقَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، كَدَمِ فِدْيَةِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُخَالِفُ الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَى وَقْتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَمُ التَّمَتُّعِ شَاةٌ صِفَتُهَا صِفَةُ الْأُضْحِيَّةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَقُومُ مَقَامَهَا سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ سُبْعُ بَقَرَةٍ.

 

ج / 7 ص -118-       قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِدًا لِلْهَدْيِ فِي مَوْضِعِهِ انْتَقَلَ إلَى الصَّوْمِ، وَهُوَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ، لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] فَأَمَّا صَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ. فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ وُجُوبِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَيَجُوزُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِلْحَاجِّ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَهَلْ يَجُوزُ صِيَامُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ وأما: صَوْمُ السَّبْعَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي حَرْمَلَةَ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْدِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَجِدُ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ" وَقَالَ في الإملاء: يَصُومُ إذَا أَخَذَ فِي السَّيْرِ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وَابْتِدَاءُ الرُّجُوعِ إذَا ابْتَدَأَ بِالسَّيْرِ مِنْ مَكَّةَ، فَإِذَا قُلْنَا بِهَذَا فَفِي الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ: أحدهما: الْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ بَعْدَ الِابْتِدَاءِ بِالسَّيْرِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ، والثاني الْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَخِّرَ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْوَطَنِ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ فَإِنْ لَمْ يَصُمْ الثَّلَاثَةَ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لَزِمَهُ صَوْمُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا؟ وَجْهَانِ: أحدهما: لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَجَبَ بِحُكْمِ الْوَقْتِ، وَقَدْ فَاتَ فَسَقَطَ كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ والثاني أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لَا يَتَعَلَّقُ بِوَقْتٍ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْفَوَاتِ كَتَرْتِيبِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فإن قلنا: بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ صَامَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَيْفَ شَاءَ، وإن قلنا: بِالْمَذْهَبِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمِقْدَارِ مَا وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَدَاءِ.
الشَّرْحُ: أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِهِ هَذَا.
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا وَجَدَ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ إلَى الصَّوْمِ لقوله تعالى:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [البقرة:196] وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ عُدِمَ الْهَدْيُ فِي مَوْضِعِهِ لَزِمَ صَوْمُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ فِي بَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ، أَمْ لَمْ يَكُنْ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الصَّوْمِ فِيهَا الْعَدَمُ مُطْلَقًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَلَ الدَّمِ مُؤَقَّتٌ بِكَوْنِهِ فِي الْحَجِّ وَلَا تَوْقِيتَ فِي الْكَفَّارَةِ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ بِالْحَرَمِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ وَجَدَ الْهَدْيَ وَثَمَنَهُ لَكِنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، فَلَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الصَّوْمِ وَلَوْ وَجَدَ الثَّمَنَ وَعُدِمَ الْهَدْيُ فِي الْحَالِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُهُ قَبْلَ فَرَاغِ الصَّوْمِ هَلْ يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَى الصَّوْمِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ: أصحهما: الْجَوَازُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ، وَسَبَقَ مِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ فِي التَّيَمُّمِ.
قَالَ الْبَغَوِيّ: وَلَوْ كَانَ يَرْجُو الْهَدْيَ وَلَا يَتَيَقَّنُهُ جَازَ الصَّوْمُ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ انْتِظَارُ الْهَدْيِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ كَالتَّيَمُّمِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ مُضَيَّقٌ، كَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ بِخِلَافِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إذَا غَابَ مَالُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْجِمَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.ثُمَّ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ يُقْسَمُ ثَلَاثَةً وَسَبْعَةً، فَالثَّلَاثَةُ يَصُومُهَا فِي الْحَجِّ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ شَيْءٍ مِنْهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ

 

ج / 7 ص -119-       قَوْلَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ. وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ جَمِيعِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ فِطْرُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: يُكْرَهُ صَوْمُهُ فَخِلَافُ عِبَارَةِ الْجُمْهُورِ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ هَذَا إذَا تَقَدَّمَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ عَلَى الْيَوْمِ السَّادِسِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ السَّادِسِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَوَقَّعْ هَدْيًا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى السَّابِعِ، لِيُمْكِنَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وأما: وَاجِدُ الْهَدْيِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الثَّلَاثَةِ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا عَنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر"، وَتَابَعَهُ الْأَصْحَابُ. وَدَلِيلُهُ قوله تعالى:
{ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196].
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا فَاتَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ قَوْلًا أَنَّهُ يَسْقُطُ الصَّوْمُ وَيَسْتَقِرُّ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَحَكَاهُ الْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَحَكَاهُ صاحب"البيان" وَآخَرُونَ عَنْهُمَا. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَحْصُلُ فَوَاتُهَا بِفَوَاتِ يَوْمِ عَرَفَةَ إنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ صَوْمُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ حَصَلَ الْفَوَاتُ بِخُرُوجِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا تَفُوتُ بِخُرُوجِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَتَّى لَوْ تَأَخَّرَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَأَنْ يُعِيدَ فِي الْحَجِّ، وَكَانَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ التَّشْرِيقِ قَضَاءً وَإِنْ بَقِيَ الطَّوَافُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]. هَكَذَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ، وَحَكَى الْبَغَوِيّ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فإن قلنا: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ يَجُوزُ لَهُ صَوْمُهَا فَصَامَهَا كَانَ صَوْمُهَا أَدَاءً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: السَّبْعَةُ فَوَقْتُهَا إذَا رَجَعَ، وَفِي الْمُرَادِ بِالرُّجُوعِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: عِنْدَ الْأَصْحَابِ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر" وَحَرْمَلَةَ، والثاني أَنَّهُ الْفَرَاغُ مِنْ الْحَجِّ، وَهُوَ نَصُّهُ في "الإملاء" فإذا قلنا: بِالْوَطَنِ فَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَا يُقْصَدُ اسْتِيطَانُهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ، سَوَاءٌ كَانَ بَلَدُهُ الْأَوَّلَ أَمْ غَيْرَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَوَطَّنَ مَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ صَامَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَطَّنْهَا لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ بِهَا، وَهَلْ يَجُوزُ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى وَطَنِهِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أصحهما: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، والثاني فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، والثاني يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى رَاجِعًا. حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ.
وإن قلنا: الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ الْفَرَاغُ فَأَخَّرَهُ حَتَّى رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ جَازَ، وَهَلْ هُوَ أَفْضَلُ أَمْ التَّقْدِيمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: التَّأْخِيرُ أَفْضَلُ، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ شَيْءٍ مِنْ السَّبْعِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ جَوَّزْنَا صِيَامَهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى رَاجِعًا، وَلِأَنَّهُ يُعَدُّ فِي الْحَجِّ وَإِنْ تَحَلَّلَ. وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ قَوْلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّجُوعِ الرُّجُوعُ إلَى مَكَّةَ مِنْ مِنًى، وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ هَذَا قَوْلًا غَيْرَ قَوْلِ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمُقْتَضَى كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ، قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ قَوْلًا آخَرَ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ

 

ج / 7 ص -120-       رَجَعَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ صَحَّ صَوْمُهُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ عَجَبٌ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى مَكَّةَ غَيْرُ الْفَرَاغِ فَقَدْ يَفْرُغُ وَيَتَأَخَّرُ عَنْ مَكَّةَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا بَعْدَ التَّشْرِيقِ.
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا فِي مَعْنَى نَصِّهِ في "الإملاء" قَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ: مَذْهَبُهُ في "الإملاء" أَنَّهُ يَصُومُهَا بَعْدَ شُرُوعِهِ مِنْ مَكَّةَ إلَى وَطَنِهِ، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِي مَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، قَالَ: وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْبَغْدَادِيُّونَ: مَذْهَبُهُ في "الإملاء" أَنَّهُ يَصُومُهَا إذَا رَجَعَ إلَى مَكَّةَ مِنْ مِنًى بَعْدَ فَرَاغِ مَنَاسِكِهِ، سَوَاءٌ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ خَرَجَ مِنْهَا، وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. حَكَاهُ أَيْضًا صاحب "الشامل" وَآخَرُونَ فَحُصِلَ فِي الْمُرَادِ بِالرُّجُوعِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أصحها: إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، والثاني إذَا تَوَجَّهَ مِنْ مَكَّةَ رَاجِعًا إلَى أَهْلِهِ، والثالث: إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ، والرابع: إذَا فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى مَكَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ فَلَا يَجُوزُ صِيَامُهُ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ أَمْ الْفَرَاغِ، سَوَاءٌ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ فِيهِ وَجْهًا ضَعِيفًا أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا قُلْنَا: الرُّجُوعُ الْفَرَاغُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا لَمْ يَصُمْ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ وَرَجَعَ، لَزِمَهُ صَوْمُ الْعَشَرَةِ، فَالثَّلَاثَةُ قَضَاءٌ وَالسَّبْعَةُ أَدَاءٌ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ السَّابِقُ أَنَّهُ لَا يَصُومُهَا، بَلْ تَسْتَقِرُّ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ هَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ وَجْهَانِ، وَهُمَا مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْجُمْهُورِ: يَجِبُ، قَالَ صاحب "الشامل": وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، مِمَّنْ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وأصحهما: عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَا يَجِبُ فَعَلَى الْأَوَّلِ هَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ تَفْرِيقُ الْأَدَاءِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: لَا، بَلْ يَكْفِي التَّفْرِيقُ بِيَوْمٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في "الإملاء" وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وأصحهما: يَجِبُ، وَفِي قَدْرِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ تَتَوَلَّدُ مِنْ أَصْلَيْنِ سَبَقَا، وَهُمَا صَوْمُ الْمُتَمَتِّعِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ مِنْ مَاذَا؟.
فإن قلنا: بِالْأَصَحِّ: إنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَيْسَ لَهُ صَوْمُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ رُجُوعُهُ إلَى الْوَطَنِ فَالتَّفْرِيقُ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَمُدَّةِ إمْكَانِ السَّيْرِ إلَى أَهْلِهِ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وإن قلنا: لَهُ صَوْمُهَا، وَالرُّجُوعُ هُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْوَطَنِ، فَالتَّفْرِيقُ بِمُدَّةِ إمْكَانِ السَّيْرِ فَقَطْ، وإن قلنا: لَهُ صَوْمُهَا وَالرُّجُوعُ الْفَرَاغُ فَوَجْهَانِ: أصحهما: لَا يَجِبُ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَدَاءِ تَفْرِيقٌ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبَا الشَّامِلِ وَالْبَيَانِ والثاني يَجِبُ التَّفْرِيقُ بِيَوْمٍ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيعَ كُلَّهُ عَلَى وُجُوبِ التَّفْرِيقِ.
فَإِنْ أَرَدْتَ اخْتِصَارَ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَجِيءُ فِيمَنْ لَمْ يَصُمْ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ كَانَتْ سِتَّةً: إحداها: لَا صَوْمَ بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى الْهَدْيِ، والثاني عَلَيْهِ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ مُتَتَابِعَةٍ، والثالث: عَشَرَةٌ وَيُفَرِّقُ بِيَوْمٍ فَصَاعِدًا، والرابع: يُفَرِّقُ بِأَرْبَعَةٍ فَقَطْ، والخامس: يُفَرِّقُ بِمُدَّةِ إمْكَانِ السَّيْرِ، وَالسَّادِسُ: بِأَرْبَعَةٍ وَمُدَّةِ إمْكَانِ السَّيْرِ، وَهَذَا أَصَحُّهَا فَلَوْ صَامَ عَشَرَةً مُتَوَالِيَةً وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: وَهُوَ وُجُوبُ قَضَاءِ الثَّلَاثَةِ أَجْزَأَهُ إنْ لَمْ نَشْتَرِطْ التَّفْرِيقَ، فَإِنْ شَرَطْنَاهُ وَاكْتَفَيْنَا بِالتَّفْرِيقِ بِيَوْمٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِالْيَوْمِ الرَّابِعِ وَيُسْتَحَبُّ مَا بَعْدَهُ، فَيَصُومُ يَوْمًا آخَرَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَفِي وَجْهٍ لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ سِوَى الثَّلَاثَةِ حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ وَآخَرُونَ، وَفِي وَجْهِ الْإِصْطَخْرِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِالثَّلَاثَةِ أَيْضًا إذَا نَوَى السَّابِعَ، وَهُمَا شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ، وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْأَخِيرَ

 

ج / 7 ص -121-       الدَّارِمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ غَلَطٌ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّوْمِ وَمُتَابَعَتَهُ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ لَا بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ فَسَادَ بَعْضِ الْأَيَّامِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فَسَادُ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ إفْسَادُ الثَّلَاثَةِ لِفَسَادِ السَّبْعَةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنْ شَرَطْنَا التَّفْرِيقَ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ. هَكَذَا ذَكَرَ الْأَصْحَابُ هَذَا التَّفْصِيلَ وَقَالَ صاحب "البيان" بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا عَنْ الْأَصْحَابِ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي الْقَوْلِ الْأَخِيرِ: يُفَرِّقُ بِقَدْرِ مُدَّةِ السَّيْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا أَرْبَعَةٍ، وَفِي الْقَوْلِ الْخَامِسِ بِقَدْرِ مُدَّةِ السَّيْرِ إلَّا يَوْمًا، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ.
قَالَ صاحب "الشامل" وَالْأَصْحَابُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ في الإملاء: أَقَلُّ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِيَوْمٍ، قَالُوا: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَنْ كُلِّ صَوْمٍ لَهُ سَبَبٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الثَّلَاثَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيُفْطِرَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَصُومُ التَّشْرِيقَ عَنْ سَبْعَةٍ. قَالَ صاحب "الشامل": وَهَذَا الْوَجْهُ خَطَأٌ فَاحِشٌ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّ صَوْمَ السَّبْعَةِ لَا يَجُوزُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ أَوْ بَعْدَ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ مُسْتَقِلٌّ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى أَمَرَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَالتَّفْرِيقُ يَحْصُلُ بِيَوْمٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ لَا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِيهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ صاحب "الشامل" وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهَانِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ قَوْلًا مُخْرَجًا مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ.
فرع: يَنْوِي بِهَذَا الصَّوْمِ صَوْمَ التَّمَتُّعِ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا نَوَى صَوْمَ الْقِرَانِ، وَإِذَا صَامَ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ وَالسَّبْعَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ لَمْ يَلْزَمْهُ نِيَّةُ التَّفْرِقَةِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ فِيهِ طَرِيقَيْنِ: أحدهما: هَذَا، والثاني فِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُ عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الْقَطَّانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "فَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ، ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُهْدِيَ وَلَا يَلْزَمُهُ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ: يَلْزَمُهُ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا رَأَى الْمَاءَ، وَإِنْ وَجَدَ الْهَدْيَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَقَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ: أحدها: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْوُجُوبِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ، والثاني الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْأَدَاءِ فَفَرْضُهُ الْهَدْيُ، والثالث: الِاعْتِبَارُ بِأَغْلَظِ الْحَالَيْنِ فَفَرْضُهُ الْهَدْيُ".
الشرح: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا شَرَعَ فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ الثَّلَاثَةِ أَوْ السَّبْعَةِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ لَمْ يَلْزَمْهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُهْدِيَ، وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَقَالَ الْمُزَنِيّ: يَلْزَمُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ إنْ وَجَدَهُ فِي الثَّلَاثَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ فِي السَّبْعَةِ، وَالْخِلَافُ شَبِيهٌ بِالْخِلَافِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَبَيْنَهُمَا فِي رُؤْيَةِ الْمُسَافِرِ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ بِالتَّيَمُّمِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ بِدَلَائِلِهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَلَا هَدْيَ، ثُمَّ وَجَدَهُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الصَّوْمِ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْكَفَّارَةِ بِمَاذَا؟

 

ج / 7 ص -122-       وَفِيهَا الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ: وَأَصَحُّهَا الِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ دَمٌ لِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَارِنِ وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِحْرَامِ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ التَّمَتُّعِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ".
الشرح: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَلْزَمُ الْقَارِنَ دَمٌ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ التَّمَتُّعِ كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ وَتَفْرِيعُهُ وَهَذَا الدَّمُ شَاةٌ كَدَمِ التَّمَتُّعِ كَمَا سَبَقَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ إلَّا الْحَنَّاطِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فَحَكَيَا قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهُ بَدَنَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَابْنِهِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد: لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَبِالشَّاةِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر": الْقَارِنُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ الْمُتَمَتِّعِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا الرَّدَّ عَلَى الشَّعْبِيِّ لِأَنَّ الْقَارِنَ أَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ. مِنْ الْمِيقَاتِ بِخِلَافِ الْمُتَمَتِّعِ فَإِذَا كَفَى الْمُتَمَتِّعَ شَاةٌ فَالْقَارِنُ أَوْلَى، قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَدَّ عَلَى طَاوُسٍ لِأَنَّ الْقَارِنَ أَقَلُّ فِعْلًا مِنْ الْمُتَمَتِّعِ، فَإِذَا لَزِمَ الْمُتَمَتِّعَ الدَّمُ، فَالْقَارِنُ أَوْلَى، وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَسَائِرُ شُرَّاحِ المختصر، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ هُوَ نَصُّهُ فِي "الْقَدِيمِ" وَالثَّانِي هُوَ نَصُّهُ في الجديد.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "المختصر": فَإِنْ مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ تَصَدَّقَ عَمَّا فَاتَهُ صَوْمُهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ، هَذَا نَصُّهُ، وَقَالَ في "الأم" إذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ لَزِمَهُ الْهَدْيُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يُهْدَى عَنْهُ، والثاني لَا هَدْيَ وَلَا طَعَامَ. هَذَا نَصُّهُ في "الأم"، قَالَ أَصْحَابُنَا فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إذَا مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ - وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْهَدْيِ، وَلَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ وَجَبَ إخْرَاجُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِلَا خِلَافٍ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ، وَإِنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أصحهما: لَا يَسْقُطُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَلَا يَسْقُطُ، فَيَجِبُ إخْرَاجُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَمُ الْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ دَمُ اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ، والثاني يَسْقُطُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِالتَّمَتُّعِ لِتَحْصِيلِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْحَجُّ بِتَمَامِهِ. هَكَذَا أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ صُورَةَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا مَاتَ قَبْلَ فَرَاغِ الْحَجِّ وَهُوَ مُوسِرٌ، وَذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَنْ مَاتَ قَبْلَ فَرَاغِ أَرْكَانِ الْحَجِّ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَرْكَانِ، وَقَدْ بَقِيَ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ لَزِمَ الدَّمُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ حَصَلَ.
هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ مَاتَ وَهُوَ وَاجِدُ الْهَدْيِ، فَإِنْ مَاتَ مُعْسِرًا فَقَدْ مَاتَ وَفَرْضُهُ الصَّوْمُ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ فَقَوْلَانِ: أصحهما: يَسْقُطُ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، والثاني يُهْدَى عَنْهُ، قال

 

ج / 7 ص -123-       أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الْقَوْلُ يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَهُ فِي بَلَدِهِ مَالٌ أَوْ وَجَدَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَصْلًا وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الصَّوْمِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ قَطْعًا، وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ الصَّوْمِ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَهَلْ هُوَ كَصَوْمِ رَمَضَانَ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أصحهما: نَعَمْ فَيَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَفي الجديد يُطْعَمُ عَنْهُنَّ مِنْ تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ، فَإِنْ كَانَ تَمَكَّنَ مِنْ الْأَيَّامِ الْعَشَرَةِ وَجَبَ عَشْرَةُ أَمْدَادٍ، وَإِلَّا فَبِالْقِسْطِ، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَمَسَاكِينِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ أَحَدُهُمَا: يَتَعَيَّنُونَ، فَإِنْ فُرِّقَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ فَتَعَيَّنَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ كَالدَّمِ، وأصحهما: لَا يَتَعَيَّنُونَ، بَلْ يُسْتَحَبُّ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ فَإِنْ صُرِفَ إلَى غَيْرِهِمْ جَازَ، لِأَنَّ هَذَا الْإِطْعَامَ بَدَلٌ عَنْ الصَّوْمِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ فَكَذَا بَدَلُهُ.
والطريق الثاني: لَا يَكُونُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، فَعَلَى هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ: أصحهما: الرُّجُوعُ إلَى الدَّمِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى هَذَا الصَّوْمِ مِنْ الْأَمْدَادِ، فَيَجِبُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَى الْعَشَرَةِ شَاةٌ، وَفِي يَوْمٍ ثُلُثُ شَاةٍ، وَفِي يَوْمَيْنِ ثُلُثَاهَا، وَأَشَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إلَى أَنَّ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ كَإِتْلَافِ الْمُحْرِم شَعْرَةً أَوْ شَعْرَتَيْنِ وَفِي الشَّعْرَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ: أحدها: مُدٌّ، والثاني دِرْهَمٌ، والثالث: ثُلُثُ شَاةٍ، وَغَلَّطَ أَصْحَابُنَا أَبَا إِسْحَاقَ فِي هَذَا، وَنَقَلَ تَغْلِيطَهُ عَنْ الْأَصْحَابِ صاحب "الشامل" وَغَيْرِهِمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ شَيْءٌ أَصْلًا، وَأَمَّا الْمُتَمَكِّنُ الْمَذْكُورُ فَصَوْمُ الثَّلَاثَةِ يُتَمَكَّنُ مِنْهُ بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي زَمَنٍ يَسَعُ صَوْمَهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ. وَلَا يَكُونُ عَارِضٌ مِنْ مَرَضٍ وَغَيْرِهِ وَذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي تَرِكَتِهِ مَا لَمْ يَنْتَهِ إلَى الْوَطَنِ؛ لِأَنَّ دَوَامَ السَّفَرِ كَدَوَامِ الْمَرَضِ وَلَا يَزِيدُ تَأْكِيدُ الثَّلَاثَةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ يَجِبُ إيقَاعُهُ فِي الْحَجِّ. بِالنَّصِّ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلَيْسَ السَّفَرُ عُذْرًا فِيهِ بِخِلَافِ رَمَضَانَ وأما: السَّبْعَةُ، فإن قلنا: الرُّجُوعُ إلَى، الْوَطَنِ فَلَا يُمْكِنُ قَبْلَهُ، وإن قلنا: الْفَرَاغُ مِنْ الْحَجِّ فَلَا يُمْكِنُ قَبْلَهُ ثُمَّ دَوَامُ السَّفَرِ عُذْرٌ، هَكَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إذَا اسْتَحْبَبْنَا التَّأْخِيرَ إلَى وُصُولِهِ الْوَطَنَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ الْفَرَاغِ فَهَلْ يُهْدَى عَنْهُ إذَا مَاتَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَانْتَقَلَ إلَى الصَّوْمِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ إلَّا بَعْدَ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وقال: أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ فِي حَالِ الْعُمْرَةِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. دَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
فرع: لَوْ فَاتَهُ صَوْمُ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا وَلَا دَمَ عَلَيْهِ هَذَا مَذْهَبُنَا الْمَشْهُورُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ دَمَانِ أَحَدُهُمَا لِلتَّمَتُّعِ وَالثَّانِي لِتَأْخِيرِ الصَّوْمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: أصحها: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِيَةُ: دَمٌ وَاحِدٌ، وَالثَّالِثَةُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ. دَلِيلُنَا أَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ مُؤَقَّتٌ، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ قَضَاهُ كَرَمَضَانَ لَا غَيْرَ، وأما: صَوْمُ السَّبْعَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَصُومُهَا إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، والثاني يَصُومُهَا إذَا تَحَلَّلَ مِنْ

 

ج / 7 ص -124-       حَجِّهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ الْهَدْيَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.