المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
* (باب القرض)
* القرض قربة مندوب إليه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(13/161)


قال " من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " وعن أبى الدرداء رضى الله عنه أنه قال " لان أقرض دينارين ثم يردا ثم أقرضهما أحب إلى من أن أتصدق بهما " وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنهما قالا " قرض مرتين خير من صدقة مرة "
(فصل)
ولا يصح الا من جائز التصرف لانه عقد على المال فلا يصح إلا من جائز التصرف كالبيع ولا ينعقد الا بالايجاب والقبول لانه تمليك آدمى فلم يصح من غير إيجاب وقبول كالبيع والهبة، بلفظ القرض والسلف لان الشرع ورد بهما، ويصح بما يؤدى معناه، وهو أن يقول ملكتك هذا على أن ترد على بدله.
فإن قال ملكتك ولم يذكر البدل كان هبة، فإن اختلفا فيه فالقول قول الموهوب له لان الظاهر معه، فإن التمليك من غير ذكر عوض هبة في الظاهر وان قال أقرضتك ألفا وقبل وتفرقا ثم دفع إليه ألفا، فان لم يطل الفصل جاز لان الظاهر أنه قصد الايجاب، وان طال الفصل لم يجز حتى يعيد لفظ القرض
لانه لا يمكن البناء على العقد مع طول الفصل.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رواه مسلم بلفظ " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة.
ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة.
وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عون أخيه.
ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة.
وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم الا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه " وفى حديث طويل عن ابن عمر رضى الله عنه " ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة "

(13/162)


رواه البخاري ومسلم، والاثر عن أبى الدرداء في مسند أحمد.
وأما ما روى عن ابن مسعود فقد جاء مرفوعا وموقوفا بلفظ " ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة " المرفوع رواه ابن ماجه.
وفى إسناده سليمان بن بشير وهو متروك.
وقال الدارقطني " الصواب أنه موقوف على ابن مسعود " وأما حديث أنس فقد أخرجه ابن ماجه مرفوعا وفيه " الصدقة بعشرة أمثالها والقرض بثمانية عشر " وفى إسناده خالد بن يزيد بن عبد الرحمن الشامي.
قال النسائي " ليس بثقة " وهو باب من أبواب البر لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى " وقد كان القرض خيرا من الصدقة لانها قد تدفع إلى من هو غنى عنها، أما القرض
فلا يسأله إنسان إلا وهو يحتاج إليه.
أما اللغات، فالقرض القطع والقرض في المكان العدول عنه، ومنه قوله " وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وقرضت الوادي جزته، وقرض فلان مات، وقرضت الشعر نظمته.
قال ابن دريد " وليس في الكلام يقرض على وزن ينصر البتة.
وإنما الكلام على وزن يضرب، والقرض ما تعطيه غيرك من المال لتقضاه، والجمع قروض، واستقرض طلب القرض واقترض أخذه.
ولانه قطع له من ماله قطعة.
أما الاحكام، فإن القرض مندوب إليه، يعنى مأمور به من غير إيجاب.
ولا يصح القرض الا من جائز التصرف في المال، لانه عقد على المال فلا يصح الا من جائز التصرف فيه كالبيع.
ولا يصح الا بالايجاب والقبول، لانه تمليك آدمى فافتقر إلى الايجاب والقبول كالبيع والهبة.
وفيه احتراز من العتق، وينعقد بلفظ القرض والسلف لانه قد ثبت له عرف الاستعمال، ويمكن انعقاده بما يؤدى معنى ذلك.
فإن قال ملكتك هذا على أن ترد إلى بدله كان قرضا.
وان قال ملكتك هذا ولم يذكر البدل فهو هبة، وان اختلفا فيه فالقول قول الموهوب له لان الظاهر معه، ولان التمليك من غير عوض هبة.

(13/163)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
إذا امتنع الراهن من تسليم الرهن، أو انفسخ العقد قبل القبض نظرت، فان كان الرهن غير مشروط في العقد على البيع، بقى الدين بغير رهن، وإن كان الرهن مشروطا في البيع ثبت للبائع الخيار، بين أن يمضى البيع من غير رهن أو يفسخه، لانه دخل في البيع بشرط أن يكون له بالثمن وثيقة، ولم تسلم له، فيثبت له الخيار بين الفسخ والامضاء.
(الشرح) الاحكام: إذا امتنع الراهن من الاقباض أو انفسخ عقد الرهن قبل القبض نظرت، فان كان الرهن غير مشروط في العقد بقى الدين بغير رهن، ولا خيار للمرتهن، وإن كان الرهن مشروطا في بيع ثبت للبائع الخيار بين فسخ البيع وبين إمضائه، لانه دخل في البيع بشرط الوثيقة ولم تسلم له الوثيقة، فثبت له الخيار.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
إذا أقبض الراهن الرهن تلزم العقد من جهته، ولا يملك فسخه لانه عقد وثيقة، فإذا تم لم يجز فسخه من غير رضا من له الحق كالضمان، ولانا لو جوزنا له الفسخ من غير رضا المرتهن بطلت الوثيقة، وسقط فائدة الرهن.
(الشرح) الاحكام: إذا قبض الراهن الرهن لزم من جهته فلم يملك فسخه قال ابن الصباغ: وهو اجماع لا خلاف فيه، ولانه يراد للوثيقة فلو جاز له الفسخ لم يحصل بذلك وثيقة، وإذا قبض الرهن فانه يكون وثيقة بالدين وبكل جزء منه فإذا رهنه عينين بألف وقبضهما المرتهن ثم تلفت احداهما كان الباقي رهنا بجميع الالف، وبه قال أبو حنيفة فيما روى عنه في الاصول، وروى عنه في الزيادات أن الدين يتقسط على الرهن.
وروى عن أحمد أن العقد ينفسخ في التالفة إذا كان قبل القبض ويبقى في الباقية لان العقد كان صحيحا فيهما وانما طرأ انفساخ العقد في احداهما فلم يؤثر، كما لو اشترى شيئين ثم رد أحدهما بعيب أو خيار أو اقالة، والراهن مخير بين

(13/164)


يراد للفسخ وكل واحد منهما يملك فسخ القرض متى شاء، فلا معنى لاثبات الخيار ولو أقرضه شيئا إلى أصل ما يلزم الاجل وكان حالا، وهكذا لو كان له عنده له ثمن حال فأجله، أو كان مؤجلا فزاد في أجله لم يلزم ذلك
وقال مالك يدخل الاجل في ابتداء القرض بأن مقبوضه إلى أجل، ويدخل في انتهائه بأن يقرضه حالا ثم يؤجله له فيتأجل.
ووافقنا أبو حنيفة أن الاجل لا يدخل في القرض.
وأما الثمن الحال فيتأجل بالتأجيل دليلنا على مالك رحمه الله تعالى أن الاجل يقتضى جزءا من القرض، والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه فلم يجز شرط الاجل فيه وأما الدليل على أبى حنيفة فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ باطل " وتأجيل الحال ليس في كتاب الله تعالى فكان باطلا، ولانه حق مستقر فلم يتأجل بالتأجيل كالقرض وقولنا " مستقر " احتراز من الثمن في مدة الخيار، ولانه إنظار تبرع فلم يلزمه، كالمرأة إذا وجدت زوجها عنينا فأجلته ثم رجعت من ذلك، فإن لها ذلك وقال أصحاب أحمد لا يجوز له الرجوع لان العقد لازم في حق المقرض جائز في حق المقترض، فلو أراد المقرض الرجوع في عين ماله لم يملك ذلك.
وقال الشافعي رحمه الله، له ذلك، لان كل ما يملك المطالبة بمثله ملك أخذه إذا كان موجودا كالمغصوب والعارية.
(فرع)
يجوز شرط الرهن في القرض، لان النبي صلى الله عليه وسلم " رهن درعا عند يهودى بالمدينة وأخذ منه شعيرا لاهله " ولحديث عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اشْتَرَى طعاما من يهودى إلى أجل ورهنه درعا من حديد " وفى رواية " توفى ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعا من شعير " أخرجهما البخاري ومسلم: ولاحمد والنسائي وابن ماجه مثله من حديث ابن عباس قال ابن تيمية أبو البركات " وفيه من الفقه جواز الرهن في الحضر ومعاملة أهل الذمة " وسيأتى تفصيل ذلك في الرهن

(13/165)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وفى الوقت الذى يملك فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يملكه بالقبض لانه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك فيه على القبض كالهبة فعلى هذا إذا كان القرض حيوانا فنفقته بعد القبض على المستقرض فان اقترض أباه وقبضه عتق عليه
(والثانى)
أنه لا يملكه إلا بالتصرف بالبيع والهبة والاتلاف لانه لو ملك قبل التصرف لما جاز للمقرض أن يرجع فيه بغير رضاه، فعلى هذا تكون نفقته على المقرض فان اقترض أباه لم يعتق عليه قبل أن يتصرف فيه، واختلف أصحابنا فيمن قدم طعاما إلى رجل ليأكله على أربعة أوجه (أحدها) أنه يملكه بالاخذ
(والثانى)
أنه يملكه بتركه في الفم (والثالث) أنه يملكه بالبلع (والرابع) أنه لا يملكه بل يأكله على ملك صاحب الطعام.
(الشرح) الاحكام: متى يملك المستقرض العين التى استقرضها؟ فيه وجهان من أصحابنا من قال: لا يملكها إلا بالتصرف بالبيع أو الهبة أو يتلفها أو تتلف في يده، لان المقرض له أن يرجع في العين ولان المستقرض له أن يردها، ولو ملكها المستقرض بالقبض لم يملك واحد منهما فسخ ذلك فعلى هذا إن استقرض حيوانا كانت نفقته على المقرض إلى أن يتلفه المستقرض.
قوله: فان اقترض أباه.
قال أحمد: أكره قرضهم، وقال ابن قدامة يحتمل كراهية تنزيه، ويصح قرضهم، وهو قول ابن جريج والمزنى لانه مال يثبت في الذمة سلما فصح قرضه كسائر الحيوان، ويحتمل أن أراد كراهة التحريم، فلا يصح قرضهم، اختاره القاضى، ويصح قرض العبيد دون الاماء، وهو قول مالك والشافعي إلا أن يقرضهن من ذوى محارمهن، لان الملك بالقرض ضعيف وسيأتى بيان ذلك إن شاء الله.
ومنهم من قال: يملكها المستقرض بالقبض.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لانه بالقبض يملك التصرف فيها في جميع الوجوه، فلو لم يملكها بالقبض لما ملك التصرف فيها بما فيه حظ، وبما لا حظ فيها.

(13/166)


وأما الرجوع في العين المقترضة، فلا خلاف بين أصحابنا أن للمستقرض أن يردها على المقرض، أما المقرض فهل له أن يرجع فيها وهى في يد المستقرض؟ فإن قلنا إن المستقرض لا يملكها إلا بالتصرف فللمقرض أن يرجع فيها، ومنهم من قال للمقرض أن يرجع فيها بكل حال، وهو المنصوص عليه في الام.
ولا يكون جواز رجوع المقرض فيها مانعا من ثبوت الملك للمستقرض فيها قبل التصرف، ألا ترى أن الاب إذا وهب لابنه هبة وأقبضه اياها فإن الابن قد ملكها، وللاب أن يرجع فيها، وكذلك إذا اشترى سلعة بسلعة ثم وجد كل واحد منهما بما صار إليه عيبا، فإن لكل واحد منهما أن يرجع في سلعته، وان كانت ملكا للآخر، ويبطل بما لو تصرف هذا المستقرض بالعيب المستقرض ثم رجعت إليه، فإن للمقرض أن يرجع فيها، ولا يدل ذلك على أن المستقرض لم يكن مالكا للعين وقت التصرف فيها، فعلى هذا إذا اقترض حيوانا وقبضه كانت نفقته على المستقرض، وان اقترض وقبضه عتق عليه.
(فرع)
واختلف أصحابنا فيمن قدم إلى غيره طعاما، وأباح له أكله حتى يملكه المقدم إليه، فمنهم من قال.
يملكه بالتناول، فإذا أخذ لقمة بيده ملكها، كما إذا وهبه شيئا وأقبضه اياه، فعلى هذا لو أراد أن المقدم أن يسترجعها منه بعد أن يأخذها بيده لم يكن له ذلك.
ومنهم من قال: يملكه بتركه في الفم، فعلى هذا للمقدم أن يرجع فيه ما لم يتركه المقدم إليه في فمه.
ومنهم من قال لا يملكه الا بالبلع.
والرابع الذى حكاه المصنف أنه لا يملكه بالاكل، بل بأكله وهو على ملك صاحبه، فإذا قلنا ان المقدم إليه ملكه بأخذه باليد أو بتركه في الفم، فهل له أن يبيح لغيره أو يتصرف فيه بغير ذلك فيه وجهان، قال عامة أصحابنا لا يجوز له ذلك، لانه أباح له انتفاعا مخصوصا، فهل يجوز له أن ينتفع به بغيره كما لو أعاره ثوبا لم يكن له أن يعيره.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: له أن يفعل به ما شاء من وجوه

(13/167)


التصرفات مثل البيع والهبة لغيره، لانه ملكه، فهو كما لو وهبه شيئا وأقبضه اياه قال ابن الصباغ، وهذا الذى قالاه لا يجئ على أصولهما، لان من شرط الهبة عندهما الايجاب والقبول والاذن بالقبض إلا أن يتضمنها لقوله، ولم يوجد ذلك ها هنا، ولان الاذن بالتناول انما تضمن إباحة الاكل فلا يصح أن يحصل به الملك، ولو كان ذلك صحيحا لجاز له تناول جميع الذى قدم إليه، ويتصرف به إلى بيته، وكذلك إذا قلنا بتركه في فمه فانه لم يحصل الاكل المأذون فيه، وإنما يملكه بالبلع.
قال: وعندي أن بالبلع يبطل معنى الملك فيه، ويصير كالتالف.
قال: والاوجه في ذلك أن يكون إذنا في الاتلاف لا تمليك فيه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ويجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف لانه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز فيما يملك ويضبط بالوصف كالسلم، فأما ما لا يضبط بالوصف كالجواهر وغيرها ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لان القرض يقتضى رد المثل ومالا يضبط بالوصف لا مثل له
(والثانى)
يجوز لان مالا مثل له يضمنه المستقرض بالقيمة والجواهر كغيرها في القيمة ولا يجوز إلا في مال معلوم القدر فان أقرضه دراهم لا يعرف وزنها أو طعاما لا يعرف كيله
لم يجز لان القرض يقتضى رد المثل فإذا لم يعلم القدر لم يمكن القضاء.
(الشرح) الاحكام: يصح القرض في كل عين يصح بيعها وتضبط صفتها كما قلنا في السلم، وأما ما لا يضبط بالصفة كالجواهر وما عملت فيه النار، فهل يصح قرضها؟ فيه وجهان بناء على الوجهين فيما يجب رده بالقرض فيما لا مثل له فان قلنا: يجب رد القيمة جاز قرض هذه الاشياء، وان قلنا: يجب رد المثل فيها لم يجز قرضها ويأتى توجيههما في رد المثليات.
(فرع)
قال الصيمري: ولا يجوز قرض الدراهم المزيفة، ولا الزرنيخية ولا المحمول عليها، ولو تعامل بها الناس، فلو أقرضه دراهم أو دنانير ثم حرمت لم يكن له الا ما أقرض، وقيل: قيمتها يوم حرمت، ولا يصح القرض الا في

(13/168)


مال معلوم، فان أقرضه دراهم غير معلومة الوزن أو طعاما غير معلوم الكيل لم يصح، لانه إذا لم يعلم قدر ذلك لم يمكنه القضاء.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز استقراض الجارية لمن لا يحل له وطؤها ولا يجوز لمن يملك وطأها.
وقال المزني رحمه الله يجوز لانه عقد يملك به المال فجاز أن يملك به من يحل له وطؤها كالبيع والهبة والمنصوص هو الاول لانه عقد ارفاق جائز من الطرفين فلا يستباح به الوطئ كالعارية ويخالف البيع والهبة فان الملك فيهما تام لانه لو أراد كل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ لم يملك والملك في القرض غير تام لانه يجوز لكل واحد منهما ان ينفرد بالفسخ فلو جوزنا فيمن يحل له وطؤها أدى إلى الوطئ في ملك غير تام وذلك لا يجوز وان أسلم جارية في جارية فَفِيهِ وَجْهَانِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجُوزُ لانا لا نأمن أن يطأها ثم يردها عن التى تستحق عليه فيصير كمن اقترض جارية فوطئها ثم ردها.
ومن أصحابنا من قال.
يجوز وهو
المذهب لان كل عقد صح في العبد بالعبد صح في الجارية بالجارية كالبيع.
(الشرح) الاحكام: يجوز قرض غير الجوارى من الحيوان فالعبيد والانعام وغيرهما مما يصح بيعها ويضبط وصفها، وقال أبو حنيفة لا يصح قرضها وبنى ذلك على أصله أن السلم فيها لا يصح.
دليلنا ما روى أبو رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " استسلف من أعرابي بكرا فأمرني أن أقضيه فقلت: لم أجد في الابل الا جملا خيارا رباعيا فقال اقضه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء رواه الجماعة إلا البخاري، ولان ما صح أن ثبت في الذمة مهرا صح أن يثبت فيها قرضا كالثياب.
وأما استقراض الجوارى فيجوز ذلك لم لا يحل له وطؤها بنسب أو رضاع أو مصاهرة كغيرها من الحيوان، ولا يجوز لمن يحل له وطؤها.
وقال المزني وابن داود وابن جرير الطبري يجوز.
وحكى الطبري عن بعض أصحابنا الخراسانيين أنه يجوز قرضها ولا يحل للمستقرض وطؤها.

(13/169)


دليلنا أنه عقد ارفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين فلم يملك به الاستمتاع كالعارية، فقولنا عقد ارفاق احتراز من البيع إذا اشترى جارية بجارية ووجد كل واحد بما صار إليه عيبا فان لكل واحد منهما أن يطأ جاريته وليس بعقد ارفاق، ولا ينتقض بالرجل إذا وهب لابنه جارية، لان الهبة تلزم جهة الموهوب، ولا تلزم جهة الواهب، ويقول ابن قدامة من الحنابلة وانا أنه عقد ناقل للملك فاستوى فيه العبيد والاماء كسائر العقود ولا نسلم ضعف الملك، فانه مطلق لسائر التصرفات بخلاف الملك في مدة الخيار.
وقولهم متى شاء المقترض ردها، ممنوع.
فاننا إذا قلنا الواجب رد القيمة لم يملك المقترض رد الامة، وانما يرد قيمتها، وان سلمنا ذلك لكن متى قصد المقترض
هذا لم يحل له فعله، ولا يصح اقتراضه كما لو اشترى أمة ليطأها ثم يردها بالمقايلة أو بعيب فيها وان وقع هذا بحكم الاتفاق لم يمنع الصحة كما لو وقع ذلك في البيع اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه ألفا على أن يبيعه داره أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له بها سفتجة يربح فيها خطر الطريق، والدليل عليه ما رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن سلف وبيع والسلف هو القرض في لغة أهل الحجاز، وروى عن أبى بن كعب وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولانه عقد ارفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه فان شرط أن يرد عليه دون ما أقرضه ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجوز، لان مقتضى القرض رد المثل فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافى مقتضاه فلم يجز كما لو شرط الزيادة
(والثانى)
يجوز، لان القرض جعل رفقا بالمستقرض وشرط الزيادة يخرج به عن موضوعه فلم يجز وشرط النقصان لا يخرج به عن موضوعه فجاز فان بدأ المستقرض فزاده أورد عليه ما هو أجود منه أو كتب له سفتجة أو باع منه داره جاز لما روى أبو رافع رضى الله عنه قال استسلف رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رجل بكرا فجاءته

(13/170)


إبل الصدقة فأمرني أن أقضى الرجل بكرا، فقلت لم أجد في الابل إلا جملا خيارا رباعيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه " فإن خياركم أحسنكم قضاء " وروى جَابِرِ بْنِ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ لى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق فقضاني وزادني، فإن عرف لرجل عادة أنه إذا استقرض زاد في العوض، ففى إقراضه وجهان:

(أحدهما)
لا يجوز إقراضه إلا أن يشترط رد المثل لان المتعارف كالمشروط ولو شرط الزيادة لم يجز فكذلك إذا عرف بالعادة
(والثانى)
أنه يجوز وهو المذهب لان الزيادة مندوب إليها فلا يجوز أن يمنع ذلك صحة العقد، فإن شرط في العقد شرطا فاسدا بطل الشرط.
وفى القرض وجهان
(أحدهما)
انه يبطل لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كل قرض جر منفعة فهو ربا، ولانه إنما أقرضه بشرط ولم يسلم الشرط فوجب أن لا يسلم القرض
(والثانى)
أنه يصح، لان القصد منه الارفاق، فإذا زال الشرط بقى الارفاق.
(الشرح) حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فقد رواه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان بلفظ " لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع " وقد رواه من طريق ابن عمر صاحب المنتقى وقال رواه الخمسة ابن ماجه، فخطأ الشوكاني روايته عن ابن عمر وقال الصحيح اثبات الواو، فتكون رواية عن عبد الله بن عمرو.
وبذلك تستقيم الروايات، فإن عمرو بن شعيب جد أبيه عبد الله بن عمرو.
والله تعالى أعلم.
أما لغات الفصل فقوله: سفتجة فارسية، وهى ما يقال لها بالعامية (كمبيالة) وقوله " بكرا " هي الثنى من الابل، وفى قول أبى عبيد أنه من الابل بمنزلة الفتى من الناس.
وقوله " خيارا " أعنى مختارا عند الطلب وقضاء الامور أما الاحكام: فلا يجوز بيع وسلف، وهو أن يقول: بعتك هذه الدار بمائة على أن تقرضني خمسين، لرواية عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بيعتين في بيعة.
وعن ربح ما لم يضمن وبيع ما ليس عندك "

(13/171)


ولا يجوز أن يقرضه دراهم على أن يعطيه بدلها في بلد آخر، ويكتب له بها
صحيفة (كمبيالة) فيأمن خطر الطريق ومئونة الحمل، وهو مذهبنا، وخالفنا أحمد وغيره مستدلين بأن عبد الله بن الزبير كان يقترض ويعطى من أقرضه صحيفة يأخذ قيمتها من مصعب أخيه واليه على العراق.
وفى المغنى مزيد بيان.
ودليل أصحاب أحمد وخلاصته أنه عقد ارفاق.
دليلنا أن أمن الطريق منفعة، وكل قرض جر نفعا فهو ربا.
ولا يجوز أن يقرضه شيئا بشرط أن يرد عليه درهمين، ولان هذا ربا عند تماثل البدلين فهو كالبيع فلا يجوز فيه التفاضل عند التماثل.
نعم ان كان ذلك في غير أموال الربا كالثياب والحيوان ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد
(أحدهما)
يجوز لما روى عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أجهز جيشا فنفدت الابل، فأمرني أن آخذ بعيرا ببعيرين إلى أجل، وهذا استسلاف مر بك في أبواب السلم
(والثانى)
لا يجوز وهو المذهب للحديث " كل قرض جر منفعة فهو حرام " ولان هذا زيادة لا يقابلها عوض فلم يصح، كما لو باعه داره بمائة على أن يعطيه مائة وعشرة، ولانه لو اشترط زيادة في الجودة لم يصح، فلان لا يجوز اشتراط الزيادة في العود أولى.
وأما الخبر في الحيوان فهو وارد في السلم بدليل أنه قال: كنت آخذ البعير بالبعيرين إلى أجل، والقرض لا يدخل الاجل وان أقرضه شيئا وشرط أن يرد عليه دون ما أقرضه، ففيه وجهان حكاهما المصنف
(أحدهما)
لا يجوز لان مقتضى القرض رد المثل، فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافى مقتضى العقد فلم يصح، كما لو شرط الزيادة.

(والثانى)
يجوز لان القرض جعل رفقا بالمستقرض وشرط الزيادة يخرج القرض عن موضوعه فلم يجز وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه فجاز.
والله تعالى أعلم.
(فرع)
إذا اقترض من غيره درهما فرد عليه درهمين، أو درهما أجود منه كأن أخذ منه جنيها مصريا فرد عليه جنيها استرلينيا، أو باع منه داره أو كتب له

(13/172)


بدراهمه صحيفة (كمبيالة) إلى بلد آخر من غير شرط ولا جرت للمقرض عادة بذلك جاز.
ومن أصحابنا من قال لا يجوز ذلك في أموال الربا ويجوز في غيرها، وليس بصحيح لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرض نصف صاع فرد صاعا واقترض صاعا فرد صاعين، واقترض من الاعرابي بكرا فرد عليه أجود منه وقال صلى الله عليه وسلم " خيار الناس أحسنهم قضاء " وقال جابر رضى الله عنه: كان لى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين فقضاني وزادني ولانه متطوع بالزيادة فجاز، كما لو وصله بها كصلة.
وكذلك لو اقترض رجل شيئا فرد أنقص مما أخذ وطابت نفس المقرض بذلك، فإن كان الرجل معروفا إذا اقترض رد أكثر مما اقترض أو أجود منه، فهل يجوز إقراضه مطلقا، فيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح إقراضه إلا بشرط أن يرد عليه مثل ما أخذ لان ما علم بالعرف كالمعروف بالشرط
(والثانى)
وهو الصحيح أنه يجوز إقراضه من غير شرط لان الزيادة مندوب إليها في القضاء، فلا يمنع من جواز العقد فأما ما كان معروفا من جهة العرف فلا يمنع جواز الاقراض.
ألا ترى أنه لو وجدت عادة رجل أنه إذا اشترى من إنسان تمرا أطعمه منه أو أطعم البائع من غيره لم يضر ذلك بمنزلة المشروط في بطلان البيع منه قال العمرانى: وان أقرضه شيئا بشرط فاسد بأن أقرضه إلى أجل أو أقرضه درهما بدرهمين بطل الشرط لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ باطل " وهل يبطل القرض، فيه وجهان
(أحدهما)
يبطل.
فعلى هذا لا يملكه المقترض، لان القرض انما وقع
بهذا الشرط، فإذا بطل الشرط بطل العقد كالبيع بشرط فاسد
(والثانى)
لا يبطل لان القرض عقد ارفاق، فلم يبطل بالشرط الفاسد بخلاف البيع وقال في المغنى " ان شرط في القرض أن يوفيه أنقص مما أقرضه وكان ذلك مما يجرى فيه الربا لم يجز لافضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه، وان كان في غيره لم يجز أيضا، وهو أحد الوجهين لاصحاب الشافعي، وفى الوجه الآخر يجوز لان القرض جعل للرفق بالمستقرض، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه بخلاف الزيادة.
اه

(13/173)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل، لان مقتضى القرض رد المثل، ولهذا يقال الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل، وفيما لا مثل له وجهان
(أحدهما)
يجب عليه القيمة، لان ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات
(والثانى)
يجب عليه مثله في الخلقة والصورة، لحديث أبى رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يقضى البكر بالبكر، ولان ما ثبت في الذمة بعقد السلم ثبت بعقد القرض قياسا على ما له مثل، ويخالف المتلفات فإن المتلف متعد فلم يقبل منه الا القيمة لانها أحصر، وهذا عقد أجيز للحاجة فقبل فيه مثل ما قبض كما قبل في السلم مثل ما وصف، فإن اقترض الخبز وقلنا يجوز اقراض ما لا يضبط بالوصف ففى الذى يرد وجهان
(أحدهما)
مثل الخبز
(والثانى)
ترد القيمة فعلى هذا إذا أقرضه الخبز وشرط أن يرد عليه الخبز ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لان مبناه على الرفق فلو منعناه من رد الخبز شق وضاق
(والثانى)
لا يجوز لانه إذا شرط صار بيع خبز بخبز وذلك لا يجوز
(الشرح) الاحكام: وإذا أقرض شيئا له مثل كالحبوب والادهان والدراهم والدنانير وجب على المقترض رد مثلها لانه أقرب إليه، وان اقترض منه مالا مثل له كالثياب والحيوان ففيه وجهان
(أحدهما)
يجب رد قيمته، وهو اختيار للشيخ أبى حامد ولم يذكر غيره، لانه مضمون بالقيمة في الاتلاف، فكذلك في القرض
(والثانى)
يضمنه بمثله في الصورة، وهو اختيار القاضى أبى الطيب الطبري لحديث أبى رافع رضى الله عنه قضاء البكر، ولان طريق القرض الرفق فسومح فيه بذلك، ألا ترى أنه يجوز فيه النسبة فيما فيه الربا، ولا يجوز ذلك في البيع بخلاف المتلف فإنه متعد، فأوجبت عليه القيمة لانها أحصر قال ابن الصباع فإذا قلنا يجب القيمة فإن قلنا انه يملك بالقبض وجبت القيمة حين القبض، وان قلنا انه لا يملك الا بالتصرف وجبت عليه القيمة أكثر ما كانت من القبض إلى حين التلف، وان اختلفا في قدر القيمة أو صفة المثل فالقول قول المستقرض مع يمينه لانه غارم.

(13/174)


(فرع)
واما إقراض الخبز، فإن قلنا: يجوز قرض مالا يضبط بالصفة كالجواهر جاز قرض الخبز، وإن قلنا لا يجوز قرض مالا يضبط بالوصف ففى قرض الخبز وجهان
(أحدهما)
لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة كغيره مما لا يضبط بالوصف
(والثانى)
يجوز.
قال ابن الصباغ: لاجماع أهل الامصار على ذلك، فإنهم يقترضون الخبز، فإذا قلنا.
يجوز.
فإن قلنا يجب فيما لا مثل له رد مثله في الصورة رد مثل الخبز وزنا.
وإن قلنا يجب رد قيمة مالا مثل له رد قيمة الخبز فعلى هذا إن شرط أن يرد مثل الخبز ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح، لان الرفق باقتراض الخبز لا يحصل إلا بذلك
(والثانى)
لا يصح كما لا يجوز بيع الخبز بالخبز وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
إذا أقرضه دراهم بمصر ثم لقيه بمكة فطالبه بها لزمه دفعها إليه، فان طالبه المستقرض بأن يأخذها وجب عليه أخذها لانه لا ضرر عليه في أخذها فوجب أخذها فان أقرضه طعاما بمصر فلقيه بمكة فطالبه به لم يجبر على دفعه إليه لان الطعام بمكة أغلى فان طالبه المستقرض بالاخذ لم يجبر على أخذه لان عليه مؤنة في حمله فان تراضيا جاز لان المنع لحقهما وقد رضيا جميعا، فان طالبه بقيمة الطعام بمكة أجبر على دفعها لانه بمكة كالمعدوم وماله مثل إذا عدم وجبت قيمته ويجب قيمته بمصر لانه يستحقه بمصر فان أراد أن يأخذ عن بدل القرض عوضا جاز لان ملكه عليه مستقر فجاز أخذ العوض عنه كالاعيان المستقرة وحكمه في اعتبار القبض في المجلس حكم ما يأخذه بدلا عن رأس مال السلم بعد الفسخ وقد بيناه والله أعلم.
(الشرح) قال الشافعي في الصرف: فإذا اقترض طعاما بمصر فلقيه بمكة وطالبه، لان عليه ضررا في نقل الطعام من مصر إلى مكة، ولان الطعام بمكه أكثر قيمة، وإن طالبه المستقرض بأخذه لم يلزم المقرض أخذه لان عليه مؤنة في حمله إلى مصر، وإن تراضيا على ذلك جاز لان الحق لهما، وإن طالب المقرض

(13/175)


المستقرض بقيمة طعامه بمكة أجبر المقترض على دفع قيمة الطعام، لان الطعام بمكة كالمعدوم وماله مثل إذا عدم وجبت قيمته.
قال الشيخ أبو حامد: ويأخذ قيمة الطعام بمصر يوم المطالبة لا بمكة، لانه إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة، وهكذا إن غصب منه طعاما بمصر، أو أسلم إليه بطعام مصر فلقيه بمكة كان الحكم فيه كالحكم في القرض، الا أن الغاصب إذا دفع القيمة للطعام بمكة، وكان الطعام باقيا لم يملكه الغاصب، بل
إذا رجع إلى مصر رد الطعام الذى غصبه واسترجع القيمة، فإذا كان في ذمته له دراهم أو دنانير من قرض أو غصب أو سلم بمصر فطالبه بقضائها في مكة وجب عليه القضاء لانه ليس لنقلها مؤنة، ولا يختلف باختلاف البلد.
(فرع)
وان اقترض من رجل شيئا وقبضه وتصرف فيه أو أتلفه ثم أراد أن يعطيه عن بدل القرض عوضا جاز لانه مستقر في الذمة، لا يخشى انتقاصه بهلاكه فجاز تصرفه فيه قبل القبض كالمبيع بعد القبض بخلاف المسلم فيه، فإنه غير مستقر يخشى انتقاصه بهلاكه، وحكمه في اعتبار القبض حكم ما يأخذ عوضا عن رأس مال السلم بعد الفسخ وقد مضى بيانه، وان كانت العين المقترضة باقية في يد المقترض فانه لا يجوز أخذ العوض عنها، لانا ان قلنا: ان المقترض قد ملكها بالقبض فلا يجوز أخذ العوض، لان ملك المقرض قد زال عن العين، ولم يستقر بدلها في ذمة المستقرض، لان للمقترض أن يرجع في العين، وان قلنا ان المقترض لا يملك العين الا بالتصرف لم يجز للمقرص أخذ بدل العين، لان ملكه عليه ضعيف بتسليط المقترض عليه.
هكذا قال ابن الصباغ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(13/176)


قال المصنف رحمه الله: كتاب الرهن ويجوز الرهن على الدين في السفر لقوله عز وجل " وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " ويجوز في الحضر لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم رهن درعا عند يهودى بالمدينة وأخذ منه شعيرا لاهله.
(الشرح) حديث أنس رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه وبعد: - فالرهن بفتح الراء وسكون الهاء الاحتباس من قولهم: رهن الشئ إذا دام وثبت، ومنه قوله تعالى " كل نفس بما كسبت رهينة " وفى الشرع جعل مال وثيقة
على دين ليستوفى منه الدين عند تعذره ممن عليه ويطلق أيضا على العين المرهونة تسمية للمفعول به باسم المصدر، وأما الرهن بضمتين فالجمع، ويجمع أيضا على رهان بكسر الراء ككتب وكتاب، وقرئ بهما.
وقوله: عند يهودى هو أبو الشحم كما بينه الشافعي والبيهقي من طريق جعفر ابن محمد عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رهن درعا عند أبى الشحم اليهودي رجل من بنى ظفر، في شعير " وأبو الشحم بفتح المعجمة وسكون المهملة كنيته، وظفر بفتح الظاء والفاء بطن من الاوس وكان حليفا لهم، وضبطه بعض المتأخرين بهمزة ممدودة وموحدة مكسورة اسم فاعل من الاباء وكأنه التبس عليه بآبى اللحم الصحابي.
وفى الحديث الذى روته عائشة رضى الله عنها عند البخاري ومسلم ولاحمد والنسائي وابن ماجه مثله " توفى صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعا من شعير " في رواية الترمذي والنسائي من هذا التوجه " بعشرين " وقال في فتح الباري: لعله كان دون الثلاثين فجبر الكسر تارة وألغى الجبر أخرى والرهن مجمع على جوازه، وفيها أيضا دليل على صحة الرهن في الحضر وهو

(13/177)


قول الجمهور، والتقييد بالآية في السفر " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له لدلالة الاحاديث على مشروعيته في الحضر، وايضا السفر مظنة فقد الكاتب فلا يحتاج إلى الرهن غالبا إلا فيه، وخالف مجاهد والضحاك فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب وبه قال داود وأهل الظاهر، والاحاديث ترد عليهم.
وقال ابن حزم: إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك، وان تبرع به الراهن جاز، وحمل أحاديث الباب على ذلك.
قال العمرانى في البيان: دليلنا على جوازه في الحضر مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه اقترض من أبى الشحم اليهودي ثلاثين صاعا من شعير لاهله بعد ما عاد من غزوة تبوك بالمدينة، ورهن عنده درعه فكانت قيمتها أربعمائة درهم، ففى هذا الخبر فوائد (منها) جواز الرهن لان النبي صلى الله عليه وسلم رهن.
(ومنها) جواز الرهن في الحضر، لان ذلك كان بالمدينة وكانت موطن النبي صلى الله عليه وسلم.
(ومنها) أنه يجوز معاملة من في ماله حلال وحرام إذا لم يعلم عين الحلال والحرام، لان النبي صلى الله عليه وسلم عامل اليهودي، ومعلوم أن اليهود يستحلون ثمن الخمر ويربون.
(ومنها) أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن، لان النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة.
(ومنها) أن الابراء يصح وأن يقبل المبرأ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يعدل عن معاملة مياسير الصحابة رضى الله عنهم وأرضاهم مثل عثمان وعبد الرحمن رضى الله عنهما وأرضاهما إلا لانه كان يعلم أنه لو استقرض منهم أبروه، فلو كانت البراءة لا تصح إلا بقبول المبرأ لكان لا تقبل البراءة فعدل النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهودي الذى يعلم أنه يطالبه بحقه، ولانه وثيقة في السفر فجازت في الحضر كالضمان والشهادة اه.
وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف في الرهن في الحضر إلا مجاهدا قال:

(13/178)


لبس الرهن إلا في السفر لان الله تعالى شرط السفر في الرهن.
قال الشافعي رحمه الله، بعد أن ساق قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل
مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل " وقوله تعالى " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " قال: فكان بينا في الآية الامر بالكتاب في الحضر والسفر، وذكر الله تبارك وتعالى الرهن إذا كانوا مسافرين ولم يجدوا كاتبا فكان معقولا - والله أعلم - فيها أنهم أمروا بالكتاب والرهن احتياطا لملك الحق بالوثيقة والمملوك عليه بأن لا ينسى ويذكر، لا أنه فرض عليهم أن يكتبوا، ولا أن يأخذوا رهنا لقول الله عز وجل " فإن أمن بعضكم بعضا " فكان معقولا أن الوثيقة في الحق في السفر والاعواز غير محرمة - والله أعلم - في الحضر وغير الاعواز، ولا بأس بالرهن في الحق الحال والدين في الحضر والسفر وما قلت من هذا مما لا أعلم فيه خلافا، ثم أورد أحاديث رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند أبى الشحم.
ثم قال: والدين حق لازم، فكل حق مما يملك، أو لزم بوجه من الوجوه جاز الرهن فيه، ولا يجوز الرهن فيما لا يلزم، فلو ادعى رجل على رجل حقا فأنكره وصالحه ورهنه به رهنا كان الرهن مفسوخا لانه لا يلزم الصلح على الانكار اه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح الرهن إلا من جائز التصرف في المال لانه عقد على المال فلم يصح إلا من جائز التصرف في المال كالبيع.
(الشرح) الاحكام: لا يصح الرهن إلا من جائز التصرف في المال، فأما الصبى والمجنون والمحجور عليه، فلا يصح منه الرهن لانه عقد على المال فلم يصح منهم كالبيع.
وقال الشافعي رضى الله عنه: كل من جاز بيعه من بالغ حر غير محجور عليه جاز رهنه ومن جاز له أن يرهن أو يرتهن من الاحرار فإذا جازت هبته في ماله جاز له رهنه بلا نظر، ولا يجوز أن يرتهن الاب لابنه، ولا ولى اليتيم له، إلا بما فيه فضل لهما.
ويصح الرهن بكل حق لازم في الذمة كديون
السلم، ويدل القرض، وثمن المبيعات، وقيم المتلفات، والاجرة والمهر وعوض

(13/179)


الخلع والارش على الجاني، وأما الدية على العاقلة - فإن كان قبل الحول لم يصح لانه لم يجب عليهم شئ، وإن كان بعد حلول الحول صح
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز أخذ الرهن على دين السلم وعوض القرض للآية والخبر، ويجوز على الثمن والاجرة والصداق وعوض الخلع ومال الصلح وأرش الجناية وغرامة المتلف، لانه دين لازم فجاز أخذ الرهن عليه كدين السلم وبدل القرض ولا يجوز أخذه على دين الكتابة لان الرهن إنما جعل ليحفظ عوض ما زال عنه ملكه من مال ومنفعة وعضو، والمعوض في الكتابة هو الرقبة، وهى باقية على ملكه لا يزول ملكه عنها إلا بالاداء فلا حاجة به إلى الرهن، ولان الرهن إنما يعقد لتوثيق الدين حتى لا يبطل، والمكاتب يملك أن يبطل الدين بالفسخ إذا شاء فلا يصح توثيقه.
فأما مال الجعالة قبل العمل ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز أخذ الرهن به لانه مال شرط في عقد لا يلزم فلا يجوز أخذ الرهن به كمال الكتابة
(والثانى)
يجوز لانه دين يؤول إلى اللزوم فجاز أخذ الرهن به كالثمن في مدة الخيار.
وأما مال السبق والرمى ففيه قولان
(أحدهما)
أنه كالاجارة فيجوز أخذ الرهن به
(والثانى)
أنه كالجعالة فيكون على الوجهين.
وأما العمل في الاجارة فانه ان كانت الاجارة على عمل الاجير فلا يجوز أخذ الرهن به، لان القصد بالرهن استيفاء الحق منه عند التعذر، وعمله لا يمكن استيفاؤه من غيره، وإن كانت الاجارة على عمل في الذمة جاز أخذ الرهن به، لانه يمكن استيفاؤه من الرهن
بأن يباع ويستأجر بثمنه من يعمل (الشرح) قال الشيخ أبو حامد: ويحكى عن بعض الناس أنه قال، لا يصح الرهن إلا في دين السلم وهو خلاف الاجماع اه قلت: قد يكون الدين في الذمة ثمنا، وقد يكون فيها مثمنا، ولانه حق ثابت في الذمة فجاز أخذ الرهن كالسلم، ويجوز أخذ الرهن بالدين الحال، لان النبي

(13/180)


صلى الله عليه وسلم رهن درعه ببدل القرض، وهو حال ولا يصح، ولا يصح الرهن بدين الكتابة.
وقال أبو حنيفة يصح.
دليلنا أنه وثيقة يستوفى منها الحق فلم يصح في دين الكتابة كالضمان، ولان الرهن إنما جعل لكى يستوفى منه من له الحق إذا امتنع من عليه الحق وهذا لا يمكن في الكتابة، لان للكاتب أن يعجز نفسه أي وقت شاء.
ويسقط ما عليه، فلا معنى للرهن به.
وأما الرهن بمال الجعالة بأن يقول: من رد لى حصاني الجمامح فله دينار، فإن رده رجل استحق الدينار وصح أخذ الرهن به وهل يصح أخذ الرهن به قبل الرد؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يصح وهو اختيار أبى على الطبري والقاضى أبى الطيب لانه حق غير لازم، فهو كمال الكتابة والثانى: يصح لانه يؤول إلى اللزوم فهو كالثمن في مدة الخيار وأما مال السبق والرمى فإن كان بعد العمل صح أخذ الرهن به، وإن كان قبل العمل.
فان قلنا إنه كالاجارة صح أخذ الرهن به، وإن كان قبل العمل، فان قلنا انه كالاجارة صح أخذ الرهن به.
وان قلنا إنه كالجعالة فعلى الوجهين في الجعالة.
وأما العمل في الاجارة فهل يصح أخذ الرهن به، ينظر فيه فان كانت الاجارة على عمل الاجير بنفسه لم يصح أخذ الرهن به لانه لا يمكن استيفاء عمله من الرهن، وان كانت الاجارة على تحصيل عمل في ذمته صح أخذ الرهن به، لانه
يمكن استيفاء العمل به من الرهن لانه يباع الرهن ويستأجر منه من يعمل (فرع)
لا يصح أخذ الرهن باليمين والاجرة والصداق وعوض الخلع.
- إذا كان معينا - ولا بالعين المغصوبة ولا المعارة، ولا بالعين المأخوذة بالسوم.
وقال أبو حنيفة: كل عين كانت مضمونة بنفسها جاز أخذ الرهن بها، وأراد بذلك أن ما كان مضمونا بمثله أو قيمته جاز أخذ الرهن به، لان المبيع لا يجوز أخذ الرهن به لانه مضمون بفساد العقد، ويجوز عنده أخذ الرهن بالمهر وعوض الخلع لانه يضمن بمثله أو قيمته.
دليلنا أنه قبل هلاك العين في يده يثبت في ذمته دين فلا يصح أخذ الرهن به كالمبيع.

(13/181)


وعند أحمد ومالك مثل ما عند أبى حنيفة.
قال ابن قدامة: فإذا رهنه المضمون كالمغصوب والعارية والمقبوض في بيع فاسد أو على وجه السوم صح وزال الضمان، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة.
اه وقال الشافعي رضى الله عنه: لا يزول الضمان ويثبت فيه حكم الرهن، والحكم الذى كان ثابتا فيه يبقى بحاله لانه لا تنافى بينهما، بدليل أنه لو تعدى في الرهن صار مضمونا ضمان الغصب، وهو رهن كما كان فكذلك ابتداؤه، لانه أحد حالتى الرهن.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويجوز عقد الرهن بعد ثبوت الدين، وهو أن يرهن بالثمن بعد البيع، وبعوض القرض بعد القرض، ويجوز عقده مع العقد على الدين، وهو أن يشترط الرهن في عقد البيع وعقد القرض، لان الحاجة تدعو إلى شرطه بعد ثبوته وحال ثبوته، فأما شرطه قبل العقد فلا يصح لان الرهن تابع للدين
فلا يجوز شرطه قبله، (الشرح) الاحكام: يجوز عقد الرهن بعد ثبوت الدين، مثل أن يقرضه شيئا أو يسلم إليه في شئ فيرهنه بذلك لانه وثيقة بالحق بعد لزومه فصح كالشهادة والضمان.
ويجوز شرط الرهن مع ثبوت الحق بأن يقول: بعتك هذا بدينار في ذمتك بشرط أن ترهننى كذا، أو أقرضك هذا بشرط أن ترهننى كذا، لان الحاجة تدعو إلى شرطه في العقد، فإذا شرط هذا الشرط لم يجب على المشترى الرهن، أي لا يجبر عليه، ولكن متى امتنع مه ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع ولا يجوز عقد الرهن قبل ثبوت الحق.
مثل أن يقول: رهنتك هذا على عشرة دراهم تقرضنيها، أو على عشرة أبتاع بها منك.
وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: يصح دليلنا أنه وثيقة بحق فلم يجز أن يتقدم عليه كالشهادة بأن تقول: اشهدوا أن له على ألفا أقترضها منه غدا

(13/182)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز أخذ الرهن على الاعيان كالمغصوب والمسروق والعارية والمأخوذ على وجه السوم، لانه إن رهن على قيمتها إذا تلفت لم يصح، لانه رهن على دين قبل ثبوته، وان رهن على عينها لم يصح، لانه لا يمكن استيفاء العين من الرهن.
(الشرح) الاحكام: إن نقلت السفينة لقوم في البحر متاعا وخافوا الغرق، فقال رجل لغيره ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه، فإن كان المتاع غير معلوم لم يصح أخذ الرهن به قبل الالقاء لانه رهن بدين قبل وجوبه، وهل يصح الضمان
به؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري.
أحدهما: لا يصح الرهن به ولا الضمان به.
وهذا هو المشهور لان القيمة لا تجب قبل الالقاء.
والثانى: يصحان، ويمكن أن يكون للمسألة وجه ثالث: يصح الضمان ولا يصح الرهن.
وأما إذا ألقاه في البحر وجبت القيمة في ذمة المستدعى وصح أخذ الرهن بها والضمان لانها دين واجب فإذا رهنه المضمون، كالمغصوب والعارية والمقبوض في بيع فاسد أو على وجه السوم لم يصح عندنا، وعند أصحاب أحمد ومالك وأبى حنيفة صح وزال الضمان.
ولانه مأذون له في إمساكه رهنا لم يتجدد منه فيه عدوان فلم يضمنه كما لو قبضه منه ثم أقبضه إياه أو أبرأه من ضمانه، ويقولون عن التنافى بينهما انه ممنوع لان الغاصب يده عادية يجب عليه إزالتها، ويد المرتهن محقة جعلها الشرع له، ويد المرتهن يد أمانة، ويد الغاصب والمستعير ونحوهما يد ضامنة، وهم ينقضون قول الامام الشافعي رضى الله عنه في قوله " لا يزول الضمان ويثبت فيه حكم الرهن، والحكم الذى كان ثابتا فيه يبقى بحاله لانه لا تنافى بينهما، بدليل أنه لو تعدى في الرهن صار مضمونا ضمان الغصب وهو رهن كما كان، فكذلك ابتداؤه لانه أحد حالتى الرهن

(13/183)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن، لان العقد لحظه، لا حظ فيه للراهن، فجاز له فسخه إذا شاء، فأما من جهة الرهن فلا يلزم إلا بقبض، والدليل عليه قوله عزوجل: فرهن مقبوضة، فوصف الرهن بالقبض، فدل على أنه لا يلزم إلا به، ولانه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول والقبض فلم يلزم من
غير قبض كالهبة، فإن كان المرهون في يد الراهن لم يجز للمرتهن قبضه إلا بإذن الراهن.
لان للراهن أن يفسخه قبل القبض فلا يملك المرتهن إسقاط حقه من غير إذنه فان كان في يد المرتهن فقد قال في الرهن انه لا يصير مقبوضا بحكم الرهن إلا بإذن الراهن، وقال في الاقرار والمواهب إذا وهب له عينا في يده صارت مقبوضة من غير إذن، فمن أصحابنا من نقل جوابه في الرهن إلى الهبة وجوابه في الهبة إلى الرهن فجعلهما على قولين.

(أحدهما)
لا يفتقر واحد منهما إلى الاذن في القبض لانه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف لم يفتقر إلى أذن مستأنف.

(والثانى)
أنه يفتقر وهو الصحيح لانه عقد يفتقر لزومه إلى القبض فافتقر القبض إلى الاذن، كما لو لم تكن العين في يده، وقولهم: إنه لا يحتاج إلى نقل مستأنف لا يصح، لان النقل يراد ليصير في يده، وذلك موجود، والاذن يراد لتمييز قبض الهبة والرهن عن قبض الوديعة والغصب، وذلك لا يحصل الا بإذن، ومن أصحابنا من حمل المسئلتين على ظاهرهما، فقال في الهبة لا تفتقر إلى الاذن، وفى الرهن يفتقر، لان الهبة عقد يزيل الملك فلم يفتقر إلى الاذن لقوته والرهن لا يزيل الملك فافتقر إلى الاذن لضعفه، والصحيح هو الطريق الاول، لان هذا الفرق يبطل به إذا لم تكن العين في يده فإنه يفتقر إلى الاذن في الرهن والهبة مع ضعف أحدهما وقوة الآخر فإن عقد على عين رهنا واجارة وأذن له في القبض عن الرهن والاجارة صار مقبوضا عنهما، فان أذن له في القبض عن الاجارة دون الرهن لم يصر مقبوضا عن الرهن، لانه لم يأذن له في قبض

(13/184)


الرهن، فإن أذن له في القبض عن الرهن دون الاجارة صار مقبوضا عنهما لانه أذن له في قبض الرهن، وقبض الاجارة لا يفتقر إلى الاذن لانه مستحق عليه
(الشرح) الاحكام، لا يلزم الرهن من جهة المرتهن بحال، بل متى ما شاء فسخه لانه عقد لحسابه أو لحظه فيجاز له إسقاطه متى شاء كالابراء من الدين.
وأما من جهة الراهن فلا يلزم قبل القبض سواء كان مشروطا في عقد أو غير مشروط، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك رحمه الله تعالى: يلزم من جهة الراهن بالايجاب والقبول، فمن رهن شيئا أجبر على إقباضه، وكذلك قال في الهبة.
دليلنا: قوله تعالى " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " فوصف الرهن بالقبض، فدل على أنه لا يكون رهنا إلا بالقبض، كما أنه وصف الرقبة المعتوقة بالاعيان ثم لا يصح على الكفارة الا عتق رقبة مؤمنة، ولانه عقد إرفاق احتراز من البيع، فانه عقد معاوضة، وقولنا: من شرطه القبول، احتراز من الوقف.
إذا ثبت هذا: فالعقود على ضربين.
ضرب لازم من الطرفين كالبيع والحوالة والاجارة والنكاح والخلع.
وضرب جائز من الطرفين كالوكالة والشركة، والمضاربة والرهن قبل القبض، والضمان، والكتابة، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
وإن أذن له في قبض ما عنده لم يصر مقبوضا حتى يمضى زمان يتأتى فيه القبض، وقال في حرملة: لا يحتاج إلى ذلك كما لا يحتاج إلى نقل، والمذهب الاول، لان القبض انما يحصل بالاستيفاء أو التمكين من الاستيفاء، ولهذا لو أستأجر دارا لم يحصل له القبض في منافعها الا بالاستيفاء، أو بمضي زمان يتأتى فيه الاستيفاء فكذلك ههنا، فعلى هذا ان كان المرهون حاضرا فبأن يمضى زمان لو أراد أن ينقله أمكنه ذلك، وان كان غائبا، فبأن يمضى هو أو وكيله ويشاهده ثم يمضى من الزمان ما يتمكن فيه من القبض، وقال أبو إسحاق:
ان كان مما ينتقل كالحيوان لم يصر مقبوضا الا بأن يمضى إليه لانه يجوز أن يكون

(13/185)


قد انتقل من المكان الذى كان فيه فلا يمكنه أن يقدر الزمان الذى يمكن المضى فيه إليه من موضع الاذن إلى موضع القبض، فأما ما لا ينتقل فانه لا يحتاج إلى المضى إليه بل يكفى أن يمضى زمان لو أراد أن يمضى ويقبض أمكنه، ومن أصحابنا من قال: إن أخبره ثقة أنه باق على صفته ومضى زمان يتأتى فيه القبض صار مقبوضا، كما لو رآه وكيله ومضى زمان يتأتى فيه القبض، والمنصوص هو الاول وما قال أبو إسحاق لا يصح لانه كما يجوز أن ينتقل الحيوان من مكان إلى مكان فلا يتحقق زمان الامكان ففى غير الحيوان يجوز أن يكون قد أخذ أو هلك، وما قال القائل الآخر من خبر الثقة لا يصح، لانه يجوز أن يكون بعد رؤية الثقة حدث عليه حادث فلا يتحقق امكان القبض ويخالف الوكيل، فإنه قائم مقامه فقام حضوره مقام حضوره، والثقة بخلافه.
(الشرح) الاحكام، ان عقد الرهن على عين في يد الراهن لم يجز للمرتهن قبضها الا بإذن الراهن، لان للراهن أن يفسخ الرهن مثل القبض فلم يجز للمرتهن اسقاط حقه من ذلك بغير اذنه.
وان كانت العين المرهونة في يد المرتهن وديعة أو عارية فان الرهن يصح، لانه إذا صح عقد الرهن على ما في يد الراهن، فلان يصح على ما بيد المرتهن للراهن أولى.
(الشرح) فأما القبض فيها فقد قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ مَا يتم به الرهن من القبض فلما كان معقولا أن الرهن غير مملوك الرقبة للمرتهن ملك البيع، ولا مملوك المنفعة له ملك الاجارة لم يجز أن يكون رهنا الا بما أجازه الله عز وجل به من أن يكون مقبوضا.
وإذا لم يجز فللراهن ما لم يقبضه المرتهن منه منعه منه، وكذلك لو أذن له في قبضه فلم يقبضه المرتهن حتى رجع الراهن في الرهن كان ذلك له لما
وصفت من أنه لا يكون رهنا الا بأن يكون مقبوضا، وكذلك ما لم يتم الا بأمرين فليس يتم بأحدهما دون الآخر مثل الهبات التى لا تجوز الا مقبوضة وما في معناها، ولو مات الراهن قبل أن يقبض المرتهن الرهن كان المرتهن والغرماء فيه أسوة سواء اه.
وقال فيما يكون قبضا في الرهن: وإذا أقر الراهن أن المرتهن قد قبض الرهن

(13/186)


وادعى ذلك المرتهن حكم له بأن الرهن تام باقرار الراهن ودعوى المرتهن.
ولو كان الرهن في الشقص غائبا فأقر الراهن أن المرتهن قد قبض الرهن وادعى ذلك المرتهن أجزت الاقرار، لانه قد يقبض له وهو غائب عنه فيكون قد قبضه بقبض من أمره بقبضه له.
اه وقال أيضا " إذا وهب له عينا في يد الموهوب له فقبلها تمت الهبة ولم يعتبر الاذن بالقبض " واختلف أصحابنا فيها عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يلزم واحد منهما الا بالقبض ولا يصح قبضهما الا بالاذن، وما قال الشافعي رحمه الله في الهبة، فأراد إذا أذن، وأضمر ذلك، وصرح به في الرهن.
ومنهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الاخرى وخرجهما على قولين.
أحدهما: لا يفتقر واحد منهما إلى الاذن بالقبض، ولانه لما لم يفتقر إلى اذن مستأنف لم يفتقر إلى اذن.
والثانى: يفتقر إلى الاذن.
قال المصنف: وهو الصحيح.
قلت: لانه قبض يلزمه به عقد غير لازم فلم يحصل الا باذن، كما لو كانت العين في يد الراهن.
ومنهم من حمل المسئلتين على ظاهرهما، فقال في الهبة.
لا يفتقر إلى الاذن بالقبض فيها، وفى الرهن لابد من الاذن بالقبض فيه، لان الهبة عقد اقوى يزيل الملك، فلم يفتقر إلى الاذن فيها، والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك فافتقر
إلى الاذن بالقبض فيه.
إذا ثبت هذا: فرهنه ما عنده فانه لا يحتاج إلى نقله بلا خلاف على المذهب، وهل يحتاج إلى الاذن بالقبض على الطرق المذكورة وسواء قلنا: يفتقر إلى الاذن فلابد من مضى مدة يتباين فيها القبض في مثله ان كان مما ينتقل فيمضى زمان يمكنه نقله، وان كان مما يخلى بينه وبينه فيمضى زمان يمكنه التخلية فيه.
قال الشيخ أبو حامد: وحكى عن حرملة نفسه أنه قال: لا يحتاج إلى مضى مدة، بل يكفيه العقد والاذن، إذا قلنا: انه شرط إلى العقد لا غير - إذا قلنا ان الاذن ليس بشرط - لان يده ثابتة عليه، فلا معنى لاعتبار زمان ابتداء القبض، وهذا غلط، لان القبض لا يحصل الا بالفعل أو بالامكان، ولم يوجد

(13/187)


واحد منهما، فعل هذا إن كان المرهون معه في المجلس أو بقربه وهو يراه أو يعلم به فإن القبض فيه مضى مدة لو قبضه فيها أمكنه، وإن كان الرهن في صندوق في البيت وهو في البيت وتحقق كونه فيه فقبضه أن بمضي مدة لو أراد أن يقوم إلى الصندوق ويقبضه أمكنه، وإن كان الرهن غائبا عن المجلس بأن يكون في البيت والمرتهن في المسجد أو السوق، فنقل المزني عن الشافعي رحمه الله أنه لا يصير مقبوضا حتى يصير المرتهن إلى منزله والرهن فيه، فقال المصنف: هذا فيما يزول بنفسه مثل العبد أو البهيمة، فأما ما لا يزول بنفسه مثل الثوب والدار فلا يحتاج إلى أن يصير إلى منزله، ويكفى أن يأتي عليه زمان يمكنه القبض فيه قال القاضى أبو الطيب: وقد نص الشافعي على مثل ذلك في الام، لان ما يزول بنفسه لا يعلم مكانه، وأما الشيخ أبو حامد فقال غلط أبو إسحاق، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ عَلَى أنه لا فرق بين الحيوان وغيره.
ولانه يجوز أن يحدث على غير الحيوان التلف من سرقة أو حريق أو غرق فهو بمنزلة الحيوان
وحكى المصنف أن من أصحابنا من قال أخبره ثقة بأنه باق على صفته بمضي زمان يتأتى فيه القبض، وليس بشئ لانه يجوز أن يكون قد تلف بعد رؤية الثقة.
قال الشافعي رحمه الله: لا يكون القبض إلا ما حضره المرتهن أو وكيله.
قال أصحابنا: هذا الكلام يحتمل تأويلين:
(أحدهما)
أن هذه مسألة مبتدأة، أي أن القبض لا يحصل في الرهن إلا أن يقبضه المرتهن أو وكيله، يقصد بهذا بينان جواز الوكالة في القبض لان القبض هو نقله من يد الراهن إلى يد المرتهن، وهو لا يوجد إلا بحضور المرتهن أو وكيله، وقد فرع الشافعي رحمه الله على هذا في الام أن المرتهن لو وكل الراهن في قبض الرهن له من نفسه لم يصح لانه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره على نفسه في القبض.
والتأويل الثاني أن هذا عطف على المسألة المتقدمة إذا رهنه وديعة عنده غائبة عنه فلا يكون مقبوضا حتى يرجع المرتهن أو وكيله ويشاهدها.
قالوا وهذا أشبه لانه اعتبر مجرد الحضور لا غير، وانما يكفى ذلك فيما كان عنده، وأما ما كان في يد المرتهن فلابد من النقل فيه.
والله أعلم

(13/188)


(فرع)
إذا أذن الراهن للمرتهن في قبض الرهن ومضت مدة يتأتى فيها القبض صار مقبوضا عن الرهن ولا يزول عن الغاصب ضمان النصب إلا بالرهن يسلمه إلى المغصوب منه عن الضمان في أحد الوجهين.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والمزنى رحمهم الله تعالى: يزول ضمان الغصب عن المرتهن دليلنا: أنه لم يتخلل بين الغصب والرهن أكثر من عقد الرهن وقبضه.
والرهن لا ينافى الغصب لانهما قد يجتمعان، بأن يرتهن عينا ويتعدى فيها، فإن ارتهن عارية في يده وأذن له في قبضها عن الرهن صح وكان له الانتفاع بها
لان الرهن لا ينافى ذلك، ويكون ضمان العارية باقيا عليه، فإن منعه المعير من الانتفاع فهل يزول عن المستعير الضمان؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
يزول لانها خرجت عن أن تكون عارية
(والثانى)
لا يزول عنه الضمان لان يده لم تزل، وإن أودعها المعير عند المستعير، والمغصوب منه عند الغاصب، فهل يزول عنه الضمان، فيه وجهان
(أحدهما)
لا يزول عنه الضمان لبقاء يده
(والثانى)
يزول لان الايداع ينافى الغصب والعارية وقال الشافعي: والقبض في العبد والثوب مما يحول يأخذه مرتهنه من يد راهنه، وقبض مالا يحول من أرض أو دار أن يسأله بلا حامل.
وهذا كما قال: القبض في الرهن كالقبض في البيع، فإذا رهنه ما ينقل مثل الدراهم والثياب فقبضها كان له أن يتناولها وينقلها من مكان إلى مكان.
وكذلك إذا رهنه بهيمة فقبضها له أن يسوقها أو يقودها من مكان إلى مكان، وكذلك صبرة جزافا أو مكيالا من صبرة وقبضه بالكيل، وإن رهنه مالا ينقل كالارض والدكان والدار فالقبض فيها أن يزيل الراهن يده عنها بأن يخرج منها ويسلمها إلى المرتهن ولا حائل بينه وبينها، فإن كانا في الدار وخرج الراهن منها صح القبض.
وقال أبو حنيفة لا يصح حتى يخلى بينه وبينها بعد خروجه منها، لانه إذا كان في الدار فيده عليها فلا تصح التخلية، وهذا ليس بصحيح لان التخلية تحصل بقوله وبرفعه يده عنها ألا ترى أن بخروجه من الدار لا تزول يده عنها، وبدخول دار غيره لا تثبت يده عليها، ولانه بخروجه محقق لقوله، فلا معنى لاعادة التخلية، هكذا ذكره ابن الصباغ، وان خلى بينه وبين الدار وفيها قماش للراهن صح التسليم في الدار فقط

(13/189)


وقال أبو حنيفة: لا لانها مشغولة بملك الراهن، وكذلك يقال في دابة عليها حمل، لو رهنه الحمل دون الدابة وهو عليها صح، لان كل ما كان قبضا في
البيع كان قبضا في الرهن.
وقال أبو حنيفة: إذا رهنه سرج دابة ولجامها وسلمها بذلك لم يصح القبض، وهذا يناقض قوله في الحمل (فرع)
ولو أمر الراهن وكيله ليقبض المرتهن فأقبضه وكيله جاز.
قال الصيمري: ولو قال الراهن للمرتهن وكل عنى رجلا لقبضك أو ليقبض وكيلك عنى جاز، ولو أمر الراهن وكيله ليقبض المرتهن فأقبض وكيله جاز (فرع)
قال الشافعي، والاقرار بقبض الرهن جائز إلا فيما لا يمكن في مثله اه (قلت) وهذا كما إذا أقرا بزمان أو مكان لا يمكن صدقهما فيه، كأن زعما أنهما تراهنا دارا بيافا وهما في القاهرة ويافا في يد اليهود لم يصح، أما إذا أقرا أنهما تراهنا دارا اليوم بأسوان وهما في القاهرة وأمكن انتقالهما بالطائرة وعودتهما صح وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان أذن له في القبض ثم رجع لم يجز أن يقبض لان الاذن قد زال فعاد كما لو لم يأذن له، وإن أذن له ثم جن أو أغمى عليه لم يجز أن يقبضه لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الاذن ويكون الاذن في القبض إلى من ينظر في ماله، فان رهن شيئا ثم تصرف فيه قبل أن يقبضه نظرت فان باعه أو جعله مهرا في نكاح أو أجرة في إجارة أو وهبه وأقبضه أو رهنه وأقبضه أو كان عبدا فكاتبه أو أعتقه انفسخ الرهن، لان هذه التصرفات تمنع الرهن فانفسخ بها الرهن، فان دبره فالمنصوص في الام أنه رجوع.
وقال الربيع فيه قول آخر أنه لا يكون رجوعا.
وهذا من تخريجه، ووجهه أنه يمكن الرجوع في التدبير، فإذا دبره أمكنه أن يرجع فيه فيقبضه في الرهن ويبيعه في الدين.
والصحيح هو الاول، لان المقصود بالتدبير هو العتق، وذلك ينافى الرهن، فجعل رجوعا كالبيع والكتابة، فان رهن ولم يقبض، أو وهب
ولم يقبض كان ذلك رجوعا على المنصوص، لان المقصود منه ينافى الرهن.

(13/190)


وعلى تخريج الربيع لا يكون رجوعا لانه يمكنه الرجوع فيه.
وان كان المرهون جارية فزوجها لم يكن ذلك رجوعا لان التزويج لا يمنع الرهن فلا يكون رجوعا في الرهن وإن كان دارا فأجرها نظرت، فإن كانت الاجارة إلى مدة تنقضي قبل محل الدين لم يكن رجوعا لانها لا تمنع البيع عند المحل، فلم ينفسخ بها كالتزويج، وإن كانت إلى مدة يحل الدين قبل انقضائها، فإن قلنا إن المستأجر يجوز بيعه لم يكن رجوعا لانه لا يمنع البيع عند المحل، وإن قلنا لا يجوز بيعه كان رجوعا لانه تصرف ينافى مقتضى الرهن فجعل رجوعا كالبيع.
(الشرح) الاحكام: إن رهن عينا وأذن له بقبضها فقبل أن يقبضها المرتهن رجع الراهن عن الاذن لم يكن للمرتهن قبضها، لانه إنما يقبضها بإذن الراهن وقد بطل إذنه برجوعه، وإن رهنه شيئا ثم جن الراهن أو أغمى عليه أو أفلس أو حجر عليه لم يصح إقباضه الراهن ولا يكون للمرتهن قبضه لانه لا يصح قبضه إلا باذن الراهن، وقد خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ.
وكذلك إذا أذن له في القبض فقبل أن يقبض طرأ على الراهن الجنون أو العمى أو الحجر بطل إذنه بذلك ولا يبطل الرهن بذلك.
إذا ثبت ما ذكرناه فان الولى على المجنون والمغمى عليه ينظر فان كان الحظ باقباض الرهن مثل أن يكون شرطاه في بيع يستضير بفسخه وما أشبه ذلك أقبضه عنهما، وان كان الحظ في تركه لم يقبضه، وان كان للمحجور عليه غرماء غير المرتهن قال ابن الصباغ: لم يجز للحاكم تسليم الرهن إلى من رهنه عنده قبل الحجر لانه ليس له أن يبتدئ عقد الرهن في هذه الحالة، فكذلك تسليم الرهن.
(فرع)
وان رهن عنده غيره رهنا ثم تصرف فيه الراهن قبل القبض نظرت
فان باعه أو أصدقه أو جعله عوضا أو رهنه وأقبضه، أو كان عبدا فأعتقه أو كاتبه بطل عقد الرهن لانه يملك فسخ الرهن قبل القبض فجعلت هذه التصرفات اختيارا منه للفسخ، فان كانت أمة فزوجها أو عبدا فزوجه لم يبطل الرهن لان التزويج لا ينافى الرهن، ولهذا يصح رهن الامة المزوجة والعبد المزوج، وان أجرا الرهن، فان قلنا يجوز بيع المستأجر لم ينفسخ الرهن بالاجارة، وان قلنا

(13/191)


لا يجوز بيع المستأجر، فان كانت مدة الاجارة تنقضي قبل حلول الدين لم ينفسخ الرهن.
وإن كان الدين يحل قبل انقضاء مدة الاجارة انفسخ الرهن بها، وإن دبر الراهن العبد المرهون فالمنصوص أن الرهن ينفسخ (فرع)
استدامة القبض في الرهن ليس بشرط في الرهن.
وقال أبو حنيفة ومالك: الاستدامة شرط فيه.
دليلنا أنه عقد يعتبر فيه القبض فلم تكن استدامته شرطا كالهبة مع أبى حنيفة والقرض مع مالك قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن مات أحد المتراهنين فقد قال في الرهن: إذا مات المرتهن لم ينفسخ.
وقال في التفليس: إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن، فمن أصحابنا من جعل ما قال في التفليس قولا آخر أن الرهن ينفسخ بموت الراهن، ونقل جوابه فيه إلى المرتهن، وجوابه في المرتهن إليه، وجعلهما على قولين.
أحدهما ينفسخ بموتهما لانه عقد لا يلزم بحال، فانفسخ بموت العاقد، كالوكالة والشركة.
والثانى لا ينفسخ لانه عقد يؤول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع في مدة الخيار.
ومنهم من قال يبطل بموت الراهن ولا يبطل بموت المرتهن، لان بموت الراهن يحل الدين ويتعلق بالتركة، فلا حاجة إلى بقاء الرهن، وبموت المرتهن
لا يحل الدين، فالحاجة باقية إلى بقاء الرهن.
ومنهم من قال لا يبطل بموت واحد منهما قولا واحدا، لانه إذا لم يبطل بموت المرتهن على ما نص عليه والعقد غير لازم في حقه بحال، فلان لا يبطل بموت الراهن والعقد لازم له بعد القبض أولى، وما قال في التفليس لا حجة فيه لانه لم يرد أن الرهن ينفسخ، وانما أراد أنه إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن من غير اذن الورثة (الشرح) الاحكام: وان عقد الرهن ثم مات أحد المتراهنين قبل القبض فقد نص الشافعي أن الرهن لا ينفسخ بموت المرتهن بل الراهن بالخيار بين أن

(13/192)


يقبض ورثة المرتهن ولا يقبضهم.
وحكى الداركى أن الشافعي رحمه الله قال في موضع آخر: إن الرهن ينفسخ بموت الراهن قبل التسليم واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاثة طرق، فمنهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الاخرى وخرجهما على قولين
(أحدهما)
ينفسخ بموت أحدهما لانه عقد جائز فبطل بالموت كالوكالة والشركة.

(والثانى)
لا ينفسخ بموت واحد منهما لانه عقد يئول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع بشرط الخيار.
ومنهم من قال: ينفسخ بموت الراهن ولا ينفسخ بموت المرتهن، لان بموت الراهن يحل الدين المؤجل عليه، فإذا كان عليه دين غير دين المرتهن كان للمرتهن أسوة الغرماء، ولا يجوز للورثة تخصيص المرتهن بالرهن، وان لم يكن عليه دين غير المرهون به فقد تعلق بجميع التركة، فلا وجه لتسليم الرهن به.
وليس كذلك المرتهن، فإن ماله من الدين لا يحل بموته فالحاجة باقية إلى
الاستيثاق بالرهن.
ومن أصحابنا من قال: لا يبطل الرهن بموت واحد منهما قولا واحدا، لان الرهن إذا لم ينفسخ بموت المرتهن والعقد لا يلزم من جهته بحال، فلان لا يبطل بموت الراهن - والعقد قد يلزم من جهته - بعد القبض أولى.
وأنكر الشيخ أبو حامد ما حكاه الداركى وقال: بل كلام الشافعي رحمه الله يدل أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن لانه قال في الام: وإذا رهن عند رجل شيئا ثم مات الراهن قبل أن يقبض الرهن، فإن كان عليه دين كان أسوة الغرماء وان لم يكن عليه دين فوارثه بالخيار بين أن يقض الرهن المرتهن أو يبقيه، وإن مات أحدهما بعد القبض لم ينفسخ الرهن بلا خلاف، ويقوم وارث كل واحد منهما مقامه لان الرهن لازم جهة من الراهن والعقد اللازم لا يبطل بالموت كالبيع والاجارة.
والله أعلم

(13/193)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كتب إليه وهو غائب أقرضتك هذا، أو كتب إليه بالبيع ففيه وجهان:
(أحدهما)
ينعقد لان الحاجة مع الغيبة داعية إلى الكتابة
(والثانى)
لا ينعقد لانه قادر على النطق فلا ينعقد عقده بالكتابة، كما لو كتب وهو حاضر.
وقول القائل الاول ان الحاجة داعية إلى الكتابة لا يصح لانه يمكنه أن يوكل من يعقد العقد بالقول (الشرح) الاحكام: إن كتب إليه وهو غائب إلى آخر الصورة التى حكاها المصنف في انعقاد القرض وصحته وجهان، أصحهما ينعقد، لاننا قلنا في الفصل
قبله: ويمكن انعقاده بما يؤدى معنى ذلك، ولانه عقد ارفاق وقربة.
قال ابن قدامة: والشرع لا يرد بتحريم المصالح التى لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها، ولان هذا ليس بمنصوص على تحريمه، ولا في معنى المنصوص فوجب الابقاء على الاباحة.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يثبت فيه خيار المجلس وخيار الشرط، لان الخيار يراد للفسخ، وفى القرض يجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء، فلا معنى لخيار مجلس وخيار الشرط، ولا يجوز شرط الاجل فيه لان الاجل يقتضى جزءا من العوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه فلا يجوز شرط الاجل فيه ويجوز شرط الرهن فِيهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهن درعه على شعير أخذه لاهله، ويجوز أخذ الضمين فيه لانه وثيقه فجاز في القرض كالرهن.
(الشرح) الحديث رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه عن أنس.
أما الاحكام فإنه لا يثبت في القرض خيار المجلس ولا خيار الشرط، لان الخيار

(13/194)


إقباض الباقية وبين منعها، وإن كان بعد القبض للاخرى فقد لزم الرهن فيها، ولو تلفت احداهما بعد فلا خيار للبائع إذا كان الرهن مشروطا ببيع، لان الرهن لو تلف كله لم يكن له خيار، فإذا تلف بعضه أولى.
دليلنا أنه مال محبوس بحق فوجب أن يكون محبوسا بالحق وبكل جزء منه كما لو مات وخلف تركة ودينا عليه، فان التركة محبوسة بالدين وبكل جزء منه، ولانه وثيقه بحق فكان وثيقة بالحق وبكل جزء منه كالشهادة والضمان، فإذا قضى الراهن الدين أو أبرأه منه المرتهن - والرهن في يد المرتهن بقى في يده أمانة.
وقال أبو حنيفة: إن قضاه الرهن كان الرهن مضمونا على المرتهن، وإن أبرأه المرتهن أو وهبه ثم تلف الرهن في يده لم يضمنه استحسانا لان البراءة والرهن لا يقتضى الضمان وكان هذا منا منه لان القبض المضمون عنده لم يحول ولم يبرئه منه قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا ينفك من الرهن شئ حتى يبرأ الراهن من جميع الدين لانه وثيقة محضة، فكان وثيقة بالدين وبكل جزء منه، كالشهادة والضمان، فان رهن اثنان عند رجل عينا بينهما بدين له عليهما فبرئ أحدهما، أو رهن رجل عند اثنين عينا بدين عليه لهما فبرئ من دين أحدهما انفك نصف العين من الرهن، لان الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان فهما عقدان، فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر، كما لو فرق بين العقدين، وإن أراد الراهنان في المسألة الاولى أن يقتسما أو الراهن في المسألة الثانية أن يقاسم المرتهن الذى لم يبرأ من دينه نظرت، فان كان مما لا ينقص قيمته بالقسمة كالحبوب جاز ذلك من غير رضا المرتهن، وإن كان مما ينقص قيمته ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجوز من غير رضا المرتهن، لانه يدخل عليه بالقسمة ضرر فلم يجز من غير رضاه
(والثانى)
يجوز لان المرهون عنده نصف العين فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لا حق له فيه.
(الشرح) الاحكام: إن أسلم في طعام فأخذ به رهنا ثم تقايلا عقد السلم برئ المسلم إليه من الطعام ووجب عليه رد رأس مال المسلم، وبطل الرهن لان

(13/195)


الدين الذى ارتهن به قد بطل، ولا يكون له حبس الرهن إلى أن يأخذ رأس المال لانه لم يرهنه به، وإن اقترض منه ألفا ورهنه بها رهنا ثم أخذ المقرض بالالف عينا سقطت الالف عن ذمة المقترض وبطل الرهن، وإن تلفت العين في
يد المقترض قبل أن يقبضها المقرض انفسخ القضاء وعاد الرهن والقرض لانه متعلق به وقد عاد.
قال الشيخ أبو حامد: وإن باع من رجل كر (1) طعام بألف درهم إلى أجل وأخذ بالثمن رهنا فإذا حل الاجل أو كان حالا فللبائع أن يأخذ منه بدل الثمن دنانير، فإذا أخذها انفسخ الرهن، وان تفرقا قبل القبض بطل القضاء، وعاد الثمن إلى ذمة المشترى، ويعود الرهن لان الرهن من حق ذلك الثمن فسقط بسقوطه فإذا عاد الثمن عاد بحقه، وان ابتاع منه مائة دينار بألف درهم في ذمته ودفع عن الدراهم رهنا صح، فان تقابضا في المجلس صح الصرف، وانفك الرهن، وان تفرقا من غير قبض بطل الصرف والرهن.
(فرع)
وان كان للرجل على رجلين دين فرهناه ملكا بينهما مشاعا جاز، كما لو باعا ذلك منه، فإذا أقضاه أحدهما ما عليه له أو أبرأ المرتهن أحدهما انفك نصف الرهن، لان الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان فهما عقدان فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر، فان طلب من انفك نصيبه القسمة نظرت، فان كان الرهن مما لا تتساوى أجزاؤه كالثياب والحيوان أو كانا دارين فأراد من انفك نصيبه أن يجعل كل دار سهما لم يجز ذلك من غير اذن المرتهن، لان ذلك منافلة، والرهن يمنع من ذلك.
وان كان الرهن مما يتساوى أجزاؤه كالطعام فله مطالبته بقسمته لانه لا ضرر على المرتهن بذلك، وهكذا إذا كانت الارض متساوية الاجزاء فهى كالطعام وان كان الرهن تنقص قيمته بالقسمة كالحجرة الواحدة، إذا قسمتها نصفين أو الشقة إلى شقتين فهل للمرتهن أن يمتنع؟ فيه وجهان.
أحدهما: له أن يمتنع لان
__________
(1) الكر واحد الاكرار ما يخزن فيه القمح ومنه قول العامة عن غرفة في البيت فيها مخزونه من الطعام (غرفة الكرار) وصوابه السكر أو الاكرار.

(13/196)


الضرر يدخل عليه بذلك
(والثانى)
ليس له أن يمتنع لان المرهون عنده النصف فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لا حق له فيه.
وهذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي: إن قلنا إن القسمة قدر النصيبين جازت القسمة، وإن قلنا إنها بيع لم يجز، وإن رهن رجل ملكا له عند رجلين بدين لهما عليه فقضى أحدهما دينه أو أبرأه أحدهما عن دينه انفك نصف الرهن، لان في أحد شطرى الصفقة عاقدين فهما كالعقدين، والحكم في القسمة ما مضى
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا قبض المرتهن الرهن ثم وجد به عيبا كان قبل القبض نظرت فإن كان في رهن عقد بعد عقد البيع لم يثبت له الخيار في فسخ البيع، وان كان في رهن شرط في البيع فهو بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَبَيْنَ أَنْ يمضيه، لانه دخل في البيع بشرط أن يسلم له الرهن، فإذا لم يسلم له ثبت له الخيار، فإن لم يعلم بالعيت حتى هلك الرهن عنده أو حدث به عيب عنده لم يملك الفسخ، لانه لا يمكنه رد العين على الصفة التى أخذ، فسقط حقه من الفسخ كما قلنا في المبيع إذا هلك عند المشترى أو حدث به عيب عنده، ولا يثبت له الارش، لان الارش بدل عين الجزء الفائت، ولو فات الرهن بالهلاك لم يجب بدله، فإذا فات بعضه لم يجب بدله.
والله أعلم (الشرح) الاحكام، إذا قبض المرتهن الرهن ثم وجد به عيبا كان موجودا في يد الراهن نظرت فان كان الرهن غير مشروط في عقد البيع فلا خيار في فسخ البيع لان الراهن متطوع بالرهن، فان كان الرهن مشروطا في عقد البيع ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع، لانه لم يسلم له الشرط، وان لم يعلم بالعيب حتى هلك الرهن عنده أو حدث به عنده عيب لم يثبت له الخيار لانه لا يمكنه رد الرهن كما أخذ،
ولا يثبت له أرش العيب كما ثبت للمشترى أرش العيب، والفرق بينهما أن المبيع يجبر البائع على إقباضه فأجبر على دفع الارش، والراهن لا يجبر على إقباض الرهن فلم يجبر على دفع الارش

(13/197)


وبهذا قال أحمد وأصحابه وابن المنذر.
ولان المبيع لو تلف جميعه في يد البائع قبل التسليم لوجب عليه ضمانه بالثمن.
وها هنا لو تلف الرهن في يد الراهن قبل التسليم لم يجب عليه بدله.
ولانا لو قلنا لا أرش للمشترى لاسقطنا حقه، وها هنا لا يسقط حق المرتهن لان حقه في ذمة الراهن، قال الشيخ أبو حامد: فلو باعه شيئا بشرط أن يرهنه عبدين فرهنهما عنده وأقبضه أحدهما وتلف عند المرتهن وامتنع الراهن من إقباض الثاني أو تلف في يد الراهن لم يكن للمرتهن الخيار في فسخ البيع لانه لا يمكن رد العبد الذى قبض فيمضى البيع بلا رهن، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ