المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

التكملة الثانية
المجموع شرح المهذب

الجزء الرابع عشر
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع

(14/1)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الضمان (1)

(الشرح) الاصل في جواز الضمان الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى في سورة يوسف الآية 72 " قالوا: نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " قال ابن عباس: الزعيم الكفيل.
وفيها ست مسائل: (الاولى) قال علماؤنا: هذا نص في جواز الكفالة.
وقال القاضى أبو إسحاق ليس هذا من باب الكفالة فإنها ليس فيها كفالة إنسان عن إنسان وإنما هو رجل التزم عن نفسه وضمن منها، وذلك جائز لغة لازم شرعا.
قال الشاعر: فلست بآمر فيها بسلم
* ولكني على نفسي زعيم وقال الآخر: وإنى زعيم إن رجعت مملكا
* بسير ترى منه الغرانق أزورا قال الامام ابو بكر بن العربي: هذا الذى قاله القاضى أبو إسحاق صحيح.
بيد أن الزعامة فيه نص، فإذا قال أنا زعيم فمعناه أنى ملتزم، وأى فرق بين ان يقول: التزمه عن نفسي أو التزمت به عن غيرى؟
(الثانية) قوله " وأنا به زعيم " إنما يكون في الحقوق التى تجوز النيابة فيها، وأما كل حق لا يقوم فيه أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيها، وتركب على هذا مسألة وهي: (الثالثة) إذا قال: أنا زعيم لك بوجه فلان.
قال مالك " يلزمه " وقال الشافعي لا يلزمه لانه غرر، إذ لا يدرى هل يجحده أم لا؟ والدليل على جوازه
__________
(1) الضمان مشتق من ضم ذمة إلى ذمة.
وقال في البسيط: هو مشتق من التضمين، ومعناه تضمين الدين في ذمة من لا دين عليه، وقد غلط من قال هو مأخوذ من الضم فان النون أصلية فيه وهذا لام فعل منه ميم، وأصله ضمم، والضمان لام فعل منه نون.

(14/3)


أن المقصود بالزعامة تنزيل الزعيم مقام الاصل، والمقصود من حضور الاصل أداء المال، فكذلك الزعيم (الرابعة) كما أن لفظ الآيه نص في الزعامه فمعناها نص في الجعاله، وهى نوع من الاجارة، لكن الفرق بين الجعاله والاجارة أن الاجارة يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين، والجعاله يتقدر فيها الجعل والعمل غير مقدر.
ودليله أن الله سبحانه شرع البيع والابتياع في الاموال لاختلاف الاغراض وتبدل الاحوال، فلما دعت الحاجة إلى انتقال الاملاك شرع لها سبيل البيع، وبيئن أحكامه، ولما كانت المنافع كالاموال في حاجة إلى استيفائها، إذ لا يقدر كل أحد أن يتصرف لنفسه في جميع أغراضه نصب الله الاجارة في استيفاء المنافع بالاعواض، لما في ذلك من الاغراض (الخامسه) فإذا ثبت هذا فقد يمكن تقدير العمل بالزمان كقوله: تخدمني اليوم.
وقد يقول: تخيط لى هذا الثوب، فيقدر العمل بالوجهين، وقد يتعذر
تقدير العمل، كقوله: من جاءني بضالتي فله كذا.
فأحد العوضين لا يصح تقديره والعوض الآخر لابد من تقديره، فان ما يسقط بالضرورة لا يتعدى سقوطه إلى مالا ضرورة فيه، والاصل فيه الحديث الذى ورد من أخذ الاجرة على الرقيه: وهو عمل لا يتقدر، وقد كانت الاجارة والجعاله قبل الاسلام فأقرتهما الشريعه، ونفت عنهما الغرر والجهاله (السادسة) في حقيقة القول في الآيه: ان المنادى لم يكن مالكا، انما كان نائبا عن يوسف ورسولا له: فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء بالصواع، وتحمل هو به عن يوسف، فصارت فيه ثلاث فوائد: (الاولى) الجعاله، وهى عقد يتقدر فيه الثمن، ولا يتقدر فيه المثمن (الثانيه) الكفالة، وهى ههنا مضافه إلى سبب موجب على وجه التعليق بالشرط، وقد اختلف الناس فيها اختلافا متباينا تقريره في المسائل وهذا دليل على جوازه فانه فعل نبى ولا يكون إلا شرعا.
وقد اختلف الائمة في الكفالة، فجوزها أصحاب أبى حنيفه محالة على سبب

(14/4)


وجوب.
كقوله: ما كان لك على فلان فهو على، أو إذا أهل الهلال فلك على عنه كذا، بخلاف أن تكون معلقة على شرط محضر، كقوله إن قدم فلان.
أو إن كلمت زيدا.
وقال الشافعي لا يجوز بشئ من ذلك.
وهذه الآية نص على جوازها محالة على سبب الوجوب.
(الثالثة) جهالة المضمون له.
قال علماؤنا هي جائزة، وتجوز عندهم أيضا مع جهاله الشئ المضمون أو كليهما ومن العجب أن أبا حنيفة والشافعي اتفقا على أنه لا تجوز الكفالة مع جهالة
المكفول له.
وادعى أصحاب أبى حنيفه أن هذا الخبر منسوخ من الآيه خاصه وقال أصحابنا من أئمة المذهب هذه الآيه دليل على جواز الجعل، وهى شرع من قبلنا، وليس لهم فيه تعلق في مذهب وقال أصحابنا أيضا إن معرفة المضمون عنه والمضمون له فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه لابد من معرفتهما، أما معرفه المضمون عنه فليعلم هل هو أهل للاحسان أم لا، وأما معرفة المضمون له فليعلم هل يصلح للمعاملة أم لا؟ (الثاني) أنه افتقر إلى معرفة المضمون له خاصة، لان المعاملة معه خاصة (الثالث) أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما وهو الصحيح في حديث أبى قتادة أنه ضمن عن الميت ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن المضمون له، ولا عن المضمون عنه، والآية نص في جهالة المضمون له، وحمل جهالة المضمون عليه أخف وقال القرطبى، إن قيل كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح، قيل له حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق فصح ضمانه، غير أنه بذل مال للسارق، ولا يحل للسارق ذلك، فلعله كان يصح في شرعهم، أو كان هذا جعالة وبذل مال لمن يفتش ويطلب، ثم قال قال بعض العلماء في هذه الآيه دليلان
(أحدهما)
جواز الجعل وقد أجيز

(14/5)


للضرورة، ثم ساق كلام الشافعي الذى سبق إيراده (الثاني) جواز الكفالة على الرجل لان المؤذن الضامن هو غير يوسف.
قال علماؤنا: إذا قال الرجل تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو وأنا حميل لك أو زعيم لك أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو على أو إلى أو
قبلى، فذلك كله حمالة لازمة.
والزعامة لا تكون إلا في الحقوق التى تجوز النيابة فيها بما يتعلق بالذمة في الاموال وكان ثابتا مستقرا فلا تصح الحمالة بالكتابة لانها ليست بدين ثابت مستقر، لان للعبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة، وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه.
ويسجن المدعى عليه الحد حتى ينظر في أمره.
وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعى القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام.
واحتج الطحاوي لهم بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبد الله والاشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة رضى الله عنهم وأما السنة ففى حديث أبى هريرة عند أبى داود والترمذي وقال حديث حَسَنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يوم فتح مكة فقال " ألا إن الله تعالى قد أعطى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث، ولا تنفق امرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها، والعارية مؤداة والمنحة مردودة، والدين مقضى والزعيم غارم، فلولا أن الضمان يلزمه إذا ضمن لم يجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم غارما وروى قبيصة بن المخارق الهلالي إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا تحل الصدقة إلا لثلاثة.
فذكر رجلا تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك " فأباح له الصدقة حتى يؤدى، فدل على أن الحمالة قد لزمته وروى عن سلمة بن الاكوع أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى برجل ليصلى عليه فقال " هل عليه دين " قالوا " نعم.
ديناران " قال " هل ترك لهما وفاء؟ قالوا لا فتأخر.
فقيل لم لا تصلى عليه؟ فقال ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة، إلا إن قام أحدكم فضمنه، فقام أبو قتادة فقال: هما علي يا رسول الله، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ

(14/6)


صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري وأحمد والنسائي والترمذي وصححه.
والنسائي وابن ماجه وقالا " فقال أبو قتادة أنا أتكفل به " وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله وأخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم وفيه " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلى، ومن ترك مالا فلورثته " وفى معناه عند الدارقطني والبيهقي عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وفيه أن عليا قال أنا ضامن، ثم دعا له الرسول صلى الله عليه ثم قال " ما من مسلم فك رهان أخيه إلا فك الله رهانه يوم القيامة " قال الحافظ بن حجر في إسناده ضعف وعن سلمان عند الطبراني بنحو حديث أبى هريرة رضى الله عنه وزاد " وعلى الولاة من بعدى من بيت مال المسلمين " وفى إسناده عبد الله بن سعيد الانصاري متروك ومتهم.
وعن أبى أمامة رضى الله عنه عند ابن حبان في ثقاته ضعف والحكمة في تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ على من عليه دين تحريض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة، وقد توسع شيخنا الامام النووي رضى الله عنه في كتاب الجنائز من المجموع في بحث صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان الاحاديث الواردة فيها والكلام عليها وأما الاجماع فإن أحدا من العلماء لم يخالف في صحة الضمان، وان اختلفوا في فروع منه على ما بينا في أقوالهم في الكتاب، فإذا ثبت هذا فإنه يقال: ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير كلها بمعنى واحد ولابد في الضمان من ضامن ومضمون عنه ومضمون له، ولابد من رضى الضامن، فان أكره على الضمان لم يصح، ولا يعتبر رضا المضمون عنه.
لا نعلم في ذلك خلافا، لانه لو قضى الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح فكذلك إذا ضمن
عنه.
ولا يعتبر رضا المضمون له.
وقال أبو حنيفة " يعتبر " لانه إثبات مال لآدمي فلم يثبت إلا برضاه أو رضى من ينوب عنه كالبيع والشراء.
وعندنا كالمذهبين لاصحابنا، والله أعلم

(14/7)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

يصح ضمان الدين عن الميت، لما روى أبو قتادة قال " أقبل بجنازة عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: هل على صاحبكم من دين فقالوا: عليه ديناران، قال صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة هما على يا رسول الله فصلى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ويصح عن الحى لانه دين لازم فصح ضمانه كالدين على الميت.
(الشرح) الحديث مر تخريجه في شرح الترجمة.
أما الاحكام: فإنه يصح ضمان الدين عن الميت سواء خلف وفاء بدينه أو لم يخلف، وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد.
وقال الثوري وأبو حنيفة.
لا يصح الضمان عن الميت إذا لم يخلف وفاء بماله أو بضمان ضامن.
دليلنا ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ.
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤتى بالميت وعليه دين فيقول.
هل خلف لدينه قضاء؟ وروى.
وفاء؟ فإذا قيل له.
لم يخلف وفاء، قال للمسلمين.
صلوا عليه، فلما فتح الله عليه الفتوح قال.
من خلف مالا فلورثته، ومن خلف دينا فعلى قضاؤه " فضمن النبي صلى الله عليه وسلم القضاء.
وكذلك حديث جابر رضى الله عنه الذى أشرنا إلى تخريجه في شرح ترجمة هذا الباب وَلَفْظُهُ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يصلى على رجل مات عليه دين فأتى بميت فسأل.
عليه دين؟ قالوا.
نعم ديناران، قال.
صلوا على
صاحبكم الحديث " وهى أحاديث تدل على جواز الضمان عن الميت، ولانه لم يكن يمتنع من الصلاة إلا على من مات وعليه دين ولم يخلف وفاء، ولان صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة، والدين يحجبها بدليل ما روى عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ.
مِنْ استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين فليفعل فإنى شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتى بجنازة فقالوا صل عليها فقال أليس عليه

(14/8)


دين؟ فقالوا: بلى، فقال " ما ينفعكم صلاتي عليها وهو مرتهن في قبره، فإن ضمنه أحدكم قمت وصليت عليه ".
قال في البيان: بعد أن ساق هذا الحديث " فكانت صلاتي تنفعه " لان كل من صح الضمان عنه إذا كان له وفاء بما عليه، صح الضمان عنه، وإن لم يكن له وفاء كالحى.
(فرع)
قال أبو على الطبري رحمه الله: لو قال تكفلت لك بمالك على فلان صح، وإن قال: أنا به قبيل، لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين خلافا لابي حنيفة، لان القبيل بمعنى قابل كالسميع بمعنى سامع وإيجاب الضمان لا يكون موقوفا على قبوله فلم يصح.
وإن قال: إلى دين فلان، لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين خلافا لابي حنيفة.
دليلنا: أنه يحتمل قوله إلى بمعنى إذن عنه، ويحتمل مرجعه إلى بحق أستحقه.
ولو قال: خل عن فلان والدين الذى عليه لك عندي، لم يكن صريحا في الضمان خلافا لابي حنيفة، لان كلمة عندي تستعمل في غير مضمون كقولهم الوزير عند الامير.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويصح ذلك من كل جائز التصرف في ماله، فأما من يحجر عليه
لصغر أو جنون أو سفه فلا يصح ضمانه، لانه إيجاب مال بعقد، فلم يصح من الصبى والمجنون والسفيه كالبيع، ومن حجر عليه للفلس يصح ضمانه.
لانه إيجاب مال في الذمة بالعقد فصح من المفلس كالشراء بثمن في الذمة.
وأما العبد فإنه إن ضمن بغير إذن المولى ففيه وجهان.
قال أبو إسحاق: يصح ضمانه ويتبع به إذا عتق لانه لا ضرر فيه على المولى لانه يطالب به بعد العتق، فصح منه كالاقرار بإتلاف ماله.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: لا يصح لانه عقد تضمن إيجاب مال فلم يصح منه بغير إذن المولى كالنكاح، فإن ضمن بإذن مولاه صح ضمانه، لان الحجر لحقه فزال بإذنه، ومن أين يقضي؟ ينظر فيه، فان قال له المولى اقضه من كسبك قضاه منه، وإن قال.

(14/9)


أقضه مما في يدك للتجارة قضاه منه لان المال له، وقد أذن له فيه، وإن لم يذكر القضاء ففيه وجهان.

(أحدهما)
يتبع به إذا أعتق، لانه أذن في الضمان دون الاداء.

(والثانى)
يقضى من كسبه إن كان له كسب: أو مما في يده إن كان مأذونا له في التجارة، لان الضمان يقتضى الغرم كما يقتضى النكاح المهر، ثم إذا أذن له في النكاح وجب قضاء المهر مما في يده، فكذلك إذا أذن له في الضمان وجب قضاء الغرم مما في يده، فان كان على المأذون له دين وقلنا: ان دين الضمان يقضيه مما في يده، فهل يشارك فيه الغرماء؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
يشارك به، لان المال للمولى، وقد أذن له في القضاء منه، اما بصريح الاذن، أو من جهة الحكم، فوجب المشاركة به.

(والثانى)
أنه لا يشارك به، لان المال تعلق به الغرماء فلا يشارك بمال الضمان كالرهن.
وأما المكاتب فانه ضمن بغير اذن المولى فهو كالعبد القن، وان
ضمن بإذنه فهو تبرع، وفى تبرعات المكاتب بإذن المولى قولان نذكرهما في المكاتب ان شاء الله تعالى.
(الشرح) الاحكام: يصح الضمان من كل جائز التصرف في المال، فأما الصبى والمجنون والسفيه فلا يصح ضمان أحد منهم، لانه ايجاب مال بعقد فلم يصح كالبيع، فقوله بعقد، احتراز من ايجاب المال عليه بالجناية، ومن نفقة من تجب عليه نفقته، والزكاة.
وأما المحجور عليه للافلاس فيصح ضمانه لانه ايجاب مال في الذمة بالعقد فصح من المفلس، كالشراء بثمن في ذمته كما مضى في التفليس.
وأما المرأة فإنه يصح الضمان منها إذا كانت جائزة التصرف.
وقال مالك: لا يصح الا أن يكون بإذن زوجها.
دليلنا أن كل من لزمه الثمن في البيع والاجرة في الاجارة صح ضمانه كالرجل.
(فرع)
ولا يصح الضمان من المبرسم - على ما لم يسم فاعله، والبرسم علة تصيب الاعصاب - الذى لا يعقل لانه لا حكم لكلامه، فأما الاخرس فإن لم

(14/10)


يكن له إشارة مفهومة وكناية معقولة أو كتابة مقروءة لم يصح ضمانه، وإن كانت له إشارة مفهومة وكناية معقوله، لانه حصل مع الكناية إشارة مفهومة، وإلا فالكتابة المقروءة تنفرد مكانهما أو مكان النطق ما دام ذلك يؤدى إلى فهم قصده من الضمان على أحد القولين.
وإن انفردت إشارته المفهومة بالضمان صح وإن انفردت الكتابة في الضمان عن إشارة يفهم بها أن قصده الضمان.
قال ابن الصباغ لم يصح الضمان، لان الكتابة قد تكون عبثا، أو تجربة للقلم أو حكاية للخط.
فلم يلزمه الضمان بمجردها.
(مسألة) إذا ضمن العبد دينا لغير سيده فان كان غير مأذون له في التجارة
نظرت، فان كان بغير اذن سيده فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يصح ضمانه لانه مكلف له قول صحيح، وانما منع من التصرف فيما فيه ضرر على السيد ولا ضرر على السيد في ضمانه، فهو كما لو أقر لغيره بمال.
فعلى هذا يثبت في ذمته إلى أن يعتق.

(والثانى)
لا يصح، لانه اثبات مال لآدمي بعقد، فلم يصح من العبد بغير اذن سيده كالمهر، فقولنا " لآدمي " احتراز من النذر.
وقولنا " بعقد " احتراز من الاقرار لانه اجبار.
ومن الجناية على غير سيده.
وان ضمن بإذن سيده صح لان المنع منه لحق السيد، وقد أذن فيه فإن أذن فيه أن يؤديه من كسبه قضاه منه.
وان أطلق الاذن ففيه وجهان
(أحدهما)
يقضيه من كسبه.
كما لو أذن له سيده في النكاح، فإن المهر والنفقة يقضيان من كسبه.

(والثانى)
لا يقضيه من كسبه، ولكن يتبع به إذا عتق، لان السيد انما أذن في الضمان دون القضاء، فيعلق ذلك بذمة العبد لانها محل للضمان، ويفارق المهر والنفقة يجبان عوضا عن الاستمتاع المعجل، وكان ما في مقابلهما معجلا.
وحكى أبو على الشيحى وجها آخر أنه يتعلق برقبته - وليس بشئ - وان كان العبد مأذونا له في التجارة فلا يخلو اما أن يضمن بإذن السيد أو بغير اذنه، فإن ضمن بغير إذنه نظرت، فإن قال: ضمنت لك حتى أؤدى من هذا المال لم يصح الضمان، لان السيد انما أذن له في التجارة فيما ينمى المال لا فيما يتلفه.

(14/11)


وان ضمن له مطلقا فهل يصح ضمانه؟ على الوجهين في غير المأذون، فإذا قُلْنَا لَا يَصِحُّ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قُلْنَا يصح فإنه لا يجوز له أن يقضى مما في يده من مال التجارة، ولكن يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
وان ضمن باذنه صح الضمان.
فان كان اذن السيد بالضمان مطلقا فمن أين يقضى العبد دين الضمان، فيه وجهان
(أحدهما)
من كسبه أو مما في يده للتجارة
(والثانى)
يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
وان أذن له السيد بالضمان في المال الذى في يديه فقال: ضمنت لك حقك الذى لك على فلان حتى أؤدى من المال الذى في يدى صح الضمان ولزمه أن يؤدى من المال الذى في يده للتجارة لان المنع منه لاجل السيد، وقد أذن فجاز فإذا قال الحر: ضمنت لك دينك على فلان في هذا المال لم يصح الضمان، والفرق بينهما أن العبد ضمن الحق في ذمته.
وانما علق الاداء في مال بعينه، والحر لم يضمن الحق في ذمته، وانما ضمنه في المال بعينه، فوزانه أن يقول الحر ضمنت لك دينك على فلان وأزنه من هذا المال فيصح الضمان، فان كان على المأذون له (العبد) دين يستغرق ما بيده ثم أذن له السيد بالضمان والقضاء مما في يده من مال التجارة، أو قلنا يلزمه القضاء منه، على أحد الوجهين، فهل يشارك المضمون له الغرماء، فيه وجهان
(أحدهما)
يشاركهم، لان المال للسيد، وقد أذن بالقضاء منه، اما بصريح القول أو من جهة الحكم
(والثانى)
لا يشاركهم، لان حقوق أصحاب الديون متعلقة بما في يده فصار ذلك كالمرهون بحقوقهم، نرى أن السيد لو أراد أخذ ذلك قبل قضاء الغرماء لم يكن له ذلك.
(فرع)
وان كان في ذمة العبد دين فضمن عنه ضامن صح الضمان لان الدين في ذمته لازم، وانما لا يطالب به لعجزه في حال رقه فصح الضمان عنه كالدين على المعسر.
قال الصيمري: لو ثبت على عبده دين بالمعاملة فضمنه عنه سيده صح ضمانه كالأجنبي (فرع)
وأما المكاتب فانه إذا ضمن دينا على سيده - فان كان بغير اذنه

(14/12)


فهل يصح؟ فيه وجهان كما قلنا في غير المكاتب، وإن قُلْنَا لَا يَصِحُّ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قُلْنَا يصح كان ذلك في ذمته إلى أن يعتق وإن ضمن بإذن سيده، فان قلنا يجوز للكاتب أن يهب شيئا من حاله بإذن سيده على ما مضى من بياننا لحكمه وإن قلنا لا يجوز للمكاتب أن يهب شيئا لغيره بغير إذن سيده فالذي يقتضى المذهب أن يصح الضمان ويتبع به إذا عتق، ولا يقضى من المال الذى بيده قبل أداء الكتابة وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ويصح الضمان من غير رضا المضمون عنه لانه لما جاز قضاء دينه من غير رضاه، جاز ضمان ما عليه من غير رضاه.
واختلف أصحابنا في رضا المضمون له، فقال أبو على الطبري: يعتبر رضاه لانه إثبات مال في الذمة بعقد لازم، فشرط فيه رضاه كالثمن في البيع وقال أبو العباس: لا يعتبر، لان أبا قتادة ضمن الدين عن الميت بحضرة النبي.
ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم رضا المضمون له
(فصل)
وهل يفتقر إلى معرفة المضمون له والمضمون عنه.
فيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يفتقر إلى معرفة المضمون عنه، ليعلم أنه هل هو ممن يسدى إليه الجميل ويفتقر إلى معرفة المضمون له ليعلم هل يصلح لمعاملته أم لا يصلح، كما يفتقر إلى معرفة ما تضمنه من المال هل يقدر عليه أم لا يقدر عليه
(والثانى)
أنه يفتقر إلى معرفة المضمون له: لان معاملته معه ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه لانه لا معاملة بينه وبينه (والثالث) أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما لان أبا قتادة ضمن عن الميت: ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن المضمون له، والمضمون عنه.
(الشرح) الاحكام: يصح الضمان من غير رضى المضمون عنه، لان عليا رضى الله عنه وأبا قتادة رضى الله عنه ضمنا عن الميت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
والميت لا يمكن رضاه، ولانه لما جاز له أن يقضى الدين بغير اذن جاز أن يضمن عنه الدين بغير اذنه.
وأما المضمون له فهل يعتبر رضاه؟ فيه وجهان قال أبو على

(14/13)


الطبري: يعتبر رضاه، وهو قول أبى حنيفة كما سبق في شرح ترجمة الباب إلا في مسألة واحدة، وهو إذا قال المريض لبعض ورثته اضمن عنى دينا لفلان الغائب فضمن عنه بغير اذن المضمون له وان لم يسم الدين استحسانا، لانه اثبات مال لآدمي فلم يصح الا برضاه أو من ينوب عنه كالبيع والشراء له فقولنا " لآدمي " احتراز كما قلنا من النذر.
وقال أبو العباس بن سريج يصح من غير رضاه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، وبه قال أبو يوسف لان عليا وأبا قتادة رضى الله عنهما ضمنا الدين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بغير رضا المضمون له ولان الضمان وثيقة بالحق فلم يفتقر إلى رضا من له الوثيقة، كما لو أشهد من عليه الدين بنفسه فصحت الشهادة وان لم يرض المشهود له.
وأما معرفة الضامن للمضمون له والمضمون عنه فهل يفتقر إلى ذلك فيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما، وانما يضمن بالاسم والنسب ووجهه ضمان أبى قتادة وعلي، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يعرفان عين المضمون له والمضمون عنه أم لا، ولو كان الحكم يختلف بذلك لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولان الواجب أداء الحق فلا حاجة إلى معرفة ما سوى ذلك.

(والثانى)
أنه لا يصح حتى يعرف الضامن عينهما: لان معاملته المضمون له
فلابد من معرفته بعينه ليعلم هل هو أهل لان يسدى إليه الجميل أم لا.
(والثالث) أنه يفتقر إلى معرفة عين المضمون له لان معاملته معه، ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه، لانه لا معاملة بينه وبينه قال المحاملى فإذا قلنا بهذا افتقر إلى قبوله، فان قيل لزم الضمان وان رد بطل، وان رجع الضامن قبل قبول المضمون له صح رجوعه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان باعه بشرط أن يضمن الثمن ضامن، لم يجز حتى يعين الضامن، لان الغرض يختلف باختلاف من يضمن، كما يختلف باختلاف

(14/14)


ما يرهن من الرهون: وإن شرط أن يضمنه ثقة لم يجز حتى يعين، لان الثقات يتفاوون، فان لم يف له بما شرط من الضمين ثبت للبائع الخيار، لانه دخل في العقد بشرط الوثيقة ولم يسلم له الشرط، فثبت له الخيار، كما لو شرط له رهنا ولم يف له بالرهن.
وإن شرط أن يشهد له شاهدين جاز من غير تعيين، لان الاغراض لا تختلف باختلاف الشهود، فان عين له شاهدين فهل يجوز إبدالهما بغيرهما؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز.
كما لا يجوز في الضمان
(والثانى)
يجوز، لان الغرض لا يختلف.
(الشرح) الاحكام: إذا باع رجل من غيره شيئا بثمن في ذمته بشرط أن يضمن له بالثمن ضامن معين صح البيع والشرط، لان الحاجة تدعو إلى شرط الضمين في عقد البيع، فان لم يضمن له الضمين المعين ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع، لانه إنما دخل في البيع بهذا الشرط، فإذا لم يف له المشترى بالشرط ثبت للبائع الخيار.
وان أتاه المشترى بضمين غير الضمين المعين لم يلزم البائع
قبوله بل يثبت له الخيار، وإن كان الذى جاءه به أملا من المعين، لانه قد يكون له غرض في ضمانه المعين، وان شرط في البيع أن يضمن له بالثمن معه لم يصح الشرط وبطل البيع لان الثقات يتفاوتون، وإذا كان الشرط مجهولا بطل البيع (فرع)
وان باعه سلعة بثمن بشرط أن يشهد له شاهدين جاز من غير تعيين وكان عليه أن يشهد له شاهدين عدلين، لان الاغراض لا تختلف باختلاف الشهود، فإذا لم يشهد له ثبت لصاحبه الخيار في فسخ البيع، وان باعه بشرط أن يشهد له شاهدين معينين فأشهد له شاهدين عدلين غير المعينين فهل يسقط خيار الآخر؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزم الآخر قبول ذلك بل يثبت له الخيار في فسخ البيع.
كما قلنا في الضمين المعين
(والثانى)
يلزم قبول ذلك ولا خيار له لانه لا غرض له في أعيان الشهود إذا حصلت العدالة، ولهذا قلنا لابد في شرط الضمين من تعيينه وفى الشهادة يجوز شرط شاهدين عدلين وان كانا غير معينين.
والذى يقتضى

(14/15)


المذهب أن هذا الشرط في الشهادة يصح أن يكون وثيقة لكل واحد من المتبايعين ويثبت لكل واحد منهما الخيار، إذا شرط ذلك على الآخر ولم يف الآخر له بذلك، لان للبائع غرضا في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه المبيع فيرجع بالثمن على البائع قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويصح ضمان كل دين لازم كالثمن والاجرة وعوض القرض ودين السلم وأرش الجناية وغرامة المتلف لانه وثيقة يستوفى منها الحق فصح في كل دين لازم كالرهن، وأما مالا يلزم بحال وهو دين الكتابة فلا يصح ضمانه لانه لا يلزم المكاتب أداؤه فلم يلزم ضمانه، ولان الضمان يراد لتوثيق الدين،
ودين الكتابة لا يمكن توثيقه، لانه يملك إسقاطه إذا شاء فلا معنى لضمانه، وفى مال الجعالة والثمن في مدة الخيار ثلاثة أوجه (أحدها) لا يصح ضمانه لانه دين غير لازم فلم يصح ضمانه كدين الكتابة
(والثانى)
يصح لانه يؤول إلى اللزوم فصح ضمانه (والثالث) يصح ضمان الثمن في مدة الخيار ولا يصح ضمان مال الجعالة لان عقد البيع يؤول إلى اللزوم وعقد الجعالة لا يلزم بحال.
فأما المال المشروط في السبق والرمى ففيه قولان
(أحدهما)
أنه كالاجارة فيصح ضمانه
(والثانى)
أنه كالجعالة فيكون في ضمان وجهان (الشرح) الاحكام قال أصحابنا: الحقوق على أربعة أضرب (أحدها) حق لازم كالثمن في الذمة بعد قبض المبيع، والاجرة في الذمة بعد انقضاء الاجارة ومال الجعالة بعد العمل، والمهر بعد الدخول وعوض القرض وقيم المتلفات فهذا يصح ضمانه لانه دين لازم مستقر (الضرب الثاني) دين لازم غير مستقر كالمهر قبل الدخول، وثمن المبيع قبل قبض المبيع والاجرة قبل انقضاء الاجارة ودين السلم، فهذا يصح ضمانه أيضا وقال احمد رضى الله عنه في احدى الروايتين لا يصح سمان المسلم فيه.

(14/16)


لانه يؤدى إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم عليه فهو كالحوالة.
ودليلنا أنه دين لازم فصح ضمانه كالمهر بعد الدخول (الضرب الثالث) دين ليس بلازم ولا يئول إلى اللزوم، وهو دين الكتابة فلا يصح ضمانه لان المكاتب يملك إسقاطه بتعجيز نفسه فلا معنى لضمانه، ولان ذمة الضامن فرع لذمة المضمون، فإذا لم يلزم الاصل لم يلزم الفرع، ومن حكم الضمان أن يكون لازما، وإن كان على المكاتبة دين لاجنبي صح ضمانه لانه
دين لازم عليه، وإن كان عليه لسيده دين من غير جهة الكتابة فهل يصح ضمانه فيه وجهان
(أحدهما)
يصح ضمانه لانه يجبر على أدائه
(والثانى)
لا يصح ضمانه لانه قد يعجز نفسه فيسقط ما في ذمته لسيده قال العمرانى: وأصلهما الوجهان هل يستدام ثبوت الدين في ذمته لسيده بعد أن يصير ملكا له؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: يستدام ثبوته صح ضمانه، وإن قلنا: لا يستدام ثبوته لم يصح ضمانه.
الضرب الرابع: دين غير لازم إلا أن يؤل إلى اللزوم، وهو مال الجعاله قبل العمل بأن يقول: من رد ضالتي فله دينار، فان أضمن عنه غيره ذلك قبل رد الضالة هل يصح، فيه وجهان.

(أحدهما)
يصح لقوله تعالى: قالوا " نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " فضمن المنادى مال الجعالة، وحمل البعير معلوم.

(والثانى)
لا يصح، لانه دين غير لازم فلا يصح ضمانه، كمال الكتابة، وممن قال: لم يضمن المنادى، وإنما أخبر عن الملك أنه بذل لمن رده حمل البعير، وأن الملك قال: وأنا به زعيم.
وأما ضمان ثمن المبيع في مدة الخيار فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: فيه وجهان، كمال الجعالة قبل العمل، ومنهم من قال يصح ضمانه وجها واحدا لانه يؤل إلى اللزوم، ولان الثمن قد لزم، وإنما له إسقاطه بالفسخ بخلاف مال الجعالة، فإنه لا يلزم بحال.
(فرع)
وأما مال السبق والرمى بعد العمل فيصح ضمانه، لانه دين لازم

(14/17)


مستقر، فهو المهر بعد الدخول، وأما قبل العمل فان كان المخرج للسبق أحدهما أو أجنبيا فهل يصح ضمانه: فيه وجهان، كما في الجعالة، وإن كان مال السبق
منهما وبينهما محلل، فان قلنا إن ذلك كالاجارة صح ضمانه، كضمان الاجرة قبل انقضاء مدة الاجارة، وإن قلنا: إنها كالجعالة كان في ضمان المال عنهما: أو عن احدهما، وجهان كمال الجعالة.
(فرع)
وأما أرش الجناية والدية - فان كان دراهم أو دنانير - مثل أن جنى على عبد أو كانت الابل معدومة، فأوجبنا قيمتها وكانت معلومة، أو قلنا يجب ألف مثقال، أو اثنى عشر ألف درهم صح ضمانها.
وإن كان الواجب الابل.
فهل يصح ضمانها، فيه وجهان، بناء على القولين في جواز بيعها.
(فرع)
وأما ضمان نفقة الزوجة - فإن ضمن عنه نفقة مدة قد مضت - صح ضمانها، لانه دين لازم مستقر فهى كالمهر بعد الدخول، وإن ضمن عنه نفقة يومه الذى هو فيه صح أيضا، لانه دين لازم فصح ضمانه، وإن كان غير مستقر كضمان المهر قبل الدخول لم يصح، وإن ضمن عنه مدة مستقبلة معلومة فهل يصح؟ فيه قولان بناء على أن النفقة تجب بالعقد أو بالعقد والتمكين من الاستمتاع، فقال في القديم: يجب بالعقد، وإنما يجب استيفاؤها يوما بيوم فعلى هذا يصح أن يضمن نفقة مدة معلومة، ولكن لا يضمن إلا نفقة المعسر.
وإن كان الزوج وقت الضمان موسرا، لان نفقة المعسر متحققة، وما زاد على ذلك مشكوك فيه.
وقال في الجديد: لا تجب النفقة إلا بالعقد والتمكين من الاستمتاع، فعلى هذا لا يصح أن يضمن نفقة مدة مستقبلة بحال.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز ضمان المجهول، لانه إثبات مال في الذمة بعقد لآدمي فلم يجز مع الجهالة، كالثمن في البيع، وفى إبل الدية وجهان.

(أحدهما)
لا يجوز ضمانه، لانه مجهول اللون والصفة
(والثانى)
أنه يجوز

(14/18)


لانه معلوم السن والعدد، ويرجع في اللون والصفة إلى عرف البلد.

(فصل)
ولا يصح ضمان ما لم يجب، وهو أن يقول: ما تداين فلان فأنا ضامن له، لانه وثيقة بحق، فلا يسبق الحق كالشهادة.
(الشرح) الاحكام: لا يصح ضمان مال مجهول، وهو أن يقول ضمنت لك ما تستحقه على فلان من الدين، وهو لا يعلم قدره، وكذلك لا يصح ضمان ما لم يجب، وهو أن يقول: ضمنت لك ما تداين فلانا، وبه قال الليث وابن أبى ليلى وابن شبرمة والثوري وأحمد.
وقال مالك وأبو حنيفة: يصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، وقال أبو العباس بن سريج: وهو قول الشافعي في القديم كما قال الشافعي في القديم: يصح ضمان نفقة الزوجة عن مدة مستقبلة، وهذا ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول وهو طريقة الخراسانيين أنها على قولين، قال الشيخ أبو حامد خالف سائر أصحابنا ذلك، وقالوا: لا يصح قولا واحدا، وما قاله الشافعي رحمه الله في القديم أنه يصح ضمان نفقة الزوجة مدة مستقبلة، فانها أجازه لان النفقة تجب على هذا بالعقد فقد ضمن ما وجب، ولا يصح منها إلا ضمان شئ مقدر وليس بمجهول دليلنا: على أنه لا يصح ضمانها لانه إثبات مال في الذمة بعقد لازم فلم يصح مع جهله، ولا قبل ثبوته كالثمن في البيع، والمهر في النكاح فقولنا: في الذمة احتراز ممن غصب من رجل شيئا مجهولا، وقولنا بعقد، احتراز ممن أتلف على غيره مالا أو وطئ امرأة بعقد فاسد، فان ذلك يثبت في ذمته مالا، وإن كان لا يعلم قدره.
(فرع)
قال في الابانة: فلو جهل مقدار الدين إلا أنه قال: ضمنت لك من درهم إلى عشرة.
وقلنا لا يصح ضمان المجهول، فهل يصح هذا، فيه قولان.

(أحدهما)
قال: وهو الاشهر -: يصح، لان جملة ما ضمن معلومة
(والثانى)
وهو الاقيس أنه لا يصح، لان مقدار الحق مجهول.
(فرع)
فأما إذا قال الرجل لغيره ضمنت لك ما تعطى وكيلى وما يأخذ منك فان يلزمه ذلك، لا من جهة الضمان، ولكن من جهة التوكيل، وذلك أن يد الوكيل يد الموكل.

(14/19)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز تعليقه على شرط، لانه ايجاب مال لآدمي بعقد، فلم يجز تعليقه على شرط كالبيع.
وان قال: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه صح فإذا ألقاه وجب ما ضمنه.
لانه استدعاء اتلاف بعوض لغرض صحيح.
فأشبه إذا قال: طلق امرأتك أو أعتق عبد على ألف، وان قال: بع عبدك من زيد بخمسمائة ولك على خمسمائة أخرى فباعه، ففيه وجهان.

(أحدهما)
يصح البيع، ويستحق ما بذله لانه مال بذله في مقابلة ازالة الملك فأشبه إذا قال: طلق امرأتك أو أعتق عبدك على ألف.

(والثانى)
لا يصح لانه بذل مال لغرض غير صحيح فلم يجز، ويخالف ما بذله في الطلاق والعتق، فان ذلك بذل مال لغرض صحيح، وهو تخليص المرأة من الزوج وتخليص العبد من الرق (الشرح) الاحكام: لا يصح تعليق الضمان على شرط بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد ضمنت لك دينك على فلان.
وحكى المسعودي أن أبا حنيفة قال " يصح ".
دليلنا أنه إيجاب مال لآدمي بعقد فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع.
وقوله لآدمي احتراز من النذر كما سبق تقريره، وقولنا بعقد احتراز من وجوب النفقه
للقريب والزوجة فإنه معلق بشروط (فرع)
إذا قال لغيره في البحر عند هيجان الموج وخوف الغرق: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه فألقاه، وجب على المستدعى ضمانه.
وقال أبو ثور لا يصح لانه ضمان ما لم يجب دليلنا أنه استدعاء إتلاف ملك لغرض صحيح فصح، كما لو قال: طلق امرأتك بمائة درهم على، وكان الغرض صحيحا لحسم نزاع أو درء مضارة صح الضمان.
وكذا لو قال: اعتق عبدك بمائة على، فإن ذلك غرض صحيح لان فيه فكاكا لآدمي من الرق وهو قربة إلى الله تعالى ومقصد من مقاصد الشريعة السمحة، فان قال لرجل: بع عبدك من زيد بألف وعلى لك خمسمائة فباعه.
قال الصيدلانى

(14/20)


وقاله في العقد.
فهل يصح العقد؟ فيه وجهان لابي العباس بن سريج.
أحدهما يصح البيع ويستحق البائع على المشترى خمسمائة وعلى المستدعى خمسمائه، لانه مال بذله في مقابلة إزالة ملكه فيصح والثانى: لا يصح.
ولا يستحق على الباذل شيئا لان الثمن يجب أن يكون جميعه على المشترى، فإذا شرط بعضه على غيره لم يصح.
وإذا قال بع سيارتك من فلان بألف على إن أذن منه خمسمائة جاز وينظر فان ضمن قبل المبيع لم يلزمه لانه ضامن قبل الوجوب، وان ضمنه بعده لزمه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز أن يضمن الدين الحال إلى أجل لانه رفق ومعروف فكان على حسب ما يدخل فيه، وهل يجوز أن يضمن المؤجل حالا؟ فِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يضمن الحال مؤجلا
(والثانى)
لا يجوز، لان الضمان فرع لما على المضمون عنه فلا يجوز أن
يكون الفرع معجلا والاصل مؤجلا (الشرح) الاحكام: إذا كان لرجل على غيره دين حال فضمنه عنه ضامن إلى أجل معلوم صح الضمان وكان الدين معجلا على المضمون مؤجلا على الضامن، لان الضمان رفق ومعروف، فكان على حسب الشرط، وكذلك إذا كان الدين مؤجلا إلى شهر، فضمنه عنه ضامن مؤجلا إلى شهرين كان مؤجلا على المضمون عنه إلى شهر وعلى الضامن إلى شهرين، فان قبل فعندكم الدين الحال لا يتأجل فكيف تأجل على هذا الضامن؟ فالجواب أن الدين لم يثبت على الضامن حالا، وانما ثبت عليه مؤجلا، والدين يتأجل في ابتداء ثبوته، وان كان الدين على رجل مؤجلا فضمنه ضامن حالا أو كان مؤجلا على من هو عليه إلى شهرين فضمنه عنه ضامن إلى شهر ففيه ثلاثة أوجه حكاها المحاملى وابن الصباغ (أحدها) يصح الضمان ويلزم الضامن تعجيل الدين دون المضمون عنه لانه ضمن له دينا فكان على حسب ما ضمنه، كما لو ضمن المعجل مؤجلا.

(14/21)


(والثانى)
لا يصح الضمان، لان الضامن فرع للمضمون عنه، فلا يجوز أن يستحق مطالبة الضامن دون المضمون عنه (والثالث) يصح الضمان ولا يلزمه التعجيل كأصله.
إذا ثبت هذا فضمن الحال مؤجلا فمات الضامن، حل عليه الدين ووجب دفع ذلك من تركته، ولو لم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه حتى يحل الاجل.
وقال زفر: يرجعون عليه في الحال، لانه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته.
دليلنا أن المضمون عنه لم يأذن في الضمان عنه إلا إلى أجل، فلا يستحق
الرجوع عليه في الحال.
وإن مات المضمون عنه - فإن اختار المضمون له الرجوع على الضامن لم يطالبه قبل حلول الاجل، وإن اختار المطالبة من تركة المضمون عنه كان له ذلك في الحال، وبه قال أحمد وأصحابه.

قال المصنف رحمه الله تعالى
.

(فصل)
ولا يثبت في الضمان خيار، لان الخيار لدفع الغبن وطلب الحظ، والضامن يدخل في العقد على بصيرة أنه مغبون، وانه لا حظ له في العقد، ولهذا يقال الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة.
وآخرها غرامة (الشرح) الاحكام: لا يجوز شرط الخيار في الضمان، فإذا شرط فيه أبطله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يصح الضمان ويبطل الشرط.
دليلنا أن الخيار يراد لطالب الحظ.
والضامن يعلم أنه مغبون لا من جهة المال بل من جهة الثواب.
ولهذا يقال الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة وآخرها غرامة، وإذا ثبت أنه لا وجه لشرط الخيار فيه.
قلنا عقد لا يدخله خيار الشرط فأبطله كالصرف والسلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويبطل بالشروط الفاسدة، لانه عقد يبطل بجهالة المال فبطل

(14/22)


بالشرط الفاسد كالبيع، وان شرط ضمانا فاسدا في عقد بيع فهل يبطل البيع؟ فيه قولان كالقولين في الرهن الفاسد إذا شرطه في البيع، وقد بينا وجه القولين في الرهن.
(الشرح) الاحكام: يبطل الضمان بالشروط الفاسدة، لانه عقد يبطل بجهالة المال فبطل بالشروط الفاسدة كالبيع وفيه احتراز من الوصية، فإن قال
بعتك سيارتي بألف على أن يضمن لى فلان عليك على أنه بالخيار، فهذا شرط يفسد الضمان، وهل يفسد البيع في السيارة بذلك، فيه قولان كالقولين فيمن شرط رهنا فاسدا في بيع، وقد سبق توجيهما في الرهن قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويجب بالضمان الدين في ذمة الضامن ولا يسقط عن المضمون عنه.
والدليل عليه ما روى جابر رضى الله عنه قال " توفى رجل منا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه، فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين، قلنا ديناران فتحملهما أبو قتادة، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران، قال انما مات أمس ثم أعاد عليه بالغد، قال قد قضيتهما، قال الآن بردت عليه جلده " ولانه وثيقة بدين في الذمة فلا يسقط الدين عن الذمة كالرهن، ويجوز للمضمون له مطالبة الضامن والمضمون عنه، لان الدين ثابت في ذمتهما فكان له مطالبتهما، فإن ضمن عن الضامن ثالث جاز لانه ضمان دين ثابت فجاز كالضمان الاول، وان ضمن المضمون عنه عن الضامن لم يجز لان المضمون عنه أصل والضامن فرع، فلا يجوز أن يصير الاصل فرعا والفرع أصلا، ولانه يضمن ما في ذمته ولانه لا فائدة في ضمانه وهو ثابت في ذمته.
(الشرح) حديث جابر رضى الله عنه ولفظه " توفى رجل فغلسناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلى عليه فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين.
قلنا ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة الديناران على، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أوفى الله حق الغريم وبرئ

(14/23)


منه الميت، قال نعم.
فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ إنما مات أمس.
قال فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: الآن بردت عليه جلده " رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني وصححه ابن حبان والحاكم.
وفى قوله " أتينا به النبي صلى الله عليه " زاد الحاكم " ووضعناه حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل عليه السلام " قوله " فانصرف " لفظ البخاري في حديث أبى هريرة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا على صاحبكم " وقد سبق لنا تخريجه.
وكذلك حديث سلمة بن الاكوع أما الاحكام: فإنه إذا ضمن عن غيره دينا تعلق الدين بذمة الضامن ولا يبرأ المضمون عنه بالضمان، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأهل العلم.
وقال ابن أبى ليلى وابن شبرمة وداود وأبو ثور: تبرأ ذمة المضمون عنه بالضمان ويتحول الحق إلى ذمة الضامن، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم لابي قتادة رضى الله عنه: حق الغريم عليك والميت منه برئ.
قال نعم، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه: فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك ودليلنا ما روى جابر رضى الله عنه الحديث الذى سقناه وفيه " الآن بردت عليه جلده " فلو كان قد تحول الدين عن المضمون عنه بالضمان لكان قد برد جلده بالضمان، ولان الضمان وثيقة بدين، فلم يتحول إلى الوثيقة ويسقط عن الذمة كالرهن والشهادة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لابي قتادة رضى الله عنه " والميت منه برئ " يريد به من الرجوع في تركته.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه " فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك " أراد به لامتناعه صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه لاجل ما عليه من الدين فلما ضمنهما عنه فك رهانه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، لان صلاته رحمة
إذا ثبت هذا فيجوز للمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون عنه وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يطالب الضامن إلا إذا تعذرت مطالبة

(14/24)


المضمون عنه، دليلنا أن الحق متعلق بذمة كل واحد منهما، فكان له مطالبة كل واحد منهما كالضامنين.
(فرع)
قال العمرانى في البيان: فإن ضمن عن الضامن ضامن أجنبي صح الضمان لانه دين لازم عليه كالضمان الاول، وان ضمن عن الضامن المضمون عنه لم يصح ضمانه، لان الضمان يستفاد به حق المطالبة، ولا فائدة في هذا الضمان لان الحق ثابت في ذمته قبل الضمان، ولان الضامن فرع المضمون عنه فلا يجوز أن ينقلب الاصل فرعا والفرع أصلا.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن ضمن عن رجل دينا بغير إذنه لم يجز له مطالبة المضمون عنه بتخليصه، لانه لم يدخل فيه بإذنه فلم يلزمه تخليصه، وان ضمن بإذنه نظرت، فإن طالبه صاحب الحق جاز له مطالبته بتخليصه، لانه إذا جاز أن يغرمه إذا غرم جاز أن يطالبه إذا طولب وإن لم يطالب ففيه وجهان
(أحدهما)
له أن يطالبه، لانه شغل ذمته بالدين بإذنه فجاز له المطالبة بتفريغ ذمته، كما لو أعاره عينا ليرهنها فرهنها
(والثانى)
ليس له، وهو الصحيح، لانه لما لم يغرمه قبل أن يغرم لم يطالبه قبل أن يطالب، ويخالف إذا أعاره عينا ليرهنها فرهنها لان عليه ضررا في حبس العين والمنع من التصرف فيها ولا ضرر عليه في دين في ذمته لا يطالب به، فإن دفع المضمون عنه مالا إلى الضامن وقال: خذ هذا بدلا عما يجب لك بالقضاء، ففيه وجهان

(أحدهما)
يملكه، لان الرجوع يتعلق بسببين: الضمان والغرم، وقد وجد أحدهما فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة قبل الحول، وإخراج الكفارة قبل الحنث، فإن قضى عنه الدين استقر ملكه على ما قبض، وان أبرئ من الدين قبل القضاء وجب رد ما أخذ، كما يجب رد ما عجل من الزكاة إذا هلك النصاب قبل الحول

(14/25)


(والثانى)
لا يملك لانه أخذه بدلا عما يجب في الثاني فلا يملكه، كما لو دفع إليه شيئا عن بيع لم يعقده فعلى هذا يجب رده، فإن هلك ضمنه لانه قبضه على وجه البدل فضمنه كالمقبوض بسوم البيع (الشرح) الاحكام: إذا ضمن الرجل دينا عن رجل آخر بغير إذنه لم يكن للضامن مطالبة المضمون عنه بتخليص ذمته لانه لم يدخل فيه بإذنه فلزمه تخليصه، وإن ضمن عنه بإذنه، فإن طالب المضمون له الضامن بالحق كان للضامن أن يطالب المضمون عنه بتخليصه لانه دخل في الضمان بإذنه، وإن لم يطالب المضمون له الضامن فهل للضامن أن يطالب عنه؟ قال الشيخ أبو حامد نظرت فان قال أعطني المال الذى ضمنته عنك ليكون عندي حتى إذا طالبني المضمون له أعطيته ذلك، لم يكن له ذلك، لانه لم يغرم وإن قال خلصني من حق المضمون له وفك ذمتي من حقه، كما أوقعتني فيه فهل له ذلك.
فيه وجهان
(أحدهما)
له ذلك لانه لزمه هذا الحق من جهته وبأمره فكان له مطالبته بتخليصه كما لو استعار كتابا ليرهنه فرهنه فللمعير أن يطالب المستعير بقضاء الدين وفك الرهن عن الكتاب.

(والثانى)
ليس له ذلك، لانه إذا لم يطالبه المضمون له، فلا ضرر عليه في كون الحق في ذمته، فلم يكن له مطالبته بذلك، ويفارق الكتاب المرهون، لان
على صاحب الكتاب يقع الضرر في كون الكتاب مرهونا قال المسعودي: وأصل هذين الوجهين ما قال ابن سريج: هل ينعقد بين الضامن والمضمون عنه حكم بنفس الضمان.
على قولين.
ولهذا خمس فوائد.
إحداهن هذه المسألة المتقدمة.
الثانية: إذا دفع المضمون عنه إلى الضامن مال الضمان عوضا عما سيغرم فهل يملكه الضامن، فيه وجهان
(أحدهما)
يملكه لان الرجوع يتعلق بسببين بالضمان والغرم، وقد وجد أحدهما فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد النصاب وقبل الحول، فعلى هذا إذا قضى الحق استقر ملكه على ما قبض، وإن أبرأه من الدين قبل القضاء وجب رد ما أخذ (الثاني) لا يملك ما قبض لانه أخذه بدلا عما يجب في الثاني فلا يملكه،

(14/26)


كما لو دفع إليه شيئا عن بيع لم يعقد، فعلى هذا يجب رده، وان تلف ضمنه لانه قبضه على وجه البدل فضمنه كالمقبوض بسوم البيع (الفائدة الثالثة) لو أبرأ الضامن المضمون عنه عما سيغرم، هل يصح.
على الوجهين.
(الفائدة الرابعة) لو ضمن الضامن ضامن عن المضمون عنه، هل يصح فيه وجهان، وعلى قياس هذا إذا رهن المضمون عنه الضامن بما ضمن عنه، هل يصح.
على الوجهين (الفائدة الخامسة) لو ضمن في الابتداء بشرط أن يعطيه المضمون عنه ضامنا معينا بما ضمن هل يصح، على الوجهين وعلى قياس هذا إذا ضمن عنه باذنه بشرط أن يرهنه رهنا معلوما هل يصح على الوجهين، والله تعالى الموفق للصواب قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قبض المضمون له الحق من المضمون عنه، برئ الضامن لانه وثيقة بحق فانحلت بقبض الحق كالرهن، وان قبضه من الضامن برئ المضمون عنه، لانه استوفى الحق من الوثيقة فبرئ من عليه الدين، كما لو قضى الدين من ثمن الرهن.
وان أبرئ المضمون عنه برئ الضامن، لان الضامن وثيقة بالدين، فإذا أبرئ من عليه الدين انحلت الوثيقة، كما ينحل الرهن إذا أبرئ الراهن من الدين، وان أبرئ الضامن لم يبرأ المضمون عنه لان إبراءه إسقاط وثيقة من غير قبض، فلم يبرأ به من عليه الدين كفسخ الرهن.
(الشرح) الاحكام: إذا قبض المضمون له حقه من المضمون عنه برئ الضامن، لان الضمان وثيقة بالحق فانحلت باستيفاء الحق، كما لو استوفى المرتهن الحق من غير الرهن فان قبض الحق من الضامن برئ المضمون عنه لانه قبض الحق من الوثيقة فبرئ من عليه الحق كالمرتهن إذا استوفى حقه من ثمن الرهن

(14/27)


وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه، برئ المضمون عنه وبرئ الضامن، لان المضمون عنه أصل والضامن فرع، فإذا برئ الاصل برئ الفرع.
وإن أبرأ الضامن برئ الضامن ولم يبرأ المضمون عنه كالمرتهن إذا أسقط حقه من الرهن فان الراهن لا يبرأ قال المسعودي وان قال المضمون له للضامن وهبت الحق منك.
أو تصدقت به عليك كان إبراء منه للضامن.
وقال أبو حنيفة يكون كما لو استوفى منه الحق.
دليلنا أن الاستيفاء منه هو أن يغرم الضامن ولم يغرم شيئا هنا (فرع)
وإن ضمن عن الضامن ثم ضمن عن الثاني ثالث ثم رابع عن الثالث صح ذلك، فإذا قبض المضمون له الحق حقه من أحدهم برئ الجميع،
لانه قد استوفى حقه.
وإن أبرأ المضمون له المضمون أولا برئوا جميعا، وإن أبرأ أحد الضمناء برئ وبرئ فرعه وفرع فرعه، ولا يبرأ أصله، لما ذكرناه في المسألة قبلها، ولانه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الاصل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفائه، وأى الضامنين قضى الحق برئ الباقون من المضمون له لانه حق واحد.
وبهذا كله قال أصحاب أحمد، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وان قضى الضامن الدين نظرت، فان ضمن باذن المضمون عنه وقضى باذنه رجع عليه، لانه أذن له في الضمان والقضاء، وإن ضمن بغير اذنه وقضى بغير اذنه لم يرجع لانه تبرع بالقضاء فلم يرجع، وان ضمن بغير اذنه وقضى باذنه ففيه وجهان، من أصحابنا من قال يرجع لانه قضى باذنه، والثانى لا يرجع وهو المذهب، لانه لزمه بغير اذنه فلم يؤثر اذنه في قضائه، وان ضمن باذنه وقضى بغير اذنه فالمنصوص أنه يرجع عليه، وهو قول أبى على ابن أبى هريرة، لانه اشتغلت ذمته بالدين باذنه فإذا استوفى منه رجع، كما لو أعاره مالا فرهنه في دينه وبيع في الدين وقال أبو إسحاق ان أمكنه أن يستأذنه لم يرجع لانه قضاه باختياره.
وان لم

(14/28)


يمكنه رجع لانه قضاه بغير اختياره، وان أحاله الضامن على رجل له عليه دين برئت ذمة المضمون عنه، لان الحوالة بيع فصار كما لو أعطاه عن الدين عوضا.
وإن أحاله على من لا دين له عليه وقبل المحال عليه وقلنا يصح برئ الضامن، لان بالحوالة تحول ما ضمن، ولا يرجع على المضمون عنه، لانه لم يغرم، فان قبضه منه ثم وهبه له، فهل يرجع على الضامن، فيه وجهان بناء على القولين في
المرأة إذا وهبت الصداق من الزوج ثم طلقها قبل الدخول.

(فصل)
وان دفع الضامن إلى المضمون له ثوبا عن الدين في موضع يثبت له الرجوع رجع بأقل الامرين من قيمة الثوب أو قدر الدين، فان كان قيمة الثوب عشرة والدين عشرين لم يرجع بما زاد على العشرة، لانه لم يغرم، وان كان قيمة الثوب عشرين والدين عشرة لم يرجع بما زاد على العشرة لانه تبرع بما زاد فلا يرجع به، وان كان الدين الذى ضمنه مؤجلا فعجل قضاءه لم يرجع به قبل المحل لانه تبرع بالتعجيل (الشرح) الاحكام: إذا قضى الضامن الحق فهل يرجع على المضمون عنه.
فيه أربع مسائل إن قال اضمن عنى هذا الدين أو أنفذ عنى رجع عليه، وان قال اضمن هذا الدين أو أنفذ هذا الدين ولم يقل عنى لم يرجع عليه، الا أن يكون بينهما خلطة.
مثل أن يكون يودع أحدهما الآخر أو يستقرض أحدهما من الآخر، أو يكون ذا قرابة أو مصاهرة فالاستحسان أن يرجع عليه.
دليلنا انه ضمن عنه بأمره، وقضى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو قال اضمن عنى أو كان بينهما قرابة (الثانية) أن يضمن عنه بغير أمره ويقضى عنه بغير اذنه فانه لا يرجع عليه وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رضى الله عنهما له أن يرجع دَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يكن يصلى على من عليه دين، وقد ضمن على وأبو قتادة عن الميتين بحضرة النبي صلى الله عليه بغير اذنهما فصلى عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي قتادة " الآن بردت

(14/29)


عليه جلده " فلو كان إذا قضى عنه يستحق عليه الرجوع لم يبرد عليه جلده،
ولانه ضمن عنه بغير اذنه وقضى عنه بغير اذنه فلم يرجع، كما لو علف دوابه أو أطعم خادمه.
(الثالثة) إذا ضمن بغير اذنه ثم قضى باذنه فهل يرجع عليه، فيه وجهان أحدهما لا يرجع عليه وهو المذهب، لانه لزمه بغير اذنه وأمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب عليه بالضمان، والثانى يرجع عليه لانه أدى عنه بأمره فرجع عليه كما لو ضمن عنه باذنه، وأصل هذين الوجهين من قال لغيره، اقض عنى دينى، فقضى عنه فهل له أن يرجع عليه.
فيه وجهان قال المسعودي والصيمري الا أن الاصح ههنا أن يرجع، والاصح في الاولى أن لا يرجع، والفرق بينهما أن في الضمان وجب في ذمته بغير اذنه، وفى القضاء لم يتعلق الحق بذمته، بل حصل القضاء باذنه.
وان قال اقض الدين ولم يقل عنى فان قلنا لا يرجع عليه فها هنا أولى أن لا يرجع، وان قلنا هناك يرجع فها هنا فيه وجهان حكاهما الصيمري الصحيح لا يرجع وان قال اقض عنى دينى لترجع على فقضى عنه رجع عليه وجها واحدا لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " وان قال اقض عن فلان دينه فقضى عنه، قال المسعودي لم يرجع عليه وجها واحدا لانه لا غرض عليه في ذلك (الرابعة) إذا ضمن عنه بأمره وقضى بغير أمره، فهل له أن يرجع عليه، فيه ثلاثة أوجه - حكاها الشيخ أبو حامد - (أحدها) يرجع عليه وهو المذهب، لانه دين لازم باذنه، فرجع عليه كما لو ضمن باذنه وقضى باذنه (الثاني) لا يرجع عليه لانه أسقط الدين عنه بغير اذنه فلم يرجع عليه.
كما لو ضمن بغير اذنه وقضى بغير اذنه
(والثالث) وهو قول أبى اسحاق ان كان الضامن مضطرا إلى القضاء مثل أن طالبه المضمون له والمضمون عنه غائب أو حاضر معسر فقضى المضمون له رجع الضامن لانه مضطر إلى القضاء.
وان كان غير مضطر إلى القضاء، مثل أن كان

(14/30)


المضمون عنه حاضرا موسرا يمكنه أن يطالبه بتخليصه من الضمان، فقضى لم يرجع لانه متطوع بالاداء، وكل موضع ثبت للضامن الرجوع على المضمون عنه، فأحال الضامن المضمون له بالحق على من له عليه دين فانه يرجع على المضمون عنه في الحال، لان الحوالة كالقبض وإن أحاله على من لا حق له عليه وقبل المحال عليه - وقلنا يصح برئ الضامن والمضمون عنه ولا يرجع الضامن على المضمون عنه بشئ في الحال لانه لم يغرم شيئا، فان قبض المحتال من المحال عليه ورجع المحتال عليه على الضامن رجع الضامن على المضمون عنه وان أبرأ المحتال المحال عليه من مال الحوالة لم يرجع المحال عليه على المحيل وهو الضامن بشئ، ولم يرجع الضامن على المضمون عنه، لانه لم يغرم واحد منهما شيئا.
وان قبض المحتال الحق من المحال عليه ثم وهبه منه، أو قبض المضمون له الحق من الضامن ثم وهبه منه فهل لهما الرجوع.
فيه وجهان، بناء على القولين في المرأة إذا وهبت صداقها من الزوج ثم طلقها قبل الدخول (فرع)
إذا كان لرجل على رجلين ألف دينار على كل واحد منهما ضامن عن صاحبه، فلمن له الدين أن يطالب بالالف من شاء منهما، فان قبض من أحدهما ألفا برئا جميعا، وكان للدافع أن يرجع على صاحبه بخمسمائة ان ضمن باذنه وقضى باذنه.
وان قبض من أحدهما خمسمائة، فان قال الدافع خذها عن التى على لك أصلا
لم يرجع الدافع على صاحبه بشئ، وان قال خذها عن التى ضمنت برئا عنها وكان رجوعه على صاحبه على ما مضى وان دفعها إليه وأطلق، فاختلف الدافع والقابض فقال الدافع دفعتها وعينتها عن التى ضمنتها أو نويتها عنها، وقال المضمون له بل عينتها أو نويتها عن التى هي أصل عليك، فالقول قول الدافع مع يمينه لان أعلم بقوله ونيته وان اتفقا أنه لم يعينها عن أحدهما ولا نواها، ثم اختلفا في جهة صرفها، ففيه وجهان
(أحدهما)
يصرف اليهما نصفين

(14/31)


(والثانى)
للدافع أن يصرفها إلى أيهما شاء.
وقد مضى دليل الوجهين في الرهن.
وان أبرأه المضمون له عن خمسمائة واختلفا فيما وقعت عليه البراءة.
ففى هذه المسائل القول قول المضمون له فيما أبرأ عنه إذا اختلفا في تعيينه أو نيته وان أطلق ففيه وجهان
(أحدهما)
ينصرف اليهما
(والثانى)
يعينه المضمون له فيما شاء.
(فرع)
إذا ضمن عن غيره ألف درهم.
قال العمرانى في البيان وكانت هذه الالف مكسرة فدفع إليه ألفا صحاحا في موضع يثبت له الرجوع على المضمون عنه فانه لا يرجع عليه بالصحاح لانه تطوع بتسليمها وانما يرجع بالمكسرة، قال وان ضمن عنه الف درهم صحاحا فدفع ألفا مكسرة لم يرجع الا بالمكسرة لانه لم يغرم غيرها، وان صالح الضامن عن الالف على ثوب ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المشهور أنه يرجع على المضمون عنه بأقل الامرين من قيمة الثوب أو الالف، لانه ان كانت قيمة الثوب أقل لم يرجع بما زاد عليه لانه لم يغرم غير ذلك، وان كانت قيمة الثوب أقل لم يرجع بما زاد عليه لانه لم يغرم غير ذلك، وان كانت قيمة الثوب أكثر من الالف لم يرجع بما زاد على الالف
لانه متطوع بالزيادة عليه والوجه الثاني حكاه المسعودي والشيخ أبو نصر المروذى أنه يرجع بالالف وهو قول أبى حنيفة رحمه الله، كما لو اشترى رجل شقصا بألف ثم أعطاه عن الالف ثوبا يساوى خمسمائة فان المشترى يرجع على الشفيع بألف وأما إذا صالح الضامن المضمون له عن الالف على خمسمائة وقلنا يصح.
فان الضامن والمضمون عنه يسقط عنهما الالف كما لو أخذ بالالف ثوبا يساوى خمسمائة.
قال المسعودي ولا يرجع الضامن على المضمون عنه الا بخمسمائة وجها واحدا، لانه لم يغرم غيرها (فرع)
إذا كان على مسلم لذمى ألف درهم فضمن عنه ذمى، ثم ان الضامن صالح المضمون له عن الدين الذى ضمنه على المسلم على خمر أو خنزير، فهل يصح الصلح.
فيه وجهان

(14/32)


(أحدهما)
لا يصح ولا يبرأ واحدا منهما عنه حق المضمون له لانه متصل بحق المسلم.

(والثانى)
يصح لان المعاملة بين ذمتين، فإذا قلنا بهذا فبماذا يرجع الضامن على المسلم، إن قلنا إنه إذا صالحه على ثوب يرجع عليه بأقل الامرين، لم يرجع ها هنا شئ، وان قلنا يرجع بالالف رجع ها هنا فيها أيضا (فرع)
إذا ضمن عن غيره دينا مؤجلا بإذنه ثم إن الضامن عجل الدين المضمون له قبل أجله لم يرجع على المضمون عنه قبل حلول الاجل لتطوعه بالتأجيل، فإذا ضمن رجل صداق امرأة فأداه إليها الضامن فارتدت قبل الدخول سقط مهرها.
قال المسعودي: وترد المرأة ما قبضت من الصداق إلى الزوج ثم ترده إلى الضامن
(فرع)
إذا ضمن رجل عن غيره ألف درهم بإذنه، ثم ادعى الضامن أنه دفعها إلى المضمون له وأنكر المضمون له ذلك ولم يكن هناك بينة فالقول قول المضمون له مع يمينه، لان الاصل عدم القبض، فإذا حلف كان له أن يطالب أيهما شاء، لان حقه ثابت في ذمتهما، فإن أخذ الالف من المضمون عنه برئت ذمته وذمة الضامن.
وهل للضامن أن يرجع بالالف الاولى على المضمون عنه لا يخلو إما أن يكون دفع بغير محضر المضمون أو بمحضره، فان دفع بغير محضره فلا يخلو إما أن يشهد على الدفع أو لم يشهد على الدفع، فان لم يشهد نظرت في المضمون عنه، فان صدق الضامن أنه دفع، فهل له الرجوع عليه.
فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنه يرجع عليه لانه قد صدقه أنه أبرأ ذمته بدفع الالف فكان له الرجوع عليه.
كما لو كان دفع بحضرته
(والثانى)
وهو قول أبى إسحاق انه لا يرجع عليه بشئ وهو المشهور.
ولم يذكر الشيخ أبو حامد الاسفرايينى غيره، لانه يقول: إن دفعت فلم تدفع دفعا يبرئني من حقه، لانك لم تسقط عنى بذلك المطالبة، فلم تستحق على بذلك رجوعا.
قال صاحب البيان: ويخالف إذا كان بحضرته.
فان المفرط هو المضمون عنه، وإن كذبه المضمون عنه فهل عليه اليمين.
إن قلنا لو صدقه كان له الرجوع

(14/33)


كان على المضمون عنه أن يحلف أنه ما يعلم أنه دفع.
وإن قلنا لو صدقه لا رجوع له عليه، فلا يمين عليه.
وإن اختار المضمون له أن يرجع على الضامن فيرجع عليه برئت ذمة المضمون عنه والضامن، وهل للضامن ان يرجع عن المضمون عنه إذا صدقه في دفع الاولة.
ان قلنا بقول أبى على بن أبى هريرة ان للضامن أن يرجع بالاولة
على المضمون عنه إذا رجع المضمون له على المضمون عنه رجع الضامن ههنا بالالف الاولة على المضمون عنه، ولا يرجع عليه بالثانية لانه يعترف أن المضمون له ظلم بأخذها فلا يرجع بها على غير من ظلمه وان قلنا بالشهود وأنه لا يرجع عليه في الاولة فهل يرجع ها هنا بشئ.
فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما)
لا يرجع عليه بشئ.
أما الاولة فقد ذكرنا الدليل عليها.
وأما الثانية فلا يرجع بها، لانه يعترف أن المضمون له ظلم بأخذها، فلا يرجع بها على غير من ظلمه.

(والثانى)
يرجع عليه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، لانه قد أبرأ المضمون عنه بدفعه عنه ظاهرا وباطنا فكان له الرجوع عليه كما لو دفع بالبينة، فإذا قلنا بهذا فبأيتهما يرجع.
فيه ثلاثة أوجه أحدها وهو قول أبى حامد الاسفرايينى أنه يرجع عليه بالثانية، لان المطالبة عن المضمون عنه سقطت بها في الظاهر والثانى يرجع بالاولة لان براءة الذمة حصلت بها في الباطن والثالث وهو قول ابن الصباع: أنه يرجع بأقلهما لانه ان كان قد ادعى أنه دفع في المرة الاولة ثوبا قيمته دون الالف وفى الثانية دفع الالف، فقد أقر بأن الثانية ظلمه بها المضمون له فلا يرجع بها على غير من ظلمه، وان كان يدعى أنه دفع في المرة الاولة ألف درهم، وفى المرة الثانية ثوبا قيمته دون الالف لم يرجع الا بقيمة الثوب، لانه لم يستحق الرجوع بالاولة فلم يستحق الا قيمة الثوب.
فان كان الضامن حين دفع الالف الاولة بغير محضر المضمون عنه قد أشهد على

(14/34)


الدفع، فان كانت البينة قائمة حكم بها على المضمون له ولم يقبل يمنيه ويكون للضامن
أن يرجع على المضمون عنه.
وإن كانت البينة غير قائمة وصدقه المضمون له أنه قد دفع وأشهد نظرت، فان كان قد أشهد شاهدين عدلين إلا أنهما غابا أو ماتا أو فسقا، فان المضمون له إذا حلف كان له أن يرجع على أيهما شاء، فإن رجع على المضمون عنه كان للضامن أن يرجع أيضا على المضمون عنه بالالف التى قد دفعها عنه، لانه قد اعترف أنه دفع عنه دفعا يبرئه ولا صنع له في تعذر الشهادة.
وان رجع المضمون له على الضامن لم يرجع بالثانية لانه ظلمه بها، وإنما يرجع بالاولة لما ذكرناه وان أشهد شاهدين كافرين أو فاسقين ظاهرين الفسق فهو كما لو لم يشهد، هل له أن يرجع على المضمون عنه.
على الوجهين، إذا صدقه على الدفع ولم يشهد على ما مضى في الاولة من التفريع.
وان أشهد شاهدين ظاهرهما العدالة ثم بان أنهما كانا فاسقين ففيه وجهان
(أحدهما)
يرجع الضامن على المضمون عنه، لانه لم يفرط في الاشهاد، وليس عليه المعرفة في الباطن، فعلى هذا حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم ماتا
(والثانى)
حكمه حكم ما لو لم يشهد، لانه أشهد من لا يثبت الحقوق بشهادته وان أشهد شاهدا واحدا عدلا حرا، فان كان موجودا حلف معه، وكان كما لو أشهد عدلين وحكم بشهادتهما.
وان كان ميتا أو غائبا أو طرأ الفسق عليه.
فقيه وجهان.

(أحدهما)
حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم فسقا لانه دفع بحجته، وإنما عدمت كالشاهدين
(والثانى)
حكمه حكم ما لو لم يشهد، لانه فرط حيث اقتصر على بينة مختلف في قبولها ; فهو كما لو لم يشهد.
وأما إذا دفع الضامن الالف الاولة بمحضر من المضمون عنه، فان أشهد
على الدفع فان كانت البينة قائمة أقامها وحكم بها، وان كانت غير قائمة فعلى ما مضى وان لم يشهد فحلف المضمون له رجع على من يشاء منهما.
وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه، فيه وجهان.
من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو لم

(14/35)


يشهد، فكان الدفع بعينه المضمون عنه على ما مضى، لانه فرط في ترك الاشهاد فصار الدفع بعينه المضمون عنه، لانه فرط في ترك الاشهاد فصار كما لو دفع في عين المضمون عنه.

(والثانى)
وهو المنصوص أنه يرجع عليه، لان المفرط في ترك الاشهاد هو المضمون عنه.
وإن ادعى الضامن أنه دفع الحق إلى المضمون له فأنكر ذلك المضمون له.
والمضمون عنه.
ولم تكن هناك بينة فالقول قول المضمون له مع يمينه، فان لم يحلف ردت اليمين على الضامن، فان حلف بنينا على القولين في يمين المدعى مع نكول المدعى عليه.
فإن قلنا إنه كالبينة برئ الضامن والمضمون عنه من دين المضمون له.
وكان للضامن أن يرجع على المضمون عنه وإن قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه، فهو كما لو صدق المضمون له الضامن على الدفع، وأنكر المضمون عنه الدفع، فانه لا مطالبة للمضمون له على أحدهما، لانه قد استقر باستيفاء الحق وهل للضامن أن يرجع بشئ على المضمون عنه.
فيه وجهان لابي العباس ابن سريج
(أحدهما)
القول قول المضمون عنه مع يمينه، ولا يرجع الضامن عليه بشئ، لان الضامن يدعى القضاء ليرجع، فلم يقبل، لان الاصل عدمه، والمضمون له يشهد على فعل نفسه فلم يقبل
(والثانى)
يرجع الضامن على المضمون عنه، لان قبض المضمون له يثبت
مرة بالبينة ومرة بالاقرار، ولو ثبت القبض بالبينة لرجع عليه، وكذلك إذا ثبت بالاقرار، والله تبارك وتعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويصح ضمان الدرك على المنصوص، وخرج أبو العباس قولا آخر أنه يصح لانه ضمان ما يستحق من المبيع، وذلك مجهول، والصحيح أنه يصح قولا واحدا، لان الحاجة داعية إليه لانه يسلم الثمن ولا يأمن أن يستحق عليه المبيع، ولا يمكنه أن يأخذ على الثمن رهنا، لان البائع لا يعطيه مع المبيع

(14/36)


رهنا ولا يمكنه أن يستوثق بالشهادة، لانه قد يفلس البائع فلا تنفعه الشهادة، فلم يبق ما يستوثق به غير الضمان، ولا يمكن أن يجعل القدر الذى يستحق معلوما فعفى عن الجهالة فيه، كما عفى عن الجهل بأساس الحيطان، ويخالف ضمان المجهول لانه يمكنه أن يعلم قدر الدين ثم يضمنه، وفى وقت ضمانه وجهان
(أحدهما)
لا يصح حتى يقبض البائع الثمن، لانه قبل أن يقبض ما وجب له شئ ; وضمان ما لم يجب لا يصح
(والثانى)
يصح قبل قبض الثمن، لان الحاجة داعية إلى هذا الضمان في عقد البيع فجاز قبل قبض الثمن.
وإن اشترى جارية وضمن دركها فخرج بعضها مستحقا فان قلنا إن البيع يصح في الباقي رجع بثمن ما استحق، وإن قلنا يبطل البيع في الجميع رجع على الضامن بثمن ما استحق، وهل يرجع عليه بثمن الباقي.
فيه وجهان
(أحدهما)
يرجع عليه، لانه بطل البيع فيه لاجل الاستحقاق، فضمن كالمستحق.

(والثانى)
لا يرجع لانه لم يضمن إلا ما يستحق فلم يضمن ما سواه، وإن ضمن الدرك فوجد بالمبيع عيبا فرده، فهل يرجع على الضامن بالثمن؟ فيه وجهان

(أحدهما)
لا يرجع، وهو قول المزني وأبى العباس، لانه زال ملكه عنه بأمر حادث فلم يرجع عليه بالثمن، كما لو كان شقصا فأخذه الشفيع
(والثانى)
يرجع لانه رجع إليه الثمن بمعنى قارن العقد، فثبت له الرجوع على الضامن، كما لو خرج مستحقا، وإن وجد به العيب وقد حدث عنده عيب فهل يرجع بأرش العيب؟ على ما ذكرناه من الوجهين (الشرح) قوله " الدرك " التبعة بفتح الراء وسكونها، قال في الصحاح: يقال ما لحقك من درك فعلى خلاصه أما الاحكام: فإنه يصح ضمان العهد على المنصوص في الام، وهو أن يشترى رجل عينا بثمن في ذمته فيضمن رجل عن البائع الثمن ان خرج المبيع مستحقا، وخرج أبو العباس بن سريج قولا آخر أنه لا يصح وبه قال ابن القاص، لانه ضمان ما لم يجب، ولانه ضمان مجهول لانه لا يعلم هل يستحق المبيع أو بعضه.

(14/37)


والصحيح أنه يصح، لان البائع لا يعطيه مع المبيع رهنا، والشهادة لا تفيد لان الباع قد يفلس فلا تفيد الشهادة، فلم يبق ما يستوثق المشترى به غير الضمان وأما قول ابن القاص انه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول فغير صحيح، لانه ان لم يكن المبيع مستحقا فلا ضمان أصلا، وان كان مستحقا فقد ضمن الحق بعد وجوبه، وانما صح الضمان ها هنا مع جهالة ما يستحقه المشترى، لان الحاجة تدعو إلى ذلك، وقال أبو يوسف: إذا ضمن له العهد كان ضامنا لنكبات الابتياع.
وهذا ليس بصحيح، لان العرف قد صار في العهد عبارة من الدرك وضمان الثمن فانصرف الاطلاق إليه، فإذا قلنا يصح ضمان العهد صح بعد قبض الثمن وجها واحدا، لانه ضمان الحق بعد وجوبه، وهل يصح ضمانه قبل أن يقبض البائع
الثمن؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
يصح لان الحاجة تدعو إلى هذا الضمان قبل قبض الثمن، كما تدعو إليه بعد قبضه.

(والثانى)
ولم يذكر ابن الصباغ غيره: أنه لا يصح لانه ضمان الحق قبل وجوبه.
فلم يصح قال ابن الصباغ: وألفاظه أن يقول: ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه، أو يقول للمشترى ضمنت خلاصك منه، أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا فقد ضمنت لك الثمن، فإن قال ضمنت لك خلاص المبيع لم يصح لان التقدير على ذلك متى خرج مستحقا.
قال ابن سريج: لا يضمن درك المبيع إلا أحمق.
إذا ثبت هذا فإنه إذا ضمن له عهدة دار اشتراها أو خلاصها فاستحقت رجع بالثمن على الضامن، ان شاء الخلاص الحال يسلم إليه، فتأول أصحابنا ذلك تأويلين
(أحدهما)
أنه أراد خلاصك به
(والثانى)
أنه أراد وخلاصها، وقد جاءت (أو) بمعنى الواو.
قال تعالى " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " وقال تعالى " ولا تطع منهم آثما أو كفورا " وأما (ما) فتكتب في الوثائق: ضمن فلان البائع لفلان بن فلان المشترى

(14/38)


قيمة ما أحدث في المبيع من غراس أو بناء وغير ذلك إذا خرج مستحقا.
قال أصحابنا: فان هذا ضمان باطل بلا خلاف على المذهب.
لانه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول، فان قيد ذلك وقال: من درهم إلى ألف لم يصح، لانه ضمان ما لم يجب.
وقال أبو حنيفة رحمه الله يصح ضمان هذا مع العهدة بناء على أصله ما لم يجب وقد مضى ذكره ; فإن ضمن خلاص المبيع أو ضمن قيمة ما يحدث في المبيع من
بناء أو غراس، فإن كان في غير عقد البيع نظرت، فان أفرد ذلك عن ضمان العهدة لم يبطل البيع ولا ضمان العهدة، بل يبطل ضمان خلاص المبيع وضمان ما يحدث فيه من بناء أو غراس، وإن قرنه مع ضمان العهدة بطل خلاص المبيع وما يحدث فيه، وهل يبطل ضمان العهدة؟ فيه قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وإن شرط ذلك في البيع بأن قال: بعنى هذه الارض بمائة دينار بشرط أن يضمن لى فلان خلاصها، وقيمة ما أحدثته فيها من بناء أو غراس إذا استحققت فقال بعتك.
أو كان هذا الشرط في زمان الخيار فسد البيع لانه بيع بشرط فاسد قال الشيخ أبو حامد: ويجئ فيه قول آخر أنه لا يبطل البيع إذا شرط ضمان قيمة ما يحدث في الارض - كما قلنا فيمن شرط رهنا فاسدا في البيع - والاول أصح (فرع)
إذا ضمن رجل لرجل العهدة واستحق جميع المبيع على المضمون له وقد دفع الثمن إلى البائع فالمشترى بالخيار ان شاء طالب البائع بالثمن، وان شاء طالب به الضامن.
وإن خرج بعضه مستحقا بطل البيع فيما خرج منه مستحقا وكان للمشترى أن يطالب الضامن بثمن القدر الذى خرج منه مستحقا، وهل يبطل البيع في الباقي؟ فيه قولان، فإذا قلنا يبطل البيع أو قلنا لا يبطل إلا أن المشترى اختار فسخ البيع فيه.
فهل للمشترى أن يرجع بثمن ذلك القدر على الضامن؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يرجع عليه، لانه ثبت له بسبب الاستحقاق
(والثانى)
لا يرجع عليه، لانه لم يضمن إلا ثمن ما استحق، فهذا ثمن ما لم يستحق، وإنما بطل البيع فيه لانه لا يفرق الصفقة، ويفسخه المشترى،

(14/39)


وان وجد المشترى بالمبيع عيبا فرده فهل له أن يطالب الضامن بالثمن.
قال أصحابنا
ان قال الضامن ضمنت لك درك ما يلحقك في المبيع، أو ضمنت لك درك المبيع لكل عيب تجد فيه، فله أن يرجع بالثمن على الضامن وجها واحدا، وكذلك إن حدث عند المشترى عيب وقد وجد به عيبا فله أن يرجع بالارش على الضامن، لان ضمانه يقتضى ذلك وإن ضمن درك المبيع أو عهدته لا غير: فهل له أن يرجع بالثمن على الضامن إذا وجد به عيبا.
أو بالارش إن حدث عنده عيب آخر؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يرجع عليه بالثمن، لان الثمن رجع إليه بمعنى قارن عقد البيع بتفريط من البائع فرجع به على الضامن كما لو استحق المبيع
(والثانى)
لا يرجع به عليه بل يرجع به على البائع وهو قول المزني وأبى العباس بن سريج، لانه زال ملكه عن المبيع بغير الاستحقاق فلم يرجع بالثمن على الضامن، كما لو كان المبيع شقصا فأحذه الشفيع (فرع)
فان ضمن العهدة فبان أن البيع كان باطلا بغير الاستحقاق فهل للمشترى ان يرجع بالثمن على الضامن.
فيه وجهان حكاهما في الابانة
(أحدهما)
يرجع به عليه، لانه رجع إليه الثمن لمعنى قارن عقد البيع، فصار كما لو استحق.

(والثانى)
لا يرجع عليه به لانه يمكنه أن يمسك العين المبيعة إلا أن يسترجع ما دفع من الثمن، فلم يرجع به على الضامن: بخلاف ما لو استحق المبيع في يد البائع قبل القبض أو فسخ المبيع، أو كان شقصا فأخذه الشفيع بالشفعة، فإن المشترى لا يرجع بالثمن على الضامن، لان الثمن رجع إليه بمعنى حادث بعد العقد ولم يضمن الضامن الا الثمن عند استحقاق المبيع (فرع)
قال المسعودي: لو اشترى رجل شيئا بثمن وسلمه وضمن رجل للبائع نقصان الوزن أو رداءة الثمن، فخرج الثمن ناقصا أو رديئا أو معيبا فله أن
يطالب الضامن بما نقص من المثن، وله أن يرد الردئ والمعيب على المشترى ويطالب الضامن بالثمن، اه

(14/40)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتجوز كفالة البدن على المنصوص في الكتب، وقال في الدعاوى والبينات: إن كفالة البدن ضعيفة، فمن أصحابنا من قال: تصح قولا واحدا، وقوله: ضعيفة أراد من جهة القياس، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أنها لا تصح، لانه ضمان عين في الذمة بعقد فلم يصح كالسلم في ثمرة نخلة بعينها.
والثانى: يصح، وهو الاظهر لما روى أبو إسحاق السبيعى عن حارثة ابن مضرب قال صليت مع عبد الله بن مسعود الغداة فلما سلم قام رجل فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فو الله لقد بت البارحة وما في نفسي على أحد احنة وانى كنت استطرقت رجل من بنى حنيفة، وكان أمرنى أن آتيه بغلس فانتهيت إلى مسجد بنى حنيفة، مسجد عبد الله بن النواحة: فسمعت مؤذنهم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن مسيلمة رسول الله، فكذبت سمعي وكففت فرسى حتى سمعت أهل المسجد قد تواطأوا على ذلك فقال عبد الله بن مسعود، على بعبد الله ابن النواحة، فحضر واعترف، فقال له عبد الله: أين ما كنت تقرأ من القرآن قال: كنت أتقيكم به، فقال له: تب فأبى، فأمر به فأخرج إلى السوق فجز رأسه ثم شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بقية القوم، فقال عدى بن حاتم: تؤلول كفر قد أطلع رأسه فاحسمه.
وقال جرير بن عبد الله والاشعث بن قيس اسثتبهم فان تابوا كفلهم عشائرهم فاستتابهم فتابوا، وكفلهم عشائرهم، ولان البدن يستحق تسليمه بالعقد فجاز الكفالة به كالدين، فإن قلنا: تصح جازت الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور
في مجلس الحكم بدين، لانه حق لازم لآدمي فصحت الكفالة به كالدين، وإن كان عليه حد فإن كان لله تعالى لم تصح الكفالة به، لان الكفالة للاستيثاق وحق الله تعالى مبنى على الدرء والاسقاط ; فلم يجز الاستيثاق بمن عليه، وإن كان قصاصا أو حد قذف ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا تصح، لانه لا تصح الكفالة بما عليه فلم تصح الكفالة به

(14/41)


كمن عليه حد لله تعالى.
والثانى: تصح لانه حق لآدمي فجازت الكفالة ببدن من عليه كالدين، ومن عليه دين غير لازم كالمكاتب لا تجوز الكفالة ببدنه، لان الحضور لا يلزمه فلا تجوز الكفالة به كدين الكتابة.
(الشرح) حديث أبى إسحاق السبيعى أخرجه أبو داود من طريق حارثة بن مضرب - وهو بتشديد الراء المكسورة - العبدى الكوفى، وهو ثقة من الطبقة الثانية، وقد غلط من نقل عن المدينى أنه تركه.
هكذا في التهذيب لابن حجر: أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال " ما بينى وبين أحد من العرب حنة، وإنى مررت بمسجد لبنى حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة، فأرسل إليهم عبد الله فجئ بهم فاستتابهم غير ابن النواحة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: لولا أنك رسول اضربت عنقك، فأنت اليوم لست برسول، فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه في السوق، ثم قال: من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا في السوق، وترجع قصة بن النواحة هذا إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسله مسيلمة مع آخر هو بن أثال - بضم الهمزة بعدها مثلثة - فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أتشهدان أنى رسول الله.
قالا نشهد أن مسيلمة رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمنت بالله ورسوله، ولو كنت قاتلا رسولا
لقتلتكما.
قال عبد الله: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل رواه أحمد وأبو داود.
والحاكم والنسائي مختصرا من حديث عبد الله بن مسعود، وليس في رواية من الروايات أن ابن النواحة قد أسلم، وإنما كان هناك من الصحابة عندما أعلن مسيلمة أكذوبته من انضم إليه وارتد عن الاسلام، مع أنه كان من حفظة القرآن هو الفقيه الخوان الاثيم، القارئ للقرآن الرجال بن عنفوة.
وقد كان على مقدمة جيش مسيلمة حين هاجمهم المسلمون بقيادة خالد بن الوليد، وقد قتل في هذه المعركة وعجل الله به إلى النار أما ابن النواحة فعله كان قد أسلم ثم ارتد مع مسيلمة ثم ظل على ولائه لمسيلمة عصبية جاهلية لانهم كانوا يقولون: كذاب، ربيعة خير من صادق مضر

(14/42)


فلما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم الرسولين وفيهما ابن النواحة.
وبعد حروب الردة ذهب عبد الله بن مسعود يستطرق لفرسه ذكرا من بنى حنيفة.
وقد انفق مع صاحب الفرس الذكر أن يأتيه بغلس فانتهى إلى مسجد القوم وكان الذى بناه عبد الله بن النواحة، فسمع المؤذن يشهد لمسيلمة بالرسالة، حتى إذا استيقن عبد الله من هذه المفاجأة المذهلة واستوضحه فاعترف، وكان رأى الصاحبة الذين استشارهم أن ثؤلول كفر - والثؤلول بضم الثاء وإسكان الهمزة والثآليل أورام خبيثة تظهر كالدرن في الجسم - قد أطلع رأسه ويجب أن يحسم قوله: عدى بن حاتم الطائى: وكان ممن ثبت على الاسلام في الردة وحضر فتوح العراق، وحارب مع على ومات سنة ثمان وستين، وكان أبوه مضرب المثل في الكرم.
قوله: جرير بن عبد الله هو ابن جابر البجلى صاحبي مشهور ويكنى أبا عمرو، ويقال له: الشليل بن مالك من ولد انمار بن نزار، ولم يختلف النسابون أن بجيلة
أمهم نسبوا إليها، وهى بجيلة بنت صعب، وكان جرير سيد قبيلته، وكان إسلامه في العام الذى توفى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قال هو عن نفسه انه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما.
وفيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، وفى جرير قال الشاعر: لولا جرير هلكت بجيله
* نعم الفتى وبئست القبيلة فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما مدح من هجى قومه.
وكان عمر يقول: جرير بن الله يوسف هذه الامة، يعنى في حسنه، وكان جرير رسول على بن أبى طالب إلى معاوية فحبسه مدة طويلة، روى عنه أنس بن مالك وقيس ابن أبى حازم وهمام بن الحارث والشعبى، وروى عنه بنوه عبيد الله والمنذر وابراهيم.
وأما الاشعث بن قيس فقد ساق نسبه ابن منده وأبو نعيم هكذا: الاشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن ثعلبة بن عدى بن ربيعة الكندى وكنيته أبو محمد.
وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من الهجرة في وفد كنده وكانوا

(14/43)


ستين راكبا فأسلموا.
وقال الاشعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت منا فقال " نحن بنو النضر بن كنانة لانقفو أمنا ولا تنتفى من أبينا " فكان الاشعث يقول: لا أوتى بأحد ينفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته ولما أسلم خطب أم فروة أخت أبى بكر الصديق رضى الله عنه ثم عاد إلى اليمن شهد اليرموك وفقئت عينه، ثم سار إلى العراق فشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، وسكن الكوفة وشهد صفين مع على، وكان ممن ألزم عليا بالتحكيم، وشهد الحكمين بدومة الجندل، وكان عثمان قد استعمله على أذربيجان وكان الحسن بن على تزوج ابنته.
فقيل هي التى دست السم له فمات منه.
رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث وروى عنه قيس بن أبى حازم وأبو وائل.
وقد نزل في الاشعث بن قيس قوله تعالى " ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " الآية، لانه خاصم رجلا في بئر، توفى سنة ثنتين وأربعين وصلى عليه الحسن بن على.
وقال ابن منده: هذا وهم، لان الحسن لم يكن بالكوفة، وإنما كان قد سلم الامر إلى معاوية ثم رجع إلى المدينة.
ولكن أبا نعيم يؤكد أنه توفى بعد على بأربعين ليلة وصلى عليه الحسن.
أما أحكام الفصل: فان المنصوص للشافعي رضى الله عنه في أكثر كتبه أن الكفالة بالبدن تصح.
وقال في الدعوى والبينات: كفالة الوجه عندي ضعيف.
واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال تصح الكفالة بالبدن قولا واحدا، وقوله في الدعوى والبينات ضعيف، يريد في القياس، وهو قوى في الاثر، وذهب المزني وأبو إسحاق إلى أن المسألة على قولين
(أحدهما)
لا يصح لان الكفالة بعين فلم تصح كالكفالة بالزوجة وبدن الشاهد، ولانه ضمان عين في الذمة بعقد فلم يصح، كما لو أسلم في ثمرة نخلة بعينها.
فقوله " في الذمة " احتراز من البائع فانه يضمن العين المبيعة في يده لا في ذمته فلو تلفت قبل القبض لم يضمنها في ذمته وقوله " بعقد " احتراز من الغاصب، فإنه يضمن العين المغصوبة في يده وفى ذمته

(14/44)


والقول الثاني: أن الكفالة بالبدن صحيحة، وهو قول شريح والشعبى ومالك وأبى حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن الحسن وأحمد رضى الله عنهم.
وهو الصحيح لقوله تعالى " فخد أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين " ولحديث عبد الله
ابن مسعود الذى استشار في الذين كانوا يضجون في مسجدهم بمسيلمة استشار أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار عليه جرير بن عبد الله والاشعث ابن قيس أن يستتابوا ويتكفل بهم عشائرهم، فاستتابهم فتابوا وكفلهم عشائرهم فدل على أن الكفالة بالبدن كانت سائغة عند الصحابة رضوان الله عليهم: إذ لم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك: وان كان هذا الموضع لم يتوجه عليهم فيه حق فلم يكن موضعا تصح فيه الكفالة بالبدن، إلا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه وأصحابه الذين معه أرادوا بهذا الاستظهار على هؤلاء المارقين فإذا قلنا لا تصح الكفالة بالبدن فلا تفريع عليه، وإذا قلنا تصح، فإنما تصح ببدن كل من يلزمه الحضور إلى مجلس الحكم بدين، لانه لازم فصحت الكفالة ببدن من عليه كالدين.
(فرع)
وأما الكفالة ببدن من عليه جلد، فان كان لله تعالى كحد الزنا وحد شرب الخمر وما أشبههما لم يصح لمعنيين
(أحدهما)
أنه لما لم تصح الكفالة بما عليه من الحق لم تصح الكفالة ببدن من عليه
(والثانى)
لا، لان الكفالة وثيقة وحدود الله لا يستوثق بها لانها تسقط بالشبهات.
وإن كان الحد للآدمي كحد القذف والقصاص، فهل تصح الكفالة ببدن من عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا تصح، لانها لا تصح الكفالة بما عليه من الحق، فلم تصح الكفالة ببدنه.
كمن عليه حد الزنا
(والثانى)
تصح الكفالة ببدنه لان عليه حقا لآدمي فصحت الكفالة ببدنه، كما لو كان له عليه دين (فرع)
وان تكفل ببدن مكاتب السيدة لاجل مال الكتابة لم يصح، لان الحق الذى عليه غير لازم له فلم تصح الكفالة، قال ابن الصباغ: وان تكفل
ببدن صبى أو مجنون صحت الكفالة لان الحق يجب عليهما، وقد يحتاج إلى

(14/45)


إحضارهما للشهادة عليهما للاتلاف.
وان رهن رجل شيئا ولم يسلمه فتكفل رجل عليه بتسلميه لم يصح، لان تسليمه غير لازم له فلم تصح الكفالة به.
وان ادعى على رجل حقا فأنكره جازت الكفالة ببدنه: لان عليه حق الحضور، والكفالة واقعة على إحضاره.
(فرع)
إذا قال رجل لرجل: تكفل بفلان لفلان ففعل كان الكفالة لازمة على الذى باشر الكفالة دون الآمر، لان المتكفل فعل ذلك باختياره، والامر بذلك حث على المعروف.
وهكذا في الضمان مثله.
والله تعالى الموفق للصواب قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن كان عليه دين مجهول ففيه وجهان، قال أبو العباس: لا تصح الكفالة ببدنه لانه قد يموت المكفول به فيلزمه الدين، فإذا كان مجهولا لم تمكن المطالبة
(والثانى)
أنه تصح، وهو المذهب، لان الكفالة بالبدن لا تعلق لها بالدين.

(فصل)
وتصح الكفالة ببدن الكفيل كما يصح ضمان الدين عن الضمين (الشرح) الاحكام: إذا تكفل ببدن رجل لرجل له عليه دين فمات المكفول به بطلت الكفالة ولم يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقال مالك رضى الله عنه وأبو العباس بن سريج: يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين المكفول له، لان الكفالة وثيقة بالحق ; فإذا تعذر الحق من جهة من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن دليلنا أنه تكفل ببدنه لا بدينه فلم يلزمه ما عليه من الدين، كما لو غاب، ويفارق الرهن لانه علق به الدين فاستوفى منه وها هنا لم يتكفل إلا بإحضاره.
وقد تعذر إحضاره بموته، فإذا قلنا بالمذهب صحت الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل، وإن قلنا بقول أبى العباس لم تصح الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل (فرع)
وان تكفل ببدن رجل وشرط أنه متى لم يحضر فعليه الحق الذى عليه

(14/46)


أو قال على كذا وكذا لم تصح الكفالة ولم يجب عليه المال المضمون به، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ أَبُو حنيفة وأبو يوسف: ان لم يحضره عليه المال دليلنا أن هذا حظر فلم يجز تعليق الضمان عليه، كما لو قال: إن جاء المطر فأنا ضامن ببدنه، وإن قال تكفلت لك ببدن زيد على إن جئت به، وإلا فأنا كفيل لك ببدن عمرو لم يصح، لانه لم يلتزم بإحضار أحدهما فصار كما لو تكفل بأحدهما لا بعينه، وإن تكفل ببدن رجل بشرط الخيار لم تصح الكفالة.
وقال أبو حنيفة يفسد الشرط وتصح الكفالة دليلنا أنه عقد لا يجوز فيه شرط الخيار، فإذا شرط فيه الخيار أفسده كالصرف، ولو أقر رجل فقال إنما تكفل لك ببدن فلان على أن لى الخيار.
ففيه قولان.

(أحدهما)
يقبل إقراره في الجميع فيحكم ببطلان الكفالة، كما لو قال له على ألف درهم إلا خمسمائة
(والثانى)
يقبل إقراره في الكفالة ولا يقبل في أنه كان بشرط الخيار.
لانه وصل إقراره بما يسقط فلم يصح، كما لو قال له على ألف درهم إلا ألف درهم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وتجوز الكفالة حالا ومؤجلا، كما يجوز ضمان الدين حالا ومؤجلا وهل يجوز إلى أجل مجهول.
فيه وجهان

(أحدهما)
يجوز، لانه تبرع من غير عوض، فجاز في المجهول كاباحة الطعام
(والثانى)
لا يجوز لانه إثبات حق في الذمة لآدمي فلا يجوز إلى أجل مجهول كالبيع، ويخالف الاباحة فانه لو أباحه أحد الطعامين جاز، ولو تكفل ببدن أحد الرجلين لم يجز.
(الشرح) الاحكام.
إذا تكفل ببدن رجل نظرت، فان شرط احضاره حالا لزمه إحضاره في الحال، كما لو تكفل ببدنه وأطلق اقتضى ذلك إحضاره في الحال كما قلنا فيمن باع بثمن وأطلق فان ذلك يقتضى الحلول، وان تكفل ببدنه إلى أجل معلوم صحت الكفالة، ولا يلزمه إحضاره قبل ذلك، كما إذا ضمن الدين إلى أجل معلوم.

(14/47)


وإن تكفل ببدنه إلى أجل مجهول فهل يصح، فيه وجهان.

(أحدهما)
يصح، كما تصح العارية إلى أجل مجهول.

(والثانى)
لا يصح وهو الصحيح، لانه إثبات حق في الذمة لآدمي فلم يصح إلى أجل مجهول، كضمان المال.
ويخالف العارية فإنها لا تلزم، ولهذا لو أعاره إلى مدة كان له الرجوع فيها قبل انقضائها، ولو تكفل له ببدنه إلى أجل معلوم لم تكن له المطالبة به قبل حلول الاجل، ولان العارية تجوز من غير تعيين، ولهذا لو قال: أعرتك أحد هذين الكتابين جاز، ولو قال تكفلت لك ببدن أحد هذين الرجلين لم يجز وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وتجوز الكفالة به ليسلم في مكان معين، وتجوز مطلقا، فإن أطلق وجب التسليم في موضع العقد، كما تجوز حالا ومؤجلا، وإذا أطلق وجب التسليم في حال العقد.
(الشرح) الاحكام: وتجوز الكفالة ببدن رجل ليسلمه في مكان معين ; كما يصح السلم بشرط أن يسلم المسلم فيه في موضع معين، وتجوز الكفالة ببدن رجل وإن لم يذكر موضع التسليم، فعلى هذا في موضع العقد، كما تصح الكفالة بالبدن حالا ومؤجلا، وإذا أطلق اقتضى الحلول، فإذا تكفل له ببدن رجل ليسلمه إليه في موضع معين، فسلمه إليه في غير ذلك البلد لم يلزم المكفول له قبوله لان عليه مشقة في تسلمه في غير ذلك البلد، وقد يكون له غرض بتسلميه في ذلك البلد، وإن تكفل له ببدنه ليسلمه في موضع معين من البلد، بأن يقول في مجلس القاضى أو في مسجده سلمه إليه في ذلك البلد في غير ذلك الموضع المعين فهل يلزمه قبوله؟ فيه وجهان لابي العباس بن سريج.

(أحدهما)
لا يلزمه قبوله، كما لو سلمه في غير ذلك البلد.

(والثانى)
يلزمه قبوله، لان العادة أنه لا مؤنة عليه في نقله من موضع في البلد إلى موضع فيه والله الموفق والمعين.

(14/48)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تصح الكفالة بالبدن من غير إذن المكفول به، لانه إذا تكفل به من غير اذنه لم يقدر على تسلميه، ومن أصحابنا من قال.
تصح كما تصح الكفالة بالدين من غير اذن من عليه الدين.
(الشرح) الاحكام: إذا تكفل ببدن رجل بإذن المكفول به صحت الكفالة فإذا سأل المكفول له الكفيل احضار المكفول به وجب على الكفيل أن يحضره ووجب على المكفول أن يحضر لانه يكفل به بإذنه، وان لم يطالبه المكفول له، فقال الكفيل للمكفول به احضر معى لاردك إلى المكفول له لتبرئ ذمتي من الكفالة، كان عليه أن يحضر معه، لانه قد تعلق عليه احضاره بأمره، فلزمه
تخليصه منه.
وان تكفل رجل لرجل ببدن رجل بغير اذن المكفول به، فهل يصح، فيه وجهان.
قال عامة أصحابنا: لا يصح، لان المقصود بالكفالة بالبدن احضار المكفول به عند المطالبة.
فإذا كان ذلك بغير اذنه لم يلزمه الحضور معه فلا تفيد الكفالة شيئا.
فعلى هذا إذا تكفل ببدن صبى أو مجنون لم يصح ذلك الا باذن وليه.
لان الصبى والمجنون لا اذن لهما.
وقال أبو العباس بن سريج: تصح الكفالة بالبدن من غير اذن المكفول به كما يصح الضمان عليه بالدين من غير اذنه.
قال أبو العباس: فعلى هذا إذا قال المكفول له للكفيل: أحضر المكفول به، وجب على الكفيل أن يطالب المكفول به بالحضور، فإذا طالبه وجب على المكفول به الحضور من غير جهة الكفالة، ولكن لان صاحب الحق قد وكل الكفيل باحضاره.
وان قال المكفول له للكفيل: أخرج إلى من كفالتك.
أو رد على كفالتئ فهل يلزم المكفول به الحضور؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يلزمه.
لان ذلك يتضمن الاذن في احضاره.
فهو كما وكله باحضاره
(والثانى)
لا يلزمه الحضور.
لانه انما طالبه بما عليه من الاحضار.
قال أبو العباس: فعلى هذا المكفول له حبس

(14/49)


الكفيل، قال ابن الصباغ: وهذا يدل عندي على فساد ما قاله، لانه يحبس على مالا يقدر عليه.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن تكفل بعضو منه، ففيه ثلاثة أوجه: (أحدها) أنه يصح لان في تسليمه تسليم جميعه.

(والثانى)
لا تجوز، لان إفراد العضو بالعقد لا يصح، وتسريته إلى الباقي
لا تمكن ; لانه لا سراية له فبطلت.
(والثالث) إن كان العضو لا يبقى البدن دونه كالرأس والقلب جاز، لانه لا يمكن تسليمه إلا بتسليم البدن، وإن كان عضوا يبقى البدن دونه كاليد والرجل لم يصح، لانه قد يقطع فيبرأ مع بقائه.
(الشرح) الاحكام: إذا تكفل بعضو رجل كيده أو رجله أو رأسه أو بجزء مشاع منه كنصفه، أو ثلثه، أو ربعه، فيه ثلاثه أوجه: (أحدها) يصح لانه لا يمكن تسليم نصفه أو ثلثه الا بتلسيم جميع البدن، ولا يسلم اليد والرجل الا على هيئتها عند الكفالة، وذلك لا يمكن الا بتسليم جميعه
(والثانى)
وهو قول القاضى أبى الطيب، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبى حامد: أنه لا يصح لان مالا يسرى إذا خص به عضو أو جزء مشاع لم يصح كالبيع منه، والاجارة والوصية، وفيه احتراز من العتق والطلاق.
(والثالث) ان تكفل بمالا يبقى البدن الا به كالرأس والقلب والكبد، والنصف والثلث، لانه لا يمكن تسليم ذلك الا بتسليم جميع البدن، وان تكفل بما يبقى البدن دونه كاليد والرجل لم يصح، لانه قد يقطع منه ويبقى البدن، ولا فائدة في تسليمه وحده، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ،
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان أحضر المكفول به قبل المحل أو في غير الموضع الذى شرط فيه التسليم، فان كان عليه في قبوله ضرر.
أو له في رده غرض.
لم يلزم قبوله،

(14/50)


وان لم يكن عليه ضرر ولا له في رده غرض وجب قبوله، فإن لم يتسلمه أحضره عند الحاكم ليتسلم عنه ويبرأ كما قلنا في دين السلم وان أحضره وهناك يد حائلة لم يبرأ، لان التسليم المستحق هو التسليم من غير حائل، ولهذا لو سلم المبيع مع
الحائل لم يصح تسلميه: وان سلمه وهو في حبس الحاكم صح التسليم لان حبس الحاكم ليس بحائل، ويمكن احضاره ومطالبته بما عليه من الحق.
وان حضر المكفول به بنفسه، وسلم نفسه برئ الكفيل كما يبرأ الضامن إذا أدى المضمون عنه الدين، وان غاب المكفول به إلى موضع لا يعرف خبره، لم يطالب به، وان غاب إلى موضع يعلم خبره لم يطالب به حتى يمضى زمان يمكن فيه الذهاب والمجئ، لان ما لزم تسليمه لم يلزم الا بامكان التسليم، فان مضى زمان الامكان ولم يفعل حبس الكفيل إلى أن يحضره، فان أبرأه المكفول له من الكفالة برئ كما يبرأ الضامن إذا أبرأه المضمون له، فان جاء رجل وقال أبرئ الكفيل وأنا كفيل بمن تكفل به، ففيه وجهان، قال أبو العباس: يصح، لانه نقل الضمان إلى نفسه فصار كما لو ضمن رجل مالا فأحال الضامن المضمون له على آخر.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطبري رحمهما الله لا يصح لانه تكفل بشرط أن يبرأ الكفيل.
وذلك شرط فاسد فمنع صحة العقد.
وان تكفل ببدن رجل لنفسين، فسلمه إلى أحدهما لم يبرأ من حق الآخر.
لانه ضمن تسليمين فلم يبرأ بأحدهما، كما لو ضمن لهما دينين فأدى دين أحدهما وان تكفل اثنان لرجل ببدن رجل فأحضره أحدهما، فقد قال شيخنا القاضى أبو الطيب رحمه الله: انه لا يبرأ الاخر، لانه لو أبرئ أحدهما لم يبرأ الاخر فإذا سلمه أحدهما لم يبرأ الاخر، وعندي أنه يبرأ، لان المستحق احضاره وقد حصل فبرئا، كما لو ضمن رجلان دينا فأداه أحدهما.
ويخالف الابراء فان الابراء مخالف للاداء ; والدليل عليه أن في ضمان المال لو أبرئ أحد الضامنين لم يبرأ الآخر، ولو أدى أحد الضامنين برئ.

(14/51)


(الشرح) الاحكام: إذا تكفل ببدن ليحضره إلى أجل، فأحضره الكفيل قبل الاجل - فإن قبل المكفول له - برئ الكفيل، وإن امتنع المكفول له من القبول نظرت، فإن كان عليه في قبوله ضرر، بأن كان حقه مؤجلا، أو كان حقه حالا إلا أن له بينة غائبة فإنه لا يلزمه قبوله لان عليه ضررا في قبوله فإن امتنع من تسلمه.
قال الشيخ أبو حامد رفعه الكفيل إلى الحاكم وسلمه إليه ليبرأ وإن لم يجد حاكما أحضر شاهدين يشهدان بتسليمه أو امتناع المكفول له وذكر القاضى أبو الطيب أنه يشهد على امتناعه رجلين.
قال ابن الصباغ وهذا أقيس لانه مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى من ينوب عنه من حاكم أو غيره، وإن أحضره الكفيل وهناك يد سلطان لا يقدر عليه يمنع منه لم يبرأ الكفيل بذلك، لان المستحق تسليمه من غير حائل، وإن سلمه وهو في حبس الحاكم لزمه تسليمه، لان حبس الحاكم لا يمنعه من استيفاء حقه، فإن كان حقه قد ثبت عليه بالبينة وطلب إحضاره، فإن الحاكم يحضره ليحكم بينهما، فان ثبت عليه حق وطلب حبسه فان الحاكم يحبسه به وبالحق الاول فإذا سقط حق أحدهما لم يجز تخليته الا بعد سقوط حق الآخر، وإن جاء المكفول به إلى المكفول له وسلم نفسه إليه برئ الكفيل كما يبرأ الضامن إذا دفع المضمون عنه مال الضمانة.
(فرع)
إذا تكفل ببدن رجل ثم ارتد المكفول به ولحق بدار الحرب: أو حبس بحق لزم الكفيل احضاره فيخرج إلى دار الحرب لاحضاره ; والمحبوس يمكنه أن يقضى عنه الحق ويطلق من الحبس (فرع)
إذا غاب المكفول به نظرت، فان كانت غبته إلى موضع معلوم فعلى الكفيل أن يحضره، فإذا مضت مدة يمكنه فيها الذهاب إليه والمجئ به، ولم يأت به حبسه الحاكم، هذا قولنا
وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال، لان حقه قد توجه عليه، وهذا ليس بصحيح، لان الحق وان كان قد حل ; فانه يعتبر فيه امكان التسليم، وانما يجب عليه احضار الغائب عند امكان ذلك، وان كان غائبا غيبة منقطعة، لا يعلم مكانه

(14/52)


لم يطالب الكفيل باحضاره، وان أبرأ المكفول له المكفول به من الحق برئ المكفول به كما قلنا في المضمون له إذا أبرأ الضامن (فرع)
إذا تكفل ببدن رجل ثم جاء رجل إلى المكفول له وقال تكفلت لك ببدن فلان المكفول به على أن تبرئ فلانا الكفيل ففيه وجهان.
قال أبو العباس تصح كفالة الثاني ويبرأ الاول، لان الثاني قد حول الكفالة إلى نفسه فبرئ الاول كما لو كان له حق فاحتال به على آخر قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ لا تصح الكفالة الثانية، ولا يبرأ الاول لان الكفالة والضمان لا يحول الحق، فكفالة الثاني لا تبرئ الاول من كفالته ; وإذا لم يبرأ الاول فلم يتكفل به الثاني الا بهذا الشرط، وإذا لم يصح الشرط لم تصح الكفالة (فرع)
وان تكفل ببدن رجل لرجلين بعقد فرد على أحدهما برئ من حقه ولم يبرأ من حق الآخر حتى يرد عليه، لان العقد مع اثنين بمنزلة العقدين فهو كما لو تكفل لكل واحد منهما بعقد منفرد، وان تكفل رجلان لرجل ببدن رجل فأحضره أحدهما إلى المكفول له برئ الذى أحضره، وهل يبرأ الكفيل الآخر فيه وجهان.

(أحدهما)
وهو قول المزني والشيخ أبى اسحاق أنه يبرأ كما لو ضمن رجلان لرجل دينا على رجل فأداه أحدهما.
فان الآخر يبرأ
(والثانى)
وهو قول أبى العباس والشيخ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
وَابْنِ الصَّبَّاغِ أنه لا يبرأ الآخر، لان الحق باق لم يسقط، والكفيلان وثيقتان فلا تنفك احدى الوثيقتين بانفكاك الاخرى، كما لو كان الحق مرهونا فانفك أحدها مع بقاء الحق فانه لا ينفك الباقي منها، ويفارق إذا قضى أحد الضامنين المال المضمون به.
فان الحق هناك قد سقط.
فانفكت الوثيقة.
وههنا الحق لم يسقط.
(فرع)
إذا تكفل رجل لرجل بدن رجل فقال المكفول له مالى قبل المكفول به حق.
قال أبو العباس.
ففيه وجهان

(14/53)


(أحدهما)
يبرأ المكفول به مما عليه.
وتبطل الكفالة لان قوله لا حق لى قبله نفى في سياق نكرة فاقتضى العموم
(والثانى)
يرجع إليه.
فإن قال: أردت به لا شئ لى عليه بطلت الكفالة، وبرئ المكفول.
وان قال: أردت به لا حق لى عليه من عارية أو وديعة، وصدقه الكفيل والمكفول به قبل قوله، وان كذباه أو أحدهما فالقول قوله مع يمينه لانه أعلم بنيته، وان قال لا حق لى في ذمته ولا في يده برئا جميعا، قيل للشيخ أبى حامد: فإذا كان لرجل على رجل دين، فقال: لا حق لى قبله.
فقال: هو على هذين الوجهين.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان تكفل ببدن رجل فمات المكفول به برئ الكفيل.
وقال أبو العباس يلزمه ما على المفكول به من الدين لانه وثيقة، فإذا مات من عليه الدين وجب أن يستوفى الدين منها كالرهن، والمذهب الاول، لانه لم يضمن الدين فلا يلزمه.

(فصل)
وان تكفل بعين نظرت، فان كان أمانة كالوديعة لم يصح، لانه إذا لم يجب ضمانها على من هي عنده، فلان لا يجب على من يضمن عنه أولى، وان كان عينا مضمونة كالمغصوب والعارية والمبيع قبل القبض ففيه وجهان، بناء على القولين في كفالة البدن.
فان قلنا انها تصح فهلكت العين فقد قال أبو العباس فيه وجهان
(أحدهما)
يجب عليه ضمانها
(والثانى)
لا يجب، وقال الشيخ أبو حامد لا يجوز بناء ذلك على كفالة البدن، فان البدن لو تلف لم يضمن بدله، ولو هلكت العين ضمنها.

(14/54)


(الشرح) الاحكام.
إذا تكفل رجل ببدن رجل لرجل فأبرأ المكفول له الكفيل ثم رآه ملازما له فقال له خل عنه وأنا على ما كنت عليه من الكفالة، أو على مثل ما كنت عليه، قال أبو العباس بن سريج: صحت كفالته لانه إما أن يكون هذا إخبارا عن كفالته، أو إقرارا به، أو ابتداء كفالة في الحال، وأنها كانت فوجب أن يصح، وإن تكفل رجل ببدن رجل، ورابع بالثالث ; فيصح الجميع، فان أحضر المكفول به الاول نفسه أو أحضره الكفيل برئ جميع الكفلاء.
وإن مات المكفول به الذى عليه الدين برئ الكفلاء على المذهب، فان مات الكفيل الاول برئ جميع الكفلاء.
وان مات الكفيل الثاني برئ الثالث والرابع.
وان مات الثالث برئ الرابع ولم يبرأ الاولون.
وإن مات الرابع بطلت كفالته وحده وحكم البراءة حكم الموت، وان المكفول به سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شئ وبهذا قال شريح والشعبى وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وقال الحكم ومالك والليث: يجب على الكفيل غرم ما عليه
وحكى ذلك عن ابن شريح، لان الكفيل وثيقة بحق، فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن، ولانه تعذر إحضاره فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب.
ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به فبرئ الكفيل، كما لو برئ من الدين ولان ما التزمه من أجله سقط عن الاصل فبرئ الفرع، كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين أو أبرئ منه، وفارق ما إذا غاب، فان الحضور لم يسقط عنه، ويفارق الرهن فانه علق به المال فاستوفى منه (فرع)
إذا ضمن الرجل في مرض موته عن غيره دينا، فإن ذلك معتبر من ثلث ماله لانه تبرع، فهو كما لو ذهب لغيره مآلا

(14/55)


إذا ثبت هذا: فإذا ضمن رجل في مرض موته عن غيره تسعين درهما بإذنه ومات الضامن، وخلف تسعين درهما لا غير ومات المضمون عنه، ولا يملك غير خمسة وأربعين درهما، فان طالب المضمون له بحقه من تركة الضامن وقع في هذه المسألة دور، والعمل فيه أن يقول: يذهب بالضمان من التسعين شئ، ولكنه يرجع إليهم نصف شئ، لان ما خلفه المضمون عنه مثل نصف تركة الضامن فيعلم أنه ما ذهب عنهم بالضمان إلا نصف شئ، ويجب أن تكون هذه التسعون إلا نصف شئ الباقية معهم تعدل شيئا كاملا مثلى ما ذهب عنهم بالضمان فأجبر التسعين بنصف الشئ الناقص عنها، ثم رده على الشئ الكامل، فيكون تسعون تعدل شيئا ونصف شئ الشئ، ثلثاها وهو ستون، فيأخذ المضمون ستين من تركة الضامن، ويستحق ورثة الضامن الرجوع في تركة المضمون عنه بها، لان الضمان باذنه ويبقى للمضمون له من دينه ثلاثون، فيرجع بها في تركة
المضمون عنه وتركته أقل من ذلك فيقاسم المضمون له ورثة الضامن الخمسة والاربعين على قدر حقهم، فيكون لورثة الضامن ثلثاها، وهو ثلاثون، وللمضمون له ثلثها، وهو خمسة عشر، فيجتمع لورثة الضامن ستون، وخرج منهم بالضمان ثلاثون، فقد بقى معهم مثلا ما خرج عنهم.
فإذا تقرر هذا: وعرف ما يستحقه المضمون له من تركة الضامن بالعمل فهو بالخيار، إن شاء فعل ما ذكرناه، وإن شاء أخذ من ورثة الضامن خمسة وسبعين ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، فان كانت بحالها إلا أن المضمون عنه خلف ثلاثين درهما لا غير، فالعمل فيه يخرج من التسعين شئ بالضمان، ويرجع إليهم ثلث شئ، لان تركة المضمون له ثلث تركة الضامن، فيبقى مع ورثة الضامن تسعون إلا ثلثى شئ يعدل شيئا وثلث شئ.
فإذا أجبرت التسعون عدلت شيئين الشئ نصفها وهو خمسة وأربعون، فيأخذها من تركة الضامن ويرجع المضمون له وورثة الضامن في تركة المضمون عنه بنصفين لاستواء حقهما فيرجع إلى ورثة الضامن خمسة عشر فيجتمع لهم ستون، وخرج منهم ثلاثون، ويجتمع للمضمون له ستون ; ويسقط من دينه

(14/56)


ثلاثون ; فإن شاء فعل ما ذكرناه، وإن شاء أخذ الستين كلها من تركة الضامن ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، وإن شاء المضمون له أخذ جميع تركة المضمون عنه وهو ثلاثون، وأخذ من تركة الضامن ثلثها، وهو ثلاثون، يبقى لهم ستون مثلا ما خرج منهم، فإن خلف المضمون عنه ستين فإن المضمون له لا ينقص شئ من دينه ههنا، والعمل فيه على قياس ما مضى والله تبارك وتعالى المستعان.
(مسألة)
إذا ادعى رجل على رجل حاضر أنه ابتاع منه هو ورجل غائب سيارة بألف دينار على كل واحد منهما خمسمائة، وقبضاه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه فان أقر الحاضر بذلك لزمه أن يدفع إلى المدعى ألفا، فإذا قدم الغائب فإن صدق الحاضر رجع عليه الحاضر بما قضى عنه، وهو خمسمائة، وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف سقط حق الحاضر، وإن أنكر الحاضر المدعى فانه لم يكن للمدعى بينة، فالقول قول الحاضر مع يمينه.
فإذا حلف سقطت عنه المطالبة.
فإذا قدم الغائب فادعى عليه البائع - فان أنكره - حلف له أيضا ولا كلام وإن أقر بما ادعاه عليهما لزم القادم الخمسمائة التى أقر أنه اشترى هو بها.
وهل يلزمه الخمسمائة التى أقر أن شريكه أنه اشترى بها وضمن هو عليه؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يلزمه لانا قد حكمنا بسقوطها عن الحاضر بيمينه.
وقال ابن الصباغ: يلزم القادم لان اليمين لم تبرئه من الثمن، وإنما سقطت عنه المطالبة في الظاهر، فإذا أقر أنه الضامن لزمه، ولهذا لو أقام بينة عليه بعد يمينه لزمه الثمن، ولزم الضامن فثبت أن الحق لم يسقط عن الحاضر وعن الغائب.
فإذا أقام المدعى بينة على الحاضر بأنهما اشتريا منه السيارة بألف وقبضاها وضمن كل واحد منهما عن صاحبه الخمسمائة فللمدعى أن يطالب الحاضر بجميع الالف، لان البينة قد شهدت عليه بذلك، وهل للحاضر أن يرجع بنصفها على الغائب إذا قدم؟ نقل المزني أنه يرجع بالنصف على الغائب.
واختلف أصحابنا

(14/57)


في ذلك، فمنهم من قال: لا يرجع عليه بشئ ; ولم يذكر ابن الصباغ غيره.
لانه منكر لما شهدت له البينة، مقر أن المدعى ظالم له فلا يرجع على عين من ظلمه، ومن قال بهذا تأول ما نقله المزني أربع تأويلات.
(أحدها) يحتمل أن يكون الحاضر صدق المدعى فيما ادعى غير أن المدعى
قال: وأنا أقيم البينه أيضا فأقامها، فيرجع ههنا، لانه ليس فيه تكذيب البينة.
(الثاني) أن يكون الحاضر لم يقر ولم ينكر، بل سكت، فأقام المدعى البينة فليس فيه تكذيب.
(الثالث) أن يكون الحاضر أنكر شراء نفسه، ولم يعرض لشراء شريكه.
فقامت عليه البينة.
(الرابع) أن يكون الحاضر أنكر شراءه وشراء شريكه وضمانهما إلا أن الحاضر لما قامت البينة وأخذ من المدعى الالف ظلما ثبت على الغائب خمسمائة بالبينة، وقد أخذ المدعى من الحاضر خمسمائة ظلما فيكون للحاضر أن يأخذ ما ثبت للمدعى على الغائب.
ومن أصحابنا من وافق المزني وقال: يرجع الحاضر على الغائب بخمسمائة وإن أنكر الشراء والضمان لانه يقول: كان عندي إشكال في ذلك، وقد كشفت هذه البينة هذا الاشكال وأزالته، فهو كمن اشترى شيئا وادعاه عليه آخر بأنه له وأنكر المشترى ذلك، وأقام المدعى بينه وانتزع منه.
فان له أن يرجع على البائع بالثمن، ولا يقال: ان باقراره أن المدعى ظالم يسقط حقه من الرجوع.
وقال الشيخ أبو حامد في التعليق ينظر في الحاضر فان تقدم منه تكذيب البينه مثل أن قال من يبيع منك شيئا ولا يستحق علينا شيئا.
ثم قامت البينه بذلك فانه لا يرجع على صاحبه بشئ لانه قد كذب البينة بما شهدت وأن هذا المدعى ظالم قيل له.
فان قدم الغائب واعترف بصدق المدعى وقال: لا يرجع عليه بشئ لانه يقر له بما لا يدعيه.
وان لم يتقدم منه تكذيب البينة مثل أن قال.
مالك عندي شئ.
فانه يرجع على صاحبه بخمسمائه لانه ضمن عنه باذنه ودفع عنه (قلت) ولعل صاحب الوجه الاول لا يخالف تفصيل الشيخ أبى حامد في جواب الحاضر وأن الحكم يختلف باختلاف جوابه كما ذكر والله الموفق والمعين.

(14/58)


قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن ضمن عنه دينا ثم اختلفا فقال الضامن: ضمنت وأنا صبى، وقال المضمون له.
ضمنت وأنت بالغ، فالقول قول الضامن، لان الاصل عدم البلوغ، وإن قال.
ضمنت وأنا مجنون، وقال.
بل ضمنت وأنت عاقل، فان لم يعرف له حالة جنون فالقول قول المضمون له، لان الاصل العقل وصحة الضمان، وان عرف له حالة جنون فالقول قول الضامن، لانه يحتمل أن يكون الضمان في حاله الافاقة.
ويحتمل أن يكون في حالة الجنون، والاصل عدم الضمان وبراءة الذمة.
وان ضمن عن رجل شيئا وأدى المال ثم ادعى أنه ضمن باذنه وأدى باذنه ليرجع، وأنكر المضمون عنه الاذن لم يرجع عليه، لان الاصل عدم الاذن، وان تكفل ببدن رجل ثم ادعى أنه تكفل به ولا حق عليه فالقول قول المكفول له لان الكفيل قد أقر بالكفالة، والكفالة لا تكون الا بمن عليه حق فكان القول قول المكفول له، فان طلب الكفيل يمين المكفول له على ذلك ففيه وجهان.

(أحدهما)
يحلف، لان ما يدعيه الكفيل ممكن، فحلف عليه الخصم.

(والثانى)
لا يحلف، لان اقراره بالكفالة يقتضى وجوب الحق وما يدعيه يكذب اقراره، فلم يحلف الخصم.
وان ادعى الضامن أنه قضى الحق عن المضمون عنه.
وأقر المضمون له.
وأنكر المضمون عنه.
ففيه وجهان.

(أحدهما)
أن القول قول المضمون عنه.
لان الضامن يدعى القضاء ليرجع فلم يقبل قوله.
والمضمون له يشهد على فعل نفسه أنه قبض فلم تقبل شهادته.
فسقط قولهما وحلف المضمون عنه
(والثانى)
أن القول قول الضامن لان قبض المضمون له يثبت بالاقرار مرة.
وبالبينة أخرى.
ولو ثبت قبضه بالبينة رجع
الضامن.
فكذلك إذا ثبت بالاقرار.
(الشرح) الاحكام.
إذا ضمن عن رجل دينا ثم اختلفا.
فقال الضامن.
ضمنت وأنا صبى.
وقال المضمون له.
بل ضمن وأنت بالغ فان أقام المضمون له

(14/59)


بينة أنه ضمن وهو بالغ حكم بصحة الضمان، وان لم تكن بينة فالقول قول الضامن لان الاصل عدم البلوغ وان قال الضامن ضمنت وأنا مجنون، وقال المضمون له بل ضمنت وأنت عاقل، فان أقام المضمون له بينة أنه ضمن له وهو عاقل حكم له بصحة الضمان.
وان لم تكن له بينة: فان لم يعرف للضامن حال جنون فالقول قول المضمون له مع يمينه، لان الاصل صحة الضامن وان عرف له حال جنون فالقول قول الضامن مع يمينه، لانه يحتمل أنه ضمنه في حال الجنون، ويحتمل أنه ضمن في حال الافاقة، والاصل براءة ذمته (فرع)
وإن ادعى الضامن أن المضمون له أبرأه عن الضمان وأنكر المضمون له البراءة، فأحضر الضامن شاهدين أحدهما المضمون عنه.
قال الصيمري، فان لم يأمره بالضمان عنه قبلت شهادته، وان أمره بالضمان عنه لم تقبل شهادته (فرع)
وان ادعى على رجل أنه ضمن له دينا على رجل غائب معين وأنكر الضامن واحضر المضمون له بينة تشهد بالضمان، فان بين قدر المال المضمون له وشهدت معه البينة بذلك حكم بها، وان ادعى الضمان بمال معلوم والمضمون مجهول وشهدت له بينة بذلك فهل تسمع بينتة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا تسمع هذه البينة ولا يحكم له على الضامن بشئ لان الذى عليه الحق إذا كان مجهولا لم يثبت حقه، وإذا لم يثبت على الاصل لم يثبت على الضامن.

(والثانى)
يحكم له على الضامن لان البينة قد قامت عليه بذلك، ألا ترى أنها لو شهدت بأن عليه ألفا من جهة الضامن سمعت ; فكذلك هذا مثله (فرع)
إذا ضمن الرجل لغيره دينا وقضاه، وادعى الضامن على المضمون منه أنه ضمن باذنه وقضى باذنه فليرجع عليه، وأنكر المضمون عنه الاذن، فان أقام الضامن بينة حكم له بالرجوع على المضمون عنه، وان لم يقم بينة فالقول قول المضمون عنه مع يمينه لان الاصل عدم الاذن (فرع)
فان قال تكفلت لك ببدن فلان مؤجلا، وقال المكفول له تكفلت به معجلا.
وأقام كل واحد منهما شاهدا واحدا بما قال.
ففيه قولان حكاهما

(14/60)


الصيدلانى
(أحدهما)
لا يلزمه إلا مؤجلا لانه لم يقر بغيره
(والثانى)
يحلف كل واحد منهما مع شاهده ويتعارضان ويسقطان ويبقى الضمان معجلا (فرع)
إذا ادعى الكفيل أن المكفول به برئ من الحق، وأن الكفالة قد سقطت، وأنكر ذلك المكفول له ولم تكن بينة، فالقول قول المكفول له مع يمينه لان الاصل بقاء الحق، لانه لا يبرأ بيمين غيره.
وإن قال الكفيل تكفلت به ولا حق لك عليه فالقول قول المكفول له لان الظاهر صحة الكفالة.
وهل يحلف؟ قال أبو العباس فيه وجهان
(أحدهما)
لا يحلف، لان دعوى الكفيل تخالف ظاهر قوله.

(والثانى)
يحلف لان ما يدعيه الكفيل ممكن، فإن حلف فلا كلام، وان نكل رد اليمين على الكفيل لانه لا يجوز أن يعلم أنه لا حق للمكفول له بإقرار، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كتاب الشركة
يصح عقد الشركة على التجارة، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تعالى " أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانا خرجت من بينهما " ولا تصح الشركة إلا من جائز التصرف في المال، لانه عقد على التصرف في المال فلم تصح إلا من جائز التصرف في المال.

(فصل)
ويكره أن يشارك المسلم الكافر، لما روى أبو جمرة عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: لا تشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا، قلت: لم؟ قال لانهم يربون، والربا لا يحل (الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رفعه.
رواه أبو داود والحاكم وصححه، وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان.
وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وأعله أيضا ابن القطان بالارسال، فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال:

(14/61)


إنه الصواب، ولم يسنده غير أبى همام محمد بن الزبرقان، وسكت أبو داود والمنذري عن هذا الحديث.
وأخرج نحوه أبو القاسم الاصبهاني في الترغيب والترهيب عن حكيم بن حزام أما لغات الفصل وغريب الحديث، فالشركة بكسر الشين وسكون الراء، وحكى ابن باطيش فتح الشين وكسر الراء.
وذكر صاحب الفتح فيها أربع لغات فتح الشين وكسر الراء، وكسر الشين وسكون الراء، وقد تحذف الهاء مع كسر أوله، وقد تحذف مع فتح أوله.
قوله " أنا ثالث الشريكين " المراد أن الله جل جلاله يضع البركة للشريكين في مالهما مع عدم الخيانة ويمدهما بالرعاية والمعونة ويتولى الحفظ لما لهما.
قوله " خرجت من بينهما " أي نزعت البركة من المال، زاد رزين " وجاء الشيطان " ورواية الدارقطني " فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما " يعنى البركة
والشركة ثبوت الحق لاثنين فأكثر على جهة الشيوع.
وعن السائب بن أبى السائب المخزومى أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: كنت شريكي ونعم الشريك، كنت لا تداريني ولا تماريني " رواه أبو داود وابن ماجه بلفظ " كنت شريكي ونعم الشريك، لا تدارى ولا تمارى " وفى لفظ أن السائب المخزومى كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: مرحبا بأخى وشريكي، لا تدارى ولا تمارى.
وفى لفظ أن السائب قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلوا يثنون علي ويذكرونني، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا أعلمكم به، فقلت: صدقت بأبى أنت وأمى، كنت شريكي فنعم الشريك لا تدارى ولا تمارى " وقوله " لا تدارى " أي لا تخالف ولا تنازع من قوله تعالى " فادارأتم فيها " يعنى اختلفتم وتنازعتم أما الاحكام فان الاصل في جواز الشركة الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقوله تعالى " واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول " الآية فجعل الخمس مشتركا بين الغانمين وقوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين "

(14/62)


فجعل الميراث مشتركا بين الاولاد.
وقوله تعالى " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الآية.
فجعل الصدقة مشتركة بين أهل الاصناف.
وقوله تعالى " وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض " والخلطاء هم الشركاء وأما السنة فقد مضى بعضها، ونضيف إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " من كان له شريك في ربع أو حائط فلا يبعه حتى يؤذن شريكه " وقد سبق تخريحه وطرقه عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وأما أثر أبى جمرة عن ابن عباس " لا تشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا، قلت لم؟ قال لانهم يربون.
وأبو جمرة هو نصر بن عمران الضبعى صاحب ابن عباس، والاثر رواه الاثرم.
وقد روى الخلال بإسناده عن عطاء قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني، إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم " وأما الاجماع فإن أحدا من العلماء لم يخالف في جوازها.
إذا ثبت هذا فإن الشركة تنقسم على ستة أقسام: شركه في الاعيان والمنافع، وشركه في الاعيان دون المنافع، وشركه في المنافع دون الاعيان، وشركه في المنافع المباحة، وشركه في حق الابدان، وشركه في حقوق الاموال.
فأما شركة المنافع والاعيان فهو أن يكون بين الرجلين أو بين الجماعة أرض أو بهائم ملكوها بالارث أو بالبيع أو الهبة مشاعا وأما شركة الاعيان دون المنافع فمثل أن يوصى رجل لرجل بمنفعة أرضه أو داره فيموت ويخلف جماعة ورثة، فإن رقبة الارض والدار تكون موروثة للورثة دون المنفعة.
وأما الشركة في المنافع دون الاعيان فمثل أن يوصى بمنفعة عربته لجماعه أو يستأجر جماعة عربة وأما الوقف على جماعة - فان قلنا ان ملك الرقبه إلى الله كانت الشركة بينهم في المنافع دون الاعيان، وإن قلنا ينقل الملك إليهم كانت الشركة بينهم في المنافع والاعيان، وأما الشركة في المنافع المباحة فمثل أن يموت رجل وله ورثة جماعة ويخلف كلب صيد أو كلب ماشيه أو زرع، فإن المنفعة مشتركة بينهم

(14/63)


وأما الشركة في حقوق الابدان فهو أن يرث جماعه قصاصا أو حد قذف،
وأما الشركة في حقوق الاموال فهو أن يرث جماعه الشفعة أو الرد بالعيب وخيار الشرط وحقوق الرهن ومرافق الطرق (مسألة) وتجوز الشركة في التجارة لما روى أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه، ويكره للمسلم أن يشارك الكافر سواء كان المسلم هو المتصرف أو الكافر أو هما، وقال الحسن رضى الله عنه " ان كان المسلم هو المتصرف لم يكره، وان كان الكافر هو المتصرف أو هما كره دليلنا ما رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قال " أكره أن يشارك المسلم اليهودي والنصراني، ولا مخالف له، ولانهم لا يمتنعون من الربا ومن بيع الخمر، ولا يؤمن أن يكون ماله الذى عقد عليه الشركة من ذلك فكره، فإن عقد الشركة معه صح، لان الظاهر مما في أيديهم أنه ملكهم، وقد اقترض النبي صلى الله عليه وسلم من يهودى شعيرا ورهنه درعه، وقال أحمد يشارك اليهودي والنصراني ولكن لا يخلوان به، ويخلو به المسلم، وحديث الاثرم فيه إرسال، وخبر ابن عباس موقوف عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وتصح الشركة على الدراهم والدنانير، لانهما أصل لكل ما يباع ويبتاع، وبهما تعرف قيمة الاموال وما يزيد فيها من الارباح، فأما ما سواهما من العروض فضربان، ضرب لا مثل له، وضرب له مثل، فأما مالا مثل له كالحيوان والثياب فلا يجوز عقد الشركة عليها لانه قد تزيد قيمة أحدهما دون الآخر، فإن جعلنا ربح ما زاد قيمته لمالكه أفردنا أحدهما بالربح والشركة معقودة على الاشتراك في الربح، وان جعلنا الربح بينهما أعطينا من لم تزد قيمة ماله ربح
مال الآخر، وهذا لا يجوز وأما ماله مثل كالحبوب والادهان ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز عقد

(14/64)


الشركة عليه، وعليه نص في البويطى لانه من غير الاثمان فلم يجز عقد الشركة عليه كالثياب والحيوان
(والثانى)
يجوز، وهو قول أبى إسحاق لانه من ذوات الامثال فأشبه الاثمان، وإن لم يكن لهما غير العروض وأرادا الشركة باع كل واحد منهما بعض عرضه ببعض عرض الاخر، فيصير الجميع مشتركا بينهما، ويشتركان في ربحه.
(الشرح) الاحكام.
قال المزني: والذى يشبه قول الشافعي رحمه الله أنه لا تجوز الشركة في العروض ولا فيما يرجع في حال المفاضلة إلى القيم ولغير الاثمان.
وجملة ذلك أن عقد الشركة يصح على الدراهم والدنانير لانها قيم المتلفات ومعايير الاثمان، وبها تعرف قيم الاموال وما يزيد فيها من الارباح، وممن منع الشركة بالعروض أصحاب أحمد كما نص عليه هو في رواية أبى طالب وحرب، وحكاه عنه ابن المنذر.
وكره ذلك ابن سيرين ويحيى بن أبى كثير والثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأى، لان الشركة إما أن تقع على أعيان العروض أو قيمتها أو أثمانها.
فأما أعيانها فإنه لا يجوز أن تقع عليها لان الشركة تقتضي الرجوع عند المفاصلة برأس المال أو بمثله، وهذه لا مثل لها فيرجع إليه، وقد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الاخر فيستوعب بذلك جميع الربح أو جميع المال، وقد تنقص قيمته فيؤدى إلى أن يشاركه الاخر في ثمن ملكه الذى ليس بربح وأما قيمتها فإنها غير متحققة القدر فيفضى إلى التنازع، وقد يقوم الشوء بأكثر من قيمته، ولان القيمه قد تزيد في أحدهما قبل بيعه فيشاركه الاخر في العين المملوكة له.
وأما الاثمان فإنها معدومه حال العقد ولا يملكانها، ولانه إن أراد ثمنها الذى اشتراها به فقد خرج عن مكانه وصار للبائع.
وان أراد ثمنها الذى يبيعها به فإنها تصير شركه معلقه على شرط وهو بيع الاعيان، ولا يجوز ذلك وقد فرق أصحابنا بين ماله مثل وبين مالا مثل له.
فأما مالا مثل له كالنبات والحيوان وما أشبههما فلا يصح عقد الشركة عليها، وبه قال من مضى ذكرهم، وقال مالك يصح عقد الشركة عليها ويكون رأس المال قيمتها

(14/65)


دليلنا: أن موضع الشركة على أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال أحدهما وهذه الشركة تفضى إلى ذلك، لانه قد يزيد قيمة عرض أحدهما، ولا يزيد قيمة عرض الآخر، فيشاركه من لم يزد قيمة عرضه عند المفاصلة، وهذا لا سبيل إليه فان كان لكل واحد منهما عربة تساوى مائة وأراد الشركة، باع أحدهما نصف عربته بنصف عربة صاحبه ثم يتقابضان ويأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف وان كانت قيمة احداهما مائتين وقيمة الاخرى مائة باع من قيمة عربته مائتان ثلث عربته بثلثي عربة الآخر، وان شاءا باع كل واحد منهما من صاحبه بعض عرضه بثمن في ذمته ثم تقاصا، وان شاءا اشتريا عرضا من رجلين بثمن في ذمتهما ثم دفعا عرضهما عما في ذمتهما.
وأما ما له مثل كالحبوب والادهان، فهل يصح عقد الشركة فيها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، وهو ظاهر ما نقله المزني، لانه قال: ولا فيما يرجع حال المفاصلة إلى القيم، وما له مثل لا يرجع إلى قيمته ولانهما مالان إذا خلطا لم يتميز أحدهما عن الآخر، فصح عقد الشركة عليهما كالدراهم والدنانير.

(والثانى)
لا يجوز، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي البويطى ولا تجوز الشركة في العروض، وما له مثل من العروض، ولانها شركة على عروض فلم
يصح كالنبات والحيوان.
قال أبو إسحاق المروزى في الشرح: فإذا قلنا: تصح الشركة فيها - فان كانت قيمتهما سواء - أخذ كل واحد منهما مثل سلعته يوم المفاصلة واقتسما ما بقى من الربح، وان كانت قيمتهما مختلفه مثل أن كانت حنطة أحدهما جيده وحنطة الآخر مسوسة كان لكل واحد منهما قيمة حنطته يوم الشركة واقتسما ما بقى من الربج
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ولا يصح من الشرك الا شركة العنان، ولا يصح ذلك الا أن يكون مال أحدهما من جنس مال الآخر وعلى صفته، فان كان مال أحدهما دنانير والآخر دراهم، أو مال أحدهما صحاحا والآخر قراضه أو مال أحدهما من سكة ومال الآخر من سكة أخرى لم تصح الشركة، لانهما مالان لا يختلطان فلم تصح

(14/66)


الشركة عليهما كالعروض، فان كان مال أحدهما عشرة دنانير ومال الآخر مائة درهم، وابتاعا بها شيئا وربحا قسم الربح بينهما على قدر المالين، فان كان نقد البلد أحدهما قوم به الاخر، فان استوت قيمتاهما استويا في الربح، وان اختلفت قيمتاهما تفاضلا في الربح على قدر مالهما.

(فصل)
ولا تصح حتى يختلط المالان، لانه قبل الاختلاط لا شركة بينهما في مال، ولانا لو صححنا الشركة قبل الاختلاط وقلنا: ان من ربح شيئا من ماله انفرد بالربح أفردنا أحدهما بالربح، وذلك لا يجوز، وان قلنا: يشاركه الاخر أخذ أحدهما ربح مال الاخر، وهذا لا يجوز، وهل تصح الشركة مع تفاضل المالين في القدر؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
لا تصح، وهو قول أبى القاسم الانماطى لان الشركة تشتمل على مال وعمل ثم لا يجوز أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح، فكذلك لا يجوز
أن يتساويا في العمل ويتفاضلا في الربح وإذا اختلف مالهما في القدر فقد تساويا في العمل وتفاضلا في الربح، فوجب أن لا يجوز.

(والثانى)
تصح، وهو قول عامة أصحابنا وهو الصحيح، لان المقصود بالشركة أن يشتركا في ربح مالهما، وذلك يحصل مع تفاضل المالين كما يحصل مع تساويهما، وما قاله الانماطى من قياس العمل على المال لا يصح، لان الاعتبار في الربح بالمال لا بالعمل، والدليل عليه أنه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بالمال ويشتركا في الربح، فلم يجز أن يستويا في المال ويختلفا في الربح، وليس كذلك العمل، فانه يجوز أن ينفرد أحدهما بالعمل ويشتركا في الربح، فجاز أن يستويا في العمل ويختلفا في الربح.
(الشرح) قوله: شركة العنان وهو أن يشتركا في شئ خاص دون سائر أموالهما، كأنه عن لهما شئ فاشترياه مشتركين فيه، وقيل: مأخوذة من عناني فرسى الرهان، لان الفارسين إذا تسابقا تساوى عنانا فرسيهما، وكذلك الشركة يتساوى فيها الشريكان.

(14/67)


والشركة أربع: شركة العنان، وشركة الابدان، وشركة المفاوضة وشركة الوجوه، ولا يصح من هذه الشركة عندنا إلا شركة العنان.
قال في البيان واختلف الناس لم سميت شركه العنان فقيل سميت شركة العنان لظهورها وهو أنهما ظاهرا باخراج المالين، ويقال عن الشئ إذا ظهر ومنه قول إمرئ القيس فعن لنا سرب كأن نعاجه
* عذارى دوار في ملاء مذيل (وقيل) سميت عنانا من المعاننة وهى المعارضة، وكل واحد من الشريكين عارض شريكه بمثل ماله، إلى أن قال.
وقال أبو بكر الرازي سميت بذلك مأخوذا من العنان، لان الانسان يأخذ عنان الدابة بإحدى يديه، ويحبسه عليها، ويده
الاخرى مرسلة يتصرف بها كيف شاء، كذلك هذه الشركة كل واحد من الشريكين بعض ماله مقصور عن التصرف فيه من جهة الشركة، وبعض ماله يتصرف فيه كيف شاء.
اه وقد اعتبر أصحاب أحمد الشركة خمسا حيث زادوا شركة المضاربة، وقد أجازوا بعض ما هو ممنوع عندنا على تفصيل سيأتي ان شاء الله تعالى.
وجماع القول في شركة العنان هو أن يخرج كل واحد منهما مالا من جنس مال الآخر وعلى صفته ويخلطا المالين، ولا خلاف في صحة هذه الشركة لسلامتها من سائر أنواع الغرر، ويشترط فيها لفظ صريح من كل للآخر يدل على الاذن للمتصرف من كل منهما أو من أحدهما، أو كنايه تشعر بذلك وكاللفظ الكتابة وإشارة الاخرس المفهمه فلو أذن أحدهما فقط تصرف المأذون في الكل والآذن في نصيبه خاصة، فإن شرط عدم تصرفه في نصيبه لم تصح.
(فرع)
الشركة الصحيحه أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير مثل دنانير صاحبه ويخلطاها فيكونا شريكين، وجملة ذلك أن من شرط صحة شركه العنان أن يكون مالهما المشترك بينهما من جنس واحد وسكة واحدة، فإن كان مال أحدهما عملة محلية والاخر عملة أجنبيه واختلفا قيمة لم تصح الشركة لاختلاف جهة الاصدار وعدم اتحاد القيمة واحتمال دخول عنصر الغرر أو الربا في الاستبدال والصرف فلم تصح كما لو كانت نقود أحدهما مكسرة والاخر صحيحه، أو كانت

(14/68)


لاحدهما دنانير والآخر دراهم، أو كانت لاحدهما طبرية والاخر عبدية، وقال أبو حنيفة " يصح " دليلنا أنه مالان مختلفان، فوجب أن لا ينعقد عليهما عقد الشركة، كما لو كان مال أحدهما حنطة ومال الاخر شعيرا، فإن خالفا وأخرج أحدهما عشرة دنانير
والاخر عشرة دراهم وخلطا ذلك وابتاعا فإن ذلك يكون ملكا لهما على قدر مالهما فان كان نقد البلد دنانير قومت الدراهم، فان كانت قيمتها خمسة دنانير كان لصاحب الدنانير ثلثا المتاع ولصاحب الدراهم ثلثه، وكذلك بقسم الربح والخسران بينهما، وإن كان نقد البلد من غير جنس ما أخرجاه قوم ما أخرج كل واحد منهما بنقد البلد، فان تساويا كان ذلك بينهما نصفين، وإن تفاضلا كان الحكم في ملك المتاع لهما كذلك.
ولا تصح الشركة حتى يختلط المالان ثم يقولا: تشاركنا أو اشتركنا، فان عقدا الشركة قبل خلط المالين لم يصح وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى تصح الشركة وان لم يخلطا المالين، بل مال كل واحد منهما بيده يتصرف فيه كيف شاء ويشتركان في الربح وقال مالك رحمه الله تعالى: من شرط عقد الشركة أن تكون أيديهما على المالين، أو يد وكيلهما.
وان لم يكونا مخلوطين دليلنا أنهما مالان يتميز أحدهما عن الاخر فلم تصح الشركة عليهما كما لو كانا حنطة وشعيرا، أو كما لو لم تكن يدهما على المالين، ولانا لو صححنا عقد الشركة قبل الخلط لادى إلى أن يأخذ أحدهما ربح مال الاخر، لانه قد ربح بمال أحدهما دون الاخر وهل من شرط صحة هذه الشركة أن يتساويا في قدر ماليهما؟ فان كان مال أحدهما عشرة دنانير ومال الاخر خمسة لم تصح، لان الشافعي شرط أن يخرج أحدهما مثل ما يخرج الاخر، ولانهما إذا نفاضلا في المال فلابد أن يتفاضلا في الربح.
لان الربح على قدر المالين، فلم يجز أن يتفاضلا في الربح مع تساويهما في العمل، كما لا يجوز أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح قال أبو القاسم الانماطى: لا تصح الشركة.
وقال عامة أصحابنا تصح الشركة

(14/69)


وإن كانا متفاضلين في المالين، لان المقصود في الشركة أن يشتركا في ربح ماليهما وذلك يمكن مع تفاضل المالين، كما يمكن مع تساويهما.
وما قال الشافعي فأراد به المثل من جهة الجنس والسكة، لا من جهة المقدار، وأما اعتبار الربح بالعمل فغير صحيح، لان عمل الشريكين في مال الشركة لا تأثير له، لانه تابع، وقد يعمل أحدهما في مال الشركة أكثر من عمل الاخر مع استوائهما في المال.
وقد يعمل أحدهما في مال الشركة وحده من غير شرط في العقد، ويصح ذلك كله ولا يؤثر في الربح.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز لاحد الشريكين أن يتصرف في نصيب شريكه إلا بإذنه فان أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف تصرفا، وإن أذن أحدهما ولم يأذن الاخر تصرف المأذون في الجميع، ولا يتصرف الاخر الا في نصيبه، ولا يجوز لاحدهما أن يتجر في نصيب شريكه إلا في الصنف الذى يأذن فيه الشريك، ولا أن يبيع بدون ثمن المثل، ولا بثمن مؤجل، ولا بغير نقد البلد إلا أن يأذن له شريكه، لان كل واحد منهما وكيل للآخر في نصفه، فلا يملك الا ما يملك كالوكيل.
(الشرح) الاحكام: إذا عقدا الشركة على مال لهما نصفين، فان كل واحد منهما يملك التصرف في نصف المال مشاعا من غير إذن شريكه لانه ملكه، وهل له أن يتصرف في النصف الاخر من غير اذن شريكه؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي أحدهما يملك ذلك، وبه قال أبو حنيفة لان هذا مقتضى عقد الشركة، فلم يحتج إلى إذن الاخر، كما لو عقد القراض على مال له والثانى: وهو طريقة البغداديين من أصحابنا أنه لا يملك ذلك من غير إذن
شريكه، لان المقصود بالشركه هو أن يشتركا في ربح ماليهما.
وذلك لا يقتضى التوكيل من كل واحد منهما لصاحبه.
إذا ثبت هذا فان أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف بنصيبه تصرف

(14/70)


كل واحد منهما بجميع مال الشركة، وان أذن أحدهما لصاحبه دون الآخر صح تصرف المأذون له في جميع المال، ولا يتصرف من لم يؤذن له الا في نصفه مشاعا ولا يتجر المأذون له في نصيب شريكه إلا في النوع المأذون له فيه من الامتعة، سواء كان يعم وجوده أو لا يعم وجوده، ولان ذلك توكيل، وللانسان أن يوكل غيره يشترى له نوعا من الامتعة، وإن لم يكن عام الوجود بخلاف القراض فإن المقصود منه الربح، وذلك لا يحصل إلا في الاذن بالتجارة فيما يعم وجوده.
قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يتجر في جميع التجارات جاز ذلك أيضا.
ولا يبيع المأذون له نصيب شريكه إلا بنقد البلد حالا بثمن المثل كما نقول في الوكيل
قال المصنف رحمه الله تعالى
.

(فصل)
ويقسم الربح والخسران على قدر المالين، لان الربح نماء مالهما والخسران نقصان مالهما، فكانا على قدر المالين، فإن شرطا التفاضل في الربح والخسران مع تساوى المالين، أو التساوى في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين لم يصح العقد، لانه شرط ينافى مقتضى الشركة فلم يصح، كما لو شرط أن يكون الربح لاحدهما، فإن تصرفا مع هذا الشرط صح التصرف، لان الشرط لا يسقط الاذن فنفذ التصرف، فان ربحا أو خسرا جعل بينهما على قدر المالين، ويرجع كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب شريكه، لانه إنما عمل ليسلم له ما شرط، وإذا لم يسلم رجع بأجرة عمله.
(الشرح) الاحكام: إذا اشترك رجلان وتصرفا - فان ربحا - قسم الربح
بينهما والخسران على قدر المالين.
سواء شرطا ذلك في العقد أو أطلقا، لان هذا مقتضى الشركة، وان شرطا التفاضل في الربح أو الخسران مع تساوى المالين أو شرطا التساوى في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين لم يصح هذا الشرط.
وقال أبو حنيفة " يصح " دليلنا أنه شرط ينافى مقتضى الشركة فلم يصح، كما لو شرطا الربح لاحدهما فان تصرفا مع هذا الشرط صح تصرفهما، لان الشرط يسقط الاذن، فان ربحا

(14/71)


أو خسرا قسم الربح والخسران على قدر مالهما، لانه مستفاد بمالهما، ولانه ثمرة المال فكان على قدرهما، كما لو كان بينهما نخيل فأثمرت، ويرجع كل واحد منهما على صاحبه بأجرة عمله في ماله.
لانه إنما عمل بشرط ولم يسلم له الشرط.

قال المصنف رحمه الله تعالى
.

(فصل)
وأما شركة الابدان، وهى الشركة على ما يكتسبان بأبدانهما فهى باطلة، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ باطل " وهذا الشرط ليس في كتاب الله تعالى.
فوجب أن يكون باطلا، ولان عمل كل واحد منهما ملك له يختص به فلم يحز أن يشاركه الآخر في بدله، فإن عملا وكسبا أخذ كل واحد منهما أجرة عمله.
لانها بدل عمله فاختص بها.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَوَاهُ الشيخان: قال النووي: صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباط الفوائد.
أما الاحكام: فإذا كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم لاحدهما ألف وللآخر ألفان، وعقدا الشركة على أن يكون الربح بينهما نصفين، فان شرط صاحب الالفين على نفسه شيئا من العمل كانت الشركة فاسدة، فإذا عملا قسم
الربح والخسران بينهما على قدر مالهما، ويرجع كل منهما على صاحبه بأجرة عمله في ماله.
وقال ابو حنيفة رحمه الله: الشركة فاسدة ولا يرجع أحدهما على الاخر بأجرة عمله في ماله.
دليلنا أنه عقد قصدا به الربح في كل حال، فإذا كان فاسدا استحق أجرة عمله فيه كالقراض، فإن عمل صاحب الالف على مال الشركة عملا أجرته ثلاثمائة.
وعمل صاحب الالفين على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون، فإن صاحب الالف يستحق على صاحب الالفين مائتين ويستحق عليه صاحب الالفين خمسين فيقاصه بها، وتبقى لصاحب الالف على صاحب الالفين مائة وخمسون.
وان عمل كل واحد منهما على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون فان صاحب

(14/72)


الالف يستحق على صاحب الالفين مائة، ويستحق صاحب الالفين عليه خمسين فيقاصه بها، ويبقى لصاحب الالف على صاحب الالفين خمسون وإن شرط صاحب الالفين جميع العمل على صاحب الالف وشرط نصف الربح، فان هذه الشركة صحيحة وقراض صحيح، لان صاحب الالف يستحق ثلث الربح بالشركة، لان له ثلث المال ولصاحب الالفين ثلثا الربح، فلما شرط جميع العمل على صاحب الالف وشرط له نصف الربح فقد شرط لعمله سدس الربح فجاز، كما لو قارضه على سدس الربح فان قيل كيف صح عقد القراض على مال مشاع؟ قلنا إنما صح لان الاشاعة مع العامل فلا يتعذر تصرفه، وإنما لا تصح إذا كانت الاشاعة في رأس المال مع غيره، لانه لا يتمكن من التصرف (فرع)
قال صاحب البيان: وإن كان بين رجلين ألفا درهم لكل واحد
منهما ألف فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك ويكون الربح بينهما نصفين.
فان هذا ليس بشركة ولا قراض، لان مقتضى الشركة أن يشتركا في العمل والربح.
ومقتضى القراض أن للعامل نصيبا من الربح.
ولم يشترط له ههنا شيئا.
انتهى.
إذا ثبت هذا فعمل وربح كان الربح بينهما نصفين لانه نماء مالهما قال ابن الصباغ: ولا يستحق العامل لعمله في مال شريكه أجرة لانه لم يشترط لنفسه عوضا.
فكان عمله تبرعا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأما شركة المفاوضة وهو أن يعقدا الشركة على أن يشتركا فيما يكتسبان بالمال والبدن، وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بغصب أو بيع أو ضمان فهى شركة باطلة، لحديث عائشة رضى الله عنها.
ولانها شركة معقودة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه فيما يختص بسببه فلم تصح، كما لو عقدا الشركة على ما يملكان بالارث والهبة.
ولانها شركة معقودة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بعدوانه فلم تصح.
كما لو عقدا الشركة

(14/73)


على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بالجناية، فان عقدا الشركة على ذلك واكتسبا وضمنا أخذ كل واحد منهما ربح ماله وأجرة عمله، وضمن كل واحد منهما ما لزمه بغصبه وبيعه وضمانه، لان الشرط قد سقط، وبقى الربح والضمان على ما كانا قبل الشرط، ويرجع كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب شريكه، لانه عمل في ماله ليسلم له ما شرط له، ولم يسلم فوجب أجرة عمله.
(الشرح) الاحكام: إن شركة المفاوضة باطلة عندنا، وهى أن يشترطا أن يكون ما يملكان من المال بينهما، وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر
بغصب أو بيع أو ضمان.
قال الشافعي رضى الله عنه في اختلاف العراقيين: لا أعلم في الدنيا شيئا باطلا إن لم تكن شركة المفاوضه باطلة، ولا أعلم القمار إلا هذا وأقل منه.
وقال أبو حنيفة والثوري والاوزاعي رضى الله عنهم: شركة المفاوضة صحيحة إلا أن أبا حنيفة يقول: من شرط صحتها أن يخرج كل واحد منهما جميع ما يملكه من الذهب والفضة، حتى لو أن أحدهما استثنى مما يملكه درهما لم تصح الشركة، ويكون مال أحدهما مثل مال صاحبه، ويكونان حرين بالغين مسلمين.
ولا تصح بين مسلم وذمى، ولا بين ذميين، ولا بين حر وعبد، فإذا وجدت هذه الشركة تضمنت الوكالة والكفالة.
فأما الوكالة فهو أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في الكسب وفيما يوهب له، وفى الكنز الذى يجده وفى جميع ما يكسبه إلا الاصطياد والاحتشاش فانهما ينفردان.
وأما الميراث فإنهما لا يشتركان فيه، فإذا ورث أحدهما نظر فيه، فإن كان عرضا لم يضمن الشركة، وان كان ذهبا أو فضه فما لم يقبضه فالشركة بحالها وان قبضه بطلت الشركة، لانه قد صار ماله أكثر من مال الاخر.
وأما الكفالة فإن كل ما يلزم أحدهما باقرار أو غصب أو ضمان أو عهدة فان صاحبه يشاركه فيه إلا أرش الجناية.
دَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن الغرر وهذا غرر، والنهى يقتضى فساد المنهى عنه، ولانها شركة تصح مع المفاضلة فلم تصح مع المساواة كالشركة

(14/74)


في العروض وعكسه شركة العنان، ولانهما عقدا الشركة على ما يملكان بالارث أو بقول شركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بعدوانه فلم يصح كما لو عقدا الشركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على كل واحد منهما
كالجناية.
إذا ثبت هذا فان كسبا اختص كل واحد منهما بملك ما كسبه ووجب عليه ضمان ما أتلفه وغصبه، لان وجود هذا العقد بمنزلة عدمه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأما شركة الوجوه، وهو أن يعقدا الشركة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في ربح ما يشتريه بوجهه، فهى شركة باطلة، لان ما يشتريه كل واحد منهما ملك له ينفرد به، فلا يجوز أن يشاركه غيره في ربحه، وإن وكل كل واحد منهما صاحبه في شراء شئ بينهما، واشترى كل واحد منهما ما أذن فيه شريكه.
ونوى أن يشتريه بينه وبين شريكه دخل في ملكهما وصارا شريكين فيه فإذا بيع قسم الثمن بينهما لانه بدل مالهما (الشرح) هذه أيضا إحدى الصور من الشركات التى لا تصح عندنا وتسمى شركة الوجوه.
وهو أن يتفقا على أن يشترى كل واحد منهما بوجهه، ويكون ذلك شركه بينهما وإن لم يذكر شريكه وقال أبو حنيفة " تصح " دليلنا أن ما يشتريه كل واحد منهما ملك له، فلا يشارك غيره فيه، فان أذن أحدهما لصاحبه أن يشترى له عينا معينه أو موصوفه ويبين له الثمن فاشترى له ونواه عند الشراء كان ذلك للآخر.
(فرع)
حكى الصيمري أن الشافعي رحمه الله قال: شركة الازواد في السفر سنة، فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رضى الله عنهم، وليس من باب الربا سبيل، فيخلط هذا طعامه بطعام غيره جنسا وجنسين وأقل وأكثر، ويأكلان ولا ربا في ذلك، ونحو هذا إشراك الجنس في الطعام بدار الحرب.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(14/75)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن أخذ رجل من رجل جملا، ومن آخر راوية، على أن يستقى الماء ويكون الكسب بينهم، فقد قال في موضع: يجوز.
وقال في موضع لا يجوز، فمن أصحابنا من قال: إن كان الماء مملوكا للسقاء فالكسب له، ويرجع عليه صاحب الجمل والراوية بأجرة المثل للجمل والراوية، لانه استوفى منفعتهما بإجارة فاسدة فوجب عليه أجرة المثل وإن كان الماء مباحا فالكسب بينهم أثلاثا لانه استقى الماء على أن يكون الكسب بينهم فكان الكسب بينهم كما لو وكلاه في شراء ثوب بينهم فاشتراه، على أن يكون بينهم، وحمل القولين على هذين الحالين، ومنهم من قال: إن كان الماء مملوكا للسقاء كان الكسب له، ويرجعان عليه بالاجرة لما ذكرناه، وإن كان الماء مباحا ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه بينهم أثلاثا لانه أخذه على أن يكون بينهم فدخل في ملكهم كما لو اشترى شيئا بينهم بإذنهم.

(والثانى)
أن الكسب للسقاء، لانه مباح اختص بحيازته فاختص بملكه كالغنيمة، ويرجعان عليه بأجرة المثل لانهما بذلا منفعة الجمل والراوية، ليسلم لهما الكسب ولم يسلم، فثبت لهما أجرة المثل.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي رحمه الله تعالى في البويطى: إذا اشترك أربعة أنفس في الزراعة فأخرج أحدهما البذر ومن الثاني الارض ومن الثالث الفدان يعنى البقر التى يعمل عليها، والرابع يعمل على أن يكون الزرع بينهم فإن هذا عقد فاسد، لانه ليس شركة ولا قراضا ولا إجارة لان الشركة لا تصح حتى يخلط الشركاء أموالهم، وها هنا أموالهم متميزة، وفى القراض يرجع رب المال إلى رأس ماله عند المفاصلة، وههنا لا يمكن، والاجارة تفتقر إلى أجرة معلومة وعمل معلوم، فإذا ثبت هذا كانت الغلة كلها لمالك البذر لانها عين ماله زادت،
وعليه لصاحب الارض ولصاحب الفدان أجرة مثل مالهم، وللعامل أجرة مثل عمله عليه، لان كل واحد منهم دخل في العقد ليكون له شئ من الغلة، ولم يسلم لهم ذلك، وقد تلفت منافعهم فكان لهم بدلها.

(14/76)


(فرع)
قال في البويطى: فان اشترك أربعة فأخرج أحدهم بغلا والآخر حجر الرحى، ومن الآخر البيت، ومن الرابع العمل على أن يكون ما حصل من الاجرة بينهم على ما شرطوه، فان هذه معاملة فاسدة، لانها ليست شركة ولا قراضا ولا إجارة لما بيناه في الفصل قبله.
قال الشافعي رضى الله تعالى عنه: فإذا أصابوا شيئا جعل لكل واحد منهم أجرة مثله، وجعل كرأس ماله، وقسم ما حصل بينهم على قدره.
قال أبو العباس ابن سريج: في هذا مسألتان.
(إحداهما) إذا جاء رجل فاستأجر من كل واحد ماله ليطحنوا له طعاما معلوما بأجرة معلومة بينهم، بأن يقول لصاحب البيت: استأجرت منك هذا البيت ومن هذا الحجر، ومن هذا البغل، ومن هذا نفسه ليطحنوا لى كذا وكذا من الحنطة بكذا وكذا درهم، فقالوا: قبلنا الاجارة، فهل يصح هذا العقد؟ فيه قولان كالقولين في أربعة أنفس لهم أربع دواب باعوها بثمن واحد، وكالقولين فيمن تزوج أربع نسوة بمهر واحد، أو خالعنه بعوض واحد، فإذا قلنا لا يصح استحق كل واحد منهم أجرة مثل ماله على صاحب الطعام.
وإن قلنا يصح نظر، كم أجرة مثل كل واحد منهم.
وقسم المسمى بينهم على قدر أجور مثلهم، ولو استأجر من كل واحد ملكه بأجرة معلومة على عمل معلوم أو مدة معلومة بعقد مفرد صح ذلك قولا واحدا واستحق كل واحد منهما ما يسمى له.
(المسألة الثانية) إذا استأجرهم في الذمة مثل أن يقول: استأجرتكم لتحصلوا
لى طحن هذا الطعام بمائة صحت الاجارة قولا واحدا.
ووجب على كل واحد منهم ربع العمل واستحق ربع المسمى من غير تقسيط فإذا طحنوا استحقوا المسمى ارباعا، وكان لكل واحد منهم أن يرجع على شركائه بثلاثة أرباع عمله.
فيرجع صاحب البغل على شركائه بثلاثة أرباع أجرة بغله.
وكذلك صاحب البيت والرحى والعامل، لان كل واحد منهم يستحق عليه ربع العمل.
وقد عمل الجميع فسقط الربع لاجل ما استحق عليه، ورجع على شركائه بما لم يستحق عليه.
فان قال: استأجرتكم لتطحنوا لى هذا الطعام بمائة فقالوا قبلنا.
فذكر الشيخ

(14/77)


أبو حامد الاسفرايينى في التعليق أنها على قولين كالمسالة الاولى.
وذكر المحاملى في البحر وابن الصباغ: أنها لا تصح قولا واحدا كالمسألة الثانية.
فإن قال لرجل منهم: استأجرتك لتحصل لى طحن هذا الطعام بمائة فقال: قبلت الاجارة لى ولاصحابي، أو نوى ذلك وكانوا قد أذنوا له في ذلك فالاجارة صحيحة، والمسمى بينهم أرباعا، فإذا طحنوا رجع كل واحد منهم بثلاثة أرباع أجرة ماله على شركائه، وان لم ينو أن يقبل له ولاصحابه لزمه العمل بنفسه، فإذا طحن الطعام بالآلة التى بينه وبين شركائه استحق المسمى وكان عليه أجرة مثل آلاتهم (فرع)
قال في البويطى: فإن اشترك ثلاثة من أحدهم البغل، ومن الاخر الراوية، ومن الاخر العمل على أن يستقى الماء ويكون ما رزق الله بينهم، فإن هذه معاملة فاسدة، لانها ليست بشركة ولا قراض ولا إجارة لما بيناه، فإذا استقى الماء وباعه، وحصل منه ثمن فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي موضع: يكون ثمن الماء كله للعامل، وعليه أجرة مثل البغل والراوية.
وقال في موضع: يكون ثمن الماء كله للسقاء، وعليه أجرة البغل والراوية إذا كان الماء ملكا له مثل أن يأخذ الماء من بركة له أو مما ينبع في ملكه لان الماء
ملكه، وكان ثمنه ملكا له، وعليه أجرة البغل والراوية لانه استوفى منفعتهما على عوض، ولم يسلم لهما الغرض.
والموضع الذى قال: يكون ثمن الماء بينهم، إذا كان الماء مباحا، لان الثمن حصل بالعمل والبغل والراوية، ومنهم من قال: إن كان الماء ملكا للسقاء فالثمن كله له.
وعليه أجرة البغل والراوية لما ذكرناه، وإن كان الماء مباحا ففيه قولان
(أحدهما)
أن الثمن كله للسقا لان الماء يملك بالحيازة ولم توجد الحيازة إلا منه، وعليه أجرة مثل البغل والراويه، لانهم دخلوا على أن يكون لهم قسط من ثمن الماء، فإذا لم يحصل ذلك لهم استحقوا أجرة المثل.
(والقول الثاني) أن ثمن الماء بينهم لانه لم يتناول الماء لنفسه، وإنما تناوله ليكون بينهم فكان بينهم، فصار كالوكيل لهم.
قال ابن الصباغ وهكذا لو اصطاد له ولغيره فهل لغيره منه شئ؟ فيه وجهان:

(14/78)


أحدهما وهو قول الشيخ أبى حامد في التعليق أنه يقسم بينهم بالتقسيط على قدر أجور أمثالهم.
وحكى أن الشافعي رحمه الله نص على ذلك.
والثانى: حكاه ابن الصباغ عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه يكون بينهم أثلاثا ويرجع صاحب البغل بثلثي أجرته على صاحبه ويرجع صاحب الراوية بثلثي أجرته على صاحبيه، ويرجع السقا على صاحبيه بثلثي أجرته.
وأما صاحبنا المصنف فذكر أنه يكون بينهم أثلاثا وأطلق، فان أستأجرهم غيرهم ليستقوا له ماء.
قال أبو العباس: ففيه مسألتان كما ذكر في الطحن إن استأجرهم إجارة معينة بأجرة واحدة ففيه قولان، وإن استأجرهم في ذممهم صح قولا واحدا والله تعالى أعلم.
ويستخلص مما مضى أنه يجوز عندنا على أحد الوجهين اشتراك مالين وبدن
صاحب أحدهما على سبيل الشركة والمضاربة معا بصورة يمتنع فيها الغرر مثل أن يشترك رجلان بينهما ثلاثة آلاف درهم لاحدهم ألف وللآخر ألفان فأذن صاحب الالفين على أن يتصرف صاحب الالف على أن يكون الربح بينهما نصفين ويكون لصاحب الالف ثلث الربح بحق ماله والباقى وهو ثلثا الربح بينهما لصاحب الالفين ثلاثة أرباعه وللعامل ربعه، وذلك لانه جعل له نصف الربح، فجعلناه ستة أسهم منها ثلاثة للعامل، حصة ماله سهمان وسهم يستحقه بعمله في مال شريكه، وحصة مال شريكه أربعة أسهم سهم للعامل وهو الربع.
وقال مالك: لا يجوز أن يضم إلى القراض شركة، كما لا يجوز أن يضم إليه عقد إجارة.
دليلنا: أنهما لم يجعلا أحد العقدين شرطا للآخر، فلم نمنع من جمعهما كما لو كان المال متميزا.
(مسألة) إذا اشترى الشريكان عينا فوجدا به عيبا، فإن اتفقا على رده وإمساكه فلا كلام، وان أراد أحدهم الرد والآخر الامساك، فإن كانا قد عقدا جميعا عقد البيع فلاحدهما أن يرد نصيبه دون نصيب شريكه، وقد مضى ذكرهما في البيوع، وإن تولى أحدهما عقد البيع له ولشريكه فإن كان لم يذكر أنه يشترى له ولشريكه ثم قال بعد ذلك: كنت اشتريت لى ولشريكي لم يقبل قوله على البائع

(14/79)


لان الظاهر أنه اشترى لنفسه، وإن كان قد ذكر في الشراء أنه لنفسه ولشريكه فهل له أن يرد حصته دون شريكه؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد.
أحدهما له ذلك، لان البائع قد علم أن الصفقة لنفسين فصار كما لو اشتريا بأنفسهما.
والثانى: ليس له الرد، وإن ذكر أنه يشترى له ولشريكه، فحكم العقد له، ألا ترى أنه لو اشترى سيارة فقال: اشتريتها لخالد فقال خالد: ما أذنت له.
كان الشراء لازما للمشترى.
فأما إذا باع لرجل سيارة ثم قال: كانت بينى وبين فلان، فان باعها مطلقا ثم قال بعد ذلك: إنها بينه وبين غيره لم يبقل قوله على المشترى، لان الظاهر أنه باع ملكه.
قال الشيخ أبو حامد فيحلف المشترى أنه لا يعلم ذلك، فان أقام الشريك بينة أنها بينه وبينه حكم له بذلك، فان كان قد أذن له بالبيع صح، وان لم يأذن له كان القول قوله أنه ما أذن له، لان الاصل عدم الاذن، فان ذكر البائع حين البيع أنها بينه وبين شريكه قبل قوله، لانه مقر على نفسه في ملكه.
وان أقر الشريك أنه أذن له في البيع نفذ البيع، وان لم يقر بالاذن ولا بينة عليه حلف أنه ما أذن له وبطل البيع، لان الاصل عدم الاذن.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
والشريك أمين فيما في يده من مال شريكه فان هلك المال في يده من غير تفريط لم يضمن، لانه نائب عنه في الحفظ والتصرف، فكان للهالك في يده كالهالك في يده، فان ادعى الهلاك - فان كان بسبب ظاهر - لم يقبل حتى يقيم البينة عليه، فإذا أقام البينة على السبب فالقول قوله في الهلاك مع يمينه، وان كان بسبب غير ظاهر فالقول قوله مع يمينه من غير بينة، لانه يتعذر اقامة البينة على الهلاك، فكان القول قوله مع يمينه.
وان ادعى عليه الشريك خيانة وأنكر فالقول قوله لان الاصل عدم الخيانة.
وان كان في يده عين وادعى شريكه أن ذلك من مال الشركة، وادعى هو أنه له فالقول قوله مع يمينه، لان الظاهر مما في يده أنه ملكه فان اشترى شيئا فيه ربح فادعى الشريك أنه اشتراه للشركة، وادعى هو أنه اشتراه لنفسه أو اشترى شيئا فيه خسارة، وادعى

(14/80)


الشريك أنه اشتراه لنفسه، وادعى هو أنه اشتراه للشركة.
فالقول قوله، لانه أعرف بعقده ونيته
(الشرح) الاحكام: الشريك أمين فيما في يده من مال الشركة، فإن تلف في يده شئ منه من غير تفريط لم يجب عليه ضمانه، لانه نائب عن شريكه في الحفظ فكان الهالك في يده كالهالك في يد المالك، وللامانة أن تحفظ بدعامتين من الصدق والثقة، فان ادعى الهلاك بسبب ظاهر لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على السبب الظاهر، لانه يمكنه إقامة البينة عليه، فإن شهدت البينة بصدق قوله وترتب الهلاك على السبب الظاهر فلا كلام.
وإن شهدت البينة بالسبب ولم تذكر هلاك المال فالقول قول الشريك مع يمينه أنه هلك بذلك.
وإن ادعى الهلاك بسبب غير ظاهر فالقول قوله مع يمينه لانه يتعذر عليه إقامة البينة مع الهلاك.
وإن ادعى الشريك على شريكه جناية لم تسمع دعواه حتى يبين قدر الجناية فإذا بينها فأنكرها الآخر، ولا بينة على المنكر فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم الجناية.
وإن اشترى أحد الشريكين شيئا فيه ربح، فقال شريكه اشتريته شركة بيننا وقال المشترى: بل اشتريته لنفسي فالقول قول المشترى مع يمينه وإن اشترى شيئا فيه خسارة، فقال المشترى: اشتريته شركة بيننا.
وقال الآخر: بل اشتريته لنفسك فالقول قول المشترى مع يمينه، لانه أعرف بعقده ولان الاصل عدم الخيانة.
(فرع)
إذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه بالتصرف، فاشترى أحدهما شيئا للشركة بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس بمثله، فان اشترى ذلك بثمن في ذمته لزم المشترى جميع ما اشتراه، ولا يلزم شريكه ذلك، لان الاذن يقتضى الشراء بثمن المثل، فان دفع الثمن من مال الشركة ضمن نصيب شريكه بذلك لانه تعدى بذلك.
وإن اشتراه بعين مال الشركة لم يصح الشراء في نصيب الشريك، لان العقد متعلق بعين المال.
وهل يبطل في نصيب المشترى؟ فيه
قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.

(14/81)


فإذا قلنا يبطل فهما على شركتهما كما كانت وإن قلنا يصح الشراء في نصيبه انفسخت الشركة بينهما في قدر الثمن، لان حقه من الثمن قد صار للبائع، فيكون البائع شريك شريكه بقدر الثمن، ويكون هو شريك البائع في السلعة، فان باع أحد الشريكين شيئا من مال الشركة بأقل من ثمن المثل بمالا يتغابن الناس بمثله بطل البيع في نصيب شريكه لان مطلق الاذن يقتضى البيع بثمن المثل وهل يبطل البيع في نصيب البائع؟ فيه قولان بناء على القولين، إن قلنا يبطل فهما على الشركة كما كانا، وإن قلنا لا يبطل بطلت الشركة بينهما في المبيع، لان حصته منها صارت للمشترى للابتياع، فيكون المشترى شريك شريكه.
قال أبو إسحاق: ولا يضمن البائع نصيب شريكه ما لم يسلمه، لان ذلك موضع اجتهاد لوجود الاختلاف فيه، ولو أودع عند رجل عينا فباعها المودع فانه يضمن ذلك بفسخ البيع إن لم يسلم، لان المودع لا يجوز له البيع بالاجماع، واستضعف الشيخ أبو حامد هذا وقال: هو متعد بالبيع، فلا فرق بين أن يكون مختلفا فيه أو مجمعا عليه.
ألا ترى أنه إذا ضمن وان كان مختلفا فيه.
(فرع)
إذا كانت بهيمة بين اثنين فجاء رجل أجنبي وأزال يد أحد الشريكين من البهيمة صار غاصبا لحصته منها، وإن كانت مشاعا لان الغصب أزال اليد، وذلك يوجد في المشاع كما يوجد في المقسوم.
ألا ترى أن رجلين لو كان بينهما دار فجاء رجل وأخرج أحدهما من الدار وقعد فيه مكانه كان غاصبا لحصته من الدار.
هكذا ذكر الشيخ أبو حامد فإذا باع الغاصب والشريك الذى لم يغصب منه البهيمة صفقة واحدة من رجل، فان الشافعي رضى الله عنه قال: يصح البيع في نصيب المالك، ويبطل
فيما باعه الغاصب.
قال العمرانى: واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال هي على قولين بناء على القولين في تفريق الصفقة.
ومنهم من قال: يصح البيع في نصيب المالك قولا واحدا، لان عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، فلا يفسد أحدهما بفساد الآخر.
وإن وكل الشريك الذى لم يغصب منه الغاصب في بيع نصيبه فباع جميع

(14/82)


العين صفقة واحدة.
فان باع وأطلق ولم يذكر الشريك الموكل لم يصح البيع في نصيب المغصوب منه.
وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ فيه قولان.
وان ذكر الغاصب في البيع أنه وكيل في بيع نصفه لم يصح بيع نصيب المغصوب منه.
وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ على الطريقين في المسألة قبلها لانه بمنزلة العقدين.
وان غصب الشريك نصيب شريكه فباع العبد صفقة واحدة بطل البيع في نصيب المغصوب منه.
وهل يبطل في نصيبه؟ فيه قولان.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن كان بينهما عبد فأذن أحدهما لصاحبه في بيعه فباعه بألف ثم أقر الشريك الذى لم يبع أن البائع قبض الالف من المشترى وادعى المشترى ذلك وأنكر البائع.
فان المشترى يبرأ من حصة الشريك الذى لم يبع لانه أقر أنه سلم حصته من الثمن إلى شريكه باذنه وتبقى الخصومة بين البائع وبين المشترى وبين الشريكين.
فان تحاكم البائع والمشترى.
فان كان للمشترى بينة بتسليم الثمن قضى له وان لم يكن له من يشهد غير الشريك الذى لم يبع فان شهادته مردودة في قبض حصته - لانه يجر بها إلى نفسه نفعا - وهو حق الرجوع عليه بما قبض
من حصته.
وهل ترد في حصة البائع؟ فيه قولان: فان قلنا تقبل تحلف معه المشترى ويبرأ.
وان قلنا لا تقبل أو لم يكن عدلا فالقول قول البائع مع يمينه إنه لم يقبض.
فان حلف أخذ منه نصف الثمن وليس للشريك الذى لم يبع أن يأخذ مما أخذ البائع شيئا.
لانه أقر أنه قد أخذ الحق مرة.
وإن ما أخذه الآن أخذه ظلما فلا يجوز أن يأخذ منه.
وان نكل البائع حلف المشترى ويبرأ

(14/83)


وإن تحاكم الشريكان - فإن كان للذى لم يبع بينة بأن البائع قبض الثمن - رجع عليه بحصته، وإن لم تكن له بينة حلف البائع أنه لم يقبض ويبرأ، وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على الذى لم يبع فيحلف ويأخذ منه حصته وان ادعى البائع أن الذى لم يبع قبض الالف من المشترى وادعاه المشترى وأنكر الذى لم يبع نظرت، فإن كان الذى لم يبع مأذونا له في القبض برئت ذمة المشترى من نصيب البائع، لانه أقر أنه سلمه إلى شريكه باذنه.
وتبقى الخصومة بين الذى لم يبع وبين المشترى وبين الشريكين، فيكون البائع ههنا كالذى لم يبع، والذى لم يبع كالبائع في المسألة قبلها، وقد بيناه.
وإن لم يكن واحد منهما مأذونا له في القبض لم تبرأ ذمة المشترى من شئ من الثمن، لان الذى باعه أقر بالتسليم إلى من لم يأذن له، والذى لم يبع أنكر القبض، فان تحاكم البائع والمشترى أخذ البائع منه حقه من غير يمين، لانه سلمه إلى شريكه بغير إذنه.
وإن تحاكم المشترى والذى لم يبع، فان كان للمشترى بينة برئ من حقه، وان لم يكن له من يشهد غير البائع - فان كان عدلا - قبلت شهادته لانه
لا يجر بهذه الشهادة إلى نفسه نفعا ولا يدفع بها ضررا، فإذا شهد حلف معه المشترى وبرئ، وان لم يكن عدلا فالقول قول الذى لم يبع مع يمينه، فإذا حلف أخذ منه حقه.
وان كان البائع مأذونا له في القبض والذى لم يبع غير مأذون له، وتحاكم البائع والمشترى قبض منه حقه من غير يمين، لانه سلمه إلى شريكه من غير اذنه وهل للشريك الذى لم يبع مشاركته فيما أخذ.
قال المزني: له مشاركته وهو بالخيار بين أن يأخذ من المشترى خمسمائة، وبين أن يأخذ من المشترى مائتين وخمسين، ومن الشريك مائتين وخمسين.
وقال أبو العباس: لا يأخذ منه شيئا لانه لما أقر أن الذى لم يبع قبض جميع الثمن عزل نفسه من الوكالة في القبض، لانه لم يبق له ما يتوكل في قبضه، فلا يأخذ بعد العزل الا حق نفسه، فلا يجوز للذى لم يبع أن يشاركه فيه، فان

(14/84)


تحاكم المشترى والذى لم يبع فالقول قول الذى لم يبع مع يمينه أنه لم يقبض، لان الاصل عدم القبض، فان كان للمشترى بينة قضى له وبرئ، وان لم يكن له من يشهد الا البائع لم تقبل شهادته على قول المزني، لانه يدفع عن نفسه بهذه الشهادة ضررا وهو رجوع الشريك الذى لم يبع عليه بنصف ما في يده، وعلى قول أبى العباس تقبل شهادته قولا واحدا، لانه لا يدفع بشهادته ضررا لانه لا رجوع له عليه.
(الشرح) الاحكام: إذا كانت الشركة بينهما مناصفة في شئ فأذن أحدهما لصاحبه ببيع نصيبه منه وقبض ثمنه، أو قلنا: انه يملك القبض بمقتضى الوكالة في البيع فباع العين المشتركة من رجل بألف، ثم أقر الشريك الذى لم يبع أن البائع قبض الالف من المشترى، وادعى ذلك المشترى وأنكر البائع فإن المشترى
يبرأ من نصيب الشريك الذى لم يبع، لانه اعترف أنه سلم ما يستحقه عليه من الثمن إلى شريكه بإذنه، ثم تبقى الخصومة بين الشريكين وبين البائع والمشترى، فان تحاكم البائع والمشترى، فان أقام المشترى بينة شاهدين أو شاهدا وإمرأتين بأنه قد سلم إليه الالف حكم على البائع أنه قد قبض الالف وبرئ المشترى منها ولزم البائع بذلك تسليم خمسمائة إلى الذى لم يبع، وإن لم يكن مع المشترى من يشهد له غير الشريك الذى لم يبع فان شهادته في نصيبه لا تقبل على البائع.
وهل تقبل شهادته في نصيب البائع؟ فيه قولان، فان قلنا: انها تقبل حلف عنه المشترى وبرئ من حصة البائع.
وان قلنا: لا تقبل أو كان فاسقا فالقول قول البائع مع يمينه أنه ما قبض الالف ولا شيئا منها، لان الاصل عدم القبض فإذا حلف أخذ منه خمسمائة درهم، ولا يشاركه الذى لم يبع، لانه لما أقر أن البائع قد قبض الالف اعترف ببراءة ذمة المشترى من الثمن، وأنه يأخذه الآن ظلما فلا يشاركه فيه.
وان نكل البائع عن اليمين حلف المشترى أنه قد سلم إليه الالف، وبرئ من الالف، ولا يستحق الشريك الذى لم يبع على البائع بيمين المشترى شيئا،

(14/85)


سواء قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه بمنزلة الاقرار من المدعى عليه أو بمنزلة إقامة البينة من المدعى، لانا إنما نجعل ذلك في حق المتحالفين في حق غيرهما.
وكذا لو أقام المشترى شاهدا واحدا وحلف معه فإنه يبرأ من الالف، ولا يرجع الذى لم يبع على البائع بشئ إلا إذا حلف مع الشاهد، بخلاف ما لو أقام المشترى بينة، فانه يحكم بها للمشترى وللذى لم يبع وإن بدأ الشريكان فتحاكما - فان كان للشريك الذى لم يبع بينة أن البائع
قبض الالف فأقامها - حكم بها على البائع للمشترى وللذى لم يبع، وإن لم يكن له بينة غير المشترى لم تقبل شهادته للمشترى قولا واحدا، لانه يشهد على فعل نفسه، فيحلف البائع أنه لم يقبض الالف ولا شيئا منها ويسقط حق الذى لم يبع من كل جهة.
وإن نكل البائع عن اليمين فرد اليمين على الذى لم يبع فحلف استحق الرجوع على البائع بخمسمائة، ولا يثبت حق المشترى على البائع، سواء قلنا إن يمين الذى لم يبع بمنزلة إقرار البائع أو بمنزلة قيام البينة عليه، لان ذلك إنما يحكم به في حق المتحالفين لا في حق غيرهما.
ولان اليمين حجة في حق الحالف لا تدخلها النيابة فلم يثبت بيمينه حق غيره بخلاف البينة.
هكذا ذكر عامة أصحابنا.
وذكر أبو على الشيخى وجها لبعض أصحابنا أنه ثبت باليمين والنكول جميع الثمن على البائع في هذه وفى التى قبلها، وهو إذا حلف المشترى مع نكول البائع كما قلنا في البينة وليس بشئ.
وإن ادعى البائع أن الذى لم يبع قبض الالف من المشترى، وادعى المشترى ذلك وأنكر الذى لم يبع، فلا يخلو من أربعة أقسام.
إما أن يكون كل واحد منهما مأذونا له في القبض، أو كان الذى لم يبع مأذونا في القبض وحده أو كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض، أو كان البائع مأذونا له في القبض وحده.
فان كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه بالقبض، أو كان البائع قد أذن

(14/86)


للذى لم يبع بقبض نصيبه وحده، فان المشترى يبرأ من نصيب البائع من الثمن لانه أقر أنه دفع حقه إلى وكيله فيكون النظر إلى هذه المسألة كالنظر في التى قبلها إلا أن البائع ههنا يكون كالذى لم يبع هناك، والذى لم يبع ههنا كالبائع هناك
على ما ذكرنا حرفا بحرف.
قال العمرانى: وإن كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض فانه باقرار البائع أن الذى لم يبع قبض الالف لا تبرأ ذمة المشترى من شئ من الثمن: لان البائع أقر بتسليم حصته من الالف إلى غير وكيله، والذى لم يبع ينكر القبض فيأخذ البائع حقه من الثمن من غير يمين، وتبقى الخصومة بين الذى لم يبع وبين المشترى، فان طالب الذى لم يبع المشترى بحقه من الثمن، فان كان مع المشترى بينة حكم له بها على الذى لم يبع.
وإن لم يكن له بينة غير البائع وهو عدل حلف معه وحكم ببراءة ذمة المشترى من نصيب الذى لم يبع قولا واحدا والفرق بين هذه وبين المسائل المتقدمة أن هناك ردت شهادته في القبض للتهمة، وههنا لم ترد شهادته في شئ أصلا، وإن لم يكن البائع عدلا، أو كان ممن لا تقبل شهادة المشترى بأن يكون والده أو ولده، أو كان ممن لا تقبل شهادته على الذى لم يبع بأن يكون عدوا له، فالقول قول الذى لم يبع مع يمينه، لانه لم يقبض الالف ولا شيئا منه، فإذا حلف أخذ حقه من الثمن، وان نكل حلف المشترى وبرئ من حق الذى لم يبع وأما إذا كان البائع قد أذن له الذى لم يقبض حقه، وقلنا ان الاول في البيع يقتضى قبض الثمن ولم يأذن البائع الذى لم يبع بقبض حقه من الثمن، فان باقرار البائع لا تبرأ ذمة المشترى من نصيب البائع من الثمن، لانه يقر أنه دفع ذلك إلى غير وكيله.
وأما نصيب الذى لم يبع، فان المزني نقل أن المشترى يبرأ من نصف الثمن باقراره البائع أن شريكه قد قبض، لانه في ذلك أمين.
فمن أصحابنا من خطأه في النقل وقالوا هذا مذهب أهل العراق، وأن إقرار الوكيل يقبل على الموكل.

(14/87)


فيحتمل أن يكون الشافعي رحمه الله ذكر ذلك.
قال: وبه قال محمد بن الحسن رحمه الله، فظن المزني أنه أراد بذلك نفسه، ولم يرد الشافعي رحمه الله تعالى إلا محمد بن الحسن ومن أصحابنا من اعتذر للمزني وقال: معنى قوله " يبرأ المشترى من نصف الثمن يريد به في حق البائع، فان البائع كان له المطالبة بجميع الالف فلما أقر أن شريكه قبض الالف سقطت مطالبته بالنصف إذا ثبت هذا وأن المشترى لا يبرأ من شئ من الثمن فان البائع يأخذ خمسمائة من غير يمين، فإذا قبض ذلك فهل للذى لم يبع أن يشارك البائع بما قبضه؟ نقل المزني أن له أن يشاركه فيما قبضه، وبه قال بعض أصحابنا، لان الذى لم يبع يقول: قد أخذ البائع خمسمائة من المشترى بحق مشاع بينى وبينه، وقول البائع: إنه أخذه لنفسه لا يقبل على الذى لم يبع لان المال إذا كان مشاعا بين اثنين فقبض أحدهما منه شيئا ثم قال قبضته لنفسي لم يقبل وقال أبو العباس والمصنف وعامة الاصحاب: لا يشاركه فيما قبض، لان البائع لما أقر أن الذى لم يبع قد قبض الثمن تضمن ذلك عزل نفسه من الوكالة لانه لم يبق ما يتوكل فيه فان قلنا بقول المزني كان الذى لم يبع بالخيار بين أن يطالب المشترى بخمسمائة وبين أن يأخذ من البائع مائتين وخمسين ومن المشترى مائتين وخمسين فإذا أخذ من البائع مائتين وخمسين لم يكن للبائع أن يرجع بها على المشترى، لانه يقول: ان للذى لم يبع ظلمه بها فلا يرجع بها على غير من ظلمه وإن قلنا بقول أبى العباس ومن تابعه لم يكن للذى لم يبع أن يشارك البائع بشئ مما أخذ، بل له أن يطالب المشترى بحقه من الثمن وهو خمسمائة فإذا طالب الذى لم يبع المشترى - فإن كان مع المشترى بينة على الذى لم يبع أنه قبض منه
الالف - برئ من نصيبه من الثمن، وكان له أن يرجع عليه بخمسمائة لانه قبض منه الفا ولا يستحق عليه إلا خمسمائة.
وإن لم يكن مع المشترى من يشهد له بقبض الذى لم يبع الالف غير البائع وكان عدلا، فهل تقبل شهادته، إن قلنا بقول أبى العباس: إن الذى لم يبع

(14/88)


لا يشارك البائع فيما قبض قبلت شهادته عليه، فيحلف معه المشترى وتبرأ ذمته من حقه من الثمن، ويرجع عليه بخمسمائة لانه لا يدفع بشهادته عن نفسه ضررا ولا يجر بها إلى نفسه نفعا وان قلنا بقول المزني ومن تابعه: ان الذى لم يبع يشارك البائع فيما قبض لم تقبل شهادته، لانه يدفع بها عن نفسه ضررا وهو حق الرجوع عليه بنصف ما قبض، لانه إذا ثبت أنه قد استوفى الخمسمائة من المشترى لم يشارك البائع في شئ مما قبض.
فإن قلنا: لا تقبل شهادته عليه، أو كان ممن لا تقبل شهادته عليه، أو كان ممن لا تقبل شهادته لمعنى غير هذا فالقول قول الذى لم يبع مع يمينه أنه لم يقبض الالف ولا شيئا منه فإذا حلف استحق الرجوع بحصته من الثمن على ما مضى، وان نكل عن اليمين فحلف المشترى أنه قد قبض منه الالف برئ من حصته من الثمن، ويرجع عليه بما زاد على حقه.
(فرع)
وان أقر أحد الشريكين أنه باع وقبض الثمن وتلف في يده وهو مأذون له فأنكر شريكه البيع أو القبض فهل يقبل قول المأذون له؟ فيه قولان نذكرهما في الوكالة إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ الله:
(فصل)
ولكل واحد من الشريكين أن يعزل نفسه عن التصرف إذا شاء،
لانه وكيل، وله أن يعزل شريكه عن التصرف في نصيبه لانه وكيله فيملك عزله فإذا انعزل أحدهما لم ينعزل الآخر عن التصرف، لانهما وكيلان، فلا ينعزل أحدهما بعزل الاخر، فإن قال أحدهما فسخت الشركة انعزلا جميعا، لان الفسخ يقتضى رفع العقد من الجانبين فانعزلا، وإن ماتا أو أحدهما انفسخت الشركة، لانه عقد جائز فبطل بالموت كالوديعة، وإن جنا أو أحدهما، أو أغمى عليهما أو على أحدهما، بطل لانه بالجنون والاغماء يخرج عن أن يكون من أهل التصرف ولهذا تثبت الولاية عليه في المال، فبطل العقد كما لو مات، والله أعلم.

(14/89)


(الشرح) الاحكام: إذا اشتركا وأذن كل واحد منهما لصاحبه بالتصرف ثم عزل أحدهما صاحبه عن التصرف في نصيبه أو عزل أحدهما نفسه عن التصرف في نصيب شريكه كانت الشركة باقية إلا أن المعزول لا يتصرف إلا في نصيب نفسه مشاعا ولا ينعزل الاخر عن التصرف في نصيب صاحبه ما لم يعزله صاحبه، أو يعزل نفسه - أي ينحيها عن التصرف - لان تصرف كل واحد منهما في نصيب شريكه بالاذن، فإذا عزله المالك أو عزل نفسه انعزل، وان عزل كل واحد منهما صاحبه، أو قال أحدهما: عزلت نفسي عن التصرف في نصيب شريكي وعزلته عن التصرف في نصيبي انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه، ولا تبطل الشركة بذلك.
وإن قال أحدهما: فسخت الشركة انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه، لان ذلك يقتضى العزل من الجانبين ولا يبطل الاشتراك، وإن اتفقا على القسمة قسم، وإن اتفقها على البيع أو التبقية كان لهما ذلك فان دعا أحدهما إلى البيع والاخر إلى القسمة أجيب من دعا إلى القسمة كالمال الموروث بين الورثة وان جن أحدهما أو أغمى عليه انفسخت الشركة وانعزل كل واحد منهما عن التصرف
في نصيب الاخر، لان الاذن عقد جائز فبطل بالجنون والاغماء كالوكالة.
(فرع)
إذا مات أحدهما انفسخت الشركة وانعزل الباقي منهما عن التصرف في نصيب الاخر، لان الاذن عقد جائز فبطل بالموت كالوكالة، إذا ثبت هذا: فان لم يكن على الميت دين ولا أوصى بشئ، وان كان الوارث بالغا رشيدا فله أن يقيم على الشركة بأن يأذن الاخر في التصرف، وبأذن الشريك له، وله أن يقاسم لان الحق لهما، فكان لهما أن يفعلا ما شاءا.
قال الشيخ أبو إسحاق: غير أن الاولى أن يقاسمه، وان كان الحظ في الشركة لان الحوالة وقعت وهو رشيد، وان كان الوارث مولى عليه كان النظر فيه إلى وليه، فان كان الحظ في الشركة لم يجز له أن يقاسمه، وان كان الحظ في القسمة لم يجز له أن يقيم على الشركة، لان الناظر في مال المولى عليه لا ينفذ تصرفه فيه الا فيما له حظ.
وسواء ان كان المال نقدا أو عرضا فان الشركة تجوز، لان

(14/90)


الشركة انما لا تجوز ابتداء على العروض، وهذا استدامة للشركة وليس بابتداء عقد، وان مات وعليه دين لم يجز للوارث أن يأذن في التصرف بمال الشركة، لان الدين يتعلق بجميع المال فهو كالمرهون، فان قضى الدين من غير مال الشركة كان كما لو مات ولا دين عليه، وهكذا إذا قضى الدين ببعض مال الشركة كان للوارث أن يأذن له في التصرف فيما بقى، فان أوصى بثلث ماله أو بشئ من مال الشركة - فان كانت الوصية لمعين - كان الموصى له شريكا كالوارث، وله أن يفعل ما يفعل الوارث.
وان كانت الوصية لغير معين لم يجز للوصي الاذن للشريك في التصرف، لانه قد وجب دفعه إليهم، بل يعزل نصيبه ويفرق عليهم، فان كان قد أوصى بثلث ماله فأعطى الوارث ثلث الموصى لهم من غير ذلك المال مثله لم يجز له
ذلك لان الموصى لهم قد استحقوا ثلث ذلك المال بعينه، فلا يجوز أن يعطوا من غيره.
مسائل حول الشركة.
لو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين فقياس المذهب أن السمك كله للصياد، إذا قلنا: ان الآلة تؤجر بأجر معلوم، فيكون لصاحب الشبكة أجر المثل، وبهذا لا يكون صاحب الشبكة شريكا في حصيلة الصيد، فإذا قلنا: ان الالة لا تؤجر، وان الصياد قد لا يجد سمكا يحصل في شبكته فمن أين يأتي بأجر الشبكة وليس لها أجر مثل معلوم في حين أن أجر الصياد معلوم قضينا بأن صاحب الشبكة له الصيد كله وللصياد أجر مثله على صاحب الشبكة.
لان الربح تابع للمال وقياس مذهب أحمد أن الصيد بينهما نصفان جائز على ما شرطاه لانها عين تنمى بالعمل، فصح دفعها ببعض نمائها كالارض التى دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود في خيبر أن يعملوا فيها على الشطر.
الشركات التى تؤسس من بلاد غير بلاد المسلمين لتعمل في أرض المسلمين لاستخراج خيراتها واستنباط خاماتها واستدرار زيوتها ومعادنها لا تصح إلا إذا قامت على هيمنة المسلمين وسيطرتهم على إدارتها.
ويجب على المسلمين أن يبعثوا طائفة منهم تتعلم علوم طبقات الارض ووسائل استثمار خاماتها وخيرا بها، ولو أن المسلمين فقهوا دينهم والتزموا في سلوكهم بأحكام هذه الفروع الدقيقة

(14/91)


لدانت لهم الارض ولبرعوا في شتى علومها الدنيوية وفنونها الحيوية.
ولم تتعرض أرضهم للاغتصاب ورقابهم للعناء.
وقد عرفنا أن احتلال الكفار للهند وأندونيسيا ومليزيا بدأ بتكوين شركات مالية تعمل على المناجرة واستغلال الارض حتى انقلبت إلى سيطرة على المسلمين، وكذلك فعل اليهود في فلسطين.
فقد بدأوا بعمل شركات وجلبوا لها خبراء وعمالا فنيين، ثم اتسعوا في ذلك حتى
ابتلعوا ديار المسلمين وأرضهم وأموالهم، وصاروا خطرا جاثما قائما على أنفاسنا ومقدراتنا، فليتنا نتنبه إلى خطر الترخص في معاملة غير المسلمين، والله الموفق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل