المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب التفليس

إذا كان على رجل دين، فان كان مؤجلا لم يجز مطالبته، لانا لو جوزنا مطالبته سقطت فائدة التأجيل، فان أراد سفرا قبل محل الدين، لم يكن للغريم منعه، ومن أصحابنا من قال ان كان السفر مخوفا كان له منعه، لانه لا يأمن أن يموت فيضيع دينه، والصحيح هو الاول، لانه لا حق له عليه قبل محل الدين، وجواز أن يموت لا يمنع من التصرف في نفسه قبل المحل، كما يجوز في الحضر أن يهرب ثم لا يملك حبسه لجواز الهرب، وان قال أقم لى كفيلا بالمال، لم يلزمه، لانه لم يحل عليه الدين فلم يملك المطالبة بالكفيل، كما لو لم يرد السفر، وان كان الدين حالا نظرت، فان كان معسرا لم يجز مطالبته لقوله تعالى " وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ولا يملك ملازمته لان كل دين لا يملك المطالبة به لم يملك الملازمة عليه كالدين المؤجل، فان كان يحسن صنعة فطلب الغريم أن يؤجر نفسه ليكسب ما يعطيه لم يجبر على ذلك لانه اجبار على التكسب فلم يجز كالاجبار على التجارة، وان كان موسرا جازت مطالبته.
لقوله تعالى " وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ".
فدل على أنه إذا لم يكن ذا عسرة لم يجب انظاره، فان لم يقضه ألزمه الحاكم، فان امتنع، فان كان له مال ظاهر باعه عليه لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " ألا ان الاسيفع أسيفع جهينه رضى من دينه أن يقال سبق الحاج فادان معرضا فأصبح وقد رين به، فمن له دين فليحضر، فانا بايعو ماله وقاسموه بين غرمائه " وان كان له مال كتمه حبسه وعزره حتى يظهره، فان ادعى الاعسار نظرت، فان لم يعرف له قبل ذلك مال فالقول قوله مع يمينه لان الاصل عدم المال، فان عرف له المال لم يقبل قوله، لانه معسر الا ببينة، لان الاصل بقاء
المال، فان قال غريمي يعلم أنى معسر، أو أن مالى هلك فحلفوه حلف، لان ما يدعيه محتمل، فان أراد أن يقيم البينة على هلاك المال قبل فيه شهادة عدلين.

(13/269)


فان أراد أن يقيم البينة على الاعسار لم يقبل الا بشهاة عدلين من أهل الخبرة والمعرفة بحاله، لان الهلاك يدركه كل أحد والاعسار لا يعلمه الا من يخبر باطنه، فان أقام البينة على الاعسار وادعى الغريم أن له مالا باطنا فطلب اليمين عليه، ففيه قولان
(أحدهما)
لا يحلف، لانه أقام البينة على ما ادعاه فلا يحلف، كما لو ادعى ملكا وأقام عليه البينة.

(والثانى)
يحلف لان المال الباطن يجوز خفاؤه على الشاهدين، فجاز عرض اليمين فيه عند الطلب، كما لو اقام عليه البينة بالدين وادعى أنه أبرأه منه، وان وجد في يده مال فادعى أنه لغيره نظرت، فان كذبه المقر له بيع في الدين لان الظاهر أنه له، وان صدقه سلم إليه.
فان قال الغريم أحلفوه لى أنه صادق في اقراره ففيه وجهان
(أحدهما)
يحلف لانه يحتمل أن يكون كاذبا في اقراره
(والثانى)
لا يحلف وهو الصحيح، لان اليمين تعرض ليخاف فيرجع عن الاقرار، ولو رجع عن الاقرار لم يقبل رجوعه فلا معنى لعرض اليمين.
(الشرح) خبر عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الموطأ والدارقطني وابن أبى شيبة والبيهقي وعبد الرزاق بألفاظ سنوردها أما لغات الفصل فان الفلس مأخوذ من الفلوس وهو أخس مال الرجل، لان أقل صنوف النقود هو الفلس وهو عند اخواننا أهل العراق والشام يساوى مليما عند أهل مصر والسودان والهللة عند اخواننا أهل الحجاز ونجد، والبقشة عند اخواننا أهل اليمن، وقد دخل لفظ الفلس في لغات أهل أوربا بلهجتهم،
فقالوا البنس والبيزا.
قال في المصباح: وبعضهم يقول أفلس الرجل أي صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم فهو مفلس، والجمع مفاليس، وحقيقته الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر، وفلسه القاضى تفليسا نادى عليه وشهره بين الناس بأنه صار مفلسا والفلس الذى يتعامل به جمعه في القلة أفلس وفى الكثرة فلوس.
ومن هنا كان المفلس هو الذى يملك مالا تافها، وقد ورد في الحديث هو

(13/270)


الذى لا مال له، فقد أخرج مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " أتدرون من المفلس.
قالوا يا رسول المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال ليس ذلك المفلس.
ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال.
ويأتى وقد ظلم هذا ولطم هذا وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فان بقى عليه شئ أخذ من سيئاتهم فرد عليه ثم صك له صك إلى النار " فقولهم ذلك اخبار عن حقيقة المفلس والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد نفى الحقيقة.
بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم بحيث يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغنى وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم " ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذى يغلب نفسه عند الغضب " وقوله صلى الله عليه وسلم " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس " وقوله " ليس السابق من سبق بعيره.
وانما السابق من غفر له " وقول الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت
* انما الميت ميت الاحياء وسموه مفلسا لان ماله مستحق.
وفى اصطلاح الفقهاء: من ديته أكثر من ماله وخرجه أكثر من دخله الصرف في جهة دينه فكأنه معدوم.
وقوله الاسيفع تصغير أسفع والانثى
سفعاء.
والسفعة سواد مشرب بحمرة الاحكام: إذا كان على الرجل دين فلا يخلو اما أن يكون حالا أو مؤجلا.
فان كان حالا فان كان معسرا لم تجز مطالبته لقوله تعالى " فنظرة إلى ميسرة " ولا يجوز لغريمه ملازمته وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة ليس للغريم مطالبته ولكن له ملازمته فيسير معه حيث سار ويجلس معه حيث جلس الا أنه لا يمنعه من الاكتساب.
وإذا رجع إلى داره فان أذن لغريمه بالدخول معه دخل معه وان لم يأذن له بالدخول كان للغريم منعه من الدخول دليلنا قوله تعالى " وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " فأمر بانظار المعسر فمن قال انه يلازمه خالف ظاهر الآية.
وروى أن رجلا ابتاع ثمرة فأصب بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يف بما عليه.
ثم قال تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يف بما عليه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه " خذوا ما وجدتم

(13/271)


ما لكم غيره " وهذا نص، ولان كل من لا مطالبة له لم يجز ملازمته، كما لو كان الدين مؤجلا، فإن كان الذى عليه الدين يحسن صنعة لم يجبر على الاكتساب بها ليحصل ما يقضى به دينه.
وهذا من أعظم مقاصد الشريعة الغراء في أن الحرية الشخصية أثمن من كل شئ فلا يعدلها مال ولا دين، ولا يقيدها غريم ولا سلطان، بل ان اكتسب وحصل معه مال يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته قضى به الدين.
وبه قال مالك وأبو حنيفة وعامة أهل العلم ما دام معسرا وقال أحمد وإسحاق بن راهويه يجبر على الاكتساب لقضاء الدين، وبه قال عمر بن العزيز وعبيد الله بن الحسن العنبري وسوار القاضى دليلنا حديث الرجل الذى ابتاع الثمرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم غرماءه أن يأخذوا
ما معه وقال " خذوا ما وجدتم ما لكم غيره " ولم يأمره بالاكتساب لهم، ولان هذا إجبار على الاكتساب فلم يجب ذلك، كما لا يجبر على قبول الوصية، وكذلك لو تزوج امرأة بمهر كبير لم يجبر على طلاقهما قبل الدخول ليرجع إليه نصفه، فإن كان موسرا جازت مطالبته لقوله تعالى " وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " فأوجب إنظار المعسر، فدل على أن الموسر لا يجب إنظاره، فان لم يقضه أمره الحاكم بالقضاء، فان لم يفعل - فان كان له مال ظاهر - باع الحاكم عليه ماله وقضى الغريم، وان قضى الحاكم الغريم شيئا من مال من عليه الدين جاز، وبه قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.
وَقَالَ أَبُو حنيفة لا يجوز أن يبع ماله عليه ولكن يحبسه حتى يقضى الدين بنفسه وان كان الدين مؤجلا لم يجز مطالبته به قبل حلول الاجل، لان ذلك يسقط فائدة التأجيل، فإذا أراد أن يسافر قبل حلول الدين سفرا يزيد على الاجل نظرت فان كان لغير الجهاد لم يكن للغريم منعه ولا مطالبته بأن يقيم له كفيلا يدينه ولا أن يعطيه رهنا.
قال الشافعي رضى الله عنه: ويقال له حقك حيث وضعته، يعنى أنك رضيت حال العقد أن يكون مالك عليه بلا رهن ولا ضمين، وحكى أصحابنا عن مالك رحمه الله أنه قال: له مطالبته بالكفيل أو الرهن

(13/272)


دليلنا أنه ليس له مطالبته بالحق فلم يكن له مطالبته بالكفيل والرهن، كما لو لم يرد السفر.
وإن كان السفر للجهاد ففيه وجهان، من أصحابنا من قال له منعه إلى أن يقيم له كفيلا أو يعطيه رهنا بدينه، لان الشافعي رحمه الله قال: ولا يجاهد إلا بإذن أهل الدين، ولم يفرق بين الحال والمؤجل، ولان المجاهد يعرض نفسه للقتل
طلبا للشهادة، فلم يكن بد من إقامة الكفيل أو الرهن، ليستوفى صاحب الدين دينه منه.
فإذا حل الدين وكان له مال ظاهر باع الحاكم عليه ماله وقضى الدين.
دليلنا ما روى أن عمر رضى الله عنه صعد المنبر وقال: ألا إن الاسيفع أسيفع جهينة رضى من دينه، فادان معرضا فأصبح وقد رين به، فمن كان له دين فليحضر فانا بايعوا ماله.
وروى: رضى من دينه وأمانته أن يقال سابق الحاج، وروى سبق الحاج فادان معرضا فأصبح قد رين به، فمن كان له عليه دين فليحضر غدا فانا بايعوا ماله وقاسموه بين غرمائه.
وروى: فمن كان له دين فليعد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص.
وان هذا بمجمع من الصحابة رضى الله عنهم ولم ينكر عليه أحد، فدل على أنه إجماع قوله " فادان معرضا " أي أنه يتعرض الناس فيستدين ممن أمكنه ويشترى به الابل الجياد، ويروح في الحاج فيسبق الحاج.
وقوله " فأصبح قد رين به " يقال رين بالرجل إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به، ويقال إنما عليك وعلاك قد ران بك وران عليك.
قال الله تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب.
وإن امتنع من عليه الدين من القضاء وكتم ماله عزره الحاكم وحبسه إلى أن يظهر ماله، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لئ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته " رواه الشيخان وأبو داود والنسائي والبيهقي والحاكم وابن حبان وصححه عن عمرو بن الشريد عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ وكيع: عرضه شكايته، وعقوبته حبسه.
(قلت) لم يرد أن يقذفه أو يطعن في نسبه، إنما يوصف بالظلم والعدوان.
وقوله " لى الواجد " اللى المطل.
يقال لويته ألويه ليا

(13/273)


وأما إذا لم يكن له مال وقال: أنا معسر وكذبه الغريم نظرت، فإن حصل بمعاوضة كالديون التجارية وهى تختلف في عصرنا هذا عن الديون المدنية، وهى في عرف الفقهاء أعنى ديون المعاوضة مثل البيع والسلم والقرض فتشمل الديون المدنية والتجارية، أما غير المعاوضة فهى الديون الجنائية ومهر الزوجة، أقول إذا كان الدين من الصنف الاول، وأنه قد صرف له قبل ذلك لم تقبل دعواه أنه معسر، لانه قد ثبت ملكه للمال، والاصل بقاؤه، فلا نقبل قوله في الاقرار، بل يحبسه الحاكم - وهو ما يعمل به في المحاكم والوضعية من الحكم بالسجن على المتفالس، الذى يأخذ أموال الناس وبضائعهم ويدعى الافلاس فيسقط اعتباره ويسجن إلى خمس سنين - فان قال: غريمي يعلم أنى معسر أو أن مالى هلك.
فان صدقه الغريم على ذلك خلى من الحبس.
وإن كذبه حلف الغريم أنه ما يعلم أنه معسر أو ما يعلم أن ماله هلك وحبس من عليه الدين، فان أراد أن يقيم البينة على الاعسار لم تقبل إلا من شهادة شاهدين من أهل الخبرة والتحقيق واستقصاء أوجه الدخل والخرج كمحاسبين أمينين وهذا هو نصهم " من أهل الخبرة الباطنة " فان كانت البينة من أهل الخبرة الباطنة سمعت.
وقال مالك رضى الله عنه: لا تسمع لانها شهادة على النفى فلم تقبل.
دليلنا حديث قبيصة بن المخارق الهلالي عند مُسْلِمٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " يا قبيصة بن مخارق لا تحل المسألة إلا لثلاثة، رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة وحاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه أن به حاجة، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما " وما ذكر من أنها شهادة نفى غير صحيح، لانها وان كانت تتضمن النفى فهى تثبت حالا تظهر ويقف عليها الشاهد كما لو شهد أن لا وارث له غير هذا.
وان أراد أن يقيم البينة على تلف ماله، قبلت شهادة عدلين سواء كانا من أهل الخبرة أم لا، لان التلف أمر يدركه كل واحد من خلطائه أو المباشرين له أو من كانوا من المال عن كثب، كأن كانوا عمالا عنده أو عند جيرانه أو مالك

(13/274)


العين التى يشغلها في عمله أو متجره، أو كان من عملائه والمترددين عليه أو نحوهم ممن تربطهم بالاطلاع على التلف أسباب.
فإن طلب الغريم يمينه مع ذلك لم يحلف لان في ذلك تكذيبا للشهود، وقدحا في البينة.
إذا ثبت هذا: فإن البينة في كلتا الحالتين تسمع في الحال ويخلى سبيله من الحبس.
وقال أبو حنيفة تسمع في الحال ويحبس من عليه الدين شهرين، وروى ثلاثة أشهر، وروى أربعة أشهر.
وقال الطحاوي " يحبس شهرين " والمقصود من حبسه أن يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لاظهره، وهذا ليس بصحيح لان كل بينة جاز سماعها بعد مدة جاز سماعها حالا كسائر البينات.
وكم عدد البينة التى تقبل في الاعسار؟ قال أصحابنا البغداديون: تقبل فيه شهادة ذكرين عدلين كشهادة التلف مع زيادة الخبرة بباطن حال المفلس، وهو قول أصحاب أحمد.
وقال المسعودي لا تقبل أقل من ثلاثة رجال ويحلف معهم ولعله يحتج بخبر قبيصة بن المخارق الهلالي في عددهم.
فإن أقام البينة على الاعسار فقال الغريم: له مال باطن لا تعلم به البينة، وطلب يمينه على ذلك، ففيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه أن يحلف وهو قول أبى حنيفة، لان فيه تكذيبا للشهود
(والثانى)
يجب عليه أن يحلف فإن لم يحلف حبس.
وقال الخرقى من أصحاب أحمد: ومن وجب عليه حق فذكر أنه معسر به حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسرته.
وقال ابن المنذر: اكثر من نحفظ عنه من علماء الامصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين، منهم مالك والشافعي وأبو عبيد والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن، ولم يذكر الشيخ أبو حامد من أصحابنا في التعليق غير أنه يجب عليه أن يحلف، فان لم يحلف حبس، لانه يجوز أن يكون له مال باطن خفى على البينة، وقد يكون لرجل مال لا يعلم به أقرب الناس إليه، وقد يكون لاحد الزوجين مال ولا يعلم به الآخر.
وإن ثبت عليه الدين في غير معاوضة مثل جنايته على غيره أو إتلافه عليه ماله

(13/275)


ولم يعلم له قبل ذلك مال.
وادعى أنه معسر.
فالقول قوله مع يمينه أنه معسر، لان الاصل الفقر حتى يعلم اليسار.
وفى الحديث الشريف " إن ابن آدم خلق ليس عليه شئ الا قشرتاه، ثم يرزقه الله ".
فإذا حلف ثم ظهر له غريم آخر.
قال الصيمري: لم يحلف له ألبتة لانه قد ثبت اعساره باليمين الاولى، وان كان في يده مال فقال هو لزيد وديعة أو مضاربة فان كان المقر له غالبا حلف من عليه الدين وسقطت عنه المطالبة، لان الاصل عدم العسر، وما ذكره الصيمري ممكن جدا.
وان كان المقر له حاضرا رجع إليه، فان كذبه قسم المال بين الغرماء، وان صدقه حكم للمقر له، فان طلب يمين المقر أنه صادق في اقراره فهل يجب احلافه فيه وجهان.
أحدهما: لا يجب احلافه لانه لو رجع عن اقراره لم يقبل فلا معنى لا حلافه والثانى: أنه يجب احلافه، فان لم يحلف حبس لجواز أن يكون واطأ المقر له على ذلك، فان طلب الغريم يمين المقر له أن المال له.
قال ابن الصباغ: فعندي
أنه يحلف لانه لو أكذب المقر ثبت المال للغرماء، فإذا صدقه حلف.
إذا ثبت هذا، فكل من حكمنا باعساره بالبينة، فانه لا يحبس، وكل من لم يحكم باعساره يحبس ولا غاية للحبس عندنا، بل يحبس حتى ينكشف ثلاثة أيام أو اربعة أيام فإذا ثبت اعساره خلى، ولا تمنع المسألة عنه.
وقال أبو حنيفة في الاصول: يحبس أربعة أشهر.
وقال في موضع ثلاثة أشهر وقال في موضع ثلاثين يوما.
وقال أصحابه: ليس هذا على سبيل التحديد، وانما هو على قدر حال المفلس، فان كان ممن لا يعلم بحاله الا بحبس أربعة أشهر حبس قدر ذلك، وكذلك إذا كان لا يعلم بحاله الا بحبس ثلاثة أشهر حبس قدر ذلك دليلنا: أنه لا سبيل إلى العلم بحاله من طريق القطع، وانما يعلم بحاله من طريق الظاهر، وذلك يعلم بحبس ثلاثة أيام أو أربعة، وما أشبه ذلك، وإذا حبسه الغريم فليس له حبسه عن النوم والاكل.
وفى نفقته بالحبس وجهان، حكاهما الصيمري في الايضاح المذهب انها في مال

(13/276)


نفسه، والثانى: أنها على الغريم، فان كان المحبوس ذا صنعة - قال الصيمري: قد قيل: يمكن منها لانه يقضى بما يحصل منها دينه.
وقيل: يمنع منها إذا علم أن ذلك يراخى أمره ولا معصية عليه بترك الجمعة والجماعة، ان كان معسرا.
وقيل يلزمه استئذان الغريم عند ذلك حتى يمنعه، فيسقط عنه الحضور.
(فرع)
إذا مرض في الحبس ولم يجد من يخدمه فيه أخرج، وان وجد من يخدمه ويقوم على تمريضه وعلاجه في الحبس، فهل يجب اخراجه؟ فيه وجهان حكاهما الصيدلانى، وان جن في الحبس أخرج، وإذا حبس بطلب جماعة من الغرماء لم يكن لواحد منهم أن يخرجه حتى يجتمعوا على اخراجه وان حبس بطلب غريم، ثم حضر غريم آخر فطلب أن يخرجه ليدعى عليه أحضر، فإذا ثبت له
عليه حق وطلب أن يحبس له حبس، ولا يجوز اخراجه الا باجتماعهما، وان ثبت اعساره أخرجه الحاكم من غير اذن الغريم.
قال الصيدلانى: وإذا لم يكن للمعسر مال فهل له أن يحلف أنه لا حق عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
له أن يحلف وينوى أن ليس عليه اليوم حق يلزمه الخروج إليه منه
(والثانى)
ليس له أن يحلف، لان الحاكم إذا كان عادلا لا يحبسه الا بعد الكشف عن حاله اه.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان ركبته الديون ورفعه الغرماء إلى الحاكم، وسألوه أن يحجر عليه نظر الحاكم في ماله، فان كان له مال يفى بالديون لم يحجر عليه لانه لا حاجة به إلى الحجر، بل يأمره بقضاء الدين على ما بيناه، فان كان ماله لا يفى بالديون حجر عليه وباع ماله عليه لما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال " كان معاذ ابن جبل من أفضل شباب قومه.
ولم يكن يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله في الدين.
فكلم النبي صلى الله عليه وسلم غرماءه.
فلو ترك أحد من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماله حتى قام معاذ بغير شئ " وروى كعب بن مالك " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجر على معاذ وباع عليه ماله " وان كان ماله يفى

(13/277)


بالديون إلا أنه ظهرت عليه أمارة التفليس بأن زاد خرجه على دخله ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يحجر عليه لانه ملئ بالدين فلا يحجر عليه، كما لو لم يظهر فيه أمارة الفلس
(والثانى)
يحجر عليه لانه إذا لم يحجر عليه أتى الخرج على ماله فذهب ودخل الضرر على الغرماء.
(الشرح) حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك روى متصلا، أخرجه
الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه من طريق كعب بن مالك أبى عبد الرحمن.
أما مرسل عبد الرحمن الوارد في الفصل فقد أخرجه أبو داود وعبد الرزاق قال عبد الحق المرسل أصح.
وقال ابن الطلاع في الاحكام هو حديث ثابت، وقد أخرج الحديث الطبراني ويشهد له ما عند مسلم وغيره من حديث أبى سعيد الخدرى قال " أصيب رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " أما قوله " ملئ " أي غنى كثير المال، ولكنه كثير المال الذى لغيره فهو ملئ بالدين الاحكام: إذا ثبتت الديون على رجل إما بالبينة أو باعترافه أو بأيمان المدعى عند نكوله، وسأل الغرماء الحاكم أن يحجر عليه، نظر الحاكم في ماله، فإن كان يفى بما عليه من الدين لم يحجر عليه، بل يأمره بقضاء الدين.
فان امتنع باع عليه الحاكم ماله.
وقضى أصحاب الديون خلافا لابي حنيفة، وقد سبقت هذه المسألة في الفصل الذى مضى.
وهل تقوم الاعيان التى هي عليه بأثمانها؟ وجهان حكاهما ابن الصباغ.

(أحدهما)
لا يقومها لان لاربابها الرجوع فيها فلا يحتسب أثمانها عليه فلا يقومها مع باقى ماله
(والثانى)
يقومها لان أصحابها بالخيار أن يرجعوا فيها، أو لا يرجعوا فيها.
والوجه الاول يتيح للغريم أن يأخذ عين ماله، وهو مذهب أحمد رضى الله عنه مستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به " رواه الشيخان عن أبى هريرة قال الامام أحمد رضى الله عنه: لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء - أي

(13/278)


سوى بين الغرماء في عين المال أو في ثمنه بعد بيعه - ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث، جاز له نقض حكمه.
(قلت) جملة القول في هذا أن المفلس متى حجر عليه فوجد بعض غرمائه سلعته التى باعه إياها بعينها بالشروط التى يذكرها ملك فسخ البيع وأخذ سلعه.
وروى ذلك عن عثمان وعلى وأبى هريرة.
وبه قال عروة ومالك والاوزاعي والشافعي والعنبري وإسحاق وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وابن شبرمة وأبو حنيفة: هو أسوة الغرماء وإن قوم ماله فوجدوه لا يفى بديونه لم يحجر الحاكم عليه قبل سؤال الغرماء ذلك لانه لا ولاية له عليه في ذلك، وإن سأل الغرماء أو بعضهم الحجر عليه بعد ذلك حجر عليه، وباع عليه ماله، وبه قال مالك ومحمد وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة لا يحجر عليه ولا يبيع عليه ماله، بل يحبسه حتى يقضى ما عليه.
قال العمرانى في البيان: دليلنا ما روى أن معاذ بن جبل رضى الله عنه ركبه دين على عهد رسول الله فكلم غرماؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحجر عليه وباع عليه ماله حتى قام معاذ بغير شئ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَعَ ماله لهم - يعنى لغرمائه - وهذا يحتمل تأويلين
(أحدهما)
أن ماله لم يف بالدين فحجر عليه، فيكون معنى قوله " خلع " أي حجر عليه
(والثانى)
أن معنى قوله خلع ماله لهم، أي باع ماله لهم وروى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رجلا أصيب في ثمار ابتاعها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تصدقوا عليه " فلم يف بما عليه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خذوا ماله ليس لكم إلا ذلك " رواه الجماعة إلا البخاري.
ولم يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: خذوا ماله، انهبوا ماله، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم خذوه بالحصص، وأبو حنيفة يقول: ليس لهم أن يأخذوه إلا أن يعطيهم إياه، وهذا يخالف الخبر الصحيح
وإن كان ماله يفى بدينه إلا أن أمارات الافلاس بادية، فإن كان ماله بإزاء دينه ولا وجه لنفقته إلا مما بيده.
أو كان له وجه كسب إلا أنه قدر نفقته أكثر

(13/279)


مما يجعل له بالكسب، فهل للحاكم أن يحجر عليه إذا سأله الغرماء ذلك؟ حكى المصنف في ذلك قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجهين
(أحدهما)
لا يجوز الحجر عليه بل يأمره الحاكم بقضاء الدين على ما بيناه، لان الحجر انما يكون على المفلس وهذا ليس بمفلس، لانه ملئ بالدين.

(والثانى)
يحجر عليه، لان الظاهر من حاله أن ماله يعجز عن الوفاء بديونه والحجر يجوز بالظاهر، ألا ترى أن السفيه يجوز الحجر عليه، لان الظاهر من حاله التبذير والاسراف، وإن كان يجوز أن لا يبذر قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
والمستحب أن يشهد على الحجر ليعلم الناس حاله فلا يعاملوه إلا على بصيرة، فإذا حجر عليه تعلقت ديون الغرماء بماله ومنع من التصرف فيه، فان افترض أو اشترى في ذمته شيئا صح لانه لا ضرر على الغرماء فيما يثبت في ذمته ومن باعه أو أقرضه بعد الحجر لم يشارك الغرماء في ماله، لانه ان علم بالحجر فقد دخل على بصيرة، وان ديون الغرماء متعلقة بماله، وان لم يعلم فقد فرط حين دخل في معاملته على غير بصيرة فلزمه الصبر إلى أن يفك عنه الحجر، فان تصرف في المال بالبيع والهبة والعتق ففيه قولان
(أحدهما)
أنه صحيح موقوف لانه حجر ثبت لحق الغرماء فلم يمنع صحة التصرف في المال، كالحجر على المريض
(والثانى)
لا يصح وهو الصحيح لانه حجر ثبت بالحاكم فمنع من التصرف في المال كالحجر على السفيه، ويخالف حجر المريض لان الورثة لا تتعلق حقوقهم
بماله الا بعد الموت، وهنها حقوق الغرماء تعلقت بماله في الحال فلم يصح تصرفه فيه كالمرهون، فان قلنا يصح تصرفه وقف، فان وفى ماله بالدين نفذ تصرفه، وإن لم يف فسخ، لانا جوزنا تصرفه رجاء أن تزيد قيمة المال أو يفتح عليه بما يقضى به الدين، فإذا عجز فسخ كما تقول في هبة المريض قال أصحابنا: وعلى هذا ينقض من تصرفه الاضعف فالاضعف فأضعفها الهبة

(13/280)


لانه لا عوض فيه ثم البيع لانه يلحقه الفسخ ثم العتق، لانه أقوى التصرفات ويحتمل عندي أنه يفسخ الآخر فالآخر، كما قلنا في تبرعات المريض إذا عجز عنها الثلث.
(الشرح) وإذا حجر الحاكم فيستحب أن يشهد على الحجر، ويعمل على نشر نبأ الحجر بوسائل الاعلام المناسبة كالنشر في الصحف اليومية، أو الاعلان بنشرة في ديوان الشرطة، أو على حائط المكان الذى يقيم فيه المحجور عليه.
وهى الوسائل المستحدثة للاعلام في عصرنا هذا حيث كان يقوم في الماضي مناد من قبل الحاكم ينادى في الاسواق " ألا ان الحاكم قد حجر على فلان ابن فلان لانه إذا لم يعلم الناس اغتروا به فعاملوه فيؤدى ذلك إلى الاضرار به وبهم، فإذا عاملوه بعد اعلامهم بحاله كانوا قد عاملوه - وهم على بينة من أمره وعلى بصيرة من أمر أنفسهم - ولان هذا الاعلام تسجيل واشهار لحكم صدر من الحاكم يأخذ صورة النفاذ، فإذا تقلد أمر القضاء حاكم آخر كان حكم سلفه معروفا له، توفرت له أسباب العلنية التى تحول بينه وبين الغموض في أمر المحجور عليه، فيباشر تنفيذ الحكم الذى صدر من سلفه ولا يحتاج إلى ابتداء الحجر من جديد.
فإذا صدر حكم القاضى بالحجر على المفلس تعلقت ديون الغرماء بماله ومنع من التصرف في هذا المال.
وقال أبو حنيفة: لا تتعلق الديون بماله، ولا يمنع من
التصرف، بل يحبسه الحاكم حتى يوفى ما عليه من الدين دليلنا أن معاذ بن جبل ركبته الديون عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يزل يدان حتى غرق ماله كله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماؤه، فباع لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماله حتى قام معاذ بغير شئ " رواه سعيد في سننه عن عبد الرحمن بن كعب.
إذا عرف هذا فإن المفلس إذا تصرف في ماله بعد الحجر عليه نظرت، فإن تصرف في ذمته، فان اقترض أو اشترى شيئا بثمن في ذمته، أو أسلم إليه في شئ صح ذلك، لان الحجر عليه في أعيان ماله، وهذا يعدل الحجز القضائى أو الاداري في عصرنا هذا على موجودات المدين وممتلكاته، ولا يؤثر ذلك في صحة

(13/281)


معاملاته وعقوده وقروضه وبيعه وسلمه، لانه لم يحجر عليه في ذمته، لانه لا ضرر على الغرماء فيما ثبت عليه بذمته.
ومن عامله بعد ذلك فباعه أو أقرضه لم يشارك الغرماء في ماله، لانه إن علم بالحجر فقد دخل على بصيرة، وإن لم يعلم به فقد فرط في ترك التحرى.
وهل تقسم الاعيان التى اشتراها بعد الحجر عليه بثمن في ذمته بين الغرماء الاولين أو يكون بائعوها أحق بها؟ فيه وجهان سنذكرهما إن شاء الله وإن تصرف المفلس في أعيان ماله بأن باع أو وهب أو أقرض أو أعتق فهل يصح تصرفه بها؟ فيه قولان
(أحدهما)
أن تصرفه موقوف، فان كان فيما بقى من ماله وفاء بدينه نفذ تصرفه، وإن لم يف بدينه لم ينفذ تصرفه، وهو أضعف القولين على المذهب، لان من صح ابتياعه في ذمته صح بيعه لاعيان ماله كغير المفلس، ولانه حجر عليه لحق الغير فكان تصرفه موقوفا كالحجر على المريض، وفيه احتراز من
تصرف المحجور عليه للسفه والقول الثاني: أن تصرفه باطل، وهو قول ابن أبى ليلى والثوري ومالك رضى الله عنهم، وهو اختيار المزني وهو الصحيح، لانه حجر ثبت بالحاكم فلم يصح تصرفه كالسفيه، ولان كل من تعلق بماله حق الغير وجب أن يكون ممنوعا من التصرف فيه كالرهن لا يصح تصرف الراهن به وإذا قلنا إن تصرفه باطل في أعيان ماله، رد جميع ما باع ووهب وأعتق، وقسم ماله بين الغرماء، فان وفى ماله بدينه بأن زادت قيمته أو أبرئ من بعض دينه، وفصل ما كان تصرف فيه عن الدين لم نحكم بصحة تصرفه الاول، لانه وقع باطلا.
فعل هذا إن باع عينا من أعيان ماله من غريمه بدينه الذى له عليه فهل يصح فيه وجهان حكاهما في العدة.
(الاول) قال صاحب التلخيص " يصح " لان الحجر عليه للدين، فبيعه بذلك الدين يوجب سقوطه

(13/282)


(والثانى)
لا يصح.
وهو قول الشيخ أبى زيد، لان الحجر على المفلس ليس بمقصور على هذا الغريم، لانه ربما ظهر له غريم آخر وان قلنا ان تصرفه صحيح موقوف قسم ماله، فان وفى ماله بدينه غير الذى تصرف فيه نفذ تصرفه، وان لم يف ماله إلا أن ينقض جميع ما تصرف فيه نقض جميعه، وان لم يف بدينه الا بعض الاعيان التى تصرف فيها نقض منها شئ بعد شئ، وما الذى ينقض أولا؟ فيه وجهان قال أبو حامد وعامة أصحابنا: ينقض فالاضعف، وان كان متقدما في التصرف.
فعلى هذا ينقض الهبة أولا، لانها أضعف، لانه لا عوض فيها، ثم البيع بعدها لانه يلحقه الفسخ قال ابن الصباغ: ثم العتق ثم الوقف، قال العمرانى في البيان: والذى يقتضى القياس عندي على هذا ان الوقف ينقض أولا قبل العتق، لان العتق أقوى من الوقف، بدليل أنه يسرى إلى ملك الغير والوقف لا يسرى إلى ملك الغير.
الوجه الثاني.
وهو قول المصنف أنه ينقض الآخر فالآخر من تصرفه، عتقا كان أو هبة أو غيرهما، كما قلنا في تبرعات المريض المنجزة إذا عجز عنها الثلث فانه ينقض الآخر فالآخر.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
قال الشافعي رحمه الله: ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فله اجازة البيع ورده، فمن أصحابنا من حمل هذا على ظاهره.
وقال: له أن يفعل ما يشاء، لان الحجر انما يؤثر في عقد مستأنف، وهذا عقد سبق الحجر فلم يؤثر الحجر فيه وقال أبو إسحاق: ان كان الحظ في الرد لم يجز، وان كان في الاجازة لم يرد، لان الحجر يقتضى طلب الحظ، فإذا طرأ في بيع الخيار أوجب طلب الحظ، كما لو باع بشرط الخيار ثم جن، فإن الولى لا يفعل الا ما فيه الحظ من الرد والاجازة.
ومن أصحابنا من قال " ان قلنا ان المبيع انتقل بنفس العقد لم يجب الرد، وان كان الحظ في الرد لان الملك قد انتقل فلا يكلف رده، وحمل قول الشافعي رحمه الله

(13/283)


على هذا القول.
وان قلنا ان المبيع لم ينتقل أو موقوف لزمه الرد ان كان الحظ في الرد، لان المبيع على ملكه فلا يفعل إلا ما فيه الحظ (الشرح) قال الشافعي رحمه الله: ولو تبايعا بالخيار ثلاثا، ففلسا أو أحدهما فلكل واحد منهما إجازة البيع ورده دون الغرماء، لانه ليس بمستحدث: قلت
وهذا كما قال: إذا تبايع رجلان وبينهما خيار الثلاث أو خيار المجلس، ثم حجر عليهما أو على أحدهما وحكم عليهما بالافلاس.
وقد اختلف اصحابنا في هذه المسألة على طرق، فمنهم من حملها على ظاهرها وقال لكل واحد منهما أن يفسخ البيع وله أن يجيزه سواء كان الحظ فيما فعله من ذلك أو في غيره، لان الحجر إنما يمنع تصرفه في المستقبل لا فيما مضى، ولان المفلس لا يجبر على الاكتساب، فلو قلنا: يلزمه أن يفعل ما فيه الحظ لالزمناه الاكتساب.
وقال أبو إسحاق إن كان الحظ في الفسخ لزمه أنه يفسخ، وان أجازه لم تصح إجازته، وإن كان الحظ (أو الفائدة) في الاجازة لزمه أن يجيز، وان لم يصح الفسخ، لان الحجر يقتضى طلب الحظ، فلم يفعل الا ما فيه الحظ، كما لو باع بشرط الخيار ثم جن، فإن الولى لا يفعل الا ما فيه الحظ.
وتأول كلام الشافعي على هذا الذى بينا.
ومنهم من قال.
يبنى ذلك على وقت انتقال الملك إلى المشترى، وصورتها إذا باع بشرط الخيار وأفلس البائع، فإن قلنا ان الملك انتقل إلى المشترى بنفس العقد، فللبائع أن يجيز البيع، وان كان الحظ في الفسخ فله أن يفسخ.
وان كان الحظ في الاجازة وان قلنا ان البيع لا ينتقل الا بشرطين أو قلنا أنه موقوف فليس له ان يفعل الا ما فيه الحظ على القولين.
قال ابن الصباغ.
والطريقة الاولى أشد عند أصحابنا، لان التصرف من المحجور عليه لا ينفذ، سواء كان الحظ فيه أو لم يكن، وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق طريقة رابعة، وقال الصحيح عندي أنه لا يملك فسخ العقد ولا اجازته بعد الحجر عليه بكل حال، لانه عندنا ينقطع تصرفه بالحجر عليه بدلالة أنه إذا

(13/284)


باع شيئا ثم حجر عليه قبل قبض الثمن لم يكن له قبض، اللهم الا أن يكون الامام امر من يقوم بأمره وينظر في مصالحه فرأى الحظ له في الفسخ فانه يفعل اه.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
.

(فصل)
وإن وهب هبة تقتضي الثواب وقلنا: إن الثواب مقدر بما يرضى به الواهب، ثم أفلس، فله أن يرضى بما شاء، لانا لو ألزمناه أن يطلب الفضل لالزمناه أن يكتسب، والمفلس لا يكلف الاكتساب.
(الشرح) الاحكام.
إذا وهب لغيره قبل الحجر هبة تقتضي الثواب، ثم حجر على الواهب.
وقلنا ان الثواب مقدر بما يرضى به الواهب فله أن يرضى بالقليل والكثير، لانا لو ألزمناه طلب الفضل لالزمناه الاكتساب وذلك لا يلزمه.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان أقر بدين لزمه قبل الحجر لزم الاقرار في حقه، وهل يلزم في حق الغرماء؟ فيه قولان.
(احدهما) لا يلزم، لانه متهم، لانه ربما واطأ المقر له لياخذ ما أقر به ويرد عليه
(والثانى)
أنه يلزمه وهو الصحيح، لانه حق يستند ثبوته إلى ما قبل الحجر فلزم في حق الغرماء كما لو ثبت بالبينة، وان ادعى عليه رجل مالا وأنكر، ولم يحلف، وحلف المدعى.
فان قلنا ان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة شارك الغرماء في المال، وان قلنا: كالاقرار فعلى القولين في الاقرار، وان أقر لرجل بعين لزمه الاقرار في حقه، وهل يلزم في حق الغرماء؟ فيه قولان،
(أحدهما)
لا يلزم
(والثانى)
يلزم، وتسلم العين إلى المقر له، ووجه القولين ما ذكرناه في الاقرار بالدين.
(الشرح) الاحكام: إذا أقر المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر، وصادقه
المقر له، وكذبه الغرماء، تعلق الدين بذمته قولا واحدا، وهل يقبل إقراره في حق الغرماء؟ ليشاركهم المقر له؟ فيه قولان.

(13/285)


أحدهما: أنه لا يقبل في حقهم ولا يشاركهم، لانه مال تعلق به حق الغير فلم يقبل إقرار من عليه الحق في ذلك المال كالراهن إذا أقر بدين لم يبطل به حق المرتهن، ولانه لا يؤمن أن يواطئ المفلس من يقر له بالدين ليشاركه الغرماء، ثم يسلمه إلى المفلس.
الثاني: ان اقراره مقبول في حق الغرماء، فشاركهم المقر له، وهو الصحيح لانه حق ثبت لسبب منسوب إلى ما قبل الحجر فوجب أن يشارك صاحب الحق بحقه الغرماء، كما لو ثبت حقه بالبينة، ولان المريض لو أقر لرجل بدين لزمه في حال الصحة لشارك من أقر له في حال المرض، كذلك هذا المفلس لو أقر بدين قبل الحجر لشارك الغرماء.
وكذلك إذا أقر بدين بعد الحجر وأضافه إلى ما قبل الحجر يكون كما لو أقر به قبل الحجر، وكذلك إذا أقر بدين بعد الحجر.
وان كان في يد المفلس عين وقال: هذه العين عارية عندي لفلان، أو غصبتها منه أو أودعنيها، فهل يقبل اقراره في حق الغرماء على القولين
(أحدهما)
لا يقبل فإن لم يف مال المفلس بدينه الا ببيع تلك العين بيعت، ووزع ثمنها على الغرماء وكان هذا الثمن دينا على المفلس في ذمته.
(والقول الثاني) وهو الصحيح: أنه يقبل اقراره فيها على الغرماء، وتسلم العين إلى المقر له، قال الشيخ أبو حامد: وقد شنع الشافعي رحمه الله على القول الاول وقال: من قال بهذا أدى إلى ان القصار (أي الحائك أو الخياط) إذا أفلس وعنده ثياب لقوم فأقر أن هذا الثوب لفلان، وهذا لفلان فلا يقبل منه،
وكذلك الصباغ والصائغ إذا أقر بمتاع لاقوام بأعيانهم أن لا تقبل، وهذا لا سبيل إليه، وكذلك لو قال عندي عبد آبق ولم يقبل قوله، فبيع العبد رجع بعهدته على المفلس فيكون قد رجع عليه بعهده عند اقراره أنه أبق وباعه بهذا الشرط وهذا لا سبيل إليه لانه ابطال لاصول الشرع، فلذلك قلنا نقبل اقراره اه.
(فرع)
وإن ادعى رجل على المفلس بدين في ذمته أو عين في يده فجحده، فان أقام المدعى بينه شارك الغرماء بالدين وأخذ العين، وإن لم يقم بينة فالقول قول المفلس مع يمينه، فان حلف له انصرف المدعى وإن نكل المفلس عن اليمين

(13/286)


فحلف المدعى، فهل يشارك الغرماء في الدين، ويأخذ العين؟ فيه طريقان، قال الشيخان أبو حامد والمصنف رحمهما الله تعالى: إن قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة شارك الغرماء بالدين وأخذ العين، وإن قلنا إنه كالاقرار كان على القولين الاولين في إقرار المفلس وقال ابن الصباغ: يشارك الغرماء قولا واحدا، كما لو ثبت ذلك بالبينة.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
وان جنى على رجل جناية توجب المال وجب قضاء الارش من المال، لانه حق لزمه بغير رضى من له الحق فوجب قضاؤه من المال، وان جنى عليه جناية توجب المال تعلق حق الغرماء بالارش كما يتعلق بسائر أمواله.

(فصل)
وان ادعى على رجل مالا وله شاهد فان حلف استحق وتعلق به حق الغرماء وإن لم يحلف فهل تحلف الغرماء أم لا؟ قال في التفليس لا يحلفون وقال في غرماء الميت: إذا لم يحلف الوارث مع الشاهد ففيه قولان.
أحدهما يحلفون.
والثانى لا يحلفون.
فمن أصحابنا من نقل أحد القولين من غرماء الميت
إلى غرماء المفلس، فجعل فيهما قولين.
أحدهما يحلفون لان المال إذا ثبت استحقوه.
والثانى لا يحلفون لانهم يحلفون لاثبات المال لغيرهم وذلك لا يجوز ومن أصحابنا من قال لا تحلف غرماء المفلس.
وفى غرماء الميت قولان: لان الميت لم يمتنع من اليمين فحلف غرماؤه، والمفلس امتنع من اليمين فلم تحلف غرماؤه، ولان غرماء الميت أيسوا من يمين الميت فحلفوا، وغرماء المفلس لم ييأسوا من يمين المفلس فلم يحلفوا، وان حجر عليه وعليه دين مؤجل فهل يحل فيه قولان، أحدهما يحل لان الدين تعلق بالمال فحل الدين المؤجل كما لو مات.
والثانى لا يحل وهو الصحيح لانه يملك التصرف في الذمة فلم يحل عليه الدين.
كما لو لم يحجر عليه (الشرح) الاحكام: إذا جنى المحجور عليه على غيره أو أتلف عليه مالا شارك المجني عليه والمتلف عليه الغرماء لان ذلك ثبت بغير رضا من له الحق.

(13/287)


وان جنى أحد على الفلس جناية خطأ تعلق حق الغرماء بالارش، لان الارش مال له، فيتعلق به حق الغرماء كسائر أمواله.
وإن جنى عليه أحد جناية عمد توجب القصاص فالمفلس بالخيار بين أن يقتص وبين أن يعفو وليس للغرماء أن يطالبوه بالعفو على مال، لان ذلك اكتساب للمال، وقد سبق أن قلنا إنه لا يلزمه ذلك، ولانا لو ألزمناه ذلك لصار ذلك ذريعة للجناية عليه مرة بعد أخرى، فلم يلزمه.
فان عفا في مقابل مال تعلق به حق الغرماء، وان عفا مطلقا - فان قلنا إن موجب العمد القود لا غير لم يجب المال، وان قلنا ان موجبه أحد الامرين ثبت المال وتعلق به حق الغرماء، وان عفا على غير مال - فان قلنا ان موجب العمد القود لا غير صح عفوه ولم يجب المال، وان قلنا ان موجبه أحد الامرين فقد ذكر في التعليق والشامل أن المال ثبت: ويتعلق به حق
الغرماء، ولا يصح عفوه وإذا ادعى المفلس على غيره بدين وأنكره المدعى عليه، فأقام المفلس شاهدا فان حلف معه استحق ما ادعاه قسم على الغرماء لانه ملك له، وان لم يحلف فهل يحلف الغرماء.
قال الشافعي في المختصر: لا يحلف الغرماء.
وقال صاحب الشامل إذا مات وخاف ورثة وعليه دين وله دين على آخر له به شاهد ولم يحلف الورثة، فهل يحلف الغرماء؟ على قولين، فمن أصحابنا من قال المسألتان على قولين.
ومنهم من قال لا يحلف غرماء المفلس قولا واحدا، وفى غرماء الميت قولان، والفرق بينهما أن المفلس يرجى أن يخاف فلم يحلف غرماؤه، والميت لا يرجى أن يحلف فحلف غرماؤه، والصحيح أنهما على قولين
(أحدهما)
يحلفون لان حقوقهم تتعلق بما ثبت للمفلس فكان لهم أن يحلفوا كالورثة، ولان الانسان قد يحلف ليثبت ما لا لغيره، كما نقول في الوكيل إذا أحلفه العاقد له فان الوكيل يحلف وثبت المال للموكل، كذلك هذا مثله.
(الثاني) لا يحلفون، وهو الصحيح، لانهم يثبتون بأيمانهم ملكا لغيرهم، تتعلق به حقوقهم بعد ثبوته، وهذا لا يجوز.
كما لا تحلف الزوجة لاثبات مال زوجها، وان كان إذا ثبت تعلقت به نفقتها فأشبهت الورثة لانهم يثبتون ملكا

(13/288)


لانفسهم بأيمانهم.
وأما الوكيل فإنما حلف لان اليمين متعلقة بالعقد، فلما كان هو العاقد توجهت اليمين عليه.
وإن ادعى المفلس على غيره بد؟ ن أو عين ولا بينة له، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف فلا كلام، وان نكل المدعى عليه عن اليمين ردت على المفلس، فان حلف ثبت المال، وقسم على الغرماء، وان لم يحلف المفلس، فهل يحلف الغرماء؟
قال ابن الصباغ: هما على قولين كاليمين مع الشاهد، وإن حلفوا فان المال الذى ثبت بأيمانهم يقسم بينهم على قدر ديونهم (فرع)
إذا كان على رجل دين مؤجل فليس لغرمائه أن يسألوا الحاكم أن يحجر عليه لهذه الديون، وإن كان ماله أولا من ديونهم، لانه لا حق لهم قبل حلول الاجل.
وإن كان عليه دين حال ودين مؤجل، فرفع أصحاب الديون الحالة أمره إلى الحاكم، فنظر إلى ما عليه من الديون، والى ما معه من المال، فوجد ماله لا في بالديون الحالة، فحجر عليه بناء على مسألتهم، فهل تحل عليه الديون المؤجلة؟ فيه قولان
(أحدهما)
تحل، وبه قال مالك، لان ما يتعلق بالمال بالحجر، أسقط الحجر الآجل كالموت، يحل الدين الآجل (الثاني) لا يحل، وهو اختيار المزني، وهو الاصح، لانه دين مؤجل على حى، فلم يحل قبل حلول أجله، كما لو لم يحجر عليه، ويفارق الميت، لان ذمته انعدمت بموته، وهذا له ذمة صحيحة.

(13/289)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان لم يكن له كسب ترك له ما يحتاج إليه للنفقة إلى أن يفك الحجر عنه، ويرجع إلى الكسب لقوله صلى الله عليه وسلم: ابدا بنفسك ثم بمن تعول فقدم حق نفسه على حق العيال، وهو دين، فدل على أنه يقدم على كل دين، ويكون الطعام على ما جرت به عادته، وبترك له ما يحتاج إليه من الكسوة من غير إسراف ولا إجحاف، لان الحاجة إلى الكسوة كالحاجة إلى القوت، فان
كان له من تلزمه نفقته من زوجة أو قريب ترك لهم ما يحتاجون إليه من النفقة والكسوة بالمعروف، لانهم يجرون مجراه في النفقة والكسوة، ولا تترك له دار ولا خادم، لانه يمكنه أن يكترى دارا يسكنها وخادما يخدمه، وان كان له كسب جعلت نفقته في كسبه لانه لا فائدة في إخراج ماله في نفقته، وهو يكتسب ما ينفق (الشرح) حديث " ابدا بنفسك ثم بمن تعول " رواه الطبراني عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أما الاحكام: فإذا حجر الحاكم على المفلس ومنعه من التصرف في ماله فمن أين تكون نفقته إلى أن يبيع ماله ويقسمه على الغرماء، ينظر فيه، فان كان له كسب كانت نفقته من كسبه، وان لم يكن له كسب، فإن على الحاكم أن يدفع إليه نفقته من ماله لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للرجل الذى جاءه بالدينار " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " فأمره أن يبدأ بنفقته على من يعول، ومعلوم أن فيمن يعول من تجب نفقته، وتكون دينا عليه، وهى الزوجة.
فعلم أن نفقته مقدمة على الدين، ويكون طعامه على ما جرت به عادته ويدفع إليه نفقته كل يوم، وآخرها اليوم الذى يقسم فيه الحاكم ماله، فيدفع إليه نفقته ذلك اليوم، لان النفقة تجب في أوله، ويترك له ما يحتاج إليه من الكسوة لانه لا بد له أن ينصرف، فلو قلنا: انه لا يكتسى لامتنع الناس من معاملته، هكذا قال صاحب البيان عن نصه في الام ويترك له من الكسوة ما يكفيه على ما جرت به عادته، أو ما تدعو إليه ضرورة الزمن أن كان صيفا أو شتاء.

(13/290)


قال الشافعي رضى الله عنه: يكفيه قميص وسراويل ورداءان، ان كان ممن يرتدى وحذاءين لرجله هذا إذا كان صيفا، وان كان في الشتاء زيد على القميص جبة محشوة، وخف بدل النعل، وان كان من عادته أن يتطيلس دفع إليه
الطيلسان، وأما جنس ثيابه فمعتبر بحاله، وان كان من عادته لبس الشرب والديبقى ترك له ذلك، وان كانت عادته أن يلبس غليظ الثياب ترك له ذلك.
وقال الشافعي رضى الله عنه: ان كان له ثياب غوال بيعت.
قال أصحابنا: وأراد إذا كان من عوام الناس وله ثياب غالية جرت العادة أن يلبسها ذوو الاقدار بيعت، ويشترى له ثياب جرت العادة أن يلبسها مثله، ويصرف الباقي من ثمنها إلى الغرماء.
(فرع)
وان كان المفلس من تلزمه نفقته كالزوجة والوالدين والمولودين ترك لهم ما يحتاجون إليه نفقة وكسوة كما قلنا عن المفلس، لانهم يجرون مجرى نفسه، لان الاقارب يعتقون عليه إذا ملكهم كما يعتق نفسه إذا ملكها، ونفقة الزوجة آكدا من نفقة الاقارب لانها تجب بحكم المعارضة.
(فرع)
فإن مات المفلس كانت مؤنه تجهيزه وكفنه من ماله، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدمت عليه جنازة ليصلى عليها فقال: هل على صاحبكم دين، فقالوا: نعم، فقال صلوا على صاحبكم.
ولا محالة أنه كان قد كفن، فعلم أن الذى كفن به مقدم على حقوق الغرماء، لانه لم يتعرض له، وان مات من تلزمه - فان كانت زوجة - فهل يجب كفنها ومؤنة تجهيزها عليه، أو في مالها، فيه وجهان سبق ذكرهما في الجنائز للامام النووي رضوان الله عليه ونفعنا بعلمه آمين.
وان كان من الوالدين أو المولودين وجب مؤنة تجهيزه وكفنه على المفلس، ويقدم ذلك على الغرماء كما قلنا في نفس المفلس وكم القدر الذى يجب في الكفن من ثوب أو ثوبين أو ثلاثة.

قال المصنف رحمه الله تعالى

ما يستر العورة لا غير (فرع)
إذا كان للمفلس دار يسكنها أو سيارة يركبها بيعتا عليه، وصرف ثمنها للغرماء، لانه يمكنه أن يستأجر دارا يسكنها، ويركب المرافق العامة من

(13/291)


وسائل المواصلات التى ننبث في كل فج، وتصل إلى حيث يشاء راكبها، وقد جرت عادة الناس بذلك، وذلك بخلاف الثياب، فان العادة لم تجر باكترائها، ولذا لا تباع الا في صورة خاصة مضى بيانها وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وإذا أراد الحاكم بيع ماله فالمستحب أن يحضره لانه أعرف بثمن ماله، فإن لم يكن من يتطوع بالنداء استؤجر من ينادى عليه من سهم المصالح، لان ذلك من المصالح فهو كأجرة الكيال والوزان في الاسواق، فان لم يكن سهم المصالح اكترى من مال المفلس، لانه يحتاج إليه لايفاء ما عليه، فكان عليه، ويقدم على سائر الديون، لان في ذلك مصلحة له، ويباع كل شئ في سوقه، لان أهل السوق أعرف بقيمة المناع، ومن يطلب السلعة في السوق أكثر، ويبدأ بما يسرع إليه الفساد، لانه إذا أخر ذلك هلك، وفى ذلك اضرار، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار، ثم بالحيوان لانه يحتاج إلى علف ويخاف عليه التلف ويتأنى بالعقار لانه إذا تانى به كثر من يطلبه، ولا يتأنى به أكثر من ثلاثة ايام، لان فيما زاد اضرارا بالغرماء في تأخير حقهم.
فإن كان في المال رهن أو عبد تعلق الارش برقبته بيع في حق المرتهن والمجني عليه، لان حقهما يختص بالعين فقدم، وان بيع له متاع وقبض ثمنه فهلك الثمن واستحق المبيع، رجع المشترى بالعهدة في مال المفلس، وهل يقدم على سائر الغرماء؟ روى المزني أنه يقدم، وروى الربيع أنه أسوة الغرماء، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ.

(أَحَدُهُمَا)
يقدم، لان في تقديمه مصلحة فانه متى لم يقدم تجنب الناس شراء ماله خوفا من الاستحقاق فإذا قدم رغبوا في شراء ماله.

(والثانى)
أنه أسوة الغرماء لان هذا دين تعلق بذمته بغير رضى من له الحق فضرب به مع الغرماء كأرش الجناية ومنهم من قال ان لم يفك الحجر عنه قدم لان فيه مصلحة له، وان فك الحجر عنه كان كسائر الغرماء، وحمل رواية الربيع على هذا.

(13/292)


(الشرح) حديث " لا ضرر ولا ضرار " مضى تخريجه.
أما الاحكام: فإنه يستحب أن يشهد المفلس مجلس بيع المال أو الرهن لاجل أولا: لانه يعرف قيمة أمواله وأثمانها عليه التى اشتراها بها.
ثانيا: ليحصى ثمنه ويضبطه.
ثالثا: لانه إذا حضر احتاط اكثر من غيره لحرصه على أن تباع بأكبر قيمة ممكنه.
رابعا.
لان ذلك أطيب لنفسه كذلك يستحب أن يحضر الغرماء لاجل: (اولا) لانه ربما كان منهم من يشترى شيئا من مال المفلس.
(ثانيا) كثرة المبتاعين، فيكون ذلك أوفر للثمن.
(ثالثا) معرفة كل منهم لعين ماله، فربما باع الحاكم سهوا عين ماله فيستدركه (رابعا) لانه أطيب لنفوسهم، فإن باع الحاكم ماله بغير حضور المفلس أو الغرماء صح البيع، لان المفلس لا تصرف له، والغرماء لا ملك لهم.
(فرع)
إذا اراد الحاكم بيع مال المفلس فلا بد من دلال وهو من ينادى على المتاع فيمن يريد، ويستحب أن يقول الحاكم للمفلس والغرماء: ارتضوا برجل ينادى على بيع المتاع، لانهم اعرف بمن يصلح لذلك الامر، ولان في ذلك تطييبا لانفسهم، فان لم يستأذنهم الحاكم في ذلك، ونصب مناديا من قبله جاز لان المفلس قد انقطع تصرفه، والغرماء لا ملك لهم.
قال الشافعي رضى الله عنه.
ولا يقبل الا ثقة - وفى بعض نسخ المزني -
ولا يقبل الا من ثقة، فمن قبل - ولا نقبل إلا ثقة - معناه إذا نصب المفلس والغرماء من ينادى على ثمن المتاع لم يقبله الحاكم الا أن يكون ثقة.
والفرق بين هذا وبين الرهن إذا اتفق المتراهنان على وضع الرهن على يد من ليس بثقة، لم يعترض الحاكم عليهما، لان الحق في الرهن للمتراهنين لا يتعداهما: وههنا النظر للحاكم لانه ربما ظهر غريم آخر، وأما من قبل ولا يقبل الا من ثقة فمعناه إذا نودى على مال المفلس فزاد في ثمنه انسان فانه لا يقبل الزيادة الا من ثقة مخافة أن يزيد فيترك فتفسد.

(13/293)


فإن تطوع الدلال بالنداء من غير أجرة لم يستأجر الحاكم من ينادى لانه لا حاجة إلى ذلك، وإن لم يوجد من يتطوع بذلك استؤجر بأقل ما يوجد، فإن كان في بيت المال فضل أعطى الاجير أجره منه، لان في ذلك مصلحة، فهو كأجرة الكيال والوزان في الاسواق وإن لم يكن في بيت المال فضل استوفى من مال المفلس كذلك، لان العمل له قال أبو على الكيال في الافصاح: فأما أجرة النفاذ فعلى الغريم لا على المفلس فإن اختار المفلس رجلا ينادى على المناع واختار الغرماء غيره، قدم الحاكم الثقة منهما، فان تساويا في التوثيق قدم المتطوع منهما لانه أوفر مؤنة، فان كانا متطوعين ضم أحدهما إلى الآخر، وإن كانا يجعل قدم أعرفهما وأوثقهما، ويرى أصحاب أحمد أن نفقة النفاذ على الملفس، وفى قول آخر عندهم تدفع من بيت المال، وعندنا على القولين في أن يعطى من الغرماء أو من بيت المال، كما سبق بيانه.
(فرع)
ويباع كل شئ من الامتعة في سوقه، فتباع الكتب في سوق الوراقين والبز في سوق البزازين، والطعام في سوق الطعام، وهذا إذا كان في البلد أسواق متخصصة بتوفر أربابها على نوع معين من السلع كسوق العطارين وسوق العقادين
وغيرها من الاسواق النوعية، وذلك لتفادي ألا يتناول شراءها من لا يعرف قيمتها فيبخسها، كل ذلك إذا أمن عند نقلها عدم التلف أو ضياع شئ منها، فإذا كان مكانها صالحا لبيعها بيعت حيث هي.
أما العقار وغيره من الاعيان الثابتة فانه يمكن أن يكتفى بالنشر في صحيفة يومية، ولا ينادى الدلال في جلسة البيع كالامتعة، وإنما يومئ إيماء بالثمن الذى يعرض من المبتاعين، وذلك أعز للعقار وأدعى إلى حفظ حق المفلس.
ويباع ما هو معرض للتلف أولا، كالرطب والهريس ونحوهما، ثم الحيوان لانه معرض للتلف إذا لم يجد من يقوم على مئونة حفظه وغذائه، ثم الثياب والاقمشة.
وهكذا بالترتيب قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ كَانَ بقرب ذلك البلد قوم يشترون العقار في ملك المفلس أنفذ إليهم وأعلمهم بذلك ليحضروا فيشتروا فيتوفر الثمن على المفلس

(13/294)


(فرع)
ويباع مال المفلس بنقد البلد، وان كان من غير جنس حق الغرماء بأن كانت الديون عليه بالدينار العراقى أو الجنيه الاسترليني أو الليرة السورية وكان المفلس في العراق بيع عليه بالدينار، ولو كان الدين بالليرة أو بالجنية، لان ذلك أيسر وأوفر، فان كان حق الغرماء من نقد البلد دفعه إليهم، وإن كان من غير نقد البلد، فان كان حقهم ثبت من غير جهة السلم دفع إليهم عوضه إن رضوا بذلك، وان لم يرضوا اشترى لهم من جنس حقوقهم، فان كان حقهم ثبت من جهة السلم لم يجز أخذ العوض عن ذلك، وإنما يشترى لهم حقهم (فرع)
إذا كان في مال المفلس رهن بدأ ببيعه لان حق المرتهن يختص بالعين وحقوق الغرماء لا تختص بالعين، ولانه ربما زاد ثمن الرهن على حق المرتهن، فتفرق الزيادة على الغرماء، وربما نقص ثمنه عن حق المرتهن فاختلط
مع الغرماء بما بقى له، فاحتيج إلى بيعه لذلك (فرع)
فان باع شيئا من مال المفلس، فان كان دينه لواحد فانه يدفع كلما باع شيئا وقبضه إلى الغريم لانه لا حاجة به إلى التأخير.
وان كان الدين لجماعة نظرت فان بيع جميع ماله دفعة واحدة قبض ثمنه ووزعه على الغرماء بالحصص على قدر ديونهم.
وان لم يمكن بيع ماله إلا بشئ بعد شئ نظرت فيما يباع به أولا فان كان ثمنه كثيرا يمكن قسمته على الغرماء قسم بينهم لانه لا حاجة به إلى التأخير.
وان كان قليلا يتعذر قسمته.
أو يكون القسم منه يراد.
أخرت قسمته على الغرماء.
فان وجد الحاكم ثقة مليئا - أي غنيا ... فقد قال الشافعي رضى الله عنه: أقرضه إياه حالا.
فإذا تكامل بيع المال أخذه من الذى أقرضه إياه وقسمه بين الغرماء، ويكون ذلك أولى من إبداعه.
لان القرض مضمون على المقبوض.
والوديعة أمانة يخاف تلفها.
فان لم يجد ثقة مليئا يقرضه اياه أودعه عند ثقة.
فان قيل: فلم قال الشافعي رضى الله عنه: يقرضه حالا.
والقرض عنده لا يكون إلا حالا؟ فقال أكثر أصحابنا: وصف القرض بذلك لانه شرط.
وقصد بذلك الرد على مالك رضى الله عنه حيث قال: يصح القرض مؤجل،

(13/295)


وقال العمرانى.
وقال بعض أصحابنا: أراد حالا بغير تشديد يعنى يقرضه في الحال، وهذا ليس بشئ فإن قبل فقد قال الشافعي رضى الله عنه لا يجوز إقراض مال اليتيم إلا في حال الضرورة وهو أن يكون في بحر ومعه مال اليتيم ويخاف عليه الغرق أو يخاف عليه النهب أو الحريق، ولا يقرضه في غير ذلك وإنما يودعه.
فما الفرق بينه وبين المفلس؟ قلنا الفرق بينهما أن مال الصبى معد لمصلحة يظهر من شراء
عقار أو تجارة، وقرضه يتعذر معه المبادرة إلى ذلك.
ومال المفلس معد للغرماء خاصة فافترقا.
(فرع)
وإذا باع الحاكم مال المفلس وانصرم البيع بالتفرق وانقضاء الخيار ثم جاء إلى الحاكم وراد في الثمن.
قال العمرانى: استحب للحاكم أن يسأل المشترى الاقالة ليطلب الفضل، فان أقاله المشترى باع الحاكم من الطالب بالزيادة وإن لم يفعل لم يجبر على ذلك، لان البيع قد لزم (فرع)
وان نصب الحاكم أمينا لبيع مال المفلس وقبض ثمنه فباع شيئا من مال المفلس وقبض ثمنه ثم تلف في يده من غير تفريط، تلف من ضمان المفلس لان العدل أمين له.
ورواية عمرو بن خلدة عن أبى هريرة في المفلس أتوه به التى سبق لنا الاستدلال بها أخرجها الشافعي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه وفى اسناده أبو المعتمر.
قال الطحاوي مجهول وان باع العدل شيئا من مال المفلس وقبض ثمنه ثم اتى رجل ادعى على المشترى أن العين التى اشتراها ملكه وأقام بينة على ذلك، اخذها من يد المشترى فإن كان الثمن باقيا في يد العدل، رجع به إلى المشترى، وان كان المال قد تلف في يد العدل من غير تفريط رجع المشترى بالعهدة في مال المفلس، ووافقنا أبو حنيفة في هذا، وخالفنا في العدل إذا تلف الرهن في يده.
وفى الوكيل والوصى إذا تلف المال في أيديهم بغير تفريط أن الضمان يجب عليهم، فنقيس تلك المسائل على هذه ونقول: لانه باع مال الغير فإذا تلف في يده من غير تفريط لم يضمن قياسا على أمين الحاكم في مال المفلس.
وهل يقدم المشترى على سائر الغرماء أو يكون أسوتهم؟

(13/296)


نقل المزني أنه يقدم عليهم، ونقل الربيع أنه يكون أسوة لهم، واختلف
أصحابنا فيه على طريقين.
فمنهم من قال في المسألة قولان
(أحدهما)
أنه يقدم عليهم لان في ذلك مصلحة لمال المفالس، لان المشترين إذا علموا أنهم يقدمون بالثمن إذا استحق ما اشتروه رغبوا في الشراء فيكثر المشترون وتزيد الاثمان، وإذا علموا أنهم لا يقدمون تجنبوا الشراء خوفا من الاستحقاق.
فتقل الاثمان (الثاني) لا يقدم، بل يكون أسوة الغرماء، لانه تعلق بذمة المفلس بغير اختيار من له الحق، فكان أسوة الغرماء، كما لو جنى على رجل ومنهم من قال هي على حالين، فالموضوع الذى قال يكون أسوتهم أراد به إذا كان بعد القسمة في حجر ثان مثل أن يقسم المال بين الغرماء، ثم استحق شئ من أعيان ماله.
ثم حجر عليه ثانيا، فإن المشترى يكون أسوة الغرماء، لان حقه ثبت في ذمته قبل الحجر كسائر الغرماء.
هكذا ذكر الشيخ أبو حامد هذا التفصيل على هذا الطريق.
قال العمرانى.
وأما صاحب المهذب فقال ان لم ينفك عنه الحجر قدم، لان فيه مصلحة له، وان فك عنه الحجر كان كسائر الغرماء، ولم يذكر الحجر الثاني اه.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
.

(فصل)
وان كان في الغرماء من باع منه شيئا قبل الافلاس ولم يأخذ من ثمنه شيئا، ووجد عين ماله على صفته، ولم يتعلق به حق غيره فهو بالخيار بين أن يترك وضرب مع الغرماء بالثمن، وبين أن يفسخ البيع ويرجع في عين ماله، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " من باع سلعة ثم أفلس صاحبها فوجدها بعينها فهو أحق بها من الغرماء " وهل يفتقر الفسخ إلى اذن الحاكم، فيه وجهان.
قال أبو إسحاق: لا يفسخ الا باذن الحاكم، لانه مختلف فيه فلم يصح بغير الحاكم كفسخ النكاح بالاعسار بالنفقة.
وقال أبو القاسم
الداركى: لا يفتقر إلى الحاكم، لانه فسخ ثبت بنص السنة فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعتق تحت العبد فان حكم حاكم بالمنع من الفسخ فقد قال أبو سعيد

(13/297)


الاصطخرى: ينقض حكمه، لانه حكم مخالف لنص السنة، ويحتمل ألا ينقض لانه مختلف فيه فلم ينقض وهل يكون الفسخ على الفور أو على التراخي فيه وجهان
(أحدهما)
أنه على التراخي لانه خيار لا يسقط إلى بدل، فكان على التراخي كخيار الرجوع في الهبة.

(والثانى)
أنه على الفور لانه خيار ثبت لنقص في العوض فكان على الفور كخيار الرد بالعيب، وهل يصح الفسخ بالوطئ في الجارية؟ فيه وجهان.
أحدهما: يصح كما يصح الفسخ بالوطئ في خيار الشرط.
والثانى: انه لا يصح لانه ملك مستقر فلا يجوز رفعه بالوطئ، وان قال الغرماء نحن نعطيك الثمن ولا نفسخ لم يسقط حقه من الفسخ، لانه ثبت له حق الفسخ فلم يسقط ببدل العوض كالمشترى إذا وجد بالسلعة عيبا وبذل له البائع الارش.
(الشرح) الحديث رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه عند انسان قد أفلس فهو أحق به " أما الاحكام، إذا كان في الغرماء من باع من المفلس قبل الافلاس ولم يقبض الثمن ووجد عين ماله على صفته خاليا من حق غيره، فالبائع بالخيار بين أن يضرب عن الغرماء في الثمن، وبين أن يرجع في غير ماله، وبه قال عثمان وعلى وأبو هريرة رضى الله عنهم، ومن التابعين عروة بن الزبير ثم مالك والاوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسين العنبري واسحاق وأبو ثور وابن المنذر وأحمد، وخالفنا الحسن والنخعي وابن شبرمة وأبو حنيفة فقالوا " هو اسوة الغرماء " دليلنا ما روى عمرو بن خلدة الزرقى قاضى المدينة قال: أتينا أبا هريرة رضى
الله عنه في صاحب لنا أفلس فقال: هذا الذى قضى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَيُّمَا رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه ".
وفى رواية أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضى الله عنهم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال " أيما رجل باع متاعا على رجل فأفلس المبتاع ثم وجد البائع متاعه بعينه، فصاحب المتاع أحق به من دون الغرماء " وقد أخرجه أحمد عن الحسن بن سمرة بلفظ " من وجد متاعه عند

(13/298)


مفلس بعينه فهو أحق به " ورواه الستة عن أبى هريرة بلفظ " من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره " وعند مسلم والنسائي عن أبى هريرة بلفظ " إذا وجد عنده المتاع، ولم يفرقه أنه لصاحبه الذى باعه " وحديث أبى هريرة عند أحمد بلفظ " أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله، ولم يكن اقتضى من ماله شيئا فهو له " وروى مالك في الموطأ وأبو داود، الاول بطريق الارسال والثانى بطريق الاسناد والمرسل اصح عن أبى بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام بلفظ " أيما رجل باع متاعا فأفلس الذى ابتاعه ولم يقبض الذى باعه من ثمنه شيئا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحق به، وإن مات المشترى فصاحب المتاع أسوة الغرماء ".
قلت: ولان عقد البيع يلحقه الفسخ بالاقالة فجاز فيه الفسخ لتعذر العوض أو القيمة أو الثمن، كالمسلم فيه إذا تعذر، ولانه إذا شرط في البيع رهنا، فعجز عن تسليمه استحق الفسخ، وهو وثيقة بالثمن، فالعجز عن تسليم الثمن بنفسه أولى.
ويفارق المبيع الرهن، فإن امساك الرهن إمساك مجرد على سبيل الوثيقة وليس ببدل، والثمن ههنا بدل عن العين، فان تعذر استيفاؤه رجع إلى المبدل.
فان قيل: إنهم تساووا - أعنى الغرماء جميعا من وجد عين ماله ومن لم يجد -
في سبب الاستحقاق، قلنا: لكن اختلفوا في الشرط، فان بقاء العين شرط لملك الفسخ، وهو موجود في حق من وجد متاعه دون من لم يجده.
إذا ثبت هذا: فان البائع بالخيار، إن شاء رجع في السلعة، وإن شاء لم يرجع وكان أسوة الغرماء، وسواء كانت السلعة مساوية لثمنها أو أقل أو أكثر، لان الاعسار سبب جواز الفسخ، فلا يوجبه كالعيب والخيار ولا يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم، لانه فسخ ثبت بالنص فلم يفتقر إلى حكم حاكم، كفسخ النكاح لعتق الامة، وهل خيار الرجوع على الفور أو على التراخي؟ على وجهين بناء على خيار الرد بالعيب، وفى ذلك روايتان: (إحداهما) هو على التراخي، لانه حق رجوع يسقط إلى عوض، فكان على التراخي كالرجوع في الهبة.

(13/299)


(والثانى)
هو على الفور، لانه خيار يثبت في البيع لنقص في العوض، فكان على الفور كالرد بالعيب، ولان جواز تأخيرة يفضى إلى الضرر بالغرماء، لافضائه إلى تأخير حقوقهم، فأشبه خيار الاخذ بالشفعة، وأخد القاضى من الحنابلة بهذا الوجه.
وحكى ابن قدامة الوجهين كهما عندنا.
(فرع)
وان اشترى رجل سلعة بثمن في ذمته وكانت قيمة السلعة مثل الثمن أو أكثر، ولا يملك المشترى غير هذه السلعة ولا دين عليه غير هذا الثمن، فهل يجعل هذا المشترى مفلسا، فيكون للبائع الرجوع إلى عين ماله، فيه وجهان حكاهما في الافصاح أبو على الكيال.
أحدهما: يكون مفلسا، فيكون البائع بالخيار بين الرجوع في عين ماله.
والثانى: لا يكون مفلسا، ولكن تباع السلعة ويعطى منها حقه والباقى للمشترى (فرع)
وان كان ماله يفى بدينه ولكن ظهرت فيه أمارة الفلس - وقلنا:
يجوز الحجر عليه، فحجر عليه - فهل يجوز لمن باع منه شيئا ولم يقبض ثمنه، ووجد عين ماله أن يرجع إلى عين ماله، فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد.

(أحدهما)
له أن يرجع إلى عين ماله لقوله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل باع متاعا على رجل ثم أفلس المبتاع الحديث " وهذا قد أفلس، لانه محجور عليه بحق الغرماء فجاز لمن وجد عين ماله الرجوع إليه، كما لو كان ماله أقل من دينه.

(والثانى)
ليس له الرجوع إلى عين ماله، لانا إنما نجعل للبائع الرجوع إلى عين المال في المواطن التى لا يتمكنون فيها من الوصول إلى كمال حقوقهم، وهذا يتمكن من أخذ جميع حقه فلم يمكن له الرجوع إلى عين ماله.
(فرع)
وهل يصح فسخ البائع من غير إذن الحاكم، فيه وجهان.
الاول قاله المصنف: لا يصح إلا بإذن الحاكم، لانه فسخ مختلف فيه فلم يصح إلا بالحاكم كفسخ النكاح بالاعسار بالنفقة.
والثانى: قاله صاحب البيان: يصح بغير اذن الحاكم، لانه فسخ ثبت بنص السنة فهو كفسخ نكاح المعتقة تحت عبد.
فان حكم حاكم بالمنع ففيه وجهان.
أحدهما: يصح حكمه.
لانه مختلف فيه والثانى: لا يصح لانه حكم مخالف لنص السنة.

(13/300)


وهل يشترط أن يكون الفسخ على الفور، أو يجوز على التراخي فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز على التراخي، لانه خيار لا يسقط إلى بدل فجاز على التراخي، كرجوع الاب فيما وهب لابنه، وفيه احتراز من الرد بالعيب، لانه قد يسقط إلى بدل وهو الارش
(والثانى)
يشترط أن يكون على الفور، لانه خيار لنقص في العوض، فكان على الفور كالرد بالعيب، وفيه احتراز من رجوع الاب في هبته لابنه.
(فرع)
إذا رهن البائع المبيع في يد المفلس عند ثبوت الرجوع له فهل يجعل رهنه فسخا للبيع.
فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ في الرهن وحكاية وطئ البائع الجارية المبيعة جعلوا في فسخ البيع وجهين
(أحدهما)
يكون فسخا كوطئ البائع مبيعته في مدة الخيار
(والثانى)
لا يكون فسخا.
لان ملك المشترى مستقر فلا يرفع الا بالقول.
(فرع)
إذا بذل الغرماء للبائع جميع ماله على أن لا يرجع بالعين المبيعة لم يجبر على ذلك.
وجاز له الرجوع إلى عين ماله.
وقال مالك رضى الله عنه لا يجوز له الرجوع إلى عين ماله.
وقال أحمد وأصحابه كقولنا.
دليلنا: الحديث، ولم يفرق بين ما إذا عرض الثمن أو لم يعرض ولانه تبرع بالحق غير من عليه الحق فلم يلزم من ثبت له الفسخ اسقاط حقه من الفسخ.
كالزوج إذا عسر بالنفقة فجاء أجنبي فبذل لها النفقة ليترك الفسخ، فانه لا يلزمها ذلك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
وإن كان قد باعه بعد الافلاس، ففيه وجهان.
أحدهما: أن له أن يفسخ، لانه باعه قبل وقت الفسخ، فلم يسقط حقه من الفسخ كما لو تزوجت إمرأة بفقير ثم أعسر بالنفقة.
والثانى: أنه ليس له أن يفسخ لانه باعه مع العلم بخراب ذمته، فسقط خياره، كما لو اشترى سلعة مع العلم بعيبها.
(الشرح) الاحكام: إذا اشترى عينا بعد أن حجر عليه بثمن في ذمته فقد

(13/301)


ذكرنا أن شراءه صحيح، وهل ثبت للبائع الرجوع إلى عين ماله؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يثبت له الرجوع إلى عين ماله، لانه باعه مع العلم بخراب ذمته، فلم يثبت له الفسخ، كما لو اشترى سلعة معيبة مع العلم بعيبها.
والثانى: يثبت له
الفسخ كما لو تزوجت امرأة بفقير مع العلم بحاله، فان لها أن تفسخ النكاح إذا عسر بالنفقة.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان وجد المبيع وقد قبض من الثمن بعضه، رجع بحصة ما بقى من الثمن لانه إذا رجع بالجميع إذا لم يقبض جميع الثمن رجع في بعضه إذا لم يقبض بعض الثمن، وان كان المبيع عبدين متساويى القيمة وباعهما بمائة، وقبض من الثمن خمسين، ثم مات أحد العبدين، وأفلس المشترى، فالمنصوص في التفليس أنه يأخذ الباقي بما بقى من الثمن، ونص في الصداق: إذا أصدقها عبدين فتلف أحدهما ثم طلقها قبل الدخول، على قولين.
أحدهما: أنه بأخذ الموجود بنصف الصداق مثل قوله في التفليس.
والثانى أنه يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف، فمن أصحابنا من نقل هذا القول إلى البيع، وقال: فيه قولان
(أحدهما)
أنه يأخذ نصف الموجود ويضرب مع الغرماء بنصف ثمن التالف، وهو اختيار المزني رحمه الله، لان البائع قبض الخمسين من ثمنهما، وما قبض من ثمنه لا يرجع به
(والثانى)
أنه يأخذ الموجود بما بقى، لان ما أخذ جميعه لدفع الضرر إذا كان باقيا أخد الباقي إذا هلك بعضه كالشقص في الشفعة ومن أصحابنا من قال يأخذ البائع الموجود بما بقى من الثمن قولا واحدا، وفى الصداق قولان، والفرق بينهما أن البائع إذا رجع بنصف الموجود ونصف بدل التالف لم يصل إلى كمال حقه لان غريمه مفلس، والزوج إذا رجع بنصف الموجود ونصف قيمة التالف وصل إلى جميع حقه، لان الزوجة موسرة فلم يجز له الرجوع بجميع الموجود بنصف المهر

(13/302)


(الشرح) الاحكام: إذا باع من رجل عينا بمائة أو عينين بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين والعين المبيعة باقية أو العينان باقيتان، سواء كانت قيمتهما مختلفة أو متساوية، فهل للبائع أن يرجع من المبيع بقدر ما بقى من الثمن؟ حكى ابن الصباغ فيه قولين.
قال في القديم سقط حق البائع من الرجوع إلى الغير ويضرب مع الغرماء بالثمن.
وحكى الشيخ أبو حامد أن هذا هو مذهب مالك ولم يحكه عن القديم.
وقال ابن الصباغ: مذهب مالك إذا قبض شيئا من الثمن والعين باقية كان بالخيار بين أن يرد ما قبض من الثمن ويرجع في العين المبيعة، وبين أن لا يرجع في العين ويضارب مع الغرماء فيما بقى.
ووجه القول القديم حديث أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام الذى أنينا على مختلف طرقه وألفاظه فيما سبق من فصول هذا الباب ولان في رجوعه في بعض العين تبعيضا للصفقة على المشترى وإضطرارا به، فلم يكن ذلك للبائع.
وقال في الجديد: يثبت له الرجوع بخصم ما بقى من الثمن - وهو الصحيح - لانه سبب يرجع به العاقد إلى جميع العين فجاز ان يرجع به إلى بعضها كالفرقة قبل الدخول، وذلك أن الزوج يرجع تارة بجميع الصداق، وهو ما إذا ارتدت أو وجد أحدهما بالآخر عيبا، وتارة بالنصف، وهو ما إذا طلقها قال في البيان: والخبر عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسل، لان أبا بكر ليس بصحابى، وان صح فمعنى قوله " فهو أسوة الغرماء " إذا رضى بذلك.
وإن باعه عينين متساويى القيمة بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين وتلف أحد العينين وأفلس المشترى، فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن الذى بقى له فلا كلام، وان اختار الرجوع إلى عين ماله على الجديد فبكم يرجع؟
قال الشافعي يرجع هنا في العين الباقية بما بقى من الثمن.
وقال في الصداق " إذا أصدقها عبدين فتلف أحدهما وطلقها قبل الدخول أنها على قولين
(أحدهما)
تأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف
(والثانى)
أنه بالخيار بين أن يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف.

(13/303)


وبين أن يترك الموجود ويأخذ نصف قيمتها، وقال في الزكاة: إذا أصدقها خمسا من الابل فحال عليها الحول فباعت منها بقدر شاة وأخرجتها ثم طلقها قبل الدخول كان له أن يأخذ بعيرين ونصفا، فحصل في الصداق ثلاثة أقوال (أحدها) يأخذ نصف الصداق من الباقي.
وهذا موافق لما قاله في المفلس.

(والثانى)
يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف (والثالث) أنه بالخيار بين أن يأخذ الموجود بنصف الصداق وبين أن يترك الموجود ويأخذ نصف قيمتها.
واختلف أصحابنا في مسألة المفلس، فمنهم من قال في المفلس أيضا قولان:
(أحدهما)
يأخذ الباقي من العينين بما بقى له من الثمن، ويكون النصف الذى أخذ حصة التالف، لانه إنما جاز للبائع أخذ جميع المبيع، إذا وجده كله جاز له أخذ بعضه إذا تعذر جميعه، كما قلنا في الشفيع
(والثانى)
يأخذ نصف الموجود بنصف ما بقى له، ويضرب مع الغرماء بنصفه، لانه إذا باع شيئين متساويى القيمة بمائة فقد باع كل واحد منهما بخمسين فإذا قبض خمسين من مائة فقد قبض من ثمنهما مجتمعين، بدليل أنهما لو كانا قائمين لرجع في نصفهما، فإذا تلف أحدهما رجع في نصف الباقي بنصف ما بقى.
وضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من الذى لم يقبضه، قال هذا القائل: ولا يجئ ها هنا القول الثالث في الصداق، وهو أن يترك الموجود ويأخذ نصف قيمتها.
لان ذمة الزوجة عليه وذمة المفلس خربة، فلا يمكن ترك الشئ كله والرجوع
إلى القيمة، لانه لا يصل إليها.
ومن أصحابنا مَنْ حَمَلَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا فَقَالَ فِي الصداق ثلاثة أقوال، وفى المفلس يأخذ البائع العين الباقية بما بقى له من الثمن قولا واحدا، والفرق بينهما أنا إذا قلنا في الصداق: يأخذ الزوج نصف الموجود ونصف قيمة التالف فلا ضرر عليه لانه يصل إلى حقه لان ذمة الزوجة مليئة، وفى المفلس لو قلنا: يأخذ البائع نصف الباقي بنصف ما بقى له، ويضرب مع الغرماء بنصف ما بقى له لم يأمن ألا يصل إلى الكمال من حقه، لان ذمة المفلس خربة

(13/304)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن وجد البائع عين ماله وهو رهن لم يرجع به، لان حق المرتهن سابق لحقه فلم يملك إسقاطه بحقه، فإن أمكن أن يقضى حق المرتهن ببيع بعضه، بيع منه بقدر حقه ويرجع البائع بالباقي، لان المنع كان لحق المرتهن وقد زال.
(الشرح) إذا وجد البائع عين ماله مرهونة عند آخر لم يكن له أن يرجع فيها لان المشترى قد عقد على ما اشتراه عقدا منع نفسه من التصرف فيه، فلم يمكن لبائعه الرجوع فيه، كما لو باعها المشترى أو وهبها إذا ثبت هذا فإن حق المرتهن مقدم على حق البائع لانه أسبق، فإن كان الدين المرهون به مثل قيمة العين أو أكثر بيعت العين في حق المرتهن ولا كلام، وإن كان الدين المرهون به أقل من قيمة الرهن بيع من الرهن بقدر دين المرتهن وكان للبائع ان يرجع في الباقي منها، لانه لا حق لاحد فيما بقى منها، وإن لم يمكن بيع بعض الرهن بحق المرتهن إلا ببيع جميع الرهن، فبيع جميع الرهن وقضى حق المرتهن من ثمن الرهن، وبقى من الثمن بعضه، فالذي يقتضى المذهب أن البائع لا يكون أحق بالباقي من الثمن، بل يصرف ذلك إلى جميع الغرماء، لان حقه
يختص بالعين دون ثمنها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان المبيع شقصا تثبت فيه الشفعة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن الشفيع أحق، لان حقه سابق، فإنه يثبت بالعقد، وحق البائع ثبت بالحجر، فقدم حق الشفيع
(والثانى)
أن البائع أحق، لانه إذا أخذ الشفيع الشقص زال الضرر عنه وحده، وإذا أخذه البائع زال الضرر عنهما، لان البائع يرجع إلى عين ماله، والشفيع يتخلص من ضرر المشترى فيزول الضرر عنهما.
(والثالث) أنه يدفع الشقص إلى الشفيع ويؤخذ منه ثمنه، ويدفع إلى البائع لان في ذلك جمعا بين الحقين، وإذا أمكن الجمع بين الحقين لم يجز إسقاط أحدهما

(13/305)


(الشرح) قوله " شقصا " الشقص الطائفة من الشئ، والجمع أشقاص مثل حمل وأحمال، وهو مأخوذ من المشقص، سهم فيه نصل عريض أو أن هذا مأخوذ منه.
أما الاحكام فإنه إذا اشترى رجل شقصا من دار أو أرض فثبت فيه الشقصة فأفلس المشترى وحجر عليه قبل أن يأخذ الشفيع، فهل البائع أحق بالشقص أم الشفيع؟ فيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أن الشفيع أحق ويكون الثمن بين الغرماء، لان حق الشفيع أسبق لان حقه يثبت بالبيع، وحق البائع يثبت بالحجر، فقدم السابق
(والثانى)
أن البائع أحق بالشقص لانه إذا رجع في الشقص زال الضرر عنه وعن الشفيع، لان عاد كما كان قبل البيع، ولم يتجدد شركة غيره قال الشيخ أبو حامد: وهذا مدخول، لان من باع شقصا وثبتت فيه الشفعة
ثم استقاله البائع فأقاله قبل أن يأخذ الشفيع، فإن البائع عاد للشفيع شريكا كما كان، ومع دلك له الاخذ بالشفعة (والثالث) أن الشفيع أولى بالشقص، ويؤخذ منه الثمن ويسلم إلى البائع دون سائر الغرماء، لان في ذلك جمعا بين الحقين، وازالة للضرر عنهما
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان المبيع صيدا والبائع محرم، لم يرجع فيه، لانه تمليك صيد فلم يجز مع الاحرام كشراء الصيد (الشرح) الاحكام: إذا باع صيدا ثم أحرم وأفلس المشترى لم يكن للبائع أن يرجع في الصيد كما لا يجوز أن يبتاعه، وقد مضى لسلفنا النووي رضى الله عنه ذلك في الصيد فليراجع.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان وجد عين ماله ودينه مؤجل، وقلنا ان الدين المؤجل لا يحل وديون الغرماء حالة، فالمنصوص أنه يباع المبيع في الديون الحالة لانها حقوق

(13/306)


حالة فقدمت على الدين المؤجل ومن أصحابنا من قال لا يباع، بل يوقف إلى أن يحل فيختار البائع الفسخ أو الترك، وإليه أشار في الاملاء، لان بالحجر تتعلق الديون بماله فصار المبيع كالمرهون في حقه بدين مؤجل فلا يباع في الديون الحالة (الشرح) الاحكام: إذا اشترى رجل أعيانا بأثمان مؤجلة فحجر على المشترى بديون حالة عليه، وكانت الاعيان التى اشتراها بالمؤجل باقية في يده لم يتعلق به حق غيره.
فإن قلنا إن الدين المؤجل لا يحل بالحجر، فما الحكم في الاعيان التى اشتراها بالاثمان المؤجلة.
فيه وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص ولم يقل الشيخ أبو حامد غيره أنها تباع وتفرق
اثمانها على أصحاب الديون لانها حقوق حالة فقدمت على الديون المؤجلة، وتبقى الديون في ذمته إلى الاجل، فإذا أيسر طالبوه، وإلا كانت في ذمته إلى أن يوسر (الثاني) حكاه المصنف أنها لا تباع، بل توقف إلى أن تحل الديون المؤجلة فيخير بائعوها بين فسخ البيع فيها أو الترك، قال واليه أشار في الاملاء، لان بالحجر تعلقت الديون بماله، فصار المبيع كالمرهون في حقه بدين مؤجل، فلم يبع في الديون الحالة.
وأما إذا قلنا: إن الديون المؤجلة يحل بالحجر فما الحكم في الاعيان المشتراة بها.
فيه وجه حكاه صاحب الفروع، وهو قول أبى إسحاق أن تلك الاعيان لا تباع في حق أصحاب الديون المعجلة ولا تسلم إلى بائعها أيضا، بل توقف
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وجد المبيع وقد باعه المشترى ورجع إليه، ففيه وجهان.

(أحدهما)
أن له أن يرجع فيه، لانه وجد عين ماله خاليا من حق غيره، فأشبه إذا لم يبعه
(والثانى)
لا يرجع، لان هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه.
(الشرح) الاحكام: إذا اشترى عينا بثمن في ذمته فباعها من غيره أو وهبها له وأقبضها ثم أفلس المشترى لم يكن للبائع إلا الضرب مع الغرماء لانها خارجة عن ملك المشترى، فهو كما لو تلفت، وان رجعت إلى ملك المشترى بإرث أو هبة أو وصية فأفلس.
فهل يرجع البائع بها فيه وجهان

(13/307)


أحدهما: لا يرجع لان هذا الملك انتقل إليه من غير البائع.
والثانى: للبائع أن يرجع فيها، لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره، فهو كما لو لم يخرج عن ملك المشترى، فإذا قلنا: بهذا الوجه، وكان المشترى قد اشتراها ممن هي في يده بثمن في ذمته، فأفلس بالثمنين وحجر عليه، فأى البائعين أحق بالعين؟ فيه ثلاثة
أوجه، حكاها المسعودي.
(أحدها) البائع الاول أحق بها، لان حقه أسبق.

(والثانى)
البائع الثاني أحق بها، لانه أقرب.
(والثالث) أنهما سواء لانهما متساويان في سبب الاستحقاق.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وجد المبيع ناقصا نظرت، فإن كان نقصان جزء ينقسم عليه الثمن كعبدين، تلف أحدهما أو نخلة مثمرة تلفت ثمرتها، فالبائع بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ البيع فيما بقى بحصته من الثمن، ويضرب مع الغرماء بثمن ما تلف، لان البائع يستحق المبيع في يد المفلس بالثمن كما يستحق المشترى المبيع في يد البائع بالثمن، ثم المشترى إذا وجد أحد العينين في يد البائع والآخر هالكا كان بالخيار بين أن يترك الباقي ويطالب بجميع الثمن، وبين أن يأخذ الموجود بثمنه ويطالب بثمن التالف، فكذلك البائع، وإن كان المبيع نخلا مع ثمرة مؤبرة فهلكت الثمرة، قوم النخل مع الثمرة، ثم يقوم بلا ثمرة، ويرجع بما بينهما من الثمن، وتعتبر القيمة أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض.
فان كانت قيمته وقت العقد أقل قوم وقت العقد، لان الزيادة حدثت في ملك المشترى فلا تقوم عليه، وان كانت في وقت القبض أقل قوم في وقت القبض، لان ما نقص لم يقبضه المشترى، فلم يضمنه، فان كان نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن كذهاب يد، وتأليف دار، نظرت، فان لم يجب لها أرش بأن أتلفها المشترى أو ذهبت بآفة سماوية، فالبائع بالخيار بين أن يأخذه بالثمن وبين أن يتركه، ويضرب بالثمن مع الغرماء كما نقول فيمن اشترى عبدا فذهبت

(13/308)


يده أو دارا فذهب تأليفها في يد البائع، فان المشترى بالخيار بين أن يأخذه بالثمن، وبين أن يتركه ويرجع بالثمن فإن وجب لها أرش بأن أتلفها أجنبي فالبائع بالخيار بين أن يترك ويضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يأخذ ويضرب بما نقص من الثمن لان الارش في مقابلة جزء كان البائع يسحقه فاستحق ما يقابله، كما نقول فيمن اشترى عبدا فقطع الأجنبي يده: انه بالخيار بين أن يتركه ويرجع بالثمن، وبين أن يأخذه ويطالب الجاني بالارش، غير أن المشترى يرجع على الجاني بقيمة اليد، لانها تلفت في ملكه فوجب له البدل، والبائع يرجع بحصة اليد من الثمن لانها تلفت في ملك المفلس فوجب الارش له، فيرجع البائع عليه بالحصة من الثمن، لان المبيع مضمون على المفلس بالثمن، فان كان المبيع نخلا عليه طلع غير مؤبر فهلكت الثمرة ثم أفلس بالثمن فرجع البائع في النخل ففيه وجهان
(أحدهما)
يأخذها بجميع الثمن لان الثمرة تابعة للاصل في البيع فلم يقابلها قسط من الثمن
(والثانى)
يأخذها بقسطها من الثمن ويضرب بحصة الثمرة مع الغرماء.
لان الثمرة يجوز إفرادها بالبيع فصارت مع النخل بمنزلة العينين.
(الشرح) الاحكام: والذى ذكرناه في الفصل الذى قبل هذا إذا وجد البائع العين المبيعة بحالها لم تنقص ولم تزد، فأما إذا وجدها ناقصة فلا يخلو إما أن يكون نقصان جزء ينقسم عليه الثمن، ويصح إفراده بالبيع أو نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن، ولا يصح إفراده بالبيع.
فان كان نقصان جزء ينقسم عليه الثمن بأن باعه شيئين بثمن فقبضهما المشترى فتلف أحدهما وأفلس قبل أن يقبض البائع الثمن.
أو كان ثوبا فتلف بعضه أو نخلة مثمرة مؤبرة فتلف الثمرة قبل أن يقبض البائع الثمن فالبائع بالخيار بين أن يترك ما بقى من المبيع.
ويضرب بجميع الثمن مع الغرماء وبين أن يرجع فيما بقى
من المبيع بحصته من الثمن.
ويضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من المبيع من الثمن.
سواء تلف بآفة سماوية أو بفعل المشترى.
أو بفعل أجنبي فالحكم واحد في رجوع البائع.
وإنما كان كذلك لان البائع يستحق المبيع في يد المفلس بالثمن كما يستحق المشترى المبيع في يد البائع بالثمن.
ثم المشترى إذا وجد بعض المبيع في يد البائع كان له أن يأخذه بحصته من الثمن.
فكذلك هذا مثله.
فان كان المبيع

(13/309)


ثوبين أو دابتين وتلف أحدهما، وأراد بسط الثمن عليهما قوم كل واحد منهما بانفراده، وقسم الثمن المسمى على قيمتهما، فما قابل التالف ضرب به مع الغرماء وما قابل الباقي رجع في الباقي منهما لما قابله، وان باعه نخلة عليها ثمرة مؤبرة، واشترط المشترى دخول الثمرة في البيع ثم أتلف المشترى الثمرة، أو أتلفت وأفلس، واختار البائع الرجوع في النخله، فإنه يرجع فيها بحصتها من الثمن، ويضرب مع الغرماء بما يقابل الثمرة من الثمن.
وحكى المحاملى عن بعض أصحابنا أن يرجع في النخلة بحصتها من الثمن، وقال العمرانى في البيان: قال صاحب المهذب: فيكفيه ذلك أن يقوم النخلة مع الثمرة ثم يقوم النخله من غير ثمرة، ويرجع بما بينهما من الثمن.
وأما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ قالا: تقوم النخله مفردة.
فإن قيل قيمتها تسعون، ثم يقوم الثمرة مفردة، فان قيل قيمتها عشرة، علمنا أن قيمة الثمرة العشرة فيعلم أن الذى يقابل الثمرة عشر الثمن المسمى، فيضرب به مع الغرماء ويأخذ بتسعة أعشار الثمن اه.
قال الشافعي رضى الله عنه: وتقوم يوم قبضها.
قال أصحابنا: وليس هذا على اطلاقه، وإنما يقوم بأقل الامرين من يوم العقد، لان الزيادة حدثت في ملك المفلس، فلا يكون للبائع فيها حق، فان كانت القيمة يوم القبض أقل قوم
يوم القبض، لان ما نقص في يد البائع كان مضمونا عليه، فلا يرجع البائع على المفلس بما نقص في يده، وان اشترى منه نخلة عليها طلع غير مؤبر.
فإن الطلع يدخل في البيع، فان أتلف المشترى الثمرة أو تلفت في يده وأفلس واختار البائع الرجوع في النخلة، فهل يضرب مع الغرماء بحصة الثمرة من الثمن لانها ثمرة يجوز إفرادها بالعقد، فرجع بحصتها من الثمن، كما لو كانت مؤبرة.
فعلى هذا كيفية التقسيط على ما مضى في المؤبرة.
والثانى، لا يضرب بحصة الثمرة مع الغرماء، بل يأخذ النخلة بجميع الثمن ويضرب به مع الغرماء، لان الطلع غير المؤبر يجرى مجرى جزء من أجزاء النخلة بدليل أنها تدخل في العقد بالاطلاق، فصارت كالسعف، ولو أفلس وقد تلف شئ من السعف لم يضرب بحصتها من الثمن، فكذلك هذا مثله واصل هذا، هل الطاع قبل التأبير مما يتميز

(13/310)


أو غير متميز، فيه وجهان، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
وإن كان النقصان مما لا ينقسم عليه الثمن بأن كان المبيع ثوبا صحيحا فوجده البائع محروقا أو دارا ذهب تأليفها في يد المشترى فصارت غير مألوفة لما طرأ عليها من تصدع أو وحشة فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن فلا كلام.
وإن اختار أن يرجع بعين ماله نظرت.
فإن لم يجب في مقابلة ما ذهب أرش بأن ذهب ذلك بآفة سماوية.
أو بفعل المشترى.
فان البائع يرجع في البيع ناقصا بجميع الثمن - كما قلنا فيمن اشترى دابة فذهبت علينها بآفة سماوية في يد البائع - فان المشترى إذا اختار إجازة البيع.
أخذه بجميع الثمن.
وإن وجب للنقصان أرش، فان ذهب ذلك بفعل أجنبي فان البائع يرجع في البيع لحصتها من الثمن.
ويضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من المبيعة من الثمن، ويرجع المشترى على الأجنبي بالارش.
وإنما كان كذلك لان الارش الذى يأخذه المشترى من الأجنبي بدل عن الجزء الفائت من المبيع، ولو كان ذلك الجزء موجودا لرجع به البائع، فإذا كان معدوما رجع بما قابله من الثمن.
فان قيل: هلا قلتم: إن البائع يأخذ ذلك الارش؟ قلنا: لا نقول ذلك، لان البائع لا يستحق الارش، وإنما استحق ما قابل ذلك الجزء من الثمن، كما أن الأجنبي لو أتلف جميع المبيع لم يرجع البائع لما وجب على الجاني من القيمة، أو بما يرجع بالثمن، وبيان ما يرجع به ان يقال: كم قيمة هذه العين قبل الجناية عليها؟ فان قيل: مائة، قيل: فكم قيمتها بعد الجنايه عليها.
فان قيل: تسعون علمنا أن النقص عشر القيمة، فيضرب البائع مع الغرماء بعشر القيمة.
وأما المفلس فيرجع على الجاني بالارش.
فان كان المبيع من غير الرقيق رجع بما نقص من قيمته بالجناية.
وإن كان من الرقيق - وهو اليوم غير قائم في زماننا هذا - نظر إلى ما أتلفه منه.
فان كان مضمونا من الحر بالدية كان مضمونا من الرقيق بالقيمة.
وإن كان مضمونا من الحر بالحكومه كان مضمونا من الرقيق بما نقص من القيمه ويكون ذلك للغرماء سواء أكثر مما رجع به البائع أو أقل.

(13/311)


(فرع)
وإن وجد البائع المبيع وقد أجره المشترى، ولم تنقضي مدة الاجارة واختار البائع الرجوع في العين، كان له ذلك، واستوفى المستأجر مدة الاجارة ولا يأخذ البائع الاجارة ولا شيئا منها، لان المبتاع ملك ذلك بالعقد، فصار ذلك كالعيب، وهكذا إن كان المبيع مكاتبا للمبتاع لم يكن للبائع الرجوع فيه، لانه عقد لازم من جهة المشترى، فان عجز العبد نفسه عن الوفاء كان للبائع أن يرجع فيه كما إذا رهن المبتاع العين المبيعة ثم زال حق المرتهن عنها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:

(فصل)
وإن وجد المبيع زائدا نظرت، فإن كانت زيادة غير متميزة.
كالسمن والكبر.
واختار البائع الفسخ.
رجع في المبيع مع الزيادة.
لانها زيادة لا تتميز فتبعت الاصل في الرد.
كما قلنا في الرد بالعيب.
وان كان المبيع حبا فصار زرعا أو زرعا فصار حبا.
أو بيضا فصار فرخا ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يرجع به لان الفرخ غير البيض، والزرع غير الحب
(والثانى)
يرجع وهو المنصوص.
لان الفرخ والزرع عين المبيع.
وإنما تغيرت صفته فهو كالودى إذا صار نخلا.
والجدى إذا صار شاة.
وإن كانت الزيادة متميزة نظرت.
فإن كانت ظاهرة كالطلع المؤبر وما أشبهه من الثمار.
رجع فيه دون الزيادة.
لانه نماء ظاهر متميز حدث في ملك المشترى فلم يتبع الاصل في الرد.
كما قلنا في الرد بالعيب.
فان اتفق المفلس والغرماء على قطعها قطع.
وان اتفقوا على تركها إلى الجداد ترك لانه ملك أحدهما وحق الآخر وإن دعا أحدهما إلى قطعها والآخر إلى تركها وجب القطع.
لان من دعا إلى القطع تعجل.
فلا يؤخر بغير رضاه.
وإن كانت الزيادة غير ظاهرة كطلع غير مؤبر وما أشبهه من الثمار.
ففيه قولان، روى الربيع أنه يرجع في النخل دون الطلع، لان الثمرة ليست عين ماله فلم يرجع بها، وروى المزني أنه يرجع لانه يتبع الاصل في البيع فتبعه في الفسخ كالسمن والكبر، فإذا قلنا بهذا فأفلس وهو غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر لم يرجع في الثمرة لانها أبرت وهى في ملك المفلس فان اختلف البائع والمفلس فقال البائع: رجعت فيه قبل التأبير

(13/312)


فالثمرة لى.
وقال المفلس: رجعت بعد التأبير فالثمرة لى، فالقول قول المفلس مع يمينه لان الاصل بقاء الثمرة على ملكه فإن لم يحلف المفلس فهل يحلف الغرماء فيه قولان، وقد مضى دليلهما، فإن كذبوه فحلف واستحق وأراد أن يفرقه على
الغرماء ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا يلزمهم قبوله لانهم أقروا أنه أخذ بغير حق
(والثانى)
يلزمهم قبوله أو الابراء من الدين، وعليه نص في المكاتب إذا حمل إلى المولى نجما فقال المولى هو حرام، أنه يلزمه أن يأخذه أو يبرئه منه، فإن صدقه بعضهم وكذبه البعض فقد قال الشافعي رحمه الله: يفرق ذلك فيمن صدقه دون من كذبه.
فمن أصحابنا من قال لا يجوز أن يفرقه إلا على من صدقه، لانه لا حاجة به إلى دفع إلى من يكذبه وقال أبو إسحاق: إذا اختار المفلس أن يفرق على الجميع جاز، كما يجوز إذا كذبوه.
وحمل قول الشافعي رحمه الله إذا اختار أن يفرق فيمن صدقه.
وإن قال البائع رجعت قبل التأبير فالثمرة لى فصدقه المفلس وكذبه الغرماء ففيه قولان.

(أحدهما)
يقبل قول المفلس لانه غير متهم
(والثانى)
لا يقبل لانه تعلق به حق الغرماء فلم يقبل اقراره فيه.
فإذا قلنا بهذا فهل يحلف الغرماء؟ فيه طريقان من أصحابنا من قال: هي على القولين كما قلنا في القسم قبله، ومنهم من قال يحلفون قولا واحدا، لان اليمين ههنا توجهت عليهم ابتداء، وفى القسم قبله توجهت اليمين على المفلس، فلما نكل نقلت إليهم.
(الشرح) قوله " كالودى " بفتح الواو وكسر الدال بعدها ياء مشددة صغار الفسيل الواحدة ودية.
أما الاحكام فإنه إذا وجد البائع عين ماله زائدة نظرت، فان كانت الزيادة غير متميزة كالسمن والكبر وما أشبههما، واختار البائع الرجوع في العين رجع فيها مع زيادتها، لانها زيادة لا تتميز، فتبعت الاصل في الرجوع بها كالرد بالعيب.
فإن باعه نخلا عليها طلع مؤبر، واشترط المشترى دخول الثمرة في البيع

(13/313)


فأدركت الثمرة في يد المشترى وحدها وجففها ثم أفلس والجميع في حوزته لم يتعلق به حق غيره، فإن للبائع أن يرجع في النخل والثمرة، وإن كان مجففا، لان هذه زيادة غير متميزة فهى كسمن البهيمة، وإن باعه نخلا عليها طلع غير مؤبر فأبرها المشترى ثم أفلس، فهل للبائع الرجوع فيها.
قال المسعودي: فيه قولان بناء على أن الثمرة هل تعلم قبل التأبير.
وفيه قولان: قال في البيان: وتشبه أن يكون على طريقه أصحابنا البغداديين على وجهين، بناء على أن الثمرة قبل التأبير إما متميزة أو غير متميزة وإن باعه أرضا وفيها بذر مودع فيها واشترط دخول البذر في البيع، فهل يصح بيع البذر.
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، وغيره من أصحابنا قال: فيه وجهان.
وقد مضى ذلك في البيوع مفصلا.
فإذا قلنا يصح البيع في البذر فأفلس المشترى، فإن كان قبل أن يخرج البذر عن الارض رجع البائع في الارض وفى البذر ولا كلام، وإن أفلس بعد أن صار البذر زرعا فانه يرجع في الارض، وهل يرجع في الزرع أو يضرب بحصة البذر من الثمن مع الغرماء.
فيه وجهان من أصحابنا من قال: يرجع في الارض وحدها ويضرب مع الغرماء بثمن البذر، لان البائع إنما يرجع لعين ماله إذا كانت باقية بحالها، وهذا الزرع خلقه الله تعالى ولم يكن موجودا حال البيع
(والثانى)
يرجع في الزرع مع الارض، وهو المنصوص في الام، لان هذا الزرع عين البذر، وإنما حوله الله تعالى من حالة إلى حالة، فرجع به كالودى إذا صار نخلا.
وإن اشترى منه أرضا فيها زرع أخضر واشترط دخول الزرع في البيع صح البيع قولا واحدا، فان أفلس المشترى بعدما استحصد الزرع واشتد حبه.
أو كان قد حصده فعلا وذاره ونقاه فهل للبائع أن يرجع في الارض مع هذا الزرع قال عامة فقهائنا فيه وجهان كالتى قبلها.
وقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا بالمنصوص في التى قبلها فالبائع ههنا أن يرجع

(13/314)


فيهما، وإن قلنا بالوجه الثاني لبعض أصحابنا فيها فههنا وجهان
(أحدهما)
لا يرجع (الثاني) يرجع لانه تميز ماله وانما تغير صفتها فزادت.
قالوا وهكذا لو تغير الزرع من خضرة إلى صفرة.
هكذا في الروضة والحاوى والبيان وإذا باعه أرضا فيها نواء مدفونة، واشترط دخول النوى في البيع، فيه وجهان، المذهب أنه يدخل، فإن أفلس المشترى وقد صار النوى نخلا فهل يرجع البائع فيها مع النخل؟ فيه وجهان كالبذر إذا صار زرعا، وان اشترى منه بيضا فحضنه تحت دجاجة حتى صار فرخا ثم أفلس المشترى، فهل يرجع البائع في الفراخ فيه وجهان كالبذر إذا صار زرعا، وتعليلهما على ما سبق ذكره، والله أعلم (فرع)
وإذا كانت الزيادة متميزة كاللبن وولد البهيمة رجع البائع في عين المبيعة دون الزيادة، لانها زيادة متميزة فلم تتبع الاصل في الرد - كما قلنا في الرد بالعيب - فان كان المبيع أرضا فارغه فزرعها المشترى، أو نخلا لا ثمر عليها فأثمرت في يد المشترى أو أبرت ثم أفلس المشترى، واختار البائع الرجوع في عين ماله فإنه يرجع في الارض دون الزرع، وفى النخل دون الثمرة لانها زيادة متميزة حدثت في يد المشترى فلم يكن للبائع فيها حق إذا ثبت هذا فليس للبائع أن يطالب المشترى والغرماء بحصاد الزرع ولا بجداد الثمرة قبل وقته، لان المشترى زرع في أرضه فليس بظالم، والثمرة
أطلعت في ملكه، فهو كما لو باع أرضا وفيها زرع أو نخلة وعليها طلع، فانه لا يجبر على قطعه قبل أوانه ولا يجب للبائع أجرة الارض، ولا النخل إلى أوان الجداد والحصاد، كما لا يجب ذلك للمشترى على البائع إذا اشترى أرضا فيها زرع أو نخلا عليها طلع، ثم ينظر في المفلس والغرماء، فان اتفق على قطع الثمرة والزرع قبل أو ان قطعهما جاز، لان الحق لهم، وان اتفقوا على تركه إلى وقت الحصاد والجداد جاز وان دعا بعضهم إلى القطع قبل أوانه، ودعا البعض إلى تركه ففيه وجهان، أحدهما، وبه قال عامة أصحابنا وهو المذهب: أنه يجاب قول من دعا إلى القطع.
لان الغرماء ان كانوا هم الطالبون القطع أجيبوا، لانهم يقولون: حقوقنا معجلة

(13/315)


فلا يجب علينا التأخير، وإن كان المفلس هو الطالب للقطع.
أجيب لانه يستفيد بذلك إبراء ذمته، ولان في التبقية غررا، لانه قد يتلف، فأجيب من دعا إلى القطع.
والوجه الثاني وهو قول أبى إسحاق: إنه يفعل ما فيه الحظ من القطع أو التبقية، قال ابن الصباغ، وهذا لا بأس به لانه قد يكون من الثمرة والزرع ماله قيمة تافهة أو ما لا قيمة له، والظاهر سلامته.
اه (فرع)
إذا باعه نخلا لا ثمرة عليها فأطلعت في يد المشترى وأفلس قبل التأبير فهل للبائع أن يرجع في الثمرة مع النخل؟ فيه قولان
(أحدهما)
رواه المزني أنه يرجع في الثمرة مع النخل، لانه لو باعه نخلة عليها طلع غير مؤبرة تبعت الثمرة النخلة في المبيع.
فتبعتها أيضا في الفسخ، كالثمن في الجارية
(والثانى)
رواه الربيع أنه لا يرجع في الثمرة لانه يصح إفرادها في البيع فلم تتبع النخلة في الفسخ كالطلع المؤبر، ويفارق البيع أنه زال ملكه عن النخلة
باختياره، وههنا زال بغير اختياره قال أصحابنا " كل موضع زال ملك المالك عن أصل النخلة وعليها طلع غير مؤبر باختيار المالك، وكان زوال ملكه عنها بعوض، فإن الثمرة تتبع الاصل، وذلك كالبيع والصلح والاجرة في الاجارة والصداق وما أشبه ذلك.
وكل موضع زال ملكه عن أصل النخلة بغير اختياره.
فهل تتبع الثمرة الاصل؟ فيه قولان وذلك مثل مسألتنا هذه في المفلس.
ومثل أن يشترى نخلة لا ثمر عليها بثمن معين فتطلع النخلة في يد المشترى ثم يجد البائع بالثمن عيبا فرده قبل التأبير، فهل يرجع في الثمرة مع النخلة؟ على قولين وكذلك إذا اشترى شقصا في أرض فيها نخل فأطلعت النخل في يد المشترى ثم علم الشفيع قبل التأبير فشفع، فهل يأخذ الثمرة مع النخل.
على هذين القولين وكذلك كل موضع زال ملكه عن الاصل إلى غيره باختياره بغير عوض.
فهل يتبع المطلع الذى ليس بمؤبر الاصل.
فيه قولان أيضا.
وذلك مثل أن يهب الرجل لغيره نخلة عليها طلع غير مؤبر.
وكذلك إذا زال ملكه عن الاصل بغير عوض بغير اختياره أيضا مثل أن يهب الاب لابنه نخلة فأطلعت في يد الابن.

(13/316)


ورجع الاب فيها قبل التأبير فهل يتبع الثمرة الاصل.
فيه قولان إذا ثبت ما ذكرناه فإذا باعه نخلة لا ثمرة عليها فأطلعت في يد المشترى وأفلس قبل أن تؤبر الثمرة فرجع البائع في عين ماله، فإن قلنا ان الثمرة لا تتبع النخلة في الفسخ كانت الثمرة للمفلس.
فان اتفق المفلس والغرماء على تبقيتها إلى أوان جدادها كان لهم ذلك.
وليس لبائع النخلة أن يطالبهم بقطعها قبل ذلك.
وان اتفقوا على قطعها جاز.
وان دعا بعضهم إلى قطعها.
وبعضهم إلى تبقيتها ففيه وجهان.
قال عامة أصحابنا يجاب من دعا إلى قطعها.
وقال المصنف يفعل ما فيه الاحظ وقد مضى دليل الوجهين.
وان قلنا ان الثمرة تكون للبائع للنخل فلم يرجع البائع حتى أبرت النخل كانت الثمرة للمفلس والغرماء قولا واحدا.
لانها قد صارت متميزا.
فالحكم في قطعها وتبقيتها على ما مضى فان قال بائع النخل قد كنت رجعت فيها قبل التأبير.
فان صدقه المفلس والغرماء على ذلك أو كذبوه وأقام على ذلك بينة حكم له بالثمرة وان كذبه المفلس والغرماء ولا بينة فالقول قول المفلس مع يمينه.
لان الاصل عدم الرجوع، فإذا حلف المفلس كانت الثمرة ملكا له وقسمت على الغرماء.
وان نكل عن اليمين فهل يحلف الغرماء.
فيه قولان مضى بيانهما فإذا قلنا يحلفون فحلفوا قسمت الثمرة بينهم.
وان نكلوا أو قلنا لا يحلفون عرضت اليمين على البائع فان حلف ثبت ملك الطلع له.
وان نكل قال ابن الصباغ سقط حقه وكانت الثمرة للمفلس وقسمت بين الغرماء وأن صدق الغرماء البائع وكذبوا المفلس نظرت في الغرماء فان كان فيهم عدلان فشهدا للبائع أنه رجع قبل التأبير قبلت شهادتهما له.
وحكم بالثمرة للبائع لانهما لا يجران إلى أنفسهما نفعا بهذه الشهادة ولا يدفعان عنهما ضررا.
وكذلك ان كان فيهم عدل واحد حلف مع البائع حكم له بالثمرة.
هكذا في الروضة والتحفة والحاوى من كتب المذهب.
وان كانوا فساقا أو لم تقبل شهادتهم للبائع لسبب من الاسباب المانعة فالقول قول المفلس مع يمينه

(13/317)


قال العمرانى: والذى يقتضيه المذهب أنه يحلف: ما يعلم أن البائع رجع فيها قبل التأبير، وكذلك الغرماء إذا حلفوا، لانه يحلف على نفى فعل الغير
فإذا حلف المفلس ملك الثمرة: فان لم يختر دفع الثمرة إلى الغرماء ولا بيعها لهم لم يجبر على ذلك، ولا لهم أن يطالبوه بذلك لانهم يقرون أنها ملك للبائع دون المفلس، ولكن يصرف إليهم سائر أمواله، ويفك عنه الحجر، ويتصرف في الثمرة كيف شاء اه.
فان اختار المفلس دفع الثمرة إلى الغرماء، فهل يجبر الغرماء على قبولها، فيه وجهان.
أحدهما وهو المذهب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره: أنهم يجبرون فيقال لهم: إما أن تقبلوها أو تبرئوه من قدرها من دينكم كما قال الشافعي في المكاتب إذا حمل إلى سيده مالا عن كتابته.
وقال للسيد: هو حرام، أنه يلزمه أن يأخذه أو يبرئه من قدره من ماله عليه.
والثانى: لا يلزمهم ذلك، لانهم يقرون المفلس لا يملك ذلك، ويفارق سيد المكاتب، لانه يريد الاضطرار بالعبد ورد إلى الرق، فلم يقبل منه ولا ضرر على المفلس في ذلك فإذا قلنا بالاول، وقال الغرماء: نحن لا نأخذ الثمرة ولكنا نفك الحجر عنه ونبريه من حقوقنا، فهل للمفلس الامتناع؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي، فان اختار الغرماء أن يبرء والمفلس من قدر الثمرة من الدين، فأبروه من ذلك فلا كلام، وإن لم يختاروا أن يبروه، فان كان دينهم من جنس الثمرة وجب عليهم أخذها، وكذلك إذا لم يكن دينهم من جنس الثمرة، واختاروا أخذ الثمرة عن دينهم، فان كان دينهم من غير السلم جاز، وبرئت ذمة المفلس من ذلك فإذا أخذوا ذلك لم يملكوه، ولكن لزمهم رد ذلك إلى البائع، لانهم قد أقروا أنها ملكه وإنما لم نقبل إقرارهم لحق المفلس.
فإذا زال حقه لزمهم حكم اقرارهم الاول كما لو شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده فلم نقبل شهادتهما عليه، ثم انتقل العبد اليهما أو إلى أحدهما بارث أو بيع، فانه يعتق عليهما باقرار السابق، وان
كانت حقوقهم من غير جنس الثمرة، فانه لا يلزمهم قبول الثمرة بعينها، ولكن تباع الثمرة ويدفع الثمن.

(13/318)


قال ابن الصباغ: ولا حق للبائع في الثمن.
وإن صدق بعض الغرماء البائع وكذبه بعضهم مع المفلس - فإن كان فيما صدق البائع عدلان فشهدا له أو عدل وحلف مع شاهده - حكم للبائع بالثمرة ولا كلام، وإن لم يكن فيهم من يقبل شهادته له، فإن القول قول المفلس مع يمينه لما ذكرناه فإذا حلف ملك الثمرة، فان أراد أن تقسم الثمرة على من صدقه دون من كذبه جاز، وان اختار قسمتها على الجميع فقد قال الشافعي رضى الله عنه: يدفعها إلى الذين صدقوه دون الذين كذبوه.
واختلف أصحابنا فيها على وجهين، فقال أبو إسحاق: هي كالاول، وان للمفلس أن يفرق ذلك على الجميع أو بين من يكذبه عما يخصه من الثمرة من الدين لما ذكرناه في التى قبلها وما ذكره الشافعي رضى الله عنه فمعناه إذا رضى أن يفرقه فيمن صدقه دون من كذبه.
ومنهم من قال: لا يجبر من كذبه على قبض شئ من الثمرة ولا الابراء عن شئ من دينه، وجها واحدا بخلاف الاولى لانه مع تكذيب جماعتهم له، به حاجة إلى قضاء دينه، فأجبروا على أخذه.
وفى مسألتنا يمكنه دفعه إلى المصدقين له دون المكذبين له فإذا قلنا بالاول لزم المصدقين للبائع أن يدفعوا ما خصهم من الثمرة إليه، ولا يلزم المكذبين له، والذى يقتضى المذهب، أن البائع لو سأل من كذبه من الغرماء أن يحلف له أنه ما يعلم أنه رجع قبل التأبير لزم المكذب أن يحلف، لانه لو خاف من اليمين فأقر لزمه اقراره.
هذا إذا كان المفلس مكذبا للبائع، فأما إذا كان المفلس مصدقا للبائع أنه رجع قبل التأبير، وقال الغرماء: بل رجع بعد التأبير، فهل يقبل اقرار المفلس؟ فيه قولان كالقولين فيه إذا قال: هذا العين غصبتها من فلان، أو ابتعتها منه بثمن في ذمتي، فهل يقبل في العين؟ قولان.
فإذا قلنا: يقبل كانت الثمرة للبائع ولا كلام، وإذا قلنا: لا يقبل فقد قال الشافعي رضى الله عنه: يحلف الغرماء للبائع أنه ما رجع قبل الابار.

(13/319)


فمن أصحابنا من قال: فيها قولان، كما إذا ادعى المفلس مالا، وأقام شاهدا ولم يحلف معه، فهل يحلف غرماؤه، فيه قولان، وما ذكر الشافعي ههنا فهو أحدهما، ومنهم من قال: يحلفون ههنا قولا واحدا، وهناك على قولين، لان هناك توجهت اليمين على غيرهم، ثم نقلت إليهم، وههنا توجهت عليهم ابتداء، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
وان كان المبيع جارية فحبلت في ملك المشترى نظرت، فان أفلس بعد الوضع رجع في الجارية دون الولد، كما قلنا في الرد بالعيب، ولا يجوز التفريق بين الام والولد.
فاما أن يزن البائع قيمة الولد فيأخذه مع الام أو تباع الام والولد فيأخذ البائع ثمن الام.
ويأخذ المفلس ثمن الولد.
ومن أصحابنا من قال: اما أن يزن قيمة الولد فيأخذه مع الام.
واما أن يسقط حقه من الرجوع.
والمذهب الاول.
لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره فثبت له الرجوع.
وان أفلس قبل الوضع، فان قلنا: لا حكم للحمل رجع فيهما، لانه كالسمن.
وان قلنا ان الحمل له حكم رجع في الام دون الحمل لانه كالحمل المنفصل.
فان باعها وهى حبلى ثم أفلس المشترى نظرت، فان أفلس قبل
الوضع رجع فيهما.
وان أفلس بعد الوضع - فان قلنا للحمل حكم - رجع فيهما لانهما كعينين باعهما.
وان قلنا لا حكم للحمل.
رجع في الام دون الحمل.
لانه نماء تميز من ملك المشترى.
فلم يرجع فيه البائع، ولا يفرق بين الام والولد على ما ذكرناه.
(الشرح) الاحكام: إذا باع من رجل بهيمة حائلا، فحملت في يد المشترى ثم أفلس المشترى بعد أن ولدت فللبائع أن يرجع في البهيمة لانها عين ماله.
ولا حق له في ولدها لانه نماء متميز.
وحكم الجارية حكم البهيمة الا أنه لا يجوز التفريق بين الجارية وولدها إذا كان صغيرا.
فان قال بائع الجارية أنا أدفع قيمة الولد وأملكه مع الام كان له ذلك وينبنى

(13/320)


على عدم التفريق بين الجارية وولدها من التقسيط بين الغرماء أقوال للشيخ أبى حامد وابن الصباغ وأبى إسحاق الشيرازي والعمراني لا مجال لذكرها، ففى كلام المصنف الكفاية في مثل هذا.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن كان المبيع طعاما فطحنه المشترى، أو ثوبا فقصره ثم أفلس نظرت فإن لم تزد قيمته بذلك واختار البائع الرجوع رجع فيه، ولا يكون المشترى شريكا له بقدر عمله، لان عمله قد استهلك ولم يظهر له أثر، وإن زادت قيمته بأن كانت قيمته عشرة فصارت قيمته خمسة عشر ففيه قولان
(أحدهما)
أن البائع يرجع فيه ولا يكون المشترى شريكا له بقدر ما عمل فيه وهو قول المزني، لانه لم يضف إلى المبيع عينا، وإنما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة، وفى القصارة أظهر بياضا كان؟ منا في الثوب فلم يصر شريكا للبائع في العين، كما لو كان المبيع جوزا فكسره، ولانه زيادة لا تتميز فلم يتعلق بها
حق المفلس، كما لو كان المبيع غلاما فعله أو حيوانا فسمنه
(والثانى)
أن المشترى يكون شريكا للبائع بقدر ما زاد بالعمل، ويكون حكم العمل حكم العين - وهو الصحيح - لانها زيادة حصلت بفعله فصار بها شريكا كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه، ولان القصار يملك حبس العين لقبض الاجرة كما يملك البائع حبس المبيع لقبض الثمن، فدل على أن العمل كالعين بخلاف كسر الجوز وتعليم الغلام وتسمين الحيوان، فان الاجير في هذه الاشياء لا يملك حبس العين لقبض الاجرة، فعلى هذا يباع الثوب فيصرف ثلث الثمن إلى الغرماء والثلثان إلى البائع.
وان كان قد استأجر المشترى من قصر الثوب وطحن الطعام ولم يدفع إليه الاجرة دفع الاجرة إلى الاجير من ثمن الثوب: لان الزيادة حصلت بفعله فقضى حقه من بدله
(فصل)
وإن اشترى من رجل ثوبا بعشرة ومن آخر صبغا بخمسة، فصبغ به الثوب ثم أفلس نظرت فان لم تزد ولم تنقص بأن صار قيمة الثوب خمسة

(13/321)


عشر، فقد وجد كل واحد من البائعين عين ماله، فإن اختار الرجوع صار الثوب بينهما، لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث.
وان نقص فصار قيمة الثوب إثنى عشر فقد وجد بائع الثوب عين ماله، ووجد بائع الصبغ بعض ماله، لان النقص دخل عليه بهلاك بعضه، فان اختار الرجوع كان لبائع الثوب عشرة ولبائع الصبغ درهمان.
ويضرب بما هلك من ماله، وهو ثلاثة مع الغرماء وإن زاد فصار يساوى الثوب عشرين درهما بنينا على القولين في أن زيادة القيمة بالغين أم لا، فان قلنا انها ليست كالعين حصلت الزيادة في مالهما فيقسط بينهما على الثلث والثلثين، لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث، وإن قلنا انها كالعين كانت الزيادة للمفلس فيكون شريكا للبائعين بالربع
(الشرح) إذا اشترى حنطة من رجل أو ثوبا خاما أو غزلا، فطحن الحنطة أو خاط الثوب أو قصره، أو نسج الغزل ثم أفلس، فللبائع أن يرجع في الدقيق والثوب المقصور أو المخيط والغزل المنسوج بلا خلاف على المذهب لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره، فان لم تزد قيمة الثوب والحنطة بذلك فلا شئ للمفلس لان العمل قد استهلك، فان كان المفلس قد عمل ذلك بنفسه سقط عمله وان استأجر من عمل ذلك ولم يدفع الاجرة لم يكن للاجير أن يشارك بائع الثوب بشئ، وانما يضرب مع باقى الغرماء فيما عدا الثوب من مال المفلس لان عمله لم يظهر له قيمة، وهكذا الحكم إذا نقصت قيمة الثوب والحنطة بذلك واختار البائع الرجوع فلا شئ عليه لاجل النقصان، لان المفلس نقص من ماله بيده فإذا اختار الرجوع لم يكن له شئ لاجل النقصان، كما لو وجد الحيوان مريضا، ولا شئ للمفلس ولا يشارك الاجير بائع الثوب بشئ، لان عمله قد استهلك ولكن يضرب مع الغرماء بأجرته وأما إذا زادت قيمة الثوب أو الحنطة بذلك ففيه قولان:
(أحدهما)
يرجع البائع بالثوب أو الدقيق ولا يشاركه المفلس بشئ، وهو اختيار المزني، لان المشتر؟ لم يضف إلى المبيع عينا، وانما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة وأزال بالقصارة، ونسج الثوب فلم يشارك البائع، كما لو اشترى حيوانا

(13/322)


مهزولا فسمن في يده
(والثانى)
أن هذه الاثار تجرى مجرى الاعيان، فيشارك المفلس البائع بقدر الزيادة - وهو الصحيح - لان الشافعي رضى الله عنه قال " وبه أقول إنها زيادة من فعل المشترى حصلت في المبيع فكان له أن يشاركه، كما لو صبغ الثوب " ولان الطحن والقصارة أجريت مجرى الاعيان، بدليل أن للطحان والقصار والخياط والنساج أن يمسك هذه الاعيان المعمول فيها إلى أن
يستوفى الاجرة، فأجريت مجرى الاعيان فيما ذكرناه.
إذا ثبت هذا فان قلنا بالقول الاول فاختار البائع الرجوع في عين ماله رجع فيها بزيادتها، فان كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك ولم يستوف الاجير أجرته لم يكن للاجير أن يشارك بائع العين بشئ بل يضرب مع الغرماء بقدر أجرته، وإن قلنا بما اختاره الشافعي من أنها آثار تجرى مجرى الاعيان، فان كان المفلس تولى العمل بنفسه أو استعان بمن عمل ذلك بغير أجرة، أو استأجر من عمل ذلك وقد وفى الاجير أجرته فانه يشارك البائع بقدر ما زادت العين بالعمل مثل أن كان الثوب يساوى قبل القصارة (1 عشرة فصار مقصورا يساوى خمسة عشر، فللمفلس في الثوب خمسة قال ابن الصباغ: فان اختار بائع الثوب أن يدفع الخمسة أجبر المفلس والغرماء على قبولها، كما إذا غرس المشترى في الارض المبيعة أو ابتاعها فلبائع الارض أن يدفع قيمة الغراس والبناء ويتملكه مع الارض.
وإن لم يختر بائع الثوب أن يدفع ذلك بيع الثوب، وكان ثلثا الثمن للبائع، والثلث للمفلس، وان كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك ولم يدفع إليه شيئا من الاجرة تعلق حق الاجير بالزيادة، لانا قد جعلناها كالعين، فان كانت الزيادة قدر أجرته بأن كانت أجرته خمسة دراهم اختص الاجير بالزيادة وشارك البائع
__________
(1) يبدو أن الثياب كانت تباع على عصر الشافعي رضى الله عنه مخيطة ولكى تتناسب مع كل قامة وقوام كانت تكون طويلة ويشتريها من يريد ارتداءها ثم يذهب بها إلى القصار فيهندمها بالتقصير على حسب قامته، ومن ثم كانت القصارة صناعة رائجة كالخياطة والنساجة.

(13/323)


بها، وان كانت الزيادة أكثر من أجرته بأن كانت الزيادة عشرة في حين أن أجرته
خمسة كانت الزيادة على مقدار الاجرة من حق المفلس تصرف إلى باقى الغرماء.
وإن كانت الزيادة أقل من الاجرة بأن كانت قيمة الثوب قبل القصارة عشرة، فصارت قيمته مقصورا ثلاثة عشر وأجرة القصار خمسة، فان القصار يشارك بائع الثوب بثلاثة دراهم ويضرب مع الغرماء بدرهمين (فرع)
وإن اشترى غلاما فعله صنعة مباحة، أو علمه القران، ثم أفلس المشترى وقد زادت قيمة الغلام بذلك، فاختلف أصحابنا في ذلك على قولين كالقصار، لانه يجوز الاستئجار على ذلك، وخالف الشيخ أبو حامد وعامة والاصحاب.
وكذلك السمن في البهيمة، لانه كان نتيجة علفها، وهو أمر محتم لبقائها، وسمنها مرجعه بعد ذلك إلى الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن كان المبيع أرضا فبناها أو غرسها، فان أنفق المفلس والغرماء على قلع البناء والغراس ثبت للبائع الرجوع في الارض، لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره، فجاز له الرجوع، فان رجع فيها ثم قلعوا البناء والغراس لزم المفلس تسوية الارض وأرش نقص ان حدث بها من القلع، لانه نقص حصل لتخليص ماله، ويقدم ذلك على سائر الديون، لانه يجب لاصلاح ماله فقدم كعلف البهائم وأجرة النقال.
وان امتنعوا من القلع لم يجبروا لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " وهذا غرس وبناء بحق، فان قال البائع: أنا أعطى قيمة الغراس والبناء وآخذه مع الارض، أو أفلع وأضمن أرش النقص، ثبت له الرجوع لانه يرجع في عين ماله من غير إضرار.
وان امتنع المفلس والغرماء من القلع، وامتنع البائع من بذل العوض وأرش النقص، فقد روى المزني فيه قولين
(أحدهما)
أنه يرجع
(والثانى)
أنه
لا يرجع، فمن أصحابنا من قال: ان كانت قيمة الغراس والبناء أقل من قيمة

(13/324)


الارض فله أن يرجع لان الغراس والبناء تابع، فلم يمنع الرجوع، وإن كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الارض لم يرجع لان الارض صارت كالتبع للغراس والبناء، وحمل القولين على هذين الحالين.
وذهب المزني وأبو العباس وأبو إسحاق إلى أنها على قولين
(أحدهما)
يرجع لانه وجد عين ماله مشغولا بملك المفلس، فثبت له الرجوع، كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه المفلس بصبغ من عنده
(والثانى)
لا يرجع لانه إذا رجع في الارض بقى الغراس والبناء من غير طريق ومن غير شرب، فيدخل الضرر على المفلس، والضرر لا يزال بالضرر.
فان قلنا إنه يرجع وامتنع البائع من بذل العوض وأرش النقص، وامتنع المفلس والغرماء من القلع، فهل يجبر البائع على البيع، فيه قولان
(أحدهما)
يجبر لان الحاجة تدعو إلى البيع لقضاء الدين، فوجب أن يباع كما يباع الصبغ مع الثوب، وإن لم يكن الصبغ له ويباع ولد المرهونة مع الرهن، وان لم يدخل في الرهن
(والثانى)
لا يجبر لانه يمكن إفراد كل واحد منهما بالبيع، ولا يجبر على بيعها مع الغراس والبناء.
(الشرح) حديث " ليس لعرق ظالم حق " أخرجه أبو داود والدارقطني والشافعي عن عروة بن الزبير عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وأخرجه أحمد والترمذي وحسنه وأعله بالارسال والنسائي وأبو داود من طريق سعيد بن زيد.
ورجح الدارقطني إرساله أيضا.
وقد اختلف مع ترجيح الارسال من هو الصحابي الذى روى من طريقه؟ فقيل جابر، وقيل عائشة، وقيل عبد الله بن عمر ورجح ابن حجر العسقلاني الاول، وقد اختلف فيه على هشام بن عروة اختلافا
كثيرا.
ورواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة وفى إسناده زمعه وهو ضعيف.
ورواه ابن أبى شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما من حديث كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، وعلقه البخاري.
ولفظ حديث سعيد بن زيد قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " من أحيا أرضا ميتة فهى له.
وليس لعرق ظالم حق "

(13/325)


وفى حديث رواه جعفر الصادق رضى الله عنه عن أبيه عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الانصار، قال ومع الرجل أهله، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل، ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه يناقله فأبى، قال فهبه لى، ولك كذا أمرا رغبه فيه، فأبى.
فقال: أنت مضار فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للانصاري اذهب فاقلع نخله " وفى سماع محمد الباقر أبى جعفر من سمرة نظر، والله تعالى أعلم.
أما الاحكام: فإنه إذا ابتاع أرضا من رجل بثمن في ذمته فغرسها من عنده أو بنى فيها بناء بأدوات من عنده، ثم أفلس قبل دفع الثمن، فأراد البائع الرجوع في أرضه، فان اتفق المفلس، والغرماء على قلع الغراس والبناء من الارض جاز لهم ذلك.
لان الحق لهم، ولبايع الارض أن يرجع فيها، لانها عين ماله، لم يتعلق بها حق غيره، فإذا رجع البايع فيها ثم قلعوا البناء والغراس لزمهم تسوية الارض، وأرش ما نقص إن حصل بها بسبب القلع، لان ذلك حدث لتخليص ملكهم، وهو كما لو دخل فصيل إلى دار رجل ولم يخرج إلا بنقض الباب.
فلرب الفصيل نقض الباب وإخراج فصيله.
وعليه إصلاح الباب، ويكون ذلك مقدما
على حق سائر الغرماء.
فان قيل: أليس قد قلتم: ان البائع إذا وجد عين ماله ناقصة فرجع فيها، فانه لا شئ له.
قلنا: الفرق بينهما أن النقص حصل في ملك المشترى، فلم يضمنه الا فيما يتقسط عليه الثمن، وههنا حدث النقص بعد رجوع البايع في أرضه، والنقص حصل لتخليص ملكهم فضمنوه، وان لم يرض المفلس والغرماء بقلع الغراس والبناء لم يكن لبايع الارض اجبارهم على ذلك للحديث " ليس لعرق ظالم حق " وهذا ليس ظالما لانه غرس أو بنى في ملكه.
فإذا ثبت هذا: فانهم لا يجبرون، فان بذل البايع قيمة الغراس والبناء ليملكه مع الارض، أو قال: أنا أقلع ذلك وأضمن أرش ما دخل بالقلع من النقص

(13/326)


أجبر المفلس والغرماء على ذلك، وكان لبائع الارض الرجوع فيها: لان الضرر يزول عن الجميع بذلك.
وان قال بايع الارض: أرجع فيها وأقر الغراس والبناء وأخذ أجرة الارض قال المسعودي كان له ذلك وان امتنع المفلس والغرماء من القلع وامتنع بائع الارض من بذل قيمة الغراس والبناء وأرش ما حصل بالقلع فهل له أن يرجع في أرضه؟ قال الشافعي رضى الله عنه في موضع: له أن يرجع فيها.
وقال في موضع: يسقط حقه من الرجوع فيها.
واختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال فيها قولان.

(أحدهما)
للبايع أن يرجع في أرضه، وان لم يبذل قيمة الغراس والبناء لقوله صلى الله عليه وسلم " صاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه ولم يفرق " ولان أكثر ما فيه أنه وجده مشغولا بملك غيره، وذلك لا يسقط حقه من الرجوع كما لو باع ثوبا فصبغه المشترى بصبغ من عنده
(والثانى)
ليس له الرجوع في أرضه، لان الارض قد صارت مشغولة بملك
غيره فسقط حقه من الرجوع فيها كما لو اشترى من رجل مسامير وسمر بها بابا ثم أفلس البايع فانه ليس للبائع للمسامير أن يرجع فيها ولان رجوع البايع في عين ماله انما جعل له لازالة الضرر عنه، فلو جوزنا له الرجوع ههنا لازلنا عنه الضرر.
وألحقناه بالمفلس والغرماء لانه لا يبقى لهما طريق إلى غراسهم وبنائهم.
ومنهم من قال: ليست على قولين.
وانما هي على حالين.
فالموضع الذى قال فيه " يرجع في أرضه ولا يدفع قيمة الغراس والبناء " محمول على ما إذا كانت قيمة الارض أكثر من قيمة الغراس والبناء.
لان الغراس والبناء تابعان للارض، والموضع الذى قال فيه " لا يرجع في الارض إذا كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الارض.
لان الارض تكون تابعة للغراس والبناء.
والصحيح أنها على قولين.
لان البايع لو بذل قيمة الغراس والبناء لكان له الرجوع في أرضه.
سواء كانت قيمة الارض أكثر من قيمة الغراس والبناء أو أقل.
فإذا قلنا: ليس له الرجوع في أرضه فلا كلام.
وان قلنا: له الرجوع في أرضه وان لم يدفع قيمة الغراس والبناء فرجع فيها نظرت فان اتفق الغرماء

(13/327)


والمفلس والبائع على بيع الارض والغراس والبناء بيعا وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما وكيفية ذلك أن يقال: كم قيمة الارض ذات غراس أو بناء؟ فإن قيل خمسون، قيل وكم قيمة الغراس أو البناء منفردا، فإن قيل: عشرون، كان لبائع الارض ثلاثة أخماس القيمة وللمفلس والغرماء الخمسان.
وإن امتنع البائع من بيع الارض ففيه قولان
(أحدهما)
يجبر على بيعها مع البناء والغراس، ويقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما على ما ذكر من التقسيط لان الحاجة تدعو إلى البيع لقضاء الدين فبيع الجميع كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه المفلس بصبغ من عنده، فرجع بائع الثوب فيه، وامتنع من دفع قيمة الصبغ،
فإن الثوب يباع مع الصبغ، وكذلك إذا كان المبيع جارية فولدت في يد المشترى ورجع بائع الجارية فيها فإنها تباع مع الولد، وكذلك إذا كانت مرهونة فولدت في يد المرتهن فإنه يباع معها.
(القول الثاني) لا يجبر على بيع أرضه، وهو المشهور، لانه يمكن إفراد الغراس والبناء بالبيع، فلم يجبر البايع على بيع أرضه.
قالوا في البيان والروضة والحاوى: بخلاف الصبغ، فانه لا يمكن إفراده بالبيع، وكذلك ولد الجارية انما وجب بيعه لانه لا يجوز التفريق بينها وبين ولدها الصغير.
وحكى الشيخ أبو حامد أن من أصحابنا من قال: تؤاجر الارض والغراس ثم يكون ما قابل الارض من الاجرة لبايعها وما قابل الشجر للمفلس والغرماء قال الشيخ أبو حامد: وهذا خطأ لان إجارة الشجر لا يجوز، ولهذا لو غصب شجرة وأقامت في يده لم تجب عليه أجرتها.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن كان المبيع أرضا فزرعها المشترى ثم أفلس، واختار البايع الرجوع في الارض جاز له، لانه وجد عين ماله مشغولا بما ينقل، فجاز له الرجوع فيه، كما لو كان المبيع دارا وفيها متاع للمشترى، فان رجع في الارض نظرت في الزرع، فان استحصد وجب نقله، وإن لم يستحصد جاز تركه إلى أوان

(13/328)


الحصاد من غير أجرة، لانه زرعه في ملكه، فإذا زال الملك جاز ترك الزرع إلى أوان الحصاد من غير أجرة، كما لو زرع أرضه ثم باع الارض، (الشرح) كلام المصنف في هذا الفصل مضى بيانه في الفصل قبله وهو بمجرده واضح ويزاد عليه من الاحكام ما هو منه فنقول: إذا اشترى من رجل أرضا بثمن في ذمته، ومن آخر غراسا في ذمته، فغرسه في الارض ثم أفلس قبل
تسليم الثمنين، فلكل واحد من البائعين الرجوع في عين ماله، فإذا رجعا نظرت، فان أراد صاحب الغراس قلع غراسه كان له ذلك، ولم يكن لبايع الارض منعه منه، فإذا قلعه كان تسوية الارض، وأرش النقص إن حصل بها، لان ذلك حصل لتخليص ملكه.
وأن أراد صاحب الارض قلع الغراس، ويضمن أرش النقص أو بذل قيمة الغراس ليتملكه مع الارض، كان له ذلك، لانه متصل بملكه فكان له إسقاط حقه منه بدفع قيمته، وإن أراد صاحب الارض قلع الغراس من غير ضمنا فهل يجبر بايع الغراس على ذلك، فيه وجهان.

(أحدهما)
ليس له ذلك، لانه ليس بعرق ظالم، ولانه لو كان باقيا على ملك المفلس لم يكن لصاحب الارض أن يطالب بقلعه من غير ضمان، فكذلك من انتقل إليه منه.

(والثانى)
له ذلك لانه إنما يباع منه الغراس مقلوعا.
فكان عليه أن يأخذه مقطوعا، ويفارق المفلس لانه غرسه في ملكه، فثبت حقه في ذلك.
قال ابن الصباغ: إذا اشترى من رجل حبا فزرعه في أرضه، ومن آخر ماء فسقاه به فنبت وأفلس، فانهما يضربان مع الغرماء بثمن الماء والحب، ولا يرجعان بالزرع لان عين مالهما غير موجودة فيه، فهو كما لو اشترى طعاما فأطعمه عبده حتى كبر فانه لا حق له في العبد، ولان نصيب الماء غير معلوم لاحد من الخلق.
قال العمرانى: قلت.
وقد مضى في البذر وجه آخر أنه يرجع فيهما فتحتمل أن يكون لابن الصباغ أختيار أحدهما اه.

(13/329)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان المبيع من ذوات الامثال كالحبوب والادهان فخلطه بجنسه نظرت، فان خلطه بمثله كان للبائع أن يرجع، لان عين ماله موجود من جهة الحكم ويملك أخذه بالقسمة فان رجع واتفقا على القسمة قسم ودفع إليه مثل مكيلته، فان طلب البائع البيع فهل يجبر المفلس؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجبر لانه تمكن القسمة فلا يجبر على البيع كالمال بين الشريكين.

(والثانى)
يجبر لانه إذا بيع وصل البائع إلى بدل ماله بعينه، وإذا قسم لم يصل إلى جميع ماله ولا إلى بدله، وان خلطه بأردأ منه فله أن يرجع لان عين ماله موجودة من طريق الحكم فملك أخذه بالقسمة، وكيف يرجع، فيه وجهان.
قال أبو إسحاق: يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما، لانه ان أخذ مثل زيته بالكيل كان ذلك أنقص من حقه، وان أخذ أكثر من زيته كان ربا فوجب البيع.

(والثانى)
وهو المنصوص أنه يأخذ مثل زيته بالكيل لانه وجد عين ماله ناقصا فرجع فيه مع النقص، كما لو كان عين ماله ثوبا فحدث به عيب عند المشترى فان خلطه بأجود منه ففيه قولان
(أحدهما)
يرجع وهو قول المزني لانه وجد عين ماله مختلطا بمالا يتميز عنه، فأشبه إذا خلطه بمثله أو كان ثوبا فصبغه.

(والثانى)
أنه لا يرجع لان عين ماله غير موجود حقيقة لانه اختاط بمالا يمكن تمييزه منه حقيقة ولا حكما، لانه لا يمكن المطالبة بمثل مكيلته منه، ويخالف إذا خلطه بمثله، لانه تمكن المطالبة بمثل مكليته، ويخالف الثوب إذا صبغه لان الثوب موجود وانما تغير لونه.
فان قلنا انه يرجع فكيف يرجع؟ فيه قولان
(أحدهما)
يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما لانه لا يمكن أن يأخذ مثل زيته بالكيل لانه يأخذ أكثر من حقه، ولا يمكن أن يأخذ أقل من دينه بالكيل لانه ربا فوجب البيع.

(والثانى)
يرجع من الزيت بقيمة مكيلته.
فيكون قد أخذ بعض حقه وترك بعضه باختياره.

(13/330)


(الشرح) الاحكام: إذا ابتاع شيئا من ذوات الامثال فخلطه بجنسه ولم يتميز ففيه ثلاث مسائل: (المسألة الاولى) أن يخلطه بأجود، مثل أن يشترى كيلو من زيت بذر القطن يساوى عشرة قروش فخلطه بكيلو من زيت الزيتون يساوى أربعين قرشا وأفلس المشترى قبل دفع الثمن، فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان.
أحدهما له أن يرجع وهو اختيار المزني لانه ليس فيه أكثر من أنه وجد عين ماله مختلطا بمال المفلس وذلك لا يمنع الرجوع، كما لو اشترى ثوبا فصبغه بصبغ من عنده، فإن لبائع الثوب أن يرجع فيه والثانى: ليس له أن يرجع في عين ماله، قال الشافعي رضى الله عنه: وهذا أصح وبه أقول.
لانه لا يجوز له أن يرجع بمثل مكيله لان ذلك أكثر قيمة من عين ماله، ولا بقيمة صاعه لان ذلك أنقص من حقه.
فإذا قلنا بهذا ضرب مع الغرماء بالثمن، وإذا قلنا بالاول فيكف يرجع؟ فيه قولان حكاهما المصنف وابن الصباغ.
وأما الشيخ أبو حامد فحكاهما وجهين.
أحدهما وهو قول المصنف واختيار ابن الصباغ: يباع الزيتان وتؤخذ قيمة أربعة أخماس الزيت وهو الاربعون قرشا، لانا لو قلنا له الرجوع في أربعة أخماس الزيت لكان ربا.

(والثانى)
وهو اختيار الشيخ أبى حامد، وهو المنصوص في الام أنه يرجع في أربعة أخماس الزيت لانه ليس ببيع، وانما وضع ذلك عن وزن زيته وتقويمه المسألة الثانية: أن يخلطه بمثله، مثل أن يشترى كيلو من زيت يساوى عشرة
قروش كزيت بذر القطن فخلطه بكيلو من زيت البقل يساوى عشرة قروش.
وأفلس المشترى قبل دفع الثمن فللبائع أن يرجع في عين ماله لانها موجودة من جهة الحكم، فان طلب البائع قسمة الزيت أجبر المفلس والغرماء على القسمة، كما لو ورث جماعة زيتا وطلب واحد منهم قسمته فانه يقسم ويجبر الممتنع، وان طلب البائع بيع الزيت وقسمته فانه يقسم ويجبر الممتنع.
وان طلب البائع بيع الزيت وقسم ثمنه فهل يجبر المفلس على ذلك؟ فيه وجهان

(13/331)


أحدهما: لا يجبر على البيع، لان البائع يمكنه الوصول إلى حقه من جهة القسمة فلم يكن له المطالبة بالبيع، كما لو ورث جماعة زيتا وطلب واحد منهم البيع فان شركاءه لا يجبرون على البيع والثانى: يجبر المفلس على البيع لان بالقسمة لا يصل إلى عين ماله، وربما كان له غرض في أن لا يأكل من زيت المشترى.
المسألة الثالثة: إذا خلطه بأردأ من زيته بأن اشترى كيلو من زيت الزيتون يساوى أربعين قرشا فخلطه بكيلو من زيت السمسم يساوى عشرين قرشا ثم أفلس فللبائع أن يرجع في عين ماله قولا واحدا، لان عين ماله موجودة بطريق الحكم، فان رضى البائع بأخذ كيلو منه أجير المفلس على ذلك لانه أنقص من حقه، وان لم يرض البائع بذلك ففيه ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبو حامد.

(أحدهما)
ليس له إلا قدر وزنه، لانه وجد عين ماله ناقصا، فإذا اختار الرجوع فيه لم يكن له غيره، كما لو كان المبيع ثوبا فلبسه المشترى ونقص
(والثانى)
وهو قول المصنف.
ولم يذكر ابن الصباغ غيره ان الزيتان يباعان ويدفع إلى البائع قيمة الكيلو الخاص به، وهو أربعون قرشا كما قال في المسألة الاولى، لانه ان أخذ بمثل كيل زيته كان أنقص من حقه، وإن أخذ أكثر من
مكيلة زيته كان ربا.
(والثالث) حكاه ابن المرزبان: أن له أن يأخذ منه كيلا وثلث كيل بقيمة كيل من زيته، كما قال الشافعي في المسألة الاولى والاول أصح وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن أسلم إلى رجل في شئ وأفلس المسلم إليه وحجر عليه، فان كان رأس المال باقيا فله ان يفسخ العقد، ويرجع إلى عين ماله لانه وجد عين ماله خاليا من حق غيره فرجع إليه كالمبيع، وإن كان رأس المال تالفا ضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، فان لم يكن في ماله الجنس المسلم فيه اشترى ودفع إليه لان أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز وقال أبو إسحاق: إذا أفلس المسلم إليه فللمسلم أن يفسخ العقد ويضرب مع

(13/332)


الغرماء رأس المال لانه يتعذر تسليم المسلم فيه فثبت الفسخ كما لو أسلم في الرطب فانقطع، والمذهب أنه لا يثبت الفسخ لانه غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ بالافلاس كما لو باعه عينا فأفلس المشترى بالثمن والعين تالفة ويخالف إذا أسلم وانقطع الرطب لان الفسخ هناك لتعذر المعقود عليه قبل التسليم وههنا الفسخ بالافلاس والفسخ بالافلاس إنما يكون لمن وجد عين ماله وهذا غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ.
(الشرح) الاحكام: إذا أسلم رجل إلى غيره في شئ على صفة، ثم أفلس المسلم قبل أن يأخذ المسلم فيه، فإن أراد المسلم أن يأخذ المسلم فيه بدون الصفة التى اسلم فيها لم يجز من غير رضا الغرماء لان حقوقهم تعلقت بماله، وإن رضى المفلس والغرما بذلك جاز، لان الحق لهم ولا يخرج عنهم.
فان قيل: ما الفرق بين هذا وبين المكاتب إذا أذن له سيده في أن يبرئه عن
الدين أنه لا يصح إبراؤه في أحد القولين؟ قلنا: الفرق بينهما على هذا القول أن المفلس كامل الملك إلا أنه منع من التصرف في ماله لتعلق حق الغير بماله، فإذا أذن له ذلك الغير في التصرف بماله صح تصرفه كالمرتهن إذا أذن الراهن، وليس كذلك المكاتب، فان المنع لنقصان ملكه، فإذا أذن له سيده لم يتكامل ملكه بذلك، فان كان المفلس هو المسلم إليه فحجر عليه قبل أن يقبض المسلم المسلم فيه، فان كان المسلم فيه موجودا في مال المسلم إليه أخذ من ماله منه، وان كان معدوما اشترى له بما يخصه من ماله من جنس المسلم فيه، لان أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز.
قال أبو إسحاق: المسلم بالخيار بين أن يقيم بالعقد ويضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، وبين أن يفسخ العقد، فيضرب مع الغرماء برأس مال السلم كما قال الشافعي رضى الله عنه، والمنصوص أنه لا يملك فسخ العقد، بل يضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، كما أن البائع إذا وجد المبيع تالفا ليس له أن يفسخ البيع ويضرب بقيمة العين المبيعة، ويفارق إذا انقطع المسلم فيه، لان له غرضا في الفسخ، وهو أنه يرجع برأس ماله في الحال - وعليه مشقة في التأخير - إلى وجود المسلم فيه.

(13/333)


إذا ثبت هذا فضرب مع الغرماء بقيمة المسلم فيه وعزل ما يخصه ليشترى له المسلم فيه، فإن أسلم في مائة إردب ذرة وكانت قيمتها مائتي جنيه عند القسمة، فعزل له ذلك، فرخص السعر حتى صارت المائة إردب قبل الابتياع تساوى مائة جنيه، اشترى له مائة إردب وقسمت المائة جنيه على باقى الغرماء، إن بقى لهم من دينهم شئ، أو ردت على المفلس ان استوفى أصحاب الديون حقوقهم.
وإن غلا الطعام عند الابتياع فصارت المائة تساوى ثلاثمائة جنيه اشترى
بالمائتين المعزولة بقدرها ذرة.
قال الشيخ أبو حامد: ويكون الباقي في ذمة المسلم إليه.
وقال ابن الصباغ: يرجع على الغرماء بما يخصهم من ذلك، لانه بان أن حقه في المسلم فيه دون القيمة.
والله أعلم قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن أكترى أرضا فأفلس المكترى بالاجرة، فإن كان قبل استيفاء شئ من المنافع فله أن يفسخ لان المنافع في الاجارة كالاعيان المبيعة في البيع.
ثم إذا افلس المشترى والعين باقية ثبت له الفسخ، فكذلك إذا أفلس المكترى والمنافع باقية وجب أن يثبت له الفسخ، وان أفلس وقد استوفى بعض المنافع وبقى البعض ضرب مع الغرماء بحصة ما مضى، وفسخ فيما بقى كما لو ابتاع عبدين وتلف عنده أحدهما ثم أفلس فإنه يضرب بثمن ما تلف مع الغرماء ويفسخ البيع فيما بقى، فإن فسخ وفى الارض زرع لم يستحصد نظرت، فان اتفق الغرماء والمفلس على تبقيته بأجرة إلى وقت الحصاد لزم المكرى قبوله لانه زرع بحق وقد بذل له الاجرة لما بقى فلزمه قبولها، وان لم يبذل له الاجرة جاز له المطالبة بقطعه، لان التبقية إلى الحصاد لدفع الضرر عن المفلس والغرماء، والضرر لا يزال بالضرر، وفى تبقيته من غير عوض اضرار بالمكرى وان دعا بعضهم إلى القطع وبعضهم إلى التبقية نظرت فان كان الزرع لا قيمة له في الحال كالطعام في أول ما يخرج من الارض لم يقطع، لانه إذا قطع لم يكن له قيمة، وإذا ترك صار له قيمة، فقدم قول من دعا إلى الترك، وان كان له قيمة كالقصيل الذى يقطع ففيه وجهان:

(13/334)


(أحدهما)
يقدم قول من دعا إلى القطع لان من دعا إلى القطع تعجل حقه فلم يؤخر
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أنه يفعل ما هو أحظ، والاول أظهر.
(الشرح) قوله القصيل، فعيل من القصل وبابه ضرب، وقصل الدابة علفها قصيلا، وبابه ضرب، والقصل بفتحتين في الطعام مثل الزوان، والقصالة بالضم ما يعزل من البر إذا نقى ثم يداس الثانية أما الاحكام فانه إذا اكترى منه ارضا بأجرة في ذمته فأفلس المكترى بالاجرة قبل دفعها، فان كان بعد استيفاء مدة الاجارة ضرب المكرى بالاجرة مع الغرماء، وان كان قبل أن يمضى شئ من مدة الاجارة فالمكرى بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالاجرة فيقر العقد، وبين أن يفسخ عقد الايجار ويرجع إلى منفعة أرضه، لان المنفعة كالعين المبيعة فجاز له الرجوع إليها وان كان بعد مضى شئ من مدة الاجارة فالمكرى بالخيار بين أن ينفذ العقد ويضرب مع الغرماء بالاجرة، وبين أن يفسخ عقد الاجارة فيما بقى من المدة، ويضرب مع الغرماء بالاجرة لما مضى، كما تقول فيمن باع عبدين بثمن فتلف أحدهما في يد المشترى وبقى الآخر إذا ثبت هذا فان اختار فسخ عقد الاجارة وفى الارض زرع، فان كان قد استحصد - أعنى تهيأ للحصد - فله أن يطالب المفلس والغرماء بحصاده وتفريغ الارض، وان كان الزرع لم يستحصد - فان اتفق المفلس والغرماء على قطعه جاز، سواء كانت قيمة أو لم تكن، ولا يعترض عليهم الحاكم لان الحق لهم وان اتفق على تركه وبذلوا للمكرى أجرة مثل الارض إلى الحصاد لزمه قبول ذلك ولم يكن له مطالبتهم بقلعه، لانه " ليس بعرق ظالم " وان امتنع المفلس والغرماء من بذل الاجرة كان للمكترى مطالبتهم بفعله أعنى بحصده، لانا قد جوزنا له الرجوع إلى عين ماله، وعين ماله هو المنفعة فلا يجوز تفويتها عليه بغير عوض، بخلاف ما لو باع أرضا وزرعها المشترى وأفلس، ثم رجع بائع الارض فيها فانه يلزمه تبقية الزرع إلى الحصاد بغير
أجرة، لان المعقود عليه في البيع هو العين، والمنفعة تابعة، لا يقابلها عوض،

(13/335)


وإنما دخل المشترى في العقد على أن يكون بغير عوض، وفى الاجارة المعقود عليه هو المنفعة، فلا يجوز استيفاؤها بغير عوض.
وإن اختلف المفلس والغرماء، فقال بعضهم: يقلع، وقال بعضهم يبقى إلى الحصاد - فإن كان الزرع لا قيمة له، كالزرع أول خروجه، قدم قول من دعا إلى التبقية، لان من دعا إلى القلع دعا إلى الاتلاف فلا يجاب إلى ذلك، وان كان الزرع ذا قيمة كالقصيل ففيه وجهان.
قال أبو إسحاق: يفعل ما فيه الاحظ، لان الحجر يقتضى طلب الحظ.
وقال أكثر أصحابنا: يجاب قول من دعا إلى القلع، وقد مضى دليلها، فان قيل: فما الفرق بين هذا وبين من ابتاع أرضا وغرسها ثم أفلس المبتاع، وأخذ البائع عين ماله وهو الارض، وصار الغراس للمفلس والغرماء، فقال بعضهم نقلع، وقال بعضهم يبقى أنه يقدم قول من قال: يبقى، قلنا.
الفرق بينهما على هذا الوجه أن من دعا إلى قلع الغراس يريد الاضرار بغيره، لان بيع الغراس في الارض أكثر لثمنه، فلم يجب قول من دعا إلى قلعه، وليس كذلك في الزرع، فإن من دعا إلى القلع فيه منفعة من غير ضرر، لان الزرع إذا بقى قد يسلم وقد لا يسلم.
إذا ثبت هذا: فإن اتفقوا على تبقية الزرع إلى الحصاد واحتاج إلى زرع ومؤنة فإن اتفق الغرماء والمفلس على أن ينفقوا عليه من مال المفلس الذى لم يقسم ففيه وجهان
(أحدهما)
لا ينفق منه أحد، لان حصول هذا الزرع مظنون.
فلا ينبغى أن يتلف عليه مال موجود، والثانى وهو المذهب أن ينفق منه لان ذلك من مصلحة المال، ويقصد به تنمية المال في العادة.
وإن دعا الغرماء المفلس إلى أن ينفق عليه وأبى المفلس ذلك لم يجبر عليه لانه لا يجب عليه تنمية المال للغرماء، فإن تطوع الغرماء أو بعضهم بالانفاق عليه من غير اذن المفلس والحاكم لم يرجعوا بما أنفقوا عليه لانهم متطوعون به، وان أنفق بعضهم بإذن الحاكم أو المفلس على أن يرجع على المفلس بما أنفق جاز ذلك وكان له دينا في ذمة المفلس، لا يشارك به الغرماء، لانه وجب عليه بعد الحجر.
وان أنفق

(13/336)


عليه بعض الغرماء بإذن باقى الغرماء على أن يرجع عليهم، رجع عليهم بما أنفق من مالهم.
(فَرْعٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: ولو اكترى ظهر لتحمل له طعاما إلى بلد من البلدان فحمله وأفلس المكترى قبل دفع الاجرة ضرب المكرى مع الغرماء بالاجرة، فإن أفلس قبل أن يصل إلى البلد نظرت، فان كان الموضع الذى بلغ إليه آمنا كان له فسخ الاجارة فيما بقى من المسافة، ويضع الطعام عند الحاكم.
قال ابن الصباغ: وإن وضعه على يد عدل بغير إذن الحاكم ففيه وجهان، كالمودع إذا أراد السفر فأودع الوديعة بغير إذن الحاكم فهل تضمن؟ فيه قولان والصحيح وجهان، وان كان الموضع مخوفا لزمه حمل الطعام إلى الموضع الذى أكراه ليحمله أو إلى موضع دونه يأمن عليه، لانه استحق منفعته بحق الاجارة قبل الحجر.
وإن اكترى منه ظهرا في ذمته فأفلس المكرى، فان المكترى يضرب مع الغرماء بقيمة المنفعة إن كان لم يستوف شيئا منها أو بقيمة ما بقى منها إن استوفى بعضها، لان حقه متعلق بذمته، كما لو باعه عينا في ذمته، فان كان ما يخصه من مال المفلس لا يبلغ ما اكترى به، وكانت الاجرة باقية.
فللمكترى أن يفسخ الاجارة ويرجع إلى عين ماله إن كان لم يستوف شيئا من المنفعة أو إلى بعضها ان
استوفى شيئا من المنفعة، لان الاجرة كالعين المبيعة وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
إذا قسم مال المفلس بين الغرماء ففى حجره وجهان
(أحدهما)
يزول الحجر لان المعنى الذى لاجله حجر عليه حفظ المال على الغرماء وقد زال ذلك فزال الحجر كالمجنون إذا أفاق
(والثانى)
لا يزول الا بالحاكم لانه حجر ثبت بالحاكم فلم يزل الا بالحاكم كالحجر على المبذر.
(الشرح) الاحكام: إذا قسم مال المفلس بين غرمائه ففى حجره وجهان
(أحدهما)
يزول عنه من غير حكم الحاكم لان الحجر كان لاجل المال، وقد زال

(13/337)


المال فزال الحجر بزواله، كما أن المجنون محجور عليه بالجنون، فإذا زال الجنون زال الحجر
(والثانى)
لا يزول الحجر الا بحكم الحاكم، لانه حجر ثبت بحكم الحاكم فلم يزل الا بحكمه كالحجر على السفيه.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ومن مات وعليه ديون تعلقت الديون بماله كما تتعلق بالحجر في حياته فان كان عليه دين مؤجل حل الدين بالموت لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إذَا مَاتَ الرجل وله دين إلى أجل وعليه دين إلى أجل فالذي عليه حال والذى له إلى أجله ولان الاجل جعل رفقا بمن عليه الدين والرفق بعد الموت أن يقضى دينه وتبرأ ذمته، والدليل عليه ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال نفس المؤمن مرتهنة في قبره بدينه إلى أن يقضى عنه.
(الشرح) الحديثان اللذان رواهما ابن عمر رضى الله عنهما وأبو هريرة رضى الله عنه تكلم فيهما شيخنا النووي في كتاب الجنائز من المجموع وأطال ووفى.
أما الاحكام: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَابِ حلول دين الميت
والدين عليه من الام: وإذا مات الرجل وله على الناس ديون إلى أجل، فهى إلى أجلها، لا تحل بموته، ولو كانت الديون على الميت إلى أجل فلم أعلم مخالفا حفظت عنه ممن لقيت بأنها حالة يتحاص فيها الغرماء، فان فضل فضل كان لاهل الميراث ووصايا ان كانت له، قال: ويشبه - والله أعلم - أن يكون من حجة من قال هذا القول مع تنابعهم عليه، أن يقولوا لما كان غرماء الميت أحق بماله في حياته منه، كانوا أحق بماله بعد وفاته من ورثته، فلو تركنا ديونهم إلى حلولها كما يدعها في الحياة كنا منعنا الميت أن تبرأ ذمته، ومنعنا الوارث أن يأخذ الفضل عن دين غريم أبيه، ولعل من حجتهم أن يقولوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه دينه " أخبرنا ابراهيم بن سعد عن أبيه عن عمر بن أبى سلمة عن أبيه عن أبى هريرة (رض) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه دينه ".

(13/338)


قال الشافعي رضى الله عنه: فلما كان كفنه من رأس ماله دون غرمائه ونفسه معلقة بدينه وكان المال ملكا له، أشبه أن يجعل قضاء دينه، لان نفسه معلقة بدينه، ولم يجز أن يكون مال الميت زائلا عنه، فلا يصير إلى غرمائه، ولا إلى ورثته، وذلك أنه لا يجوز أن يأخذه ورثته دون غرمائه، ولو وقف إلى قضاء دينه علق روحه بدينه، وكان ماله معرضا أن يهلك، فلا يؤدى عن ذمته ولا يكون لورثته فلم يكن فيه منزلة أولى من أن يحل دينه ثم يعطى ما بقى ورثته اه " ونعود إلى كلام المصنف رحمه الله تعالى فنقول وبالله التوفيق والعون: من مات وعليه ديون تعلقت بماله، وبهذا قال عثمان وعلى وأبو هريرة رضى الله عنهم، وقال مالك وأبو حنيفة لا يتعلق بماله دليلنا حديث ابن عمر في الفصل ولانه لا وجه لبقاء تأجيله لانه لا يخلو اما
أن يبقى في ذمة الميت أو في ذمة الورثة أو متعلقا بأعيان المال فبطل أن يبقى في ذمة الميت لان ذمته خربت بموته وبطل أن يبقى في ذمة الورثة لان صاحب الدين لم يرض بذممهم.
ولانه لو تعلق بذممهم - إذا كان للميت مال تعلق بذممهم - وان لم يكن للميت مال.
وبطل أن يقال: يبقى مؤجلا متعلقا بأعيان ماله.
لان ذلك اضرار لصاحب الدين.
لان أعيان المال ربما تلفت.
واضرار بالميت لان ذمته لا تبرأ حتى يقضى عنه.
لحديث أبى هريرة المسوق في الفصل وفى كلام الشافعي.
فإذا بطلت هذه الاقيسة لم يبق الا القول بحلوله قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
فان تصرف الوارث في التركة قبل مضى الدين ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يصح لانه مال تعلق به دين فلا يصح التصرف فيه من غير رضى من له الحق كالمرهون
(والثانى)
يصح لانه حق تعلق بالمال من غير رضا المالك فلم يمنع التصرف كمال المريض.
وان قلنا انه يصح فان قضى الوارث الدين نفذ تصرفه وان لم يقض فسخنا.
وان باع عبدا ومات وتصرف الوارث في التركة ثم وجد المشترى بالعبد

(13/339)


عيبا فرده.
أو وقع في بئر كان حفرها بهيمة ففى تصرف الورثة وجهان.

(أحدهما)
أنه يصح لانهم تصرفوا في ملك لهم لا يتعلق به حق أحد
(والثانى)
يبطل لانا تبينا انهم تصرفوا والدين متعلق بالتركة، فان كان في غرماء الميت من باع شيئا ووجد عين ماله.
فان لم تف التركة بالدين فهو بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ ويرجع في عين ماله لما روى عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ في رجل أفلس: هذا الذى قضى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق
بمتاعه إذا وجده بعينه " فان كانت التركة تفى بالدين ففيه وجهان " أحدهما " وهو قول أبى سعيد الاصطخرى رحمه الله أن له أن يرجع في عين ماله لحديث أبى هريرة
(والثانى)
لا يجوز أن يرجع في عين ماله.
وهو المذهب.
لان المال يفى بالدين فلم يجز الرجوع في المبيع كالحى الملئ.
وحديث أبى هريرة قد روى فيه ابو بكر النيسابوري: وان خلف وفاء فهو أسوة الغرماء (الشرح) الاحكام: فإذا تصرف الوارث بالتركة أو ببعضها قبل قضاء الدين فهل يصح تصرفه؟ فيه وجهان " أحدهما " لا يصح سواء بقى من التركة ما يفى من الدين أو لم يبق.
لان مال الميت تعلق به ما عليه من الدين فلم يصح تصرف الوارث فيه.
كالراهن إذا تصرف في الرهن قبل قضاء الدين " والثانى " يصح تصرفه لانه حق تعلق بالمال بعد رضاء المالك فلم يمنع صحة التصرف كتصرف المريض في ماله.
فإذا قلنا بهذا فان قضى الدين نفذ تصرفه.
وان لم يقض الدين لم ينفذ تصرفه.
لانا انما صححنا التصرف تصحيحا موقوفا على قضاء الدين كما صححنا من تصرف تصرفا موقوفا.
فإن باع عبدا ثم مات البائع.
أو وجد المشترى بالعبد الذى اشتراه عيبا فرده.
فان كان الثمن باقيا بعينه استرجعه.
وان كان تالفا رجع المشترى بالثمن في تركة الميت فان الوارث قد تصرف بالتركة قبل ذلك.
أو كان حفر الرجل بئرا في طريق المسلمين ومات وتصرف وارثه بتركته ثم وقع في تلك البئر بهيمة أو انسان

(13/340)


وجب ضمان ذلك في تركة الميت.
وهل يصح تصرف الوارث قبل ذلك؟ إن قلنا في المسألة قبلها إنه يصح تصرفه فههنا أولى.
وإن قلنا هناك لا يصح، ففى هذه وجهان " أحدهما " يصح تصرفه لانه تصرف في مال له لم يتعلق به حق أحد.
" والثانى " لا يصح، لانا بينا أنه تصرف والدين معلق بالتركة (فرع)
إذا كان في غرماء الميت من باع منه عينا، ووجد عين ماله، ولم يقبض ثمنها، فإن كانت التركة لا تفى بالدين فللبائع أن يرجع في عين ماله.
وقال مالك وأبو حنيفة لا يرجع فيها.
بل يضرب مع الغرماء بدينه دليلنا ما روى عمرو بن خلدة الزرقى.
وقد مضى تخريجنا له قال: أتينا أبا هريرة رضى الله عنه في صاحب لنا أفلس فقال " هذا الذى قضى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " وهذا نص في موضع الخلاف، وإن كان ماله بقى بالدين ففيه وجهان قال أبو سعيد الاصطخرى: للبائع أن يرجع بعين ماله لحديث أبى هريرة رضى الله عنه، فإنه لم يفرق والثانى: ليس له أن يرجع بعين ماله.
وهو المذهب، لان ماله يفى بدينه، فلم يكن للبائع الرجوع بعين ماله كما لو كان حيا.
وأما الخبر فمحمول عليه إذا مات مفلسا مع أنه قد روى أبو بكر النيسابوري بإسناده عن أبى هريرة: وإن خلف وفاء فهو اسوة الغرماء.
فيكون حجة لنا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قسم مال المفلس أو مال الميت بين الغرماء ثم ظهر غريم آخر رجع على الغرماء وشاركهم فيما أخذوه على قدر دينه، لانا إنما قسمنا بينهم بحكم الظاهر إنه لا غريم له غيرهم، فإذا بان بخلاف ذلك وجب نقض القسمة كالحاكم إذا حكم بحكم ثم وجد النص بخلافه.
وان أكرى رجل داره سنة وقبض الاجرة وتصرف فيها ثم أفلس وقسم ماله بين الغرماء ثم انهدمت الدار في أثناء المدة فإن المكترى يرجع على المفلس بأجرة ما بقى، وهل يشارك الغرماء فيما اقتسموا به أم لا.
فيه وجهان

(13/341)


(أحدهما)
لا يشاركهم لانه دين وجب بعد القسمة فلم يشارك به الغرماء فيما اقتسموا، كما لو استقرض مالا بعد القسمة.

(والثانى)
يشاركهم لانه دين وجب بسبب قبل الحجر فشارك به الغرماء، كما لو انهدمت الدار قبل القسمة، ويخالف القرض لان دينه لا يستند ثبوته إلى ما قبل الحجر وهذا استند إلى ما قبل الحجر، ولان المقرض لا يشارك الغرماء في المال قبل القسمة والمكترى يشاركهم في المال قبل القسمة فشاركهم بعد القسمة (الشرح) الاحكام: إذا قسم مال المفلس أو مال الميت بين غرمائه ثم ظهر له غريم آخر كان مستحقا دينه قبل الحجر، رجع الغريم على سائر الغرماء بما يخصه.
وقال مالك رضى الله عنه: يرجع غريم الميت ولا يرجع غريم المفلس.
دليلنا: أن الحاكم إنما فرق في غرمائه، وعنده أنه لا غريم له سواهم، فإذا ظهر له غيرهم نقض الحكم، كالحاكم بحكم ثم وجد النص بخلافه، ولانه لما كان لغريم الميت أن يرجع على الباقين كان لغريم المفلس مثله (فرع)
وإن فك الحجر عن المفلس وبقى عليه دين فادعى غرماؤه أنه قد استفاد مالا بعد الحجر، سأله الحاكم عن ذلك، فإن أنكر ولا بينة لهم فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل بقاء العسرة، فان ثبت له مال إما بالبينة أو باقراره وطلب الغرماء الحجر عليه، نظر الحاكم فيه وفيما عليه من الدين، فان كان بقى بالدين لم يحجر عليه بل يأمره بقضاء الدين، وإن كان أقل حجر عليه وقسم ماله بين الغرماء، وان تجدد عليه دين بعد الحجر الاول ثم ظهر له مال، فان بان أن المال كان موجودا قبل الحجر الاول قال الجوينى: اختص به الغرماء الاولون دون الآخرين، لان المال كان موجودا تحت الحجر الاول.
وان اكتسب هذا المال بعد فك الحجر الاول اشترك به الغرماء الاولون والآخرون على قدر
ديونهم.
وقال مالك: يختص به الغرماء الآخرون دليلنا: أن حقوقهم متساوية في الثبوت في الذمة بحال الحجر فأشبه غرماء الحجر الاول.
(فرع)
وان أكرى داره من رجل مدة ثم أفلس المكرى قبل انقضاء الاجل

(13/342)


فإن المكترى أحق بالمنفعة دون الغرماء لانه قد ملك المنفعة بعقد الاجارة قبل الحجر فكان أحق بها، كما لو باع شيئا من ماله ثم أفلس، فإن أراد المكترى فسخ الاجارة لم يكن له ذلك، لان الفسخ إنما يكون في الموضع الذى يدخل عليه ضرر ولا يصل إلى كمال حقه.
وههنا يصل إلى كمال حقه.
فلم يكن له الفسخ فان انهدمت الدار قبل انقضاء مدة الاجارة انفسخت فيما بقى من المدة: فان كانت الاجرة قد قبضت.
فان كانت باقية رجع منها بما يخص ما بقى من المدة، وإن كانت تالفة تعلق ذلك بذمة المفلس، ثم ينظر فيه، فان كان ذلك بعد القسمة ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يشاركهم، لان حق المكترى كان متعلقا بالمنفعة، فلما تلفت العين المكتراة عاد حقه إلى ذمة المفلس بعد القسمة فلم يشارك الغرماء، كما لو أستدان بعد الحجر.

(والثانى)
يشاركهم، وهو الصحيح، لان سبب وجوبه كان قبل الحجر فشاركهم، كما لو انهدمت الدار قبل القسمة.
ويخالف إذا استدان بعد الحجر.
فأن ذلك لم يستند إلى سبب قبل الحجر فلذلك لم يشاركهم، والله أعلم

(13/343)