المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب الحجر

إذا ملك الصبى أو المجنون مالا حجر عليه في ماله، والدليل عليه قَوْله تَعَالَى (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) فدل على أنه لا يسلم إليه المال قبل البلوغ والرشد.
(الشرح) الحجر في اللغة المنع والتضييق.
ومنه سمى الحرام حجرا.
قال الله تعالى " ويقولون حجرا محجورا " أي حراما محرما، ويسمى العقل حجرا.
قال تعالى " هل في ذلك قسم لذى حجر " سمى حجرا لمنعه صاحبه من ارتكاب القبائح، وما يضر العاقبة، وسمى حجر البيت حجرا لانه يمنع من الطواف به.
وفى الشريعة منع الانسان من التصرف في ماله والمحجور عليهم ثمانية، ثلاثة حجر عليهم لحق أنفسهم وخمسة حجر عليهم لحق غيرهم، فالذين حجر عليهم لحق أنفسهم: فالصبي والمجنون والسفيه.
والمحجور عليهم لحق غيرهم فهم المفلس يحجر عليه لحق الغرماء، والمريض لحق الورثة، والعبد القن.
والمكاتب - بفتح التاء لحق المكاتب بكسرها - والمرتد لحق المسلمين.
والاصل في ثبوت الحجر على الصبى قَوْله تَعَالَى " وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا " والابتلاء الاختبار.
قال تعالى " هو الذى خلقكم ليبلوكم أيكم أحسن عملا " أي ليختبركم واليتيم من مات أبوه وهو دون البلوغ.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يُتْمَ بَعْدَ الحلم " وقوله تعالى " إذا بلغوا النكاح " أراد به البلوغ، فعبر عنه به، وقوله تعالى " آنستم منهم رشدا " أي علمتم منهم رشدا، فوضع الايناس موضع العلم، كما وضع الايناس موضع الرؤية في قوله تعالى " آنس من جانب الطور نارا " أي رأى

(13/344)


روى أنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفى عمه.
لما توفى رفاعة وترك ابنه صغيرا أتى عم ثابت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ان ابى أخى يتيم في حجري فما يحل لى منه ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية قال الشافعي رضى الله عنه: فلما علق الله تعالى دفع المال إلى اليتيم بالبلوغ، وإيناس الرشد، علم أنه قبل البلوغ ممنوع من ماله محجور عليه فيه.
والدليل على ثبوت الحجر على السفيه والصبى والمجنون قوله تعالى " فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " والسفيه يجمع المبذر لماله والمحجور عليه لصغر، والضعيف يجمع الشيخ الكبير الفاني والصغير المجنون.
فأخبر الله تعالى بأن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم فيما لهم وعليهم فدل على ثبوت الحجر عليهم.
واختلفوا في الحجر على غير العليم الفاقه بأحكام الحلال والحرام، فرجح بعضهم وجوب الحجر عليه قال القرطبى في جامع الاحكام: وأما الجاهل بالاحكام وان كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره فلا يدفع إليه المال لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها، وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره والله أعلم.
اه قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وينظر في ماله الاب ثم الجد لانها ولاية في حق الصغير فقدم الاب والجد فيها على غيرهما كولاية النكاح، فإن لم يكن أب ولا جد نظر فيه الوصي لانه نائب عن الاب والجد فقدم على غيره، وان لم يكن وصى نظر السلطان لان الولاية من جهة القرابة قد سقطت فثبتت للسلطان كولاية النكاح
وقال أبو سعيد الاصطخرى: فان لم يكن أب ولا جد نظرت الام لانها أحد الابوين فثبت لها الولاية في المال كالاب، والمذهب أنه لا ولاية لها لانها ولاية ثبتت بالشرع فلم تثبت للام كولاية النكاح.

(13/345)


(الشرح) الاحكام: إذا ملك الصبى مالا، فإن الذى ينظر في ماله أبوه إن كان عدلا، فإن لم يوجد الاب أو كان ممن لا يصلح للنظر، كان النظر إلى الجد أب الاب إذا كان عدلا، لانه ولاية في حق الصغير فقدم الاب والجد فيها على غيرهما كولاية النكاح، فإن مات الاب وأوصى إلى رجل بالنظر في مال ابنه وهناك جد يصلح للنظر، فيه وجهان، المذهب أنه لا تصح الوصية إليه، بل النظر إلى الجد.
والثانى: حكاه في الابانة، وبه قال أبو حنيفة: أن النظر إلى الوصي لانه قائم مقام الاب، وليس بشئ، لان الجد يستحق الولاية بالشرع، فكان أحق من الوصي، فان لم يكن أب ولا جد، نظر الوصي من قبلهما، فان لم يستحق الولاية بالشرع فكان أحق من الوصي، فان لم يكن أب ولا جد نظر الوصي من قبلهما.
فان لم يكونا ولا وصيهما فهل تستحق الام النظر؟ فيه وجهان، قال أبو سعيد الاصطخرى: تستحق النظر في مال ولدها، لانها أحد الابوين، وقال أحمد بن حنبل: إن عمر أوصى إلى حفصة.
والثانى: وهو المذهب: أنه لا وصية لها، بل النظر إلى السلطان، وروى عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ قَالَ في رجل أوصى إلى إمرأته قال: لا تكون المرأة وصيا، فان فعل حولت إلى رجل من قومه اه.
(قلت) ولانها ولاية بالشرع فلم تستحقها الام كولاية النكاح، ولان قرابة الام لا تتضمن تعصيبا، فلم تتمضن ولاية كقرابة الخال، فإذا قلنا بقول أحمد
والاصطخري، فهل يستحق أبوها وأمها الولاية عند عدمها.
فيه وجهان حكاهما الصيمري وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
ولا يتصرف الناظر في ماله إلا على النظر والاحتياط ولا يتصرف إلا فيما فيه حظ واغتباط، فأما مالا حظ فيه كالعتق والهبة والمحاباة فلا يملكه، لقوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن " وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار، وفى هذه التصرفات إضرار بالصبى فوجب أن لا يملكه،

(13/346)


ويجوز أن يتجر في ماله.
لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: من ولى يتيما وله مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة.
(الشرح) حديث " من ولى يتيما له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " رواه عبد الرزاق وابن جرير عنه بسند صحيح، وسبق للامام النووي استقصاء رواياته في كتاب الزكاة.
أما الاحكام: فلا يجوز للناظر في مال الصبى أن يعتق منه، ولا أن يكاتب، ولا يهب، ولا يحابى في البيع لقوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن " وليس في شئ من هذه الاشياء " أحسن ".
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وأحب أن يتجر الوصي بأموال من يلى عليه ولا ضمان، وجملة ذلك أنه يجور للناظر في مال الصبى أن يتجر في ماله، سواء كان الناظر أبا أو جدا أو وصيا أو أمينا من قبل الحاكم لما روى عبد الله ابن عمرو إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من ولى يتيما له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ".
(قلت) ولان ذلك أحظ للمولى عليه لتكون نفقته من الربح.
هكذا قال عامة أصحابنا إلا الصيمري، فانه قال.
لا يتجر له في هذا الزمان لفساده وجور السلطان على التجار، بل يشترى له الارض، أو ما فيه منفعة، فان اتجر له لم يتجر له إلا في طريق مأمون، ولا يتجر له في البحر لانه مخوف، فان قيل فقد روى أن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أبضعت أموال بنى محمد بن أبى بكر رضى الله عنهم (قلنا) يحتمل أن يكون ذلك في موضع مأمون قريب من الساحل أو يحتمل أنها فعلت ذلك وجعلت ضمانه على نفسها إن هلك، قال الصميرى: ولا يبيع له إلا بالحال، أو بالدين على ملئ ثقة، اه.
والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويبتاع له العقار لانه يبقى وينتفع بغلته ولا يبتاعه إلا من مأمون لانه إذا لم يكن مأمونا لم يأمن أن يبيع مالا يملكه ولا يبتاعه في موضع قد أشرف

(13/347)


على الخراب أو يخاف عليه الهلاك، لان في ذلك تغريرا بالمال ويبنى له العقار ويبنيه بالآجر والطين ولا يبنيه باللبن والجص، لان الآجر يبقى واللبن يهلك والجص يجحف به والطين لا ثمن له والجص يتناثر ويذهب ثمنه والطين لا يتناثر وان تناثر فلا ثمن له، ولان الآجر لا يتخلص من الجص إذا أراد نقضه ويتلف عليه ويتخلص من الطين فلا يتلف عليه ولا يبيع له العقار إلا في موضعين.

(أحدهما)
أن تدعو إليه ضرورة بأن يفتقر إلى النفقة وليس له مال غيره ولم يجد من يقرضه.

(والثانى)
أن يكون له في بيعه غبطة وهو أن يطلب منه بأكثر من ثمنه فيباع له ويشترى ببعض الثمن مثله، لان البيع في هذين الحالين فيه حظ وفيما سواهما لا حظ فيه فلم يجز.
وإن باع العقار وسأل الحاكم أن يسجل له نظر، فإن باعه الاب أو الجد سجل له، لانهما لا يتهمان في حق الولد، وإن كان غيرهما لم يسجل حتى يقيم بينة على الضرورة أو الغبطة لانه تلحقه التهمه فلم يسجل له من غير بينة فان بلغ الصبى وادعى أنه باع من غير ضرورة ولا غبطة فان كان الولى أبا أو جدا فالقول قوله وإن كان غيرهما لم يقبل إلا ببينة لما ذكرناه من الفرق فان بيع في شركته شقص، فإن كان الحظ في أخذه بالشفعة لم يترك، وإن كان الحظ في الترك لم يأخذ، لانا بينا أن تصرفه على النظر والاحتياط، فلا يفعل إلا ما يقتضى النظر والاحتياط فان ترك الشفعة والحظ في تركها ثم بلغ الصبى وأراد أن يأخذ، فالمنصوص أنه لا يملك ذلك، لان ما فعل الولى مما فيه نظر لا يملك الصبى نقضه، كما لو أخذ والحظ في الاخذ فبلغ وأراد أن يرد.
ومن أصحابنا من قال: له أن يأخذ، لانه يملك بعد البلوغ التصرف فيما فيه حظ، وفيما لا حظ فيه، وقد بلغ فجاز أن يأخذ، وإن لم يكن فيه حظ وهذا خطأ، لان له أن يتصرف فيما لا حظ فيه إذا كان باقيا، وهذا قد سقط بعفو الولى فسقط فيه اختياره، فإن بلغ وادعى أنه ترك الشفعة من غير غبطه فالحكم فيه كالحكم في بيع العقار وقد بيناه.

(13/348)


(الشرح) الاحكام: يجوز أن يبتاع له العقار لانه أقل غررا، لانه ينتفع بغلته مع بقاء أصله.
قال ابو على في الافصاح: ولا يشتريه إلا من ثقة أمين يؤمن جحوده في الثمن وحيلته في إفساد البيع لاتباعه في موضع قد أشرف على الهلاك بزيادة ما أوقعته بين طائفتين، فإن ذلك تغرير بماله.
ويجوز أن يبنى له العقار إذا احتاج إليه إلا أن يكون الشراء أحظ له فيشترى
له ذلك.
وإذا احتاج إلى البناء: قال الشافعي رضى الله عنه: يبنى له بالآجر والطين، ولا يبنى له باللبن والحصى، لان اللبن يهلك، والآجر يبقى والحصى يلزق فربما احتيج إلى نقض شئ من الآجر فلا يتخلص من الحصى، ولان الحصى يجحف به، والطين لا يجحف به.
قال في البيان تعليقا على قول الشافعي " وهنا في البلاد التى يعز فيها وجود الحجارة، فإن كان في بلد يوجد فيه الحجارة كانت أولى من الآجر، لانها أكثر بقاء، وأقل مؤنة ".
قلت: فإذا كان الناظر في مال الصبى عدلا ذا مهارة.
ورأى أن يبنى بالخرسانة المسلحة، وكان في ذلك ما يعود على الصغير بفائدة مع حفظ ماله لاسيما في زماننا هذا الذى يكون للتعمير والبناء صيانة ونماء، كان له ذلك، بل كان ذلك هو الافضل، والله تعالى أعلم.
(فرع)
وان ملك الصبى عقارا لم يبع عليه الا في موضعين أحدهما أن يكون له في بيعه غبطة كأن يكون له شركة مع غيره، أو مجاورة لغيره فيبذل الغير فيه بذلك أكثر من قيمته، ويوجد له مثل بأقل مما باع به فيجوز له بيع العقار عليه لذلك، وكذلك إذا كان له عقار قد أشرف على الهلاك بالغرق أو بالخراب، فيجوز له بيعه عليه، لان النظر له في ذلك البيع، فإذا باع الاب أو الجد عليه عقارا فرفع ذلك إلى الحاكم وسأله امضاءه وتسجيله عليه أمضاه وسجله له، لان الظاهر من حالهما أنه لا يبيعان الا ماله فيه حظ.
وهل يحتاج الحاكم إلى ثبوت عدالتهما عنده؟ قال ابن الصباغ: سمعت القاضى أبا الطيب يقول: فيه وجهان
(أحدهما)
لا يحتاج إلى ذلك، بل يكتفى بالعدالة الظاهرة، كما قلنا في شهود النكاح.

(13/349)


(والثانى)
يحتاج إلى الثبوت لولايتهما عنده كما يحتاج إلى ثبوت عدالة الشهود
عنده.
وأما إذا دفع الوصي أو أمين الحاكم البيع إليه وسأل التسجيل عليه وأمضاه ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المشهور أنه لا يمضى ذلك حتى تقوم عنده البينة على الحظ أو الغبطة له، لان غير الاب والجد يلحقه التهمة فلم يقبل قوله من غير بينة بخلاف الاب والجد
(والثانى)
ذكر القاضى أبو الطيب في المجرد أنه يقبل قولهما من غير بينة، كالاب والجد.
قال ابن الصباغ: وهذا له عندي وجه لانه إذا جاز لهما التجارة في ماله فيبيعان ويشتريان، ولا يعترض الحاكم عليهما جاز أيضا في العقار، فإن بلغ الصبى وادعى أن الاب أو الجد باع عليه عقاره من غير غبطة ولا حاجة، فإن أقام بينة على ما ادعاه حكم له به، وإن لم تقم بينة فالقول قول الاب أو الجد مع يمينه.
وإن باع غير الاب والجد عليه كالوصي وأمين الحاكم، فلما بلغ ادعى أنه باع عليه من غير بينة، لان التهمة تلحقه، وبهذا لا يجوز له أن يشترى مال الولى عليه من نفسه فلم يقبل قوله من غير بينة، بخلاف الاب والجد (فرع)
وإن بيع شقص في شركة الصبى، فإن كان للصبى حظ في الاخذ بأن كان له مال يريد أن يشترى له به عقارا، أخذ له بالشفعة، وإن كان الحظ له بالترك بأن كان لا مال له يريد أن يشترى له به، أو كان ذلك في موضع قد أشرف على الهلاك، أو بيع بأكثر من قيمته لم يأخذ له بالشفعة، فإن أخذ له الولى في موضع يرى له الحظ في الاخذ، فبلغ الصبى وأراد أن يرد ما أخذ له الولى لم يملك ذلك، لان ما فعله الولى مما فيه الحظ لا يملك الصبى بعد بلوغه رده، وإن ترك الولى الاخذ له في موضع رأى الحظ له في الترك فأراد الصبى بعد بلوغه أن يأخذه ففيه وجهان: من أصحابنا من قال له ذلك، لانه بعد بلوغه يملك التصرف فيما فيه حظ
وفيما لا حظ له، والمنصوص أنه ليس له ذلك، لان الولى قد اختار الترك بحسن نظره، فلم يكن له نقض ذلك، كما لو أخذ له - والحظ في الاخذ -

(13/350)


فإنه لا يملك الصبى بعد البلوغ الرد، فإن ادعى بعد البلوغ أن الولى أخذ - والحظ في الترك - أو الترك والحظ في الاخذ، فان أقام بينة على ذلك حكم له به وإن لم يقم بينة فان كان الولى أبا أو جدا.
فالقول قولهما مع يمينهما، وإن كان غيرهما من الاولياء لم يقبل قوله من غير بينة، كما ذكرنا من الفرق قبل هذا والله تعالى أعلم.
قال على بن عبد الكافي السبكى في فتاويه: ومن مصالح الصبى أن الولى يصونه عن أكل ما فيه شبهة وعن أن يخلط ماله به، ويحرص على إطعامه الحلال المحض وعلى أن يكون ماله كله منه، وهى مصلحة أخروية ودنيوية، أما أخرويه فظاهر لانه وإن لم يكن مكلفا لكن الجسد النابت من الحلال الطيب أزكى عند الله وأعلى درجة في الآخرة من غيره.
وأما دنيويه، فان الجسد الناشئ على الحلال ينشأ على خير، فيحصل له مصالح الدنيا والآخرة.
وقد يكون بتركه اجتناب الشبهات يبارك الله له في القليل الحلال فيكفيه ويرزقه من حيث لا يحتسب، فهذه المصالح محققة، والفائدة الدنيوية التى يكتسبها بالمعاملة دنيوية محضة، فتعارضت مصلحتان أخروية ودنيوية، ورعاية الآخرة أولى من رعاية الدنيا، فكان الاحوط والاصلح لليتيم ترك هذه المعاملة، فقد يقال يكون المستحب تركها، وقد يزاد فيقال يجب تركها لقوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن " فالاحسن في الدنيا والآخرة حلال قطعا، وغير الاحسن فيهما يمنع قطعا، والاحسن في الآخرة دون الدنيا إذا راعينا مصلحة الآخرة وقدمناها على الدنيا صار أحسن من الآخرة فهو أحسن مطلقا، فان
تيسر متجر ابتغى فعله، وإلا فلا يكلف الله نفسا الا وسعها، ويأكل ماله خير من أن يأكله غيره، والله أعلم اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يبيع ماله بنسيئة من غير غبطة، فان كانت السلعة تساوى مائة نقدا ومائة وعشرين نسيئة فباعها بمائة نسيئة فالبيع باطل لانه باع بدون الثمن، وان باعها بمائة وعشرين نسيئة من غير رهن لم يصح البيع لانه غرر بالمال، فان

(13/351)


باع بمائة نقدا وعشرين مؤجلا وأخذ بالعشرين رهنا جاز لانه لو باعها بمائة نقدا جاز فلان يجوز وقد زاده عشرين أولى، وان باعها بمائة وعشرين نسيئة وأخذ بها رهنا ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لانه أخرج ماله من غير عوض.

(والثانى)
يجوز، وهو ظاهر النص.
وقول أبى اسحاق لانه باع بربح واستوثق بالرهن فجاز
(فصل)
ولا يكاتب عبده ولو كان بأضعاف القيمة لانه يأخذ العوض من كسبه وهو مال له فيصير كالعتق من غير عوض (الشرح) الاحكام: ينبغى أن لا يبيع ماله بنسيئة من غير غبطة أي راحة نفس، فان كانت له سلعة يريد بيعها، وهى تساوى مائة نقدا، أو مائة وعشرين نسيئة، فان باعها بمائة نسيئة لم يصح بيعها، سواء أخذ بها رهنا أو لم يأخذ، لان ذلك دون ثمن المثل، فان باعها بمائة نقدا وعشرين نسيئة وأخذ بالعشرين رهنا جاز، لانه قد زاد خيرا ووثيقة وان باعها بمائة وعشرين نسيئة ولم يأخذ بها رهنا لم يجز، لانه غرر بما له.
وان باعها بمائة وعشرين نسيئة وأخذ بالجميع رهنا ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز، لان في ذلك تغريرا بالمال وقد يتلف الرهن

(والثانى)
يصح.
وهو قول أبى اسحاق وأكثر أصحابنا، لانه مأمور بالتجارة وطلب الربح ولا يمكنه الا ذلك، فعلى هذا يشترط أن يكون المشترى ثقة مليئا لانه ان لم يكن ثقة ربما رهن مالا يملكه.
وإذا لم يكن مليئا فربما تلف الرهن فلا يمكن استيفاء الحق منه ويشترط أن يكون الرهن يفى بالدين أو أكثر لانه ربما أفلس أو تلف ما في يده، فإذا لم يمكن استيفاء الحق من الرهن كان وجود الرهن كعدمه وهل يشترط الاشهاد مع ذلك؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري (فرع)
قال الصيمري: ولا يجوز أن يشترى له متاعا بالدين ويرهن من ماله لان الدين مضمون والرهن أمانة، فان فعل كان ضامنا.
والله أعلم

(13/352)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يسافر بماله من غير ضرورة لان فيه تغريرا بالمال، ويروى أن المسافر وماله على قلت، أي على هلاك.
وفيه قول الشاعر: بغاث الطير أكثرها فراخا
* وأم الباز مقلات نزور
(فصل)
فان دعت إليه ضرورة بأن خاف عليه الهلاك في الحضر لحريق أو نهب جاز أن يسافر به لان السفر ههنا أحوط (الشرح) قوله " قلت " إذا قلتها بفتح القاف وسكون اللام كانت النقر في الجبل، وإذا قلتها بفتح القاف وكسر اللام كانت الهلاك.
والمقلتة المهلكة، والمقلات الناقة التى تضع واحدا ثم لا تحمل، والبيت للعباس بن مرداس.
وآخذ على المصنف رحمه الله تعالى استشهاده بهذا البيت في المعنى الذى أراده، فإن معناه أن بغاث الطير، وهو طائر دون الرخمه بطئ الطيران، وهو طير لا يصيد ولا يرغب أحد في صيده لحقارة شأنه.
ومنه المثل " استنسر البغاث " فيمن يلبس غير
لباسه متظاهرا بالشجاعة وهو جبان، وعليه قول من قال: إن البغاث بأرضنا يستنسر.
أي إن الضعيف يصير بأرضنا قويا تكثر فراخه في حين أن أم الصقر مقلات نزور.
وقوله " نزور " أي قليلة الفراخ جدا، والمقابلة والمشاكلة بين بغاث الطير في كثرة فراخها، وبين أم الصقر وهى قليلة الفراخ واضحة، وليس فيها معنى أن المقلات هي المهلكة.
أما الاحكام: فانه لا يجوز أن يسافر بماله من غير ضرورة، لان في ذلك تغريرا بالمال وتعريضا له للهلاك، وقد روى أن المسافر وماله على قلت أي هلاك فان دعت إليه ضرورة بأن خاف من نهب أو غرق أو حريق جاز أن يسافر به إلى حيث يأمن عليه، لان ذلك أمر تسوغه الضرورة وتدعو إليه.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ولا يودع ماله ولا يقرضه من غير حاجة، لانه يخرجه من يده فلم يجز، فان خاف نهب أو حريق أو غرق، أو أراد سفرا وخاف عليه

(13/353)


جاز له الايداع والاقراض، فان قدر على الايداع دون الاقراض أودع، ولا يودع إلا ثقة، وان قدر على الاقراض دون الايداع أقرضه، ولا يقرضه إلا ثقة مليئا، لان غير الثقة يجحد، وغير الملئ لا يمكن أخذ البدل منه، فان أقرض ورأى أخذ الرهن عليه أخذ، وان رأى ترك الرهن لم يأخذ وإن قدر على الايداع والاقراض فالاقراض أولى، لان القرض مضمون بالبدل والوديعة غير مضمونة فكان القرض أحوط، فان ترك الاقراض وأودع ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه يجوز كل واحد منهما، فإذا قدر عليهما تخير بينهما
(والثانى)
لا يجوز لقوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن)
والاقراض ههنا أحسن فلم يجز تركه، ويجوز أن يقترض له إذا دعت إليه الحاجة ويرهن ماله عليه لان في ذلك مصلحة له فجاز (الشرح) إذا خاف على ماله من نهب أو غرق أو حريق ولم يقدر الولى على المسافرة به، أو أراد الولى السفر إلى موضع لا يمكنه نقل المال إليه، أو يحتاج في نقله إلى مؤنة مجحفة جاز أن يودعه أو يقرضه في هذه الاحوال، فان قدر على الايداع دون الاقراض أودعه ثقة، وان قدر على الاقراض دون الايداع أقرضه ثقة مليئا وأشهد عليه، لان غير الثقة يجحد وغير الملئ لا يمكن أخذ المال منه أو بدله إذا تلف، فان رأى أن المصلحة والحظ في أخذ الرهن أخذه، وان رأى أن " التى هي أحسن " في ترك الرهن تركه ولم يأخذه بأن يكون الموضع مخوفا وكان الولى ممن يرى سقوط الحق يتلف الرهن، لانه لا حظ له في أخذ الرهن مع ذلك.
وان قدر على الاقراض ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لان كل واحد منهما يجوز فيميز بينهما
(والثانى)
لا يجوز، لان الاقراض أحظ له، فإذا نزل الاحظ ضمن.
(فرع)
فأما الاقراض له فيجوز إذا دعته إلى ذلك حاجة للنفقه عليه والكسوة أو النفقة على عقارة المنهدم إذا كان له مال غائب فتوقع قدومه أو ثمرة ينتظرها يفى بذلك، وان لم يكن له شئ ينتظر فلا حظ له في الاقراض، بل يبيع عليه شيئا من أصوله ويصرف في نفقته.

(13/354)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وينفق عليه بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار، لقوله تعالى " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " وإن رأى أن يخلط ماله بماله في النفقة جاز لقوله تعالى " ويسئلونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير
وان تخالطوهم فاخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " فان بلغ الصبى واختلفا في النفقة فان كان الولى هو الاب أو الجد فالقول قوله وان كان غيرهما ففيه وجهان
(أحدهما)
يقبل، لان في اقامة البينة على النفقة مشقة فقبل قوله
(والثانى)
لا يقبل قوله كما لا يقبل في دعوى الضرر والغبطة في بيع العقار.
(الشرح) ينبغى أن ينفق عليه ويكسوه من غير إسراف ولا إقتار لقوله تعالى " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما " وان كان الصبى مكتسبا - قال أبو إسحاق المروزى: أجبره الولى على اكتساب لنفقته، وحفظ عليه ماله، لان ذلك أحظ له.
(فرع)
فإذا رأى الولى أن الحظ للمولى عليه بخلط مع نفقته مع نفقته، بأن كان إذا خلط دقيقه بدقيقه كان أرفق به في المؤنة وأكثر له في الخبز، جاز له الخلط، لما روى أنه لما نزل قوله تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا، وسيصلون سعيرا " تجنب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اليتامى وأفردوهم عنهم، فنزل قوله تعالى " وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلم المفسد من المصلح، ولو شاء الله لاعنتكم " أي لضيق عليكم، لان العنت الضيق وإن كانت الفائدة والمصلحة في إفراده لم تجز الخلطة لقوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن ".
(فرع)
فإن بلغ الصبى واختلف هو والولى في قدر نفقته، فإن كان الولى أبا أو جدا، فان ادعى أنه أنفق عليه زيادة على المنفعة بالمعروف لزمهما ضمان تلك الزيادة، لانه مفرط، وان ادعيا النفقه بالمعروف فالقول قولهما مع أيمانهما لانهما غير متهمين.

(13/355)


وإن كان الولى غيرهما كالوصي وأمين الحاكم، وادعيا النفقة بالمعروف، فهل
يقبل قولهما من غير بينة؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يقبل قولهما من غير بينة، كما لا يقبل ذلك منهما في دعوى بيع العقار.
والثانى: يقبل قولهما مع أيمانهما.
قال ابن الصباغ: وهو الاصح لان إقامة البينة على ذلك تتعذر بخلاف البيع فإنه لا يتعذر عليه إقامة البينة عليه (قلت) ويجب على الولى إذا كان في البلد نظام يسود فيه التوثيق والتسجيل، وكان من السهل على الولى أن يحمل للنفقات والابتياعات للصبى فواتير ومستندات صادرة من جهات الشراء (قلت) يجب عليه أن يتبع ابتياعاته وثائقها الدالة عليها حتى لا يختلط ماله بمال الصبى ولا ينسى شيئا يكون قد انفقه عليه أو يترك لذاكرته أمر استحضار ما اشتراه له فيضرب في عمايات الجزاف، فيقرب مال اليتيم بغير التى هي أحسن.
وقوله تعالى " الا بالتى هي أحسن " تفضى - ولا شك - إلى اتباع النظام على أحسن صوره، وأدق وسائله وأضبط أسبابه، ومن ثم تكون الاية نصا في الاخذ بنظام الوثاثق المكتوبة، لانها هي الاحسن.
والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان أراد أن يبيع ماله بماله، فإن كان أبا أو جدا جاز ذلك، لانهما لا يتهمان في ذلك لكمال شفقتهما، وان كان غيرهما لن يجز لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يشترى الوصي من مال اليتيم ولانه متهم في طلب الحظ له في بيع ماله من نفسه فلم يجعل ذلك إليه.
(الشرح) حديث " لا يشترى الوصي من مال اليتيم " لفظه في سنن الدارمي من قول مكحول: حدثنا محمد بن المبارك ثنا يحيى بن حمزة عن ابن وهب عن مكحول قال: أمر الوصي جائز في كل شئ الا في الابتياع، وإذا باع بيعا لم يقبل قال الدارمي: وهو رأى يحيى بن حمزة.
أما الاحكام: فانه يجوز للاب والجد أن يبيعا مالهما من الصبى ويشتريا ماله لانفسهما إذا رأيا الحظ في ذلك، لانهما لا يتهما في ذلك.
قال الصيمري فيحتاج

(13/356)


أن يقول: قد اشتريت هذا لنفسي من ابني بكذا، وبعت ذلك عليه، فيجمع بين لفظ البيع والشراء، قال: وغلط بعض أصحابنا وقال: تكفيه النية في ذلك من غير قول، لانه لا يخاطب نفسه.
قال العمرانى: وليس بشئ، لانا قد أقمناه مقام المشترى في لفظ الشراء، ومقام البائع في لفظ البيع، ولو احتاج إلى قرض فأقرضه أبواه أو جده وأخذ من ماله رهنا، قال الصيمري: فيه وجهان، الاصح: أنه يجوز إلا أن يكون أقرضه متطوعا ثم أحب أن يأخذ بعد ذلك منه رهنا، فلا يكون له.
وأما غير الاب والجد من الاولياء، كالوصي وأمين الحاكم (الحارس) فلا يجوز أن يبيع ماله من الصبى، ويتولى هو وحده طرفي العقد، ولا يجوز أن يشترى ماله بنفسه وقد استدل المصنف بخبر " لا يشترى الوصي من مال اليتيم " ولان غير الاب والجد يتهم في ذلك فلم يجز.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن أراد أن يأكل من ماله نظرت، فان كان غنيا لم يجز، لقوله تعالى " ومن كان غنيا فليستعفف، وان كان فقيرا جاز أن يأكل، لقوله تعالى " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " وهل يضمن البدل؟ فيه قولان.

(أحدهما)
لا يضمن، لانه أجيز له الاكل بحق الولاية فلم يضمنه.
كالرزق الذى بأكله الامام من أموال المسلمين
(والثانى)
أنه يضمن، لانه مال لغيره أجيز له أكله للحاجة، فوجب ضمانه كمن اضطر إلى مال غيره.
(الشرح) عن عائشة رضى الله عنها قوله تعالى " ومن كان غنيا فليستعفف
ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " أنها نزلت في ولى اليتيم إذا كان فقيرا أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف وفى لفظ " أنزلت في والى اليتيم الذى يقوم عليه ويصلح ماله إن فقيرا أكل منه بالمعروف " متفق عليه.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انى فقير ليس لى شئ، ولى يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف

(13/357)


ولا مباذر ولا متأثل " رواه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده والنسائي وأبو داود وسكت عنه أبو داود.
وقال ابن حجر في الفتح: إسناده قوى واختلف الجمهور في الاكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم هو القرض إذا احتاج ويقضى إذا أيسر، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبى ومجاهد وأبو العالية، وهو قول الاوزاعي.
ولا يتسلف أكثر من حاجته قال عمر رضى الله عنه: ألا إنى أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولى من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وان افتقرت أكلت بالمعروف.
فإذا أيسرت قضيت.
روى عبد الله بن المبارك عن عاصم الاحول عن أبى العالية " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " قال قرضا، ثم تلا قوله تعالى " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " وقول ثان: روى عن ابراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل.
لان ذلك حق النظر.
قال القرطبى وعليه الفقهاء.
قال الحسن هو طعمة من الله له وذلك أنه يأكل ما يسد جوعه ويكسى عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل، وقال زيد بن أسلم: ان الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا "
وذهب أبو يوسف إلى أنها منسوخة بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) وهذا ليس بتجارة، وبقول أبى يوسف قال من قبله مجاهد، ومن بعده الكيا الطبري.
وعليه إذا أراد الولى أن يأكل من مال الصبى أو المولى عليه، فان كان الولى غنيا لم يجز له أن يأكل منه، وان كان فقيرا وقد انقطع عن أي عمل إلا على مال المولى عليه، وليس له مورد للكسب لنفسه، فقد قال الشافعي رضى الله عنه: فله أن يأخذ من ماله أقل الامرين من كفايته.
أو أجرة عمله.
لقوله تعالى (وابتلوا اليتامى) إلى قوله تعالى (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا، ومن كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف)

(13/358)


فمعنى قوله تعالى: بدارا أن يكبروا.
أي لا تأكلوا أموال اليتامى مبادرة لئلا يكبروا فيأخذوها.
ولانه يستحق ذلك بالعمل والحاجة.
هكذا ذكر عامة أصحابنا وذكر المصنف أنه إذا كان فقيرا جاز له أن يأكل - من غير تفصيل - ولعله أراد بإطلاقه ما ذكر غيره.
وهل يضمن الولى ما أكله بالبدل؟ قال العمرانى في البيان، فيه وجهان.
أحدهما يجب عليه ضمانه في ذمته، والثانى لا يجب لان الله أباح له الاكل ولم يوجب الضمان.
ولان ذلك استحقه بعمله في ماله فلم يلزمه رد بدله كالمستأجر.
والله أعلم قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يفك الحجر عن الصبى حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد، لقوله تعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فأما البلوغ فإنه يحصل بخمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرجل والمرأة، وهى الانزال والسن والانبات.
وإثنان تختص بهما المرأة، وهما الحيض والحبل
فأما الانزال فهو إنزال المنى، فمتى أنزل صار بالغا، والدليل عليه قوله تَعَالَى (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) فأمرهم بالاستئذان بعد الاحتلام، فدل على أنه بلوغ.
وروى عطية القرظى قال: عرضنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن قريظة، فمن كان محتلما أو نبتت عانته قتل، فلو لم يكن بالغا لما قتل.
وأما السن فهو أن يستكمل خمس عشرة سنة.
والدليل عليه ما روى ابن عمر رضى الله عنه قال " عرضت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد وأنا ابن أربع عشر سنة فلم يجزني ولم يرنى بلغت، وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة سنة فرأني بلغت فأجازنى وأما الانبات فهو الشعر الخشن الذى ينبت على العانة، وهو بلوغ في حق الكافر، والدليل عليه ما روى عطية القرظى قال " كنت فيمن حكم فيهم سعد ابن معاذ رضى الله عنه فشكوا فئ أمن الذرية أنا أم من المقاتلة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

(13/359)


صلى الله عليه وسلم انظروا فإن كان قد أنبت وإلا فلا تقتلوه، فنظروا فإذا عانتي لم تنبت، فجعلونى في الذرية ولم أقتل.
وهل هو بلوغ في نفسه؟ أو دلالة على البلوغ؟ فيه قولان
(أحدهما)
أنه بلوغ، فعلى هذا هو بلوغ في حق المسلم، لان ما كان بلوغا في حق الكافر كان بلوغا في حق المسلم كالاحتلام والسن
(والثانى)
أنه دلالة على البلوغ، فعلى هذا هل يكون دلالة في حق المسلم؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه دلالة لما روى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاما من الانصار شبب (1) بامرأة في شعره، فرفع إلى عمر رضى الله عنه فلم يجده أنبت.
فقال لو أنبت الشعر لحددتك.

(والثانى)
أنه ليس بدلالة في حق المسلم وهو ظاهر النص، لان المسلمين يمكن الرجوع إلى أخبارهم، فلم يجعل ذلك دلالة في حقهم، والكفار لا يمكن الرجوع إلى أخبارهم، فجعل ذلك دلالة في حقهم، ولان الكافر لا يستفيد بالبلوغ إلا وجوب الحرية، ووجوب القتل، فلا يتهم في مداواة العانة بما ينبت الشعر، والمسلم يستفيد بالبلوغ التصرف والكمال بالاحكام فلا يؤمن أن يداوى العانة بما ينبت الشعر، فلم يجعل ذلك دلالة في حقه فأما الحيض فهو بلوغ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " ان المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى الوجه والكف، فعلق وجوب الستر بالمحيض وذلك تكليف، فدل على أنه بلوغ يتعلق به التكليف.
وأما الحبل فهو دليل على البلوغ، فإذا حبلت حكمنا بأنها بالغ، لان الحبل لا يكون إلا بإنزال الماء، فدل على البلوغ، فإذا كانت المرأة لها زوج فولدت حكمنا بأنها بالغ من قبل
__________
(1) شبب بامرأة في شعره، التشبيب النسيب، يقال هو يشبب بها أي يذكرها في شعره.
واشتقاق التشبيب من وجهين
(أحدهما)
من الشبيبة وأصلها الارتفاع عن حال الطفولية.
والآخر أن يكون من الجلاء، يقال شب وجه الجارية إذا جلاه وأبدى ما يخفى من محاسنه

(13/360)


الوضع بستة أشهر، لان ذلك أقل مدة الوضع، وان كانت مطلقة وأتت بولد يلحق الزوج، حكمنا بأنها بالغ من قبل الطلاق وإن كان خنثى فخرج المنى من ذكره أو الدم من فرجه لم يحكم بالبلوغ، لجواز أن يكون ذلك من العضو الزائد، فإن خرج المنى من الذكر، والدم من الفرج فقد بلغ، لانه إن كان رجلا فقد أمنى، وإن كان امرأة فقد حاضت.
(الشرح) قوله تعالى (حتى إذا بلغوا النكاح) أي الحلم، لقوله تعالى (وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم) وحال النكاح والبلوغ يكون بخمسه أشياء.
ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، واثنان يختصان بالنساء، وهما الحيض والحبل.
فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ.
وأن الفرائض والاحكام تجب بهما.
واختلفوا في الثلاث، فأما الانبات والسن فقال الاوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم، وهو قول ابن وهب وأصبغ وعبد الملك بن الماجشون وعمر بن عبد العزيز وجماعة من أهل المدينة.
واختاره ابن العربي في أحكام القرآن، وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذه السن.
واحتجوا بحديث ابن عمر الذى أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن الاربعة إذ عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجيز، ولم يجز يوم أحد، لانه كان ابن أربع عشرة سنة.
قال أبو عمر بن البر: هذا فيمن عرف مولده.
وأما من جهل مولده وعدم سنه أو جحده فالعمل فيه بما روى نافع عن أسلم عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أمراء الاجناد " ألا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسى.
وقال عثمان رضى الله عنه في غلام سرق " انظروا ان كان قد اخضر مبرزه فاقطعوه " وقال عطية القرظى " عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى قريظة فكل من أنبت منهم قتله بحكم سعد بن معاذ، ومن لم ينبت منهم استحياه، فكنت فيمن لم ينبت فتركني " رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه،

(13/361)


وقال مالك مرة: بلوغه يغلظ صوته وتنشق أرنبته، وعن أبى حنيفة رواية
أخرى تسع عشرة وهى الاشهر، وقال في الجارية: بلوغها لسبع عشرة سنة وعليها النظر.
وقال داود الظاهرى: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم، ولو بلغ أربعين سنة، فأما الانبات فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ، روى عن ابن القاسم وسالم، وقاله مالك مرة، والشافعي في أحد قوليه، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقيل: هو بلوغ إلا أن يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت، ويجعل من لم ينبت في الذرارى، قاله الشافعي في القول الاخر لحديث عطية القرظى، ولا اعتبار في الخضرة والزغب، وإنما يترتب الحكم على الشعر.
وقال مالك: العمل عندي على حديث عمر بن الخطاب لو جرت عليه المواسى لحددته، قال أصبغ.
قال لى ابن القاسم: وأحب إلى أن لا يقام عليه الحد إلا باجتماع الانبات والبلوغ.
قال ابن العربي: إذا لم يكن حديث ابن عمر دليلا في السن فكل عدد يذكرونه من السنين فانه دعوى، والسن التى أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من سن لم يعتبرها، ولا قام في الشرع دليل عليها، وكذلك اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الانبات في بنى قريظة، فمن عذيري ممن ترك أمرين اعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فيتأوله، ويعتبر ما لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم لفظا، ولا جعل الله له في الشريعة نظرا على ان ابن العربي تبعا لامير المؤمنين عمر بن عبد العزيز تأول حديث ابن عمر في الانفال، وأن موجبه الفرق بين من يطيق القتال ويسهم له وهو ابن خمس عشرة سنة ومن لا يطيقه، فلا يسهم له فيجعل في العيال، وهو الذى فهمه عمر بن عبد العزيز من الحديث والله تعالى أعلم.
قال العمرانى في البيان: فأما الانزال فمتى خرج منه المنى وهو الماء الابيض الدافق الذى يخلق منه الولد في الجماع أو في النوم أو اليقظة فهو بلوغ لقوله تَعَالَى " وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا " فلما أمر الاطفال بالاستئذان إذا
احتلموا دل على أنهم قد بلغوا لانهم قبل ذلك لم يكونوا يستأذنون.
وَرُوِيَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " رفع القلم عن ثلاثه، عن النائم حتى

(13/362)


يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبى حتى يحتلم " رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه والحاكم عن على وعمر رضى الله عنهما.
وهل يكون الاحتلام بلوغا من الصبية، فيه وجهان
(أحدهما)
لا يكون بلوغا لقوله صلى الله عليه وسلم " وعن الصبى حتى يحتلم " فخص الصبى بالاحتلام،
(والثانى)
وهو طريقة أصحابنا البغداديين أنه بلوغ، كما روت أم سلمة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت، سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقالت عائشة رضى الله عنها فضحت النساء، أو يكون ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم.
فبم يشبهها ولدها؟ وفى رواية " فبم الشبه " ثم قال صلى الله عليها وسلم " إذا رأت ذلك فلتغتسل " رواه الجماعة فأمرها بالاغتسال، فثبت أنها مكلفة، وأما السن فهو أن يستكمل الرجل والمرأة خمس عشرة سنة.
وحكى المسعودي وجها لبعض أصحابنا أن البلوغ يحصل بالطعن في أول سنة الخمس عشرة، والاول أصح، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن رحمهما الله، وقال أبو حنيفة لا يبلغ الغلام إلا بتسع عشرة سنة وهى رواية محمد رضى الله عنه وفى رواية الحسن اللؤلؤي عنه إذا بلغ ثمانى عشرة سنة.
أما الجارية فتبلغ إذا بلغت تسع عشرة سنة.
وقال مالك كقول داود.
ليس للبلوغ حد في السن.
دليلنا حديث ابن عمر رضى الله عنهما.
عرضت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن
خمس عشرة سنة فأجازنى في المقاتلة.
ولا يجاز في المقاتلة إلا بالغ، فدل على ما قلناه، وَرَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال.
إذا استكمل الغلام خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه، وأخذت منه الحدود، رواه البيهقى، قال في التلخيص وسنده ضعيف وأما الانبات فهو انبات الشعر القوى الذى يحتاج إلى الموسى، لا الزغب الاصغر حول العانة وحول الفرج، ولا يختلف المذهب أنه إذا ثبت ذلك للكافر حكم ببلوغه، وهل هو بلوغ فيه، أو لا دلالة له على البلوغ، فيه قولان.

(13/363)


(أحدهما)
أنه بلوغ في نفسه، لان ما حكم به بالبلوغ كان بلوغا بنفسه كالاحتلام
(والثانى)
أنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما دلالة على البلوغ، لان العادة جرت أنه لا يظهر إلا في وقت البلوغ، فإذا قلنا إنه بلوغ في حق الكافر كان بلوغا في حق المسلم، لان ما كان بلوغا في حق الكافر كان كذلك في حق المسلم كالاحتلام، وإذا قلنا: إنه ليس ببلوغ في حق الكافر وإنما هو دلالة على البلوغ فهل يجعل ذلك دلالة في حق المسلم، منهم من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال فيه قولان.

(أحدهما)
أنه دلالة على بلوغه، لان ما كان دلالة على البلوغ في حق الكافر كان دلالة وعلما على البلوغ في حق المسلم كالحمل.

(والثانى)
أنه لا يكون دلالة على البلوغ عند المسلم، لانه يمكن الرجوع إلى معرفة سن المسلم، لانه مولود بين المسلمين، ولا يمكن ذلك في سن الكافر هكذا قال صاحب البيان.
قلت وهو دليل على أن النظام عند المسلمين في عنفوان مجدهم جعلهم يؤرخون لمواليدهم في زمن كانت تسود العالم الفوضى والعشوائية حتى في تحديد سن
الذرية بين غير المسلمين فمتى يعود المسلمون إلى سابق مجدهم فيسبقوا أمم الارض بنظامهم وعلومهم وقوتهم وإيمانهم، وتلك لعمري عمد المجد الذى تدين الدنيا لهم به، فاللهم بصرنا وافتح قلوبنا للايمان.
وقال أبو حنيفة: الانبات لا يكون بلوغا ولا دلالة على البلوغ في حق المسلم والكافر.
دليلنا ما روى عطية السوفى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم سعد بن معاذ رضى الله عنه في بنى قريظة فحكم بسبي ذراريهم ونسائهم، وقسم أموالهم.
وقتل من جرت عليه الموسى.
فأمر أن يكشف عن مؤتزريهم فمن أنبت منهم فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذرارى: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعه أرقعة.
قال الصيمري: وكيف يعرف الانبات، قيل: يدفع إليهم شمع أو طين رطب

(13/364)


يلزقونه الموضع، وقيل يلمس ذلك من فوق ثوب ناعم.
وقيل يكشف حالا بعد حال وهو الصحيح، لان سعدا رضى الله عنه أمر بكشف بنى قريظة.
وأما خضرة الشارب، ونزول العارضين، ونبات اللحية، وخشونة الحلق، وقوة الكلام، وانفراج مقدم الانف، ونهود الثدى فليس شئ من ذلك بلوغا لانه قد يتقدم على البلوغ وقد يتأخر عنه.
وأما الحيض فهو بلوغ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاة امرأة تحيض إلا بخمار، فجعلها مكلفة بوجود الحيض، فدل على أنه بلوغ، وأما الحمل فإنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما هو دلالة على البلوغ، فإذا حملت المرأة علمنا أنه قد خرج منها المنى لقوله تعالى " خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب " فإذا وضعت المرأة الحمل حكمنا بأنها بلغت قبل الوضع بستة اشهر، إن كانت
ذات زوج، لان ذلك قدر مدة الحمل عندنا، وإن كانت مطلقة فأتت بولد يلحق الزوج حكمنا أنها كانت بالغة قبل الطلاق.
وأما الغلام الذى شبب في شعره فهو عمر بن أبى ربيعة وكانت له جولات في الغزل على عهد عمر ومن بعده.
(فرع)
وأما الخنثى المشكل فإذا استكمل خمس عشرة سنة أو نبت له الشعر الخشن على عانته حكم ببلوغه، لانه يستوى في ذلك الرجل والمرأة، فان حمل زال إشكاله، وبان أنه إمرأة، وحكم بأنه بالغ قبل الوضع، وان خرج المنى منه من أحد الفرجين لم يحكم ببلوغه لجواز أن يكون خرج منه من الفرج الزائد، وان خرج منه الدم من فرج النساء لم يحكم ببلوغه لجواز أن يكون رجلا.
وهذا عضو زائد، وان خرج منه المنى من الفرجين حكم ببلوغه.
لان خروج المنى من فروج الرجال والنساء بلوغ.
قال الشافعي رضى الله عنه: وان حاض وأمنى لم يبلغ واختلف أصحابنا فيه فقال الصيمري: إذا حاض من فرج النساء وأمنى من فرج الرجال لم يحكم ببلوغه.
وقال الشيخ أبو حامد وعامة أصحابنا يحكم ببلوغه، لانه ان كان رجلا فقد احتلم.
وان كانت امرأة فقد حاضت، وما ذكره

(13/365)


الشافعي رضى الله عنه فله تأويلان
(أحدهما)
أنه أراد أمنى وحاض من فرج واحد
(والثانى)
أراد حاض وأمنى.
فان قيل: هلا جعلتم خروج المنى منه من أحد الفرجين، دليلا على بلوغه؟ كما جعلتم خروج البول دليلا على ذكوريته وأنوثيته، فالجواب أن البول لا يخرج الا من الفرج المعتاد، والمنى قد يخرج من المعتاد وغيره.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فأما ايناس الرشد فهو اصلاح الدين والمال فاصلاح الدين ان لا يرتكب من المعاصي ما يسقط به العدالة واصلاح المال أن يكون حافظا لماله غير مبذر ويختبره الولى اختبار مثله من تجارة ان كان تاجرا أو تناء ان كان تانئا (1) أو اصلاح أمر البيت ان كانت امرأة.
واختلف أصحابنا في وقت الاختيار فمنهم من قال: لا يختبر في التجارة الا بعد البلوغ لان قبل البلوغ يصح تصرفه، فلا يصح اختباره، ومنهم من قال: يختبر قبل البلوغ لقوله تَعَالَى " وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ " فأمر باختبار اليتامى وهم الصغار فعلى هذا كيف يختبر فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يسلم إليه المال فإذا ساوم وقرر الثمن عقد الولى لان عقد الصبى لا يصح
(والثانى)
أنه يتركه حتى يعقد لان هذا موضع ضرورة.

(فصل)
وان بلغ مبذرا (2) استديم الحجر عليه لان الحجر عليه انما يثبت للحاجة إليه لحفظ المال والحاجة قائمة مع التبذير فوجب أن يكون الحجر باقيا، وان بلغ مصلحا للمال فاسقا في الدين استديم الحجر عليه لقوله تعالى " فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ " والفاسق لم يؤنس منه الرشد ولان حفظه للمال لا يوثق به مع الفسق لانه لا يؤمن ان يدعوه الفسق إلى التبذير فلم يفك الحجر عنه ولهذا لم تقبل شهادته، وان كان معروفا بالصدق لانا لا نأمن أن يدعوه الفسق إلى الكذب وينظر في ماله من كان ينظر في حال الصغر وهو الاب والجد
__________
(1) قوله " أو تناء ان كان تانئا " التنأ الزراعة والتانئ الزارع (2) المبذر الذى يخرج المال في غير وجهه وأصله التفريق، ومنه البذر في الزراعة لانه يفرق.

(13/366)


والوصى والحاكم لانه حجر ثبت من غير قضاء، فكان النظر إلى من ذكرنا كالحجر على الصبى والمجنون.
(الشرح) قوله " آنستم " مر بك بعض معانيه.
وقال الازهرى: تقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحدا معناه تبصر.
قال النابغة: كأن رحلى وقد زال النهار بنا
* يوم الجليل على مستأنس وحد أراد ثورا وحشيا يتبصر هل يرى قانصا فيحذره، وقيل آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد، وقراءة العامة " رشدا " بضم الراء وسكون الشين.
وقرأ السلمى وعيسى الثقفى وابن مسعود " رشدا " بفتح الراء والشين، وقيل رشدا مصدر رشد وبابه سما يسمو، ورشدا بفتح الشين مصدر رشد.
وبابه علم.
وكذلك الرشاد.
واختلف العلماء في تأويل " رشدا " فقال الحسن وقتادة وغيرهما صلاحا في الدين والعقل.
وقال ابن عباس والسدى والثوري صلاحا في العقل وحفظ المال قال سعيد بن جبير والشعبى: إن الرجل ليأخذ بلحبته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده.
وقال مجاهد " رشدا " يعنى في العقل خاصة، وقال الضحاك: لا يعطى اليتيم ماله وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله.
وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وإذا لم يرشد بعد بلوغ الحلم.
وان شاخ.
لا يزول الحجر عنه.
وهو مذهب مالك.
وقال أبو حنيفة لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا.
وبه قال زفر بن الهذيل.
وهو مذهب النخعي.
واحتجوا في ذلك بما رواه قتادة عن أنس أن حبان بن منقد كان يبتاع وفى عقله ضعف.
فقيل يا رسول الله احجر عليه فإنه يبتاع وفى عقله ضعف، فاستدعاه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " لا تبع " فقال " لا أصبر " فقال " إذا بايعت فقل: لا خلابة.
ولك الخيار ثلاثا "
قالوا: فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان من تصرفه من الغبن ولم يفعل

(13/367)


عليه السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز، وهذا لا حجة لهم فيه، لانه مخصوص بذلك على أوجه ساقها شيخنا النووي في أول البيوع قال الامام الشافعي رضى الله عنه " ان كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه " وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لما له فعلى وجهين.

(أحدهما)
وهو اختيار أبى العباس بن سريج " يحجر عليه "
(والثانى)
لا حجر عليه، وهو اختيار أبى إسحاق المروزى، والاظهر من مذهب الشافعي، قال الثعلبي وهذا الذى ذكرناه من الحجر على السفيه قول عثمان وعلى والزبير وعائشة وابن عباس، وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم ومن التابعين شريح، وبه قال الفقهاء مالك وأهل المدينة والاوزاعي وأهل الشام وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
قال الثعلبي: وادعى أصحابنا الاجماع في هذه المسألة.
قال صاحب البيان: وأما إيناس الرشد فهو إصلاح الدين والمال، فإصلاح الدين يكون بأن لا يرتكب من المعاصي ما ترد به شهادته، وإصلاح المال أن لا يكون مبذرا، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: إذا بلغ الرجل مصلحا لماله دفع إليه ماله، وان كان مفسدا لدينه.
اه دليلنا قول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا) قال ابن عباس: الرشد الحلم والعقل والوقار، والحلم والوقار لا يكونان إلا لمن كان مصلحا لماله ودينه، وهكذا قال الحسن البصري، ولان إفساده لدينه يمنع رشده، والثقة في حفظ ماله، كما أن الفسق يسقط عدالته، ويمنع من قبول قوله وان عرف عنه الصدق في القول إذا ثبت هذا، فبلغ غير مصلح لماله ولدينه، فإنه يستدام عليه الحجر، وان
صار شيخا.
وبه قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.
وَقَالَ أَبُو حنيفة " إذا بلغ غير مصلح لماله لم يدفع إليه، لكن ان تصرف فيه ببيع أو عتق أو غيره نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة انفك عنه الحجر ودفع إليه ماله، وان كان مفسدا لدينه وماله.
لانه قد آن له أن يصير جدا لانه قد بلغ بإثنتى عشرة سنة فيتزوج ويولد له ولد ويبلغ ولده الاثنتى عشرة سنة ويولد له.
قال وأنا أستحيى أن أمنع الجد ماله.

(13/368)


دليلنا قوله تعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) وقد بينا الرشد ما هو، وهذا لم يؤنس منه الرشد فلم يفك عنه الحجر ولم يدفع إليه ماله، كما لو كان ابن أربع وعشرين سنة.
وأما قوله إنه آن له أن يصير جدا فلا اعتبار بكونه جدا، ألا ترى ان المجنون يستدام عليه الحجر مادام مجنونا، وان كان جدا، إذا ثبت هذا فإنه ينظر في ماله من كان ينظر فيه قبل البلوغ، لانه حجر ثبت عليه من غير حاكم فكان إلى الناظر فيه قبل البلوغ، كالنظر في مال الصغير (فرع)
وأما إصلاح المال فلا يعلم إلا بالاختبار، وفى وقت الاختبار وجهان (احدهما) لا يصح إلا بعد البلوغ، لان الاختبار أن يدفع إليه المال ليبيع ويشترى فيه وينفقه.
وهذا لا يصح إلا بعد البلوغ، فأما قبل هذا فهو محجور عليه للصغير والثانى يصح لقوله تعالى (وابتلوا اليتامى الخ) وهذا يقتضى أن يكون الاختبار قبل بلوغ النكاح ولان تأخير الاختبار إلى البلوغ يؤدى إلى الحجر على رشيد، لانه قد يبلغ مصلحا لماله ودينه، فلو قلنا: إن الاختيار لا يجوز الا بعد البلوغ لاستديم الحجر على رشيد ومنع من ماله، لانه لا يدفع إليه إلا بعد الاختبار
فإذا قلنا بهذا فكيف يختبر بالبيع والشراء؟ فيه ثلاثة أوجه: (أحدها) يأمره الولى أن يساوم في السلع ويقدر الثمن، وليس العقد، لان عقد الصبى لا يصح، ولكن يعقد الولى، ومنهم من قال يشترى الولى سلعة ويدعها بيد البائع ويواطؤه على بيعها من الصبى، فإن اشتراها منه بثمنها عرف رشده.
ومنهم من قال يجوز عقد الصبى لانه موضع ضرورة.
وأما كيفية الاختبار فان كان من أولاد التجار واصحاب المهن الذين يخرجون إلى السوق، فاختباره أن يدفع إليه شئ من ماله ليبيع ويشترى في السوق، أو تترك له مناسبة يباشر فيها مهنة أبيه مستقلا تحت نظر الولى واشرافه، فان كان ضابطا جازما في البيع والشراء والحرفة دل على رشده، وان عيى عما لا يتغابن الناس بمثله فهو غير رشيد.

(13/369)


وان كان من أولاد الحكام وأبناء الذين يصانون عن الاسواق قال الشيخ أبو حامد: فاختبارهم أصعب من الاول، واختبار الواحد منهم أن يدفع إليه شئ من المال ويجعل إليه نفقة الاسرة مدة شهر مثلا أو ما أشبه ذلك، لشراء متطلبات الدار واحتياجاتها، فان كان ضابطا حافظا يحسن انفاق ذلك علم رشده، وان كان غير ضابط لم يعلم رشده، أو كما قال.
قال الصيدلانى: وولد البناء يختبر بالدراعة.
هذا إذا كان المختبر غلاما، فان كان امرأة قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: لا تختبر بالبيع والشراء، لان العادة جرت أنها لا تباشر ذلك، وانما تختبر في البيت بأن يدفع إليها شئ من المال ويتولى نساء ثقات الاشراف على فعلها، وتؤمر بانفاق ذلك في الخبز والملح واللحم والخضر والوقود واصلاح أدوات المطبخ وصيانة أثاث البيت، وما إلى ذلك، أو كما قال.
قال الصيمري: ان كانت متبذلة تعامل الخباز والصباغ اختبرت بالبيع والشراء.
وقال الصيمري: ولا يعلم رشده حتى يتكرر ذلك منه التكرر الذى يؤمن أن يكون ذلك اتفاقا (مصادفة) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَقَدْ رَأَيْت مَنْ الحكام من أمر باختبار من لا يوثق بحاله تلك الثقة بأن يدفع إليه القليل من ماله، فان أصلح فيه دفع إليه ما بقى، وإن أفسد فيه كان الفساد في القليل أيسر منه في الكل، ورأينا هذا وجها من الاختبار حسنا.
والله أعلم (فرع)
فيمن قامت بينة برشده ثم قامت بينة أخرى بسفهه كتب السبكى على بن عبد الكافي رحمه الله تعالى ردا على سؤال من ابنه في امرأة سفيهة تحت الحجر قامت بينة برشدها ثم حضر وصيها فأقام بينة بسفهها، فهل تسمع بينة السفه ويعاد الحجر عليها، واختلف ابنه مع غيره من الفقهاء، فقال على رحمه الله أما كون بينة السفه لا تقبل الا مفسرة فينبغي ذلك.
لان الناس مختلفون في أسباب السفه والرشد، فمن الناس من يرى صرف المال إلى الطعمة النفيسة التى لا تليق بحاله سفها، والصحيح أنه ليس بسفه، ولكن صرفها في الحرام سفه

(13/370)


ومن الناس من يرى أن الصبى إذا بلغ وهو يفرط في إنفاق المال في وجوه الخير من الصدقات ونحوها يكون سفيها لذلك، والصحيح أنه لا يكون بذلك سفيها.
ومن الناس من يرى أن الرشد هو الصلاح في المال فقط.
وعندنا ليس كذلك، بل لابد من الصلاح في الدين والمال، وخالف فيه بعض أصحابنا وجماعة من العلماء ومن السفه ما يكون طارئا ومنه ما يكون مستداما، والشاهد قد يكون عاميا وقد يكون فقيها ويرى سفها ما ليس بسفه عند القاضى.
وكذلك الرشد.
فكيف
تقبل شهادته مطلقة.
فينبغي أن لا تقبل الشهادة بالسفه حتى يبين سببه، ولا بالرشد حتى يبين أنه مصلح لدينه وماله كما هي عادة المحاضر التى تكتب بالرشد.
وقال الماوردى: إذا أقر الراهن والمرتهن عند شاهدين أن يؤديا ما سمعاه مشروحا فلو أرادا أن لا يشرحا بل شهدا أنه رهن بألفين، فإن لم يكونا من أهل الاجتهاد لم يجز، وكذا إن كانا من أهل الاجتهاد في الاصح، لان الشاهد ناقل، والاجتهاد إلى الحاكم وقال ابن ابى الدم: الذى تلقيته من كلام المراوزة وفهمته من مدارج مباحثاتهم المذهبية أن الشاهد ليس له أن يرتب الاحكام على أسبابها، بل وظيفته نقل ما سمعه أو شاهده، فهو سفير إلى الحاكم فيما ينقله من قول سمعه أو فعل رآه، وقد اختلف أصحابنا في الشهادة بالردة، هل تقبل مطلقة أو لابد من البيان، والمختار عندي أنه لابد من البيان وفاقا للغزالي لاختلاف المذاهب في التكفير، ولجهل كثير من الناس، وإن كان الرافعى رجح قبولها مطلقة لظهور أسباب للكفر.
وهذه العلة لا يأتي مثلها في السفه والرشد فيترجح أنه لابد من البيان كالجرح، وليس الرشد كالتعديل حتى يقبل مطلقا، نعم هو مثله في الاكتفاء في الاطلاق في صلاح الدين، والاطلاق في صلاح المال لعسر التفصيل فيه.
أما إطلاق الرشد من غير بيان الدين والمال فلا يكفى، وبعد أن أوضح العلامة رحمه الله تقديم بينة الرشد على بينة السفه مقيدة بالتاريخ قال: وأما إذا قبلناها مطلقة فالذي بحثه الولد - يعنى ابنه - صحيح.
ويشهد له ما قاله الشيخ تقى الدين أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه في ثلاث مسائل متجاورة في

(13/371)


أول كتاب التدليس.
إحداها فيمن علم يسار شخص في زمان متقادم هل له ان
يشهد الآن بيساره؟ وهل يسأله الحاكم عن كونه موسرا حال أداء الشهادة.
وعليه الشهادة.
كذلك أجاب رضى الله عنه - يعنى ابن الصلاح - أن له أن يشهد الآن بيساره معتمدا على الاستصحاب، الا أن يكون قد طرأ ما أوجب اعتقاده بزواله أو جعله في صورة التشكيك في بقائه وزواله، والاعتماد في هذا على الاستصحاب السالم عن طارئ فحدثه كالاعتماد على مثله في الملك ولا يشترط فيه الخبرة الباطنة كما هنالك، وما علل به ذلك من أنه لا طريق له الا الاستصحاب في الباطن لابد له من الاستصحاب موجود هنا.
قال ومما يدل من كلامهم على جريانه في نظائره قولهم في البينة الناقلة في الدين في مسألة الابنين المسلم والنصراني وفى غيرها أنها ترجح على المنفية، لانها اعتمدت على زيادة علم، والاخرى ربما اعتمدت على الاستصحاب.
وهذا تجويز منهم لذلك، والا لكان ذلك قد جاء فيها لا من قبيل الترجيح، بل يكتفى الحاكم بالشهادة أنه موسر، فإنه يتناوله الحال، فإن أحوجه إلى ذكر الحالة الراهنة فله أن يشهد لذلك معتمدا على الاستصحاب المذكور، بل لا ينبغى أن يفصح بذلك في الشهادة، فإنه لابد من الدين بما شمل الحال الحاضرة.
هكذا نقل السبكى كلام ابن الصلاح.
والله أعلم قال المسعودي: ولا يضمن الولى المال الذى يدفعه إليه للاختبار، لان ذلك موضع حاجة إليه اه (فرع)
إذا بلغت المرأة مرتبة من الادراك والنصون تجعلها مصلحة لمالها ودينها فك عنها الحجر ودفع إليها مالها، سواء تزوجت أو لم تتزوج، ثم يكون لها التصرف في جميع مالها بغير اذن زوجها.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقال مالك رضى الله عنه: لا يفك عنها الحجر حتى تتزوج ويدخل بها، وإذا
تزوجت لم يجز لها أن تتصرف بأكثر من ثلث مالها بغير معارضة الا باذن زوجها دليلنا ما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب في العيد فلما فرغ من خطبته أتى النساء فوعظهن وقال " تصدقن ولو من حليكن، فتصدقن بحليهن "

(13/372)


رواه الشيخان.
فلو كان لا ينفذ تصرفهن بغير اذن أزواجهن لما أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، ولا محالة أنه كان فيهن من لها زوج ومن لا زوج لها ولو أنها حرة بالغه رشيدة فليس تمنع من مالها كما لو تزوجت قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان بلغ مصلحا للدين والمال فك عنه الحجر لقوله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وهل يفتقر فك الحجر إلى الحاكم.
فيه وجهان.

(أحدهما)
لا يفتقر إلى الحاكم، لانه حجر ثبت من غير حكم فزال من غير حكم كالحجر على المجنون.

(والثانى)
أنه يفتقر إلى الحاكم لانه يحتاج إلى نظر واختبار، فافتقر إلى الحاكم كفك الحجر عن السفيه (الشرح) الاحكام: وإذا بلغ مصلحا لماله ودينه فك عنه الحجر، وهل يفتقر فكه إلى الحاكم.
فيه وجهان
(أحدهما)
لا يفتقر إلى الحاكم، لانه حجر لم يفتقر ثبوته إلى الحاكم فلم يفتقر فكه إلى الحاكم كالحجر على المجنون، وفيه احتراز من حجر السفيه.

(والثانى)
لا ينفك الا بحكم الحاكم، لانه يفتقر إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم كالحجر على السفيه.
هذا هو المشهور وقال الصيمري: ان كان الناظر في ماله هو الاب أو الجد لم يفتقر إلى الحاكم
وان كان الناظر فيه أمين الحاكم (الحارس) لم ينفك الا بالحاكم وان كان الناظر فيه هو الحاكم ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يفتقر فكه إلى الحاكم، كما لو كان الناظر فيه الاب والجد.

(والثانى)
يفتقر إلى الحاكم، كما لو كان الناظر فيه أمين الحاكم

(13/373)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن فك عنه الحجر، ثم صار مبذرا حجر عليه، لما روى أن عبد الله بن جعفر رضى الله عنه ابتاع أرضا سبخة بستين ألفا فقال عثمان ما يسرنى أن تكون لى بنعلى معا، فبلغ ذلك عليا كرم الله وجهه، وعزم أن يسأل عثمان أن يحجر عليه، فجاء عبد الله بن جعفر إلى الزبير، وذكر أن عليا يريد أن يسال عثمان رضى الله عنهما أن يحجر عليه، فقال الزبير: أنا شريكك فجاء على إلى عثمان رضى الله عنهما وسأله أن يحجر عليه، فقال: كيف أحجر على من شريكه الزبير فدل على جواز الحجر ولان كل معنى اقتضى الحجر إذا قارن البلوغ اقتضى الحجر إذا طرأ بعد البلوغ، كالجنون.
فإن فك عنه الحجر ثم صار فاسقا ففيه وجهان.
قال أبو العباس: يعاد عليه الحجر، لانه معنى يقتضى الحجر، عند البلوغ، فاقتضى الحجر بعده كالتبذير.
وقال أبو إسحاق: لا يعاد عليه الحجر، لان الحجر للفسق لخوف التبذير، وتبذير الفاسق ليس بيقين، فلا يزال به ما تيقنا من حفظه للمال، ولا يعاد عليه الحجر بالتبذير إلا بالحاكم، لان عليا كرم الله وجهه أتى عثمان رضى الله عنه وسأله أن حجر على عبد الله بن جعفر، ولان العلم بالتبذير يحتاج إلى نظر، فإن الغبن قد يكون تبذيرا، وقد يكون غير تبذير، ولان الحجر للتبذير مختلف فيه فلا يجوز إلا بالحاكم، فإذا حجر عليه لم ينظر في ماله إلا الحاكم، لانه حجر
ثبت بالحاكم فصار هو الناظر كالحجر على المفلس.
ويستحب أن يشهر على الحجر ليعلم الناس بحاله وأن من عامله ضيع ماله، فان أقرضه رجل مالا أو باع منه متاعا لم يملكه، لانه محجور عليه لعدم الرشد، فلم يملك بالبيع والقرض كالصبى والمجنون، فإن كانت العين باقية ردت.
وان كانت تالفة لم يجب ضمانها.
لان المالك ان علم بحاله فقد دخل على بصيرة وأن ماله ضائع وان لم يعلم فقد فرط حين ترك الاستظهار، ودخل في معاملته على غير معرفة.

(13/374)


وان غصب مالا وأتلفه وجب عليه ضمانه، لان حجر العبد والصبى آكد من حجره، ثم حجر العبد والصبى لا يمنع من وجوب ضمان المتلف، فلان لا يمنع حجر المبذر أولى، فإن أودعه مالا فأتلفه، ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا يجب ضمانه، لانه فرط في التسليم إليه.

(والثانى)
يجب ضمانه، لانه لم يرض بالاتلاف.
فان أقر بمال لم يقبل اقراره لانه حجر عليه لحظه فلا يصح اقراره بالمال كالصبى، ولانا لو قلنا يصح اقراره توصل بالاقرار إلى ابطال معنى الحجر، ومالا يلزمه بالاقرار والابتياع لا يلزمه إذا فك عنه الحجر، لانا أسقطنا حكم الاقرار والابتياع لحفظ المال، فلو قلنا: انه يلزمه إذا فك عنه الحجر لم يؤثر الحجر في حفظ المال، وان طلق امرأته صح الطلاق، لان الحجر لحفظ المال، والطلاق لا يضيع المال، بل يتوفر المال عليه وان خالع جاز، لانه إذا صح الطلاق بغير مال فلان يصح بالمال أولى.
ولا يجوز للمرأة أن تدفع إليه المال فان دفعته لم يصح القبض ولم تبرأ المرأة منه، فان تلف كان ذلك من ضمانها، وان تزوج من غير اذن الولى فالنكاح باطل لانه يجب به المال فإذا صححنا من غير اذن الولى تزوج من غير حاجة، فيؤدى إلى اتلاف المال، فان تزوج باذنه صح، لان الولى لا يأذن الا في موضع الحاجة،
فلا يؤدى إلى اتلاف ماله، فان باع باذنه ففيه وجهان.

(أحدهما)
يصح، لانه عقد معاوضة فملكه بالاذن كالنكاح.

(والثانى)
لا يصح، لان القصد منه المال، وهو محجور عليه في المال، فان حلف انعقدت يمينه، فإذا حنث كفر بالصوم، لانه مكلف ممنوع من التصرف بالمال، فصحت يمينه، وكفر بالصوم كالعبد، وان أحرم بالحج صح احرامه لانه من أهل العبادات، فان كان فرضا لم يمنع من اتمامه، ويجب الانفاق عليه إلى أن يفرغ منه لانه مال يحتاج إليه لاداء الفرض فوجب.
وان كان تطوعا - فان كان ما يحتاج إليه في الحج لا يزيد على نفقته - لزمه اتمامه، وان كان يزيد على نفقته - فان كان له كسب إذا أضيف إلى النفقة أمكنه الحج.
لزمه اتمامه، وان لم يمكنه حلله الولى من الاحرام، ويصير كالمحصر

(13/375)


ويتحلل بالصوم دون الهدى، لانه محجور عليه في المال، فتحلل بالصوم دون الهدى كالعبد، وإن أقر بنسب ثبت النسب، لانه حق ليس بمال فقبل إقراره به كالحد وينفق على الولد من بيت المال، لان المقر محجور عليه في المال، فلا ينفق عليه من المال كالعبد.
وإن وجب له القصاص فله أن يقتص ويعفو.
لان القصد منه التشفي ودرك الغيظ، فان عفا على مال وجب المال، وإن عفا مطلقا أو عفا على غير مال - فان قلنا: إن القتل يوجب أحد الامرين من القصاص أو الدية وجبت الدية، ولم يصح عفوه عنها.
وان قلنا: إنه لا يوجب غير القصاص سقط ولم يجب المال.
(الشرح) قصة عبد الله بن جعفر رواها الشافعي في مسنده عن محمد بن الحسن عن أبى يوسف القاضى عن هشام بن عروة عن أبيه، وأخرجها أيضا البيهقى وقال: يقال ان أبا يوسف تفرد به، وليس كذلك، ثم أخرجها من طريق
الزهري المدنى القاضى عن هشام نحوه، ورواها أبو عبيدة في كتاب الاموال عن عفان بن مسلم عن حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال: قال عثمان لعلى رضى الله عنه ألا تأخذ على يد ابن أخيك - يعنى عبد الله بن جعفر - وتحجر عليه، اشترى سبخة - أي أرضا لا تنبت - بستين ألف درهم ما يسرنى أنها لى ببغلى، وقد ساق القصة البيهقى فقال: اشترى عبد الله بن جعفر أرضا سبخة فبلغ ذلك عليا رضى الله عنه فعزم على أن يسأل عثمان الحجر عليه فجاء عبد الله بن جعفر إلى الزبير فذكر ذلك له، فقال الزبير: أنا شريكك، فلما سأل على عثمان الحجر على عبد الله بن جعفر قال: كيف أحجر على من شريكه الزبير وفى رواية للبيهقي أن الثمن ستمائة ألف.
وقال الرافعى: الثمن ثلاثون ألفا.
قال الحافظ: لعله من غلط النساخ، والصواب بستين ألفا اه.
(قلت) وقد ورد التصحيف أيضا في قول عثمان رضى الله عنه: ما يسرنى أن تكون لى ببغلى، فوردت ببغلى.
ووردت بنعلى.
وروى القصة ابن حزم في المحلى فقال: بستين ألفا.

(13/376)


أما الاحكام فقد استدل بهذه الواقعة من أجاز الحجر على من كان سيئ التصرف، وبه قال على وعثمان وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر وشريح وعطاء والشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والجمهور على جواز الحجر على الكبير وخالف أبو حنيفة وبعض الظاهرية، ووافق أبو يوسف ومحمد.
قال الطحاوي ولم أر عن أحد من الصحابة منع الحجر على الكبير، ولا عن التابعين إلا عن إبراهيم وابن سيرين
وحكى صاحب البحر عن العترة أنه لا يجوز مطلقا، وعن أبى حنيفة أنه لا يجوز أن يسلم إليه ماله إلا بعد خمس وعشرين سنة ولا يعاد عليه الحجر إذا أسلم إليه ماله بعد خمس وعشرين، سواء أفسد دينه وماله أو أحدهما.
قال العمرانى في البيان: إذا بلغ الصبى مصلحا لماله ودينه ففك عنه الحجر ودفع إليه ماله ثم صار مفسدا لدينه وماله.
أو لماله، فانه يعاد الحجر عليه بلا خلاف على المذهب.
فأما إفساد الدين فمعروف، وأما إفساد المال، قال الشيخ أبو حامد: فيكون بأحد أمرين: إما بأن ينفقه في المعاصي.
مثل الزنا وشرب الخمر وغير ذلك.
والثانى أن ينفقه فيما لا مصلحة له فيه ولا غرض، مثل أن يشترى ما يساوى درهما بمائة درهم.
فأما إذا أكل الطيبات ولبس الناعم من الثياب، وأنفق على الفقهاء والفقراء فهذا ليس فيه إفساد للمال اه وأما إذا عاد مفسدا لدينه وهو مصلح لماله فهل يعاد الحجر عليه؟ فيه وجهان قال أبو العباس يعاد عليه الحجر لقوله تعالى (فان كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) فأثبت الولاية على السفيه وهذا سفيه.
ولانه معنى لو قارن البلوغ لمنع فك الحجر عنه، فإذا طرأ بعد فك الحجر عنه، اقتضى ذلك إعادة الحجر عليه كالتبذير وقال أبو إسحاق المروزى: لا يعاد عليه الحجر لان الحجر يراد لحفظ ماله فإذا كان مصلحا لماله لم يعد عليه الحجر، ويخالف إذا قارن إفساد الدين البلوغ لان الحجر إذا ثبت لم يزل عنه إلا بأمر قوى، فكذلك إذا فك عنه الحجر لم يعد عليه الا بأمر قوى.
هذا مذهبنا، وأنه إذا عاد مفسدا لماله ودينه عاد عليه

(13/377)


الحجر، وبه قال عثمان وعلى والزبير وابن الزبير وعبد الله بن جعفر وعائشة أم المؤمنين وشريح ومالك وأبو يوسف ومحمد، وقد مضى خلاف أبى حنيفة لهم جميعا
دليلنا ما مضى في قوله تعالى (فان كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) قال الشافعي رضى الله عنه: والسفيه هو المفسد لماله ودينه، والضعيف هو الصبى والشيخ الفاني، والذى لا يستطيع أن يمل المجنون والسفيه اسم ذم يتناول المبذر، فأما قوله تعالى (سيقول السفهاء من الناس) الاية.
فأراد اليهود.
وقيل أراد المنافقين.
وقيل أراد اليهود والنصارى.
وقوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) الاية.
قيل أراد به النساء، وهو قول مجاهد وهذا القول لا يصح، انما تقول العرب للنساء سفائه أو سفيهات، لانه الاكثر في جمع فعلية، وروى عن عمر رضى الله عنه: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، قال القرطبى فكذلك قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) يعنى الجهال بالاحكام، وقوله تعالى " أموالكم " أي أموالهم، كقوله تعالى " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " أي أموال بعضكم.
ويدل على ما ذكرناه أن حبان بن منقذ أصابه في عقله ضعف، فأتى أهله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يحجر عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تبع، فقال انى لا أصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: من بايعته فقل: لا خلابة ولك الخيار ثلاثا " فلو كان الحجر لا يجوز على البالغ لانكر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سؤالهم، وانما لم يجبهم إلى الحجر لانه يحتمل أن يكون الذى يغبن به مما يتغابن الناس بمثله.
ويدل على ما ذكرناه اجماع الصحابة في قصة عبد الله بن جعفر حين قال عثمان رضى الله عنه: كيف أحجر على من شريكه الزبير، وانما قال هذا لان الزبير ابن العوام رضى الله عنه كان معروفا ببصره في التجارة، فدل على أن الحجر
جائز عندهم بالاجماع.
وروى أن عائشة رضى الله عنها كانت تنفق نفقة كثيرة، فقال ابن الزبير

(13/378)


لتنتهين عائشة أو لاحجرن عليها.
فبلغها ذلك فحلفت أن لا تكلمه " فأتاها ابن الزبير واعتذر إليها فكفرت عن يمينها وكلمته، فلم ينكر عليه أحد.
ويقول: إن عائشة رضى الله عنها بالغة رشيدة، فكيف يحجر عليها؟ ولان كل معنى لو قارن البلوغ منع من تسليم المال إليه فإذا طرأ بعد البلوغ اقتضى إعادة الحجر عليه كالمجنون (فرع)
بعض الناس يكون شحيحا على نفسه جدا مع يساره وامتلائه فهل يحجر عليه؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري، الصحيح أنه لا يحجر عليه (فرع)
أما في حالة التبذير والاسراف إذا صار ذلك منه بعد فك الحجر عنه فانه لا يعيد الحجر عليه إلا الحاكم.
وبه قال أبو يوسف.
وقال محمد: يصير بذلك محجورا عليه، وهو قول بعض اصحابنا الخراسانيين دليلنا أن عليا رضى الله عنه سأل عثمان رضى الله عنه أن يحجر على عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب، فدل على أنه لا يصير محجورا عليه إلا بالحاكم، ولان الحجر بالتبذير مختلف فيه فافتقر إلى الحاكم، كالطلاق بالعنة لا يثبت الا بالحاكم لموضع الاختلاف فيه، فإذا حجر عليه لم ينظر في ماله إلا الحاكم، لانه حجر ثبت بالحاكم فكان هو الناظر فيه كالحجر على المفلس ويستحب أن يشهر الحاكم على ذلك، فيشهر هذا الحجر بوسائل الاشهار العرفية حسب كل زمان ومكان، ففى القرى مثلا أو في البلاد المتبدية بكون بالمنادى أو الاعلان الملصق، وفى المدن الكبرى يكون بالنشر في الصحف المقروءة، حتى لا يغتر الناس بمعاملته (فرع)
فإذا باع أو اشترى بعد الحجر كان ذلك باطلا، فان حصل له في يد
غيره مال استرجعه الحاكم منه إن كان باقيا، أو استرجع بدله ان كان تالفا.
وان حصل في يد المحجور عليه مال لغيره ببيع أو غيره استرده الحاكم منه ورد على مالكه، وان باعه غيره شيئا أو أقرضه إياه، ثم تلف في يده أو أتلفه فانه لا يجب عليه ضمانه، سواء علم بحجره أو لم يعلم، لانه ان علم بحجره فقد دخل على بصيرة، وان لم يعلم بحاله فقد قصر وفرط حيث بايع من لا يعلم حاله، ولا يلزمه إذا فك عنه الحجر، لان الحجر عليه لحفظ ماله، فلو ألزمناه ذلك بعد الحجر لبطل معنى الحجر، وهذا في ظاهر الحكم، وهل يلزمه ضمانه فيما بينه وبين

(13/379)


الله تعالى؟ فيه وجهان حكاهما في الافصاح
(أحدهما)
يلزمه ذلك.
وبه قال الصيدلانى والعمراني، لان الحجر لا يبيح له مال غيره
(والثانى)
لا يلزمه.
قال في الافصاح: وهو الاصح، وان غصب في يده عينا فتلفت في يده أو أتلفها في يده أو يد مالكها وجب عليه ضمانها، لان السفيه أحسن حالا من الصبى والمجنون لانه مكلف، لانه ثبت أن الصبى والمجنون إذا أتلفا على غيرهما ما لا وجب عليهما الضمان، فكذلك هذا مثله وان أودعه رجل عينا فأتلفها، فهل يجب عليه الضمان.
فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجب عليه ضمانها لان صاحبها عرضها للاتلاف بتسليمها إليه
(والثانى)
يجب عليه الضمان لان مالكها لم يرض بإتلافها، لان غير المحجور عليه لا يلزمه ذلك فالمحجور عليه أولى.
وإن أقر لغيره بعين في يده أو دين في ذمته لم يلزمه ذلك في الحال، ولا بعد فك الحجر، لانا لو قبلنا إقراره لبطلت فائدة الحجر، والحجر يقتضى حفظ ماله.
(فرع)
وان طلق السفيه أو خالع صح طلاقه وخلعه، الا أن المرأة لا تسلم
المال إليه، بل تسلم إلى وليه، فان سلمته إليه فتلف في يده أو أتلفه وجب عليها الضمان كما قلنا في البيع.
ولو أذن ولى السفيه المرأة بتسليم المال إلى السفيه فسلمته إليه فهل تبرأ.
فيه وجهان
(أحدهما)
تبرأ كما لو سلمت المرأة المال إلى العبد باذن سيده
(والثانى)
لا تبرأ لانه ليس من أهل القبض.
هذا مذهبنا وبه قال عامة أهل العلم وقال ابن أبى ليلى والنخعي وأبو يوسف: لا يصح طلاقه وخلعه دليلنا قوله تعالى " الطلاق مرتان، فامساك بمعروف أو تسريح باحسان " ولم يفرق بين السفيه وغيره، ولانه يستفيد بالطلاق، فانه ان كان قبل الدخول رجع إليه نصف المهر، وان كان بعد الدخول سقطت عنه النفقة والكسوة والمصالح.
ويحصل له ذلك بالخلع وما بذلت له (فرع)
ولا يصح نكاحه بغير اذن الولى لان النكاح يتضمن وجوب المال

(13/380)


فلم يصح بغير إذن الولى، وإن احتاج إلى النكاح فالولى بالخيار إن شاء زوجه بنفسه وتولى العقد، وإن شاء أذن له ليعقد بنفسه، لانه عامل مكلف، وإنما حجر عليه لحفظ ماله بخلاف الصبى وإن تزوج السفيه بغير إذن الولى ودخل بها فما الذى يلزمه؟ قال المسعودي فيه ثلاثة أقوال (أحدها) لا يلزمه شئ كما لو اشترى شيئا يغير إذن وليه وأتلفه
(والثانى)
يلزمه مهر المثل، كما لو جنى على غيره (والثالث) يلزمه أقل شئ يستباح به البضع لان البضع لا يستباح بالاباحة.
وأما البغداديون من أصحابنا فقالوا: هي على وجهين
(أحدهما)
لا يلزمه شئ
(والثانى)
يلزمه مهر المثل.
(فرع)
وإن أذن الولى في البيع والشراء فباع أو اشترى فهل يصح.
فيه وجهان
(أحدهما)
يصح كما يصح النكاح إذا أذن له فيه
(والثانى)
لا يصح لان
البيع والشراء يختلف حكمه ساعة فساعة، لانه قد يزيد سعر السوق وينقص، فافتقر إلى عقد الولى، ولان البيع والشراء يتضمن المال لا غير.
وهو محجور عليه في المال بخلاف النكاح.
(فرع)
وإن حلف انعقدت يمينه، فإن حنث كفر بالصوم، ولا يكفر بالمال لانه محجور عليه في المال، وإن أحرم بالحج صح إحرامه لانه من أهل التكليف فإن كان فرضا لم يمنع من اتمامه وأنفق عليه من ماله ما يحتاج إليه، وان كان متطوعا - فان كان نفقته على إتمامه لا تزيد على نفقة الحضر - لم يجز تحليله، وان كانت تزيد على نفقة الحضر، فان كان له كسب وقال أنا أتمم النفقة بالكسب لم يحلل، وان لم يكن له كسب حلله الولى ويصير كالمحصر، فيتحلل بالصوم دون الهدى لانه محجور عليه في المال فأشبه المفلس في هذه الامور كلها.
وبهذا قال أصحاب أحمد رضى الله عنه (فرع)
وان أقر بنسب يلحقه في الظاهر ثبت النسب، لان ذلك لا يتضمن اتلاف المال.
وان أقر بنسب من يلزمه نفقته لم ينفق عليه من ماله بل ينفق عليه من بيت المال، وان وجب له القصاص فله أن يقبض لان الغرض منه التشفي، وان عفا عنه على مال كان الامر له.
وان عفا مطلقا أو على غير مال.
فان قلنا

(13/381)


ان الواجب القصاص لا غير صح عفوه.
وان قلنا الواجب أحد الامرين لم يصح عفوه عن المال وان أقر بجناية العمد صح اقراره لانه غير متهم في ذلك، فان أراد المقر له العفو على المال.
قال الطبري: فان قلنا ان موجب العمد القود ثبت المال، لان الذى ثبت باقراره هو القتل والقطع دون المال.
وان قلنا ان موجبه أحد الامرين فهل يثبت.
اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: فيه قولان كالعبد إذا أقر بالسرقة فانه يقبل في القطع، وهل يقبل في المال، فيه قولان.
ومنهم من قال: له أخذ المال قولا واحدا، لان الواجب أحدهما لا بعينه، وكل واحد منهما بدل عن الآخر، وتعلقهما بسبب واحد.
وأما السرقة ففيها حكمان
(أحدهما)
القطع لله تعالى لانه حق الله تبارك وتعالى، والاخر للآدمي فجاز ثبوت أحدهما دون الاخر.
ولهذا لو شهد رجل وامرأتان على السرقة ثبت المال دون القطع، ولو شهدا على القطع لم يثبتا.
وان دبر السفيه أوصى - على ما سنفصله ان شاء الله في أحكام المدبر - فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان كالصبى، ومنهم من قال: يصح قولا واحدا قال الطبري وهو الصحيح، لان الصغير لا حكم لقوله ولا يصح شئ من اقراره بخلاف السفيه فانه يصح اقراره بالنسب (فرع)
المرتد إذا قلنا ان ملكيته باقية على ماله فانه محجور عليه، وهل يفتقر إلى حجر الحاكم، فيه قولان.
وإذا زال السفه فانه لا ينفك الحجر عنه الا بحكم الحاكم، لانه حجر ثبت بالحاكم فلم يزل من غير حكمه.
والله تعالى أعلم وهو الموفق للصواب.

(13/382)


قال المصنف رحمه الله: كتاب الصلح إذا كان لرجل عند رجل عين في يده، أو دين في ذمته، جاز أن يصالح منه والدليل عليه ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " المسلمون على شروطهم، والصلح جائز بين المسلمين " فإن صالح عن المال على مال، فهو بيع يثبت فيه ما يثبت في البيع من الخيار، ويحرم فيه ما يحرم في البيع
من الغرر، والجهالة، والربا، ويفسد بما يفسد به البيع من الشروط الفاسدة، لانه باع ماله بمال، فكان حكمه حكم البيع فيما ذكرناه، وإن صالحه من دين على دين وتفرقا قبل القبض لم يصح، لانه بيع دين بدين تفرقا فيه قبل القبض.
فإن صالحه من دين على عين، وتفرقا قبل القبض، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح، لانهما تفرقا والعوض والمعوض في ضمان واحد، فأشبه إذا تفرقا عن دين بدين.
والثانى: يصح، لانه بيع عين بدين فصار كبيع العين بالثمن في الذمه، وان صالح عن المال على منفعه فهو إجارة يثبت فيه ما يثبت في الاجارة من الخيار.
ويبطل بما تبطل به الاجارة من الجهالة.
لانه استأجر منفعة بالمال فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الاجارة.

(فصل)
وإن صالح من دار على نصفها ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح، لانه ابتاع ماله بماله
(والثانى)
يصح، لانه لما عقد بلفظ الصلح صار كأنه وهب النصف وأخذ النصف وإن صالحه من الدار على سكناها سنة ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يصح، لانه ابتاع داره بمنفعتها
(والثانى)
يصح، لانه لما عقد بلفظ الصلح صار كما لو أخذ الدار وأعاره سكناها سنة وإن صالحه من ألف درهم على خمسمائة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح، لانه بيع ألف بخمسمائة
(والثانى)
أنه يصح لانه لما عقد بلفظ الصلح جعل كأنه قال أبرأتك من خمسمائة وأعطني خمسمائة.

(13/383)


(الشرح) حديث أبى هريرة أخرجه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة.
قال الحاكم: على شرطهما وصححه ابن حبان، ورواه الترمذي وحسنه بزيادة " المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما " عن عمرو بن عوف وقال الترمذي: هذا حديث حسن
صحيح.
ورواه أبو داود وابن ماجه والترمذي أيضا عن عمرو بن عوف بلفظ " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما " وأخرجه الحاكم وابن حبان في إسناده عند هؤلاء جميعا كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه وهو ضعيف جدا قال فيه الشافعي وأبو داود هو ركن من أركان الكذب، وقال النسائي: ليس بثقة.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده نسخة موضوعة، وتركه أحمد، وقد نوقش الترمذي في تصحيحه لهذا الحديث.
قال الذهبي: فروى من حديثه " الصلح جائز بين المسلمين " وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيحه.
وقال ابن كثير في ارشاده: قد نوقش أبو عيسى الترمذي في تصحيحه هذا الحديث وما شاكله اه.
وقد اعتذر له الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال في بلوغ المرام: وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه ابن حبان من طريق أبى هريرة، وقال في الفتح: وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وذلك لانه رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة اه.
وأخرجه أيضا الحاكم من طريق أنس، وأخرجه أيضا من حديث عائشة، وكذلك الدارقطني.
وأخرجه أحمد من حديث سليمان بن بلال عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة وأخرجه ابن أبى شيبة عن عطاء مرسلا وأخرجه البيهقى موقوفا على عمر كتبه إلى أبى موسى الاشعري، وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن إسناد حديث أنس وإسناد حديث عائشة واهيان، وضعف ابن حزم حديث أبى هريرة الذى ساقه المصنف، وكذلك ضعفه عبد الحق.

(13/384)


وقد روى من طريق عبد الله بن الحسين المصيصى وهو ثقة، وكثير بن زيد المذكور، قال أبو زرعة صدوق، ووثقه ابن معين، والوليد بن رباح صدوق أيضا، ولا يخفى أن الاحاديث المذكورة، والطرق يشهد بعضها لبعض.
قال الشوكاني: فأقل أحوالها أن يكون المتن الذى اجتمعت عليه حسنا.
أما لغات الفصل: فالصلح هو التوفيق، ومنه صلح الحديبية، والصلاح هو الخير والصواب وصالح للامر أي له أهلية القيام به.
وفى الدين أقسام: صلح المسلم مع الكافر.
والصلح بين الزوجين.
والصلح بين الفئتين الباغية والعادلة.
والصلح بين المقاضين.
والصلح في الجراح كالعفو على المال.
والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة إما في الاملاك أو في المشتركات وهذا الصلح الاخير هو الذى يتكلم فيه أصحابنا من أهل الفروع، أما الاحكام: فإن الاصل في جواز الصلح الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما الاية " فأمر الله تعالى بالصلح بين المؤمنين.
وقوله تعالى " وان إمرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، والصلح خير " وقوله تعالى " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما " فدلت هذه الايات على جواز الصلح.
أما السنة فقد روى البخاري وأحمد والترمذي وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من كانت عنده مظلمة لاخيه من عرضه أو شئ فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ان كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته.
وان لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " لفظ البخاري هكذا أما الاخران فقالا فيه " مظلمة من مال أو عرض " وحديث أبى هريرة الذى ساقة المصنف وأحاديث أخرى تأتى في فصول الصلح
الاتية ان شاء الله تعالى.
وأما الاجماع فإن الامة أجمعت على جوازه.
إذا ثبت هذا: فإن الصلح فرع على غيره، وهو ينقسم على خمسة أقسام:

(13/385)


قسم هو فرع على البيع، وهو أن يدعى عليه عينا في يده فيقر له بها فيصالحه من ذلك على عين أو دين، فهذا حكمه حكم ما لو اشترى منه عينا بعين أخرى أو بدين، فيعتبر فيه ما يعتبر في البيع من الربا.
ويبطل بما يبطل فيه البيع من الغرر وثبت فيه ما ثبت في البيع من الخيار، لان ذلك مع تلفظ الصلح وإن ادعى عليه دينا في ذمته فأقر له به ثم صالحه منه على ذمته وتفرقا قبل القبض لم يصح الصلح، كما لا يصح في بيع الدين بالدين، وإن صالحه منه على عين وقبض العين قبل التفرق صح الصلح - إذا كان الدين مما يصح أخذ العوض عنه وإن افترقا عن المجلس قبل فبض العين فهل يصح؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح لانهما افترقا والعوض في ضمان واحد فلم يصح، كما لو صالحه من دين على دين وتفرقا قبل القبض
(والثانى)
يصح كما يصح في بيع العين بالدين القسم الثاني: صلح هو فرع على الاجارة، وهو أن يدعى عليه عينا في يده أو دينا في ذمته فيقر له به، ثم يصالحه من ذلك على سكنى داره شهرا، أو استعمال سيارته مدة معلومة: ويملك المقر ما ادعى عليه به، ويملك المقر له منفعة الدار والسيارة، كما لو استأجر منه ذلك، ويشترط فيه ما يشترط في الاجارة على ما يأتي بيانه فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْقِسْمُ الثالث: صلح هو فرع على الابراء والحطيطة.
وهو أن يدعى عليه ألفا في ذمته فيقر له بها فيصالحه على بعضها.
قال الشيخ أبو حامد: فهذا ينقسم
قسمين
(أحدهما)
أن يقول الذى عليه الحق لمن له الحق: أدفع اليك خمسمائة بشرط أن تسقط عنى الخمسمائة الاخرى، أو يقول صاحب الحق: ادفع إلى خمسمائة على أن أسقط عنك الخمسمائة الاخرى.
فهذا لا يجوز، فإذا فعلا ذلك كان باطلا، وكان لصاحب الالف المقر له أن يطالب بالخمسمائة الاخرى، لانه دفع إليه بعض حقه وشرطه شرطا لا يلزمه، فسقط الشرط، ووجب الالف بالاقرار
(والثانى)
أن يقول أدفع اليك خمسمائة وأبرئني من خمسمائة، أو يقول الذى له الحق: ادفع إلى خمسمائة فقد أبرأتك من الخمسمائة الاخرى، فإن هذا

(13/386)


يجوز، إذ لم يدخل فيه حرف الشرط.
وهو قوله عى أن تبرئني، أو بشرط أن تبرئني، لانه كان له حق فأخذ بعضه وأبرأ من البعض.
اه وقد قال المصنف: وإن صالحه من ألف على خمسمائة ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يصح كما لو باع ألفا بخمسمائة
(والثانى)
يصح لانه لما عقد بلفظ الصلح صار كأنه قال أبرأتك من خمسمائة وأعطني خمسمائة.
وقال المسعودي: إذا ادعى عليه ألف درهم حالة فأقر له بها ثم صالحه على خمسمائة مؤجلة صح الصلح ولا يلزم الاجل.
وان ادعى عليه ألف درهم مؤجلة فأقر له بها ثم صالحا عنها على خمسمائة حالة لم يصح، لانه جعل الخمسمائة التى تركها عوضا للحلول.
وذلك لا يجوز أخذ العوض عليه.
وإن ادعى عليه ألف درهم صحاحا فأقر له بها ثم صالحه على خمسمائة مكسرة قال المسعودي: صح الصلح، ولا يلزمه أخذ المكسرة، بل يجب له خمسمائة صحاح، لان الصحة صفة فلا يصح الابراء منها.
اه القسم الرابع: صلح هو فرع على الهبة، وهو أن يدعى عليه دارا فيقر بها.
فقال المقر: أدفع اليك نصفها ووهبتك النصف الاخر صحت الهبة، لانها مجردة
غير معلقة على شرط، وان كان بلفظ الصلح بأن قال المقر للمقر له: صالحني من هذه الدار بنصفها فذكر المصنف أنها على وجهين
(أحدهما)
لا يصح، لانه باع ماله بماله
(والثانى)
ولم يذكر ابن الصباغ غيره أنه يصح، لانه لما عقد بلفظ الصلح صار كما لو قال: ادفع إلى نصفها ووهبتك النصف الثاني القسم الخامس: صلح هو فرع على العارية بأن يدعى عليه دارا في يده فأقر له بها، ثم قال المقر له للمقر: صالحني عن هذه الدار بسكناها سنة، فقال المقر صالحتك، صح الصلح، ويكون كأن المقر له أعار المقر أن يسكنها سنة.
قال المسعودي " وللمقر له أن يرجع في عاريته " وذكر المصنف أنها على وجهين.

(أحدهما)
هذا
(والثانى)
لا يصح لانه ابتاع داره بمنفعتها (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه " فإن صالح الرجل أخاه من مورثه، فإن عرفا ما صالحه عليه بشئ يجوز في البيع جاز.
وهذا كما قال إذا ورث اثنان

(13/387)


من ابنهما أو أخيهما مالا فصالح أحدهما الآخر عن نصيبه، فإن هذا فرع للبيع، فإذا شاهد التركة وعرف العوض صح الصلح كما لو اشتراه بلفظ الشراء (فرع)
وإن صالحه عن الدارهم على دنانير أو على الدنانير على دارهم، فإن ذلك صرف، ويشترط فيه قبض العوض في المجلس كما قلنا في الصرف.
(فرع)
إذا أتلف عليه ثوبا أو حيوانا قيمته دينار فأقر له به، ثم صالحه من ذلك على أكثر منه، لم يصح الصلح دليلنا أن الواجب في ذمته قيمة المتلف فلم يصح الصلح على أكثر منه، كما لو غصب منه دينارا ثم صالحه على أكثر منه، وإن صالحه عن قيمة الحيوان بعوض وجعله مؤجلا لم يتأجل العوض ولم يصح الصلح.
وقال أبو حنيفة يصح دليلنا أن الواجب هو دين حال في ذمته، فإذا كان العوض عنه مؤجلا كان
بيع الدين بالدين.
وذلك لا يجوز وإن ادعى عليه مالا مجهولا فأقر له به وصالحه عليه بعوض لم يصح الصلح.
وقال أبو حنيفة " يصح " دليلنا: أن ذلك معاوضة، ولهذا ثبت بالشقص فيه الشفعة، فلم يصح في المجهول كالبيع، قال الشافعي رضى الله عنه " إذا ادعى على رجل شيئا مجملا فأقر له به ثم صالحه منه على شئ صح الصلح " قال الشيخ أبو حامد أراد إذا كان المعقود عليه معلوما فيما بين المتعاقدين فيصح وإن لم يسمياه، كما إذا قال بعت منك الشئ الذى أعرفه أنا وأنت بكذا، فقال ابتعت فإنه يصح والله تعالى أعلم وقد أجمل الخرقى من الحنابلة الصلح الجائز عندهم بقوله والصلح الذى يجوز هو أن يكون للمدعى حق لا يعلمه المدعى عليه فيصطلحان على بعضه، فإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل.
اه، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والثوري أن الصلح على الانكار صحيح، ولكن الشافعي قال لا يصح لانه عاوض على ما لم يثبت له، فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره، ولانه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه، فبطل كالصلح على حد القذف

(13/388)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن ادعى عليه عينا في يده أو دينا في ذمته فأنكر المدعى عليه فصالحه منه على عوض لم يصح الصلح، لان المدعى اعتاض عما لا يملكه فصار كمن باع مال غيره.
والمدعى عليه عاوض على ملكه، فصار كمن ابتاع مال نفسه من وكيله.
فان جاء أجنبي إلى المدعى وصدقه على ما ادعاه وقال صالحني منه على مال لم
يخل إما أن يكون المدعى عينا أو دينا، فان كان دينا نظرت فإن صالحه عن المدعى عليه صح الصلح، لانه إن كان قد وكله المدعى عليه فقد قضى دينه بإذنه، وان لم يوكله فقد قضى دينه بغير إذنه.
وذلك يجوز فان صالحه عن نفسه وقال: صالحني عن هذا الدين ليكون لى في ذمة المدعى عليه، ففيه وجهان بناء على الوجهين في بيع الدين من غير من عليه
(أحدهما)
لا يصح، لانه لا يقدر على تسليم ما في ذمة المدعى عليه
(والثانى)
يصح كما لو اشترى وديعة في يد غيره، وان كان المدعى عينا، فان صالحه عن المدعى عليه وقال: قد أقر لك في الباطن ووكلني في مصالحتك، فصدقه المدعى صح الصلح، لان الاعتبار بالمتعاقدين وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه فجاز.
ثم ينظر فيه فان كان قد أذن له في الصلح ملك المدعى عليه العين لانه ابتاعه له وكيله، وان لم يكن أذن له في الصلح لم يملك المدعى عليه العين لانه ابتاع له عينا بغير اذنه فلم يملكه.
ومن أصحابنا من قال يملكه ويصير هذا الصلح استنقاذا لماله، كما قال الشافعي رحمه الله في رجل في يده دار فجعلها مسجدا، ثم ادعاها رجل فأنكر فاستنقذه الجيران من المدعى بغير اذن المدعى عليه أنه يجوز ذلك.
وان صالحه لنفسه فقال أنا أعلم أنه لك فصالحني فأنا أقدر على أخذه، صح الصلح لانه بمنزلة بيع المغصوب ممن يقدر على أخذه، فان أخذه استقر الصلح، وإن لم يقدر على أخذه فهو بالخيار بين أن يفسخ ويرجع إلى ما دفع وبين أن يصبر إلى أن يقدر، كمن ابتاع عبدا فأبق قبل القبض.

(13/389)


(الشرح) الاحكام: إذا ادعى عليه عينا في يده أو دينا في ذمته فأنكره
المدعى عليه ثم صالحه على عين أو دين في ذمته لم يصح الصلح بلا خلاف على المذهب، لانه ابتاع ملكه، وإن ادعى عليه ألف درهم في ذمته، فأنكره، ثم صالحه على خمسمائة منها وقلنا: يصح صلح الحطيطه فهل يصح هذا الصلح؟ فيه وجهان حكاهما في الابانة.

(أحدهما)
لا يصح، لانه صلح على الانكار فلم يصح، كما لو ادعى عليه عينا فأنكره
(والثانى)
يصح، والفرق بينهما أن في صلح المعاوضة يحتاج إلى ثبوت العوضين برضى المتعاقدين وليس العين المدعى بها ثابتة للمدعى حتى يأخذ عليها عوضا، وههنا هو إبراء فلا يحتاج إلى رضاء صاحبه، هذا مذهبنا، وأن الصلح على الانكار لا يصح.
وقال ابن أبى ليلى: إن أنكره لم يصح الصلح، وإن سكت صح الصلح.
دليلنا: قوله تعالى " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " والصلح على الانكار من أكل المال بالباطل، لان من ادعى على غيره دارا في يده فأنكر ذلك المدعى عليه ثم صالحه عنها بعوض فقد ابتاع ماله بماله، وهذا لا يجوز، وَرُوِيَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لبلال بن الحارث " يا بلال اعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ".
وهذا المدعى لا يخلو إما أن يكون كاذبا أو صادقا، فان كان كاذبا فهذا الصلح الذى يصالح به يحل له ما هو حرام عليه، وإن كان صادقا فانه يستحق جميع ما يدعيه، فإذا أخذ بعضه بالصلح فالصلح حرم عليه الباقي الذى كان حلالا له، فوجب أن لا يجوز، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، ولان البيع لا يجوز مع الانكار وهو أن يدعى عينا في يد غيره فينكره فيبيعها من غيره، فان البيع لا يصح، فكذلك الصلح.
إذا ثبت هذا: فادعى على رجل ألفا في ذمته فأنكره عنها، ثم ان المدعى
أبرأه منها صحت البراءة، وهل يشترط في صحة البراءة القبول؟ على وجهين يأتي ذكرهما فيما بعد ان شاء الله تعالى.

(13/390)


وانما صحت البراءة على الانكار لانها ليست بمعاوضه، والذى جعل المالكية والحنفية والحنابلة يجيزن الصلح مع الانكار.
ولا يفرقون بين الابراء والشرط قاعدتهم في أن الصلح يبيح لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله، كالصلح بمعنى الهبة، فانه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه، والاسقاط يحل له ترك أداء ما كان واجبا عليه، وقالوا: ان هذا لا يدخل في حديث " الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " لان الصلح الفاسد لا يحل الحرام وانما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه، كما لو صالحه على استرقاق حر، أو احلال بضع محرم، أو صالحه بخمر أو خنزير، وليس ما نحن فيه كذلك.
قلت: فان ادعى عليه ألفا في ذمته فأنكره عنها ثم صالحه على بعضها وقبض ذلك وأبرأه عن الحق الذى عليه.
قال الشافعي رضى الله عنه: فالصلح باطل والابراء لا يلزم، فأما الصلح فيبطل لانه صلح على انكار وعلى المصالح رد ما أخذه، وأما البراءة فلا تلزمه لانه انما ابرأه براءة قبض، واستيفاء وهو أن يسلم له ما أحذه، فإذا لم يسلم له ذلك لم تلزمه البراءة.
هذا إذا لم يعلم المدعى بفساد الصلح، وأما إذا علم بفساد الصلح فأبرأ صحت براءته وهذا كما تقول في رجل اشترى عبدا شراء فاسدا.
فقال البائع للمشترى اعتق هذا العبد، ولم يعلم البائع بفساد البيع فأعتقه - قال الشيخ أبو حامد: لم يصح العتق، لان البائع لم يأمره باعتاقه عن نفسه، وانما أمره أن يعتقه يظن أنه قد ملكه بالشراء، وان علم البائع بفساد البيع فأمر المشترى باعتاقه فأعتقه صح العتق، وان عليه ألفا في ذمته فأقر له بها فصالحه عنها صلح حطيطة، وأبرأه
على خمسمائة فان قبض منها خمسمائة، وأبرأه عن الباقي ثم خرجت الخمسمائة التى قبض مستحقة - قال الشيخ أبو حامد: فانه يرجع عليه بخمسمائة التى أخذها والابراء صحيح، لانه لم يبرئه ليسلم له ما قبض بل أبرأه عن حق هو مقر له به والابراء صادف حقه المقر به فنفذ ذلك وليس يتعلق بسلامة ما قبضه وعدم سلامته (فرع)
وإذا ادعى عينا فصالحه منها على عوض ثم اختلفا فقال المدعى: انما صالحت منها على الانكار فالصلح باطل، ولى الرجوع إلى أصل الخصومة.

(13/391)


وقال المدعى عليه لا، بل كنت أقررت لك بها ثم أنكرت ثم صالحت منها.
قال الشيخ أبو حامد: فالقول قول المدعى لان الاصل هو الصلح على الانكار الذى قد عرف إلى أن تقوم البينة بإقراره لها قبل ذلك.
(فرع)
وإن ادعى رجل على رجل حقا فأنكر فجاء أجنبي إلى المدعى وقال أنت صادق في دعواك فصالحني عليه - فلا يخلو إما أن يكون المدعى دينا أو عينا، فإن كان المدعى دينا نظرت، فإن صالحه عن المدعى عليه صح الصلح لانه إن كان أذن له في ذلك فهو وكيله والتوكيل في الصلح جائز، وإن لم يكون وكيله ولم يوكله المدعى عليه، فقد قضى عن غيره دينا، ويجوز للانسان أن يقضى عن غيره دينا بغير إذنه، فإذا أخذ المدعى المال ملكه وانقطعت دعواه.
وهل للاجنبي أن يرجع على المدعى عليه بما دفع؟ ينظر فيه، فإن صالح عنه بإذنه ودفع بإذنه رجع عليه، وإن صالح عنه باذنه، ودفع بغير إذنه لم يرجع عليه بشئ لانه متطوع بالدفع.
وإن صالح الأجنبي ليكون الدين له، فان الشيخ أبا إسحاق (المصنف) قال: هلى يصح الصلح؟ فيه وجهان بناء على جواز بيع الدين من غير من هو عليه، وقال ابن الصباغ: لا يجوز وجها واحدا، واليه أشار الشيخ أبو حامد، لان
الوجهين في بيع الدين مع الاقرار، فأما مع الانكار فلا يصح وجها واحدا كبيع العين المغصوبة ممن لا يقدر على قبضها.
وقال أصحاب أحمد: وإن صالح عند المنكر أجنبي صح، سواء اعترف للمدعى بصحة دعواه أو لم يعترف، وسواء كان باذنه أو غير إذنه، لان عليا وأبا قتادة رضى الله عنهما قضيا عن الميت فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا وفى الموضعين - أعنى إن كان باذنه أو بغير إذنه - لم يرجع عليه بشئ، لانه أدعى عنه مالا يلزمه أداؤه، أما إذا أذن له بالاداء عنه رجع إليه، وهذا كله كقولنا في المذهب.
(قلت) وإن كان المدعى عينا، فان صالح عن المدعى عليه بأن يقول للمدعى: المدعى عليه مقر لك بها في الباطن، وقد وكلنى في مصالحتك فصالحه عنه صح الصلح، لان الاعتبار بالمتعاقدين، وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه فإذا صالحه

(13/392)


ملك المدعى ما يأخذه وانقطع حقه من العين، وهل يملك المدعى عليه العين المدعى بها، ينظر فيه، فإن كان قد وكل الأجنبي ملك العين، فان كان الأجنبي قد دفع العوض من مال نفسه باذن المدعى عليه، وإن دفع بغير إذنه لم يرجع عليه كالدين، لانه متطوع، لانه إنما أذن له في العقد دون الدفع.
وإن كان المدعى عليه لم يوكل الأجنبي في الصلح فهل يملك العين؟ فيه وجهان المنصوص أنه لا يملكها.
وحكى أبو على في الافصاح أنه يملكها كما قال الشافعي رضى الله عنه إذا اشترى رجل أرضا وبناها مسجدا، وجاء رجل فادعاها، فان صدقه لزمه قيمتها، وإن كذبه فجاء رجل من جيران المسجد فصالحه صح الصلح لانه بذل مال على وجه البر.
قال العمرانى في البيان: وهذا ليس بصحيح لانه لا يجوز أن يملك غيره بغير ولاية ولا وكالة، قال: فعلى هذا يكون الصلح باطلا
في الباطن، صحيحا في الظاهر.
(قلت) وأما المسألة المذكورة في المسجد فلا تشبه هذه، لان الواجب على المدعى عليه القيمة، لانه قد وقفها، ويجوز الصلح عما في ذمة غيره بغير إذنه كما سبق أن بينا ذلك.
وإن قال الأجنبي للمدعى: المدعى عليه منكر لك ولكن صالحني عما ادعيت لتكون العين له.
فهل يصح الصلح؟ قال المسعودي: فيه وجهان.
وأما إذا قال الأجنبي: أنت صادق في دعواك، فصالحني لتكون هذه العين إلى فانى قادر على انتزاعها فيصح الصلح كما يصح أن تبتاع شيئا في يد غاصب، فان قدر الأجنبي على انتزاعها استقر الصلح، وان لم يقدر كان له الخيار في فسخ الصلح، كمن ابتاع عينا في يد غاصب ولم يقدر على انتزاعها.
إذا ثبت هذا: فان المدعى عليه قد وكل الأجنبي في أن يصالح عنه، فهل يصح هذا التوكيل وهذا الصلح فيما بينه وبين الله تعالى؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو العباس لا يجوز له الانكار لانه كاذب، الا أنه يجوز له بعد ذلك أن يوكل ليصالح عنه على ما ذكرناه، قال المصنف: لا يجوز له ذلك بل يلزمه الاقرار به لصاحبه، ولا يجوز له الوكالة لمصالحة عنه إذا غصب العين أو اشتراها من غاصب وهو يعلم ذلك.

(13/393)


فأما إذا مات أبوه أو من يرثه وخلف له هذه العين، فجاء رجل فادعاها وأنكره ولا يعلم صدقه وخاف من اليمين، وخاف ان أقربها للمدعى أن يأخذها فيجوز أن يوكل الأجنبي في الصلح على ما بيناه، لتزول عنه الشبهة.
(فرع)
إذا صالح الأجنبي عن المدعى عليه بعوض بعينه، فوجد المدعى بالعوض الذى قبضه من الأجنبي عيبا كان له الرد بالعيب، ولا يرجع ببدله عليه
ولكن ينفسخ عقد الصلح ويرجع إلى خصومة المدعى عليه، وكذلك إذا خرج العوض مستحقا، كما لو ابتاع من رجل عينا فوجد فيها عيبا فردها أو خرجت مستحقة، فانه لا يطالبه ببدلها، وان صالحه على دراهم أو دنانير في ذمته.
قال العمرانى: ثم سلم إليه دراهم أو دنانير فوجد بها عيبها فردها أو خرجت مستحقه فله أن يطالبه ببدلها كما قال النووي رضى الله عنه في البيع على ما مضى في المجموع (فرع)
وان ادعى عينا في يد رجل فأنكره المدعى عليه، فقال المدعى: أعطيك ألف درهم على أن تقر لى بها ففعل لم يكن صلحا ولا يلزم الالف، وبدله حرام، وأمده حرام، وهل يكون اقرارا؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في العدة، قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
إذا أقر المدعى عليه بالحق ثم أنكر جاز الصلح فان أنكر فصولح ثم أقر كان الصلح باطلا، لان الاقرار المتقدم لا يبطل بالانكار الحادث فيصح الصلح إذا أنكر بعد اقراره لوجوده بعد لزوم الحق، ولم يصح الصلح إذا كان عقيب انكاره وقبل اقراره لوجوده قبل لزوم الحق.

(فصل)
فلو أنكر الحق فقامت عليه البينة جاز الصلح عليه للزوم الحق بالبينة كلزومه بالاقرار لفظا ويقاس عليه ما لو نكل المدعى عليه فحلف المدعى من طريق الاولى، إذ اليمين المردودة كالاقرار على أحد القولين.
(الشرح) إذا أقر المدعى عليه بالحق فقد لزم الحق فإذا أنكر جاز أن يعقدا عقد الصلح على ما مر من أمر المنكر ابتداء، فإذا عقد الصلح بينهما بعد الانكار ثم أقر بأن عاد إلى اعترافه الاول كان الصلح باطلا لان القرار تقدم على الانكار

(13/394)


وكان الانكار حادثا، فيصح الصلح إذا أنكر بعد الاقرار لحدوث الانكار بعد لزوم الحق، ولان الصلح على الاقرار هضم للحق، ولان الحق ثبت قبل إنكاره
والصلح من بواعثه وأسبابه وقوع النزاع بالانكار (فرع)
إذا أنكر المدعى عليه ثم قامت البينة فقد لزم الحق كلزومه بالاقرار ومن ثم يجوز الصلح، ومثله لو نكل المدعى عليه عن اليمين فحلف المدعى فقد لزم الحق وثبت للمدعى.
لان اليمين المردودة كالاقرار وكالبينة، ومن ثم جاز الصلح.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن ادعى عليه مالا فأنكره، ثم قال صالحني عنه لم يكن ذلك إقرارا له بالمال، لانه يحتمل أنه أراد قطع الخصومة، فلم يجعل ذلك اقرارا، فان قال بعنى ذلك ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجعل ذلك اقرارا.
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفرابنى، لان البيع والصلح واحد، فإذا لم يكن الصلح اقرارا لم يكن البيع اقرارا
(والثانى)
وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب أنه يجعل ذلك اقرارا لان البيع تمليك، والتمليك لا يصح الا ممن يملك (الشرح) إذا ادعى على رجل دينا في ذمته أو عينا في يده فأنكره المدعى عليه ثم قال صالحني عن ذلك بعوض لم يكن ذلك اقرارا من المدعى عليه، لان الصلح قد يراد به المعاوضة وقد يراد به قطع الخصومة والدعوى، فإذا كان الامر يحتملهما لم نجعل ذلك اقرارا.
وان قال المدعى عليه للمدعى بعنى هذه العين أو ملكني اياها، فحكى المصنف وابن الصباغ في ذلك وجهين
(أحدهما)
وهو قول الشيخ أبى حامد أنه لا يكون اقرارا لان الصلح والبيع بمعنى واحد.
فإذا لم يكن قوله صالحني اقرارا، فكذلك قوله بعنى
(والثانى)
يكون اقرارا، وهو قول القاضى أبى الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في التعليق غيره.
وهو قول أبى حنيفة رضى الله عنه.
لان قوله بعنى
أو ملكني يتضمن الاقرار له بالملك

(13/395)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن أخرج جناحا إلى طريق لم يخل، اما أن يكون الطريق نافذا أو غير نافذ، فان كان الطريق نافذا نظرت فان كان الجناح لا يضر بالمارة جاز، ولم يعترض عليه.
واختلفوا في علته.
فمن أصحابنا من قال يجوز، لانه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير اضرار فجاز كالمشى في الطريق، ومنهم من قال يجوز لان الهواء تابع للقرار، فلما ملك الارتفاق بالطريق من غير اصرار ملك الارتفاق بالهواء من غير اضرار، فإن وقع الجناح أو نقضه وبادر من يحاذيه، فأخرج جناحا يمنع من اعادة الجناح الاول جاز، لان الاول ثبت له الارتفاق بالسبق إلى اخراج الجناح، فإذا زال الجناح جاز لغيره أن يرتفق، كما لو قعد في طريق واسع ثم انتقل عنه (الشرح) قوله " جناحا " فعله جنح أي مال، وبابه خضع ودخل والجوانح الاضلاع التى تحت الترائب، وجناح الطائر يده.
وقد شبه به البناء الناتئ البارز من جدار البيت معلقا في الهواء.
أما الاحكام: فانه إذا أخرج جناحا أو روشنا، وهو نافذة تشبه الشرفة (أو البلكونة) إلى شارع نافذ نظرت فان كان لا يضر بالمسلمين جاز ولم يمنع من ذلك.
وبه قال مالك والاوزاعي وأحمد واسحاق وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: له اخراجه إلى أن يمنعه المسلمون أو واحد منهم، فإذا منعه واحد من المسلمين لم يجز له اخراجه، فان أخرجه أزيل أو قلع دليلنا ما روى أن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه مر بميزاب للعباس رضى الله عنه فقطر عليه فأمر بقلعه، فخرج إليه العباس رضى الله عنه
فقال له: خلعت ميزابا ركبه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فقال عمر: والله لا يصعد من ينصبه الا على ظهرى، فصعد العباس على ظهره ونصبه.
فإذا ثبت هذا في الميزاب ثبت في الروشن مثله، لان الميزاب خشبة واحدة - على عهدهم أو قضيب مجوف على عهدنا - أما الروشن أو الجناح فهو بناء متكامل

(13/396)


مركب من قطع كثيرة، فاشغاله لحيز أكبر من الميزاب لا شك فيه ولا فرق بين ولان الناس يخرجون الرواشن من لدن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يومنا هذا من غير انكار.
اللهم الا ما تحتمه قواعد النظام الذى تأخذ بأسبابه مؤسسات الاسكان والمجالس البلدية في المدن والحواضر في عصرنا هذا الذى يجعل للجناح المتعارض أو البارز من البيت تناسبا مع اتساع الشارع، فان كان الشارع عرضا أو كان ميدانا فسيحا سمح لصاحب البناء من واقع الرسم المرخص به أن يكون الجناح أو الروشن مترا ونصف المتر، وان كان الشارع ضيقا كان البروز أقل، وذلك حتى يتسنى للناس ممارسة شئونهم وانتقالاتهم بأسباب الانتقال الكهربية أو البخارية أو غيرها بدون أن تعترضهم الرواشن والشرفات فتعيق مصالحهم، فدل ذلك كله على أن الاجماع منعقد على جواز ذلك في الحدود والصفات التى يرسم بها الامام أو الحاكم، ولانه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير اضرار فجاز، كما لو مشى في الطريق قال العمرانى في البيان: إذا أخرج جناحا أو روشنا في شارع نافذ فانه لا يملك ذلك المكان وانما يكون أحق به لسبقه إليه، فان انهدم روشنه أو هدمه فبادره من يحاذيه فمد خشبة تمنعه من اعادة الاول لم يكن للاول منعه من ذلك، لان الاول كان أحق به لسبقه إليه، فإذا زال روشنه سقط حقه وكان لمن سبق إليه، كما نقول في المرور بالطريق.
ثم قال: وان أخرج من يحاذيه روشنا تحت
روشنه الاول جاز ولم يكن للاول منعه من ذلك، لانه لا ضرر عليه في ذلك فان أراد الثاني أن يخرج روشنا فوق روشن الاول قال ابن الصباغ: فان كان الثاني عاليا لا يضر بالمار فوق روشن الاول جاز، وان كان يضر بالمار فوق روشن الاول منع من ذلك، كما لو اخرج روشنا يضر بالمار في الشارع، فانه يمنع من ذك.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان صالحه الامام عن الجناح على شئ لم يصح الصلح لمعنيين:
(أحدهما)
أن الهواء تابع للقرار في العقد فلا يفرد بالعقد كالحمل
(والثانى)
أن

(13/397)


ذلك حق له فلا يجوز أن يؤخذ منه عوض على حقه كالاجتياز في الطريق، وإن كان الجناح يضر بالمارة لم يجز.
وإذا أخرجه وجب نقضه، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " ولانه يضر بالمارة في طريقهم فلم يجز كالقعود في المضيق، وإن صالحه الامام من ذلك على شئ لم يجز لمعنيين
(أحدهما)
أن الهواء تابع للقرار فلا بالعقد
(والثانى)
أن ما منع منه للاضرار بالناس لم يجز بعوض كالقعود في المضيق والبناء في الطريق (الشرح) حديث " لا ضرر ولا ضرار " رواه أحمد في مسنده وابن ماجه عن ابن عباس رضى الله عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه، وقد مضى شرحنا له أما الاحكام: فإنه إذا صالحه الامام على هذا الجناح الذى لا يضر بعوض أو برسم من المال يؤديه لينفق من هذا ومثله على تعبيد الطرق ورصف الشوارع، وتيسير الارتفاق على المسلمين فإنه يجوز ذلك، أما إذا صالحه الامام أو أحد المسلمين على مال يؤديه بدون ذلك لم يجز أن يؤخذ عليه عوض لان الهواء تابع
للقرار، كما لا يجوز أن يؤخذ منه عوض على المرور في الطريق، إلا إذا كان يمر في طريق غير مسموح بالمرور فيه في وقت تنظيم المرور لما يؤدى هذا إلى الاضرار به أو بغيره بأن كان يركب سيارة تسير بسرعة زائدة عن الحد المعقول أو المعتاد في شوارع تزدحم بالمارة ووقع الحاكم عليه عقوبة المخالفة حتى لا يعود إلى تعريض سلامته وسلامة غيره للاضرار أو المخاطر فإن ذلك يجوز، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " (فرع)
وإن اراد إخراج روشن أو جناح إلى شارع نافذ يضر بالمار منه لم يجز، فان فعل ذلك أزيل للحديث الشريف، وليس له الانتفاع بالعرصة، وهى ما أمام بيته بما فيه ضرر على المسلمين، بأن يبنى فيها دكة أو يتخذ منها مجلسا له يشغل طريق المارة ويعيقهم فيؤذيهم بذلك، وكذلك ليس له الانتفاع بالهواء بما يضر به عليهم، فإن صالحه الامام أو بعض الرعية على ذلك بعوض لم يصح الصلح لانه افراد الهواء بالعقد، ولان في ذلك اضرار بالمسلمين، وليس للامام أن يفعل ما فيه الحاق الضرر بهم، هكذا قال العمرانى في البيان

(13/398)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويرجع فيما يضر وفيما لا يضر إلى حال الطريق، فان كان الطريق لا تمر فيه القوافل، ولا تجوز فيه الفوارس، لم يجز اخراج الجناح الا بحيث يمر الماشي تحته منتصبا، لان الضرر يزول بهذا القدر، ولا يزول بما دونه، وان كان الطريق تمر فيه القوافل وتجوز فيه الفوارس، لم يجز الا عاليا بمقدار ما تمر العمارية تحته، ويمر الراكب منتصبا.
وقال أبو عبيد بن حربويه: لا يجوز حتى يكون عاليا يمر الراكب ورمحه منصوب، لانه ربما ازدحم الفرسان فيحتاج إلى نصب الرماح، ومتى لم ينصبوا
تأذى الناس بالرماح، والاول هو المذهب، لانهم يمكنهم ان يضعوا أطرافها على الاكتاف غير منصوبة فلا يتأذوا (الشرح) الاحكام: وأما كيفية الضرر، فان ذلك معتبر بالعادة في ذلك الشارع، فان كان شارعا لا تمر فيه القوافل والجيوش والركبان أو التروللى أو الترام فيشترط أن يكون الجناح عاليا بحيث يمر الماشي تحته منتصبا، فان كان الشارع تمر فيه الجيوش أو القوافل أو الركبان أو المركبات الكهربية والبخارية اشترط أن يكون الجناح أعلى بحيث يمر الركبان في السكة بدون عوائق تصطدم بسطح المركبات.
وقال أبو عبيد بن حربويه: يشترط أن يمر الفارس تحته ورمحه منصوب بيده لان الفرسان قد يزدحمون فيحتاجون إلى نصب الرماح.
قال المصنف ردا على ابن حربويه ما يفيد أن هذا ليس بصحيح لانه يمكنه ان يحط رمحه على كتفه.
ولان الرمح لا غاية لطوله.
قوله " العمارية " من وسائل الهجوم في الجيوش الاسلامية في عصر المصنف وهى أشبه بعربة تجرها الجباد مصنوعة من الخشب السميك ومصفحة بالفولاذ ينترس بها المهاجمون.
وقد ترتفع إلى حد يتسلق منها المقاتلون إلى أسوار الحصون.
والعمارة القبيلة.

(13/399)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أخرج جناحا إلى دار جاره من غير إذنه لم يجز.
واختلف أصحابنا في تعليله، فمنهم من قال لا يجوز لانه ارتفاق بما تعين مالكه فلم يجز بغير إذنه من غير ضرورة، كأكل ماله.
ومنهم من قال لا يجوز، لان الهواء تابع للقرار.
والجار لا يملك الارتفاق بقرار دار الجار، فلا يملك الارتفاق بهواء
داره، فإن صالحه صاحب الدار على شئ لم يجز لان الهواء تابع فلا يفرد بالعقد (الشرح) الاحكام: إذا أراد أن يخرج جناحا أو روشنا فوق دار غيره أو شارع جاره بغيره إذنه لم يجز لانه لا يملك الارتفاق بقرار أرض جاره إلا بإذنه فكذلك الارتفاق بهواء أرض جاره، فان صالحه صاحب الدار أو الشارع على ذلك بعوض لم يصح لانه لا يجوز إفراد الهواء بالعقد.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن أخرج جناحا إلى درب غير نافذ نظرت فان لم يكن له في الدرب طريق لم يجز، لما ذكرناه في دار الجار، وان كان له فيه طريق ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفرابنى، لان الهواء تابع للقرار، فإذا جاز أن يرتفق بالقرار بالاجتياز جاز أن يرتفق بالهواء باخراج الجناح
(والثانى)
لا يجوز، وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب رحمه الله لانه موضع تعين ملاكه فلم يجز اخراج الجناح إليه كدار الجار، فان صالحه عنه أهل الدرب، فان قلنا يجوز اخراج الجناح لم يجز الصلح، لما ذكرناه في الصلح على الجناح الخارج إلى الشارع، وان قلنا لا يجوز اخراجه لم يجز الصلح لما ذكرناه في الصلح على الجناح الخارج إلى دار الجار (الشرح) وان أراد أن يخرج جناحا أو روشنا إلى درب غير نافذ وله طريق في هذا الدرب، فان كان يضر بالمارة لم يجز من غير إذن أهل الدرب، كما لا يجوز اخراج جناح يضر إلى شارع نافذ الا إذا أذنوا بذلك أهل الدرب وقال القاضى أبو الطيب " لا يجوز له ذلك بغير اذنهم لانه مملوك لقوم معينين فلم يجز له اخراج الجناح إليهم بغير اذنهم " وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(13/400)


قال المصنف رحمه الله:

(فصل)
وإن أراد أن يعمل ساباطا ويضع أطراف أجذاعه على حائط الجار المحاذي لم يجز ذلك من غير إذنه، لانه حمل على ملك الغير من غير ضرورة فلم يجز من غير إذنه كحمل المتاع على بهيمة غيره، فإن صالحه منه على شئ جاز إذا عرف مقدار الاجذاع، فإن كانت حاضرة نظر إليها، وإن لم تحضر وصفها فإن أراد أن يبنى عليها ذكر سمك البناء، وما يبنى به، فإن أطلق كان ذلك بيعا مؤبدا لمغارز الاجذاع ومواضع البناء، وإن وقت كان ذلك إجارة تنقضي بإنقضاء المدة (الشرح) وإن أراد أن يعمل ساباطا - وهو سقيفة بين حائطين تحتها طريق والجمع سوابيط وساباطات - على جدار جاره وصفته أن يكون له جدار وبحذائه جدار جاره وبينهما شارع، فيمد جذوعا من جداره إلى جدار جاره، فلا يجوز له ذلك إلا باذن جاره، لانه حمل على ملك غيره بغير إذنه، من غير ضرورة فلم يجز كما لو أراد أن يحمل على بهيمة غيره بغير إذنه.
وقولنا: من غير ضرورة احتراز من السقيف على الحائط الرابع لجاره على ما يأتي بيانه، فان صالحه على ذلك بعوض صح الصلح، ولابد أن تكون الاخشاب معلومة إما بالمشاهدة أو بالصفة، فيقول: صالحني على أن أضع هذه الاخشاب بكذا، قال الشيخ أبو حامد: وهكذا إذا قال: خذ منى مالا وأقر لى حقا في أن أضع على جدارك جذوعي هذه أو نصفها، فإذا أقر له بذلك وأخذ العوض جاز.
فان أراد أن يبنى عليها ذكر طول البناء وعرضه وما يبنى به، لان الغرض يختلف بذلك، فان أطلقا ذلك ولم يقدراه بمدة كان ذلك تبعا لمغارز الجذوع، وإن قدرا ذلك بمدة كان إجارة تنقضي بانقضاء المدة، هكذا ذكره الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق والقاضى أبو الطيب أيضا.
وقال ابن الصباغ: لا يكون ذلك بيعا بحال، لان البيع ما يتناول الاعيان،

(13/401)


وهذا الصلح على وضع الخشب لا يملك به الواضع شيئا من الحائط الذى يضع عليه لانه لو كان بيعا لملك جميع الحائط ولكان إذا تهدم يملك أخذ الانقاض، وهذا لا يقوله أحد، قال: فإن قيل إنما يكون بيعا لموضوع الوضع خاصة قيل: لا يصح ذلك لان موضع الوضع محمل بقية الحائط الذى لغيره وتلك منفعة استحقها وإذا بطل أن يكون تبعا كان ذلك إجارة بكل حال.
قال: فإن قيل: فكيف يكون الاجارة إلى مدة غير معلومة؟ فالجواب أن المنفعة يجوز أن يقع العقد عليها في موضع الحاجة غير مقدرة كما يقع عقد النكاح على منفعة غير مقدرة، والحاجة إلى ذلك، لان الخشب وما يشبهه مما يراد للتأبيد، ويضر به التقدير، بخلاف سائر الاجارات، ولان سائر الاعيان لو جوزنا فيها عقد الاجارة على التأبيد بطل فيها معنى الملك، وها هنا وضع الخشب على الحائط لا يمنع مالكه أن ينتفع به منفعة مقصودة، والاول أصح، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: ولو اشترى علو بيت على أن يبنى على جدرانه ويسكن على سطحه أجزت ذلك إذا سميا منتهى البنيان، لانه ليس كالارض في احتمال ما يبنى عليها.
إذا ثبت هذا: فان أقر صاحب الحائط لصاحب الخشب أن له حق الوضع على جداره لزم ذلك في الحكم.
فان تقدمه صلح لزم ظاهرا وباطنا وان لم يتقدمه صلح لزم في الظاهر دون الباطن والله تعالى أعلم.
وقال أصحاب أحمد: لا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحا، وهو الروش سواء كان ذلك يضر بالمارة أو لا يضر، وسواء أذن الامام أو لم يأذن، ولا يجوز الساباط من باب الاولى، ولو كان الحائط ملكه.
وقال ابن عقيل من الحنابلة.
ان لم يكن فيه ضرر جاز باذن الامام لانه نائبهم
فجرى اذنه مجرى اذن المشتركين في الدرب ليس بنافذ وهذا القول ضعيف عندهم لان الضرر لابد أن يتحقق ولو بحجب الضوء عن الطريق، أو الهواء، وليس كالجلوس أو المرور فانهما طارئان.
وقال أبو حنيفة يجوز من ذلك مالا ضرر فيه، وان عارضه رجل من المسلمين وجب قلعه.

(13/402)


وقال مالك والاوزاعي واسحاق وأبو يوسف ومحمد والشافعي رضى الله عنهم يجوز ذلك إذا لم يضر بالمارة، ولا يملك أحد منعه، لانه ارتفق بما لم يتعين ملك أحد فيه من غير مضرة، فكان جائزا كالمشئ في الطريق والجلوس فيها.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز أن يفتح كوة، ولا يسمر مسمارا في حائط جاره الا باذنه، ولا في الحائط المشترك بينه وبين غيره الا باذنه.
لان ذلك يوهى الحائط ويضر به، فلا يجوز من غير اذن مالكه، ولا يجوز أن يبنى على حائط جاره ولا على الحائط المشترك شيئا من غير اذن مالكه ولا على السطحين المتلاصقين حاجزا من غير اذن صاحبه.
لانه حمل على ملك الغير فلم يجز من غير اذن كالحمل على بهيمته، ولا يجوز أن يجرى على سطحه ماء من غير اذنه، فان صالحه منه على عوض جاز، إذا عرف السطح الذى يجرى ماؤه لانه يختلف ويتفاوت.
(الشرح) الاحكام: لا يجوز أن يفتح كوة، ولا يدق وتدا في حائط الجار ولا في الحائط المشترك بينه وبين غيره عن غير اذن، لان ذلك يضعف الحائط، ولا يجوز أن يبنى عليه من غير اذن كما لا يجوز أن يحمل على بهيمة غيره بغير اذنه.
(فرع)
ولا يجوز أن يجرى الماء في أرض غيره ولا على سطحه بغير اذنه
هذا قوله في الجديد، وقال في القديم: إذا ساق رجل عينا أو بئرا فلزمته مؤنة ودعته الضرورة إلى اجرائه في ملك غيره ولم يكن على المجرى في ملكه ضرر بين فقد قال بعض أصحابنا يجبر عليه، فأوما إلى أنه يجبر لما روى أن الضحاك ومحمد ابن مسلمة اختلفا في خليج أراد الضحاك أن يجريه في أرض محمد بن مسلمة فامتنع فترافعا إلى أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه فقال: والله لامرنه ولو على بطنك.
قال العمرانى.
والاول هو المشهور في المهذب للشيخ أبى اسحاق، لانه حمل على ملك غيره فلم يجز من غير اذنه، كالحمل على بهيمته قال.
وأما الخبر فيحتمل أنه كان له رسم اجراء الماء في أرضه فامتنع منه فلذلك أجبره أمير المؤمنين على ذلك

(13/403)


(قلت) فإذا صالح رجلا على موضع قناة من أرضه يجرى فيها ماء وبينا موضعها وعرضها وطولها جاز، لان ذلك بيع موضع من أرضه، ولا حاجة إلى بيان عمقه، لانه إذا ملك الموضع كان له إلى تخومه، فله أن يترك فيه ما شاء، وإن صالحه على إجراء الماء في ساقية من أرض رب الارض مع بقاء ملكه عليها فهذا إجارة للارض فيشترط تقدير المدة لان هذا شأن الاجارة فان كانت الارض في يد رجل بإجارة جاز أن يصالح رجلا على إجراء الماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تجاوز مدة إجارته، وإن لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك، لانه لا يجوز إحداث ساقية في أرض في يده باجارة.
فأما إن كانت الارض في يده وقفا عليه فهو كالمستأجر، له أن يصالح على اجراء الماء في ساقية محفورة في مدة معلومة، وليس له أن يحفر فيها ساقية لانه لا يملكها إنما يستوفى منفعتها كالارض المستأجرة سواء وقال أصحاب أحمد: يجوز له حفر الساقية لان الارض له وله التصرف فيها كيفما شاء ما لم ينقل الملك إلى غيره، بخلاف المستأجر فانه إنما يتصرف فيها بما
أذن له فيه، فكان الموقوف عليه بمنزلة المستأجر إذا أذن له في الحفر، فان مات الموقوف عليه في أثناء المدة، فهل لمن انتقل إليه فسخ الصلح فيما بقى من المدة؟ على وجهين.
(فرع)
إذا ادعى على رجل مالا فأقر له به ثم قال صالحني فيه على أن أعطيك مسيل ماء في ملكى، قال الشافعي رضى الله عنه " فان بينا الموضع وقدر الطول والعرض صح، لان ذلك بيع لموضع من أرضه ولا يحتاجان ان يبينا عمقه لانه إذا ملك الموضع كان له النزول إلى تخومه، وهل يملك المدعى عليه هذه الساقية فيه وجهان حكاهما الصيدلانى
(أحدهما)
يملكها تبعا للارض
(والثانى)
لا يملكها فعلى هذا لا يمنع مالك الارض من بناء فوق المسيل قال ابن الصباغ وان صالحه على أن يجرى الماء في ساقية في أرض للمصالح قال في الام فان هذا اجارة يفتقر إلى تقدير المدة.
قال أصحابنا انما يصح إذا كانت الساقية محفورة، فإذا لم تكن محفورة لم يجز لانه لا يمكن المستأجر من اجراء

(13/404)


الماء الا بالحفر، فليس له الحفر في ملك غيره، لان ذلك اجارة لساقية غير موجودة، فان حفر الساقية وصالحه جاز قال العمرانى " وان كانت الارض في يد المقر باجارة جاز له أن يصالحه على اجراء الماء في ساقية فيها محفورة مدة لا تجاوز مدة اجارته، وان لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك، لانه لا يجوز له احداث ساقية في أرض في يده باجارة، وكذلك إذا كانت الارض وقفا عليه جاز أن يصالحه على إجراء الماء في ساقية في أرض في يده وان أراد أن يحفر ساقية لم يكن له ذلك لانه لا يملكها، وانما له أن يستوفى منفعتها كالارض المستأجرة، وان صالحه على اجراء الماء على سطحه جاز إذا
كان السطح الذى يجرى ماؤه فيه معلوما، لان الماء يختلف بكبر السطح وصغره وقال ابن الصباغ ولا يحتاج إلى ذكر المدة، ويكون ذلك فرعا للاجارة لان ذلك لا يستوفى به منافع السطح بخلاف الساقية فانه يستوفى منفعتها فكانت مدتها مقدرة ولانهما يختلفان أيضا فان الماء الذى يجرى في الساقية لا يحتاج إلى تقدير لانه لا يجرى فيها أكثر من ملئها، ويحتاج إلى ذكر السطح الذى يجرى منه لانه يجرى فيه القليل والكثير.
وان صالحه على أن يسقى زرعه أو ماشيته من مائه سقية أو سقيتين لم يصح، لان القدر من الماء الذى يسقى به الزرع والماشية مجهول، فان صالحه على ربع العين أو ثلثها صح كما قلنا في البيع
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وفى وضع الجذوع على حائط الجار والحائط بينه وبين شريكه قولان، قال في القديم " يجوز " فإذا امتنع الجار أو الشريك اجبر عليه إذا كان الجذع خفيفا لا يضر بالحائط، ولا يقدر على التسقيف الا به.
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره " قال أبو هريرة رضى الله عنه " انى لاراكم عنها معرضين، والله لارمينها بين أظهركم " ولانه إذا وجب بذل فضل الماء للكلا لاستغنائه عنه وحاجة غيره وجب بذل فضل

(13/405)


الحائط لاستغنائه عنه وحاجة جاره.
وقال في الجديد: لا يجوز بغير إذن، وهو الصحيح: لقوله صلى الله عليه وسلم " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه " ولانه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة فلا يجوز بغير اذنه كالحمل على بهيمته، والبناء في أرضه، وحديث أبى هريرة تحمله على الاستحباب.
وأما الماء فإنه غير مملوك في قول بعض أصحابنا.
والحائط مملوك، ولان الماء لا تنقطع
مادته، والحائط بخلافه.
فان كان الجذع ثقيلا يضر بالحائط لم يجز وضعه من غير اذنه قولا واحدا، لان الارتفاق بحق الغير لا يجوز مع الاضرار، ولهذا لا يجوز أن يخرج إلى الطريق جناحا يضر بالمارة.
وان كان لا حاجة به إليه لم يجبر عليه، لان الفضل انما يجب بذله عند الحاجة إليه، ولهذا يجب بذلك فضل الماء عند الحاجة إليه للكلا ولا يجب مع عدم الحاجة.
فان قلنا يجبر عليه فصالح منه على مال لم يجز، لان من وجب له حق لا يؤخذ منه عوضه، وان قلنا: لا يجبر عليه فصالح منه على مال جاز على ما بيناه في أجذاع الساباط.

(فصل)
وإذا وضع الخشب على حائط الجار أو الحائط المشترك، وقلنا انه يجبر في قوله القديم، أو صالح عنه على مال في قوله الجديد فرفعه جاز له أن يعيده، فان صالحه صاحب الحائط عن حقه بعوض ليسقط حقه من الوضع جاز لان ما جاز بيعه جاز ابتياعه كسائر الاموال.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه، وقد أخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي وأحمد والطبراني وعبد الرزاق من طريق ابن عباس بلفظ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يضع خشبة في حائط جاره، وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع " وأخرجه أحمد وابن ماجه أيضا من حديث عكرمة بن سلمة بن ربيعة " أن أخوين من بنى المغيرة أعتق أحدهما أن

(13/406)


لا يغرز خشبا في جداره، فلقيا مجمع بن يزيد الانصاري ورجالا كثيرا فقالوا: نشهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبا في
جداره، فقال الحالف: أي أخى قد علمت أنك مقضى لك على، وقد حلفت فاجعل اسطونا دون جدارى ففعل الآخر، فغرز في الاسطوان خشبة " وهو أيضا عند ابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبى سعيد، وعند البيهقى من طريق عبادة.
وعند الطبراني في الكبير وأبى نعيم من حديث ثعلبة بن مالك القرظى، وما جاء في بعض ألفاظه من جعل الطريق سبعة أذرع ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة، وعكرمة بن سلمة بن ربيعة مجهول وقوله " لا يمنع " بالجزم على النهى.
وفى رواية لاحمد " لا يمنعن " وفى لفظ للبخاري بالرفع على الخبرية، وهى في معنى النهى.
وقوله " خشبة " قال القاضى عياض رويناه في مسلم وغيره من الاصول بصيغة الجمع والافراد، ثم قال: وقال عبد الغنى بن سعيد: كل الناس تقوله بالجمع الا الطحاوي، فانه قال عن روح بن الفرج.
سألت أبا زيد والحرث بن بكير ويونس بن عبد الاعلى عنه.
فقالوا كلهم خشبة بالتنوين، ورواية مجمع تشهد لمن رواه بلفظ الجمع.
ويؤيدها أيضا ما رواه البيهقى من طريق شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ " إذا سأل أحدكم جاره أن يدعم جذوعه على حائطه فلا يمنعه ".
قال القرطبى وانما اعتنى هؤلاء الائمة بتحقيق الرواية في هذا الحرف، لان أمر الخشبة الواحدة يخف على الجار المسامحة به بخلاف الاخشاب الكثيرة أما الاحكام فان هذه الاحاديث تدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جداره، ويجبره الحاكم إذا امتنع وبهذا قال الشافعي في القديم وأحد قولى الجديد، وأحمد واسحاق وابن حبيب من المالكية وأهل الحديث وقال الشافعي في أحد قولى الجديد والحنفية ومالك والجمهور من الفقهاء انه يشترط اذن المالك، ولا يجبر صاحب الجدار إذا امتنع، وحملوا النهى على
التنزيه جمعا بينه وبين الادلة القاضية بأنه " لا يحل مال امرئ " مسلم الا بطيبة من نفسه "

(13/407)


وأجيب بأن هذا الحديث أخص من تلك الادلة مطلقا فيبنى العام على الخاص قال البيهقى: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن يخصها.
وحمل بعضهم الحديث على ما إذا تقدم استئذان الجار، كما وقع في رواية لابي داود بلفظ " إذا استأذن أحدكم أخاه " وفى رواية لاحمد " من سأله جاره " وكذا في رواية لابن حبان، فإذا تقدم الاستئذان لم يكن للجار المنع، لا إذا لم يتقدم، وبهذا يصح الجمع بين الاحاديث العامة والخاصة، والمطلقة والمقيدة والله تعالى أعلم.
والمذهب انه إذا أراد رجل أن يضع أجذاعه على حائط جاره أو حائط مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه، فإن كان به إلى ذلك حاجة، مثل أن يكون له براح من الارض ويحيط له بالبراح ثلاثة جدر ولجاره أو شريكه جدار رابع، أو أراد صاحب الجدر الثلاثة أن يضع عليها سقفا فهل يجبر صاحب الجدار الرابع على تمكينه من ذلك، فيه قولان قال في القديم: يجبر إذا كان ما يضعه لا يضر بالحائط ضررا بينا.
وبه قال أحمد وغيره ممن مضى ذكرهم لحديث أبى هريرة الذى نكس فيه القوم رؤوسهم، فقال أبو هريرة: مالى أراكم عنها معرضين، والله لارمينها بين أظهركم، يعنى هذه السنة التى أنتم عنها معرضون.
فإذا قلنا بهذا فلم يبذل الجار له أجبره الامام أن يضع خشبه على جداره.
وقال في الجديد: لا يجبر على ذلك.
قال العمرانى: وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة لحديث " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه " ولانه انتفاع
بملك غيره من غير ضرورة فلم يجز من غير إذنه، كزراعة أرضه والبناء في أرضه (قلت) قد ذهب المصنف إلى أن للخبر تأويلين
(أحدهما)
أنه محمول على الاستحباب
(والثانى)
أن معناه إذا أراد الرجل أن يضع خشبة على جدار له لاخراج روشن أو شرفة أو جناح إلى شارع نافذ فليس لجاره المحاذي له أن يمنعه من ذلك، لانه قال: لا يمنع أحدكم جاره ان يضع خشبه على جداره، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو الجار.

(13/408)


فأما إذا أراد أن يبنى على الحائط أو يضع عليه خشبا يضر به ضررا بينا أو جدار آخر يمكنه أن يسقف عليه، لم يجبر الجار قولا واحدا، فإذا قلنا بقوله في الجديد فأعاره صاحب الحائط فوضع الخشب عليه لم يكن لصاحب الحائط أن يطالبه بقلعه، لان اذنه يقتضى البقاء على التأبيد، فان قلع المستعير خشبه أو سقطت فهل له أن يعيد مثلها؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
له ذلك، لانه قد استحق دوام بقائها.

(والثانى)
ليس له بغير اذن مالك الحائط وهو الصحيح، لان السقف إذا سقط فلا ضرر على المعير في الرجوع.
وان أراد صاحب الحائط هدم حائطه، فإن لم يكن مستهدما لم يكن له ذلك، لان المستعير قد استحق تبقية خشبه عليه، وان كان مستهدما فله ذلك، وعلى صاحب الخشب نقله، فإذا أعاد صاحب الحائط حائطه - فان بناه بمادة أخرى - لم يكن لصاحب الخشب اعادة خشبه من غير اذنه، لان هذا الحائط غير الاول.
وقال الحنابلة: يجوز اعادة وضعه بغير اذنه.
وان بناه بمادته الاولى بعينها بأن كانت عضادته خشبا فأقامه أو حجرا فرصه، فهل له أن يعيد خشبه بغير اذن على الوجهين الاولين، فان صالحه بمال ليضع أجذاعه على جداره في قوله الجديد
أو قلنا يجبر الجار على تمكينه من وضعها على القديم فصالح مالك الجدار مالك الخشب ليضع عن جداره الخشب صح الصلح، لان ما صح بيعه صح ابتياعه كسائر الاموال، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان كان في ملكه شجرة فاستعلت وانتشرت أغصانها وحصلت في دار جاره جاز للجار مطالبته بازالة ما حصل في ملكه، فان لم يزله جاز للجار ازالته عن ملكه، كما لو دخل رجل إلى داره بغير اذنه، فان له أن يطالبه بالخروج، فان لم يخرج أخرجه، فان صالحه منه على مال فان كان يابسا لم يجز لانه عقد على الهواء، والهواء لا يفرد بالعقد، وان كان رطبا لم يجز لما ذكرناه ولانه صلح على مجهول، لانه يزيد في كل وقت.

(13/409)


(الشرح) الاحكام: إذا كانت له شجرة في ملكه فانتشرت أغصانها فوق ملك جاره فللجار أن يطالب مالك الشجرة بازالة ما انتشر فوق ملكه لان الهواء تابع للقرار، وليس له أن ينتفع بقرار أرض جاره بغير اذنه، فكذلك هواء أرض جاره، فان لم يزل مالك الشجرة ذلك فللجار أن يزيل ذلك عن هواء أرضه بغير اذن الحاكم كما لو دخلت بهيمة لغيره إلى أرضه فله أن يخرجها بنفسه وقال أصحاب أحمد: إذا امتنع المالك من ازالته لم يجبر لان ذلك ليس من فعله، وعلى كلا الامرين إذا امتنع من ازالته كان لصحاب الهواء ازالته مع عدم الاتلاف، فإذا أتلف شيئا ضمنه كما لو دخلت البهيمة داره فعليه اخراجها بغير اتلاف فإذا أتلفها ضمنها، فان لم يمكنه ازالتها الا بالاتلاف فلا شئ عليه لانه لا يلزمه اقرار مال غيره في ملكه.
قال العمرانى في البيان: ينظر فيه فان كان ما انتشر لينا يمكنه أن يزيل ذلك
عن ملكه من غير قطع، لواه عن ملكه، فان قطعه لزمه أرش ما نقصت الشجرة بذلك لانه متعد بالقطع، وان كان يابسا لا يمكنه ازالة ذلك عن ملكه الا بقطعه فله أن يقطع ذلك ولا ضمان عليه اه.
(قلت) فان صالحه على اقرارها بعوض معلوم، فان كان غير معتمد على حائطه لم يجز ذلك لانه افراد للهواء بالعقد ان كان يابسا، وان كان رطبا لم يجز أيضا لهذه العلة، ولانه يزيد في كل وقت بنمو الاغصان.
وقال أصحاب أحمد كابن حامد وابن عقيل وابن قدامة: يجوز ذلك رطبا كان الغصن أو يابسا، لان الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض فانه يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه، لان الحاجة داعية إلى الصلح عنه لكون ذلك يكثر في الاملاك المتجاورة في القطع اتلاف وضرر قالوا: والزيادة المتجددة يعفى عنها كالسمن الحادث في المستأجر للركوب.
(قلت) والصلح لا يجوز عندنا الا في حالة ما إذا كان الغصن يابسا معتمدا على حائط الجار كما لو صالحه على وضع خشبة على حائطه، وأما الرطب فانه يمكن ليه، ويمكن تهذيبه.

(13/410)


(فرع)
إذا كان سطح داره أعلا من سطح دار جاره لم يجبر من علا سطحه على بناء سترة.
وقال أحمد رضى الله عنه: يجبر من علا سطحه على بناء سترة، لانه إذا صعد سطحه أشرف على دار جاره، والانسان ممنوع من الانتفاع بملكه على وجه يستضر به غيره، كما لا يجوز أن يدق في ملكه ما يهتز به حائط جاره.
دليلنا: أنه حاجز بين ملكيهما فلا يجبر أحدهما على ستره كالاسفل وما ذكره فغير صحيح، لان الاعلى ليس له أن يشرف على الاسفل، وإنما يستضر الاسفل بالاشراف عليه دون انتفاعه بملكه، ويخالف الدق، لانه يضر بملك جاره،
قاله في البيان.
(فرع)
قال الشيخ أبو حامد الاسفرايينى: يجوز للانسان أن يفتح في ملكه كوة مشرفة على جاره، وعلى جسر عليه، ولا يجوز للجار منعه لانه لو أراد رفع جميع الحائط لم يمنع فكذلك إذا رفع بعضه لم يمنع اه.
(قلت) إلا إذا ترتب على ذلك إضرار بجاره وإزالة للجدار الفاصل بين المسكنين مما يترتب عليه كشف سوءات البيت أو تعريض المال للضياع أو زوال صفة الصلاحية للسكنى أجبر على إزالة ذلك فان كان كوة سدها، وإن كان جدارا أقامه، وسيأتى مزيد لذلك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن كان لرجل في زقاق لا ينفذ دار، وظهرها إلى الشارع ففتح بابا من الدار إلى الشارع جاز، لان له حق الاستطراق في الشارع فجاز أن يفتح إليه بابا من الدار، وان كان باب الدار إلى الشارع وظهرها إلى الزقاق ففتح بابا من الدار إلى الزقاق نظرت، فإن فتحه ليستطرق الزقاق لم يجز لانه يجعل لنفسه حتى الاستطراق في درب مملوك لاهله لا حق له في طريق، فان قال: أفتحه ولا أجعله طريقا، بل أغلقه وأسمره، ففيه وجهان.

(أحدهما)
أن له ذلك، لانه إذا جاز له أن يرفع جميع حائط الدار، فلان يجوز أن يفتح فيه بابا أولى.

(والثانى)
لا يجوز، لان الباب دليل على الاستطراق، فمنع منه، وان فتح

(13/411)


في الحائط كوة إلى الزقاق جاز، لانه ليس بطريق ولا دليل عليه، فان كان له داران في زقاقين غير نافذين، وظهر كل واحدة من الدارين إلى الاخرى، فأنفذ احدى الدارين إلى الاخرى ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجوز، لانه يجعل الزقاقين نافذين، ولانه يجعل لنفسه الاستطراق من كل واحد من الزقاقين إلى الدار التى ليست فيه، ويثبت لاهل كل واحد من الزقاقين الشفعة في دور الزقاق الآخر على قول من يوجب الشفعة بالطريق
(والثانى)
يجوز، وهو اختيار شيخنا القاضى رحمه الله، لان له أن يزيل الحاجز بين الدارين، ويجعلهما دارا واحدة، ويترك البابين على حالهما، فجاز أن ينفذ احداهما إلى الاخرى.
(الشرح) الاحكام: إذا كان لرجل دار في زقاق غير نافذ وظهر الدار إلى شارع عام فأراد أن يفتح بابا في ظهر بيته إلى الشارع فإن فتحه وسد الباب الذى في الزقاق جاز له ذلك قولا واحدا، أما إذا أبقى الباب الذى في الزقاق نظرت فإذا جعله لاستطراق المارة من الشارع إلى الزقاق لم يجز له ذلك، لان الدرب مملوك لاهله لا يعبر أحد أجنبي من زقاقهم، فإذا استأذن أصحاب الزقاق وقال لهم أفتحه ولا أجعله طريقا، بل أجعل بابى ذا أقفال وترابيس لا يمر فيه الا أهل بيتى وضيفاني ففيه وجهان.

(أحدهما)
يجوز، لانه إذا جاز أن يهدم الحائط جاز له أن يهدم بعضه.

(والثانى)
لا يجوز، لان الباب ثغرة يمكن أن يستدل منها المارة على الاستطراق إلى الزقاق فمنع منه.
وقال الحنابلة: يجوز له ذلك قولا واحدا، ولانه يرتفق بما لم يتعين ملك أحد عليه وعلى القول بالجواز ان قيل: في هذا اضرار بأهل الدرب، لانه يجعله نافذا يستطرق إليه من الشارع (قلنا) لا يصير نافذا، وانما تصير داره نافذة، وليس لاحد استطراق داره، فاما ان كان باب داره إلى الشارع، وليس له باب إلى الدرب فأراد أن يفتح بابا في ظهر داره إلى الزقاق للاستطراق لم يكن له ذلك،

(13/412)


لانه ليس له حق في الدرب الذى قد تعين ملك أربابه، ويحتمل الجواز كما ذكرنا في الوجه الذى تقدم.
(فرع)
إذا أراد أن يفتح إلى الدرب كوة أو شباكا لم يمنع منه، لانه يتصرف في ملكه، وربما أراد ذلك للهواء أو النور أو الشمس.
(فرع)
فإن كان لرجل داران وباب كل واحدة منهما إلى زقاق غير نافذ وظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الاخرى، فإن أراد صاحب الدارين رفع الحائط بينهما وجعلهما دارا واحدة جاز، وإن أراد أن يفتح من أحدهما بابا إلى الاخرى ليدخل من كل واحدة من الدارين إلى الاخرى، ويدخل من كل واحدة من الدارين ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا أنه لا يجوز، لانه يجعل لكل واحدة من الدارين طريقا من كل واحدة من الدارين، ويجعل الدار كالدرب الواحد، ولانه يثبت الشفعة لكل واحد من الدربين لاهل الدرب الآخر في قول من يثبت الشفعة في الدار لاشتراكهما في الطريق، وهذا لا يجوز.
وقال القاضى أبو الطيب: يجوز، لانه يجوز له أن يرفع الحائط كله، فجاز له أن يفتح فيه بابا.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
إذا كان لداره باب في وسط درب لا ينفذ، فأراد أن ينقل الباب نظرت فإن أراد نقله إلى أول الدرب جاز له لانه يترك بعض حقه من الاستطراق وإن أراد أن ينقله إلى آخر الدرب ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجوز، لانه يريد أن أن يجعل لنفسه حق الاستطراق في موضع لم يكن له
(والثانى)
يجوز، لان حقه ثابت في جميع الدرب، ولهذا لو أرادوا قسمته كان له حق في جميعه، فإن كان بابه في آخر الدرب وأراد أن ينقل الباب إلى وسطه، ويجعل إلى عند الباب دهليزا - إن قلنا: ان من بابه في وسط
الدرب - يجوز أن يؤخره إلى آخر الدرب، لم يجز لهذا أن يقدمه، لانه مشترك بين الجميع، فلا يجوز أن يختص به، وان قلنا: لا يجوز جاز لهذا أن يقدمه لانه يختص به.

(13/413)


(الشرح) الاحكام: إذا كان لرجلين داران في زقاق غير نافذ وباب دار أحدهما قريب من أول الدرب، ولداره فناء يمتد إلى آخر الدرب، وباب دار الآخر في وسط الدرب، فان أراد من باب داره قريب من أول الدرب أن يقدم بابه إلى أول الدرب جاز لانه يترك بعض ما كان له من استحقاق، وإن أراد أن يؤخر بابه إلى داخل الدرب الذى له فناء داره هناك ففيه وجهان
(أحدهما)
له ذلك لان فناء داره يمتد فكان له تأخير بابه إلى هناك، ولان له يدا في الدرب، فكان الجميع في يدهما
(والثانى)
ليس له ذلك وهو الصحيح، لانه يريد أن يجعل لنفسه الاستطراق في موضع لم يكن له وإن أراد من باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه.
قال الشيخ أبو حامد فان أراد أن يقدمه إلى الموضع الذى لا فناء لصاحبه فيه كان له ذلك وجها واحدا وإن أراد أن يقدمه إلى الموضع الذى لصاحبه هناك فناء فهل له ذلك؟ يبنى على الوجهين الاولين.
فإن قلنا ليس لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه فلمن باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه وهو الصحيح.
وإن قلنا لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه إلى وسط الدرب، فليس لمن باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه إلى فناء دار جاره وقال ابن الصباغ: ينبغى له أن يقدم بابه في فنائه إلى فناء صاحبه وجها واحدا لانه انما يفتح الباب في فناء نفسه، ولا حق له فيما جاوز ذلك
وقال أصحاب أحمد: إذا كان لرجلين بابان في زقاق غير نافذ أحدهما قريب من باب الزقاق والآخر في داخله، فللقريب من الباب نقل بابه إلى ما يلى باب الزقاق، لان له الاستطراق إلى بابه القديم، فقد نقص من استطراقه، ومتى أراد رد بابه إلى موضعه الاول جاز لان حقه لم يسقط، وإن أراد نقل بابه تلقاء صدر الزقاق لم يكن له ذلك.
قال ابن قدامة نص عليه أحمد اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا كان بين رجلين حائط مشترك فانهدم، فدعا أحدهما صاحبه إلى العمارة وامتنع الآخر، ففيه قولان، قال في القديم يجبر لانه إنفاق على

(13/414)


مشترك يزول به الضرر عنه وعن شريكه فأجبر عليه كالانفاق على العبد.
وقال في الجديد: لا يجبر لانه إنفاق على ملك لو انفرد به لم يجب، فإذا اشتركا لم يجب كزراعة الارض.
فإن قلنا بقوله القديم أجبر الحاكم الممتنع على الانفاق، فان لم يفعل وله مال باعه وأنفق عليه، فإن لم يكن له مال اقترض عليه وأنفق عليه، فإذا بنى الحائط كان بينهما كما كان.
ومن له رسم خشب أو غيره أعاده كما كان.
وإن أراد الشريك أن يبنيه لم يمنع منه، لانه يعيد رسما في ملك مشترك فلم يمنع منه، كما لو كان على الحائط رسم خشب فوقع، فإن بنى الحائط من غير إذن الحاكم نظرت فإن بناه بآلته ونقضه معا عاد الحائط بينهما كما كان برسومه وحقوقه لان الحائط عاد بعينه وليس للبانى فيه إلا أثر في تأليفه، وإن بناه بغير آلته كان الحائط للبانى، لا يجوز لشريكه أن ينتفع من غير اذنه، فإن أراد البانى نقضه كان له ذلك لانه ملكه لا حق لغيره فيه فجاز له نقضه، فان قال له الممتنع لا تنقض وأنا أعطيك نصف القيمة لم يجز له نقضه، لان على هذا القول يجبر على البناء.
فإذا بناه أحدهما وبذل له الآخر نصف القيمة وجب تبقينه وأجبر عليه، كما أجبر
على البناء.
وإن قلنا بقوله الجديد فأراد الشريك أن يبنيه لم يمنع، لانه يعيد رسما في ملك مشترك وهو عرصة الحائط فلم يمنع منه، فان بناه بآلته فهو بينهما، ولكل واحد منهما أن ينتفع به ويعيد ماله من رسم خشب.
وان بناه بآلة أخرى فالحائط له، وله أن يمنع الشريك من الانتفاع به، وان أراد نقضه كان له، لانه لا حق لغيره فيه.
فان قال له الشريك لا تنقضه وأنا أعطيك نصف القيمة لم يمنع من نقضه، لان على هذا القول لو امتنع من البناء في الابتداء لم يجبر.
فإذا بناه لم يجبر على تبقيته.
وان قال: قد كان لى عليه رسم خشب وأعطيك نصف القيمة وأعيد رسم الخشب، قلنا للبانى: اما أن تمكنه من اعادة رسمه وتأخذ نصف القيمة.
واما أن تنقضه ليبنى معك، لان القرار مشترك بينهما، فلا يجوز أن يعيد رسمه، ويسقط حق شريكه.

(13/415)


(الشرح) الاحكام: إذا كان بينهما حائط مشترك فانهدم أو هدماه، فدعا أحدهما إلى بنائه وامتنع الآخر، فهل يجبر الممتنع؟ فيه قولان.
هكذا لو كان بينهما نهر عظيم، أو بئر فاجتمع فيه الطين، فهل يجبر الممتنع من كسحها على ذلك؟ فيه قولان.
وقال أبو حنيفة: لا يجبر الممتنع على بناء الحائط، ويجبر على كسح النهر والبئر.
وقال أحمد لا يجبر على البناء لانه إذا كان الممتنع مالكه لم يجبر على البناء في ملكه المختص به، وإن كان الممتنع الآخر لم يجبر على بناء ملك غيره ولا المساعدة فيه.
وقال مالك وأبو ثور: وأحد القولين عندنا يجبر قال العمرانى في البيان: وعندنا الجميع على قولين - وهو يعنى بالجميع الحائط
والبئر والنهر في البناء وكسح الطين قال في القديم: يجبر الممتنع منهما.
وبه قال مالك رحمه الله تعالى.
واختاره ابن الصباغ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " فإذا لم يجبر الممتنع أضررنا بشريكه، ولانه إنفاق على ملك مشترك لازالة الضرر فأجبر الممتنع منهما، كالانفاق على الحيوان المشترك.
وقال في الجديد: لا يجبر الممتنع، لانه إنفاق على ملك لو انفرد بملكه لم يجبر عليه، فإذا كان مشاركا لغيره لم يجبر عليه، كما لو كان بينهما براح من الارض لا بناء عليه فدعا أحدهما الآخر إلى البناء فامتنع فانه لا يجبر، وعكس ذلك البهيمة والعبد المشتركين، لما لزم صاحبه الانفاق عليه عند الانفراد بملكه أجبر على الانفاق عليه إذا شارك غيره.
وأما الخبر فلا حجة فيه، لانا لو أجبرنا الشريك لاضررنا به، والضرر لا يزال بالضرر، فإذا قلنا بقوله القديم فطالب الشريك شريكه بالبناء لزمه الانفاق معه بقسط ما يملك من الحائط، فان امتنع أجبره الحاكم، فإن كان له مال أخذ الحاكم منه وأنفق عليه ما يخصه، وإن كان معسرا اقترض له الحاكم من الشريك أو من غيره.
وإن بناه الشريك بإذن الحاكم أو بإذن الممتنع كان الحائط ملكا بينهما كما كان

(13/416)


ويرجع الذى بناه على شريكه بحصته من النفقة، وان بناه بغير اذن شريكه لا ان الحاكم لم يرجع بما أنفق، لانه متطوع بالانفاق، ثم ينظر فان بنى الحائط بآلته ومادته الاولى كان ملكا بينهما كما كان، لان المنفق انما أنفق على التأليف، وذلك أثر لا عين يملكها.
وان أراد الذى بناه نقضه لم يكن له ذلك لان الحائط ملك لهما، وان بنى له بآلة أخرى كان الحائط للذى بناه، وله أن يمنع شريكه من
الارتفاق به، فان أراد الذى بناه نقضه كان له ذلك لانه منفرد بملكه وان قال له الممتنع لا تنقض وأنا أدفع ما يخصنى من النفقة أجبر الذى بناه على التبقية، لانه لما أجبر الشريك على البناء أجبر الذى بنى على التبقية ببذل النفقة وان كان بينهما نهر أو بئر وأنفق أحدهما بغير اذن شريكه أو اذن الحاكم فانه لا يرجع بما أنفق، وليس له أن يمنع شريكه من نصيبه من الماء، لان الماء ينبع في ملكيهما، وليس له الا نقل الطين، وذلك أثر لا عين بخلاف الحائط.
وان قلنا بقوله الجديد لم يجبر الممتنع منهما.
فان أراد أحدهما بناءه لم يكن للآخر منعه من ذلك لانه يزول به الضرر عن الثاني، فان بناه بآلته كان الحائط ملكا لهما كما كان، فلو أراد الذى بناه أن ينقضه لم يكن له ذلك لان الحائط ملكهما، فهو كما لو لم ينفرد ببنائه.
وان بناه بآلة له فهو ملك الذى بناه وله أن يمنع شريكه من الارتفاق به.
فان أراد الذى بناه أن ينقضه كان له ذلك لانه ملك له ينفرد به، فان قال له الممتنع: لا تنقض وأنا أدفع اليك ما يخصنى من النفقة لم يجبر الذى بنى على التبقية لانه لما لم يجبر على البناء في الابتداء لم يجبر على التبقية في الانتهاء فإن طالب الشريك الممتنع بنقضه لم يكن له ذلك الا أن يكون له خشب فيقول له اما أن تأخذ منى ما يخصنى من النفقة وتمكنني من وضع خشبي أو تقلع حائطك لنبنيه جميعا فيكون له ذلك لانه ليس للذى بناه ابطال رسوم شريكه، هذا إذا انهدم أو هدماه من غير شرط البناء.
فأما إذا هدماه على أن يبنيه أحدهما، أو هدمه أحدهما متعديا.
قال الشافعي رضى الله عنه أجبرته على البناء واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال هي على قولين، كما لو هدماه من غير شرط

(13/417)


والذى نص عليه الشافعي رضى الله عنه إنما هو على القول القديم، وهو اختيار
المحاملى، لان الحائط لا يضمن بالمثل، ومنهم من قال يجبر قولا واحدا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ في الجديد، ولانه هدمه بهذا الشرط فلزمه الوفاء به.
(فرع)
وإن كان الحائط بينهما نصفين فهدماه أو انهدم ثم اصطلحا على أن يبنياه وينفقا عليه بالسوية ويكون لاحدهما ثلث الحائط وللآخر ثلثاه، ويحمل عليه كل واحد منهما ما شاء فلا يصح هذا الصلح، لان الصلح هو أن يترك بعض حقه بعوض.
وههنا قد ترك أحدهما لصاحبه سدس الحائط بغير عوض فلم يصح كما لو ادعى على رجل دارا فأقر له بها ثم صالحه المدعى منها على سكناها فلا يصح لانه ملكه الدار والمنفعة، ثم مصالحته على منفعتها ترك حق له بلا عوض كذلك ههنا مثله، ولان هذا شرط فاسد، لان كل واحد منهما شرط أن يحمل عليه ما شاء والحائط لا يحمل ما شاء فلم يصح، كما لو صالحه على أن يبنى على حائطة ما شاء فانه لا يصح لان ذلك مجهول.
وإن اصطلحا على أن يبنيا وينفق عليه أحدهما ثلث النفقة، وينفق عليه الآخر ثلثى النفقة، ويحمل على الحائط خشبا معلومة، فقد قال الشيخ أبو حامد في دراسة أولى يصح الصالح، لانه لما زاد في الانفاق ترك الآخر بعض حقه بعوض.
وقال في درسه مرة ثانية: لا يصح هذا الصلح لان النفقة التى تزيد على نفقة حقه مجهولة، والصلح على عوض مجهول لا يصح، ولانه صلح على ما ليس بموجود، لان الحائط وقت العقد معدوم اه قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان كان لاحدهما علو وللآخر سفل والسقف بينهما، فانهدم حيطان السفل لم يكن لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء قولا واحدا لان حيطان السفل لصاحب السفل فلا يجبر صاحب العلو على بنائه، وهل لصاحب
العلو إجبار صاحب السفل على البناء؟ فيه قولان.
فإن قلنا يجبر ألزمه الحاكم، فإن لم يفعل وله مال باع الحاكم عليه ماله وأنفق عليه.
وإن لم يكن له مال اقترض

(13/418)


عليه، فإذا بنى الحائط كان الحائط ملكا لصاحب السفل لانه بنى له وتكون النفقة في ذمته ويعيد صاحب العلو غرفته عليه وتكون النفقة على الغرفة وحيطانها من ملك صاحب العلو دون صاحب السفل لانها ملكه لا حق لصاحب السفل فيه وأما السقف فهو بينهما وما ينفق عليه فهو من مالهما، فان تبرع صاحب العلو وبنى من غير اذن الحاكم لم يرجع صاحب العلو على صاحب السفل بشئ، ثم ينظر فإن كان قد بناها بآلتها كانت الحيطان لصاحب السفل لان الآلة كلها له وليس لصاحب العلو منعه من الانتفاع بها ولا يملك نقضها لانها لصاحب السفل وله أن يعيد حقه من الغرفة، وإن بناها بغير آلتها كانت الحيطان لصاحب العلو وليس لصاحب السفل أن ينتفع بها ولا أن يتد فيها وتدا ولا يفتح فيها كوة من غير إذن صاحب العلو، ولكن له أن يسكن في قرار السفل لان القرار له ولصاحب العلو أن ينقض ما بناه من الحيطان لانه لا حق لغيره فيها، فإن بذل صاحب السفل القيمه ليترك نقضها لم يلزمه قبولها، لانه لا يلزمه بناؤها قولا واحدا فلا يلزمه تبقيتها ببذل العوض.
والله أعلم (الشرح) قوله " يتد " مثل يعد ويزن، وهو الفعل المسمى عند النحاة بالمثال تحذف فاء مضارعة.
أما الاحكام: فإن كان حيطان العلو لرجل وحيطان السفل لآخر، والسقف بينهما فانهدم الجميع فليس لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء قولا واحدا، لان حيطان السفل لصاحب السفل فلا يجبر غيره على بنائها، وهل لصاحب العلو المطالبة بإجبار صاحب السفل على بناء السفل؟ على القولين في
الحائط، فإن قلنا بقوله القديم أجبر الحاكم صاحب السفل على البناء، وان لم يكن له مال اقترض عليه من صاحب العلو ومن غيره وبنى له سقفه، وكان ذلك دينا في ذمته إلى أن يوسر.
وهكذا إذا بنى صاحب العلو حيطان السفل باذن صاحب السفل أو باذن الحاكم جاز، وكانت حيطان السفل لصاحب السفل، ولصاحب العلو أن يرجع بما أنفقه على حيطان السفل على صاحب السفل، ثم يعيد علوه كما كان.

(13/419)


فان أراد صاحب العلو أن يبنى من غير إذن الحاكم وأذن صاحب السفل لم يمنع من ذلك لانه يستحق الحمل على حيطان السفل، ولا يرجع بما انفق عليها لانه متطوع، فان بنى السفل بآلته كان ملكا لصاحب السفل كما كان، ويرجع لصاحب العلو نقضها، ولكن يعيد علوه عليها.
وإن بناه بآلة أخرى كانت الحيطان ملكا لصاحب العلو، وليس لصاحب السفل أن يضع عليها شيئا، ولا يتد فيها وتدا، ولكن له أن يسكن في قرار السفل، لان ذلك قرار ملكه، فان أراد صاحب العلو نقض ذلك كان له ذلك لانه له أن يسكن في قرار السفل، لان ذلك قرار ملكه، فان أراد صاحب العلو نقض ذلك كان له ذلك لانه ملكه فان بذل صاحب السفل ما أنفق ولا ينقض لم يجبر صاحب العلو على التبقية لانه لم يجبر على البناء في الابتداء فلم يجبر على التبقية في الانتهاء (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو ادعى على رجل بيتا في يده فاصطلحا بعد الاقرار على أن يكون لاحدهما سطحه، والبناء على جدرانه بناء معلوما فجائز، واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة، فقال أبو العباس بن سريج وصورتها أن يدعى رجل على رجل دارا في يده علوها وسفلها فيقر له بها، ثم
اصطلحا على أن يكون السفل والعلو للمقر له.
ويبنى المقر على العلو بناء معلوما.
فيصح الصلح، ويكون ذلك فرعا للعارية وليس بصلح معاوضة، لان صلح المعاوضة إسقاط بعض حقه بعوض، وهذا ترك بعض حقه بلا عوض، لانه ملك العلو والسفل بالاقرار، ثم ترك المقر له للمقر العلو بغير عوض فيكون عارية له الرجوع فيها قبل البناء، وليس له الرجوع بعد البناء، كما قال الشافعي رضى الله عنه: إذا ادعى على رجل دارا فأقر له بها ثم صالحه منها على سكناها فلا يكون صلحا وإنما يكون عارية ومنهم من قال صورتها أن يدعى رجل على رجل سفل بيت عليه علو ويقر أن العلو للمدعى، فيقر المدعى عليه للمدعى بالسفل، ثم اصطلحا على أن يكون السفل للمدعى عليه، على أن المدعى يبنى على العلو غرفة معلومة البناء فيصح

(13/420)


قال الشيخ أبو حامد الاسفراينى: وهذا أصح التأويلين، وقال ابن الصباغ: الاول أشبه بكلام الشافعي رحمه الله تعالى.
(مسألة ثانية) إذا ادعى رجل دارا في يد رجلين فأقر له أحدهما بنصفها، وانكر الآخر وحلف له.
فصالح المقر للمدعى عن نصف الدار على عوض وصار ذلك النصف للمقر، فهل لشريكه المنكر أن يأخذ ذلك بالشفعة؟ قال الشيخ أبو حامد: إن كان ملكا بجهتين مختلفتين، مثل أن كان أحدهما ورث ما بيده والآخر ابتاع ما بيده، فللشريك المنكر الشفعة، لان الجهتين إذا اختلفتا أمكن أن يكون نصيب أحدهما مستحقا، فيدعيه صاحبه فيعطيه ثم يملكه بالصلح فتثبت فيه الشفعة.
وإن اتفقت جهة الملك لهما بالارث مثلا أو الابتياع.
ففيه وجهان
(أحدهما)
ليس للمنكر الاخذ بالشفعة، لانه يقر بأن أخاه أقر بنصف
الدار بغير حق ولم يملكه بالصلح.
وهذا يمنعه من المطالبة بالشفعة
(والثانى)
له المطالبة بالشفعة وهو الصحيح، لانه قد حكم بنصفها للمقر له وحكم بأنه انتقل إلى المقر له بالصلح، مع أنه يحتمل أن يكون قد انتقل إليه نصيب المقر من غير أن يعلم الآخر.
وأما ترتيب ابن الصباغ فيها فقال: إن كان إنكار المنكر مطلقا، كأن أنكر ما ادعاه فله الاخذ بالشفعة.
وان قال: هذه الدار لنا ورثناها عن أبينا، فهل له الاخذ بالشفعة؟ فيه وجهان (مسألة ثالثة) قال الشافعي رضى الله عنه: إذا أقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق لرجل ثم صالحه منه على شئ بعينه فالصلح جائز، والوارث المقر متطوع ولا يرجع على إخوته بشئ، واختلف أصحابنا في صورتها، فمنهم من قال: صورتها أن يدعى رجل على جماعة ورثة لرجل دارا في أيديهم كان أبوهم قد غصبه إياها فأقر له أحدهم بذلك وقال صدقت في دعواك وقد وكلنى شركائي على مصالحتك بشئ معلوم، فحكم هذا في حق شركائه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه عينا مع الانكار، على ما مضى بيانه وقال أبو على الطبري: تأويلها أن يدعى رجل على جماعة ورثة دينا على

(13/421)


مورثهم، وأن هذه الدار رهن عنده بالدين، فيقر له أحدهم بصحة دعواه ويصالحه عن ذلك بشئ، فحكمه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه بالدين مع إنكاره، قال لان الشافعي رحمه الله قال: وأقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق.
ولو أقر بالدار يقال: أقر بالدار، وإنما أراد رهن الدار، وأيهما كان فقد مضى حكمه.
قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الاول أصح، وقد بين الشافعي رحمه الله
ذلك في الام.
(مسألة رابعة) قال الشافعي في الام: ولو ادعى رجل على رجل زرعا في الارض فصالحه من ذلك على دراهم فجائز، وهذا كما قال: إذا ادعى رجل على رجل زرعا في أرض فأقر له به فصالحه منع بعوض، فان كان بشرط القطع صح الصلح، وإن كانت الارض للمقر كان له تبقية الزرع، لان الزرع له، والارض له.
فان قيل هلا كان للمدعى إجباره على القطع، لان له عوضا في ذلك، وهو أنه ربما أصابته جائحة فرفعه إلى الحاكم، يرى إيجاب وضع الجوائح فيضمنه ذلك؟ قال ابن الصباغ: فالجواب أن ذلك إنما يكون إذا لم يشرط القطع.
فأما مع شرط القطع فلا يضمن البائع الجوائح، وان صالحه من غير شرط القطع، فان كانت الارض لغير المقر لم يصح الصلح، وان كانت الارض للمقر فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في البيع وان كان الزرع بين رجلين، فادعى عليهما رجل به فأقر له أحدهما بنصفه وصالحه منه على عوض، فان كانت الارض لغير المقر لم يصح، سواء كان مطلقا أو بشرط القطع، لانه ان كان مطلقا فلا يصح لانه زرع أخضر فلا يصح بيعه من غير شرط القطع، وان كان شرط القطع لم يصح أيضا لان نصيبه لم يتميز عن نصيب شريكه، ولا يجبر شريكه على قلع زرعه، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، وقد مضى ذكر أقوالهما في البيوع وذكر القاضى أبو الطيب أن ذلك يبنى على القولين في القسمة، هل هي بيع أو اقرار حق؟ وان كانت الارض للمقر - فان قلنا من اشترى زرعا في أرضه

(13/422)


يصح من غير شرط القطع صح الصلح ههنا، وان قلنا لا يصح أن يشترى زرعا
في أرضه الا بشرط القطع لم يصح ههنا (فرع)
قال ابن الصباغ: وان ادعى على رجل زرعا في أرضه فأقر له بنصفه ثم صالحه منه على نصفه على نصف الارض لم يجز، لان من شرط بيع الزرع قطعه.
وذلك لا يمكن في المشاع، وان صالحه منه عى جميع الارض بشرط القطع على أن يسلم إليه الارض فارغة صح، لان قطع جميع الزرع واجب نصفه بحكم الصلح والباقى لتفريغ الارض فأمكن القطع وجرى مجرى من اشترى أرضا فيها زرع وشرط تفريغ الارض فانه يجوز، كذلك ههنا وان أقر له بجميع الزرع وصالحه من نصفه على نصف الارض ليكون الزرع والارض بينهما نصفين، وشرط القطع في الجميع، فان كان الزرع زرع في الارض بغير حق جاز الصلح لان الزرع يجب قطع جميعه، وان كان الزرع زرع لحق لم يصح الصلح، لانه لا يمكن قطع الجميع وذكر الشيخ أبو حامد الاسفراينى في التعليق أن أصحابنا قالوا: إذا كان له زرع أرض غيره فصالح صاحب الزرع صاحب الارض من نصف الزرع على نصف الارض بشرط القطع جاز، لان نصف الزرع قد استحق قطعه بالشرط، والنصف الاخر قد استحق أيضا قطعه لانه يحتاج إلى تفريغ الارض ليسلها فوجب أن يجوز.
قال وهذا ضعيف.
أما النصف فقد استحق قطعه.
وأما النصف الاخر فلا يحتاج إلى قطعه.
لانه يمكن تسليم الارض وفيها زرع قال ابن الصباغ: ولان باقى الزرع ليس يمنع فلا يصح شرط قطعه في العقد، ويفارق ما ذكرناه إذا أقر بنصف الزرع وصالحه على جميع الارض، لانه بشرط تفريغ المبيع، والله أعلم وبه التوفيق ومنه العون سبحانه

(13/423)