المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 9 ص -5-            بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ1
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: مَا يُؤْكَلُ شَيْئَانِ، حَيَوَانٌ وَغَيْرُ حَيَوَانٍ، فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَضَرْبَانِ، حَيَوَانُ الْبَرِّ وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ فَأَمَّا حَيَوَانُ الْبَرِّ فَضَرْبَانِ، طَاهِرٌ وَنَجِسٌ، فَأَمَّا النَّجِسُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: الآية3] وقوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: الآية157} وَالْكَلْبُ مِنْ الْخَبَائِثِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "الْكَلْبُ خَبِيثٌ، خَبِيثٌ ثَمَنُهُ" وَأَمَّا الطَّاهِرُ فَضَرْبَانِ، طَائِرٌ وَدَوَابُّ، فَأَمَّا الدَّوَابُّ فَضَرْبَانِ دَوَابُّ الْإِنْسِ وَدَوَابُّ الْوَحْشِ، فَأَمَّا دَوَابُّ الْإِنْسِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْهَا الْأَنْعَامُ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: الآية1] وقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}[لأعراف: الآية157] وَالْأَنْعَامُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ، وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَأْكُلُونَهَا وَيَبِيعُونَ2 لُحُومَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ: وَيَحِلُّ[أَكْلُ]الْخَيْلِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ: "ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ3 مِنْ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْ الْخَيْلِ" وَلَا تَحِلُّ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه. وَلَا يَحِلُّ السِّنَّوْرُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْهِرَّةُ سَبُعٌ" وَلِأَنَّهُ يَصْطَادُ بِالنَّابِ وَيَأْكُلُ الْجِيَفَ فَهُوَ كَالْأَسَدِ.
الشرح:
حَدِيثُ:
"الْكَلْبُ خَبِيثٌ خَبِيثٌ ثَمَنُهُ" رَوَاهُ4 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ" وَيُنْكَرُ عَلَى الْحُمَيْدِيِّ كَوْنُهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ فِي مُسْنَدِ رَافِعٍ مَعَ أَنَّ مُسْلِمًا كَرَّرَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ صَحِيحِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَآخَرُونَ بِلَفْظِهِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَلَفْظُهُمَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ" وَأَمَّا حَدِيثُ "الْهِرَّةُ سَبُعٌ" فَرَوَاهُ5 وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "نَهَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 في نسخة "المهذب" المطبوعة باب الأطعمة فكأنه جعلها من كتاب الحج وما هنا أصح (ط).
2 في النسخة المطبوعة من "المهذب" ويبتغون (ط).
3 في النسخة المطبوعة حنين بدل خيبر (ط).
4 بياض بالأصل وتحريره أن الحديث رواه أحمد في "مسنده" وأبو داؤد والترمذي عن رافع بن خديج والحاكم في "جامعه" عن ابن عباس (ط).
5 بياض الأصل ولم أعثر على هذا النص في كتب السنة ولكن معناه يدخل في منطوق ومفهوم حديث أبي ثعلبة الخشني الذي رواه أحمد والستة وابن الجارود والدارمي في "سننه" "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع" وزاد في سنن "الدارمي" رواية عن ابن عباس. "وعن كل ذي مخلب من الطير" والله أعلم (ط).

 

ج / 9 ص -6-            رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْهِرَّةِ وَأَكْلِ ثَمَنِهَا"1
 وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: مَا يُؤْكَلُ شَيْئَانِ، فَفِيهِ تَسَاهُلٌ لِأَنَّ مُقْتَضَى سِيَاقِهِ أَنَّ الْمَأْكُولَ يَنْقَسِمُ إلَى مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَأْكُولِ مَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ لَا مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَكَانَ الْأَجْوَدُ أَنْ يَقُولَ: الْأَعْيَانُ شَيْئَانِ حَيَوَانٌ وَغَيْرُهُ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَقَوْلُهُ: طَائِرٌ وَدَوَابُّ، هَكَذَا فِي النُّسَخِ، طَائِرٌ، وَكَانَ الْأَحْسَنُ: طَيْرٌ وَدَوَابُّ، لِأَنَّ الطَّيْرَ جَمْعٌ كَالدَّوَابِّ، وَالطَّائِرُ مُفْرَدٌ كَالدَّابَّةِ.
 أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَالْأَعْيَانُ شَيْئَانِ، حَيَوَانٌ وَغَيْرُهُ وَالْحَيَوَانُ قِسْمَانِ بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ وَالْبَرِّيُّ ضَرْبَانِ طَاهِرٌ وَنَجِسٌ فأما: النَّجِسُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَغَيْرِهِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَوْ ارْتَضَعَ جَدْيٌ مِنْ كَلْبَةٍ وَتَرَبَّى عَلَى لَبَنِهَا فَفِي حِلِّهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمَا أصحهما: يَحِلُّ والثاني: لَا وأما الطَّاهِرُ فَصِنْفَانِ طَيْرٌ وَدَوَابُّ، وَالدَّوَابُّ نَوْعَانِ دَوَابُّ الْإِنْسِ وَدَوَابُّ الْوَحْشِ فأما: دَوَابُّ الْإِنْسِ فَيَحِلُّ مِنْهَا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَيُقَالُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ: الْأَنْعَامُ، وَيَحِلُّ مِنْهَا الْخَيْلُ سَوَاءٌ مِنْهَا الْعَتِيقُ وَهُوَ الَّذِي أَبَوَاهُ عَرَبِيَّانِ، وَالْبِرْذَوْنُ وَهُوَ الَّذِي أَبَوَاهُ عَجَمِيَّانِ. وَالْهَجِينُ وَهُوَ الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ عَجَمِيَّةٌ، وَالْمُفْرَقُ وَهُوَ عَكْسُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَلَالٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَيَحْرُمُ الْبَغْلُ وَالْحِمَارُ2 بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَيَحْرُمُ السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ حَلَالٌ، وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُوشَنْجِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَدِلَّةُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ حَلَالٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِمَّنْ قَالَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَعَطَاءٌ وَشُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ، وَكَرِهَهَا طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَكَمُ3 وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَأْثَمُ بِأَكْلِهِ وَلَا يُسَمَّى حَرَامًا، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: الآية8] وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَكْلَ مِنْهَا، وَذَكَرَ الْأَكْلَ مِنْ الْأَنْعَامِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَبِحَدِيثِ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ صَالِحٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خَالِدٍ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ورواه الترمذي وابن ماجة والحاكم في "المستدرك".
2 وهي حرام أيضاً عند المالكية لاختصاصها في الآية بالركوب والزينة {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (ط).
3 وإذا قال أحد هؤلاء الأئمة: "وأكره كذا" يعني أحرمه (ط).

 

ج / 9 ص -7-            رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ الْحَافِظِ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ قَالَ: لَا يُعْرَفُ صَالِحُ بْنُ يَحْيَى وَلَا أَبُوهُ إلَّا بِجَدِّهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إسْنَادٌ مُضْطَرِبٌ، وَمَعَ اضْطِرَابِهِ هُوَ مُخَالِفٌ لِأَحَادِيثِ الثِّقَاتِ، يَعْنِي فِي إبَاحَةِ لَحْمِ الْخَيْلِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ، قَالَ: وَصَالِحُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَا يُعْرَفُ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدِيثُ الْإِبَاحَةِ أَصَحُّ قَالَ: وَيُشْبِهُ إنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "أَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ" دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ النَّسَائِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرُ بَقِيَّةَ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَسَبَقَ بَيَانُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْمُصَنِّفُ، وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: "سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنَّا نَأْكُلُ لَحْمَ الْخَيْلِ وَنَشْرَبُ أَلْبَانَهَا" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُمْ "كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: "أَكَلْنَا لَحْمَ فَرَسٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: "نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ".
 وَأَمَّا الْجَوَابُ: عَنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْآخَرُونَ فَهُوَ مَا أَجَابَ الْخَطَّابِيُّ وَأَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ أَنَّ ذِكْرَ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْفَعَتَهُمَا مَقْصُورَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَانِ بِالذَّكَرِ لِأَنَّهُمَا مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْخَيْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: الآية3] فَذَكَرَ اللَّحْمَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ وَدَمِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ، قَالُوا: وَلِهَذَا سَكَتَ عَنْ حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَنْ الْخَيْلِ مَعَ قوله تعالى فِي الْأَنْعَامِ: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: الآية7] وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ هَذَا تَحْرِيمُ حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى الْخَيْلِ، وَيَنْضَمُّ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي إبَاحَةِ لَحْمِ الْخَيْلِ مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ الصَّحِيحِ لَهَا، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فَسَبَقَ جَوَابُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَحْمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ حَرَامٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ: وَإِنَّمَا رَوَيْتُ الرُّخْصَةَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ، قُلْتُ: وَرَوَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ كَمَا سَنُوضِحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ مَالِكٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي لَحْمِهَا، أَشْهَرُهَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ شَدِيدَةٍ، وَالثَّانِيَةُ حَرَامٌ وَالثَّالِثَةُ مُبَاحٌ، وَاحْتَجَّ لِابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: الآية145] الْآيَةَ، وَبِحَدِيثِ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ: "أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي شَيْءٌ أُطْعِمُ إلَّا الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنَا السَّنَةُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إلَّا سِمَانَ الْحُمُرِ، وَإِنَّكَ حَرَّمْتَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ فَقَالَ: أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِك، فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَّالِ الْقَرْيَةِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى تَضْعِيفِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. هُوَ حَدِيثٌ

 

ج / 9 ص -8-            يُخْتَلَفُ فِي إسْنَادِهِ، يَعْنُونَ مُضْطَرِبًا.
 قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُعَارِضُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالُوا: وَلَوْ بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَحَادِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ فِي تَحْرِيمِهَا لَمْ يَصِرْ إلَى غَيْرِهَا.
وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ فِي تَحْرِيمِهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَصَبْنَا حُمُرًا فَطَبَخْنَاهَا، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، وَرَوَيَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: "لَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِيرَانًا تُوقَدُ فَقَالَ: عَلَامَ تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ؟ فَقَالُوا: عَلَى لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَالَ: كَسِّرُوا الْقُدُورَ وَأَهْرِيقُوا مَا فِيهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهْرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ: أَوْ ذَاكَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: "قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحُكْمَ ابْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَوْلُهُ: أَبَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ.
 وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَا أَدْرِي أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةَ النَّاسِ، فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حَمُولَتُهُمْ؟ أَوْ حَرَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لَحْمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ"؟ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ:
"أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكْفِئُوا الْقُدُورَ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا، فَقَالَ نَاسٌ: إنَّمَا حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ وَقَالَ آخَرُونَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: "حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمَ الْحُمُرِ، وَلَحْمَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ "حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ" وَعَنْ أَنَسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتْ الْحُمُرُ؟ ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتْ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ"وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "رِجْسٌ أَوْ نَجِسٌ" وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: "حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْهَا الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَثِيرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 9 ص -9-            وأما الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنَا السَّنَةُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إلَّا سِمَانُ الْحُمُرِ، وَإِنَّكَ حَرَّمْت لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَقَالَ: أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِك فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَّالِ الْقَرْيَةِ" يَعْنِي بِالْجَوَّالِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِلَّةَ وَهِيَ الْعَذِرَةُ. فَهَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلِفُ الْإِسْنَادِ، كَثِيرُ الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، وَمِمَّنْ أَوْضَحَ اضْطِرَابَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي الْأَطْرَافِ، فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَلَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا حَالَ الِاضْطِرَارِ، وَلِأَنَّهَا قِصَّةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَحْمُ الْبَغْلِ حَرَامٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ إلَّا مَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ أَبَاحَهُ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ جَابِرٍ السَّابِقُ وَغَيْرُهُ.
فرع: لَحْمُ الْكَلْبِ حَرَامٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ بِأَسْرِهَا إلَّا رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ فِي الْجَرْوِ.
فرع: السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ حَرَامٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَأَبَاحَهُ اللَّيْثُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَبَعْضُهُمْ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَبْحُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لِيُدْبَغَ جِلْدُهُ أَوْ لِيُصْطَادَ عَلَى لَحْمِهِ السِّنَّوْرُ وَالْعِقْبَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَشُعَبُ الْمَسْأَلَةِ وَاضِحَةٌ فِي بَابِ الْآنِيَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا الْوَحْشُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْهُ الظِّبَاءُ وَالْبَقَرُ لقوله تعالى:
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [لأعراف: الآية157] وَالظِّبَاءُ وَالْبَقَرُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ، يُصْطَادُ وَيُؤْكَلُ، وَيَحِلُّ الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ لِلْآيَةِ وَلِمَا رُوِيَ "أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ كَانَ مَعَ قَوْمٍ مُحْرِمِينَ وَهُوَ حَلَالٌ فَسَنَحَ لَهُمْ حُمُرُ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَأَكَلُوا مِنْهَا وَقَالُوا: نَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا" وَيَحِلُّ أَكْلُ الضَّبُعِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [لأعراف: الآية157] قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: مَا زَالَ النَّاسُ يَأْكُلُونَ الضَّبُعَ وَيَبِيعُونَهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَرَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الضَّبُعُ صَيْدٌ يُؤْكَلُ وَفِيهِ كَبْشٌ إذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ: سَنَحَ هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ وَنُونٍ مُخَفَّفَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ عَرَضَ قوله: يَأْكُلُونَ الضَّبُعَ وَيَبِيعُونَهُ، الضَّمِيرُ فِي يَبِيعُونَهُ يَعُودُ إلَى لَحْمِ الضَّبُعِ، وَإِلَّا فَالضَّبُعُ مُؤَنَّثَةٌ. وَهُوَ بِفَتْحِ الضَّادِ وَضَمِ الْبَاءِ وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا، وَالتَّثْنِيَةُ ضَبُعَانِ وَالْجَمْعُ ضِبَاعٌ وَالْمُذَكَّرُ ضِبْعَانٌ بِكَسْرِ الضَّادِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ وَتَنْوِينِ النُّونِ وَالْجَمْعُ ضَبَاعِينُ كَسِرْحَانَ وَسَرَاحِينَ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَدَوَابُّ الْوَحْشِ يَحِلُّ مِنْهَا الظِّبَاءُ وَالْبَقَرُ وَالْحُمُرُ وَالضَّبُعُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَيَحِلُّ الْوَعْلُ بِلَا خِلَافٍ.

 

ج / 9 ص -10-         فرع: الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ مُبَاحَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَدَاوُد، وَحَرَّمَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: "يُكْرَهَانِ"، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ الضَّبُعِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَخَلَائِقُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمِمَّنْ أَبَاحَ الثَّعْلَبَ طَاوُسٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَحِلُّ أَكْلُ الْأَرْنَبِ لقوله تعالى:
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [لأعراف: الآية157] وَالْأَرْنَبُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ "أَنَّ غُلَامًا مِنْ قَوْمِهِ أَصَابَ أَرْنَبًا فَذَبَحَهَا بِمَرْوَةِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِهَا فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا" وَيَحِلُّ الْيَرْبُوعُ لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [لأعراف: الآية157] وَالْيَرْبُوعُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ تَصْطَادُهُ الْعَرَبُ وَتَأْكُلُهُ وَأَوْجَبَ فِيهِ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا أَصَابَهُ جَفْرَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَيْدٌ مَأْكُولٌ، وَيَحِلُّ أَكْلُ الثَّعْلَبِ لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [لأعراف: الآية157] وَالثَّعْلَبُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ مُسْتَطَابٌ يُصْطَادُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَقَوَّى بِنَابِهِ فَأَشْبَهَ الْأَرْنَبَ، وَيَحِلُّ أَكْلُ ابْنِ عِرْسٍ وَالْوَبْرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الثَّعْلَبِ، وَيَحِلُّ[أَكْلُ]الْقُنْفُذِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما سُئِلَ عَنْ الْقُنْفُذِ فَتَلَا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: من الآية145]الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ مُسْتَطَابٌ لَا يُتَقَوَّى بِنَابِهِ فَحَلَّ أَكْلُهُ كَالْأَرْنَبِ وَيَحِلُّ الضَّبُّ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما1 أَنَّهُ أَخْبَرَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ "أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا فَقَدَّمَتْ الضَّبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ فَلَمْ يَنْهَهُ".

الشرح: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْأَرْنَبِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِمَعْنَاهُ (مِنْهَا) حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ: "أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا عَنْ الظَّهْرَانِ فَأَدْرَكْتهَا فَأَخَذْتُهَا فَذَهَبْتُ بِهَا إلَى أَبِي طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ بِكَتِفِهَا وَفَخِذِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَبِلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ، وأما الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: فِي الْقُنْفُذِ فَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ عِيسَى2 بْنِ نُمَيْلَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَسُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ فَتَلَا {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: من الآية145]الْآيَةَ، قَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ "ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "خَبِيثَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ" فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا فَهُوَ كَمَا قَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَمْ يُرْوَ إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ وَهُوَ إسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ وأما حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالِدٍ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أم خالد لبابة الكبرى وأم عبد الله بن عباس لبابة الصغرى وميمونة أم المؤمنين ثلاثتهن شقيقات أبوهن الحارث بن حزن الهلالي واختهن من الأم أسماء بنت عميس الخثعمية أم عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر وعون ويحيى ابني علي بن أبي طالب.
2 قال في "التقريب": عيسى بن نميلة مجهول فزاري حجازي من السابعة روى له أبو داود فيكون من مجهولي الحال لا مجهول العين (ط).

 

 

ج / 9 ص -11-         قوله: فَذَبَحَهَا بِمَرْوَةِ هِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهِيَ الْحَجَرَةُ قوله: الْقُنْفُذُ هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْفَاءِ وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْفَاءِ لُغَتَانِ ذَكَرَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ: وَجَمْعُهَا قَنَافِذُ، وَالْوَبْرُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ جَمْعُهُ وِبَارٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالضَّبُّ الْمَحْنُوذُ أَيْ الْمَشْوِيُّ، قَوْلُهُ: فَاجْتَرَرْتُهُ هَكَذَا هُوَ بِالرَّاءِ الْمُكَرَّرَةِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَلْفَاظِ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ بِالزَّايِ بَعْدَ الرَّاءِ أَيْ وَطَعَنَهُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَيَحِلُّ الْأَرْنَبُ وَالْيَرْبُوعُ وَالثَّعْلَبُ وَالْقُنْفُذُ وَالضَّبُّ وَالْوَبْرُ وَابْنُ عِرْسٍ، وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ إلَّا الْوَبْرِ وَالْقُنْفُذِ فَفِيهِمَا وَجْهٌ أَنَّهُمَا حَرَامٌ وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ تَحْلِيلُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَيَحِلُّ الدُّلْدُلُ1 عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ وَفِيهِ وَجْهٌ وأما السَّمُّورُ وَالسِّنْجَابُ وَالْفَنَلُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالنُّونِ وَالْقَاقِمُ بِالْقَافَيْنِ وَضَمِّ الثَّانِيَةِ وَالْحَوَاصِلُ فَفِيهَا وَجْهَانِ الصحيح: الْمَنْصُوصُ أَنَّهَا حَلَالٌ والثاني: أَنَّهَا حَرَامٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الضَّبِّ. مَذْهَبُنَا أَنَّهُ حَلَالٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ "يُكْرَهُ"، وَأَمَّا الْيَرْبُوعُ فَحَلَالٌ عِنْدَنَا لَا يُكْرَهُ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ خَالِدٍ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَمَّا الْقُنْفُذُ فَحَلَالٌ عِنْدَنَا لَا يُكْرَهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: "يَحْرُمُ"، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ "يُكْرَه"ُ، وَأَمَّا الْيَرْبُوعُ فَحَلَالٌ عِنْدَنَا لَا يُكْرَهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: "يُكْرَهُ"، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَحْرِيمَ الضَّبِّ وَالْوَبْرِ وَابْنِ عِرْسٍ وَالْقُنْفُذِ وَالْيَرْبُوعِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَلَا يَحِلُّ مَا يَتَقَوَّى بِنَابِهِ وَيَعْدُو عَلَى النَّاسِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالدُّبِّ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: الآية157] وَهَذِهِ السِّبَاعُ مِنْ الْخَبَائِثِ، لِأَنَّهَا تَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَا يَسْتَطِيبُهَا الْعَرَبُ وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَأَكْلِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ" وَفِي ابْنِ آوَى وَجْهَانِ أحدهما: يَحِلُّ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَوَّى بِنَابِهِ، فَهُوَ كَالْأَرْنَبِ والثاني: لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ كَرِيهُ الرَّائِحَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكِلَابِ، فَلَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، وَفِي سِنَّوْرِ الْوَحْشِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ يَصْطَادُ بِنَابِهِ، فَلَمْ يَحِلَّ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ. والثاني: يَحِلُّ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَتَنَوَّعُ إلَى حَيَوَانٍ وَحْشِيٍّ وَأَهْلِيٍّ، وَيَحْرُمُ الْأَهْلِيُّ مِنْهُ وَيَحِلُّ الْوَحْشِيُّ مِنْهُ كَالْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْفَأْرِ وَالْخَنَافِسِ وَالْعَظَاءِ2 وَالصَّرَاصِيرِ وَالْعَنَاكِبِ وَالْوَزَغِ وَسَامَّ أَبْرَصَ وَالْجِعْلَانِ وَالدِّيدَانِ وَبَنَاتِ وَرْدَانَ وَحِمَارِ قَبَّانَ لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: الآية157].
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهو القنفذ العظيم.
2 ما تسمى في لغة العامة السحالي ومفردها سحلية، والعظاء جمع مفرده عظاية (ط).

 

ج / 9 ص -12-         أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ" قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: "الْمِخْلَبُ -بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ- وَهُوَ لِلظِّئْرِ وَالسِّبَاعِ كَالظُّفْرِ لِلْإِنْسَانِ"، وأما الْحَشَرَاتُ فَبِفَتْحِ الْحَاءِ وَالشِّينِ، وَهِيَ هَوَامُّ الْأَرْضِ وَصِغَارُ دَوَابِّهَا وَالْحَيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى1 وَالْبَطَّة وأما الْعَقْرَبُ وَالْعَقْرَبَةُ وَالْعَقْرَبَا فَاسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ: عُقْرُبَانٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ، وَأَمَّا الْخَنَافِسُ فَجَمْعُ خُنْفَسَاءَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَبِالْمَدِّ وَالْفَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَمَضْمُومَةٌ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: "وَيُقَالُ خُنْفُسٌ وَخُنْفُسَةٌ،" وأما الْعَنَاكِبُ فَجَمْعُ عَنْكَبُوتٍ وَهِيَ هَذِهِ النَّاسِجَةُ الْمَعْرُوفَةُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: "الْغَالِبُ عَلَيْهَا التَّأْنِيثُ".
وأما سَامُّ أَبْرَصَ فَبِتَشْدِيدِ الْمِيمِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: "هُوَ كِبَارُ الْوَزَغِ"، قَالَ النَّحْوِيُّونَ وَاللُّغَوِيُّونَ: "سَامُّ أَبْرَصَ اسْمَانِ جُعِلَا وَاحِدًا وَيَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: الْبِنَاءُ عَلَى الْفَتْحِ كَخَمْسَةَ عَشَرَ والثاني: إعْرَابُ الْأَوَّلِ وَإِضَافَتُهُ إلَى الثَّانِي وَيَكُونُ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ".
وأما الْجِعْلَانُ فَبِكَسْرِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ جَمْعُ جُعَلٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ دُوَيْبَّةٌ مَعْرُوفَةٌ يُدَحْرِجُ الْقَذَرَ، وَأَمَّا الدِّيدَانُ فَبِكَسْرِ الدَّالِ الْأُولَى، هِيَ جَمْعُ دُودٍ كَعُودٍ وَعِيدَانٍ وَوَاحِدَةٌ دُودَةٌ وأما حِمَارُ قَبَّانَ فَدُوَيْبَّةٌ مَعْرُوفَةٌ كَثِيرَةُ الْأَرْجُلِ وَهِيَ فَعْلَانُ لَا يَنْصَرِفُ لَا مَعْرِفَةً وَلَا نَكِرَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَحْرُمُ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ لِلْحَدِيثِ" قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِذِي النَّابِ مَا يَتَقَوَّى بِنَابِهِ وَيَعْدُو عَلَى الْحَيَوَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَمِنْ ذَلِكَ الْأَسَدُ وَالْفَهْدُ وَالنَّمِرُ وَالذِّئْبُ وَالدُّبُّ وَالْقِرْدُ وَالْفِيلُ وَالْبَبْرُ بِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ يُعَادِي الْأَسَدَ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الْفُرَانِقُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ فَكُلُّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا إلَّا وَجْهًا شَاذًّا فِي الْفِيلِ خَاصَّةً أَنَّهُ حَلَالٌ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُوشَنْجِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعْدُو مِنْ الْفِيَلَةِ إلَّا الْعِجْلُ الْمُغْتَلِمُ كَالْإِبِلِ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ تَحْرِيمُهُ.
وأما ابْنُ آوَى وَابْنُ مُفْتَرِضٍ فَفِيهِمَا وجهان أصحهما: تَحْرِيمُهَا وَبِهِ قَطَعَ الْمَرَاوِزَةُ وَفِي سِنَّوْرِ الْبَرِّ وَجْهَانِ الأصح: تَحْرِيمُهُ وَقَالَ الْخُضَرِيُّ: حَلَالٌ وأما الْحَشَرَاتُ فَكُلُّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ وَكُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ سِوَى مَا يَدْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَطِيرُ ( فَمِنْهَا: ذَوَاتُ السُّمُومِ وَالْإِبَرِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالزُّنْبُورِ ومنها: الْوَزَغُ وَأَنْوَاعُهُ كَحِرْبَاءِ الظَّهِيرَةِ وَالْعَظَاءُ وَهِيَ مَلْسَاءُ تُشْبِهُ سَامَّ أَبْرَصَ، وَهِيَ أَخَسُّ مِنْهُ وَاحِدَتُهَا عَظَاةٌ وَعَظَايَةٌ فَكُلُّ هَذَا حَرَامٌ وَيَحْرُمُ النَّمْلُ وَالذَّرُّ وَالْفَأْرَةُ وَالذُّبَابُ وَالْخُنْفُسَاءُ وَالْقُرَادُ وَالْجِعْلَانُ وَبَنَاتُ وَرْدَانَ وَحِمَارُ قَبَّانَ وَالدِّيدَانُ إلَّا دُودَ الْجُبْنِ وَالْخَلِّ وَالْبَاقِلَّا وَالْفَوَاكِهِ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَأْكُولِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الدُّودُ فَفِي حِلِّ أَكْلِ هَذَا الدُّودِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ سَبَقَتْ فِي بَابِ الْمِيَاهِ أَحَدُهَا: يَحِلُّ والثاني: لَا وأصحها: يَحِلُّ أَكْلُهُ مَعَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ لَا مُنْفَرِدًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 بياض بالأصل ولعل السقط كالوزة، والبطة, وهما على وزن الحبة ولفظهما يطلق على الذكر والأنثى.

 

ج / 9 ص -13-         وَيَحْرُمُ اللُّحَكَاءُ وَهِيَ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمَدِّ وَهِيَ دُوَيْبَّةٌ تَغُوصُ فِي الرَّمْلِ إذَا رَأَتْ إنْسَانًا قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْحَشَرَاتِ الْيَرْبُوعُ وَالضَّبُّ فَإِنَّهُمَا حَلَالَانِ كَمَا سَبَقَ مَعَ دُخُولِهِمَا فِي اسْمِ الْحَشَرَاتِ، وَكَذَا أُمُّ حُبَيْنِ فَإِنَّهَا حَلَالٌ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ قَالُوا: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَوَاتِ الْإِبَرِ الْجَرَادُ، فَإِنَّهُ حَلَالٌ قَطْعًا وَكَذَا الْقُنْفُذُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا الصَّرَّارَةُ فَحَرَامٌ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ كَالْخُنْفُسَاءِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حَشَرَاتِ الْأَرْضِ كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْجِعْلَانِ وَبَنَاتِ وَرْدَانَ وَالْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا. مَذْهَبُنَا أَنَّهَا حَرَامٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَالَ مَالِكٌ: حَلَالٌ لقوله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: الآية145]الْآيَةَ وَبِحَدِيثِ التَّلِبِ1 -بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ لَامٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ- الصَّحَابِيُّ رضي الله عنه قَالَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أَسْمَعْ لِحَشَرَةِ الْأَرْضِ تَحْرِيمًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: الآية157] وَهَذَا مِمَّا يَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَابْنِ عُمَرَ. وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَمَّا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: الآية145] الْآيَةَ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهَا مِمَّا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ وَتَسْتَطِيبُونَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى مَعَانِي الْآيَةِ اسْتِدْلَالًا بِالسُّنَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وأما حَدِيثُ التَّلِبِ فَإِنْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ أَسْمَعْ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِ غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي أَكْلِ السِّبَاعِ الَّتِي تَتَقَوَّى بِالنَّابِ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَأَشْبَاهِهَا. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهَا حَرَامٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ مَالِكٌ تُكْرَهُ وَلَا تَحْرُمُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: الآية145] وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي النَّهْيِ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا "كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ" وَأَجَابُوا عَنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ لَا يَجِدُ مُحَرَّمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَّا هَذَا، ثُمَّ وَرَدَ وَحْيٌ آخَرُ بِتَحْرِيمِ السِّبَاعِ فَأَخْبَرَ بِهِ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ وَالْأَحَادِيثُ مَدَنِيَّةٌ وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ مُخَصِّصٌ لِلْآيَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي أَنْوَاعٍ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 التلب بن ثعلبة ويقال بتشديد الباء الموحدة وثعلبة بن ربيعة التميمي العنبري صحابي ليس له سوى هذا الحديث.

 

ج / 9 ص -14-         مِنْهَا الْقِرْدُ هُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَمَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ.
ومنها: الْفِيلُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيِّينَ وَالْحَسَنِ وَأَبَاحَهُ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ شِهَابٍ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ. حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ ذُو نَابٍ.
ومنها: الْأَرْنَبُ وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمَا كَرِهَاهَا. دَلَّتْ لَنَا الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ فِي إبَاحَتِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النَّهْيِ عَنْهَا شَيْءٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا الطَّائِرُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْهُ النَّعَامَةُ لقوله تعالى: {
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [لأعراف: الآية157] وَقَضَتْ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم فِيهَا بِبَدَنَةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَيْدٌ مَأْكُولٌ، وَيَحِلُّ الدِّيكُ وَالدَّجَاجُ وَالْحَمَامُ وَالدَّرَّاجُ وَالْقَبَجُ وَالْقَطَا وَالْبَطُّ وَالْكَرَاكِيُّ وَالْعُصْفُورُ وَالْقَنَابِرُ لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ} [لأعراف: الآية157] وَهَذِهِ كُلُّهَا مُسْتَطَابَةٌ، وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ" وَرَوَى "سَفِينَةُ رضي الله عنه مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَكَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمَ حُبَارَى" وَيَحِلُّ أَكْلُ الْجَرَادِ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: "غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ يَأْكُلُ الْجَرَادَ وَنَأْكُلُهُ" وَيَحْرُمُ أَكْلُ الْهُدْهُدِ وَالْخُطَّافِ "لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِهِمَا" وَمَا يُؤْكَلُ لَا يُنْهَى عَنْ قَتْلِهِ، وَيَحْرُمُ مَا يَصْطَادُ وَيَتَقَوَّى بِالْمِخْلَبِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَأَكْلِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ" وَيَحْرُمُ أَكْلُ الْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" وَمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "إنِّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ، وَقَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِهِ" وَيَحْرُمُ الْغُرَابُ الْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ لِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَهُوَ كَالْأَبْقَعِ وَفِي الْغُدَافِ1 وَغُرَابِ الزَّرْعِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَحِلُّ لِلْخَبَرِ والثاني: يَحِلُّ لِأَنَّهُ مُسْتَطَابٌ يَلْقُطُ الْحَبَّ فَهُوَ كَالْحَمَامِ وَالدَّجَاجِ، وَتَحْرُمُ حَشَرَاتُ الطَّيْرِ كَالنَّحْلِ وَالزُّنْبُورِ وَالذُّبَابِ لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: من الآية157] وَهَذِهِ مِنْ الْخَبَائِثِ.

الشرح: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَحَدِيثُ سَفِينَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ "غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ".
وأما حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْهُدْهُدِ فَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 العطف هنا بيان لأن الغداف هو غراب القيظ كما يقول الدميري في "حياة الحيوان" (ط).

 

ج / 9 ص -15-         شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ بِإِسْنَادِهِ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
 وأما النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْخُطَّافِ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَمُرْسَلٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ أَوْ مِنْ التَّابِعِينَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الْخَطَاطِيفِ وَقَالَ: لَا تَقْتُلُوا الْعُوذَ إنَّهَا تَعُوذُ بِكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ قَالَ: وَرَوَى حَمْزَةُ النَّصِيبِيُّ فِيهِ حَدِيثًا مُسْنَدًا إلَّا أَنَّهُ كَانَ يُرْمَى بِالْوَضْعِ. وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَقْتُلُوا الضَّفَادِعَ فَإِنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ وَلَا تَقْتُلُوا الْخُفَّاشَ فَإِنَّهُ لَمَّا خَرِبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ قَالَ: يَا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلَى الْبَحْرِ حَتَّى أُغْرِقَهُمْ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إسْنَادٌ صَحِيحٌ.
 وأما حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَبَقَ بَيَانُ طُرُقِهِ وَشَرْحُهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.
وأما حَدِيثُ عَائِشَةَ:
"خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ إلَى آخِرِهِ" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَبَقَ قَرِيبًا.
وأما حَدِيثُ عَائِشَةَ: "إنِّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ" إلَى آخِرِهِ  فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.
أَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ:  فَقَوْلُهُ: "وَأَمَّا الطَّائِرُ" هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَقُولَ: وَأَمَّا الطَّيْرُ، لِأَنَّ الطَّيْرَ جَمْعٌ، وَالطَّائِرُ مُفْرَدٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ أَوَّلَ الْبَابِ. وَالنَّعَامَةُ بِفَتْحِ النُّونِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالنَّعَامُ اسْمُ جِنْسٍ كَحَمَامَةٍ وَحَمَامٍ. وأما الدِّيكُ، فَهُوَ ذَكَرُ الدَّجَاجِ جَمْعُهُ دُيُوكٌ وَدِيَكَةٌ، وَالدَّجَاجَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ بِاتِّفَاقِهِمْ، الْوَاحِدُ دَجَاجَةٌ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ الدِّيكِ وَالدَّجَاجِ هُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَهُوَ جَائِزٌ، وَمِنْهُ قوله تعالى:
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: الآية28] وقوله تعالى: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: الآية162].
 وأما الْقَبَجُ فَبِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْجِيمِ وَهُوَ الْحَجَلُ الْمَعْرُوفُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، لِأَنَّ الْقَافَ وَالْجِيمَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ: وَالْقَبْجَةُ تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى حَتَّى تَقُولَ يَعْقُوبُ1، فَيَخْتَصُّ بِالذَّكَرِ لِأَنَّ الْهَاءَ إنَّمَا دَخَلَتْهُ عَلَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 اسم يطلق على ذكر القبج كما تقول ظليم، ويعوب وصدى لذكر النعام والنحل والبومة (ط).

 

ج / 9 ص -16-         أَنَّهُ الْوَاحِدُ مِنْ الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ النَّعَامَةُ حَتَّى تَقُولَ ظَلِيمٌ، وَالنَّحْلَةُ حَتَّى تَقُولَ يَعْسُوبٌ، وَالدَّرَّاجَةُ حَتَّى تَقُولَ: حيقطان، وَالْبُومَةُ حَتَّى تَقُولَ: صَدًى أَوْ فَيَّادٌ، وَالْحُبَارَى حَتَّى تَقُولَ: خرب وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ.
 وأما الْقَنَابِرُ فَبِقَافٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ أَلِفٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ رَاءٍ جَمْعُ قُبَّرَةٍ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ قُنْبَرَةٌ كَمَا تَقُولُهُ الْعَامَّةُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الطَّيْرِ وأما الْهُدْهُدُ فَبِضَمِّ الْهَاءَيْنِ وَجَمْعُهُ هَدَاهِدُ وَيُقَالُ لِلْمُفْرَدِ هَدَاهِدُ أَيْضًا وأما الْبَازِي فَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، الْمَشْهُورُ الْفَصِيحَةُ الْبَازِي بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَالثَّانِيَةُ بَازٍ وَالثَّالِثَةُ بَازِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ حَكَاهَا ابْنُ مَكِّيٍّ وَهِيَ غَرِيبَةٌ أَنْكَرَهَا الْأَكْثَرُونَ قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ: يُقَالُ لِلْبُزَاةِ وَالشَّوَاهِينِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَصِيدُ صُقُورٌ، وَاحِدُهَا صَقْرٌ، وَالْأُنْثَى صَقْرَةٌ، وَقَدْ يُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ كَوْنُهُ جَعَلَ الصَّقْرَ قَسِيمًا لِلْبَازِي، مَعَ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: من الآية98] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: من الآية7] الْآيَةَ.
وأما الْحِدَأَةُ فَبِحَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ دَالٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ عَلَى وَزْنِ عِنَبَةٍ وَالْجَمَاعَةُ حِدَأٌ كَعِنَبٍ وأما الْفَأْرَةُ فَبِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ وأما الْغُدَافُ فَبِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةٍ وَآخِرُهُ فَاءٌ جَمْعُ غِدْفَانٍ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هُوَ الْغُرَابُ الضَّخْمُ، قَالَ وَالْجَوْهَرِيُّ هُوَ غُرَابُ الْقَيْظِ وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا هُوَ غُرَابٌ صَغِيرٌ أَسْوَدُ، لَوْنُهُ لَوْنُ الرَّمَادِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ:
إحْدَاهَا: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ النَّعَامَةِ وَالدَّجَاجِ وَالْكُرْكِيِّ وَالْحُبَارَى وَالْحَجَلِ وَالْبَطِّ وَالْقَطَا وَالْعَصَافِيرِ وَالْقَنَابِرِ وَالدَّرَّاجِ وَالْحَمَامِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكُلُّ ذَاتِ طَوْقٍ مِنْ الطَّيْرِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْحَمَامِ، وَهِيَ حَلَالٌ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقُمْرِيُّ وَالدِّبْسُ وَالْيَمَامُ وَالْفَوَاخِتُ وَيَحِلُّ الْوَرَشَانُ وَكُلُّ مَا عَلَى شَكْلِ الْعُصْفُورِ وَفِي حَدِّهِ فَهُوَ حَلَالٌ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّعْوَةُ وَالزُّرْزُورُ وَالنُّغَرُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبُلْبُلُ وَيَحِلُّ الْعَنْدَلِيبُ وَالْحُمَّرَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَفِيهِمَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُمَا حَرَامٌ، وَفِي الْبَبَّغَاءِ وَالطَّاوُوسِ وَجْهَانِ: قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: أَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ.
 وَأَمَّا السِّقِرَّافُ فَقَطَعَ الْبَغَوِيّ بِحِلِّهِ وَالصَّيْمَرِيُّ بِتَحْرِيمِهِ، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ: يَحْرُمُ مُلَاعِبُ ظِلِّهِ وَهُوَ طَائِرٌ يَسْبَحُ فِي الْجَوِّ مِرَارًا، كَأَنَّهُ يَنْصَبُّ عَلَى طَائِرٍ قَالَ أَبُو عَاصِمٍ وَالْبُومُ حَرَامٌ كَالرَّخَمِ قَالَ: وَالضُّوَعُ -بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ- حَرَامٌ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الضُّوَعَ غَيْرُ الْبُومِ، قَالَ: لَكِنْ فِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ أَنَّ الضُّوَعَ طَائِرٌ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ مِنْ جِنْسِ الْهَامِّ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: هُوَ ذَكَرُ الْبُومِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ فِي الضُّوَعِ قَوْلٌ لَزِمَ إجْرَاؤُهُ فِي الْبُومِ لِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَفْتَرِقَانِ.
قُلْتُ: الْأَشْهَرُ أَنَّ الضُّوَعَ مِنْ جِنْسِ الْهَامِّ فَلَا يَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: النَّهَّاشُ

 

ج / 9 ص -17-         حَرَامٌ كَالسِّبَاعِ الَّتِي تَنْهَشُ، قَالَ: وَاللَّقَاطُ حَلَالٌ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ النَّصُّ يَعْنِي ذَا الْمِخْلَبِ، وَقَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: اللَّقَّاطُ حَلَالٌ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: وَمَا تَقَوَّتَ بِالطَّاهِرَاتِ فَحَلَالٌ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ النَّصُّ، وَمَا تَقَوَّتَ بِالنَّجِسِ فَحَرَامٌ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: يَحْرُمُ أَكْلُ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ يَتَقَوَّى بِهِ وَيَصْطَادُ كَالصَّقْرِ وَالنِّسْرِ وَالْبَازِي وَالْعُقَابِ وَغَيْرِهَا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
 المسألة الثانية: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: مَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ حَرُمَ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَّ أَكْلُهُ لَمْ يُنْهَ عَنْ قَتْلِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُنْهَ عَنْ قَتْلِ الْمَأْكُولِ، فَمِنْ ذَلِكَ النَّمْلُ وَالنَّحْلُ فَهُمَا حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ الْخُطَّافُ وَالصُّرَدُ وَالْهُدْهُدُ وَالثَّلَاثَةُ حَرَامٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَحَكَاهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلًا، وَجَزَمَ بِهِ فِي الصُّرَدِ وَالْهُدْهُدِ. وَالْخُفَّاشُ حَرَامٌ قَطْعًا قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقَدْ يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ، وَاللَّفَّافُ حَرَامٌ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
الثالثة: قَالَ أَصْحَابُنَا: مَا أُمِرَ بِقَتْلِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ "لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ"فَلَوْ حَلَّ أَكْلُهُ لَمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }[المائدة: من الآية95] فَمِنْ ذَلِكَ الْحَيَّةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْحِدَأَةُ وَكُلُّ سَبُعٍ ضَارٍ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَسَدُ وَالذِّئْبُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا سَبَقَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَقَدْ يَكُونُ لِلشَّيْءِ سَبَبَانِ أَوْ أَسْبَابٌ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَتَحْرُمُ الْبُغَاثَةُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فِي آخِرِهَا وَالرَّخَمَةُ كَمَا تَحْرُمُ الْحِدَأَةُ.
وأما الْغُرَابُ فَهُوَ أَنْوَاعٌ فَمِنْهَا: الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَهُوَ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ومنها: الْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ، وَفِيهِ طَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَجَمَاعَةٌ التَّحْرِيمَ والثاني: فِيهِ وجهان أصحهما: التَّحْرِيمُ والثالث: الْحِلُّ.
وأما غُرَابُ الزَّرْعِ وَهُوَ أَسْوَدُ صَغِيرٌ، يُقَالُ لَهُ: الزَّاغُ، وَقَدْ يَكُونُ مُحْمَرَّ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: أَنَّهُ حَلَالٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْغُدَافَ حَرَامٌ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمَنْ الْغِرْبَانِ غُرَابٌ صَغِيرٌ أَسْوَدُ أَوْ رَمَادِيُّ اللَّوْنِ، وَقَدْ يُقَالُ الْغُدَافُ الصَّغِيرُ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْعَقْعَقُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: يَحْرُمُ حَشَرَاتُ الطَّيْرِ كَالنَّحْلِ وَالزَّنَابِيرِ وَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَشَبَهِهَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
الْخَامِسَةُ: يَحِلُّ أَكْلُ الْجَرَادِ بِلَا خِلَافٍ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَسَوَاءٌ مَاتَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِقَتْلِ مُسْلِمٍ أَوْ مَجُوسِيٍّ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ رَأْسَهُ أَمْ لَا وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ جَرَادَةٍ وَبَاقِيهَا حَيٌّ فَوجهان أصحهما: يَحِلُّ الْمَقْطُوعُ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ كَالْمَيِّتِ وَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ والثاني: حَرَامٌ وَإِنَّمَا يُبَاحُ مِنْهُ الْجُمْلَةُ لِحُرْمَتِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَرَادَ حَلَالٌ سَوَاءٌ مَاتَ بِاصْطِيَادِ مُسْلِمٍ أَوْ مَجُوسِيٍّ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَالْأَبْهَرِيُّ الْمَالِكِيَّانِ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ إلَّا إذَا مَاتَ بِسَبَبٍ، بِأَنْ يُقْطَعَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ يُصْلَقَ أَوْ

 

ج / 9 ص -18-         يُقْلَى حَيًّا أَوْ يُشْوَى وَإِنْ لَمْ يُقْطَفَ رَأْسُهُ، قَالَ: فَإِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ فِي وِعَاءٍ لَمْ يُؤْكَلْ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة: من الآية3] وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى السَّابِقِ: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ1 بْنُ بِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ قَالَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ"الْحَدِيثَ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْقَائِلَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ"هُوَ ابْنُ عُمَرَ، لِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى ضَعِيفَةٌ جِدًّا لِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ عَلَى تَضْعِيفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: رَوَى حَدِيثًا مُنْكَرًا "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ" الْحَدِيثَ يَعْنِي أَحْمَدُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وأما الثَّانِيَةُ فَصَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ هِيَ أَيْضًا مَرْفُوعَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا أَوْ أُحِلَّ لَنَا كَذَا أَوْ حُرِّمَ عَلَيْنَا كَذَا، كُلُّهُ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ عَامٌّ، وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مَالِكٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَرَادِ فَقَالَ: أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ" فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ - هَكَذَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ. قُلْتُ: وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ رُوِيَ مُرْسَلًا وَمُتَّصِلًا، لِأَنَّ الَّذِي وَصَلَهُ ثِقَةٌ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَأَصْحَابُنَا: إنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ كَانَ دَلِيلًا عَلَى إبَاحَةِ الْجَرَادِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحَرِّمْهُ فَقَدْ أَحَلَّهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْكُلْهُ تَقَذُّرًا كَمَا قَالَ فِي الضَّبِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا تَحْرِيمُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ مِمَّا يَعْدُو عَلَى الْحَيَوَانِ كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالدُّبِّ، وَكَذَا مَا لَهُ مِخْلَبٌ مِنْ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالشَّاهِينَ وَالْعُقَابِ وَنَحْوِهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد قَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ، دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}[الأنعام: من الآية145]الْآيَةَ فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهَا فِي مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ السِّبَاعِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَنَا فِي غُرَابِ الزَّرْعِ وَالْغُدَافِ، وَقَالَ بِإِبَاحَتِهِمَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سليمان بن بلال التيمي مولاهم محمد أبو أيوب المدني ثقة من الثامنة.

 

ج / 9 ص -19-         قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَطِيبُهُ الْعَرَبُ حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَسْتَطِيبُهُ الْعَرَبُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ"وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الرِّيفِ وَالْقُرَى وَذَوِي الْيَسَارِ وَالْغِنَى دُونَ الْأَجْلَافِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ اسْتَطَابَ قَوْمٌ شَيْئًا وَاسْتَخْبَثَهُ قَوْمٌ رُجِعَ إلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، فَإِنْ اتَّفَقَ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ نُظِرَ إلَى مَا يُشْبِهُهُ فَإِنْ كَانَ حَلَالًا حَلَّ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا حَرُمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ فِيمَا يَحِلُّ وَلَا فِيمَا يَحْرُمُ فَفِيهِ وَجْهَانِ قَالَ: أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ الطَّبَرِيُّ يَحِلُّ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}[الأنعام: من الآية145] وَهَذَا لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَا سُكِتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَيَوَانِ التَّحْرِيمُ، فَإِذَا أَشْكَلَ بَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ.
الشرح:
هَذَا الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْهُ هَكَذَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ عَفْوِهِ" قَالَ أَصْحَابُنَا: مِنْ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ الِاسْتِطَابَةُ وَالِاسْتِخْبَاثُ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الْأَصْلُ الْأَعْظَمُ الْأَعَمُّ1 وَلِهَذَا أُفْسِحَ الْبَابُ، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}[المائدة: من الآية4] قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُنَا الْحَلَالَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْحَلَالَ لَكَانَ تَقْدِيرُهُ أُحِلَّ لَكُمْ الْحَلَالُ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ مَا يَسْتَطِيبُهُ الْعَرَبُ، وَبِالْخَبَائِثِ مَا تَسْتَخْبِثُهُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى طَبَقَاتِ النَّاسِ، وَيَنْزِلُ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى مَا يَسْتَطِيبُونَهُ أَوْ يَسْتَخْبِثُونَهُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَاضْطِرَابِهَا، وَذَلِكَ يُخَالِفُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ، قَالُوا: فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْعَرَبِ، فَهُمْ أَوْلَى الْأُمَمِ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِاسْتِطْيَابِهِمْ وَاسْتِخْبَاثِهِمْ لِأَنَّهُمْ الْمُخَاطَبُونَ أَوَّلًا، وَهُمْ جِيلٌ مُعْتَدِلٌ لَا يَغْلِبُ فِيهِمْ الِانْهِمَاكُ عَلَى الْمُسْتَقْذَرَاتِ وَلَا الْعَفَافَةُ الْمُتَوَلَّدَةُ مِنْ التَّنَعُّمِ فَيُضَيِّقُوا الْمَطَاعِمَ عَلَى النَّاسِ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا يُرْجَعُ إلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الْقُرَى وَالرِّيفِ دُونَ أَجْلَافِ الْبَوَادِي الَّذِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل وأقول الذي رواه البيهقي في كتاب أحكام القرآن للشافعي بإسناد عن الشافعي قال: وأهل التفسير أو من سمعت منهم يقول في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً}يعني مما كنتم تأكلون فإن العرب قد كانت تحرم أشياء على أنها من الخبائث وتحل أشياء على أنها من الطيبات فأحلت لهم الطيبات عندهم إلا ما استثنى منها وحرمت عليهم الخبائث وفي مختصر المزني نحوه وفي الأم ص 217 في السنن الكبرى نحو هذا الذي سقناه وهذا يلقي ضوءا على عبارة الشارح من اعتبار الشافعي للأصل والأعظم والأعم والمعتمد فيه وهو قوله تعالى:
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}(ط).

 

ج / 9 ص -20-         يَأْكُلُونَ مَا دَبَّ وَدَرَجَ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزِ وَتَغْيِيرِ عَادَةِ أَهْلِ الْيَسَارِ وَالثَّرْوَةِ دُونَ الْمُحْتَاجِينَ، وَتَغْيِيرِ حَالَةِ الْخِصْبِ وَالرَّفَاهِيَةِ دُونَ الْجَدْبِ وَالشِّدَّةِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعَادَةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: يُرْجَعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَى الْعَرَبِ الْمَوْجُودِينَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ اسْتَطَابَتْهُ الْعَرَبُ أَوْ سَمَّتْهُ بِاسْمِ حَيَوَانٍ حَلَالٍ فَهُوَ حَلَالٌ وَإِنْ اسْتَخْبَثَتْهُ أَوْ سَمَّتْهُ بِاسْمِ مُحَرَّمٍ فَمُحَرَّمٍ، فَإِنْ اسْتَطَابَتْهُ طَائِفَةٌ وَاسْتَخْبَثَتْهُ أُخْرَى اتَّبَعْنَا الْأَكْثَرِينَ فَإِنْ اسْتَوَيَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: يُتَّبَعُ قُرَيْشٌ لِأَنَّهُمْ قُطْبُ الْعَرَبِ، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ قُرَيْشٌ وَلَا تَرْجِيحَ أَوْ شَكُّوا وَلَمْ يَحْكُمُوا بِشَيْءٍ أَوْ لَمْ نَجِدْهُمْ وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، اعْتَبَرْنَاهُ بِأَقْرَبِ الْحَيَوَانِ بِهِ شَبَهًا وَالشَّبَهُ تَارَةً يَكُونُ فِي الصُّورَةِ وَتَارَةً فِي طَبْعِ الْحَيَوَانِ مِنْ الصِّيَالَةِ وَالْعِدْوَانِ، وَتَارَةً فِي طَعْمِ اللَّحْمِ، فَإِنْ اسْتَوَى الشَّبَهَانِ أَوْ لَمْ نَجْدِ مَا يُشْبِهُهُ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: الْحِلُّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ والثاني: التَّحْرِيمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يُرَاجَعُ الْعَرَبُ فِي حَيَوَانٍ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِتَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ وَلَا أَمْرٍ بِقَتْلِهِ وَلَا نَهْيٍ عَنْ قَتْلِهِ، فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ اعْتَمَدْنَاهُ وَلَمْ نُرَاجِعْهُمْ، قَطْعًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْحَشَرَاتُ وَغَيْرُهَا مِمَّا سَبَقَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: إذَا وَجَدْنَا حَيَوَانًا لَا مَعْرِفَةَ لِحُكْمِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا اسْتِطَابَةٍ وَلَا اسْتِخْبَاثٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَثَبَتَ تَحْرِيمُهُ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَهَلْ يُسْتَصْحَبُ تَحْرِيمُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ الأصح: لَا يُسْتَصْحَبُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنْ اسْتَصْحَبْنَاهُ فَشَرْطُهُ أَنْ يَثْبُتَ تَحْرِيمُهُ فِي شَرْعِهِمْ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ يَشْهَدَ بِهِ عَدْلَانِ أَسْلَمَا مِنْهُمْ بِعِرْفَانِ الْمُبْدَلِ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَعَلَى هَذَا لَوْ اخْتَلَفُوا اُعْتُبِرَ حُكْمُهُ فِي أَقْرَبِ الشَّرَائِعِ إلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ النَّصْرَانِيَّةُ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا عَادَ الْوَجْهَانِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ أصحهما: الْحِلُّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَلَا يَحِلُّ مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ كَالسِّمْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ، وَالْحِمَارِ الْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ حِمَارِ الْوَحْشِ وَحِمَارِ الْأَهْلِ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِمَّا يُؤْكَلُ وَمِمَّا لَا يُؤْكَلُ فَغَلَبَ فِيهِ الْحَظْرُ كَالْبَغْلِ.
الشرح:
السِّمْعُ بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ يَحْرُمُ السِّمْعُ وَالْبَغْلُ وَسَائِرُ مَا يُولَدُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ. سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْكُولُ الذَّكَرَ أَوْ الْأُنْثَى، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالزَّرَافَةُ بِفَتْحِ الزَّايِ وَضَمِّهَا حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ مِنْ الْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ. وَلَوْ تَوَلَّدَ مِنْ فَرَسٍ وَأَتَانٍ وَحْشِيَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْجِنْسَيْنِ الْمَأْكُولَيْنِ كَانَ حَلَالًا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُكْرَهُ أَكْلُ الْجَلَّالَةِ، وَهِيَ الَّتِي أَكْثَرُ أَكْلِهَا الْعَذِرَةُ مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ دِيكٍ أَوْ دَجَاجَةٍ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَلْبَانِ الْجَلَّالَةِ"وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ تُغَيِّرْ لَحْمِهَا وَهَذَا لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، فَإِنْ

 

ج / 9 ص -21-         أَطْعَمَ الْجَلَّالَةَ طَعَامًا طَاهِرًا وَطَابَ لَحْمُهَا لَمْ يُكْرَهْ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "تُعْلَفُ الْجَلَّالَةُ عَلَفًا طَاهِرًا إنْ كَانَتْ نَاقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَتْ دَجَاجَةً فَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْجَلَّالَةُ هِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَالنَّجَاسَاتِ، وَتَكُونُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ أَكْثَرُ أَكْلِهَا النَّجَاسَةَ فَهِيَ جَلَّالَةٌ، وَإِنْ كَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ فَلَا، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالرَّائِحَةِ وَالنَّتْنِ فَإِنْ وُجِدَ فِي عُرْفِهَا وَغَيْرِهِ رِيحُ النَّجَاسَةِ فَجَلَّالَةٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِذَا تَغَيَّرَ لَحْمُ الْجَلَّالَةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أصحهما: عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُعْتَمَدِينَ، أَنَّهُ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ قَالَ الرَّافِعِيُّ: صَحَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ والثاني: كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْقَفَّالُ وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، وَقِيلَ: هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وُجِدَتْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ بِتَمَامِهَا أَوْ قَرُبَتْ الرَّائِحَةُ مِنْ الرَّائِحَةِ فَإِنْ قَلَّتْ الرَّائِحَةُ الْمَوْجُودَةُ لَمْ تَضُرَّ قَطْعًا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ حُبِسَتْ بَعْدَ ظُهُورِ النَّتْنِ وَعُلِفَتْ شَيْئًا طَاهِرًا فَزَالَتْ الرَّائِحَةُ ثُمَّ ذُبِحَتْ، فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا قَطْعًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ لِلْقَدْرِ الَّذِي تَعْلِفُهُ مِنْ حَدٍّ وَلَا لِزَمَانِهِ مِنْ ضَبْطٍ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِمَا يُعْلَمُ فِي الْعَادَةِ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ رَائِحَةَ النَّجَاسَةِ تَزُولُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ تُعْلَفْ لَمْ يَزُلْ الْمَنْعُ بِغَسْلِ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَا بِالطَّبْخِ وَإِنْ زَالَتْ الرَّائِحَةُ بِهِ، وَلَوْ زَالَتْ بِمُرُورِ الزَّمَانِ، قَالَ الْبَغَوِيّ: لَا يَزُولُ الْمَنْعُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَزُولُ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَمَا مُنِعَ لَحْمُهَا يُمْنَعُ لَبَنُهَا وَبَيْضُهَا، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي لَبَنِهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ الرُّكُوبُ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّاكِبِ حَائِلٌ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إذَا حَرَّمْنَا لَحْمَهَا فَهُوَ نَجِسٌ1، وَيُطَهَّرُ جِلْدُهَا بِالدِّبَاغِ، وَهَذَا يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْجِلْدِ أَيْضًا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ نَجِسٌ إنْ ظَهَرَتْ الرَّائِحَةُ فِيهِ، وَكَذَا إنْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ كَاللَّحْمِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَظُهُورُ النَّتْنِ وَإِنْ حَرَّمْنَا اللَّحْمَ وَنَجَّسْنَاهُ فَلَا نَجْعَلُهُ مُوجِبًا لِنَجَاسَةِ الْحَيَوَانِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّا لَوْ نَجَّسْنَاهُ صَارَ كَالْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، بَلْ إذَا حَكَمْنَا بِتَحْرِيمِ اللَّحْمِ كَانَ الْحَيَوَانُ كَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ. وَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: السَّخْلَةُ الْمُرَبَّاةُ بِلَبَنِ الْكَلْبَةِ لَهَا حُكْمُ الْجَلَّالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَفِيهَا وجهان أصحهما: يَحِلُّ أَكْلُهَا والثاني: لَا يَحِلُّ، وَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَحْرُمُ الزَّرْعُ الْمُزَبَّلُ، وَإِنْ كَثُرَ الزِّبْلُ فِي أَصْلِهِ، لَا مَا يُسْقَى مِنْ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ مَاءً نَجِسًا، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بَيَانُ هَذَا مَعَ نَظَائِرِهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهكذا وردت في جميع الأصول والصواب (ولا يطهر جلدها بالدبغ) وذلك لقاعدة أن ما يحرم لحمه ويكون نجس العين فإنه لا يطهر بالدبغ ما عدا الميتة لمأكول اللحم؟ والله أعلم (ط).

 

ج / 9 ص -22-         فرع: لَوْ عُجِنَ دَقِيقٌ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَخَبَزَهُ فَهُوَ نَجِسٌ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهُ لِشَاةٍ أَوْ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ وَنَحْوِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّهِ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَنِ الْكَبِيرِ فِي بَابِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَفِي فَتَاوَى صَاحِبِ الشَّامِلِ أَنَّهُ يُكْرَهُ إطْعَامُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ نَجَاسَةً، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي الطَّعَامِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجَسِ الْعَيْنِ، وَمُرَادُ صَاحِبِ الشَّامِلِ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ إطْعَامُ الطَّعَامِ الْمَعْجُونِ بِمَاءٍ نَجِسٍ لِصُعْلُوكٍ وَسَائِلٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْآدَمِيِّينَ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَكْلِ الْمُتَنَجِّسِ بِخِلَافِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْفَتَاوَى: وَلَا يُكْرَهُ أَكْلُ الْبَيْضِ الْمَصْلُوقِ بِمَاءٍ نَجِسٍ كَمَا لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ سُخِّنَ بِالنَّجَاسَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْجَلَّالَةِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ لَحْمُهَا كُرِهَتْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا تَحْرُمُ، سَوَاءٌ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا وَبَيْضُهَا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَدَاوُد، وَكَذَا لَا يَحْرُمُ مَا سُقِيَ مِنْ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ مَاءً نَجِسًا. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَحْرُمُ لَحْمُ الْجَلَّالَةِ وَلَبَنُهَا حَتَّى تُحْبَسَ وَتُعْلَفَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالَ: وَيَحْرُمُ الثِّمَارُ وَالزُّرُوعُ وَالْبُقُولُ الْمَسْقِيَّةُ مَاءً نَجِسًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ أَنَّ مَا تَأْكُلُهُ الدَّابَّةُ مِنْ الطَّاهِرَاتِ يَتَنَجَّسُ إذَا حَصَلَ فِي كَرِشِهَا، وَلَا يَكُونُ غِذَاؤُهَا إلَّا بِالنَّجَاسَةِ، وَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي إبَاحَةِ لَحْمِهَا وَلَبَنِهَا وَبَيْضِهَا، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ الَّتِي تَأْكُلُهَا تَنْزِلُ فِي مَجَارِي الطَّعَامِ وَلَا تُخَالِطُ اللَّحْمَ، وَإِنَّمَا يَنْتَشِي اللَّحْمُ بِهَا، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا حَيَوَانُ الْبَحْرِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْهُ السَّمَكُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ:
"أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ1 وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ"وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ الضِّفْدَعِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ"وَلَوْ حَلَّ أَكْلُهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ قَتْلِهِ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ وَجْهَانِ أحدهما: يَحِلُّ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْبَحْرِ: اغْتَسِلُوا مِنْهُ وَتَوَضَّئُوا بِهِ فَإِنَّهُ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ فَحَلَّ أَكْلُهُ كَالسَّمَكِ والثاني:[أَنَّ]مَا أُكِلَ مِثْلُهُ فِي الْبَرِّ حَلَّ أَكْلُهُ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِثْلُهُ فِي الْبَرِّ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ اعْتِبَارًا بِمِثْلِهِ.
الشرح:
أَمَّا الْأَثَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَصَحِيحٌ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي أَكْلِ الْجَرَادِ وأما حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الصَّحَابِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. قَالَ: "سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا"وأما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي
_________________________________
1 في بعض النسخ (فالسمك)(ط).

 

ج / 9 ص -23-         الْبَحْرِ فَصَحِيحٌ وَلَفْظُهُ: "سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَالطِّحَالُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالضِّفْدَعُ بِكَسْرِ الضَّادِ وَبِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الْكَسْرُ أَفْصَحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْفَتْحَ قوله: حَيَوَانٌ لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ احْتِرَازً مِنْ السِّبَاعِ وَنَحْوِهَا.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَيَوَانُ الَّذِي لَا يُهْلِكُهُ الْمَاءُ ضَرْبَانِ أحدهما: مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ كَانَ عَيْشُهُ عَيْشَ الْمَذْبُوحِ، كَالسَّمَكِ بِأَنْوَاعِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَبْحِهِ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ يَحِلُّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ مَاتَ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ كَضَغْطَةٍ أَوْ صَدْمَةِ حَجَرٍ أَوْ انْحِسَارِ مَاءٍ أَوْ ضَرْبٍ مِنْ الصَّيَّادِ أَوْ غَيْرِهِ. أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءٌ طَفَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ أَمْ لَا، وَكُلُّهُ حَلَالٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَأَمَّا مَا لَيْسَ عَلَى صُورَةِ السُّمُوكِ الْمَشْهُورَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ يَحِلُّ الْجَمِيعُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لَلشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ، وَاخْتِلَافُ الْعِرَاقِيِّينَ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ اسْمَ السَّمَكِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}[المائدة: من الآية96] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: صَيْدُهُ مَا صِيدَ، وَطَعَامُهُ مَا قُذِفَ، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ"هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"
والوجه الثاني: يَحْرُمُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ الثالث: مَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ كَالْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَغَيْرِهِمَا فَحَلَالٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ كَخِنْزِيرِ الْمَاءِ وَكَلْبِهِ فَحَرَامٌ فَعَلَى هَذَا مَا لَا نَظِيرَ لَهُ حَلَالٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي دَلِيلِ الْأَصَحِّ وَعَلَى هَذَا الثَّالِثِ لَا يَحِلُّ مَا أَشْبَهَ الْحِمَارَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَرِّ حِمَارُ الْوَحْشِ الْمَأْكُولُ، صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا أَبَحْنَا الْجَمِيعَ فَهَلْ تُشْتَرَطُ الذَّكَاةُ أَمْ تَحِلُّ مَيْتَتُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، وَيُقَالُ قَوْلَانِ أصحهما: يَحِلُّ مَيْتَتُهُ الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَفِي الْبَرِّ أَيْضًا فَمِنْهُ طَيْرُ الْمَاءِ كَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ حَلَالٌ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَحِلُّ مَيْتَتُهُ بِلَا خِلَافٍ بَلْ تُشْتَرَطُ ذَكَاتُهُ، وَعَدَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الضِّفْدَعَ وَالسَّرَطَانَ وَهُمَا مُحَرَّمَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَفِيهِمَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهَا حَلَالٌ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ فِي السَّرَطَانِ عَنْ الْحَلِيمِيِّ، وَذَوَاتُ السَّمُومِ كَالْحَيَّةِ وَغَيْرِهَا حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ.
وأما التِّمْسَاحُ فَحَرَامٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالْأَكْثَرُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ وأما السُّلَحْفَاةُ فَحَرَامٌ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاسْتَثْنَى جَمَاعَةٌ الضِّفْدَعَ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ، تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ حِلُّ الْجَمِيعِ، وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ، قَالَ: وَمُقْتَضَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَوْعٌ مِنْهَا كَذَا وَنَوْعٌ كَذَا، قَالَ: وَاسْتَثْنَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ النَّسْنَاسَ أَيْضًا فَجَعَلَهُ حَرَامًا، وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَخَالَفَهُمَا الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ فَأَبَاحُوهُ قُلْتُ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْبَحْرِ تَحِلُّ مَيْتَتُهُ إلَّا الضِّفْدَعَ وَيُحْمَلُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ أَوْ بَعْضُهُمْ مِنْ السُّلَحْفَاةِ وَالْحَيَّةِ وَالنَّسْنَاسِ عَلَى مَا يَكُونُ فِي مَاءٍ غَيْرِ الْبَحْرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 9 ص -24-         فرع: قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَطْلَقَ مُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِحِلِّ طَيْرِ الْمَاءِ وَكُلُّهَا حَلَالٌ إلَّا اللَّقْلَقَ فَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ قَالَ وَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ: لَا يُؤْكَلُ طَيْرُ الْمَاءِ الْأَبْيَضُ لِخُبْثِ لَحْمِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِنَا حِلُّ جَمِيعِ مَيْتَاتِ الْبَحْرِ إلَّا الضِّفْدَعَ، وَحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: يَحِلُّ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ الضِّفْدَعُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ غَيْرُ السَّمَكِ.
فرع: السَّمَكُ الطَّافِي حَلَالٌ وَهُوَ الَّذِي مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، فَيَحِلُّ عِنْدَنَا كُلُّ مَيْتَاتِ الْبَحْرِ غَيْرَ الضِّفْدَعِ، سَوَاءٌ مَا مَاتَ بِسَبَبٍ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمَكْحُولٍ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ رضي الله عنهم قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ مَاتَ بِسَبَبٍ كَضَرْبٍ وَانْحِسَارِ الْمَاءِ عَنْهُ حَلَّ. وَإِنْ مَاتَ بِلَا سَبَبٍ حَرُمَ. وَإِنْ مَاتَ بِسَبَبِ حَرِّ الْمَاءِ أَوْ بَرْدِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ، وَالْخِلَافُ بِمَسْأَلَةِ السَّمَكِ الطَّافِي، وَمِمَّنْ قَالَ بِمَنْعِ السَّمَكِ الطَّافِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَطَاوُسٌ. وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
" مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: صَيْدُهُ مَا صِدْتُمُوهُ، وَطَعَامُهُ مَا قُذِفَ، وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَبِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثمِائَةِ رَاكِبٍ وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَطْلُبُ خَبَرَ قُرَيْشٍ، فَأَقَمْنَا عَلَى السَّاحِلِ حَتَّى فَنِيَ زَادُنَا، فَأَكَلْنَا الْخَبَطَ، ثُمَّ إنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى إلَيْنَا دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ حَتَّى صَلُحَتْ أَجْسَامُنَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "غَزَوْنَا فَجُعْنَا حَتَّى إنَّ الْجَيْشَ لَيَقْسِمُ التَّمْرَةَ وَالتَّمْرَتَيْنِ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ إذَا رَمَى الْبَحْرُ بِحُوتٍ مَيِّتٍ، فَاقْتَطَعَ النَّاسُ مِنْهُ مَا شَاءُوا مِنْ لَحْمٍ وَشَحْمٍ وَهُوَ مِثْلُ الطَّرَبِ، فَبَلَغَنِي أَنَّ النَّاسَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ فَقَالَ لَهُمْ: أَمَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ فِيهِ حَلَالٌ لِمَنْ أَرَادَ أَكْلَهَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَا: "الْجَرَادُ وَالنُّونُ1 زَكِيٌّ كُلُّهُ" وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّيْنِ أَنَّهُمَا أَكَلَا السَّمَكَ الطَّافِيَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"لَا بَأْسَ بِالسَّمَكِ الطَّافِي" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بِأَكْلِ مَا لَفَظَ الْبَحْرُ بَأْسًا" وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِثْلُهُ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذَا كُلُّهُ بِأَسَانِيدِهِ الْمُتَّصِلَةِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النون: الحوت

 

ج / 9 ص -25-         وأما الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ فَهُوَ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ فَكَيْفَ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم الْمُنْتَشِرَةِ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمِّيَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ كَثِيرُ الْوَهْمِ سَيِّئُ الْحِفْظِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمِّيَّةَ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ، قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَيْسَ هُوَ بِمَحْفُوظٍ، قَالَ: وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ خِلَافُهُ، قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ لِأَثَرِ ابْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ شَيْئًا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ مَتْرُوكٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَ وَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَ: وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا وَلَا يُحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ بَقِيَّةُ فَكَيْفَ بِمَا يُخَالِفُ قَالَ: وَقَوْلُ الْجَمَاعَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ جَابِرٍ مَعَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا غَيْرُ الْحَيَوَانِ فَضَرْبَانِ طَاهِرٌ وَنَجِسٌ فأما: النَّجِسُ فَلَا يُؤْكَلُ لقوله تعالى: 
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[لأعراف: من الآية157] وَالنَّجِسُ خَبِيثٌ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ "إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ" فَلَوْ حَلَّ أَكْلُهُ لَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ وأما الطَّاهِرُ فَضَرْبَانِ ضَرْبٌ  يَضُرُّ وَضَرْبٌ لَا يَضُرُّ، فَمَا يَضُرُّ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ كَالسُّمِّ وَالزُّجَاجِ وَالتُّرَابِ وَالْحَجَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}[النساء: من الآية29]وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة: من الآية195]وَأَكْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَهْلُكَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ، وَمَا لَا يَضُرُّ يَحِلُّ أَكْلُهُ كَالْفَوَاكِهِ وَالْحُبُوبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ }[لأعراف: من الآية32].
الشَّرْحُ:  أَمَّا حَدِيثُ فَأْرَةِ السَّمْنِ فَبَعْضُهُ فِي الصَّحِيحِ وَبَعْضُهُ فِي غَيْرِهِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ"أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ"وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَمْ يُضَعِّفْهُ وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادِ أَبِي دَاوُد ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، قَالَ سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ هُوَ خَطَأٌ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَلَمْ يُضَعِّفْهُ، فَهُوَ وَأَبُو دَاوُد مُتَّفِقَانِ عَلَى السُّكُوتِ عَلَيْهِ، مَعَ صِحَّةِ إسْنَادِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ"وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ".
وأما السَّمُّ وَالزُّجَاجُ فَفِيهِمَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ فَتْحُ السِّينِ وَالزَّايِ وَضَمُّهُمَا وَكَسْرُهُمَا وَالْفَصِيحُ فَتْحِ السِّينِ وَضَمُّ الزَّايِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ:

 

ج / 9 ص -26-         إحْدَاهَا:  قَالَ أَصْحَابُنَا يَحْرُمُ أَكْلُ نَجِسِ الْعَيْنِ، كَالْمَيْتَةِ وَلَبَنِ الْأَتَانِ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَا يَحْرُمُ أَكْلُ الْمُتَنَجِّسِ كَاللَّبَنِ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ وَالطَّبِيخِ وَالدُّهْنِ وَغَيْرِهَا إذَا تَنَجَّسَتْ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّ الدُّهْنَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ إذَا غُسِلَ طَهُرَ وَحَلَّ أَكْلُهُ وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ نَجِسٍ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ الدُّودُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْفَوَاكِهِ وَالْجُبْنِ وَالْخَلِّ وَالْبَاقِلَا وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ فِيمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ نَجِسَ بِالْمَوْتِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِي حِلِّ أَكْلِ هَذَا الدُّودِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا:  يَحِلُّ أَكْلُهُ مَعَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ لَا مُنْفَرِدًا والثاني: يَحِلُّ مُطْلَقًا وَالثَّالِثُ:  يَحْرُمُ مُطْلَقًا، فَعَلَى الصَّحِيحِ يَكُونُ نَجِسًا لَا ضَرَرَ فِي أَكْلِهِ، وَيَحِلُّ أَكْلُهُ مَعَهُ، فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِثْنَائِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَنَجَّسَ فَمُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ قَبْلَ غَسْلِهِ، لِأَنَّ مَا يَصِلُ إلَيْهِ يَنْجَسُ فَيَكُونُ أَكْلَ نَجَاسَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَالِغَ فِي غَسْلِهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي آخِرِ بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ.
الثَّانِيَةُ:  لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا فِيهِ ضَرَرٌ مِنْ الطَّاهِرَاتِ كَالسَّمِّ الْقَاتِلِ وَالزُّجَاجِ وَالتُّرَابِ الَّذِي يُؤْذِي الْبَدَنَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْكُلُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ وَبَعْضُ السُّفَهَاءِ، وَكَذَلِكَ الْحَجَرُ الَّذِي يَضُرُّ أَكْلُهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَدَلِيلُهُ فِي الْكِتَابِ، قَالَ إبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: وَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الطِّينِ، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِالتَّحْرِيمِ إنْ ظَهَرَتْ الْمَضَرَّةُ فِيهِ، وَقَدْ جَزَمَ الْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ التُّرَابِ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي بَابِ الرِّبَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجُوزُ شُرْبُ دَوَاءٍ فِيهِ قَلِيلُ سَمٍّ إذَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ وَاحْتِيجَ إلَيْهِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ تُصُوِّرَ شَخْصٌ لَا يَضُرُّهُ أَكْلُ السُّمُومِ الطَّاهِرَةِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ إذْ لَا ضَرَرَ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَالنَّبَاتُ الَّذِي يُسْكِرُ وَلَيْسَ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ يَحْرُمُ أَكْلُهُ، وَلَا حَدَّ عَلَى آكِلِهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّوَاءِ، وَإِنْ أَفْضَى إلَى السُّكْرِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ، قَالَ: وَمَا يُسْكِرُ مَعَ غَيْرِهِ وَلَا يُسْكِرُ بِنَفْسِهِ إنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي دَوَاءٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي التَّدَاوِي حَلَّ التَّدَاوِي بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثالثة: كُلُّ طَاهِرٍ لَا ضَرَرَ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ إلَّا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ، وَذَلِكَ كَالْخُبْزِ وَالْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْحُبُوبِ وَاللُّحُومِ الطَّاهِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْإِجْمَاعُ وأما الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ فَأَحَدُهَا:  الْمُسْتَقْذَرَاتُ كَالْمُخَاطِ وَالْمَنِيِّ وَنَحْوِهِمَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا حَلَالٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ فِي الْمَنِيِّ أَبُو زَيْدٍ الْمَرُّوذِيُّ وَحُكْمُ الْعَرَقِ حُكْمُ الْمَنِيِّ وَالْمُخَاطِ، وَقَدْ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَقِبَ كِتَابِ السَّلَمِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ لَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ الْعَرَقِ. الثَّانِي:  الْحَيَوَانُ الصَّغِيرُ كَصِغَارِ الْعَصَافِيرِ وَنَحْوِهَا يَحْرُمُ ابْتِلَاعُهُ حَيًّا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِذَكَاةٍ، هَذَا فِي غَيْرِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ أَمَّا: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ فَيَحِلُّ ابْتِلَاعُهُمَا فِي الْحَيَاةِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. الثالث: جِلْدُ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغُ فِي أَكْلِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَوْ أَوْجُهٍ سَبَقَتْ، فِي بَابِ الْآنِيَةِ أَصَحُّهَا: أَنَّهُ حَرَامٌ والثاني: حَلَالٌ والثالث: إنْ كَانَ جِلْدَ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ فَحَلَالٌ وَإِلَّا فَلَا. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَثْنِهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزَّيْتِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ

 

ج / 9 ص -27-         الْحَدِيثِ: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "فَلَا تَقْرَبُوهُ" وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا شُرْبُهُ، وَيَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ وَبَيْعُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ، وَيَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ. وَقَالَ دَاوُد: إنْ كَانَ هَذَا سَمْنًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ، وَإِنْ كَانَ زَيْتًا لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ، وَزَعَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ مُخْتَصٌّ بِالسَّمْنِ، وَهُوَ لَا يُقَاسُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ، وَأَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ جَوَازُ الِاسْتِصْبَاحِ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ، سَوَاءٌ وَدَكُ1 الْمَيْتَةِ وَغَيْرُهُ، وَسَبَقَتْ هُنَاكَ مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالنَّجَاسَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: وَقَعَتْ فَأْرَةٌ مَيْتَةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ دِبْسٍ أَوْ عَجِينٍ أَوْ طَبِيخٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: حُكْمُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَائِعًا نَجَّسَتْهُ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا أُلْقِيَتْ النَّجَاسَةُ وَمَا حَوْلَهَا، وَبَقِيَ الْبَاقِي طَاهِرًا، قَالُوا: وَضَابِطُ الْجَامِدِ أَنَّهُ إذَا أُخِذَتْ مِنْهُ قِطْعَةٌ لَمْ يُرَادَّ إلَى مَوْضِعِهَا مِنْهُ عَلَى الْقُرْبِ مَا يَمْلَؤُهَا فَإِنْ تَرَادَّ فَمَائِعٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فِي مَسْأَلَةِ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: لَوْ نَصَبَ قِدْرًا عَلَى النَّارِ وَفِيهَا لَحْمٌ فَوَقَعَ فِيهَا طَائِرٌ فَمَاتَ، فَأُخْرِجَ الطَّائِرُ، صَارَ مَا فِي الْقِدْرِ نَجِسًا فَيُرَاقُ الْمَرَقُ وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ اللَّحْمِ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ. هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: كَمَذْهَبِنَا وأصحهما: عَنْهُ أَنَّهُ يُرَاقُ الْمَرَقُ وَيُرْمَى اللَّحْمُ فَلَا يُؤْكَلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ، فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: لَوْ وَقَعَتْ ذُبَابَةٌ أَوْ نَحْلَةٌ فِي قِدْرِ طَبِيخٍ وَتَهَرَّأَتْ أَجْزَاؤُهَا فِيهِ، لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُ ذَلِكَ الطَّبِيخِ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الذُّبَابِ وَالنَّمْلِ وَنَحْوِهِ إنَّمَا كَانَ لِلِاسْتِقْذَارِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا مُسْتَقْذَرًا قَالَ: وَلَوْ وَقَعَ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ لَحْمِ آدَمِيٍّ مَيِّتٍ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الطَّبِيخِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لَحْمُ الْآدَمِيِّ وَزْنَ دَانِقٍ حَرَامٌ الطَّبِيخُ، لَا لِنَجَاسَتِهِ، فَإِنَّ الْآدَمِيَّ الْمَيِّتَ طَاهِرٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ أَكْلَ الْآدَمِيِّ حَرَامٌ لِحُرْمَتِهِ لَا لِاسْتِقْذَارِهِ، بِخِلَافِ الذُّبَابِ، هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ، وَالْمُخْتَارُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الطَّبِيخُ فِي مَسْأَلَةِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فَهُوَ كَالْبَوْلِ وَغَيْرِهِ إذَا وَقَعَ فِي قُلَّتَيْنِ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لِأَنَّ الْبَوْلَ صَارَ بِاسْتِهْلَاكِهِ كَالْمَعْدُومِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَمَنْ اضْطَرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ، لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ }[البقرة: من الآية173] وَهَلْ يَجِبُ أَكْلُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يَجِبُ لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ }[النساء: من الآية29] والثاني: لَا يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي تَرْكِهِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْبَعَ مِنْهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: لَا يَجُوزُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَكْلِ وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ والثاني: يَحِلُّ، لِأَنَّ كُلَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الودك: الدسم.

 

ج / 9 ص -28-         طَعَامٍ جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنْهُ، كَالطَّعَامِ الْحَلَالِ. وَإِنْ اضْطَرَّ إلَى طَعَامِ غَيْرِهِ وَصَاحِبُهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ بَذْلِهِ إعَانَةٌ عَلَى قَتْلِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ."وَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ ثَمَنَ الْمِثْلِ لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، فَإِنْ طَلَبَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاتَلَتِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ ثَمَنٌ فِي بَيْعٍ صَحِيحٍ والثاني: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا ثَمَنُ الْمِثْلِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى شِرَائِهِ فَلَمْ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَإِنْ وَجَدَ الْمَيْتَةَ وَطَعَامَ الْغَيْرِ وَصَاحِبُهُ غَائِبٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ، فَكَانَ أَوْلَى والثاني: يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَطَعَامُ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ، فَقُدِّمَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمَنْعَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّسْهِيلِ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّشْدِيدِ.
وَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَصَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إذَا قُلْنَا: إنَّهُ إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً أَكَلَ الْمَيْتَةَ وَتَرَكَ الصَّيْدَ، لِأَنَّهُ إذَا ذَكَّاهُ صَارَ مَيْتَةً، وَلَزِمَهُ الْجَزَاءُ وإن قلنا: إنَّهُ لَا يَصِيرُ مَيْتَةً أَكَلَ الصَّيْدَ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ أَخَفُّ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَالْمَيْتَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنْ قُلْنَا إنَّهُ يَصِيرُ مَيْتَةً أَكَلَ الْمَيْتَةَ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ لَا يَكُونُ مَيْتَةً فَفِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يَذْبَحُ الصَّيْدَ وَيَأْكُلُهُ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ أَخَفُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ والثاني: أَنَّهُ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَالصَّيْدُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَإِنْ اُضْطُرَّ وَوَجَدَ آدَمِيًّا مَيْتًا جَازَ لَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ وَجَدَ مُرْتَدًّا أَوْ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ فِي الزِّنَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ، لِأَنَّ قَتْلَهُ مُسْتَحَقٌّ، وَإِنْ اُضْطُرَّ وَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ وَيَأْكُلَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ إحْيَاءُ نَفْسٍ بِعُضْوٍ فَجَازَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ عُضْوًا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْآكِلَةُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إذَا قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ كَانَ الْمَخَافَةُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ الْبَوْلِ شَرِبَ الْبَوْلَ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، أَغْلَظُ وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ فَكَانَ الْبَوْلُ أَوْلَى وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَحْدَهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أحدهما: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ"والثاني: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا والثالث: أَنَّهُ إنْ اُضْطُرَّ إلَى شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهَا تُزِيدُ فِي الْإِلْهَابِ وَالْعَطَشِ، وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا لِلتَّدَاوِي جَازَ
الشرح:
حَدِيثُ"مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ" رَوَاهُ1

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 بياض بالأصل والسقط (ابن ماحه عن أبي هريرة) ورمز له في جمع الجوامع الإمام السيوطي بأبي داود والبيهقي في السنن  عن إبي هريرة والطبراني عن ابن عساكر عن ابن عمر عن الزهري مرسلا.

 

ج / 9 ص -29-         وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ مَسْتُورٌ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُ الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَةِ الْمَسْتُورِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا1 أَمَّا الْأَحْكَامُ فَفِيهَا مَسَائِلُ:
إحْدَاهَا: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إذَا لَمْ يَجِدْ طَاهِرًا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ النَّجَاسَاتِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَدَلِيلُهُ فِي الْكِتَابِ، وَفِي وُجُوبِ هَذَا الْأَكْلِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: يَجِبُ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الْبَاقُونَ والثاني: لَا يَجِبُ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْأَكْلَ فَإِنَّمَا يَجِبُ سَدُّ الرَّمَقِ دُونَ الشِّبَعِ، صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إذَا وَجَدَ طَاهِرًا يَمْلِكُهُ لَزِمَهُ أَكْلُهُ.
الثَّانِيَةُ: فِي حَدِّ الضَّرُورَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا خِلَافَ أَنَّ الْجُوعَ الْقَوِيَّ لَا يَكْفِي لِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، قَالُوا: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِامْتِنَاعُ إلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ حِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُ، وَلَوْ انْتَهَى إلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ جُوعٍ أَوْ ضَعْفٍ عَلَى الْمَشْيِ أَوْ عَنْ الرُّكُوبِ وَيَنْقَطِعُ عَنْ رُفْقَتِهِ وَيَضِيعُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَوْ خَافَ حُدُوثَ مَرَضٍ مَخُوفٍ فِي جِسْمِهِ فَهُوَ كَخَوْفِ الْمَوْتِ، وَإِنْ خَافَ طُولَ الْمَرَضِ فَكَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: إنَّهُمَا قَوْلَانِ، وَلَوْ عِيلَ صَبْرُهُ وَأَجْهَدَهُ الْجُوعُ فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ الْمَيْتَةُ وَنَحْوُهَا؟ أَمْ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَصِلَ إلَى أَدْنَى الرَّمَقِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ أصحهما: الْحِلُّ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَخَافُهُ تَيَقُّنُ وُقُوعِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ، بَلْ يَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ، قَالُوا: كَمَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ يُبَاحُ لَهُ أَكْلُهَا إذَا ظَنَّ وُقُوعَ مَا خُوِّفَ بِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَطَّلِعُ، عَلَى الْغَيْبِ، وَجُمْلَةُ جِهَاتِ الظَّنِّ مُسْتَنَدُهَا الظَّنُّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الثالثة: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ بِلَا خِلَافٍ وَلَا يُبَاحُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الشِّبَعِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي حِلِّ الشِّبَعِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْأَصْحَابَ نَقَلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لَا يُبَاحُ الشِّبَعُ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ سَدُّ الرَّمَقِ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالَةٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا فِي الِابْتِدَاءِ لَمَا جَازَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَزُولُ بِهَذَا، وَالتَّمَادِي فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُمْتَنِعٌ.
والثاني: يُبَاحُ الشِّبَعُ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ مَعْنَى الشِّبَعِ أَنْ يَمْتَلِئَ حَتَّى لَا يَجِدَ لِلطَّعَامِ مَسَاغًا. وَلَكِنْ إذَا انْكَسَرَتْ سَوْرَةُ الْجُوعِ بِحَيْثُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَائِعٍ أَمْسَكَ.
والثالث: إنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ الْعُمْرَانِ حَلَّ الشِّبَعُ وَإِلَّا فَلَا هَكَذَا أَطْلَقَ الْخِلَافَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي الطَّرِيقَيْنِ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَكَذَا عَنْ الْأَصْحَابِ ثُمَّ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ التَّفْصِيلُ، وَذَكَرَ هُوَ وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلًا جَاءَ نَقْلُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي بَادِيَةٍ وَخَافَ: إنْ تَرَكَ الشِّبَعَ أَنْ لَا يَقْطَعَهَا وَيَهْلَكَ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَشْبَعُ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَتَوَقَّعَ طَعَامًا طَاهِرًا قَبْلَ عَوْدَةِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ورواه الطبراني في الكبير عن أم سلمة والحاكم في المستدرك والبيهقي عن ابن مسعود موقوفا (ط).

 

ج / 9 ص -30-         الْقَطْعُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ حُصُولُ طَعَامٍ طَاهِرٍ وَأَمْكَنَ الْحَاجَةُ إلَى الْعَوْدِ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إنْ لَمْ يَجِدْ الطَّاهِرَ فَهَذَا مَحِلُّ الْخِلَافِ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَهُوَ الرَّاجِحُ وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي الرَّاجِحِ مِنْ الْخِلَافِ فَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا حِلَّ الشِّبَعِ، وَرَجَّحَ الْقَفَّالُ وَكَثِيرُونَ وُجُوبَ الِاقْتِصَارِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ وَتَحْرِيمَ الشِّبَعِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّدُ مِنْ الْمَيْتَةِ إنْ لَمْ يَرْجُ الْوُصُولَ إلَى طَاهِرٍ فَإِنْ رَجَاهُ فَوَجْهَانِ أحدهما: لَا يَجُوزُ وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وأصحهما: يَجُوزُ وَبِهِ قَطَعَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ، وَزَادَ الْقَفَّالُ فَقَالَ: يَجُوزُ حَمْلُ الْمَيْتَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، مَا لَمْ يَتَلَوَّثْ بِهَا.
الْخَامِسَةُ: إذَا جَوَّزْنَا الشِّبَعَ فَأَكَلَ مَا سَدَّ رَمَقَهُ ثُمَّ وَجَدَ لُقْمَةً حَلَالًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الْمَيْتَةِ حَتَّى يَأْكُلَ تِلْكَ اللُّقْمَةَ فَإِذَا أَكَلَهَا هَلْ لَهُ إتْمَامُ الْأَكْلِ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَى الشِّبَعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ عَنْ شَيْخِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أصحهما: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا والثاني: لَا لِأَنَّهُ بِوُجُودِ اللُّقْمَةِ عَادَ إلَى الْمَنْعِ فَيَحْتَاجُ إلَى عَوْدِ الضَّرُورَةِ.
فرع: لَوْ لَمْ يَجِد الْمُضْطَرُّ إلَّا طَعَامَ غَيْرِهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْبَذْلِ فَلَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ لَهُ الشِّبَعُ؟ أَمْ يَلْزَمُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ؟ فِيهِ طُرُقٌ أَصَحُّهَا: طَرْدُ الْخِلَافِ كَالْمَيْتَةِ والثاني: يُبَاحُ الشِّبَعُ قَطْعًا والثالث: يَحْرُمُ قَطْعًا، بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ.
السَّادِسَةُ: فِي بَيَانِ جِنْسِ الْمُبَاحِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُحَرَّمُ الَّذِي يَحْتَاجُ الْمُضْطَرُّ إلَى تَنَاوُلِهِ ضَرْبَانِ مُسْكِرٌ وَغَيْرُهُ أَمَّا الْمُسْكِرُ فَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا وأما غَيْرُ الْمُسْكِرِ فَيُبَاحُ جَمِيعُهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إتْلَافُ مَعْصُومٍ فَيَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبُ الْبَوْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَيَجُوزُ لَهُ قَتْلُ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَأَكْلُهُمَا بِلَا خِلَافٍ وأما الزَّانِي الْمُحْصَنُ وَالْمُحَارِبُ وَتَارِكُ الصَّلَاةِ فَفِيهِمْ وجهان أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ: يَجُوزُ، قَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّا إنَّمَا مُنِعْنَا مِنْ قَتْلِ هَؤُلَاءِ تَفْوِيضًا إلَى السُّلْطَانِ لِئَلَّا يُفْتَاتَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْعُذْرُ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عِنْدَ تَحَقُّقِ ضَرُورَةِ الْمُضْطَرِّ وأما إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فَلَهُ قَتْلُهُ قِصَاصًا وَأَكْلُهُ سَوَاءٌ حَضَرَهُ السُّلْطَانُ أَمْ لَا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ.
وأما نِسَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانُهُمْ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِلْأَكْلِ، لِأَنَّ قَتْلَهُمْ حَرَامٌ فَأَشْبَهَ الذِّمِّيَّ والثاني: وَهُوَ الْأَصَحُّ: يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ، وَلَيْسَ الْمَنْعُ مِنْ قَتْلِهِمْ لِحُرْمَةِ نُفُوسِهِمْ، بَلْ لِحَقِّ الْغَانِمِينَ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَاتِلِهِمْ.
وأما الذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَمَعْصُومُونَ، فَيَحْرُمُ قَتْلُهُمْ لِلْأَكْلِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا

 

ج / 9 ص -31-         يَجُوزُ لِوَالِدٍ قَتْلُ وَلَدِهِ لِيَأْكُلَهُ، وَلَا لِلسَّيِّدِ قَتْلُ عَبْدِهِ لِيَأْكُلَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ. أَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُضْطَرُّ إلَّا آدَمِيًّا مَيِّتًا مَعْصُومًا فَفِيهِ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ الصحيح: الْجَوَازُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ آكَدُ والثاني: لَا، لِوُجُوبِ صِيَانَتِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: إنْ كَانَ الْمَيِّتُ كَافِرًا حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَوَجْهَانِ.
 ثُمَّ إنَّ الْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا الْمَسْأَلَةَ، قَالَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: لَا، إذَا كَانَ الْمَيِّتُ نَبِيًّا فَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ، لِكَمَالِ حُرْمَتِهِ وَمَزِيَّتِهِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ جَوَّزْنَا الْأَكْلَ مِنْ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهُ إلَّا مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ بِلَا خِلَافٍ حِفْظًا لِلْحُرْمَتَيْنِ، قَالَ: وَلَيْسَ لَهُ طَبْخُهُ وَشَيُّهُ، بَلْ يَأْكُلُهُ نِيئًا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِذَلِكَ وَفِي طَبْخِهِ هَتْكٌ لِحُرْمَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَيْتَاتِ، فَإِنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَهَا نِيئَةً وَمَطْبُوخَةً، وَلَوْ كَانَ الْمُضْطَرُّ ذِمِّيًّا وَوَجَدَ مُسْلِمًا فَفِي حِلِّ أَكْلِهِ لَهُ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ، وَلَمْ يُرَجِّحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَالْقِيَاسُ تَحْرِيمُهُ لِكَمَالِ شَرَفِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ وَجَدَ مَيْتَةً وَلَحْمَ آدَمِيٍّ أَكَلَ الْمَيْتَةَ، وَلَمْ يَجُزْ أَكْلُ الْآدَمِيِّ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَيْتَةُ خِنْزِيرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَلَوْ وَجَدَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَلَحْمَ آدَمِيٍّ أَكَلَ الصَّيْدَ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ.
فرع: لَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ فَخِذِهِ أَوْ غَيْرِهَا لِيَأْكُلَهَا، فَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنْهُ كَالْخَوْفِ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ أَوْ أَشَدَّ، حَرُمَ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ، وَصَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، وَإِلَّا فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: جَوَازُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ والثاني: لَا يَجُوزُ، اخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ وَالنُّسَخِ، وَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَجِدَ شَيْئًا غَيْرَهُ، فَإِنْ وَجَدَ حَرُمَ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَعْصُومٍ غَيْرِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَيْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَعْضَائِهِ شَيْئًا لِيَدْفَعَهُ إلَى الْمُضْطَرِّ بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَصْحَابُ.
السَّابِعَةُ: إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ طَعَامًا حَلَالًا طَاهِرًا لِغَيْرِهِ فَلَهُ حَالَانِ أحدهما: أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا، فَإِنْ حَضَرَ نُظِرَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ أَيْضًا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَفْضُلْ عَنْ حَاجَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَالِكِ نَبِيًّا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ بَذْلُهُ لَهُ، هَكَذَا قَالُوهُ، وَالْحُكْمُ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ، وَتُتَصَوَّرُ فِي زَمَنِ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام وَقَدْ تَكُونُ مَسْأَلَةً عِلْمِيَّةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ آثَرَ الْمَالِكُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }[الحشر: من الآية9] قَالُوا: وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ مُسْلِمًا1، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في أمر التبرع بالكلية أو بأجزاء من الجسم أو بالدم لأخيه المسلم لأنجائه من الهلاك المحقق على ضوء ومسار هذا البحث والله أعلم.

 

ج / 9 ص -32-         يُؤْثِرُهُ حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا وَكَذَا لَا يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ بَهِيمَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالِكُ مُضْطَرًّا فَيَلْزَمُهُ إطْعَامُ الْمُضْطَرِّ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا وَكَذَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَالِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْخُذَهُ قَهْرًا، وَلَهُ مُقَاتَلَةُ الْمَالِكِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَتَى الْقِتَالُ عَلَى نَفْسِ الْمَالِكِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، وَإِنْ قَتَلَ الْمَالِكُ الْمُضْطَرَّ فِي الدَّفْعِ عَنْ طَعَامٍ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ مَنَعَهُ الطَّعَامَ فَمَاتَ جُوعًا فَلَا ضَمَانَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ قِيلَ يَضْمَنُ، لَكَانَ مَذْهَبًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي يَلْزَمُ الْمَالِكَ بَذْلُهُ، وَيَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ قَهْرًا، وَالْقِتَالُ عَلَيْهِ قَوْلَانِ أصحهما: مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ والثاني: قَدْرُ الشِّبَعِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ الْمَيْتَةِ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ الْأَخْذُ قَهْرًا وَالْقِتَالُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَجِبَ وَالْأَصَحُّ هُنَا أَنَّهُ يَجِبُ الْأَخْذُ قَهْرًا وَلَا يَجِبُ الْقِتَالُ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ دَفْعُ الصَّائِلِ فَهُنَا أَوْلَى.
وَخَصَّ الْبَغَوِيّ الْخِلَافَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَوْفٌ فِي الْأَخْذِ قَهْرًا، قَالَ فَإِنْ خَافَ لَمْ يَجِبْ قَطْعًا، وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا عَلَى الْمَالِكِ بَذْلَهُ لِلْمُضْطَرِّ فَفِي الْحَاوِي وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ مَجَّانًا، وَلَا يَلْزَمُ الْمُضْطَرَّ شَيْءٌ كَمَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ بِلَا شَيْءٍ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْبَذْلُ إلَّا بِعِوَضٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا خَلَصَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ بِالْوُقُوعِ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ، بِأَنَّ هُنَاكَ يَلْزَمُهُ التَّخْلِيصُ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى تَقْدِيرِ الْأُجْرَةِ، وَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَسَوَّى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُمَا وَقَالُوا: إنْ احْتَمَلَ الْحَالُ هُنَاكَ مُوَافَقَةً عَلَى أُجْرَةٍ يَبْذُلُهَا أَوْ يَلْتَزِمُهَا لَمْ يَلْزَمْ تَخْلِيصُهُ حَتَّى يَلْتَزِمَهَا، كَمَا فِي الْمُضْطَرِّ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ الْحَالُ التَّأْخِيرَ فِي صُورَةِ الْمُضْطَرِّ فَأَطْعَمَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِوَضُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ إنْ بَذَلَ الْمَالِكُ طَعَامَهُ مَجَّانًا لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَيَأْكُلُ مِنْهُ حَتَّى يَشْبَعَ وَإِنْ بَذَلَهُ بِالْعِوَضِ نُظِرَ إنْ لَمْ يُقَدَّرْ الْعِوَضُ لَزِمَ الْمُضْطَرَّ بَذْلُهُ، وَهُوَ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى يَشْبَعَ، وَإِنْ قُدِّرَ لَهُ الْعِوَضُ فَإِنْ لَمْ يُفْرِدْ مَا يَأْكُلُهُ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَفْرَدَهُ كَانَ الْمُقَدَّرُ ثَمَنَ الْمِثْلِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَلِلْمُضْطَرِّ مَا فَضَلَ عَنْ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَالْتَزَمَهُ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ لَازِمٍ وَأَصَحُّهَا عِنْدَ الرُّويَانِيِّ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا ثَمَنُ الْمِثْلِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ. والثالث: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَاوَرْدِيُّ إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْمُضْطَرِّ لِيَسَارٍ لَزِمَتْهُ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَنْبَغِي لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَحْتَالَ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ الْقِيمَةَ بِلَا خِلَافٍ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا يَلْزَمُهُ ثَمَنًا لَكِنَّ الْوَجْهَ جَعْلُ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ لِمَعْنًى، وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ هَلْ هُوَ مُكْرَهٌ أَمْ لَا؟ وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ: الشِّرَاءُ بِالثَّمَنِ الْغَالِي لِضَرُورَةٍ هَلْ تَجْعَلُهُ كَرْهًا حَتَّى لَا يَصِحَّ الشِّرَاءُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَقْيَسُهُمَا صِحَّةُ الْبَيْعِ، قَالَ: وَكَذَا الْمُصَادَرُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ الظَّالِمِ إذَا بَاعَ

 

ج / 9 ص -33-         لِلضَّرُورَةِ فِي الْمُصَادَرَةِ وَدَفْعِ الْأَذَى الَّذِي يَخَافُهُ فِيهِ وجهان أصحهما: صِحَّةُ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ عَلَى نَفْسِ الْبَيْعِ، وَمَقْصُودُ الظَّالِمِ تَحْصِيلُ الْمَالِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ، وَاحْتَجَّ بِهِ لِوَجْهِ لُزُومِ الْمُسَمَّى فِي مَسْأَلَةِ الْمُضْطَرِّ.
فرع: مَتَى بَاعَ لِلْمُضْطَرِّ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَمَعَ الْمُضْطَرِّ مَالٌ، لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ وَصَرْفُ مَا مَعَهُ مِنْ الْمَال إلَى الثَّمَنِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهُ سَاتِرُ عَوْرَتِهِ لَزِمَهُ صَرْفُهُ إلَيْهِ إنْ لَمْ يَخَفْ الْهَلَاكَ بِالْبَرْدِ وَيُصَلِّي عَارِيًّا، لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ أَخَفُّ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَخْذُ الطَّعَامِ قَهْرًا، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ سَائِرِ الْعَوْرَةِ قَهْرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَالٌ لَزِمَهُ الْتِزَامُهُ فِي ذِمَّتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَمْ لَا، وَيَلْزَمُ الْمَالِكَ فِي هَذَا الْحَالِ الْبَيْعُ نَسِيئَةً، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالشِّرَاءُ هُنَا وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ بَلْ يَجُوزُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ يَقُولُ لَا يَجِبُ، لِأَنَّ فِيهِ مُبَاشَرَةَ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا مَقْصُودٌ فِي مَسْأَلَةِ الطَّعَامِ الطَّاهِرِ.
فرع: لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ الْأَخْذُ قَهْرًا إذَا بَذَلَ الْمَالِكُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، فَإِنْ طَلَبَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ، وَيَأْخُذَهُ قَهْرًا وَيُقَاتِلَهُ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِالزِّيَادَةِ مَعَ إمْكَانِ أَخْذِهِ قَهْرًا فَهُوَ مُخْتَارٌ فِي الزِّيَادَةِ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى بِلَا خِلَافٍ، وَالْخِلَافُ السَّابِقُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ الْأَخْذِ قَهْرًا.
فرع: لَوْ أَطْعَمَهُ الْمَالِكُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِبَاحَةِ فَوَجْهَانِ الأصح: أَنَّهُ لَا عِوَضَ عَلَيْهِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْمُسَامَحَةِ الْمُعْتَادَةِ بِالطَّعَامِ. والثاني: يَلْزَمُهُ الْعِوَضُ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْخِلَافِ فِيمَنْ عُرِفَ بِالْعَمَلِ بِأُجْرَةٍ إذَا اسْتَعْمَلَهُ إنْسَانٌ بِغَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَالِكُ: أَطْعَمْتُكَ بِعِوَضٍ، فَقَالَ الْمُضْطَرُّ: بَلْ مَجَّانًا، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ قَوْلَيْنِ أصحهما: يُصَدَّقُ الْمَالِكُ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِدَفْعِهِ. والثاني: الْمُضْطَرُّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ، وَلَوْ أَوْجَرَ الْمَالِكُ الْمُضْطَرَّ قَهْرًا أَوْ أَوْجَرَهُ وَهُوَ مُغْمَى عَلَيْهِ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْقِيمَةَ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وجهان أصحهما: يَسْتَحِقُّ، لِأَنَّهُ خَلَّصَهُ مِنْ الْهَلَاكِ، كَمَنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ التَّحْرِيضِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
فرع: كَمَا يَجِبُ بَذْلُ الْمَالِ لِإِبْقَاءِ الْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ، يَجِبُ بَذْلُهُ لِإِبْقَاءِ الْبَهِيمَةِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْغَيْرِ، وَلَا يَجِبُ الْبَذْلُ لِلْحَرْبِيِّ وَلَا لِلْمُرْتَدِّ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ كَلْبٌ مُبَاحُ الْمَنْفَعَةِ جَائِعٌ وَشَاةٌ، لَزِمَهُ ذَبْحُ الشَّاةِ لِإِطْعَامِ الْكَلْبِ، قَالَ الْبَغَوِيّ: وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهَا لِأَنَّهَا ذُبِحَتْ لِلْأَكْلِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: وَلَوْ كَانَ مَعَهُ كَلْبٌ مُضْطَرٌّ وَمَعَ غَيْرِهِ شَاةٌ لَيْسَ مُضْطَرًّا إلَيْهَا لَزِمَهُ بَذْلُهَا. فَإِنْ امْتَنَعَ فَلِصَاحِبِ الْكَلْبِ قَهْرُهُ وَمُقَاتَلَتُهُ لِمَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ غَائِبًا فَيَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ طَعَامِهِ وَيَغْرَمُ لَهُ بَدَلَهُ، وَفِي وُجُوبِ الْأَكْلِ وَالْقَدْرِ الْمَأْكُولِ مَا سَبَقَ مِنْ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، وَالْوَلِيُّ غَائِبٌ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ فِي مَالِهِمَا كَكَامِلِ الْحَالِ فِي مَالِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذِهِ إحْدَى الصُّوَرِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُ مَالِ الصَّبِيِّ نَسِيئَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ وَهُوَ غَائِبٌ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ

 

ج / 9 ص -34-         أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا: يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، والثاني: يَجِبُ أَكْلِ الطَّعَامِ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ، والثالث: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَأَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْخِلَافِ فِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا فَإِنْ بَذَلَهُ بِلَا عِوَضٍ أَوْ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا، وَمَعَهُ ثَمَنُهُ، أَوْ رَضِيَ بِذِمَّتِهِ، لَزِمَهُ الْقَبُولُ، وَلَمْ يَجُزْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ، فَالْمَذْهَبُ وَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالطَّبَرِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ فَهُوَ كَمَا إذَا لَمْ يَبْذُلْهُ أَصْلًا، وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْهُ لَمْ يُقَاتِلْهُ عَلَيْهِ الْمُضْطَرُّ، إنْ خَافَ مِنْ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ خَافَ إهْلَاكَ الْمَالِكِ فِي الْمُقَاتَلَةِ، بَلْ يَعْدِلُ إلَى الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ لِضَعْفِ الْمَالِكِ وَسُهُولَةِ دَفْعِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِيمَا إذَا كَانَ غَائِبًا. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ: يَشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ الْغَالِي وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، ثُمَّ يَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى؟ أَمْ ثَمَنُ الْمِثْلِ؟ قَالَ: وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْ أَصْلًا وَقُلْنَا: طَعَامُ الْغَيْرِ أَوْلَى مِنْ الْمَيْتَةِ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَهُ وَيَأْخُذَهُ قَهْرًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
التَّاسِعَةُ: لَوْ اُضْطُرَّ مُحْرِمٌ وَلَمْ يَجِدْ إلَّا صَيْدًا فَلَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَإِنْ وَجَدَ صَيْدًا وَمَيْتَةً، فَلَهُ طَرِيقَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أحدهما: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقِينَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا ذَبَحَ صَيْدًا هَلْ يَصِيرُ مَيْتَةً؟ فَيَحْرُمَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ؟ أَمْ لَا يَكُونُ مَيْتَةً فَلَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِيرُ مَيْتَةً فإن قلنا: يَصِيرُ مَيْتَةً أَكَلَ الْمَيْتَةَ وَإِلَّا فَالصَّيْدُ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: إنْ قُلْنَا: يَصِيرُ مَيْتَةً أَكَلَ الْمَيْتَةَ، وَإِلَّا فَأَيَّهُمَا يَأْكُلُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ، وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ حَكَى فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَوْ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ والثاني: يَلْزَمَهُ أَكْلُ الصَّيْدِ والثالث: يَتَخَيَّرُ، وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالصَّحِيحُ عَلَى الْجُمْلَةِ وُجُوبُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ.
وَلَوْ وَجَدَ الْمُحْرِمُ لَحْمَ صَيْدٍ مَذْبُوحٍ وَمَيْتَةً، فَإِنْ كَانَ ذَابِحُهُ حَلَالًا ذَبَحَهُ لِنَفْسِهِ فَهَذَا مُضْطَرٌّ وَجَدَ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ، وَإِنْ ذَبَحَهُ هَذَا الْمُحْرِمُ. قَبْلَ إحْرَامِهِ فَهُوَ وَاجِدُ طَعَامِ حَلَالٍ لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ مُضْطَرًّا، فَإِنْ ذَبَحَهُ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ ذَبَحَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ وَقُلْنَا: هُوَ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا والثاني: يَتَعَيَّنُ لَحْمُ الصَّيْدِ والثالث: الْمَيْتَةُ، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: إنْ قُلْنَا: إنَّهُ مَيْتَةٌ أَكَلَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَغَيْرُ الصَّيْدِ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِمَيْتَةٍ فَوَجْهَانِ أحدهما: يَأْكُلُهُ والثاني: يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ. وَلَوْ وَجَدَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَطَعَامَ الْغَيْرِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَوْ أَقْوَالٍ، سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ مَيْتَةً أَمْ لَا أَحَدُهَا: يَتَعَيَّنُ الصَّيْدُ والثاني: الطَّعَامُ والثالث: يَتَخَيَّرُ هَذَا إذَا كَانَ مَالِكُ الطَّعَامِ غَائِبًا، فَإِنْ حَضَرَ وَمَنَعَهُ تَعَيَّنَ الصَّيْدُ، وَإِنْ بَذَلَهُ تَعَيَّنَ الطَّعَامُ صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَصَيْدًا وَطَعَامَ الْغَيْرِ، فَسَبْعَةُ أَوْجُهٍ، ذَكَرَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَصَحُّهَا: يَتَعَيَّنُ الْمَيْتَةُ والثاني: الصَّيْدُ والثالث: الطَّعَامُ والرابع: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْخَامِسُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالْمَيْتَةِ وَالسَّادِسُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الصَّيْدِ وَالْمَيْتَةِ وَالسَّابِعُ: بَيْنَ الصَّيْدِ وَالطَّعَامِ.
فرع: إذَا لَمْ نَجْعَلْ مَا يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الصَّيْدِ مَيْتَةً، فَهَلْ عَلَى الْمُضْطَرِّ قِيمَةُ مَا أَكَلَهُ مِنْهُ؟ فِيهِ

 

ج / 9 ص -35-         وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُحْرِمِ، هَلْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَى الصَّيْدِ؟.
الْعَاشِرَةُ: إذَا وَجَدَ مَيْتَتَانِ إحْدَاهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ دُونَ الْأُخْرَى، أَوْ إحْدَاهُمَا طَاهِرَةٌ فِي الْحَيَاةِ دُونَ الْأُخْرَى، كَشَاةٍ وَحِمَارٍ، أَوْ كَلْبٍ، فَهَلْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا؟ أَمْ تَتَعَيَّنُ الشَّاةُ؟ فِيهِ وجهان أصحهما: تَرْكُ الْكَلْبِ وَالتَّخْيِيرُ فِي الْبَاقِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَا يَجُوزُ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ حَتَّى يَتُوبَ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
"فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ"وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ وَاضِحَةً فِي بَابِ مَسْحِ الْخُفِّ، وَبَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا وَجَدَ مَعَ غَيْرِهِ طَعَامًا يَضُرُّهُ وَيَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، جَازَ تَرْكُهُ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَا لَوْ كَانَ الطَّعَامُ لَهُ، وَعَدُّوا هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَا التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَإِذَا اُضْطُرَّ وَوَجَدَ مَنْ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ إذَا خَافَ أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَسْقِيَهُ مَسْمُومًا، فَلَوْ تَرَكَهُ وَأَكَلَ الْمَيْتَةَ فَلَهُ تَرْكُهُ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا اُضْطُرَّ إلَى شُرْبِ الدَّمِ أَوْ الْبَوْلِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ النَّجَاسَاتِ الْمَائِعَةِ غَيْرِ الْمُسْكِرِ، جَازَ لَهُ شُرْبُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ اُضْطُرَّ وَهُنَاكَ خَمْرٌ وَبَوْلٌ لَزِمَهُ شُرْبُ الْبَوْلِ، وَلَمْ يَجُزْ شُرْبُ الْخَمْرِ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وأما التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْخَمْرِ فَهُوَ جَائِزٌ سَوَاءٌ فِيهِ جَمِيعُ النَّجَاسَاتِ غَيْرُ الْمُسْكِرِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ خَاصَّةً لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِهَا، حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ، وَهُمَا شَاذَّانِ، وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، لِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه"أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُرَيْنَةَ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالنُّونِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلَا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا؟ قَالُوا: بَلَى فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَطْرَدُوا النَّعَمَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ، هَذَا لَفْظُ إحْدَى رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ
"فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا أَبْوَالَهَا وَأَلْبَانَهَا".
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَةِ إذَا لَمْ يَجِدْ طَاهِرًا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَإِنْ وَجَدَهُ حَرُمَتْ النَّجَاسَاتُ بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ" فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ حَرَامًا إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُتَدَاوِي عَارِفًا بِالطِّبِّ، يَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ هَذَا مَقَامَهُ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ، وَيَكْفِي طَبِيبٌ وَاحِدٌ، صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، فَلَوْ قَالَ الطَّبِيبُ: يَتَعَجَّلُ لَكَ بِهِ الشِّفَاءُ. وَإِنْ تَرَكْتَهُ تَأَخَّرَ، فَفِي إبَاحَتِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ، وَلَمْ يُرَجِّحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَقِيَاسُ نَظِيرِهِ فِي التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ جَوَازَهُ.

 

ج / 9 ص -36-         أَمَّا: الْخَمْرُ وَالنَّبِيذُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُسْكِرِ فَهَلْ يَجُوزُ شُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي أَوْ الْعَطَشِ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٌ الصحيح: عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا والثاني: يَجُوزُ والثالث: يَجُوزُ لِلتَّدَاوِي دُونَ الْعَطَشِ والرابع: عَكْسُهُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه عَنْهُ: "أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ:
"إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ جَوَازَهَا لِلْعَطَشِ دُونَ التَّدَاوِي وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَحْرِيمُهَا لَهُمَا، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَسَأُورِدُ دَلِيلَهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ جَوَّزْنَا شُرْبَهَا لِلْعَطَشِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ خَمْرٌ وَبَوْلٌ لَزِمَهُ شُرْبُ الْبَوْلِ وَحَرُمَ الْخَمْرُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْبَوْلِ أَخَفُّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَهَذَا كَمَنْ وَجَدَ بَوْلًا وَمَاءً نَجِسًا فَإِنَّهُ يَشْرَبُ الْمَاءَ النَّجَسَ، لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ طَارِئَةٌ، وَفِي جَوَازِ التَّبَخُّرِ بِالنَّدِّ الْمَعْجُونِ بِالْخَمْرِ وَجْهَانِ بِسَبَبِ دُخَانِهِ أَصَحُّهُمَا: جَوَازُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ دُخَانَ نَفْسِ النَّجَاسَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي وَالْعَطَشِ، وَأَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَّالِيَّ اخْتَارَا جَوَازَهَا لِلْعَطَشِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْخَمْرُ يُسْكِنُ الْعَطَشَ فَلَا يَكُونُ اسْتِعْمَالُهَا فِي حُكْمِ الْعِلَاجِ، قَالَ: وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْخَمْرَ لَا يُسْكِنُ الْعَطَشَ فَلَيْسَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلَا يُعَدُّ قَوْلُهُ مَذْهَبًا، بَلْ هُوَ غَلَطٌ وَوَهْمٌ بَلْ مُعَاقِرُ الْخَمْرِ يَجْتَزِئُ بِهَا عَنْ الْمَاءِ، هَذَا كَلَامُهُ، وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى بَلْ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ الْأَصْحَابِ وَالْأَطِبَّاءِ أَنَّهَا لَا تُسْكِنُ الْعَطَشَ بَلْ تَزِيدُهُ وَالْمَشْهُورُ مِنْ عَادَةِ شَرَبَةِ الْخَمْرِ أَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ شُرْبَ الْمَاءِ، وَقَدْ نَقَلَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله نَصَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ مُعَلِّلًا بِأَنَّهَا تُجِيعُ وَتُعَطِّشُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: سَأَلْتُ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا تَرْوِي فِي الْحَالِ ثُمَّ تُثِيرُ عَطَشًا عَظِيمًا، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ: قَالَتْ الْأَطِبَّاءُ: الْخَمْرُ تَزِيدُ فِي الْعَطَشِ وَأَهْلُ الشُّرْبِ يَحْرِصُونَ عَلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ، فَحَصَلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ فِي دَفْعِ الْعَطَشِ، وَحَصَلَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ فِي الدَّوَاءِ فَثَبَتَ تَحْرِيمُهَا مُطْلَقًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ غَصَّ بِلُقْمَةٍ وَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يَسِيغُهَا بِهِ إلَّا الْخَمْرَ فَلَهُ إسَاغَتُهَا بِهِ بِلَا خِلَافٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ، بَلْ قَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الْإِسَاغَةِ قَطْعِيَّةٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي وَشُرْبِهَا لِلْعَطَشِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ: غَصَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ لَا بِضَمِّهَا يَغَصُّ بِفَتْحِهَا أَيْضًا غَصَصًا بِالْفَتْحِ أَيْضًا فَهُوَ غَاصٌّ وَغَصَّانُ وَأَغْصَصْتُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَكْلُ التِّرْيَاقِ الْمَعْمُولِ بِلَحْمِ الْحَيَّاتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ حَيْثُ تَجُوزُ الْمَيْتَةُ، هَذَا لَفْظُهُ. وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنها قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَا أُبَالِي مَا أَتَيْتُ إنْ أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا، أَوْ تَعَلَّقْتُ تَمِيمَةً، أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهَا مَذْمُومَةً.

 

ج / 9 ص -37-         فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُضْطَرِّ:
إحْدَاهَا: أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهَا لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَفِي قَدْرِ الْمَأْكُولِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ سَبَقَا أصحهما: سَدُّ الرَّمَقِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد وَ الثَّانِي: قَدْرُ الشِّبَعِ، وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْقَوْلَيْنِ.
الثَّانِيَةُ: إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُضْطَرِّ مَالٌ، وَكَانَ مَعَ غَيْرِهِ طَعَامٌ يَسْتَغْنِي عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ لَهُ بِلَا عِوَضٍ، وَلَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْبَذْلِ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فِي الذِّمَّةِ، كَمَا سَبَقَ هَذَا مَذْهَبُنَا، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، وَقَوْلُ دَاوُد، قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِ دَاوُد مَنْ قَالَ: يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ قَدْرَ مَا تَزُولُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَوْ رَآهُ يَغْرَقُ أَوْ يَحْتَرِقُ وَأَمْكَنَهُ تَخْلِيصُهُ لَزِمَ تَخْلِيصُهُ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِ عِوَضٍ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الذِّمَّةَ كَالْمَالِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ لَمْ يَلْزَمْ صَاحِبَ الطَّعَامِ بَذْلُهُ مَجَّانًا وَكَذَا إذَا أَمْكَنَ الشِّرَاءُ فِي الذِّمَّةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُخَالِفُ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، بَلْ كُلُّ حَالَةٍ أَمْكَنَ فِيهَا الْمُوَافَقَةُ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا بِالْعِوَضِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثالثة: إذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَطَعَامًا لِغَائِبٍ فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ أصحهما: يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَطَعَامُ غَيْرِهِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. وَ الثَّانِي: يَأْكُلُ طَعَامَ غَيْرِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، لِأَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعَ طَهَارَتِهِ. وَلَوْ وَجَدَ مَيْتَةً وَصَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ.
الرَّابِعَةُ: إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ آدَمِيًّا مَيِّتًا حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الظَّاهِرِ: لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُ التَّدَاوِي بِجَمِيعِ النَّجَاسَاتِ سِوَى الْمُسْكِرِ وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ"إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ"وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى شُرْبِهِمْ الْأَبْوَالَ لِلتَّدَاوِي كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ "لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ" مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا يُغْنِي عَنْهُ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الطَّاهِرَةِ. وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَانِ الْحَدِيثَانِ إنْ صَحَّا حُمِلَا عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّدَاوِي، بِالْمُسْكِرِ وَعَلَى التَّدَاوِي بِالْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ مَرَّ بِبُسْتَانٍ لِغَيْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ"

 

ج / 9 ص -38-         الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ" وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ ضَعِيفٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إلَّا مَا أَعْطَاهُ مِنْ طِيبِ نَفْسٍ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا مَرَّ الْإِنْسَانُ بِثَمَرِ غَيْرِهِ أَوْ زَرْعِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، وَلَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا فَيَأْكُلَ حِينَئِذٍ وَيَضْمَنَ كَمَا سَبَقَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحُكْمُ الثِّمَارِ السَّاقِطَةِ مِنْ الْأَشْجَارِ حُكْمُ الثِّمَارِ الَّتِي عَلَى الشَّجَرِ، إنْ كَانَتْ السَّاقِطَةُ دَاخِلَ الْجِدَارِ، وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً فَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِإِبَاحَتِهَا فَإِنْ جَرَتْ فَوَجْهَانِ أحدهما: لَا يَحِلُّ كَالدَّاخِلَةِ، وَكَمَا إذَا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْمَالِكَ لَا يُبِيحُ وأصحهما: يَحِلُّ لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ بِذَلِكَ، وَحُصُولِ الظَّنِّ بِإِبَاحَتِهِ، كَمَا يَحْصُلُ تَحَمُّلُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْهَدِيَّةَ، وَيَحِلُّ أَكْلُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ حُكْمُ مَالِ الْأَجْنَبِيِّ. أَمَّا الْقَرِيبُ وَالصَّدِيقُ فَإِنْ تَشَكَّكَ فِي رِضَاهُ بِالْأَكْلِ مِنْ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ وَبَيْتِهِ لَمْ يَحِلَّ الْأَكْلُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ رِضَاهُ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْرَهُ أَكْلَهُ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَأْكُلَ الْقَدْرَ الَّذِي يَظُنُّ رِضَاهُ بِهِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَمْوَالِ وَلِهَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِعْلُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إلَى قوله تعالى: {أَوْصَدِيقِكُمْ} [النور: من الآية61] وَبَيَّنَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ مَرَّ بِبُسْتَانِ غَيْرِهِ، وَفِيهِ ثِمَارٌ أَوْ مَرَّ بِزَرْعِ غَيْرِهِ، فَذَهَبْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ الَّتِي يُبَاحُ فِيهَا الْمَيْتَةُ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا اجْتَازَ بِهِ وَفِيهِ فَاكِهَةٌ رَطْبَةٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَائِطٌ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَمَانَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى مُجَاهِدُ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: "مَنْ مَرَّ مِنْكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ فِي بَطْنِهِ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً" وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه:
"إذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ وَاحِدًا مِنْكُمْ فَإِذَا مَرَرْتُمْ بِرَاعِي الْإِبِلِ فَنَادُوا يَا رَاعِيَ الْإِبِلِ، فَإِنْ أَجَابَكُمْ فَاسْتَسْقُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْكُمْ فَأْتُوهَا فَحُلُّوهَا وَاشْرَبُوا ثُمَّ صُرُّوهَا" رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: هَذَا صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ بِإِسْنَادَيْهِ جَمِيعًا، قَالَ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ مَا ذَكَرْتُهُ مِمَّا سَبَقَ مِنْهُ وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ فَلَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ  رحمه الله: وَمَنْ مَرَّ لِرَجُلٍ بِزَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا

 

ج / 9 ص -39-         بِإِذْنِهِ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَمْ يَأْتِ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ بِإِبَاحَتِهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: مَنْ مَرَّ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً، وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ لَوْ كَانَ ثَبَتَ عِنْدَنَا لَمْ نُخَالِفْهُ، وَالْكِتَابُ وَالْحَدِيثُ الثَّابِتُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ مَالِ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هُوَ حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً".
 قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ فَذَكَرَ إسْنَادَهُ إلَى يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ قَالَ: حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ هَذَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالْحَائِطِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ، قَالَ: هَذَا غَلَطٌ وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ1 عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ يَرْوِي أَحَادِيثَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ يَهِمُ فِيهَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ جَاءَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ وَلَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ مِنْهَا: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: سَمِعْتُ "رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ الضَّالَّةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ الثِّمَارِ يُصِيبُهَا الرَّجُلُ فَقَالَ: مَا أَخَذَ فِي أَكْمَامِهِ يَعْنِي رُءُوسَ النَّخْلِ فَاحْتَمَلَهُ فَثَمَنُهُ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا كَانَ فِي أَجْرَانِهِ فَأَخَذَهُ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، وَإِنْ أَكَلَ بِفِيهِ وَلَمْ يَأْخُذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا إنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَطْعٌ حِينَ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْحِرْزِ، ومنها: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْلُبْ وَلْيَشْرَبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَهُ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ وَإِلَّا فَلْيَحْلُبْ وَلْيَشْرَبْ وَلَا يَحْمِلْ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَحَادِيثُ الْحَسَنِ عَنْ أَصَبَّ لَا يُثْبِتُهَا بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَيُزْعَمُ أَنَّهَا مِنْ كِتَابٍ غَيْرِ حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ السَّمَاعُ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ ومنها: حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ سَعِيدِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى رَاعٍ فَلْيُنَادِ يَا رَاعِيَ الْإِبِلِ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلَّا فَلْيَحْلُبْ وَلْيَشْرَبْ، لَا يَحْمِلَنَّ وَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى حَائِطٍ فَلْيُنَادِ ثَلَاثًا يَا صَاحِبَ الْحَائِطِ، فَإِنْ أَجَابَهُ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَحْمِلَنَّ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ، إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَسَمَاعُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ مِنْهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ فَلَا يَصِحُّ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافُهُ، ثُمَّ ذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ:
"لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحُلَّ صِرَارَ نَاقَةٍ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، فَإِنَّ خَاتَمَ أَهْلِهَا عَلَيْهَا، فَقِيلَ لِشَرِيكٍ: أَرْفَعُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الصَّحِيحَ السَّابِقَ، ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، قَالَ: إنَّمَا هَذَا الْحَدِيثُ يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ، وَحَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِي الرُّخْصَةِ أَنَّهُ أَرْخَصَ فِيهِ لِلْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ، الَّذِي لَا شَيْءَ مَعَهُ يَشْتَرِي بِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله عنه (ط).

 

ج / 9 ص -40-         عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ إذَا مَرَّ بِالْحَائِطِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَلَا يَتَّخِذَ خُبْنَةً" وَعَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ سَلِيطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ عَنْ ذُهَيْلِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَصَبَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ نَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ مَالِ أَخِيهِ؟ قَالَ: "أَنْ يَأْكُلَ وَلَا يَحْمِلَ، وَيَشْرَبَ وَلَا يَحْمِلَ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إسْنَادُهُ مَجْهُولٌ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ الْحَجَّاجِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْمُضْطَرِّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: الضِّيَافَةُ سُنَّةٌ، فَإِذَا اسْتَضَافَ مُسْلِمٌ لَا اضْطِرَارَ بِهِ مُسْلِمًا اُسْتُحِبَّ لَهُ ضِيَافَتُهُ، وَلَا تَجِبُ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هِيَ وَاجِبَةٌ يَوْمًا وَلَيْلَةً، قَالَ أَحْمَدُ: هِيَ وَاجِبَةٌ يَوْمًا وَلَيْلَةً عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَأَهْلِ الْقُرَى دُونَ أَهْلِ الْمُدُنِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ عَلَيْهِ جَائِزَتُهُ"، قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ" ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ يُقِيمُ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يُؤَثِّمُهُ؟ قَالَ: يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ: "سُئِلَ مَالِكٌ رضي الله عنه عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَقَالَ: يُكْرِمُهُ وَيُتْحِفُهُ وَيَحْفَظُهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ضِيَافَةً".
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَا اتَّسَعَ لَهُ مِنْ بِرٍّ وَإِلْطَافٍ، وَأَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَيُقَدِّمُ لَهُ مَا كَانَ بِحَضْرَتِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الثَّلَاثِ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَمَعْرُوفٌ، إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، قَالَ: وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ حَتَّى يُؤْثِمَهُ، مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ مِنْهُ حَتَّى يُوقِعَهُ فِي الْإِثْمِ" وَعَنْ أَبِي كَرِيمَةَ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ فَهُوَ عَلَيْهِ دَيْنٌ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْهُ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ أَضَافَ قَوْمًا فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَةٍ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: "قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي مَسْأَلَةِ ثِمَارِ الْإِنْسَانِ وَزَرْعِهِ "وَأَجَابُوا" عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الضِّيَافَةِ بِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَتَأَكُّدِ حَقِّ الضَّيْفِ كَحَدِيثِ: "غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" أَيْ مُتَأَكِّدُ الِاسْتِحْبَابِ وَتَأَوَّلَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الْمُضْطَرِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 9 ص -41-         قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَلَا يَحْرُمُ كَسْبُ الْحَجَّامِ لِمَا رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سُئِلَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ: وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَعْطَاهُ وَيُكْرَهُ لِلْحُرِّ أَنْ يَكْتَسِبَ بِالْحِجَامَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصَّنَائِعِ الدَّنِيئَةِ كَالْكَنْسِ وَالذَّبْحِ وَالدَّبْغِ لِأَنَّهَا مَكَاسِبُ دَنِيئَةٌ فَيُنَزَّهُ الْحُرُّ مِنْهَا، وَلَا يُكْرَهُ لِلْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَدْنَى، فَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاسْمُ أَبِي الْعَالِيَةِ رُفَيْعٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ قَالَ أَصْحَابُنَا: كَسْبُ الْحَجَّامِ حَلَالٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَعْرُوفُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَيَجُوزُ إطْعَامُهُ لِلْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالدَّوَابِّ وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُكْرَهُ لِلْعَبْدِ أَكْلُ كَسْبِ الْحَجَّامِ سَوَاءٌ كَسَبَهُ حُرٌّ أَمْ عَبْدٌ، وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ لِلْحُرِّ، سَوَاءٌ كَسَبَهُ حُرٌّ أَمْ عَبْدٌ، وَلِكَرَاهَتِهِ مَعْنَيَانِ أحدهما: مُخَالَطَةُ النَّجَاسَةِ والثاني: دَنَاءَتُهُ فَعَلَى الثَّانِي يُكْرَهُ كَسْبُ الْحَلَّاقِ وَنَحْوِهِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يُكْرَهُ كَسْبُ الْكَنَّاسِ وَالزَّبَّالِ وَالدَّبَّاغِ وَالْقَصَّابِ وَالْخَاتِنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ.
وَفِي كَسْبِ الْفَاصِدِ وجهان أصحهما: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ والثاني: يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَفِي الْحَمَّامِيِّ وَالْحَائِلِ وجهان أصحهما: لَا يُكْرَهُ الْحَائِلُ وَكَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا كَسْبَ الصَّوَّاغِينَ قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَفِي كَرَاهَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِلْعَبِيدِ وجهان أصحهما: لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ دَنِيءٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أُصُولُ الْمَكَاسِبِ الزِّرَاعَةُ وَالتِّجَارَةُ وَالصَّنْعَةُ، وَأَيُّهَا أَطْيَبُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ لِلنَّاسِ أَشْبَهُهَا: بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التِّجَارَةَ أَطْيَبُ، قَالَ: وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَطْيَبُ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى التَّوَكُّلِ، وَذَكَرَ الشَّاشِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَأَخَذُوهُ عَنْهُ، قُلْتُ: فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُد صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" فَالصَّوَابُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَمَلُ الْيَدِ، فَإِنْ كَانَ زَرَّاعًا فَهُوَ أَطْيَبُ الْمَكَاسِبِ وَأَفْضَلُهَا، لِأَنَّهُ عَمَلُ يَدِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَوَكُّلًا كَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ:[لِأَنَّ]1فِيهِ نَفْعًا عَامًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَالدَّوَابِّ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَيَحْصُلَ لَهُ أَجْرُهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِيَدِهِ بَلْ يَعْمَلُ لَهُ غِلْمَانُهُ وَأُجَرَاؤُهُ فَاكْتِسَابُهُ بِالزِّرَاعَةِ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَمَعْنَى يَرْزَؤُهُ يُنْقِصُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: "فَلَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إنْسَانٌ وَلَا دَابَّةٌ وَلَا طَيْرٌ إلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: "لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت لفظة (لأن) من النسخة المطبوعة قبل؟

 

ج / 9 ص -42-         فَيَأْكُلُ، مِنْهُ إنْسَانٌ، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا شَيْءٌ إلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ وَالْحِجَامَةِ عَنْ"عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: "اشْتَرَى أَبِي عَبْدًا حَجَّامًا فَأَمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ وَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَثَمَنِ الدَّمِ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ: "شَرُّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ" وَعَنْ مُحَيِّصَةَ رضي الله عنه "أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إجَارَةِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ حَتَّى قَالَ: "أَعْلِفْهُ نَوَاضِحَك" رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدِهِمْ الصَّحِيحَةِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفَ عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ، وَقَالَ:
"خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْهُ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِمُ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَأَعْطَى، الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَاسْتَعَطَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَرَوَيَا حَدِيثَهُ السَّابِقَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ.
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ لَا عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الْحُرِّ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْحُرِّ التَّنَزُّهُ عَنْهُ، وَعَنْ أَكْلِهِ، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ: وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنْهُ وَفُقَهَاءُ الْمُحَدِّثِينَ: يَحْرُمُ عَلَى الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَمَلُوا الْأَحَادِيثَ الْبَاقِيَةَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالِارْتِفَاعِ عَنْ دَنِيءِ الِاكْتِسَابِ، وَالْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
فَرْعٌ: فِي فَضْلِ الْحِجَامَةِ مَعَ مَا سَبَقَ.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ لِمَرِيضٍ عَادَهُ: "لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَحْتَجِمَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ فِيهِ شِفَاءً" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه"أَنَّ أَبَا هِنْدٍ حَجَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي يَأْفُوخِهِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ وَقَالَ:
"إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ شِفَاءٌ مِمَّا تَدَاوُونَ بِهِ فَالْحِجَامَةُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ الْيَأْفُوخُ بِهَمْزَةٍ - سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْيَاءِ - وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَهْمُوزٌ وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَاءِ مِنْهُ هَلْ هِيَ أَصْلِيَّةٌ أَمْ زَائِدَةٌ؟ فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ زَائِدَةٌ وَوَزْنُهُ يَفْعُولٌ، قَالَ أَبِي فَارِسٍ: هِيَ أَصْلِيَّةٌ وَهُوَ رُبَاعِيٌّ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَمْعُهُ يَآفِيخٌ قَالَ: وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَحَرَّكُ مِنْ رَأْسِ الصَّبِيِّ، وَهُوَ الرَّأْسُ، وَعَنْ سَلْمَى خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قَالَتْ: "مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْتَكِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا مِنْ رَأْسِهِ إلَّا قَالَ: احْتَجِمْ، وَلَا وَجَعًا فِي رِجْلَيْهِ إلَّا قَالَ اخْضِبْهُمَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

 

ج / 9 ص -43-         فرع: فِي مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ صُدَاعٍ كَانَ بِهِ أَوْ وَبًى" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ 1ابْنِ بُحَيْنَةَ بِمَعْنَاهُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا قَالَ: عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ بُحَيْنَةَ فِي رَأْسِهِ، قَالَ: وَالْعَدَدُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنْ الْوَاحِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "احْتَجَمَ عَلَى وَرِكِهِ مِنْ وَبًى كَانَ بِهِ" كَذَا قَالَ: عَلَى وَرِكِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: "احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَبًى كَانَ بِوَرِكِهِ أَوْ قَالَ بِظَهْرِهِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَبًى كَانَ بِهِ أَوْ صُدَاعٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِمُ ثَلَاثًا اثْنَتَيْنِ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَوَاحِدَةً فِي الْكَاهِلِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَخْدَعَانِ عِرْقَانِ فِي جَانِبَيْ الْعُنُقِ، وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَحْتَجِمُ عَلَى هَامَتِهِ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ وَيَقُولُ: مَنْ أَهَرَاقَ دَمًا مِنْ هَذِهِ الدِّمَاءِ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَتَدَاوَى بِشَيْءٍ لِشَيْءٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادَيْنِ حَسَنَيْنِ.
فرع: فِي وَقْتِ الْحِجَامَةِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"مَنْ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ الشَّهْرِ كَانَ دَوَاءً لِدَاءِ السَّنَةِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ. وَعَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: "مَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ الشَّهْرِ أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهُ دَاءَ سَنَتِهِ" ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَعَنْ كَيِّسَةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرَةَ "أَنَّ أَبَاهَا كَانَ نَهَى أَهْلَهُ عَنْ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَزْعُمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ قَالَ: وَالنَّهْيُ الَّذِي فِيهِ مَوْقُوفٌ وَلَيْسَ بِمَرْفُوعٍ.
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"وَمَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ السَّبْتِ فَرَأَى وَضَحًا فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ" هَذَا ضَعِيفٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ ضَعِيفٌ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سَمْعَانَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ مَوْصُولًا وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ وَالْمَحْفُوظُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنْقَطِعًا. وَعَنْ عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يَحْتَجِمُ فِيهَا مُحْتَجِمٌ إلَّا عَرَضَ لَهُ دَاءٌ لَا يُشْفَى مِنْهُ" هَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ قَالَ: عَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَرَوَاهُ يَحْيَى2 بْنِ الْعَلَاءِ الرَّازِيّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اثبتنا الألف في ابن بحينة أمه وتحذف الألف إذا كانت بين علمين ذكرين (ط).
2 كذا بالنسخة المتداولة يحيى بن العلاء الرازي رمي بالوضع من الطبقة الثامنة (ط).

 

ج / 9 ص -44-         عَلِيٍّ1 عَنْهُ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْحِجَامَةِ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: فِي اسْتِحْبَابِ تَرْكِ الِاكْتِوَاءِ لِلتَّدَاوِي وَلَيْسَ بِحَرَامٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنْ كَانَ فِي أَدْوِيَتِكُمْ أَوْ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ مِنْ خَيْرٍ فَشَرْطَةُ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةُ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٌ بِنَارٍ تُوَافِقُ دَاءً، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ،،، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ فَقُلْتُ مَنْ هُمْ قَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرِقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَغْتَابُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَاتٍ لِلْبُخَارِيِّ: "وَلَا يَكْتَوُونَ" وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرِقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَنْ اكْتَوَى أَوْ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنْ التَّوَكُّلِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رضي الله عنهما قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْكَيِّ فَاكْتَوَيْنَا فَلَا أَفْلَحْنَ وَلَا أَنْجَحْنَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ: "فَمَا أَفْلَحْنَا وَلَا أَنْجَحْنَا" وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ. وَعَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ كَانَ2 يُسَلَّمُ عَلَيَّ حَتَّى اكْتَوَيْت فَتُرِكْتُ، ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَيَّ فَعَادَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ
فرع: فِي جَوَازِ الْكَيِّ وَقَطْعِ الْعُرُوقِ لِلْحَاجَةِ. عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا "أَنَّ أُبَيًّا مَرِضَ فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ طَبِيبًا فَكَوَاهُ عَلَى أَكْحَلِهِ" وَعَنْهُ، قَالَ: "رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ فَحَسَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ ثُمَّ وَرِمَتْ فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "جَاءَ نَفَرٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ صَاحِبًا لَنَا اشْتَكَى أَفَنَكْوِيهِ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ:
"إنْ شِئْتُمْ فَاكْوُوهُ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَارْمِضُوهُ" يَعْنِي بِالْحِجَارَةِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّ أَنَسًا اكْتَوَى وَابْنَ عُمَرَ، وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي الدَّوَاءِ وَالِاحْتِمَاءِ أَمَّا الدَّوَاءُ فَسَبَقَتْ فِيهِ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجَبَائِرِ وأما الِاحْتِمَاءُ فَفِيهِ حَدِيثُ أُمِّ مُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عَلِيٌّ وَعَلِيٌّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضمير في عنه يعود إلى علي والد الحسين رضي الله عنهما (ط).
2 كانت الملائكة تسلم عليه حتى اكتوى فتركته فلما ترك الكي عادت تسلم عليه (ط).

 

ج / 9 ص -45-         نَاقِهٌ وَلَنَا دَوَالِي مُعَلَّقَةٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ مِنْهَا، وَقَامَ عَلِيٌّ لِيَأْكُلَ فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِعَلِيٍّ: مَهْ إنَّك نَاقِهٌ، حَتَّى كَفَّ عَلِيٌّ رضي الله عنه، قَالَتْ: وَصَنَعْتُ شَعِيرًا وَسِلْقًا فَجِئْتُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَلِيُّ أَصِبْ مِنْ هَذَا فَهُوَ أَنْفَعُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ: النَّاقِهُ بِالنُّونِ وَالْقَافِ هُوَ الَّذِي بَرِئَ مِنْ الْمَرَضِ وَهُوَ قَرِيبُ عَهْدٍ بِهِ، لَمْ تَتَكَامَلْ صِحَّتُهُ، يُقَالُ: نَقِهَ يَنْقَهُ فَهُوَ نَاقِهٌ، كَعَلِمَ يَعْلَمُ فَهُوَ عَالَمٌ، وَعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُهَاجِرًا وَبَيْنَ يَدَيْهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: "تَعَالَ فَكُلْ"، فَجَعَلْتُ آكُلُ. فَقَالَ: "تَأْكُلُ التَّمْرَ وَبِكَ رَمَدٌ؟" قُلْتُ: إنِّي أَمْضُغُهُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
فرع: فِي جَوَازِ الرُّقْيَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِمَا يُعْرَفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الرُّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ فَقَالَتْ: "رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّقْيَةِ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ الْحُمَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَهِيَ السُّمُّ، وَقَدْ تُشَدَّدُ الْمِيمُ، وَأَنْكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَكَثِيرُونَ، وَأَصْلُهَا حمو أَوْ حُمًى كَصُرَدٍ، فَأَلِفُهَا فِيهَا عِوَضٌ مِنْ الْوَاوِ وَالْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَسْتَتِرَ مِنْ الْعَيْنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ، فَقَالَ:
"اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا نَظْرَةً" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، السَّفْعَةُ بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ صُفْرَةٌ وَتَغْيِيرٌ، وَالنَّظْرَةُ بِفَتْحِ النُّونِ هِيَ الْعَيْنُ
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالنَّمْلَةِ وَالْحُمَةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: النَّمْلَةُ هِيَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: "لَدَغَتْ رَجُلًا مِنَّا عَقْرَبٌ وَنَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْقِي؟ قَالَ:
"مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ: "مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً تُصِيبُهُمْ الْحَاجَةَ"، قَالَتْ: لَا وَلَكِنْ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إلَيْهِمْ، قَالَ: "ارْقِيهِمْ" قَالَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: "ارْقِيهِمْ" وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ يُرْقَى بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ، وَأَنَّكَ نَهَيْتَ عَنْ الرُّقَى، قَالَ:،،، فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَا أَرَى بَأْسًا، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ
"اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ الشِّفَاءِ بِنْتِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ، فَقَالَ "أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ؟" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ أَبِي خُزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ"أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ دَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ يَرُدُّ ذَلِكَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّهُ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ أَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا رُقْيَةَ إلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَعْنَاهُ هُمَا أَوْلَى بِالرُّقَى مِنْ غَيْرِهِمَا، لِمَا فِيهِمَا مِنْ زِيَادَةِ الضَّرَرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 9 ص -46-         وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا يَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا، فَقَالَ ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" وَبِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: "سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْ الرُّقْيَةِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَرْقِيَ الْإِنْسَانُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا يَعْرِفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قُلْتُ: أَيَرْقِي أَهْلُ الْكِتَابِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إذَا رَقَوْا بِمَا يُعْرَفُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ ذِكْرِ اللَّهِ قُلْتُ وَمَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ فِيهِ غَيْرُ حُجَّةٍ، فَإِنَّ مَالِكًا أَخْبَرَنَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهِيَ تَشْتَكِي وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْأَخْبَارُ فِيمَا رَقَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرُقِيَ بِهِ، وَفِيمَا تَدَاوَى بِهِ وَأَمَرَ بِالتَّدَاوِي بِهِ كَثِيرَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي تَعْلِيقِ التَّمَائِمِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"إنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ"، قَالَتْ قُلْتُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ، وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِينِي، فَإِذَا رَقَانِي سَكَنْتُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّمَا كَانَ عَمَلَ الشَّيْطَانِ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا، إنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التُّوَلَةُ بِكَسْرِ التَّاءِ - هُوَ الَّذِي يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا وَهُوَ مِنْ السِّحْرِ قَالَ: وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَمَّا الرِّقَاءُ وَالتَّمَائِمُ، قَالَ فَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ مَا كَانَ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَا لَا يُدْرَى مَا هُوَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيُقَالُ إنَّ التَّمِيمَةَ خَرَزَةٌ كَانُوا يُعَلِّقُونَهَا، يَرَوْنَ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ الْآفَاتِ، وَيُقَالُ قِلَادَةٌ يُعَلَّقُ فِيهَا الْعُودُ، وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ هُوَ أَيْضًا رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ النَّهْيِ وَالْكَرَاهَةِ فِيمَنْ يُعَلِّقُهَا، وَهُوَ يَرَى تَمَامَ الْعَافِيَةِ، وَزَوَالَ الْعِلَّةِ بِهَا، عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، وَأَمَّا مَنْ يُعَلِّقُهَا مُتَبَرِّكًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا اللَّهُ وَلَا دَافِعَ عَنْهُ سِوَاهُ، فَلَا بَأْسَ بِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "لَيْسَتْ التَّمِيمَةُ مَا يُعَلَّقُ قَبْلَ الْبَلَاءِ، إنَّمَا التَّمِيمَةُ مَا يُعَلَّقُ بَعْدَ الْبَلَاءِ لِتَدْفَعَ بِهِ الْمَقَادِيرَ" وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا قَالَتْ: "التَّمَائِمَ مَا عُلِّقَ قَبْلَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، وَمَا عُلِّقَ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ فَلَيْسَ بِتَمِيمَةٍ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهَا قَالَتْ: "لَيْسَ بِتَمِيمَةٍ مَا عُلِّقَ بَعْدَ أَنْ يَقَعَ الْبَلَاءُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ"أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِهِ حَلْقَةٌ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ مَا هَذِهِ؟ قَالَ مِنْ الْوَاهِنَةِ، قَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تُوَكَّلَ إلَيْهَا؟ انْبِذْهَا عَنْكَ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ "مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إلَيْهِ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِتَعْلِيقِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى مَا قُلْنَا إنَّهُ إنْ

 

ج / 9 ص -47-         رَقَى بِمَا لَا يَعْرِفُ، أَوْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إضَافَةِ الْعَافِيَةِ إلَى الرُّقَى، لَمْ يَجُزْ وَإِنْ رَقَى بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ بِمَا يَعْرِفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَبَرِّكًا بِهِ وَهُوَ يَرَى نُزُولَ الشِّفَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فرع: فِي النُّشْرَةِ بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ النُّشْرَةُ ضَرْبٌ مِنْ الرُّقْيَةِ وَالْعِلَاجِ يُعَالَجُ مَنْ كَانَ يُظَنُّ بِهِ مَسٌّ مِنْ الْجِنِّ، قِيلَ: سُمِّيَتْ نُشْرَةً لِأَنَّهُ يَنْشُرُهَا عَنْهُ أَيْ يَحُلُّ عَنْهُ مَا جَاءَ مَرَّةً مِنْ الدَّاءِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ النُّشْرَةِ فَقَالَ:
"هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا قَالَ: وَهُوَ مَعَ إرْسَالِهِ أَصَحُّ، قَالَ: وَالْقَوْلُ فِيمَا لَا يُكْرَهُ مِنْ النُّشْرَةِ وَفِيمَا يُكْرَهُ، كَالْقَوْلِ فِي الرُّقْيَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
فَرْعٌ: فِي الْعَيْنِ وَالِاغْتِسَالِ لَهَا. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْعَيْنُ حَقٌّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ، فَقَالَ "اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَرْعِ الرُّقَى وَالنَّظْرَةُ الْعَيْنُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعَيْنُ1 حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ. إذَا اسْتَغْسَلْتُمْ فَاغْسِلُوا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الِاسْتِغْسَالُ أَنْ يُقَالَ لِلْعَائِنِ وَهُوَ النَّاظِرُ بِعَيْنِهِ بِالِاسْتِحْسَانِ: اغْسِلْ دَاخِلَةَ إزَارِكَ مِمَّا يَلِي الْجِلْدَ بِمَاءٍ، ثُمَّ يُصَبُّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَى الْمَعِينِ، وَهُوَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ.
وَثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمَعِينُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: مَرَّ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: "لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُحَبَّأَةٍ2 فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ أَدْرِكْ سَهْلًا صَرِيعًا فَقَالَ مَنْ يَتَّهِمُونَ بِهِ؟ قَالُوا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 تأثير العين لا يأبا العلم التجريبي بل تثبته الاكتشافات الحديثة، فإن الاشعاعات الألكترونية والذرية قد تحدث آثار شديدة بعيدة المدى بدون أن ترى وليس لها جرم ظاهر ولا صلة لها بالعناصر المتأثرة بها ومع ذلك تصل بنفاذها وقوتها ولا تقف دونها أبعاد مكانية أو مسافات أو دروع فولاذية وكما يقول العلامة ابن القيم من أنه يحتمل أن يختص الله بعض الناس بخصائص في تأثر أعينهم فتخرج منها أجرام لا ترى تؤثر في العيون (ط).
2 كذا بالأصل فحرر، قلت وتحرير هكذا قال ابن ماجه: حدثنا هشام بن عمار ثنا سفيان عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: مر عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف وهو يغتسل فقال: لم أر كاليوم ولا جلد مخبأه فما لبث أن لبط به فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: أدرك سهلا صريعا قال من تتهمون به؟ قالوا عامر بن ربيعة قال: عرم يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة إلخ الحديث. ويلاحظ فروق في بعض الألفاظ بين الثبت هنا وبين ما أثبتناه نحن في هذه الحاشية ورواه أحمد بزيادات أخرى في سنده وأخرجه أيضا مالك في الموطأ (ط).

 

ج / 9 ص -48-         عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ إذَا رَأَى مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ، وَيُصَبَّ الْمَاءُ عَلَيْهِ" قَالَ الزُّهْرِيُّ وَيُكْفَأُ الْإِنَاءُ مِنْ خَلْفِهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِهِ عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْغُسْلُ الَّذِي أَدْرَكْنَا عُلَمَاءَنَا يَصِفُونَهُ أَنْ يُؤْتَى الرَّجُلُ الْعَائِنُ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَيُمْسَكَ لَهُ مَرْفُوعًا مِنْ الْأَرْضِ فَيُدْخِلَ الْعَائِنُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الْمَاءِ فَيُصَبَّ عَلَى وَجْهِهِ صَبَّةً وَاحِدَةً فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يُدْخِلَ يَدَيْهِ جَمِيعًا فِي الْمَاءِ صَبَّةً وَاحِدَةً فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فَيَتَمَضْمَضَ ثُمَّ يَمُجَّهُ، ثُمَّ يُدْخِلَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَغْتَرِفَ مِنْ الْمَاءِ فَيَصُبَّهُ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُمْنَى صَبَّةً وَاحِدَةً، فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يُدْخِلَ، يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبَّ عَلَى مِرْفَقِ يَدِهِ الْيُمْنَى صَبَّةً وَاحِدَةً فِي الْقَدَحِ، وَهُوَ ثَانٍ يَدَهُ إلَى عُنُقِهِ ثُمَّ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مِرْفَقِ يَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ الْيُمْنَى مِنْ عِنْدِ الْأَصَابِعِ وَالْيُسْرَى كَذَلِكَ، ثُمَّ يَدِهِ الْيُسْرَى، فَيَصُبَّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَفْعَلَ بِالْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَغْمِسَ دَاخِلَةَ إزَارِهِ الْيُمْنَى فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يَقُومَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْقَدَحُ بِالْقَدَحِ فَيَصُبَّهُ عَلَى رَأْسِ الْمَعِينِ مِنْ وَرَائِهِ ثُمَّ يُكْفَأَ الْقَدَحُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ وَرَائِهِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ مِنْ طُرُقِهِ زَادَ فِي بَعْضِهَا: ثُمَّ يُعْطَى ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي أَصَابَهُ بِهِ الْقَدَحَ فَيَحْسُوَ مِنْهُ وَيَتَمَضْمَضَ، وَيُهَرِيق عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُكْفَأَ الْقَدَحُ عَلَى ظَهْرِهِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إنَّمَا أَرَادَ بِدَاخِلَةِ الْإِزَارِ طَرَفَ إزَارِهِ الدَّاخِلِ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي الْجُبْنِ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْجُبْنِ مَا لَمْ يُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ، بِأَنْ يُوضَعَ فِيهِ إنْفَحَةٌ ذَبَحَهَا مَنْ لَا يَحِلُّ ذَكَاتُهُ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي إبَاحَتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْهَا حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "أُتِيَ بِجُبْنٍ فِي تَبُوكَ فَدَعَا بِسِكِّينٍ فَسَمَّى وَقَطَعَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ رَأَى جُبْنَةً فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا هَذَا طَعَامٌ يُصْنَعُ بِأَرْضِ الْعَجَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"ضَعُوا فِيهِ السِّكِّينَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: "الْجُبْنُ مِنْ اللَّبَنِ وَاللِّبَأِ فَكُلُوا، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ" وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْكُلَ الْجُبْنَ فَضَعْ الشَّفْرَةَ فِيهِ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ وَكُلْ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي بَابِ مَا يَحِلُّ مِنْ الْجُبْنِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ كُلُوا الْجُبْنَ مَا صَنَعَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ" وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ الْجُبْنِ إلَّا مَا صَنَعَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ" وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ كُلُوا مِنْ الْجُبْنِ مَا صَنَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ" وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا التَّقْيِيدُ لِأَنَّ الْجُبْنَ يُعْمَلُ بِإِنْفَحَةِ السَّخْلَةِ الْمَذْبُوحَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مِنْ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ لَمْ تَحِلَّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ فَقَالَ سَمِّ وَكُلْ، فَقِيلَ لَهُ إنَّ فِيهِ مَيْتَةً، فَقَالَ: إنْ عَلِمْتَ أَنَّ فِيهِ مَيْتَةً فَلَا تَأْكُلْهُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَسْأَلُ عَنْهُ تَغْلِيبًا لِلطَّهَارَةِ، وَرَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ سَأَلَ عَنْهُ احْتِيَاطًا. وَرَوَيْنَاهُ عَنْ أَبِي

 

ج / 9 ص -49-         مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: "لَأَنْ أَخُرَّ مِنْ هَذَا الْقَصْرِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلَ جُبْنًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ" وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ الْجُبْنِ وَلَا يَسْأَلُونَ عَنْ السَّمْنِ" وَعَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:كُنَّا نَأْكُلُ الْجُبْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا نَسْأَلُ عَنْهُ"حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ.
فَصْلٌ: يَحِلُّ أَكْلُ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ بِلَا خِلَافٍ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ
"أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ" وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ لَفْظِ ابْنِ عُمَرَ هَكَذَا، وَأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تَقْتَضِي رَفْعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: "إنِّي لَآكُلُ الطِّحَالَ وَمَا بِي إلَيْهِ حَاجَةٌ إلَّا لِيَعْلَمَ أَهْلِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ" وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: آكُلُ الطِّحَالَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: إنَّ عَامَّتَهَا دَمٌ؟ قَالَ: إنَّمَا حَرُمَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ.
فَصْلٌ: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ مِنْ الشَّاةِ سَبْعًا: الدَّمَ، وَالْمِرَارَ، وَالذَّكَرَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَالْحَيَا، وَالْغُدَّةَ، وَالْمَثَانَةَ، وَكَانَ أَعْجَبُ الشَّاةِ إلَيْهِ مُقَدَّمَهَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ هَكَذَا مُرْسَلًا وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَرُوِيَ مَوْصُولًا بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ حَدِيثٌ1 قَالَ وَلَا يَصِحُّ وَصْلُهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الدَّمُ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَعَامَّةُ الْمَذْكُورَاتِ مَعَهُ مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ.
فَصْلٌ: فِيمَا حُرِّمَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ ثُمَّ وَرَدَ شَرْعُنَا بِنَسْخِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَنَى بِهَذَا الْفَصْلِ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ، وَهُوَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ قَالَ اللَّهُ تعالى:
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: من الآية93] الْآيَةَ، وَقَالَ تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: من الآية160] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: من الآية146] قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَوَايَا مَا حَوْلَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْبَطْنِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ ذِي ظُفُرٍ الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ، وَمَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا يَعْنِي مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ مِنْ الشَّحْمِ، وَالْحَوَايَا الْمَبْعَرُ. وَبَيَّنَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا"جَمَلُوهَا،، بِالْجِيمِ أَيْ أَذَابُوهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمْ يَزَلْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مُحَرَّمًا مِنْ حِينِ حَرَّمَهُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَفَرَضَ الْإِيمَانَ بِهِ وَأَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ الَّذِي نَسَخَ بِهِ كُلَّ دِينٍ قَبْلَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ }[آل عمران: من الآية19]
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ}[آل عمران: من الآية64] الْآيَةَ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل، ويمكن معرفة السقط من السياق ولعله: وهو حديث ضعيف كالمرسل إلخ (ط).

 

 

ج / 9 ص -50-         عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [لأعراف: من الآية157] قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَوْزَارُهُمْ وَمَا مُنِعُوا مِمَّا أَحْدَثُوا قَبْلَ مَا شُرِعَ مِنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمْ يَبْقَ خَلْقٌ يَعْقِلُ مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنٍّ وَلَا إنْسٍ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ إلَّا قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ دِينِهِ، وَلَزِمَ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِحْلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ ذَبَائِحَهُمْ، لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا شَيْئًا لَا شَحْمًا وَلَا غَيْرَهُ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ جَمِيعِ الشُّحُومِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَذَبَائِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قَالَ: "دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ فَقُلْتُ: هَذَا لِي لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ".
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّ الشُّحُومَ الَّتِي كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى الْيَهُودِ حَلَالٌ لَنَا لَيْسَتْ مَكْرُوهَةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ مِنْهُمْ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ مَكْرُوهَةٌ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ، وَقِيلَ إنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا قَوْلُ كُبَرَاءِ أَصْحَابِ مَالِكٍ دَلِيلُنَا مَا سَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: فِي بَيَانِ مَا حَرَّمَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الذَّبَائِحِ، وَبَيَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: حَرَّمَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَشْيَاءَ بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، كَانُوا يُنْزِلُونَهَا فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ كَالْعِتْقِ، فَيُحَرِّمُونَ أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا وَمِلْكَهَا، وَسَاقَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.