المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الوكالة

(الشرح) الوكالة مشتقة من وكل يكل الامر إليه.
إذا أنابه عنه واعتمد عليه لعجز أو طلب للراحة، وفى الحديث: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا.
وأيضا " من تعلق تميمة وكل أمره إليها " كأن الله قد تخلى عنه وجرده من عنايته به فصار أمره إلى نفسه أو إلى التميمة التى يتعلقها.
والوكالة جائزة بالكتاب والسنة والاجماع.
فأما الكتاب فقوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) الآية 60 من سورة التوبة.
فجواز العمل عليها يفيد حكم النيابة عن المستحقين في تحصيل حقوقهم.
ويقول القاضى أبو بكر بن العربي: قوله تعالى (والعاملين عليها) وهم الذين يقدمون لتحصيلها ويوكلون على جمعها، وقال القرطبى في جامع أحكام القرآن: قوله تعالى (والعاملين عليها) يعنى السعاة والجباة الذين يبعثهم الامام لتحصيل الزكاة بالتوكل على ذلك.
ومن أدلة الكتاب على جواز الوكالة قوله تعالى (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف) قال ابن العربي في أحكام القرآن: هذا يدل على صحة عقد الوكالة، وهو عقد

(14/92)


نيابة أذن الله فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة به، إذ يعجز كل أحد عن تناول أمور إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من بريحه حتى جاز ذلك في العبادات
لطفا منه سبحانه ورفقا بضعفة الخليقة، ذكرها الله كما ترون، وبينها رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تسمعون.
وهو أقوى آية في الغرض وقد تعلق بعض علمائنا في صحة الوكالة من القرآن بقوله تعالى (والعاملين عليها) وبقوله (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا) وآية القميص ضعيفة في الاستدلال، وآية العاملين حسنه.
وقد روى جابر بن عبد الله قال: أردت الخروج إلى خيبر فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقلت له: إنى أريد الخروج إلى خيبر، فقال ائت وكيلى فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته.
رواه أبو داود وقد جازت في الطهارة، وهى عبادة تجوز النيابة فيها في صب الماء خاصة على أعضاء الوضوء، ولا تجوز على عركها إلا أن يكون المتوضئ مريضا لا يقدر عليه.
وتجوز في الزكاة في أخذها وإعطاءها، وتجوز النيابة في الصيام عند الشافعي وأحمد وجملة من السلف الاول.
وكذلك الاعتكاف مثله، كما تجوز النيابة في الحج على ما مضى في أحكام الحج.
وتجوز الوكالة في البيع - وهو المعاوضه وأنواعها - والرهن وسائر المعاملات من الحجر والحواله والضمان والشركة والاقرار والصلح، والعارية كلها أعمال تجوز النيابة فيها.
وكذلك من الكتاب قوله تعالى (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) بناء على أنه وكيل.
وأما السنة فقد روى أبو داود والاثرم وابن ماجه عن الزبير بن الخريت عن أبى لبيد عن عروة بن الجعد قال: عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني دينارا، فقال يا عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة، قال فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو أقودهما: فلقينى
رجل في الطريق فساومني فبعت منه شاة بدينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار وبالشاة، فقلت يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم.
قال وصنعت

(14/93)


كيف؟ قال فحدثته الحديث، قال اللهم بارك له في صفقة يمينه.
هذا لفظه رواية الاثرم.
وروى أبو داود بإسناده حديث جابر الذى مضى وحديث أبى: استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكرا فجاءت إبل الصدقة فأمرني أن أقضى الرجل بكره " وقد تقدم تخريجه في السلم، وحديث ابن أبى أوفى، وقد مر في كتاب القرض وكتاب الزكاة.
وحديث أبى هريرة " وكلنى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حفظ زكاة رمضان.
وأعطى عقبة بن عامر غنما يقسمها بين أصحابه " وقد مر في كتاب الزكاة.
وفى الوكالة أحاديث كثيرة ستأتي في فصول هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وأما الاجماع فهو منعقد على مدى الدهر منذ نزل الوحى إلى اليوم وإلى يوم الدين
قال المصنف رحمه الله تعالى:

تجوز الوكالة في عقد البيع لما روى عن عروة بن الجعد قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا أشترى له شاة أو أضحية، فاشتريت شاتين فبعت إحداهما بدينار، وأتيته بشاة ودينار، فدعا لى بالبركة.
فكان لو اشترى ترابا لربح فيه، ولان الحاجة تدعو إلى الوكالة في البيع، لانه قد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه وقد يحسن ولا يتفرغ إليه لكثرة أشغاله فجاز أن يوكل فيه غيره، وتجوز في سائر عقود المعاملات كالرهن والحوالة والضمان والكفالة والشركة والوكالة والوديعه والاعارة والمضاربة والجعاله والمساقاة والاجاره والقرض والهبة والوقف والصدقة، لان الحاجة إلى التوكيل فيها كالحاجة إلى التوكيل في البيع وفى تملك المباحات، كإحياء الموات واستقاء الماء والاصطياد
والاحتشاش قولان.

(أحدهما)
لا يصح التوكيل فيها، لانه تملك مباح فلم يصح التوكيل فيه، كالاغتنام
(والثانى)
يصح، لانه تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز أن يوكل فيه كالابتياع والاتهاب، ويخالف الاغتنام لانه يستحق بالجهاد.
وقد تعين عليه بالحضور، فتعين له ما استحق به.

(14/94)


(الشرح) حديث عروة بن أبى الجعد البارقى رواه البخاري وأحمد وأبو داود والاثرم والترمذي وابن ماجه والدارقطني، وفى إسناد من عدا البخاري سعيد ابن زيد أخو حماد، وهو مختلف فيه، عن أبى لبيد لمازة بن زبار، وقد قيل إنه مجهول، لكنه قال الحافظ ابن حجر انه وثقه ابن سعد.
وقال حرب سمعت أحمد يثنى عليه.
وقال في التقريب انه ناصبى جلد قال المنذرى والنووي اسناده صحيح لمجيئه من وجهين، وقد رواه البخاري من طريق ابن عيينة عن شبيب بن غرقد سمعت الحى يحدثون عن عروة.
ورواه الشافعي عن ابن عيينه، وقال ان صح قلت به.
ونقل المزني عنه أنه ليس بثابت عنده.
قال البيهقى انما ضعفه لان الحى غير معروفين.
وقال في موضع آخر هو مرسل لان شبيب بن غرقد لم يسمعه من عروة، وإنما سمعه من الحى.
وقال الرافعى هو مرسل.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعى من فتح العزيز " الصواب أنه متصل في إسناده مبهم " أما الاحكام فإن الاجماع منعقد على أن ما جاز فيه المباشرة من الحقوق جازت فيه الوكالة كالبيع والشراء والاجارة وقضاء الديون والخصومات في المطالبة بالحقوق والتزويج والطلاق ونحو ذلك، واتفق الائمة على أن اقرار الوكيل على موكله في غير مجلس الحكم لا يقبل بحال.
وكذلك اتفقوا على أن
اقراره على موكله في الحدود والقصاص غير مقبول، سواء كان بمجلس الحكم أو غيره.
وكذلك اتفقوا على أنه لا يجوز للوكيل أن يشترى بأكثر من ثمن المثل ولا إلى أجل.
وعلى أن قول الوكيل مقبول في تلف المال بيمينه.
وأما ما اختلفوا فيه فأمور ستأتي منبثة في فروع هذا وحول حديث عروة في شراء الشاة يقول ابن تيميه رحمه الله تعالى انه يدل على الوكيل في شراء معلوم بمعلوم إذا اشترى به أكثر من المقدر جاز له بيع الفاضل.
وكذا ينبغى أن يكون الحكم.
وقال صاحب الكافي " ظاهر كلام أحمد صحة ذلك الحديث عن عروة " وفى الحديث دليل على أنه يجوز للوكيل إذا قال له المالك اشتر بهذا الدينار شاة ووصفها أن يشترى به شاتين بالصفة المذكورة، لان مقصود الموكل قد

(14/95)


حصل وزاد الوكيل خيرا، ومثل هذا لو أمره أن يبيع شاة بدرهم فباعها بدرهمين أو بأن يشتريها بدرهم فاشتراها بنصف درهم، وهو الصحيح عندنا كما نقله النووي في زيادات الروضة.
وقد استدل بهذا الحديث على صحة بيع الفضولي، وهو الذى يبيع مالا يملك أو ما ليس مأذونا في بيعه، وهو قول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي في القديم، وقواه النووي في الروضة، وهو مروى عن جماعة من السلف منهم على وابن عباس وابن مسعود وابن عمر، واليه ذهب الزيدية وقال الشافعي في الجديد وأصحابه: إن البيع الموقوف والشراء الموقوف باطلان لحديث " لا تبع ما ليس عندك " وأجابوا عن حديث عروة بما فيه من المقال.
وعلى تقدير الصحة فيمكن أن يكون وكيلا في البيع أيضا بقرينة فهمها من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حنيفة: إنه يكون البيع الموقوف صحيحا دون الشراء.
والوجه أن الاخراج عن ملك المالك مفتقر إلى إذنه بخلاف الادخال، ويجاب بأن الادخال المبيع في الملك يستلزم الاخراج من الملك للثمن.
وروى عن مالك العكس من قول أبى حنيفة، فإن صح فهو قوى فإن فيه جمعا بين الاحاديث وأما الوكالة في تملك المباحات كإحياء الموات واستقاء الماء والاصطياد والاحتشاش فعلى قولين
(أحدهما)
لا يصح فيها لانه تملك مباح، فهل يكون بتملكه بوضع يده نائبا عن غيره من نفسه، كأنه قد حاز شيئا ثم وهبه فلم يصح التوكيل فيه كالغنيمة، لا يخرج المجاهد بالغنيمة وكيلا لغيره
(والثانى)
يصح، لانه امتلك مالا بسبب لا يتعين عليه فجاز أن يوكل فيه كسائر المعاملات من المعاوضات والهبات قال في روضة الطالب: يجوز التوكيل في تملك المباحات وإحياء الموات والالتقاط، ويخالف الاغتناء لانه لا يستحق إلا بالجهاد، والجهاد لا وكالة فيه، لانه يتعين عليه بالحضور للملحمة، فاستحق قسمه وسهمه فتعين له.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز التوكيل في عقد النكاح لِمَا رُوِيَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(14/96)


وكل عمرو بن أمية الضمرى في نكاح أم حبيبة " ويجوز في الطلاق والخلع والعتاق لان الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه كما تدعو إلى التوكيل في البيع والنكاح، ولا يجوز التوكيل في الايلاء والظهار واللعان، لانها أيمان فلا تحتمل التوكيل.
وفى الرجعة وجهان
(أحدهما)
لا يجوز التوكيل فيه كما لا يجوز في الايلاء والظهار
(والثانى)
أنه يجوز، وهو الصحيح، فإنه إصلاح للنكاح، فإذا جاز في النكاح جاز في الرجعة.
(الشرح) حديث زواج أم حبيبة رضى الله عنها أخرجه ابو داود وأحمد والنسائي عن عروة عن أم حبيبة ولفظ أبى داود " أنه زوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة، وأخرج أبو داود أيضا من حديث الزهري مرسلا " أن النجاشي زوج أم حبيبة بنت أبى سفيان مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صداق أربعة آلاف درهم وكتب بذلك إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وكانت أم حبيبه مهاجرة إلى أرض الحبشه مع زوجها عبد الله بن جحش فمات بتلك الارض فزوجها النجاشي للنبى صلى الله عليه وسلم وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع في نكاح ميمونة وقد مضى تخريجه في كتاب الحج في أحكام نكاح المحرم ووجه الصواب في ذلك.
أما الاحكام فإنه يصح من كل من صح تصرفه في شئ بنفسه وكان مما تدخله النيابة كالزواج.
وهل يصح توكيل العبد في قبول النكاح لانه ممن يجوز أن يقبله لنفسه.
ذكر أصحابنا في ذلك وجهين
(أحدهما)
يجوز توكيله لانه ليس بولي.
ووجه الوجه الآخر أنه موجب للنكاح فأشبه الولى.
وقد صحح الائمة التوكيل في عقد النكاح في الايجاب والقبول، لان النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أميه وأبا رافع في قبول النكاح له، ولان الحاجة تدعو إليه فإنه ربما احتاج إلى التزوج من مكان بعيد لا يمكنه السفر إليه.
وفى الرجعة وجهان
(أحدهما)
أنه يجرى مجرى الايلاء والظهار فلا يجوز التوكيل
(والثانى)
وهو الصحيح أنه إصلاح لما فسد من النكاح، فإذا صح التوكيل في عقد النكاح ابتداء فقد صح في استئنافه وإعادته فجاز.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(14/97)


قال المصنف رحمه الله تعالى

(فصل)
ويجوز التوكيل في اثبات الاموال والخصومة فيها لما روى أن عليا كرم الله وجهه وكل عقيلا (رض) عند أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وقال: ما قضى له فلى وما قضى عليه فعلى، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان (رض) وقال على: إن للخصومات قحما.
قال أبو زياد الكلابي: القحم المهالك، ولان الحاجة تدعو إلى التوكيل في الخصومات لانه قد يكون له حق أو يدعى عليه حق ولا يحسن الخصومه فيه، أو يكره أن يتولاها بنفسه، فجاز أن يوكل فيه.
ويجوز ذلك من غير رضى الخصم، لانه توكيل في حقه فلا يعتبر فيه رضى من عليه كالتوكيل في قبض الديون، ويجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف لانه حق آدمى فجاز التوكيل في إثباته كالمال، ولا يجوز التوكيل في إثبات حدود الله تعالى لان الحق له، وقد أمرنا فيه بالدرء والتوصل إلى إسقاطه، وبالتوكيل يتوصل إلى إيجابه فلم يجز، ويجوز التوكيل في استيفاء الاموال، لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث العمال لقبض الصدقات وأخذ الجزى.
ويجوز في استيفاء حدود الله تعالى، لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أنيسا لاقامة الحد وقال: يأ أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، ووكل عثمان (رض) عليا كرم الله وجهه ليقيم حد الشرب على الوليد بن عقبه.
وأما القصاص وحد القذف فإنه يجوز التوكيل في استيفائهما بحضرة الموكل لان الحاجه تدعو إلى التوكيل فيه لانه قد يكون له حد أو قصاص ولا يحسن أن يستوفيه فجاز أن يوكل فيه غيره، وهل يجوز أن يستوفيه في غيبة الموكل؟ قال في الوكالة: لا يستوفى، وقال في الجنايات: ولو وكل فتنحى به فعفا الموكل فقتله الوكيل بعد العفو، وقبل العلم بالعفو، ففى الضمان قولان.
وهذا يدل على أنه يجوز أن يقتص مع غيبة الموكل، فمن أصحابنا من قال: يجوز قولا واحدا، وهو قول أبى اسحاق، لانه حق يجوز أن يستوفيه بحضرة الموكل فجاز في غيبته كأخذ المال، وحمل قوله لا يستوفى على الاستحباب، ومنهم من قال
لا يجوز قولا واحدا، لان القصاص والحد يحتاط في إسقاطهما، والعفو مندوب إليه فيهما، فإذا حضر رجونا أن يرحمه فيعفو عنه، وحمل قوله في الجنايات على أنه أراد إذا تنحى به ولم يغب عن عينه فعفا ولم يسمع الوكيل فقتل.

(14/98)


ومنهم من قال فيه قولان.
أحدهما يجوز، والثانى لا يجوز ووجههما ما ذكرناه
(فصل)
ويجوز التوكيل في فسخ العقود لانه إذا جاز التوكيل في عقدها ففى فسخها أولى، ويجوز أن يوكل في الابراء من الديون، لانه إذا جاز التوكيل في إثباتها واستيفائها جاز التوكيل في الابراء عنها، وفى التوكيل في الاقرار وجهان
(أحدهما)
يجوز، وهو ظاهر النص، لانه اثبات مال في الذمة بالقول فجاز التوكيل فيه كالبيع.

(والثانى)
لا يجوز، وهو قول أبى العباس، لانه توكيل في الاخبار عن حق فلم يجز كالتوكيل في الشهادة بالحق، فإذا قلنا: لا يجوز فهل يكون توكيله اقرارا؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
أنه اقرار، لانه لم يوكل في الاقرار بالحق الا والحق واجب عليه
(والثانى)
أنه لا يكون اقرارا كما لا يكون التوكيل في الابراء ابراء.
(الشرح) حديث أنيس سيأتي في كتاب الحدود وقد أخرجه البخاري ومسلم وقصة توكيل على لاخيه عقيل وابن أخيه عبد الله بن جعفر.
قال الشافعي في الام: وأقبل الوكالة من الحاضر من الرجال والنساء في العذر وغير العذر، وقد كان على بن أبى طالب وكل عند عثمان عبد الله بن جعفر، وعلى حاضر، فقيل: ذلك عثمان وكان يوكل قبل عبد الله بن جعفر عقيل بن أبى طالب ولا أحسبه الا كان يوكله عند عمر، ولعل عند أبى بكر: وكان على يقول: ان للخصومة قحما وان الشيطان يحضرها اه.
وأما أحكام الفصل: أنه يجوز التوكيل في اثبات حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فإذا كان لرجل خصومة لرجل على شئ فوكل غيره عنه كما فعل على حين وكل عقيلا أخاه عند أبى بكر وعبد الله بن جعفر بن أخيه عند عثمان وقال " ان للخصومة قحما، وان الشيطان ليحضرها، وانى لاكره أن أحضرها " قال أبو زياد الكلابي: القحم المهالك، وهذه الروايات تحتاج إلى تحرير وتخريج الا أن ابن قدامة في المغنى يقول: وهذه قصص قد انتشرت، لانها في مظنة الشهرة فلم ينقل انكارها، ولان الحاجة تدعو إلى ذلك، فانه قد يكون له حق أو يدعى عليه ولا يحسن الخصومة، أو لا يحب أن يتولاها بنفسه.

(14/99)


قلت: ولاصحابنا وجهان
(أحدهما)
لا يجوز التوكيل فيه لانه اخبار بحق فلم يجز التوكيل فيه كالشهادة.

(والثانى)
يجوز، وهو الصحيح، واليه ذهب المصنف رحمه الله تعالى، ولا يشترط في صحة التوكيل رضى الخصم، لانه توكيل في حقه فلا يعتبر فيه رضى من عليه الحق كالتوكيل في قبض الديون، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد رضى الله عنهم من أن وكالة الحاضر صحيحة، وان لم يرض الخصم بشرط أن لا يكون الوكيل عدوا للخصم.
وقال أبو حنيفة لا تصح وكالة الحاضر الا برضى الخصم الا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا على ثلاثة أيام فيجوز حينئذ وأما التوكيل في الجنايات فينقسم إلى قسمين:
(أحدهما)
التوكيل في اثبات الجناية فهذا غير جائز، لان الحق لله تعالى وقد أمرنا فيه بالدرء لقوله صلى الله عليه وسلم " ادرءوا الحدود بالشبهات " وأمرنا بالتوصل إلى اسقاطه وقد يتوصل بالتوكيل إلى ايجابه فلم يجز.
(القسم الثاني) وهو استيفاء حدود الله تعالى، كالقصاص وأرش الجناية
وحد القذف وكل ما تعلق به حق للعباد، وكذلك في اقامة الحد بعد ثبوت الجنايه لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لانيس اذهب إلى امرأة فلان فان اعترفت فارجمها فعلق الجزاء على شرط الاعتراف، وكذلك يمكن التوكيل في حضرة الموكل، وهذه العبارة التى ساقها المصنف في قوله: فانه يجوز التوكيل في استيفائها بحضرة الموكل، لان الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه، لانه قد يكون له حد أو قصاص الخ عبارته.
تدل هذه العبارة على صحة ما اتسم به عصرنا هذا من تخصيص فريق من الدارسين لاحكام الشرع وفقه الفروع يتوكلون عن أصحاب الخصومات في عمل الاجراءات التى يترافعون بها في ساحة المحاكم ومجالس القضاء ويسمونهم بالمحامين.
(فرع)
قال الشافعي في الجنايات: ولو وكل فتنحى به فعفا الموكل فقتله الوكيل بعد العفو وقبل العلم بالعفو، فعلى من يكون الضمان؟ على القاتل الذى لم يعلم بعفو موكله؟ أم على الموكل الذى لم يحتط فوقع القتل؟

(14/100)


قال المصنف فيه قولان، وهذا يدل على أنه يجوز أن يقتص مع غيبة الموكل فمن أصحابنا من قال: يجوز قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لانه حق يجوز استيفاؤه بحضرة الموكل فجاز في غيبته، كقبض الدين، وحمل قوله: لا يستوفى الذى قاله الشافعي في الوكالة على الاستحباب ومن أصحابنا من قال: لا يجوز قولا واحدا، لان الحد والقصاص إذا عرفنا أننا مأمورون بالدرء والاحتياط والتماس الشبهات الصارفة عن الادانة وعرفنا مع ذلك أن العفو مندوب إليه بل رغب الله فيه وقال " فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ومن ثم كان رجاؤنا أن يرحم أخاه فيعفو عنه، ومن هنا حمل قول الشافعي في الجنايات على أنه أراد إذا تنحى به ولم يغب
عن عينه فعفا عنه من حيث لم يسمع الوكيل صيغة العفو فقتله، ووجه القولين بالجواز وعدمه ما ذكرنا والله تعالى أعلم.
(فرع)
توكيل مسلم كافرا في استيفاء قود من مسلم هل يصح؟ قولان.

(أحدهما)
لا يصح
(والثانى)
يصح، وهو اختيار الرملي في شرحه للمنهاج للنووي قال: وهذه مردودة بأن الوكيل لا يستوفيه لنفسه، وبأن المصنف إنما جعل صحة مباشرته شرطا لصحة توكله، ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط وإنما يلزم من عدمه عدمه والاول صحيح والثانى في غير محله إذ الشرط وهو صحة المباشرة غير موجود هنا رأسا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
ولا يصح التوكيل إلا ممن يملك التصرف في الذى يوكل فيه بملك أو ولاية فأما من لا يملك التصرف في الذى يوكل فيه كالصبى والمجنون والمحجور عليه في المال والمرأة في النكاح والفاسق في تزويج ابنته، فلا يملك التوكيل فيه لانه لا يملكه، فلا يملك أن يملك دلك غيره، وأما من لا يملك التصرف إلا بالاذن كالوكيل والعبد المأذون، فإنه لا يملك التوكيل الا بالاذن لانه يملك التصرف بالاذن، فكان توكيله بالاذن، واختلف أصحابنا في غير الاب والجد من العصبات، هل يملك التوكيل في التزويج من غير إذن المرأة؟ فمنهم من قال:

(14/101)


يملك، لانه يملك التزويج بالولاية من جهة الشرع، فملك التوكيل من غير اذن كالاب والجد، ومنهم من قال: لا يملك لانه لا يملك التزويج إلا بإذن فلا يملك التوكيل إلا بإذن كالوكيل والعبد المأذون.
(الشرح) الاحكام: لا يصح التوكيل إلا إذا صدر للوكيل من الموكل الذى يملك التصرف عن نفسه في ملكه أو فيما يولى فيه أو عليه فإذا كان فاقد الاهلية
لصغر سن أو جنون أو حجر لسفه أو غيره فإن أولئك لا يصح توكيلهم ما داموا لا يملكون التصرف، وفاقد الشئ لا يعطيه، ويلحق بهؤلاء المرأة لا تكون وكيلة عن غيرها من النساء ولو ابنتها في عقد النكاح، وكذلك الفاسق المعروف بفسقه في تزويج ابنته، لفقده حق الولاية عليها، ويلحق بالمجنون المغمى عليه والنائم، إذ تصرفه لنفسه أقوى منه لغيره فإذا لم يملك الاقوى لم يملك ما دونه بالاولى وانما أبيح توكيل الصبى فيما يكون مصدقا فيه كالخادم والعبد ما دام الصبى مميزا لم يجرب عليه كذب وذلك في الاذن في دخول دار وايصال هدية.
أما الصبى غير المأمون المجرب الكذب عليه فلا يعتمد قطعا وما حفته قرينة يعتمد قطعا، وحينئذ يكون العمل بالعلم لا بالخبر.
وأما المرأة فلا تتوكل في عقد النكاح كما قلنا ايجابا وقبولا.
واختلف في الجد وغير الاب من العصبات هل يملك التوكيل في التزويج من غير اذن المرأة؟ فان قلنا بحصول ولايته عليها من جهة الشرع فملك التوكيل من غير اذنها كالاب وأبى الاب.
ومنهم من قال: لا يملك التزويج الا باذن، ويكون الاذن بمثابة توكيل منها والحق أن الاذن والتوكيل والولاية الشرعية أمور تحتاج منا إلى بيان درجاتها واعطائها ما تستحقه من تقويم فالولاية الشرعية يعطى الولى الحق في التزويج بغير اذن ولا توكيل، والتوكيل يعطى الحق للوكيل بالولاية الجعليه أو الولاية العرفية، والظاهر أن الاولى أقوى فيكتفى فيها بما لا يكتفى في الثانيه، وأن باب الاذن أوسع من باب الوكالة، وما جمع به بعضهم بين ما ذكر بحمل عدم الصحة

(14/102)


على الوكالة، والصحة على التصرف، إذ قد تبطل الوكالة ويصح التصرف، رد بأنه خطأ صريح مخالف للمنقول إذ الابضاع يحتاط لها فوق غيرها ومقابل الاصح
أنه يصح وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
ومن لا يملك التصرف في حق نفسه لنقص فيه كالمرأة في النكاح والصبى والمجنون في جميع العقود لم يملك أن يتوكل لغيره لانه إذا لم يملك ذلك في حق نفسه بحق الملك لم يملكه في حق غيره بالتوكيل، ومن ملك التصرف فيما تدخله النيابة في حق نفسه جاز أن يتوكل فيه لغيره، لانه يملك في حق نفسه بحق الملك فملك في حق غيره بالاذن.
واختلف أصحابنا في العبد، هل يجوز أن يتوكل في قبول النكاح؟ فمنهم من قال: يجوز، لانه يملك قبول العقد لنفسه باذن المولى، فملك أن يقبل لغيره بالتوكيل، ومنهم من قال: لا يجوز لانه لا يملك النكاح، وانما أجيز له القبول لنفسه للحاجة إليه ولا حاجة إلى القبول لغيره، فلم يجز، واختلفوا في توكيل المرأة في طلاق غيرها، فمنهم من قال: يجوز كما يجوز توكيلها في طلاقها، ومنهم من قال: لا يجوز، لانها لا تملك الطلاق، وانما أجيز توكيلها في طلاق نفسها للحاجة، ولا حاجة إلى توكيلها في طلاق غيرها، فلم يجز، ويجوز للفاسق أن يتوكل في قبول النكاح للزوج، لانه يجوز أن يقبل لنفسه مع الفسق، فجاز أن يقبل لغيره، وهل يجوز أن يتوكل في الايجاب؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجوز، لانه موجب للنكاح فلم يجز أن يكون فاسقا كالولي،
(والثانى)
يجوز، لانه ليس بولي.
وانما هو مأمور من جهة الولى، والولى عدل (الشرح) الاحكام: بعض أحكام هذا الفصل مضى في الذى قبله.
وقال الرملي في شرح المنهاج وشرط الوكيل تعيينه الا في نحو: من حج عنى فله كذا، فيبطل: وكلت أحدكما، نعم ان وقع غير المعين تبعا لمعين كوكلتك في كذا وكل مسلم صح كما بحثه

(14/103)


الشيخ في شرح منهجه قال: وعليه العمل.
وما نظر فيه من قياسه على الموكل فيه غير صحيح فسيأتي الفرق بينهما، ودعوى أنه يحتاط في العاقد مالا يحتاط في المعقود عليه لا التفات له هنا، إذ الغرض الاعظم الاتيان بالمأذون فيه وصحة مباشرته التصرف الذى وكل فيه لنفسه، وإلا لم يصح توكيله إذ تصرفه لنفسه أقوى منه لغيره.
إلى أن قال: والاصح صحة توكيل عبد في قبول نكاح وإن لم يأذن له سيده لانتفاء ضرره وتعبيره بلكن فيه إشارة إلى استثناء هذين من عكس الضاط، وهو من لا تصح مباشرته لنفسه لا يصح توكله، ويستثنى صحة توكل سفيه في قبول نكاح بغير إذن وليه وتوكل امرأة في طلاق غيرها ومرتد في تصرف لغيره مع امتناعه لنفسه وإنما يصح ذلك إن لم يشرط في بطلان تصرفه لنفسه حجر الحاكم عليه، وسيأتى في بابه ما فيه: ورجل في قبول نكاح أخت زوجته مثلا أو خامسة وتحته أربع والموسر في قبول نكاح أمة.
واستثناء بعضهم توكل كافر عن مسلم في شراء مسلم أو طلاق مسلمة غير صحيح، إذ لو أسلمت زوجته فطلق ثم أسلم في العدة بان نفوذ طلاقه.
وأشار المصنف - يعنى النووي في المنهاج - في مسألة طلاق الكافر للمسلمة بأنه يصح طلاقه في الجملة إلى أن المراد صحة مباشرة الوكيل التصرف لنفسه في جنس ما وكل فيه في الجملة لا في عينه، وحينئذ فيسقط أكثر ما مر من المستثنيات وقياسه جريان ذلك في الموكل أيضا كما قدمناه، ومنعه أي توكيل العبد، أي من فيه رق في الايجاب للنكاح، لانه إذا امتنع عليه تزويج ابنته فبنت غيره أولى، ويصح توكيل المكاتب في تزويج أمته كما بحثه الاذرعى وشرط الموكل فيه أن يملكه الموكل حالة التوكيل، وإلا فكيف يأذن فيه؟
(فرع)
إذا جاز للفاسق أن يتزوج وصح تعاقده فجاز أن يتعاقد لغيره على أحد الوجهين لانه ليس بولي.
والولى عدل.
والوجه الثاني: إذا امتنع عليه تزويج ابنته فبنت غيره أولى.

(14/104)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا تصح الوكالة إلا بالايجاب والقبول، لانه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى الايجاب والقبول كالبيع والاجارة، ويجوز القبول على الفور وعلى التراخي.
وقال القاضى أبو حامد المروروذى: لا يجوز إلا على الفور لانه عقد في حال الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع - والمذهب الاول - لانه إذن في التصرف، والاذن قائم ما لم يرجع فيه، فجاز القبول.
ويجوز القبول بالفعل، لانه أذن في التصرف فجاز القبول فيه بالفعل كالاذن في أكل الطعام (الشرح) الاحكام: الوكالة كأى عقد من العقود لا ينقدح في الذمة إلا بتحقق هذين الشرطين: الايجاب والقبول، لما يترتب على هذا العقد من حق كل واحد منهما.
فيشترط من الموكل أو نائبه لفظ صريح أو كناية ككتابة أو إشارة أخرس مفهمه لا لكل أحد يقتضى رضاه كوكلتك في كذا أو فوضته إليك أو أنبتك فيه أو أقمتك مقامي فيه، أو أنت وكيلى فيه كبقية العقود، إذ الشخص ممنوع من التصرف في مال غيره إلا برضاه، فلا يصح أن يقول: وكلت من أراد بيع دارى ولا ينفذ تصرف أحد بهذا الاذن لفساده.
نعم لو لم يتعلق بعين الوكيل فيه غرض كوكلت من أراد في إعتاق عبدى هذا أو تزويج أمتى هذه صح على ما بحثه السبكى وأخذ منه صحة قول من لا ولى لها
أذنت لكل عاقد في البلد أن يزوجنى.
قال الاذرعى: وهذا إن صح فمحله عند تعيينها الزوج ولم تفوض سوى صيغة العقد خاصة، وبذلك أفتى بن الصلاح، ويجرى ذلك التعميم في التوكيل، إذ لا يتعلق بعين الوكيل غرض وعليه عمل القضاة.
وقد يشترط القبول هنا لفظا، كما لو كان له عين مؤجرة أو معارة أو مغصوبة فوهبها لآخر وأذن له في قبضها فوكل من هي في يده في قبضها له، لابد من قبول لفظا لنزول يده عنها به.

(14/105)


إذا ثبت هذا فهل يجوز القبول على الفور.
أم يصح على التراخي.
قولان فالمصنف والاصحاب كافة على جوازه على الفور وعلى التراخي خلافا للقاضى أبى حامد المروروذى فإنه قال: لا يجوز إلا على الفور كالبيع (فرع)
إذا قال أذنت لك في إعطاء فلان صكا بمائة دينار فأخرج القلم وأخذ يكتب الصك كان ذلك هو القبول.
ومن أصحابنا من اشترط التلفظ بلفظ القبول وهو مرجوح، إذ لو قال له أذنتك في الطعام فأقبل على الطعام ولم يقل شيئا وأكل ألا يكون ذلك قبولا، وما دام التوكيل أو الاذن القصد منه أداء الفعل فأداه فقد تحقق الغرض من الوكالة أو النيابة.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
.

(فصل)
ولا يجوز التوكيل إلا في تصرف معلوم.
فإن قال وكلتك في كل قليل وكثير لم يصح، لانه يدخل فيه ما يطيق ومالا يطيق، فيعظم الضرر ويكثر الغرر.
وإن قال وكلتك في بيع جميع مالى أو قبض جميع ديونى صح، لانه يعرف ماله ودينه، وإن قال بع ما شئت من مالى أو اقبض ما شئت من ديونى جاز لانه إذا عرف ماله ودينه عرف أقصى ما يبيع ويقبض فيقل الغرر.
وإن قال اشتر لى عبدا لم يصح لان فيه ما يكون بمائة وفيه ما يكون بألف، فيكثر الغرر، وان قال اشتر لى عبدا بمائة لم يصح، لان ذكر الثمن لا يدل على النوع فيكثر الغرر.
وإن قال اشتر لى عبدا تركيا بمائة جاز، لان مع ذلك النوع وقدر الثمن يقل الغرر، فإن قال اشتر لى عبدا تركيا ولم يقدر الثمن ففيه وجهان.
قال أبو العباس يصح لانه يحمل الامر على أعلى هذا النوع ثمنا فيقل الغرر.
ومن أصحابنا من قال لا يصح لان أثمان الترك تختلف وتتفاوت، فيكثر الغرر، وإن وكله في الابراء لم يجز حتى يبين الجنس الذى يبرئ منه والقدر الذى يبرئ منه، وان وكله في الاقرار وقلنا إنه يصح التوكيل فيه لم يجز حتى يبين جنس ما يقر به، وقدر ما يقربه، لانه إذا أطلق عظم الضرر وكثر الغرر فلم يجز، وإن وكله في

(14/106)


خصومة كل من يخاصمه ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح، لان الخصومة معلومة
(والثانى)
لا يصح، لانها قد تقل الخصومات وقد تكثر فيكثر الغرر.
(الشرح) الاحكام: لا يجوز التوكيل إلا في تصرف معلوم من بعض الوجوه لئلا يعظم الغرر.
ولا يشترط علمه من كل وجه.
هكذا قرر النووي في المنهاج، ولا يشترط ذكر أوصاف المسلم فيها لانها جوزت للحاجة فسومح فيها فلو قال: وكلتك في كل قليل وكثير لى في كل أمورى أو حقوقي، أو فوضت اليك كل شئ لى، أو كل ما شئت من مالى لم يصح لما فيه من عظيم الغرر، لانه يدخل فيه مالا يسمح الموكل ببعضه كعتق أرقائه وطلاق زوجاته والتصدق بأمواله وظاهر كلامهم بطلان هذا وإن كان تابعا لمعين.
وكذلك أفتى الرملي الكبير شهاب الدين.
فلا ينفذ تصرف الوكيل في شئ من التابع لان عظم الغرر فيه الذى هو السبب في البطلان لا يندفع بذلك.
قال شمس الدين الرملي: وفارق ما مر عن أبى حامد بأن ذاك في جزئي خاص معين فساغ كونه تابعا لقلة الغرر فيه بخلاف هذا، وبخلاف ما جاء في قوله: وكلتك في كذا وكل مسلم.
إذ الوكيل المتبوع معين والتابع غير معين وهو مستثنى من أن يكون الوكيل معينا، وليست هذه المسأله مثل ذلك لما تقرر من كثرة الغرر في التابع فيها.
وإن قال: وكلتك في بيع أموالي وعتق أرقائي ووفاء ديونى واستيفائها ونحو ذلك صح، وإن كان ما ذكر معلوما عندهما لقلة الغرر فيه.
ولو قال في بعض أموالي أو شئ منها لم يصح.
أما لو قال: بع هذا أو هذا لتناول كل بطريق العموم البدلى فلا إبهام فيه.
وكما لو قال: أبرئ فلانا عن شئ من دينى صح وحمل على أدنى شئ.
إذ الابراء عقد غبن فتوسع فيه بخلاف البيع.
وكقوله أبرئ فلانا عما شئت من دينى فليبق عليه شيئا.
أما لو قال أبرئه عن جميعه صح ابراؤه عن بعضه بخلاف بيعه لبعض ما وكله ببيعه بأنقص من قيمة الجميع لتضمن التشقيص فيه الغرر.
وان قال اشتر لى عبدا بمائة ولم يبين جنسه ولا يغنى ذكر الوصف كأبيض أو

(14/107)


أسود.
نعم لا يشترط ذكر أوصاف السلم ولا ما يقرب منها.
هذا إذا كان العبد للاقتناء أما إذا كان للتجارة فلا يجب فيه ذكر نوع أو غيره لشبهه بالقراض.
ونقله ابن الرفعة عن الماوردى وغيره.
قال الرملي شمس الدين: ولو وكله في تزويج امرأة اشترط تعيينها، ولا يكتفى بكونها مكافئة له، لان الغرض يختلف مع وجود وصف المكافأة كثيرا فاندفع ما ذكره السبكى هنا.
نعم ان أتى له بلفظ عام كزوجني من شئت صح للعموم، وجعل الامر راجعا إلى رأى الوكيل بخلاف الاول فإنه مطلق، ودلالة العام
على أفراد ظاهرة، وأما المطلق فلا دلالة فيه على فرد فلا تناقض، أو في شراء دار للقنية أيضا وجب بيان المحلة - أي الحارة - ومن لازمها بيان البلد، فلذا لم يصرح به.
أما الاقرار فإنه لا يصح التوكيل فيه الا إذا بين جنس ما يقر به وقدره لعظم الغرر عند الاطلاق وكثرة الضرر فلم يصح، فإذا وكله في خصوماته، كقوله: وكلتك في خصومة من أخاصمه ففيه وجهان
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل.
ومن أصحابنا من قال يجوز لانه أذن في التصرف فجاز تعليقه على شرط مستقبل كالوصية، والمذهب الاول لانه عقد تؤثر الجهالة في إبطاله فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والاجارة ويخالف الوصية فإنها لا يؤثر فيها غرر الجهالة فلا يؤثر فيها غرر الشرط ولوكالة تؤثر الجهالة في ابطالها فأثر غرر الشرط فإن علقها على شرط مستقبل ووجد الشرط وتصرف الوكيل صح التصرف، لان مع فساد العقد الاذن قائم فيكون تصرفه بإذن فصح، فإن كان قد سمى له جعلا سقط المسمى ووجب له أجرة المثل لانه عمل في عقد فاسد لم يرض فيه بغير بدل فوجب أجرة المثل كالعمل في الاجارة الفاسدة، وان عقد الوكالة في الحال وعلق التصرف على شرط، بأن قال وكلتك أن تطلق امرأتي أو تبيع مالى بعد شهر صح، لانه لم يعلق العقد على شرط، وإنما علق التصرف على شرط فلم يمنع صحة العقد

(14/108)


(الشرح) الاحكام: فرقوا بين تعليق العقد على شرط وتعليق التصرف على شرط فالاول لا يجوز والثانى يجوز.
أما أجرة الوكيل فتتحدد بأجرة المثل ولو سمى له جعلا.
أما الشرط فقد قال الرملي شمس الدين: ولا يصح تعليقها بشرط من صفة أو وقت في الاصح كسائر العقود سوى الوصية لقبولها الجهالة والامارة للحاجة والثانى: تصح كالوصية ورد بما مر اه، ومثال الوصية قوله: إذا جاء رأس الشهر فقد أوصيت له بكذا، وصورة الوكالة الباطلة لارتباطها بالشرط كقوله: وكلت من أراد بيع دارى، وقال الزركشي: لا ينفذ التصرف.
قال ابن الصلاح: والاقدام على التصرف بالوكالة الفاسدة جائز، إذ أنه ليس من تعاطى العقود الفاسدة لانه إنما قدم على عقد صحيح خلافا لابن الرفعه.
فإن نجزها وشرط للتصرف شرطا جاز، كوكلتك الآن ببيع هذا ولكن لا تبعه الا بعد شهر، وعلم من هذا أنه لو قال لآخر قبل رمضان: وكلتك في إخراج فطرتي وأخرجها في رمضان صح لتنجيزه الوكالة، وإنما قيدها بما قيدها به الشارع، بخلاف إذا جاء رمضان فأخرج فطرتي، لانه تعليق محض وعلى هذا التفصيل يحمل إطلاق من أطلق الجواز ومن أطلق المنع.
قال الشمس الرملي: والاقرب إلى كلامهم عدم الصحة إذ كل من الموكل والوكيل لا يملك ذلك عن نفسه حال التوكيل (قلت) وعلى هذا يتوجه كلام ابن الصلاح، لان إخراج الفطرة هنا عمل صحيح ترتب على وكالة فاسدة فنقول بصحة إخراجها عنه.

قال المصنف رحمه الله تعالى
.

(فصل)
ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه اذن الموكل من جهة النطق أو من جهة العرف لان تصرفه بالاذن فلا يملك الا ما يقتضيه الاذن والاذن يعرف بالنطق وبالعرف فان تناول الاذن تصرفين.
وفى أحدهما اضرار بالموكل لم يجز ما فيه ضرار لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " فان

(14/109)


تناول تصرفين وفى أحدهما نظر للموكل لزمه ما فيه النظر للموكل لما روى ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأس الدين النصيحة: قلنا يا رسول الله لمن قال لله ولرسوله ولكتابه ولائمة المسلمين وللمسلمين عامة وليس من النصح أن يترك ما فيه الحظ والنظر للموكل.
(الشرح) حديث " لا ضرر ولا ضرار " مضى تخريجه في غير موضع، وحديث ثوبان رواه الجماعه.
الاحكام: إذا وكله في بيع شئ أو طلب الشفعه أو قسم شئ ففيه وجهان
(أحدهما)
يملك تثبيته، وهو قول أبى حنيفة في القسمة وطلب الشفعة، لانه لا يتوصل إلى ما وكله فيه إلا بالتثبيت
(والثانى)
لا يملكه، وهو قول بعض أصحابنا لانه يمكن أحدهما دون الآخر، فلم يتضمن الاذن في أحدهما الاذن في الآخر، فإذا قال: اقبض حقى من فلان لم يكن له قبضه من وارثه.
لانه لم يؤمر بذلك، وإن قال: اقبض حقى الذى قبل فلان أو على فلان جاز له مطالبة وارثه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
وان وكل في تصرف وأذن له أن يوكل إذا شاء نظرت، فإن عين له من يوكله وكله أمينا كان أو غير أمين لانه قطع اجتهاده بالتعيين، وان لم يعين من يوكل لم يوكل الا أمينا لانه لا نظر للموكل في توكيل غير الامين، فان وكل أمينا فصار خائنا فهل يملك عزله، فيه وجهان.

(أحدهما)
يملك عزله، لان الوكالة تقتضي استعمال أمين، فإذا خرج عن أن يكون أمينا لم يجز استعماله، فوجب عزله.

(والثانى)
لا يملك عزله، لانه أذن له في التوكيل دون العزل، وان وكله ولم يأذن له في التوكيل نظرت، فإن كان ما وكله فيه مما يتولاه الوكيل ويقدر
عليه، لم يجز أن يوكل فيه غيره، لان الاذن لا يتناول تصرف غيره من جهة النطق، ولا من جهة العرف، لانه ليس في العرف إذا رضيه أن يرضى غيره،

(14/110)


وإن وكله في تصرف وقال: اصنع فيه ما شئت ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز أن يوكل فيه غيره لعموم قوله: اصنع فيه ما شئت.

(والثانى)
لا يجوز، لان التوكيل يقتضى تصرفا يتولاه بنفسه، وقوله: اصنع فيه ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل في تصرفه بنفسه، وإن كان ما وكله فيه مما لا يتولاه بنفسه كعمل لا يحسنه، أو عمل يترفع عنه، جاز أن يوكل فيه غيره، لان توكيله فيما لا يحسنه أو فيما يترفع عنه إذن في التوكيل فيه من جهة العرف.
وان كان مما يتولاه إلا أنه لا يقدر على جميعه لكثرته، جاز له أن يوكل فيما لا يقدر عليه منه، لان توكيله فيما لا يقدر عليه إذن في التوكيل فيه من جهة العرف، وهل يجوز أن يوكل في جميعه؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
له أن يوكل في جميعه.
لانه ملك التوكيل فملك في جميعه كالموكل
(والثانى)
ليس له أن يوكل فيما يقدر عليه منه، لان التوكيل يقتضى أن يتولى الوكيل بنفسه، وإنما أذن له فيما لا يقدر عليه للعجز، وبقى فيما يقدر عليه على مقتضى التوكيل، وإن وكل نفسين في بيع أو طلاق فإن جعله إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما أن ينفرد به، لانه أذن لكل واحد منهما في التصرف وإن لم يجعل إلى كل واحد منهما لم يجز لاحدهما أن ينفرد به، لانه لم يرض بتصرف أحدهما، فلا يجوز أن ينفرد به، وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه في حرز لهما.
وخرج أبو العباس وجها آخر أنه إن كان مما ينقسم، جاز أن يقتسما ويكون
عند كل واحد منهما نصفه، وان لم ينقسم جعلاه في حرز لهما كما يفعل المالكان والصحيح هو الاول، لانه تصرف أشرك فيه بينهما.
فلم يجز لاحدهما أن ينفرد ببعضه فيه كالبيع، ويخالف المالكين، لان تصرف المالكين بحق الملك ففعلا ما يقتضى الملك، وتصرف الوكيلين بالاذن، والاذن يقتضى اشتراكهما، ولهذا يجوز لاحد المالكين أن ينفرد ببيع بعضه ولا يجوز لاحد الوكيلين أن ينفرد ببيع بعضه.

(14/111)


(الشرح) الاحكام: لا يخلو التوكيل من ثلاثة أحوال: (أحدها) أن ينهى الموكل وكيله عن التوكيل فلا يجوز له ذلك بغير خلاف لان ما نهاه عنه غير داخل في اذنه كما لو لم يوكله.
(الثاني) أذن له في التوكيل فيجوز له ذلك، لانه عقد أذن له فيه فكان له فعله كالتصرف المأذون فيه، ولا نعلم في هذا خلافا، فإن قال له: وكلتك فاصنع ما شئت فهل له أن يوكل؟ نظرت فإن كان ما وكله فيه مما يمكن أن يتولاه الوكيل ويقدر عليه، فإنه ليس له التوكيل، لانه موكل بتصرف يتولاه بنفسه، وقوله اصنع ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه، وقال أصحاب أحمد له أن يوكل من شاء لدخوله في عموم التوكيل.
ولنا أنه إذا كان ما وكل به كثير الجوانب متعدد الجهات بحيث يحتاج الوكيل إلى من يعينه على أدائه، ومثله لو كان العمل شاقا لا يقدر مثله على القيام به، ويحتاج إلى شخص قوى يؤديه جاز له توكيله، ومثل ذلك لو كان العمل يحتاج إلى مهارة أو فن خاص له دارسوه والمتخصصون فيه كالهندسة ونحوها جاز له توكيله، وكذلك لو كان عملا سهلا ولكنه من الاعمال التى يترفع مثله عن القيام بها لدناءتها جاز له أن يوكل من يقوم به.
(الثالث) أطلق الوكالة فلا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون العمل من الاعمال التى أشرنا إليها مما يرتفع الوكيل عن مثله كالاعمال الدنيئة في حق أشراف الناس أو يعجز عن فعلها أو لاى اعتبار مما ذكرنا آنفا فإن الاذن ينصرف إلى ما جرت به العادة من الاستنابة، وبه قال أحمد وأصحابه، القسم الثاني.
أن يكون مما يعجز عن عمله لكثرته وانتشاره فجاز التوكيل في بعضه فيما لا يقدر عليه منه، أما التوكيل في جميعه فيجوز عند أصحاب أحمد، أما عند أصحابنا فوجهان
(أحدهما)
له أن يوكل في جميعه لانه ملك التوكيل فملك في جميعه كالموكل
(والثانى)
ليس له أن يوكل الا فيما لا يقدر عليه منه، وانما أذن له فيما لا يقدر عليه للعجز، وبقى ما يقدر عليه على مقتضى التوكيل، وهذا قول عند أصحاب أحمد ذكره ابن قدامة عن القاضى.

(14/112)


(القسم الثالث) وهو ما يمكنه عمله بنفسه ولا يترفع عنه، فهل يجوز له التوكيل فيه؟ على روايتين إحداهما لا يجوز.
وهو المذهب عندنا، واليه ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف لانه لم يأذن له في التوكيل ولا تضمنه إذنه فلم يجز كما لو نهاه، ولانه استئمان فيما يمكنه النهوض فيه فلم يكن له أن يوليه لمن لم يأمنه كالوديعة والاخرى يجوز، نقلها حنبل وبه قال ابن أبى ليلى، إذا مرض أو غاب، لان الوكيل له أن يتصرف بنفسه فملكه نيابة كالمالك.
دليلنا أن التوكيل لا يتناول تصرف غيره من جهة النطق ولا من جهة العرف، لانه ليس في العرف إذا رضيه أن يرضى غيره ويفارق المالك، فإن المالك يتصرف بنفسه في ملكه كيف شاء بخلاف الوكيل فإنه يتصرف بالاذن.
(فرع)
كل وكيل جاز له التوكيل فليس له أن يوكل إلا أمينا لانه لا نظر
للموكل في توكيل من ليس بأمين، فيقيد جواز التوكيل بما فيه الحظ والنظر، كما أن الاذن في البيع يتقيد بالبيع بثمن المثل، إلا أن يعين له الموكل من يوكله فيجوز توكيله وإن لم يكن أمينا، لانه قطع نظره بتعيينه.
وإن وكل أمينا وصار خائنا فعليه عزله، لان تركه يتصرف مع الخيانة تضييع وتفريط، والوكالة تقتضي استئمان أمين.
وهذا ليس بأمين فوجب عزله ويقول النووي: لا يملك الوكيل عزله في الاصح لانه أذن في التوكيل دون العزل.
وقد أورد الرملي الوجهين.
(فرع)
إذا وكل وكيلين في تصرف وجعل لكل واحد الانفراد بالتصرف فله ذلك، لانه مأذون له فيه، فإن لم يجعل ذلك فليس لاحدهما الانفراد به، لانه لم يأذن له في ذلك، وإنما يجوز له ما أذن فيه موكله، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأى.
وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه معا في حرز لهما، لان قوله افعلا كذا يقتضى اجتماعهما على فعله، وهو مما يمكن فتعلق بهما.
وفارق هذا قوله بعتكما، حيث كان منقسما بينهما.
لانه لا يمكن كون الملك لهما على الاجتماع فانقسم بينهما فإن غاب أحد الوكيلين لم يكن للآخر أن يتصرف.

(14/113)


وخرج أبو العباس بن سريج وجها آخر أنه إن كان المال مما ينقسم اقتسماه ويكون عند كل واحد منهما نصفه والصحيح ما قررنا وليس للحاكم أن يضم أمين إلى الوكيل ليحل محل الغائب، لان الموكل رشيد جائز التصرف لا ولاية للحاكم عليه، فلا يضم الحاكم وكيلا له بغير أمره وفارق ما لو مات أحد الوصيين - وفرق بين الوصاية والوكالة - حيث يضيف الحاكم إلى الوصي أمينا ليتصرف، لكون الحاكم له النظر في حق الميت واليتيم.
ولهذا لو لم يوص إلى أحد أقام الحاكم أمينا في النظر لليتيم.
وإن حضر الحاكم أحد الوكيلين والآخر غائب وادعى الوكالة لهما وأقام بينة سمعها الحاكم وحكم بثبوت الوكالة لهما، ولم يملك الحاضر التصرف وحده، فإذا حضر الآخر تصرفا معا ولا يحتاج إلى إعادة البينة، لان الحاكم سمعها لهما مرة.
وإن ججد الغائب الوكالة أو عزل نفسه لم يكن للآخر أن يتصرف، وبما ذكرناه قال أحمد وأبو حنيفة وقال أبو حنيفة إذا وكلهما في خصومة فكل واحد منهما الانفراد بها.
ولنا أنه لم يرض بتصرف أحدهما فأشبه البيع والشراء وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن وكل رجلا في الخصومة لم يملك الاقرار على الموكل، ولا الابراء من دينه ولا الصلح عنه، لان الاذن في الخصومة لا يقتضى شيئا من ذلك، وان وكله في تثبيت حق فثبته لم يملك قبضه، لان الاذن في التثبيت ليس بإذن في القبض من جهة النطق، ولا من جهة العرف، لانه ليس في العرف أن من يرضاه للتثبيت يرضاه للقبض، وان وكله في قبض حق من رجل فجحد الرجل الحق، فهل يملك أن يثبته عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يملك، لان الاذن في القبض ليس بإذن في التثبيت من جهة النطق، ولا من جهة العرف، لانه ليس في العرف أن من يرضاه للقبض يرضاه للتثبيت.

(والثانى)
أنه يملك لانه يتوصل بالتثبيت إلى القبض، فكان الاذن في

(14/114)


القبض إذنا في التثبيت، وإن وكله في بيع سلعة فباعها لم يملك الابراء من الثمن، لان الاذن في البيع ليس بإذنه في الابراء من الثمن.
وهل يملك قبضه أم لا؟ فيه
وجهان
(أحدهما)
أنه لا يملك، لان الاذن في البيع ليس بإذن في قبض الثمن من جهة النطق ولا من جهة العرف، لانه قد يرضى الانسان للبيع من لا يرضاه للقبض
(والثانى)
أنه يملك، لان العرف في البيع تسليم للمبيع وقبض الثمن، فحملت الوكالة عليه، وإن وكله في شراء عبد فاشتراه وسلم الثمن ثم استحق العبد فهل يملك أن يخاصم البائع في درك الثمن.
فيه وجهان
(أحدهما)
يملك، لانه من أحكام العقد
(والثانى)
لا يملك، لان الذى وكل فيه هو العقد، وقد فرغ منه فزالت الوكالة.
(الشرح) الاحكام: إذا وكل رجلا في الخصومة لم يقبل إقراره على موكله بقبض الحق ولا غيره، وبهذا قال أحمد ومالك وابن أبى ليلى.
وقال أبو حنيفة ومحمد: يقبل إقراره في مجلس الحكم فيما عدا الحدود والقصاص.
وقال أبو يوسف يقبل إقراره في مجلس الحكم وغيره، لان الاقرار أحد جوابي الدعوى فصح من الوكيل كالانكار دليلنا أن الاقرار معنى يقطع الخصومة وينافيها، فلا يملكه الوكيل فيها كالابراء، وفارق الانكار فإنه لا يقطع الخصومة، ويملكه في الحدود وفى غير مجلس الحاكم، ولان الوكيل لا يملك الانكار على وجه يمنع الموكل من الاقرار فلو ملك الاقرار لامتنع على الموكل الاقرار فافترقا.
ولا يملك المصالحة عن الحق ولا الابراء منه بغير خلاف نعلمه، لان الاذن في الخصومة لا يقتضى شيئا من ذلك، وان أذن له في تثبيت حق لم يملك قبضه، وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يملك قبضه، لان المقصود من التثبيت قبضه وتحصيله.
دليلنا أن القبض لا يتناوله الاذن نطقا ولا عرفا، إذ ليس كل من يرضاه لتثبيت الحق يرضاه لقبضه وإن وكله في قبض حق فجحد من عليه الحق فهل يملك القيام بثبيت الحق
على الجاحد.
فيه وجهان لاصحابنا
(أحدهما)
لا يملك وليس له ذلك، وهو أحد

(14/115)


الوجهين عند أصحاب أحمد، لانهما معنيان مختلفان، فالوكيل في أحدهما لا يكون وكيلا في الآخر، كما لا يكون وكيلا في القبض بالتوكيل في الخصومة.

(والثانى)
كان له القيام بتثبيت الحق على جاحده، وبهذا قال أبو حنيفة، وهو أحد الوجهين عند أصحاب أحمد ووجه هذا الوجه أنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالتثبيت، فكان إذنا فيه عرفا، ولان القبض لا يتم الا به فملكه، كما لو وكل في شراء شئ ملك وزن ثمنه أو وكل في بيع شئ ملك تسليمه، ويحتمل أنه أن كان الموكل عالما بجحد من عليه الحق أو مطله كان توكيلا في تثبيته والخصومة فيه لعلمه بوقوف القبض عليه.
وان لم يعلم ذلك لم يكن توكيلا فيه لعدم علمه بتوقف القبض عليه، ولا فرق بين كون الحق عينا أو دينا.
وقال بعض أصحاب أبى حنيفة: ان وكله في قبض عين لم يملك تثبيتها لانه وكيل في نقلها، أشبه الوكيل في نقل الزوجة.
(فرع)
إذا وكله في بيع شئ ملك تسليمه، لان اطلاق التوكيل في البيع يقتضى التسليم لكونه من تمامه، ولم يملك الابراء من ثمنه، وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: يملكه دليلنا أن الابراء ليس من البيع ولا من تتمته، فلا يكون التوكيل في البيع توكيلا فيه كالابراء من غير ثمنه (فرع)
وأما قبض الثمن فعلى وجهين، ان قلنا انه قد يوكل في البيع من لا يأمنه على قبض الثمن فعلى هذا ليس له قبض الثمن.
وان قلنا ان العرف في البيع تسليم للمبيع وقبض للثمن.
وأنه موجب للبيع ملك القبض فكان كتسليم
المبيع، فعلى هذا ليس له تسليم المبيع الا بقبض الثمن، فإذا سلمه قبل قبض ثمنه ضمنه، والاولى أن ينظر فيه فان دلت قرينة الحال على قبض الثمن مثل توكيله في بيع ثوب في سوق غائب عن الموكل، أو موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل له كان اذنا في قبضه، ومتى ترك قبضه كان ضامنا له، لان ظاهر حال الموكل أنه انما أمره بالبيع لتحصيل ثمنه فلا يرضى بتضييعه، ولهذا يعد من فعل

(14/116)


ذلك مضيعا مفرطا وان لم تدل القرينة على ذلك لم يكن له قبضه، وبالوجهين قال أحمد وأصحابه.
قال الماوردى في الحاوى: لو وكله في المطالبة بدين لم يكن له قبضه بعد المطالبة، وان وكله في المخاصمة في دار يدعيها لم يكن له قبضها.
ولو وكله في اثبات منفعة يستحقها لم يكن له انتزاعها وكان عمل الوكيل في هذه الاحوال كلها مقصورا على ما تضمنه الاذن والقسم الثاني ما كان عمل الوكيل فيه متجاوزا إلى ما تضمنته الوكالة من مقصوده، وهو ما كان مقصود واجبا على الموكل، كالتوكيل في بيع أو شراء فله إذا عقد البيع أن يسلم المبيع ويتسلم الثمن.
وان لم يصرح له الموكل به، لان عقد البيع أوجب عليه تسليم ما باعه، وهو مندوب إلى أن لا يسلمه الا بعد قبض ثمنه، فلذلك جاز أن يتجاوز العقد إلى تسليم المبيع وقبض ثمنه وهكذا لو وكله في شراء سلعة جاز له أن يقبضها ويدفع ثمنها، فان الشراء قد أوجب عليه دفع الثمن، وهو مندوب إلى أن لا يدفع الثمن الا بعد قبض المبيع، فان وكله في البيع على أن لا يقبض الثمن من المشترى صحت الوكالة ولم يكن له قبض الثمن، ولو وكله فيه على أن لا يسلم المبيع كان في الوكالة وجهان ذكرهما أبو على الطبري في افصاحه

(أحدهما)
تصح الوكالة، كما لو نهاه عن قبض الثمن، فإذا أخذ تسليم المبيع أخذ به الموكل.
(والوجه الثاني) أن الوكالة باطلة، لان اقباض المبيع من لوازم البيع فإذا نهاه عنه بطل التوكيل (القسم الثالث) ما اختلف المذهب، هل يكون عمل المذهب فيه مقصورا على ما تضمنه الاذن أو تجوز له المجاوزة إلى ما أدى إليه، وهو مالا يمكن من عمل المأذون فيه الا به كالوكالة في مقاسمته في دار وقبض الحصة منها إذا جحد الشريك، هل يجوز للوكيل المخاصمة فيها واثبات الحجج والبينات عليها، وكالوكالة في قبض دين، أما جحده المطلوب هل يجوز للوكيل مخاصمته واثبات

(14/117)


البينة عليه؟ فيه قولان حكاهما ابن سريج مخرجا
(أحدهما)
ليس له ذلك ويكون مقصود العمل على ما تضمنه صريح الاذن، لان ما تجاوزه ليس بواجب فيه فشابه القسم الاول.
(والقول الثاني) يجوز له ذلك، لانه لا يصل إلى العمل المأذون فيه إلا به كالقسم الثاني.
والله أعلم اه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان وكل في البيع في زمان لم يملك البيع قبله ولا بعده، لان الاذن لا يتناول ما قبله ولا ما بعده من جهة النطق ولا من جهة العرف، لانه قد يؤثر البيع في زمان لحاجة، ولا يؤثر في زمان قبله ولا زمان بعده، وإن وكله في البيع في مكان - فان كان الثمن فيه أكثر أو النقد فيه أجود - لم يجز البيع في غيره، لانه قد يؤثر البيع في ذلك المكان لزيادة الثمن أو جودة النقد، فلا يجوز تفويت ذلك عليه، وان كان الثمن فيه وفى غيره واحدا ففيه
وجهان
(أحدهما)
أنه يملك البيع في غيره، لان المقصود فيهما واحد، فكان الاذن في أحدهما اذنا في الآخر
(والثانى)
لا يجوز لانه لما نص عليه دل على أنه قصد عينه لمعنى هو أعلم به من يمين وغيرها فلم تجز مخالفته.
(الشرح) الاحكام: قال الماوردى في الحاوى.
وقال أبو حنيفة: يجوز له أن يوكل لامرين
(أحدهما)
أنه لما أقامه فيه مقام نفسه جاز له التوكيل فيه كما يجوز لنفسه
(والثانى)
أن المقصود بوكالته حصول العمل في الحالين لموكله.
وهذا خطأ من وجهين:
(أحدهما)
أن فعل الوكيل مقصور على ما تضمنه الاذن من غير مجاوزة، وليس في التوكيل مجاوزة
(والثانى)
أن الموكل يسكن في عمله إلى أمانة وكيله فلم يجز أن يوكل من لم يسكن الموكل إلى أمانته كالوديعة التى لا يجوز للمودع أن يودعها عند غيره، لان المالك لم يرض الا بأمانته.
فأما استدلاله بأن هذا أقامه مقام نفسه فلعمري أنه

(14/118)


كذلك في فعل ما وكل فيه لا في غيره، ألا ترى أنه لا يجوز أن يهب ولا يبرئ وان كان للموكل أن يهب ويبرئ لانه لم يأذن له فيه، فكذلك في التوكيل.
وأما الجواب عن قولهم بأن الغرض حصول العمل فهو كذلك لكن قد خصه به وارتضى أمانته، كمن استأجر أجيرا بعينه لعمل لم يكن له أن يستأجر غيره في عمله، لان قصد المستأجر انما هو حصول العمل من جهة الاجير وفعله لا بفعل غيره.
كذلك ها هنا.
قلت: ولكلام المصنف هنا دلالته على ما يترتب على مخالفة الاذن ومجاوزته من أحكام، فمثلا إذا أذن الموكل للوكيل بالبيع في زمان فباع قبله فترتب على بيعه قبله نقص ثمنه عن مثله في الزمن المحدد لنقص في السن أو الوزن أو الصفة
كان ذلك من ضمان الوكيل.
وكذلك إذا باعه بعد الزمان الذى أذن له فيه فترتب على ذلك ما ذكرنا كان من ضمانه.
وكذلك إذا أذن له في مكان لمصلحة يراها الموكل لكثرة الطالبين للسلعة في ذلك المكان أو لكثرة الثمن أو جودة النقد فلا يملك الوكيل مخالفة مضمون الاذن، فإذا كان الثمن في كل هذه الاحوال التى خالف فيها متفقا مع الزمن المطلوب أو المكان المطلوب بحيث لا يفوت الموكل شئ من الفائدة فهل يجوز للوكيل مخالفة الاذن؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز له ذلك، لان المقصود فيها واحد
(والثانى)
لا يجوز، لان الموكل أعرف بما هو الاحظ له وعلى الوكيل الامتثال لامر الموكل قال الماوردى في الحاوى: أن يكون الشرط الذى شرطه الموكل في بيع وكيله يصح معه العقد ولا يبطل به البيع، فعلى الوكيل أن يعقد البيع على الشرط المأذون فيه ولا يتجاوزه الا أن يكون الشرط بالمجاوزة موجودا مع زيادة فصح البيع حينئذ على ما سنشرحه ولا تكون الزيادة مانعة من صحته.
فأما اذنه في بيعه على رجل بعينه فلازم ولا يجوز للوكيل أن يعدل إلى بيعه على غيره لانه المقصود بالتمليك فلم يصح عدول الوكيل عنه كالهبه، فعلى هذا لو مات ذلك الرجل بطلت الوكالة بالبيع.
ولم يجز للوكيل أن يبيعه على وارثه ولا على غير وارثه.

(14/119)


ولو كان حيا وامتنع من ابتياعه لم تبطل الوكالة لجواز أن يرغب فيه من بعد، وأما إذنه ببيعه في زمان بعينه فلازم، ولا يجوز للوكيل أن يبيعه قبل ذلك الزمان ولا بعده، أما قبله فلان وقت الاذن لم يأت، وأما بعده فلبطلان الوكالة بالفوات وقد يكون للانسان غرض صحيح في استيفاء ملكه إلى زمان بعينه.
فأما إذنه في مكان بعينه - فإن كان فيه غرض صحيح لاختلاف الاسعار
باختلاف الاماكن أو جودة النقود وهو شرط لازم فلا يجوز للوكيل أن يبيعه في غير ذلك المكان، فان فعل وسلمه فالبيع باطل وهو بالتسليم ضامن، فإن لم يكن في ذلك المكان غرض صحيح، ولا معنى مستفاد نظر في صفة إذنه، فإن كان قال: لا تبيعوا إلا في مكان كذا أو في سوق كذا لزم، وكان بيع الوكيل في غير ذلك المكان باطلا لصريح النهى عنه.
وإن قال: بعه في سوق كذا أو في مكان كذا، ولم يصرح بالنهي عما سواه ففى لزوم اشتراطه وجهان.

(أحدهما)
أنه شرط لازم لا يجوز للوكيل أن يبيعه في غيره، لانه أملك بأحوال إذنه.
(والوجه الثاني) أنه شرط غير لازم لفساد الغرض المقصود به، والاول أشبه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن وكله في البيع من رجل لم يجز أن يبيع من غيره، لانه قد يؤثر تمليكه دون غيره، فلا يكون الاذن في البيع منه إذنا في البيع من غيره، وان قال خذ مالى من فلان فمات لم يجز أن يأخذ من ورثته، لانه قد لا يرضى أن يكون ماله عنده، ويرضى أن يكون عند ورثته، فلا يكون الاذن في الاخذ منه إذنا في الاخذ من ورثته، وإن قال: خذ مالى على فلان فمات، جاز أن يأخذ من ورثته، لانه قصد أخذ ماله، وذلك يتناول الاخذ منه، ومن ورثته، وان وكل العدل في بيع الرهن فأتلفه رجل، فأخذت منه القيمة لم يجز له بيع القيمة، لان الاذن لم يتناول بيع القيمة.

(14/120)


(الشرح) الاحكام: فأما إذنه على رجل بعينه فلازم، لانه المقصود بالتمليك
فلم يصح عدول الوكيل عنه كما أوضح ذلك الماوردى فيما نقلناه في الفصل قبله، وأما إذا قال الموكل لوكيله: قد وكلتك في استيقاء مالى (على) زيد فمات زيد جاز للوكيل أن يستوفيه من وارثه، فإذا قال الموكل لوكيله: قد وكلتك في استيفاء مالى (من) زيد فمات زيد لم يجز للوكيل أن يستوفيه من وارثه، والفرق بينهما أن الامر باستيفائه من زيد في الاول متوجه إلى المال فجاز أن يستوفيه من ورثته والامر باستيفائه من زيد في الثاني متوجه إلى زيد أن يكون هو المستوفى منه، فلم يجز أن يستوفيه من غيره.
فإذا وكل العدل لامانته وصدقه في بيع الرهن فأتلفه غيره فأخذت القيمة من المتلف فلا يجوز له أن يبيع القيمة ليحصل على الثمن لرده إلى الموكل، لان الاذن لا يتضمن بيع القيمة، وإنما كان قاصرا على بيع الرهن وليست القيمة عين الرهن
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وكل في بيع فاسد لم يملك الفاسد، لان الشرع لم يأذن فيه، ولا يملك الصحيح، لان الموكل لم يأذن فيه.
(الشرح) الاحكام: إذا وكله في بيع فاسد كبيع الخمر أو الكلب أو الخنزير أو بيع حر أو بيع مالا يملك كالمغصوب أن بيع الثمر قبل بدو صلاحه أو البيع بغير جنس الاثمان، أو بيع مباح بمحرم أو باع بمالا يتغابن الناس بمثله على ما سيأتي تفصيله أو أعطاه دراهم ليسلم فيما لا يجوز السلم فيه كاللحم والثياب على ما مضى في كتاب السلم وكتاب البيوع بطلت الوكالة لان الشرع لم يأذن فيه للموكل فكان الحظر على الوكيل، وما كان محظورا على الوكيل لنفسه كان محظورا عليه نيابة لغيره، فإذا استبدل المبيع المحرم بمباح أو أبدل المسلم فيه بمجاز السلم فيه لم يملك ذلك من قبل أنه لم يأذن له الموكل في ذلك، لان مقتضى الوكالة في الاذن في البيع الفاسد فلم يصح العدول عن الفاسد إلى الصحيح كما لم يصح نفاذ الوكالة في
الفاسد من جهة الشرع والله أعلم.

(14/121)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وكل في بيع سلعة لم يملك بيعها من نفسه من غير اذن، لان العرف في البيع أن يوجب لغيره فحمل الوكالة عليه، ولان اذن الموكل يقتضى البيع ممن يستقصى في الثمن عليه، وفى البيع من نفسه لا يستقصى في الثمن، فلم يدخل في الاذن، وهل يملك البيع من ابنه أو مكاتبه؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
يملك، وهو قول أبى سعيد الاصطخرى، لانه يجوز أن يبيع منه ماله، فجاز له أن يبيع منه مال موكله كالأجنبي.

(والثانى)
لا يجوز، وهو قول أبى اسحاق، لانه متهم في الميل اليهما كما يتهم في الميل إلى نفسه، ولهذا لا تقبل شهادته لهما، كما لا تقبل شهادته لنفسه، فان أذن له في البيع من نفسه، ففيه وجهان.
أحدهما: يجوز كما يجوز أن يوكل المرأة في طلاقها.
والثانى: لا يجوز، وهو المنصوص لانه يجتمع في عقده غرضان متضادان الاستقصاء للموكل، والاسترخاص لنفسه فتمانعا، ويخالف الطلاق، فانه يصح بالزوج وحده، فصح بمن يوكله، والبيع لا يصح بالبائع وحده، فلم يصح بمن يوكله، وان وكل رجلا في بيع عبده ووكله آخر في شرائه لم يصح، لانه عقد واحد يجتمع فيه غرضان متضادان، فلم يصح التوكيل فيه كالبيع من نفسه.
وان وكله في خصومة رجل ووكله الرجل في خصومته، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح لانه توكيل في أمر يجتمع فيه غرضان متضادان، فلم يصح، كما لو وكله أحدهما في بيع عبده ووكله آخر في شرائه.
والثانى: يصح، لانه لا يتهم في اقامة الحجة لكل واحد منهما مع حضور الحاكم فان وكل عبد الرجل
ليشترى له نفسه أو عبدا غيره من مولاه، ففيه وجهان.
(احدهما) يجوز، لانه لما جاز توكيله في الشراء من غير مولاه جاز توكيله في الشراء من مولاه
(والثانى)
لا يجوز، لان يد العبد كيد المولى، ولهذا يحكم له بما في يد العبد كما يحكم له بما في يده.
ثم لو وكل المولى في الشراء من نفسه لم يجز فكذلك إذا وكل العبد.

(14/122)


(الشرح) الاحكام: إذا وكله في بيعها لا يجوز له أن يبيعها من نفسه، فان أذن له كان بيعا، فان وقع حين التسليم وعقد الوكالة كان بيعا ولا عبرة بالوكالة ولان العرف في البيع وأيضا أحكام الشريعة في البيع تقوم على الايجاب، والايجاب هو أن يوجب لغيره، ولان اذن البيع يقتضى من الوكيل أن يبيع بما هو الاحظ في الثمن من حيث استقصاء الثمن بغير محاباة، فلو باع من نفسه فانه ربما تغاضى عن مراعاة هذا الاعتبار بمحاباة نفسه، ولم يدخل في الاذن.
ودليلنا أن كل ما عقده الوكيل للموكل اقتضى وقوع الملك بالعقد للموكل كالنكاح، ولان كل من ناب في العقد عن غيره وقع الملك به للمعقود له دون عاقده قياسا على ولى اليتيم وأب الطفل، ولانه لما كان الوكيل في البيع لا يملك الثمن ويكون الثمن بالعقد ملكا للموكل وجب أن يكون الوكيل في الشراء لا يملك الثمن ويكون الملك بالعقد واقعا للموكل وأما الجواب عن استدلالهم بالشفعة فمنتقض بولي اليتيم وأب الطفل، ثم المعنى في الشفيع أنه يملك المبيع بالشفعة دون العقد.
وأما الجواب عن استدلالهم بالثمن فسيذكر من شرح المذهب فيه ما يكون انفصالا عنه.
وأما الجواب عن استدلالهم بأن تمام العقد لمتعاقدين فكذا موجبه من الملك يكون واقعا بالمتعاقدين فهو أنه منتقض بالحاكم وولى اليتيم وأب الطفل وبعقد النكاح، وليس لهم
استدلال في المسألة يسلم من الكسر.
(فرع)
قال في الحاوى: قال المزني: أعلم للوكيل والوصى أن يشترى من نفسه.
اعلم أن النيابة في البيع والشراء قد يكون من أربعة أوجه، أحدها من جهة النسب، وهى الاب والجد على ابنه الطفل، والثانى من جهة الحكم، وهى للحاكم أو أمينه على المولى عليه لصغر أو سفه.
والثالث من جهة الوصية، وهى وصاية الاب والجد وغيرهما على الطفل ممن تصح وصايته.
والرابع من جهة الوكالة، وهو الوكيل الرشيد، فاختلف الفقهاء هل لهم ولاية أن يبيعوا على أنفسهم مالهم بيعه، ويشتروا من أنفسهم ما لهم شراؤه؟ على أربعة مذاهب (أحدها) وهو مذهب مالك والاوزاعي أنه يجوز لجميعهم أن يبيعوا على أنفسهم ويشتروا من أنفسهم.

(14/123)


والمذهب الثاني، وهو قول زفر بن الهذيل: أنه لا يجوز لجميعهم أن يبيعوا على أنفسهم ولا أن يشتروا من أنفسهم والمذهب الثالث، وهو قول أبى حنيفة: أنه يجوز ذلك لجميعهم إلا الوكيل وحده.
والمذهب الرابع، وهو مذهب الشافعي: أنه لا يجوز ذلك لجميعهم إلا الاب وحده والجد مثله واستدل من ذهب إلى جوازه لجميعهم بأن المقصود في البيع حصول الثمن وفى الشراء حصول المشترى.
ولذلك لم يلزم ذكر من له البيع والشراء بخلاف النكاح، فلم يقع الفرق بين حصول الثمن من النائب وغيره لحصول المقصود في الحالين، وقياسا على الاب أن كل من جاز له بيعه على نفسه كالاب واستدل من منع جوازه لجميعهم بأن الانسان مجبول على تغليب حظ نفسه على حظ غيره، والنائب مندوب إلى طلب الحظ المستبين فإن باع نفسه انصرف
بجبلة الطبع إلى حظ نفسه، فصار المقصود بالنيابة معدوما فلم يجز، وقياسا على الوكيل لانه نائب في العقد عن غيره فلم يجز أن يعقد مع نفسه واستدل من منع منه للوكيل وحده، وأجاز لمن سواه بأن نيابة الوكيل غير جائز الامر فكان مأذونا له من غير ولاية فصار أنقص حالا من ذى الولاية.
فجاز للولى مبايعة نفسه لقوة سببه كالاب، ولم يجز لغير ذى الولاية كالوكيل مبايعة نفسه لضعف سببه كالأجنبي ودليلنا أن غير الاب لا يجوز له مبايعة نفسه، ما روى أن رجلا أوصى إلى رجل بوصية فأراد الوصي بيع فرس من التركة على نفسه، فسأل عبد الله بن مسعود عن جوازه فقال لا.
وليس نعرف له مخالفا في الصحابة ولا جبلة الطبع تصرفه عن حظ غيره إلى حظ نفسه، ولان كل من كانت ولايته لغيره لم يكن له مبايعة نفسه كالوكيل ودليلنا على أن الاب يجوز له مبايعة نفسه هو أن الاب مجبول بحيوية الابوة وشدة الميل والمحبة على طلب الحظ لولده والايثار على نفسه والاستكثار لولده ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الولد مجبنة مبخلة مجهلة، فانتفت التهمة عنه في مبايعة نفسه.
وهذا المعنى مفقود فيمن عداه، فصار هذا الحكم لاختصاصه

(14/124)


بمعناه مقصورا عليه منتفيا عما سواه.
وهذا دليل وانفصال، فلو وكل الابن البالغ أباه في بيع سلعة، فاختلف أصحابنا هل يجوز له بيعها على نفسه أم لا؟ على وجهين:
(أحدهما)
يجوز كما لو كان في حجره تغليبا لحكم الابوة
(والثانى)
لا يجوز، لان ارتفاع الحجر يقتضى تغليب الوكالة.
(فرع)
فأما الوصي والوكيل إذا أراد بيعها لمتولاه بالوصية والوكالة، على ابن نفسه أو على أب نفسه ففيه لاصحابنا وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد
الاصطخرى: أنه يجوز لانه غير مبايع لنفسه (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنه لا يجوز لانه مقهور في الميل إلى ولده كما كان مقهورا في الميل إلى نفسه.
ولذلك لم يجز أن يشهد لولده، كما لا يصح منه الشهادة لنفسه فلم يجز مبايعة ولده بمال غيره، كما لم يجز مبايعة نفسه أو يشترى من نفسه، فمذهب الشافعي رضى الله عنه أنه غير جائز لما فيه تنافى المقصود والغرض من الوكالة قال الماوردى: لان عقد الوكالة قد أوجب عليه الاستقصاء لموكله، وإذا كان هو المشترى انصرف منه إلى الاستقصاء لنفسه.
وقال ابن سريج: يجوز ذلك كما يجوز أن يجعل إلى زوجته الطلاق لنفسها أو إلى أمته عتقها قال الماوردى: وهذا خطأ لما ذكرنا في الفرق بين البيع والطلاق والعتق من ثلاثة أوجه (أحدها) أن في البيع ثمنا يختلف بالزيادة والنقصان، فصار بالميل إلى نفسه متهما فيه، وليس في الطلاق والعتق لمن تصير بالميل إلى نفسها متهمة فيه
(والثانى)
أن العتق والطلاق أوسع لوقوعهما بالصفات، والبيع أضيق حكما منهما.
(والثالث) أنه ليس في الطلاق والعتق قبول معتبر.
وفى البيع قبول معتبر فلم يجز أن يكون الباذل قابلا.
فأما إذا وكله رجل في بيع سيارته ووكله آخر في شراء السيارة الموكل في بيعها لم يجز لتنافى المقصود في العقدين، وكان له أن يقيم على إحدى الوكالتين، فإن أراد أن يقيم على أسبقهما في بيع أو شراء جاز، وإن أراد أن يقيم على الثانية فيهما بيعا كان أو شراء احتمل وجهين، لان ثبوت الاولة يمنع من جواز الثانيه

(14/125)


والوجه الثاني: يجوز، لان الوكالة لا تلزم، فلم يكن للمتقدمة منهما تأثير،
وتبطل بقبول الثانية.
ومثل ذلك يقال في التوكل في الخصومة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وكل في شراء سلعة موصوفة لم يجز أن يشترى معيبا لان إطلاق البيع يقتضى السلامة من العيب، ولهذا لو اشترى عينا فوجد بها عيبا ثبت له الرد، فإن اشترى معيبا نظرت، فإن اشتراه وهو يعلم أنه معيب لم يصح الشراء للموكل، لانه اشترى له ما لم يأذن فيه، فلم يصح له، وإن اشتراه وهو لا يعلم أنه معيب ثم علم لم يخل إما أن يرضى به أو لا يرضى، فإن لم يرض به نظرت، فان علم الموكل ورضى به لم يجز للوكيل رده، لان الرد لحقه وقد رضى به فسقط.
وإن لم يعلم الموكل ثبت للوكيل الرد، لانه ظلامة حصلت بعقده فجاز له رفعها كما لو اشترى لنفسه فإن قال له البائع: أخر الرد حتى تشاور الموكل، فإن لم يرض قبلته لم يلزمه التأخير، لانه حق تعجل له فلم يلزمه تأخيره، وإن قبل منه وأخره بهذا الشرط فهل يسقط حقه من الرد، فيه وجهان:
(أحدهما)
يسقط لانه ترك الرد مع القدرة
(والثانى)
لا يسقط لانه لم يرض بالعيب، فان ادعى البائع أن الموكل علم بالعيب ورضى به فالقول قول الوكيل مع يمينه، لان الاصل عدم الرضا، فان رضى الوكيل بالعيب سقط خياره، فان حضر الموكل ورضى بالعيب استقر العقد وإن اختار الرد نظرت فان كان قد سماه الوكيل في الابتياع أو نواه وصدقه البائع جاز أن يرده، لان الشراء له وهو لم يرض بالعيب، وإنما رضى وكيله فلا يسقط حقه من الرد، وإن لم يسمه الوكيل في الابتياع ولا صدقه البائع أنه نواه فالمنصوص أن السلعة تلزم الوكيل، لانه ابتاع في الذمة للموكل ما لم يأذن فيه له ومن أصحابنا من قال يلزم الموكل، لان العقد وقع له وقد تعذر الرد بتفريط
الوكيل في ترك الرد، ويرجع الموكل على الوكيل بنقصان العيب، لان الوكيل صار كالمستهلك له بتفريطه

(14/126)


وفى الذى يرجع به وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى يحيى البلخى: أنه يرجع بما نقص من قيمته معيبا عن الثمن، فإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة مائة لم يرجع بشئ، وإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة تسعين رجع بعشرة، كما نقول في شاهدين شهدا على رجل أنه باع سلعة بمائة، فأخذت منه ووزن له المشترى الثمن، ثم رجع الشهود عن الشهادة فإن الحكم لا ينقض ويرجع البائع على الشهود بما نقص من القيمة عن الثمن، فان كان الثمن والقيمة سواء لم يرجع عليهم بشئ، وإن كانت القيمة مائة والثمن تسعون رجع بعشرة
(والثانى)
أنه يرجع بأرش العيب، وهو الصحيح، لانه عيب فات الرد به من غير رضاه فوجب الرجوع بالارش.
وإن وكل في شراء سلعة بعينها فاشتراها ووجد بها عيبا فهل له أن يرد من غير إذن الموكل؟ فيه وجهان
(أحدهما)
له أن يرد، لان البيع يقتضى السلامة من العيب ولم يسلم من العيب فثبت له الرد كما لو وكل في شراء سلعة موصوفة فوجد بها عيبا فعلى هذا يكون حكمه في الرد على ما ذكرناه في السلعة الموصوفة
(والثانى)
لا يرد من غير إذن الموكل لانه قطع نظره واجتهاده بالتعيين.
(الشرح) قال المزني رحمه الله تعالى: ولو وكله بشراء سلعة فأصاب بها عيبا كان له الرد بالعيب.
وليس عليه أن يحلف: ما رضى به الآمر، فهذا قول الشافعي ومعناه.
اه قال الماوردى في الحاوى: أعلم أن للموكل إذا أمر وكيله بشراء شئ فعلى حالين
(أحدهما)
أن يعينه
(والثانى)
أن يصفه ولا يعينه، فإن وصفه ولم يعينه
لزمه أن يشتريه سليما من العيوب لان إطلاق الصفه يقتضيه، ويجوز للعامل في القراض أن يشترى السليم والمعيب، والفرق بينهما أن يشترى الوكيل للقنيه، وليس في المعيب صلاح للمقتنى، وشراء العامل في القراض طلبا للربح، وقد يوجد الربح في المعيب كوجوده في السليم فإن اشترى الوكيل شيئا على الصفة وكان معيبا فعلى ضربين
(أحدهما)
أن

(14/127)


يشتريه عالما بعيبه فالشراء غير لازم للموكل لاقدامه على ابتياع ما لم يقتضه الاذن وهو لازم للوكيل على ما تقدم من اعتبار صفة الاذن والضرب الثاني: أن يشتريه غير عالم بعيبه فللوكيل إذا علم بعيبه أن يبادر إلى رده ولا يلزمه استئذان موكله، لان رد المعيب من حقوق عقده.
فلو قال له البائع: قد أمهلتك في رده فطالع موكلك بعيبه لم يلزمه المطالعه وكان له تعجيل الرد لما ذكرنا، فإن رده ثم جاء الموكل راضيا بعيبه لم يكن لرضاه بعد ذلك تأثير لفسخ البيع بالرد قبل الرضى ولو رضى بعيب قبل رد الوكيل لزم البيع ولم يكن للوكيل الرد، ولو رضى رب المال في القراض بعيب المشترى كان للعامل أن يرده بخلاف الوكيل والفرق بينهما أن للعامل في القراض شرك في الربح.
وليس للوكيل فيه شرك فإن ادعى البائع على الوكيل حين أراد الرد أن موكله راض بالعيب فلا يمين له على الوكيل، فان ادعى عليه أنه قد علم برضى موكله بالعيب وكان عليه أن يحلف أنه ما علم برضى موكله بالعيب، وله الرد واسترجاع الثمن.
ثم للبائع إذا أراد الثمن على الوكيل وظفر بالموكل أن يحلفه بالله أيضا ما رضى بعيب المشترى الذى ابتاعه موكله قبل رده، فان نكل عن اليمين حلف البائع وحكم له بلزوم البيع واستحقاق الثمن، وهذا حكم الوكيل إذا رد بالعيب والله اعلم
فأما إن رضى الوكيل بالعيب نظر في الموكل، فان رضى بالعيب كان الشراء لازما له، وإن لم يرض بالعيب نظر في عقد البائع فان كان قد سمى موكله فيه فله الرد، لان مالك المشترى لا يلتزم عيبا لم يرض به، وإن لم يسم الموكل في عقده نظر في البائع، فان صدق المبيع أن عقد الشراء لموكله كان له الرد، وإن لم يصدقه حلف له، ولا رد للوكيل على البائع لما تقدم من رضاه وفى كيفية رجوع الموكل به وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى يحيى البلخى: أنه يرجع عليه بقدر النقص من ثمنه فأما إن كان يساوى معيبا بمثل ما اشتراه فلا شئ له على الوكيل لعدم النقص في الثمن استشهادا بأن من ادعى بيع سيارته بمائة على رجل وأنكر، وأقام المدعى بينة بالبيع فحكم له بالثمن ثم رجع الشهود، فان كان ثمن السيارة مائة

(14/128)


فلا غرم على الشهود، وإن كان ثمنها أقل من مائة غرم الشهود برجوعهم قدر النقص من ثمنها.
والوجه الثاني، وهو قول جمهور أصحابنا: أنه يرجع على الوكيل بأرش العيب سواء كان يساوى قدر ثمنه معيبا أم لا، لان العيب إذا فات معه الرد كان مقدرا بالارش، وإن لم يكن معتبرا بنقص الثمن، وليس كالذى استشهد به من رجوع الشهود، لان غارم الثمن بشهادتهم إنما يستحق الرجوع بما غرم، فإذا وصل إليه من الثمن لم يبق له حق بغرمه، فهذا حكم التوكيل في شراء سيارة موصوفة، فأما إذا كانت السيارة معيبة فهل للوكيل عند ظهور العيب أن يردها قبل استئذان موكله أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ جمهور أصحابنا لا رد له إلا بعد استئذان موكله فيها، لانه بالتعيين فيها قد قطع اجتهاده فيها، ولعله قد أمره بشرائها مع
علمه بعيبها.
والوجه الثاني وهو قول أبى حامد الاسفرايينى: له الرد من غير استئذان، لان الرد من حقوق عقده، ولانها لا تكون مأخوذة به إن لم يرض الموكل بعيبها هذا والله الموفق للصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وكل في بيع عبد أو شراء عبد لم يجز أن يعقد على بعضه، لان العرف في بيع العبد وشرائه أن يعقد على جميعه، فحمل الوكالة عليه، ولان في تبعيضه إضرارا بالموكل فلم يملك من غير إذن، وإن وكل في شراء أعبد أو بيع أعبد جاز أن يعقد على واحد واحد، لان العرف في العبيد أن تباع وتشترى واحدا واحدا، ولانه لا ضرر في إفراد بعضهم عن بعض، وإن وكله أن يشترى له عشرة اعبد صفقة واحدة فابتاع عشرة أعبد من اثنين صفقة واحدة، ففيه وجهان، قال أبو العباس: يلزم الموكل، لانه اشتراهم صفقة واحدة، ومن أصحابنا من قال: لا يلزم الموكل، لان عقد الواحد مع الاثنين عقدان
(فصل)
ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد من غير إذن،

(14/129)


ولا للوكيل في الشراء أن يشترى بغير نقد البلد من غير إذن، لان إطلاق البيع يقتضى نقد البلد، ولهذا لو قال: بعتك بعشرة دراهم حمل على نقد البلد، وإن كان في البلد نقدان باع بالغالب منهما، لان نقد البلد هو الغالب، فإن استويا في المعاملة باع بما هو أنفع للموكل، لانه مأمور بالنصح له، ومن النصح أن يبيع بالانفع، فان استويا باع بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا على الآخر فخير بينهما وإن أذن له في العقد بنقد لم يجز أن يعقد بنقد آخر، لان الاذن في جنس ليس بإذن في جنس آخر، ولهذا لو أذن له في شراء عبد لم يجز أن يشترى جارية،
ولو أذن له في شراء حمار لم يجز أن يشترى فرسا.
(الشرح) الاحكام: إذا وكله في بيع الشئ جميعه لانه لا يتجزأ، أو يتجزأ ولكن الاذن منعقد على أن يباع صفقة واحدة، فلبس له أن يبيع بعضه، فان قال له: بع هذه السيارة بمائة، فباع نصفها بسبعين، فان هذا البيع لا يلزم الموكل، لانه لا يأمن أن يبيع الباقي بثلاثين فإن قال له: بع هذه السيارة بمائة، فباع نصفها بمائة جاز، لانه زاد خيرا وأتى بالغرض للموكل من الحصول على المائه، وزيادة ملكيته لنصف السيارة، وليس عليه ضير من هذه التجزئة.
وكذلك توكيله في بيع شيئين بمائه فباع أحدهما بمائه.
وبهذا قال أحمد والشافعي ومحمد وأبو يوسف وقال أبو حنيفة: يجوز أن يبيع بعض الموكل فيه بأى ثمن إذا كان التوكيل مطلقا بناء على أصله في أن للوكيل المطلق البيع بما شاء.
أما الشراء فإذا وكله في شراء طن من الورق فاشتراه رزمه رزمه، فإذا كان ثمنه ثمن الطن مرة واحدة جاز إذا لم يختلف بعضها عن بعض نوعا أو وزنا أو لونا أو ملمسا، وعند أحمد لا يصح لعدم الاذن والذى يدور عليه مفهوم الوكالة هو اذن الموكل أولا، وتوخى الانفع أو الاحظ له ثانيا، ومراعاة أن يكون النقد الذى يبيع به نقدا محليا، حتى لا يشق على الموكل الانتفاع به أو الحصول على نقد معتبر متداول معروف، فقد تتفق بعض النقود في الاسماء ولكنما تختلف من حيث القيمة وجهة الاصدار،

(14/130)


والمعتبر هو نقد بلد البيع وليس بلد التوكيل، فقد تعقد الوكالة في بلد والمراد بيعه في بلد آخر فيكون البيع بنقد البلد الذى جرى فيه البيع، وذلك لمعرفة أهل البلد بنقدهم، وتقويمهم المبيع بنقدهم يمنع وقوعهم في الغرر.
قال الماوردى: لما لم يصح من الوكيل أن يشترى بغير نقد البلد لم يصح من الوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد، وتحريره أنه عقد معاوضه بوكاله مطلقه فوجب أن لا يصح بغير نقد البلد قياسا على الشراء، أو لان كل جنس لا يجوز للوكيل أن يبتاع به لم يجز للوكيل أن يبيع به قياسا على البيع بغير جنس الاثمان وبالمحرمات، فعلى هذا لو كان غالب نقد البلد ذهبا لم يبعه بالفضة، ولو كان كلا النقدين سواء وليس أحدهما غالبا لزم الوكيل ببيعها بأحظها للموكل، فان استويا كان حينئذ مخيرا في بيعه بأيهما شاء، فان باعه بكلا النقدين فان كان في عقدين صحا جميعا إذا كان مما يجوز تفريق الصفقه في بيعه، وإن كان في عقد واحد فعلى وجهين أحدهما: يجوز الجمع بين النقدين كما جاز إفراد كل واحد من النقدين.
والثانى: لا يجوز، لان غالب البياعات يتناول جنسا واحدا من الاثمان فلم يجز أن يعدل إلى غالبها، وبالله التوفيق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان دفع إليه ألفا وقال اشتر بعينها عبدا، فاشترى في ذمته لم يصح الشراء للموكل لانه لم يرض بالتزام غير الالف، فإذا ابتاع بألف في الذمه فقد ألزمه في ذمته ألفا لم يرض بالتزامها فلم يلزمه.
وان قال اشتر لى في الذمه وانقد الالف فيه، فابتاع بعينها ففيه وجهان، أحدهما أن البيع باطل، لانه أمره بعقد لا ينفسخ بتلف الالف فعقد عقدا ينفسخ بتلف الالف، وذلك لم يأذن فيه ولم يرض به.
والثانى أنه يصح لانه أمره بعقد يلزمه الثمن مع بقاء الالف ومع تلفها وقد عقد عقدا يلزمه الثمن مع بقائها ولا يلزمه مع تلفها فزاده بذلك خيرا، وان دفع إليه ألفا وقال اشتر عبدا ولم يقل بعينها، ففيه وجهان.
أحدهما أن مقتضاه الشراء بعينها لانه لما دفع إليه الالف دل على أنه قصد الشراء بها، فعلى هذا إذا اشترى في ذمته لم يصح الشراء.
والثانى أنه لا يقتضى الشراء بعينها لان الامر مطلق، فعلى هذا يجوز
أن يشترى بعينها، ويجوز أن يشترى في الذمه وينقد الالف فيه.

(14/131)


(الشرح) الاحكام: إذا أذن له في الشراء بالنقد فاشترى بالنسيئة، فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يعين له الثمن الذى يشترى به، فالشراء غير لازم للموكل لانه إذا اشترى بغير العين كان مخالفا ولزم الوكيل، وإن اشترى بالعين إلى أجل كان باطلا، ولم يلزم الموكل ولا الوكيل، وبهذا قال أحمد.
(والضرب الثاني) أن لا يعين له الذى يشترى به فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يشتريه نسئا بما يساوى ثمنه نقدا أو بأقل من ثمن النساء، فمذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما أن الشراء لازم للموكل، لانه قد حصل له غرضه في استصلاح مع تعجيل الثمن، ومن أصحابنا من قال: الشراء غير لازم للموكل لمخالفته، وبقاء الثمن في ذمته، وهو قول من زعم أن الوكيل في بيع النساء لا يجوز بيعه نقدا.

(والثانى)
أن يشتريه بما يساوى نسئا وبأكثر مما يساوى نقدا، فالشراء غير لازم للموكل لما فيه من التزام فعل النساء والشراء لازم للوكيل إن لم يذكر اسم موكله، وإن ذكره فعلى وجهين.
أحدهما باطل، والثانى لازم للوكيل.
أما إذا أذن له في الشراء بالنسيئة فاشترى بالنقد فالشراء غير لازم للموكل لا يختلف مذهب الشافعي وسائر أصحابه سواء اشتراه بما يساوى نقدا أو نسئا لما فيه من التزامه التعجيل بما لم يأذن به.
وهكذا لو أذن له أن يشتريه إلى أجل فاشتراه إلى أجل هو أقرب لم يلزم الموكل ولو اشتراه إلى أجل هو أبعد كان حكمه للوكيل حكمه في النقد إذا اشترى بالنساء فيكون لازما للموكل.
قال الماوردى: وهذا على مذهب الشافعي رضى الله عنه وعلى مذهب بعض أصحابه غير لازم.
(فرع)
إذا دفع الموكل إلى وكيله ليشترى له به سيارة فهذا على ثلاثة أقسام أحدها: أن يأمره أن يشترى بعين المال سيارة فوجب على الوكيل أن يشترى بعين مال موكله، فان اشتراه في ذمته لم يلزم الموكل، وكان الشراء لازما للوكيل.
وقال أبو حنيفة: الوكيل بالخيار بين أن يشترى الشئ بعين المال وبين أن

(14/132)


يشتريه في ذمته، وهو في كلا الحالين لازم للموكل، وبنى ذلك على أصله: أن الدراهم والدنانير لا يتعينان عنده.
قال الماوردى: وهذا خطأ لتعين الدراهم والدنانير عندنا في العقود كما يتعين في الغصوب، وقد دللنا على ذلك في كتاب البيوع، ولان يد الوكيل كيد المودع، ومال الوديعة متعين وكذا ما بيد الوكيل متعين، وإذا تعين ما بيده لموكله حتى لا يجوز أن يرد عليه غير ماله، وجب أن يكون الشراء محمولا على موجب اذنه.
والقسم الثاني: أن يأمره أن يشترى في ذمته وينقد المال في ثمنه، فان اشتراه في الذمة صح وكان لازما للموكل، وان اشتراه بعين المال ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبى على الطبري ذكره في افصاحه أن الشراء جائز، وهو للموكل لازم لان العقد على المعين أحوط.
والوجه الثاني وهو اختيار أبى حامد الاسفرايينى: أن الشراء باطل لا يلزم الوكيل لانه غير مالك للعين، فلا يلزم الموكل، لان الموكل قد فوت عليه بالمخالفة غرضا، لان العقد في الذمة لا يبطل بتلف الثمن، والعقد على العين يبطل بتلف الثمن.
فصار فعل الوكيل مخالفا لامر الموكل، فلو امتثل الوكيل أمر موكله أو اشترى السيارة بثمن في ذمته ثم نقد الثمن من عنده، برئ الوكيل والموكل منه، ولم يكن للوكيل أن يرجع على الموكل لان أمره بنقد هذا المال في
الثمن يتضمن نهيا عن نقده من غيره.
والقسم الثالث: أن يطلق الاذن في الشراء عند دفع المال فيقول: خذ هذا المال فاشتر لى به سيارة فقد اختلف أصحابنا هل يكون اطلاقه مقتضيا للتعيين أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أبى على الطبري: أنه يقتضيه لان تقديم الثمن على السيارة شاهد فيه، فعلى هذا ان اشترى في ذمته كان الشراء لازما للوكيل دون الموكل، والوجه الثاني - وهو قول بعض البصريين: انه لا يقتضى التعيين، لان الاطلاق على العموم، فعلى هذا يكون الوكيل مخيرا بين العقد على العين أو في الذمة، ومذهب أحمد في هذا كله كنحو مذهبنا.

(14/133)


فإذا تقرر ما أوضحنا فصورة مسألة الكتاب في رجل دفع إلى رجل مالا ليشترى له به طعاما فتسلف المال قرضا ثم اشترى له بمثله من ماله طعاما فالشراء غير لازم للموكل سواء كان الموكل قد أذن في الشراء بعين المال أو في الذمة.
وقال أبو حنيفة: الشراء لازم للموكل سواء كان الاذن بالعين أو في الذمة وهذا خطأ لان الوكالة بتلف المال أو استهلاكه باطلة لانعقاد بقائه، فإذا بطلت الوكالة وانعزل الوكيل فعقده لازم لنفسه دون موكله، فلو أن الوكيل لم يستهلك ولكن تعدى فيه تعديا صار له ضامنا فقد اختلف أصحابنا هل ينعزل بتعديه عن الوكالة أم لا، على وجهين:
(أحدهما)
ينعزل عن الوكالة بالتعدي لانه مؤتمن كالمودع الذى ينعزل بالتعدي عن الوديعة، فعلى هذا يكون الشراء لازما للوكيل دون موكله.
(والوجه الثاني) وهو قول أبى على الطبري أنه على الوكالة لا ينعزل عنها بالتعدي مع بقاء الملك كالمرتهن لا يبطل الرهن بتعديه، وإن كان مؤتمنا فعلى هذا
يكون الشراء لازما للموكل وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
.

(فصل)
فإن وكله في الشراء ولم يدفع إليه الثمن فاشتراه، ففى الثمن ثلاثة أوجه (أحدها) أنه على الموكل والوكيل ضامن، لان المبيع للموكل فكان الثمن عليه، والوكيل تولى العقد والتزم الثمن فضمنه، فعلى هذا يجوز للبائع أن يطالب الوكيل والموكل، لان أحدهما ضامن والآخر مضمون عنه، فان وزن الوكيل الثمن رجع على الموكل، وإن وزن الموكل لم يرجع على الوكيل.

(والثانى)
أن الثمن على الوكيل دون الموكل، لان الذى التزم هو الوكيل فكان الثمن عليه، فعلى هذا يجوز للبائع مطالبة الوكيل، لان الثمن عليه، ولا يجوز له مطالبة الموكل لانه لا شئ عليه، فان وزن الوكيل رجع على الموكل لانه التزم باذنه، وإن لم يزن لم يرجع كما نقول فيمن أحال بدين عليه على رجل لا دين له عليه: إنه إذا وزن رجع، وإذا لم يزن لم يرجع، وإن أبرأ البائع الوكيل سقط الثمن وحصلت السلعة للموكل من غير ثمن.

(14/134)


(والثالث) أن الثمن على الوكيل، وللوكيل في ذمة الموكل مثل الثمن، فيجوز للبائع مطالبة الوكيل دون الموكل، وللوكيل مطالبة الموكل بالثمن وإن لم يطالبه البائع.
(الشرح) الاحكام: قال الماوردى في الحاوى: فإذا ثبت أن الملك يكون واقعا بالعقد للموكل دون الوكيل فللوكيل حالتان: (إحداهما) أن يذكر اسم موكله في العقد فيقول: قد اشتريت هذا الشئ لفلان بأمره، فيكون الثمن واجبا على الموكل، وهل يكون الوكيل ضامنا أم لا على وجهين، حكاهما ابن سريج
(أحدهما)
عليه ضمانه لانه عاقد
(والثانى)

لا يلزمه ضمانه لانه غير مالك.
(والحال الثانية) أن لا يذكر الوكيل اسم موكله في العقد، ولكن ينوى قبله أن الشراء لموكله، فعلى الوكيل ضمان الثمن بالعقد.
وهل يصير الثمن واجبا على الموكل بالعقد؟ أم لا؟ على وجهين حكاهما ابن سريج.
أحدهما: أنه يكون الثمن واجبا عليه بالعقد لوقوع الملك له بالعقد، فعلى هذا يكون البائع بالخيار بين مطالبة الوكيل به أو الموكل، فإذا أخذه من أحدهما برئا معا.
والوجه الثاني: أن الثمن غير واجب على الموكل بالعقد، وإنما يلزم الوكيل وحده لتفرده بالعقد، فعلى هذا يطالب الوكيل وحده بالثمن دون الموكل.
وهل يستحق الوكيل الثمن على الموكل قبل أدائه عنه أم لا؟ على وجهين حكاهما ابن سريج.
أحدهما: أنه لا يستحقه عليه إلا بعد أدائه عنه، فإن أداه الوكيل عنه رجع به عليه حينئذ، وإن أبرأه البائع منه لم يرجع به على الموكل، فصار الموكل مالكا للمبيع بغير بدل.
والوجه الثاني: أن الوكيل قد استحق الثمن على الموكل بما وجب على الوكيل من ضمانه بالعقد وله مطالبة الموكل به قبل أدائه، وإن أبرأ الوكيل منه رجع به على الموكل، ولو دفع بالثمن عرضا رجع على الموكل بالثمن دون قيمة العرض وعلى الوجه الاول إذا دفع الوكيل بالثمن عرضا رجع على الموكل بأقل الامرين

(14/135)


من الثمن أو قيمة العرض، فلو أراد الوكيل أن يمنع الموكل من المبيع إلا بعد قبض ثمنه لم يكن له ذلك على الوجهين معا، لان البائع لم يبعه منه.

قال المصنف رحمه الله تعالى
.

(فصل)
ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بثمن مؤجل من غير إذن،
لان الاصل في البيع النقد، وإنما يدخل التأجيل لكساد أو فساد، فإذا أطلق حمل على الاصل، فإن أذن له في بيع مؤجل وقدر الاجل لم يبع إلى أجل أكثر منه، لانه لم يرض بما زاد على المقدر، فبقى على الاصل في المنع، إن أطلق الاجل ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح التوكيل، لان الآجال تختلف فيكثر الغرر فيه فلم يصح، والثانى: يصح ويحمل على العرف في مثله، لان مطلق الوكالة يحمل على المتعارف وإن لم يكن فيه عرف باع بأنفع ما يقدر عليه، لانه مأمور بالنصح لموكله، ومن أصحابنا من قال: يجوز القليل والكثير لان اللفظ مطلق، ومنهم من قال: يجوز إلى سنة، لان الديون المؤجلة في الشرع مقدرة بالسنة، وهى الدية والجزية، والصحيح هو الاول.
وقول القائل الثاني: إن اللفظ مطلق لا يصح، لان العرف يخصه، ونصح الموكل يخصه وقول القائل الثالث: لا يصح لان الدية والجزية وجبت بالشرع فحمل على تأجيل الشرع، وهذا وجب باذن الموكل فحمل على المتعارف، وان أذن له في البيع إلى أجل فباع بالنقد نظرت، فان باع بدون ما يساوى نسيئة لم يصح لان الاذن في البيع نسيئة يقتضى البيع بما يساوى نسيئة فإذا باع بما دونه لم يصح، وان باع نقدا بما يساوى نسيئة، فان كان في وقت لا يأمن أن ينهب أو يسرق لم يصح، لانه ضرر لم يرض به فلم يلزمه، وان كان في وقت مأمون، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح، لانه قد يكون له غرض في كون الثمن في ذمة ملى ففوت عليه ذلك فلم يصح.
والثانى: يصح، لانه زاده بالتعجيل خيرا، وان وكله أن يشترى عبدا بألف فاشتراه بألف مؤجل ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح الشراء

(14/136)


للموكل لانه قصد أن لا يكون عليه دين وأن لا يشترى إلا بما معه
(والثانى)
أنه يصح لانه حصل له العبد وزاده بالتأجيل خيرا.

(فصل)
ولا يجوز للوكيل في البيع أن يشترط الخيار للمشترى ولا للوكيل في الشراء أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ لانه شرط لا حظ فيه للموكل، فلا يجوز من غير إذن كالاجل، وهل يجوز أن يشترط لنفسه أو للموكل، فيه وجهان.

(أَحَدُهُمَا)
لَا يَجُوزُ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي البيع من غير شرط
(والثانى)
يجوز لانه احتاط للموكل بشرط الخيار.
(الشرح) الاحكام: ان بيعه بالثمن المؤجل من غير اذن موكله لا يجوز، ودليلنا أن الاجل في البيوع يدخل تارة في المثمن فيكون سلما، وتارة في الثمن فيكون دينا، فلما لم يجز للوكيل أن يدخل الاجل في الثمن فيجعله دينا، وتحريره أنه تأجيل أحد العوضين فوجب أن لا يصح من الوكيل مع اطلاق الاذن قياسا على تأجيل المثمن، ولان الاجل لما لم يلزم المالك في عقده، ولا شرط صريح لم يلزم الموكل الا بإذن صريح، لان اطلاق كل واحد من العقدين معتبر بالآخر وسواء طال الاجل أو قصر.
فأما الجواب عن الاستدلال بأن اطلاق الاذن يقتضى العموم فهو أنه خطأ في القول، بل الاطلاق في الاذن يقتضى العرف بدليل أن اطلاق الاذن بالشراء لا يقتضى عموم الاشرية كذلك اطلاق الاذن بالبيع لا يقتضى عموم البيوع.
وأما قياسه على نقد البلد فالمعنى فيه أن المعهود يقتضيه، وأما قياسه في الاجل على خيار الثلاث فلاصحابنا في جوازه للوكيل وجهان سيأتي بيانهما، والقياس منتقض بالاجل في المثمن، ثم المعنى في خيار الثلاث أنه لما ملكه الوكيل في الشراء ملكه في البيع، ولاصحابنا في جوازه للوكيل وجهان.
أحدهما: لا يصح من الوكيل، فعلى هذا سقط الدليل.
والثانى: يصح منه والقياس عليه منتقض بالاجل في المثمن، فهذا حكم العقد مع اطلاق اذن الموكل، وما يلزم من الشروط في عقد التوكيل.

(14/137)


وأما حالة التقييد مثل أن يكون إذن الموكل في البيع مقيدا بشرط، فإن كان الشرط مبطلا للعقد كالاجل المجهول، وهو كما يقول المصنف باطل على أحد الوجهين، لان الآجال تختلف فيكثر فيها الغرر، وكالخيار أكثر من ثلاث إلى ما جرى هذا المجرى الذى يبطل معه العقد على وجه من الوجوه، فقد صار الموكل بها آذنا لوكيله بالبيع الفاسد، فإن باع الوكيل ذلك على الشرط الذى أذن فيه الموكل كان فاسدا، وإن رضى المالك بفساده، فإذا أذن له في الاجل وأطلق الاجل فإن الصحيح بطلانه كما قلنا.
والثانى وهو وجه عند أصحابنا وبه قال أبو حنيفة: يصح.
ويحمل على العرف في مثله، لان المطلق يحمل على المقيد نصا أو عرفا، فإن لم يكن ثم عرف اجتهد في البيع بأحظ وأنفع ما يقدر عليه لموكله، لانه مؤتمن له ومن خصاله النصح له ومن أصحابنا من أجاز بيعه على أي نحو ولو لم يتحر الانفع لموكله ومنهم من قيد الاطلاق الاجل بسنة قمرية، لان الله تعالى جعل عدة الشهور إثنى عشر شهرا، ولان الجزية والدية والزكوات لانها ديون شرعية في ذمة المكلفين بها مقدرة بالسنه، فإذا أطلق الموكل حملنا إطلاقه على القيد الشرعي في الديون الشرعية، والقول الاول هو الذى جعله الماوردى في الحاوى قولا واحدا للمذهب ولم يحك غيره، أما المصنف رحمه الله فقد ساق الاقوال كلها ثم رجح الاول.
ثم هو إذا خشى تلف المال أو سطو غاصب عليه أو كساده مما يلحق الضرر
بموكله جاز له أن يبيع ولو لم يأذن له الموكل إذا لم يجد مشتريا نقدا فإذا قدر الموكل له الاجل لم يصح أن يؤجل أكثر منه (فرع)
إذا باع نقدا ما هو مأذون فيه بأجل نظرت فان تساوى ثمن المبيع نقدا مع ما قدره الموكل للثمن نسئا، فعلى وجهين
(أحدهما)
يصح لانه زاد خيرا بتعجيل الثمن.

(والثانى)
لا يصح لانه قد يكون له غرض في جعل الثمن في ذمة ملئ كأنه وديعة في صورة دين ففوت عليه هذا القصد فلم يصح

(14/138)


(فرع)
لا يجوز أن يشترط الوكيل الخيار للمشترى ولا لوكيله، كما لا يجوز له أن يقبل شرط الخيار من غير اذن موكله في البيع أو في الشراء، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ أَوْ لموكله؟ وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لانه قيد المطلق بشرط ليس مأذونا فيه.
والوجه الثاني: إذا رأى أن هذا الشرط أنفع لموكله للاحتياط ولضمان مصلحته فانه يصح وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
(فصل)
ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل بما لا يتغابن به من غير إذن، ولا للوكيل في الشراء أن يشترى بأكثر من ثمن المثل بمالا يتغابن الناس به من غير إذن، لانه منهى عن الاضرار بالموكل مأمور بالنصح له وفى النقصان عن ثمن المثل في البيع، والزيادة على ثمن المثل في الشراء اضرار، وترك النصح، ولان العرف في البيع ثمن المثل، فحمل إطلاق الاذن عليه، فان حضر من يطلب بالزيادة على ثمن المثل لم يجز أن يبيع بثمن المثل لانه مأمور بالنصح والنظر للموكل، ولا نصح ولا نظر للموكل في ترك الزيادة
وإن باع بثمن المثل ثم حضر من يزيد في حال الخيار ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه فسخ البيع، لان المزايد قد لا يثبت على الزيادة فلا يلزمه الفسخ بالشك.

(والثانى)
يلزمه الفسخ وهو الصحيح، لان حال الخيار كحال العقد.
ولو حضر في حال العقد من يزيد وجب البيع منه، فكذلك إذا حضر في حال الخيار وقول القائل الاول: إنه قد لا يثبت على الزيادة فيكون الفسخ بالشك، لا يصح لان الظاهر أنه يثبت فلا يكون الفسخ بالشك، وإن باع بنقصان يتغابن الناس بمثله، بأن باع ما يساوى عشرة بتسعة صح البيع.
وإن اشترى بزيادة يتغابن الناس بمثلها بأن ابتاع ما يساوى عشرة بأحد عشرة صح الشراء ولزم الموكل، لان ما يتغابن الناس بمثله يعد ثمن المثل، ولانه لا يمكن الاحتراز منه فعفى عنه

(14/139)


وإن اشترى بزيادة لا تتغابن الناس بمثلها بأن ابتاع ما يساوى عشرة بإثنى عشر فان كان بعين مال الموكل بطل الشراء، لانه عقد على ماله عقدا لم يأذن فيه، وإن كان في الذمة لزم الوكيل لانه اشترى في الذمة بغير إذن فوقع الملك له.
وإن باع بنقصان لا يتغابن الناس بمثله بأن باع ما يساوى عشرة بثمانية لم يصح البيع لانه بيع غير مأذون فيه، فإن كان المبيع باقيا رد، وإن كان تالفا وجب ضمانه وللموكل أن يضمن الوكيل لانه سلم ما لم يكن له تسليمه، وله أن يضمن المشترى لانه قبض ما لم يكن له قبضه، فان اختار تضمين المشترى ضمن جميع القيمة، وهو عشرة، لانه ضمن المبيع بالقبض فضمنه بكمال البدل، وإن اختار تضمين الوكيل ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه يضمنه جميع القيمة، لانه لزمه رد المبيع فضمن جميع بدله
(والثانى)
يضمنه تسعة لانه لو باعه بتسعة جاز، فلا يضمن ما زاد ويضمن
المشترى تمام القيمة وهو درهم.
(والثالث) يضمنه درهما لانه لم يفرط إلا بدرهم، فلا يضمن غيره ويضمن المشترى تمام القيمة وهو تسعة، وما يضمنه الوكيل يرجع به على المشترى، وما يضمنه المشترى لا يرجع به على الوكيل، لان المبيع تلف في يده فاستقر الضمان عليه.
وإن قدر الثمن فقال: بع بألف درهم، لم يجز أن يبيع بما دونها، لان الاذن في الالف ليس بإذن فيما دونها، وإن باع بألفين نظرت، فان كان قد عين من يبيع منه لم يجز، لانه قصد تمليكه بألف فلا يجوز أن يفوت عليه غرضه، وإن لم يعين من يبيع منه جاز.
لان الاذن في الالف إذن فيما زاد من جهة العرف.
لان من رضى بألف رضى بألفين وإن قال بع بألف ولا تبع بما زاد لم يجز أن يبيع بما زاد، لانه صرح بالنهي فدل على غرض قصده فلم يجز مخالفته وإن قال بع بألف فباع بألف وثوب ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يصح لانه حصل له الالف وزيادة، فصار كما لو باع بألفى درهم
(والثانى)
أنه لا يصح، لان الدراهم والثوب تتقسط على السلعة فيكون ما يقابل الثوب من السلعة مبيعا بالثوب.
وذلك خلاف ما يقتضيه الاذن: فان

(14/140)


الاذن يقتضى البيع بالنقد.
فعلى هذا هل يبطل العقد في الدراهم؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة وإن وكله في بيع عبد بألف فباع نصفه بألف جاز، لانه مأذون له فيه من جهة العرف، لان من يرضى ببيع العبد بألف يرضى ببيع نصفه بالالف، فان باع نصفه بما دون الالف لم يصح، لانه ربما لم يمكنه الباقي بتمام الالف.
وإن وكله في بيع ثلاثة أعبد بألف فباع عبدا بدون الالف لم يصح، لانه قد
لا يشترى الباقي بما بقى من الالف، وإن باع أحد الثلاثة بألف جاز، لان من رضى ببيع ثلاثة بألف رضى ببيع أحدهم بألف وهل له أن يبيع الآخرين فيه وجهان
(أحدهما)
لا يملك لانه قد حصل المقصود وهو الالف
(والثانى)
أنه يجوز لانه أذن له في بيع الجميع فلا يسقط الامر ببيع واحد منهم، كما لو لم يقدر الثمن.
وإن وكله في شراء عبد بعينه بمائة فاشتراه بخمسين لزم الموكل لانه مأذون فيه من جهة العرف.
لان من رضى أن يشترى عبدا بمائة رضى أن يشتريه بخمسين، وإن قال اشتر بمائة ولا تشتر بخمسين جاز أن يشترى بمائة، لانه مأذون فيه، ولا يشترى بخمسين لانه منهى عنه، ويجوز أن يشترى بما بين الخمسين والمائة، لانه لما أذن في الشراء بالمائة دل على أنه رضى بالشراء بما دونها، ثم خرج الخمسون بالنهي وبقى فيما زاد على مادل عليه المأمور به وهل يجوز أن يشترى بأقل من الخمسين؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه لما نص على المائة دل على أن ما دونها أولى إلا فيما أخرجه النهى
(والثانى)
لا يجوز لانه لما نهى عن الخمسين دل على أن ما دونها أولى بالمنع.
وإن قال اشتر هذا العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة لم يلزم الموكل.
وقال أبو العباس يلزم الموكل بمائة ويضمن الوكيل ما زاد على المائة لانه تبرع بالتزام الزيادة، والمذهب الاول، لانه زاد على الثمن المأذون فلم يلزم الموكل.
كما لو قال اشتر لى عبدا فاشتراه بأكثر من ثمن المثل، ولانه لو قال: بع هذا العبد بمائة فباعه بمائة إلا عشرة لم يصح، ثم يضمن الوكيل ما نقص من المائة، فكذلك

(14/141)


إذا قال اشتر هذا العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة.
لم يلزم الموكل، ثم يضمن الوكيل ما زاد على المائه.
وإن وكله في شراء عبد بمائة فاشترى عبدا بمائتين وهو يساوى المائتين، لم يلزم الموكل، لانه غير مأذون فيه من جهة النطق ولا من جهة العرف، لان رضاه بعبد بمائة لا يدل على الرضا بعبد بمائتين، وإن دفع إليه دينارا وأمره أن يشترى شاة فاشترى شاتين، فإن لم تساو كل واحدة منهما دينارا لم يلزم الموكل لانه لا يطلب بدينار مالا يساوى دينارا، وإن كان كل واحدة منهما تساوى دينارا نظرت، فان اشترى في الذمة ففيه قولان.

(أحدهما)
أن الجميع للموكل، لان النبي صلى الله عليه وسلم " دفع إلى عروة البارقى دينارا ليشترى له شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار فدعا له بالبركة " ولان الاذن في شاة بدينار إذن في شاتين بدينار، لان من رضى شاة بدينار رضى شاتين بدينار
(والثانى)
أن للموكل شاة لانه أذن فيه، والاخرى للوكيل لانه لم يأذن فيه الموكل، فوقع الشراء للوكيل فان قلنا ان الجميع للموكل فباع إحداهما فقد خرج أبو العباس فيه وجهين
(أحدهما)
أنه لا يصح لانه باع مال الموكل بغير إذنه فلم يصح
(والثانى)
أنه يصح لحديث عروة البارقى، والمذهب الاول، والحديث يتأول وإن قلنا إن للوكيل شاة استرجع الموكل منه نصف دينار، وإن اشترى الشاتين بعين الدينار، فإن قلنا فيما اشترى في الذمة: إن الجميع للموكل كان الجميع ههنا للموكل.
وإن قلنا: إن إحداهما للوكيل والاخرى للموكل صح الابتياع للموكل في إحداهما ويبطل في الاخرى، لانه لا يجوز أن يحصل الابتياع له بمال الموكل فبطل.
(الشرح) حديث عروة البارقى مر في غير موضع الكلام عليه في البيع والربا وأول الوكالة، وقد أوفيناه حقه من البحث فليراجع.
أما الاحكام فقد قال المزني: ومن باع بمالا يتغابن الناس بمثله فبيعه مردود.

(14/142)


لانه تلف على صاحبه، فهذا قول الشافعي ومعناه.
وهذا صحيح.
قال الماوردى للموكل فيما أذن له ببيعه حالتان: حالة إطلاق.
وحالة تقييد فأما حالة الاطلاق فهو أن يأذن لوكيله في البيع إذنا مطلقا من غير أن يقيده بشرط، أو على صفة، فعلى الوكيل في بيعه ثلاثة شروط: (أحدها) أن يبيعه بغالب نقد البلد، فان عدل إلى غيره لم يجز والشرط الثاني: أن يبيعه بثمن مثله، فان باعه بمالا يتغابن الناس بمثله وإلى أجل، كان بيعه نافذا، ولموكله نافذا استدلالا بأن إطلاق الاذن يشتمل على عموم البيع، وتخصيص المطلق لا يكون إلا بدليل، كالمطلق من عموم الكتاب والسنة، فلما كان اسم البيع ينطبق على المبيع بغير نقد البلد وبما لا يتغابن الناس به وعلى المؤجل، وجب أن يصح لانه عقد مأذون فيه، كما لو باعه بنقد البلد وبثمن المثل وبالمعجل.
ثم استدل على جواز البيع بغير نقد البلد بأنه بيع بجنس الاثمان فصح كالمبيع بنقد البلد واستدل على جوازه إلى أجل بأن الاجل مدة ملحقة بالعقد فجاز أن يملكها الوكيل قياسا على خيار الثلاث، وهذا كله خطأ.
والدليل على ما قلنا على الشرط الاول وهو أن بيعه بغير نقد البلد لا يجوز هو أنه لما لم يصح من الوكيل في الشراء أن يشترى بغير نقد البلد لم يصح من الوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد.
وتحريره أنه عقد معاوضة بوكالة مطلقة فوجب ألا يصح بغير نقد البلد، قياسا على الشراء، أو لان كل جنس لا يجوز للوكيل أن يبتاع به لم يجز للوكيل أن يبيع به قياسا على البيع بغير جنس الاثمان وبالمحرمات والدليل على الشرط الثاني، وهو أن بيعه بمالا يتغابن الناس بمثله لا يجوز
هو أنه عقد معاوضه عن وكالة مطلقة فوجب أن لا يصح بأكثر من ثمن المثل قياسا على الشراء ولان من لم يملك الهبة في مال لم يملك المحاباة فيه كالوصي والعبد المأذون له في التجارة، ولان المحاباة كالهبة لاعتبارها من الثلث، فلما لم يصح من الوكيل في البيع هبة المال أو بعضه لم تصح منه المحاباة فيه.
وتحريره أنه عقد استهلك به شيئا من مال موكله بغير إذنه فوجب أن يكون باطلا كالهبة، فإذا ثبت ما ذكرنا وأن المثل معتبر، وأن البيع بمالا يتغابن الناس

(14/143)


بمثله، فالاعتبار بالغبن عرف الناس في مثل المبيع، وليس له حد مقدر.
وقال مالك: حد الغبن في البيوع الثلث فصاعدا لقوله صلى الله عليه وسلم " الثلث والثلث كثير " وقال أبو حنيفة: حد الغبن من العشر فصاعدا لانه أقل ما يجب في زكوات الزروع والثمار.
قال الماوردى: وكلا المذهبين فاسد، لان عرف الناس فيما يكون غبنا كثيرا يختلف باختلاف الاجناس، فمن الاجناس ما يكون ربع العشر فيه غبنا كثيرا، وهو الحنطة والشعير والذهب والورق.
ومنها ما يكون نصف العشر فيه غبنا يسيرا، كالرقيق والجوهر، فلم يجز أن يحد ذلك بقدر مع اختلافه في عرفهم.
ووجب الرجوع فيه إليهم.
فإذا باع الوكيل بمالا يتغابن الناس بمثله كان بيعه باطلا ولا ضمان عليه ما لم يسلم المبيع، فان سلمه كان ضامنا ولزمه استرجاع المبيع إن كان باقيا، فان هلك في يد المشترى كان كل واحد من الوكيل والمشترى ضامنا.
أما المشترى فضامن بجميع القيمة، لانه فائض عن عقد بيع فاسد.
وأما الوكيل ففى قدر ما يضمنه قولان ذكرهما الشافعي في كتاب الرهن الصغير
(أحدهما)
أنه يضمن جميع القيمة

(والثانى)
أنه يضمن ما غبن به من قدر المحاباة، لان به فسد العقد ولزم الضمان وقد مضى من التفريع في كتاب الرهن ما يقنع.
والدليل على الشرط الثالث وأن بيعه بالثمن المؤجل لا يجوز هو أن الاجل في البيوع يدخل تارة في المثمن فيصير سلما، وتارة في الثمن فيكون دينا، فلما لم يجز للوكيل أن يدخل الاجل في الثمن لم يجز أن يدخل الاجل في المثمن على ما مضى في الفصل قبله (فرع)
قال الماوردى رحمه الله تعالى: " وأما المختص بقدر الثمن وصورته أن يقول: بع بمائة درهم، فلا يجوز أن يبيعه بأقل منها ولو بقيراط، فان فعل كان البيع باطلا، ولو باعه بأكثر من مائه درهم كان البيع جائزا لحصول المائة التى أرادها، والزيادة عليها زيادة حظ له،

(14/144)


إلا أن يكون قد أمره أن يبيعه بالمائة على رجل بعينه، فلا يجوز أن يبيعه عليه بأكثر من مائة، كما لا يجوز أن يبيعه على غيره، لانه لما نص على القدر صار مسامحا له بالزيادة عليه.
فلو باع نصف العبد بمائة درهم صح البيع، لان بقاء نصف العبد مع حصول المائة التى أرادها أحظ، فلو باع نصف العبد بأقل من مائة درهم ولو بقيراط لم يجز لتفويت ما أراده من كمال الثمن وتفريق الصفقة.
فلو وكله ببيع عبيد فباع كل عبد في عقد، فإن لم يذكر له قدر الثمن جاز.
لان العادة في بيع العبيد جارية بإفرادهم في العقود.
ولو ذكر له قدر الثمن فقال: بع هؤلاء العبيد الثلاثة بألف درهم.
فإن باع أول صفقة من العبيد بأقل من ألف درهم لم يجز لانه قد لا يشترى العبدان الآخران بما بقى من تكملة الالف وإن باع أول صفقة بأكثر من ألف درهم جاز.
وهل يجوز بيع الاثنين الآخرين بعد حصول الالف؟ على وجهين
أحدهما: لا يجوز، لان مقصوده بالبيع حصول الالف من ثمنه، فصارت الوكالة مقصورة عليها وباطلة فيما سواها والوجه الثاني: أنه يجوز له بيع من بقى منهم لانعقاد الوكالة يبيعهم.
ولا يكون حصول الثمن بكماله من بعضهم مانعا من بيع باقيهم.
كما لو باع أحدهم بأكثر من ألف.
ولم يلزمه أن يبيع منه بقدر الالف، ويكون عن بيع باقيه بالزيادة على الالف.
فأما العدد من الثياب إذا وكله في بيعها وأمكن أن يبتاع صفقة وتفاريق.
فعلى الوكيل أن يعمل على أحظ الامرين لموكله في بيع جميعها صفقة أو أفرادا كل واحد منها بعقد.
فان عدل عن أحظهما لم يجز ما لم يكن من الموكل تصريح به " اه (قلت) وكلام المصنف في المهذب يفيد أن البيع يصح وينفذ في كل حالة نقص فيها الثمن عن القدر الذى أذن فيه وضمنه الوكيل أعنى ضمن - الفرق الذى ينقص عن القدر المأذون فيه - كأن أذن له في البيع بمائة فباع بتسعين كان على الوكيل ضمان النقص وهو العشرة، ونتيجة هذا أن البيع ينفذ بحصول الموكل على الثمن الذى حدده بكماله، وذلك بضمان مقدار النقص على الوكيل

(14/145)


ومثل ما ذكر في البيع يكون في الشراء فلو أمره أن يشترى شاة بعشرة فاشتراها بأحد عشرة كان عليه ضمان الفرق ولا يلزم الموكل سوى عشرة، وهذا هو تخريج أبى العباس بن سريج رحمه الله تعالى.
هذا وبقية ما ورد في هذا الفصل مضى بيانه في شرح الفصول السابقة: لان المصنف في هذا الفصل ضمنه ما ورد في بعض الفصول السابقة، وقد شرحناها والله المستعان.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا اشترى الوكيل ما أذن فيه الموكل انتقل الملك إلى الموكل لان العقد له فوقع الملك له كما لو عقده بنفسه وان اشترى ما لم يأذن فيه، فإن كان قد اشتراه بعين مال الموكل، فالعقد باطل، لانه عقد على مال لم يؤذن في العقد عليه، فبطل كما لو باع مال غيره بغير إذنه، وإن اشتراه بثمن في الذمة نظرت، فإن لم يذكر الموكل في العقد لزمه ما اشترى، لانه اشترى لغيره في الذمة ما لم يأذن فيه فانعقد الشراء له كما لو اشتراه من غير وكالة، وإن ذكر الموكل في العقد ففيه وجهان
(أحدهما)
أن العقد باطل، لانه عقد على أنه للموكل والموكل لم يأذن فيه فبطل
(والثانى)
أنه يصح العقد ويلزم الوكيل ما اشتراه، وهو قول أبى إسحاق، وهو الصحيح، لانه اشترى في الذمة ولم يصح في حق الموكل فانعقد في حقه كما لو لم يذكر الموكل.

(فصل)
وإن وكله في قضاء دين لزمه أن يشهد على القضاء، لانه مأمور بالنظر والاحتياط للموكل، ومن النظر أن يشهد عليه لئلا يرجع عليه، فإن ادعى الوكيل أنه قضاه وأنكر الغريم لم يقبل قول الوكيل على الغريم، لان الغريم لم يأتمنه على المال، فلا يقبل قوله عليه في الدفع، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى الصبى، وهل يضمن المال للموكل؟ ينظر فيه فإن كان في غيبة الموكل وأشهد شاهدين ثم مات الشهود أو فسقوا لم يضمن، لانه لم يفرط، وان لم يشهد ضمن لانه فرط.

(14/146)


وأن أشهد شاهدا واحدا ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن، لان الشاهد مع اليمين بينة
(والثانى)
يضمن لانه فرط حيث إنه اقتصر على بينة مختلف فيها وان كان بمحضر الموكل وأشهد لم يضمن، وإن لم يشهد ففيه وجهان.
أحدهما: لا يضمن، لان المفرط هو الموكل، فإنه حضر وترك الاشهاد.
والثانى: أنه يضمن لان ترك الاشهاد يثبت الضمان فلا يسقط حكمه بحضور الموكل، كما لو أتلف ماله وهو حاضر، وان وكله في إيداع ماله عند رجل فهل يلزمه الاشهاد؟ ففيه وجهان.
أحدهما: يلزمه لانه لا يأمن أن يجحد فيشهد عليه الشهود.
والثانى: لا يلزمه، لان القول قول المودع في الرد والهلاك، فلا فائدة في الاشهاد، وإن وكله في الايداع فادعى أنه أودع وأنكر المودع لم يقبل قول الوكيل عليه، لانه لم يأتمنه المودع فلا يقبل قوله عليه، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم، وهل يضمن الوكيل؟ ينظر فيه، فإن أشهد ثم مات الشهود أو فسقوا لم يضمن، لانه لم يفرط، وإن لم يشهد - فإن قلنا: إنه يجب الاشهاد ضمن لانه فرط، وإن قلنا: لا يجب لم يضمن لانه لم يفرط.
(الشرح) الاحكام: قال المزني رحمه الله تعالى: لو دفع إليه مالا اشترى به طعاما فيسلفه، ثم اشترى له بمثله طعاما فهو ضامن للمال والطعام، لانه خرج من وكالته بالتعدي، واشترى بغير ما أمره به اعلم أن لهذه المسألة مقدمة لا يستغنى عن شرحها وتقدير المذهب فيها ليكون الجواب في المسألة مبنيا عليها، وهو أن الرجل إذا وكل رجلا في ابتياع متاع له فلا يخلو حاله من أحد أمرين، إما أن يدفع إليه ثمنه أم لا، فإن لم يدفع الثمن إليه جاز للوكيل أن يشتريه بثمن في ذمته ناويا به أنه لموكله، فيكون بالعقد واقعا للموكل دون الوكيل.
وقال أبو حنيفة: يقع الملك بالعقد للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل استدلالا بأن ما ملكه الانسان بعقد غيره وقع الملك للعاقد، ثم انتقل عنه إلى متملكه كالشفعة يقع الملك إلى المشترى ثم ينتقل عنه إلى الشفيع، ولان الوكيل يلزمه

(14/147)


الثمن بعقده فوجب أن يقع له الملك بعقده، لان الثمن في مقابلة المثمن، ولانه لما كان شروط العقد والافتراق معتبرا بالعاقدين اقتضى أن يكون موجبه من الملك واقعا للعاقدين.
ودليلنا أن كل ما عقده الوكيل للموكل اقتضى وقوع الملك بالعقد للموكل كالنكاح، ولان كل من ناب في العقد عن غيره وقع الملك به للمعقود له دون عاقده قياسا على ولى اليتيم.
(فرع)
قال المزني: ولو أمر الموكل الوكيل بدفع مال إلى رجل فادعى أنه دفعه إليه لم يقبل منه الا ببينة اه قلت: وصورة ذلك تتضح في رجل أمر وكيله بدفع مال إلى رجل فادعى الوكيل الدفع وأنكر المدفوع إليه القبض، فلا يخلو حال ذلك المال من أربعة أقسام.
أحدها: أن يكون دينا في ذمة الموكل، فقول الوكيل في الدفع غير مقبول على المدفوع إليه، لان الموكل لو ادعى دفع الدين لم تقبل دعواه، فوكيله في دفعه أولى أن لا تقبل دعواه، ويكون صاحب الدين على حقه في مطالبة الموكل بدينه، وليس له مطالبة الوكيل به فأما قبول قول الوكيل على الموكل فلا يخلو حال الموكل من أن يصدقه على الدفع أو يكذبه فإن كذبه على ما ادعاه من الدفع لم يقبل قوله عليه، وكان ضامنا له لانه، وان كان أمينا له بقوله - غير مقبول في الدفع إلى غيره.
ألا ترى أن الوصي أمين للموصى، ولا يقبل قوله على اليتيم في دفع ماله إليه، لانه يدعى دفعا إلى غير من ائتمنه.
وكذلك أمره الله تعالى بالاشهاد على اليتيم في دفع ماله إليه بقوله " فإذا دفعتم الهم أموالهم فأشهدوا عليهم " لان غير الايتام قد ائتمنوهم.
وقال في غير الاوصيا " فان أمن بعضكم بعضا.
فليؤد الذى اؤتمن أمانته "
فأمره بأداء الامانة إلى من ائتمنه من غير اشهاد.
لان قوله في الدفع مقبول.
وأمر الاوصياء بالاشهاد.
لان قولهم في الدفع غير مقبول فإذا ثبت أن قول الوصي غير مقبول في دفع مال اليتيم إليه.
وان كان مؤتمنا لان الائتمان من جهة غيره فكذا قول الوكيل غير مقبول في دفع المال إلى غير موكله، وان كان مؤتمنا

(14/148)


لانه دفع إلى غير مؤتمنه، أو لا فرق بين أن يكون المؤتمن موصيا مات، أو موكلا باقيا.
فأما إن صدق الموكل وكيله في الدفع فلا يخلو حال الموكل من أن يكون حاضرا للدفع أو غائبا عنه، فإن كان غائبا عنه فالوكيل ضامن مع تصديق الموكل، كما كان ضامنا مع تكذيبه، لانه وإن صدقة على الدفع فقد فرط بترك الاشهاد، لان أمره بالدفع يقتضى دفعا بيديه من المطالبة، ولا يكون ذلك مع جواز الجحود إلا بالاشهاد، فصار الاشهاد من مقومات الدفع، وكما نقول في الاشهاد نقول في التوثيق والاشهار وكتابة الصكوك مع توقيع المدفوع إليه، لان العرف في زماننا هذا وفشو الفساد واستحلال المحرمات، وصعوبة الاثبات بغير الوثائق المكتوبة صار من مقومات الدفع اعتبار هذه العناصر من البينات، وعدم التفريط فيها.
فصار الوكيل بترك الاشهاد مفرطا فيضمن به كما يضمن بالجناية وإن كان الوكيل حاضرا لدفع الوكيل ففى وجوب الضمان على الوكيل وجهان
(أحدهما)
لا ضمان عليه، والاشهاد غير لازم له، لان الموكل إذا حضر كان هو المستوفى لنفسه الاشهاد، لان ما كان من شروط الدفع مع غيبة الموكل كان من شروطه مع حضوره، وليس ما اتفق من حضور الموكل بمسقط لحق الاستيثاق عن الوكيل.
والقسم الثاني: أن يكون المدفوع عينا مضمونة في يد الموكل كالعوارى
والغصوب، فيدعى الوكيل المأمور بالدفع أنه قد دفعها إلى ربها، وينكر ربها ذلك فالقول قوله مع يمينه، وقول الوكيل غير مقبول على واحد منهما في الدفع، ولصاحب العارية والمال المغصوب أن يرجع على من شاء من الموكل والوكيل بخلاف الدين الذى لا يرجع صاحبه به على الوكيل، لان الوكيل في قضاء الدين لم تثبت له يد على عين مال لرب الدين، وقد ثبت للوكيل في العارية والغصب فكانت يد الوكيل في وجوب الضمان كالموكل، فإن رجع رب العارية بالغرم على الموكل رجع الموكل به على الوكيل إن لم يصدقه على الدفع وإن صدقه على الدفع وكان غائبا عن الدفع رجع به ايضا، وإن كان حاضرا فعلى ما ذكرنا من الوجهين، وإن رجع رب العارية بالغرم على الوكيل لم يرجع

(14/149)


الوكيل به على الموكل إن كذبه ولا إن صدقه وكان غائبا، وهل يرجع به إن كان حاضرا معه على الوجهين.
والقسم الثالث: أن يكون ذلك وديعة في يد الموكل، فلا يخلو حال رب الوديعة من أحد أمرين: إما أن يكون قد أذن للمودع أن يوكل في ردها أم لا، فإن لم يأذن له في التوكيل في رد الوديعة عليه فقول الوكيل غير مقبول في الرد والمودع ضامن للوديعة، وهل يكون الوكيل ضامنا لها أم لا؟ على وجهين.
وإن أذن له ان يوكل في ردها فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يصدقه على التوكيل.
فيكون قول الوكيل في هذا مقبولا على رب الوديعة في ردها عليه، لانه قد صار وكيلا له، وقول الوكيل مقبول على موكله والضرب الثاني: أن يكذبه في التوكيل مع اعترافه بالاذن فيه.
فهل يقبل قول المودع في الوكالة أم لا.
على وجهين
(أحدهما)
يقبل قوله، لان التوكيل من جهته، فعلى هذا يصح وكالة الوكيل عن رب الوديعة، ويصير قول الوكيل
مقبولا عليه في الرد.
والوجه الثاني: أن قول المودع غير مقبول في الوكالة لانه يدعى عقد توكيل على غيره، فعلى هذا لا يقبل بقبول الوكيل في الرد، ويصير المودع ضامنا، وليس له إذا غرم الوديعة أن يرجع بها على الوكيل، لان المودع مفرط بترك الاشهاد في التوكيل، فصار ضامنا لتفريطه.
فلم يجز أن يرجع به على غيره.
والقسم الرابع: أن يكون ذلك وديعه للموكل ويأمر وكيله بإيداعها عند رجل فيدعى الوكيل تسليمها إليه فيكذب في دعواه فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام.
أحدها أن يكذبه المالك الموكل في الدفع ويكذبه المودع في القبض، ففيه وجهان من اختلافهم في وجوب الاشهاد عليه عند الدفع
(أحدهما)
يجب عليه الاشهاد، كما يجب عليه في قضاء الدين، فعلى هذا يكون الوكيل بترك الاشهاد مفرطا.
وقوله في الدفع بعد ضمانه بالتفريط غير مقبول.
والوجه الثاني: أن الاشهاد لا يجب عليه في دفع الوديعة.
لان المودع عنده لو ادعى تلفها بعد الاشهاد عليه كان مقبول القول فيه.
فعلى هذا لا يكون مفرطا.
وقوله في الدفع مقبول

(14/150)


القسم الثاني: أن يصدقه المالك الموكل ويكذبه المودع، فلا ضمان على الوكيل وقوله بتصديق الموكل مقبول عليه في سقوط الضمان عنه، وغير مقبول على المودع.
فإذا حلف المودع: ما تسلم منه الوديعة برئ من الدعوى القسم الثالث: أن يصدقه المودع على قبضها منه ويدعى تلفها وتكذيب المالك الموكل لقول الوكيل مقبول.
وهو من ضمانها برئ لان إقرار المودع بالقبض أقوى من الاشهاد عليه فلما برئ من الاشهاد عليه فأولى ان يبرأ بالاقرار وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن كان عليه حق لرجل فجاء رجل وادعى أنه وكيل صاحب
الحق في قبضه وصدقه، جاز أن يدفع إليه، ولا يجب الدفع إليه.
وقال المزني: يجب الدفع إليه، لانه أقر له بحق القبض، وهذا لا يصح لانه دفع غير مبرئ فلم يجبر عليه، كما لو كان عليه دين بشهادة فطولب به من غير إشهاد.
فان دفع إليه ثم حضر الموكل وأنكر التوكيل فالقول قوله مع يمينه: أنه ما وكل، لان الاصل عدم التوكيل، فإذا حلف نظرت.
فان كان الحق عينا أخذها إن كانت باقية ورجع ببدلها إن كانت تالفة، وله أن يطالب الدافع والقابض.
لان الدافع سلم إلى من لم يأذن له الموكل.
والقابض أخذ ما لم يكن له أخذه.
فان ضمن الدافع لم يرجع على القابض.
وان ضمن القابض لم يرجع على الدافع.
لان كل واحد منهما يقول: إن ما يأخذه المالك ظلم فلا يرجع به على غيره.
وإن كان الحق دينا فله أن يطالب به الدافع.
لان حقه في ذمته لم ينتقل.
وهل له أن يطالب القابض؟ فيه وجهان
(أحدهما)
له أن يطالب.
وهو قول أبى اسحاق لانه يقر بأنه قبض حقه فرجع عليه كما لو كان الحق عينا
(والثانى)
ليس له.
وهو قول أكثر أصحابنا.
لان دينه في ذمة الدافع لم يتعين فيما صار في يد القابض فلم يجز أن يطالب به.
وان جاء رجل إلى من عليه الحق وادعى أنه وارث صاحب الحق فصدقه وجب الدفع إليه لانه اعترف بأنه لا مالك له غيره وأن دفعه إليه دفع مبرئ فلزمه.
وان جاء رجل فقال: أحالني عليك صاحب الحق فصدقه.
ففيه وجهان

(14/151)


(أحدهما)
يلزمه الدفع إليه، لانه أقر له أنه انتقل الحق إليه فصار كالوارث
(والثانى)
أنه لا يلزمه لان الدفع غير مبرئ لانه ربما يجئ صاحب الحق فينكر الحوالة فيضمنه، وإن كذبه لم يلزمه الدفع إليه في المسائل كلها وهل يحلف إن قلنا: إنه إن صدقه لزمه الدفع إليه حلف، لانه قد يخاف اليمين فيصدقه فيلزمه
الدفع إليه.
وإن قلنا لا يلزمه الدفع إليه إذا صدقه لم يحلف لان اليمين يعرض ليخاف فيصدق، ولو صدق لم يلزمه الدفع فلا معنى لعرض اليمين.
(الشرح) الاحكام: قال المزني: ولو كان لرجل على رجل حق، فقال له رجل: وكلنى فلان بقبضه منك فصدقه ودفعه إليه فتلف وأنكر رب الحق أن يكون وكله فله الخيار، فإن أغرم الدافع على القابض لانه يعلم أنه وكيل برئ، وان اغرم القابض لم يكن له الرجوع على الدافع لانه يعلم أنه مظلوم وبرئ.
وصورتها فيمن غاب وله مال على رجل أو في يده، فحضر رجل ادعى وكالة الغائب في قبض ماله، فان أقام على ما ادعاه من الوكالة بينة عادلة حكم بها والبينة شاهدان عدلان، فان كان فيهما ابن مدعى الوكالة لم تقبل شهادته، لانه يشهد لابيه، وكذا لو كان فيهما ابن من عليه الحق لم يقبل، لانه يشهد لابيه بالبراءة من صاحب الحق بهذا الدفع، ولكن لو كان فيهما ابن صاحب الحق قبلت شهادته لانه يشهد على أبيه لا له، فإذا قامت البينة بالوكالة أجبر الحاكم من عليه المال على دفعه إلى الوكيل، لان لصاحب الحق أن يستوفيه بنفسه ان شاء، وتوكيله ان شاء، وليس لمن هو عليه أن يمتنع من تسليمه إلى وكيل مالكه، وان لم يكن لمدعى الوكالة بينة يثبت بها الوكالة لم يلزم من عليه الحق أن يدفعه إلى مدعى الوكالة، سواء صدقه على الوكالة أو كذبه، وقال أبو حنيفة وكذا قال المزني: ان صدقه على الوكالة لزمه دفع المال إليه كالمصدق لمدعى سداد رب المال يلزمه دفع المال إليه.
وهذا خطأ من وجهين.
أحدهما وهو تعليل أبى اسحاق: انه دفع لا يبرئه من حق الوكيل عند انكار الوكالة ومن لم يبرأ بالدفع عند انكاره لم يجبر.
ألا ترى أن من عليه حق توثيقه فله الامتناع من الدفع الا باشهاد صاحب الحق على نفسه

(14/152)


ولو لم تكن عليه وثيقة ففى جواز امتناعه لاجل الشهادة وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: له أن يمتنع لانه لا يتوجه يمين عند ادعائه بعد دفعه
(والثانى)
ليس له أن يمتنع ولا يلزم صاحب الحق الاشهاد، لانه إذا أنكر الحق بعد أدائه حلف بارا.
والتعليل الثاني - وهو تعليل أبى على بن أبى هريرة - أنه مقر في ملك غيره، ومدع عقد وكاله لغيره، فلم تقبل دعواه، ولم يلزم إقراره، ألا ترى أن من عليه الحق لو أقر بموت صاحب الحق، وأن هذا الحاضر وصيه في قبض دينه لم يلزم دفع المال إليه، وان اقر باستحقاق قبضه، فكذا الوكيل، فأما اعترافه للوارث بموت صاحب الحق فيلزمه دفع المال إليه، والفرق بينه وبين الوكيل أنه مقر للوارث بالملك، فيلزمه الدفع لانه بين أنه من الحق، ولا يصير الوكيل مالكا، ولا يبرأ بقبضه من الحق.
فأما ان أقر من عليه المال بأن صاحبه قد أحال هذا الحاضر به، فهل يلزمه دفع المال إليه باقراره؟ أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
يلزمه لانه مقر له بالملك فصار كإقراره للوارث
(والثانى)
لا يلزمه لانه لا يبرأ بالدفع عند الجحود، فصار كإقراره بالتوكيل.
فإذا تقرر ما وصفنا لم يخل حال من عليه الحق من أن يصدق الوكيل أو يكذبه فان كذبه على الوكالة وأنكره فلا يمين عليه، وعليه عند أبى حنيفة والمزنى اليمين لوجوب الدفع عندهما مع التصديق، ولا يجوز مع تكذيبه للوكيل أن يدفع إليه المال، وان صدقه على الوكالة لم يلزمه دفع المال إليه لما ذكرنا، لكن يجوز له في الحكم أن يدفعه إليه، فان دفعه إليه، وقدم صاحب الحق فلا يخلو حاله من أحد أمرين اما أن يعترف بالوكالة أو ينكرها، فان اعترف بها برئ من عليه الحق بالدفع سواء وصل الموكل إلى حقه من وكيله أو لم يصل إليه بتلفه.
فان أنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف فله المطالبة، ثم لا يخلو حال حقه من أحد أمرين، اما أن يكون عينا أو دينا، فان كان حقه عينا قائمة كالغصوب والعوارى والودائع فكل واحد من الدافع والقابض ضامن لها،

(14/153)


أما الدافع فلتعديه بالدفع.
وأما القابض فليده عند إنكار توكيله، ويكون ربها بالخيار في مطالبة من شاء بها من الدافع والقابض، سواء كانت باقية أو تالفة، إلا أنها إن كانت باقية فله مطالبة أيهما شاء بالقيمة: فان طالب بها الدافع وأغرمه برئا ولم يرجع الدافع على القابض بغرمها لانه مقر أن القابض وكيل برئ منها وأنه هو المظلوم بها.
وإن طالب القابض فأغرمه برئا، ولم يرجع القابض على الدافع بغرمها: لانه مقر ببراءته منها، وأنه هو المظلوم بها، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ويجوز للموكل أن يعزل الوكيل إذا شاء، ويجوز للوكيل أن يعزل نفسه متى شاء، لانه أذن في التصرف في ماله فجاز لكل واحد منهما ابطاله كالاذن في أكل طعامه، وان رهن عند رجل شيئا وجعلاه على يد عدل واتفقا على أنه يبيعه إذا حل الدين ثم عزله الراهن عن البيع انعزل لانه وكيله في البيع فانعزل بعزله كالوكيل في بيع غير الرهن.
وان عزله المرتهن ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه ينعزل، وهو ظاهر النص لانه يبيع الرهن لحقه، فانعزل بعزله كالراهن
(والثانى)
لا ينعزل، وهو قول أبى اسحاق لانه ليس بوكيل له في البيع، فلم ينعزل بعزله، وان وكل رجلا في تصرف وأذن له في توكيل غيره نظرت، فان أذن له في التوكيل عن الموكل فهما وكيلان للموكل، فان بطلت وكالة أحدهما لم تبطل وكالة الآخر، وان أذن له في
توكيله عن نفسه فان الثاني وكيل الوكيل، فان عزله الموكل انعزل لانه يتصرف له فملك عزله كالوكيل، وان عزله الوكيل انعزل، لانه وكيله فانعزل بعزله، وان بطلت وكالة الوكيل بطلت وكالته، لانه فرع له، فإذا بطلت وكالة الاصل بطلت وكالة الفرع.
وان وكل رجلا في أمر ثم خرج عن أن يكون من أهل التصرف في ذلك الامر بالموت أو الجنون أو الاغماء أو الحجر أو الفسق بطلت الوكالة، لانه

(14/154)


لا يملك التصرف فلا يملك غيره من جهته، وإن أمر عبده بعقد ثم أعتقه أو باعه ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا ينعزل كما لو أمر زوجته بعقد ثم طلقها.

(والثانى)
أنه ينعزل، لان ذلك ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو أمر ولهذا يلزم امثاله، وبالعتق والبيع سقط أمره عنه، وإن وكل في بيع عين فتعدى فيها بأن كان ثوبا فلبسه، أو دابة فركبها، فهل تبطل الوكالة أم لا؟ فيه وجهان أحدهما: تبطل فلا يجوز له البيع، لانه عقد أمانة فتبطل بالخيانة كالوديعة.
والثانى: أنها لا تبطل، لان العقد يتضمن أمانة وتصرفا، فإذا تعدى فيه بطلت الامانة وبقى التصرف، كالرهن يتضمن أمانة ووثيقة، فإذا تعدى فيه بطلت الامانة وبقيت الوثيقة.
وان وكل رجلا في تصرف ثم عزله ولم يعلم الوكيل بالعزل، ففيه قولان.

(أحدهما)
لا ينعزل، فان تصرف صح تصرفه، لانه أمر فلا يسقط حكمه قبل العلم بالنهي كأمر صاحب الشرع
(والثانى)
أنه ينعزل، فان تصرف لم ينفذ تصرفه لانه قطع عقد لا يفتقر إلى رضاه فلم يفتقر إلى علمه كالطلاق.
(الشرح) الاحكام: لما كانت الوكالة عقدا جائزا من الطرفين فللموكل
عزل وكيله متى شاء، وللوكيل عزل نفسه، لانه أذن في التصرف، فكان لكل واحد منهما ابطاله، كما لو أذن في أكل طعامه، وتبطل أيضا بموت أحدهما أيهما كان وجنونه المطبق، ولا خلاف في هذا كله فيما نعلم، فمتى تصرف الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته فهو باطل إذا علم ذلك، فان لم يعلم الوكيل بالعزل ولا موت الموكل فعن أحمد فيه روايتان، وللشافعي فيه قولان، وظاهر النص أنه ينعزل علم أو لم يعلم، ومتى تصرف فبان أن تصرفه بعد عزله أو موت موكله فتصرفه باطل، لانه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلا يفتقر إلى علمه كالطلاق والعتاق والى هذا ذهب الخرقى من الحنابلة.
والقول الثاني وهى الرواية الثانية عن أحمد: لا ينعزل قبل علمه بموت الموكل وعزله، نص عليه في رواية جعفر بن محمد امام العترة، لانه لو انعزل قبل علمه

(14/155)


كان فيه ضرر، لانه قد يتصرف تصرفات فتقع باطلة، وربما باع الطعام فيأكله المشترى أو غير ذلك من اطلاق يد المشترى ويجب ضمانه.
فيتضرر المشترى والوكيل.
ولانه يتصرف بأمر الموكل ولا يثبت حكم الرجوع في حق المأمور قبل علمه بالفسخ.
فعلى هذا لو تصرف قبل العلم نفذ تصرفه.
وعن أبى حنيفة أنه ان عزله الموكل فلا ينعزل قبل علمه لما ذكرنا، وان عزل الوكيل نفسه لم ينعزل الا بحضرة الموكل، لانه متصرف بأمر الموكل، فلا يصح رد أمره بغير حضرته كالمودع في رد الوديعة.
ولنا ما تقدم، فأما الفسخ ففيه وجهان كالروايتين ثم هما مفترقان، فان أمر الشارع يتضمن المعصية بتركه: ولا يكون عاصيا من غير علمه، وهذا يتضمن العزل عنه ابطال التصرف، فلا يمنع منه عدم العلم.
ومتى خرج أحدهما عن أن يكون من أهل التصرف مثل أن يجن أو يحجر عليه
لسفه فحكمه حكم الموت.
لانه لا يملك التصرف فلا يملكه غيره من جهته.
فإذا وسوس أحدهما فهو مثل العزل.
وان حجر على الوكيل لفلس فالوكالة بحالها، لانه لم يخرج عن كونه أهلا للتصرف.
وان حجر على الموكل وكانت الوكالة في أعيان ماله بطلت لانقطاع تصرفه في أعيان ماله.
وان كانت في الخصومة أو الشراء في الذمة أو الطلاق أو الخلع أو القصاص فالوكالة بحالها، لان الموكل أهل لذلك.
وله أن يستنيب فيه ابتداء فلا تنقطع الاستدامة، وان فسق الوكيل لم ينعزل.
لانه من أهل التصرف.
الا أن تكون الوكالة فيما ينافيه الفسق كالايجاب في عقد النكاح فانه ينعزل بفسقه أو فسق موكله بخروجه عن أهلية التصرف.
فان كان وكيلا في القبول للموكل لم ينعزل بفسق موكله لانه لا ينافى جواز قبوله.
وهل ينعزل بفسق نفسه؟ فيه وجهان.
وان كان وكيلا فيما تشترط فيه الامانه كوكيل اليتيم وولى الوقف على المساكين ونحو هذا انعزل بفسقه وفسق موكله بخروجهما بذلك عن أهلية التصرف وان كان وكيلا لوكيل من يتصرف في مال نفسه انعزل بفسقه.
لان الوكيل

(14/156)


ليس له توكيل فاسق.
ولا ينعزل بفسق موكله.
لان موكله وكيل لرب المال، ولا ينافيه الفسق ولا تبطل الوكالة بالنوم والسكر والاغماء، لان ذلك لا يخرجه عن أهلية التصرف، ولا تثبت عليه ولاية إلا أن يحصل الفسق بالسكر فيكون فيه من التفصيل ما أسلفنا (فرع)
إذا تعدى فيما وكل فيه، مثل أن يلبس الثوب أو يركب الدابة فهل تبطل الوكالة.
وجهان
(أحدهما)
تبطل الوكالة لانها عقد أمانة فتبطل بالتعدي كالوديعة (الثاني) لا تبطل الوكالة بالتعدي فيما وكل فيه، وبهذا الوجه قال أحمد
وأصحابه.
لانه إذا تصرف فإنما يتصرف في نطاق إذن موكله فكان كما لو لم يتعد فصح ويفارق الوديعة من جهة أنها أمانة مجردة فنافاها التعدي والخيانة، والوكالة إذن في التصرف تضمنت الامانة، فإذا انتفت الامانة بالتعدي بقى الاذن بحاله.
فعلى هذا لو وكله في بيع ثوب فلبسه صار ضامنا، فإذا باعه صح بيعه وبرئ من ضمانه لدخوله في ملك المشترى وضمانه، فإذا قبض الثمن كان أمانة في يده غير مضمون عليه، لانه قبضه باذن الموكل ولم يتعد فيه.
وإذا دفع إليه مالا ووكله في شراء شئ فتعدى في الثمن فصار ضامنا له، فإذا اشترى به وسلمه زال الضمان وقبضه للمبيع قبض أمانة.
وإن وجد بالمبيع عيبا فرد عليه، أو وجد هو بما اشترى عيبا فرده وقبض الثمن كان مضمونا عليه، لان العقد المزيل للضمان زال فعاد ما زال عنه.
(فرع)
إذا وكل أمرأته في بيع أو شراء أو غيره ثم طلقها لم تنفسخ الوكالة لان زوال النكاح لا يمنع ابتداء الوكالة فلا يقطع استدامتها.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
والوكيل أمين فيما في يده من مال الموكل، فان تلف في يده من غير تفريط لم يضمن، لانه نائب عن الموكل في اليد والتصرف، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد الموكل فلم يضمن.
وإن وكله في بيع سلعة وقبض ثمنها فباعها وقبض ثمنها.
وتلف الثمن واستحق

(14/157)


المبيع رجع المشترى بالثمن على الموكل لان البيع له فكان الرجوع بالعهدة عليه.
كما لو باع بنفسه.
(الشرح) الاحكام: اليد في أموال الغير على ثلاثة أقسام، يد ضامنة ويد أمينة، ويد اختلف الشافعي هل هي ضامنة أو أمينة، فالاولى كيد الغاصب
والمستعير والمساوم والمشترى والمستقرض، وكل هؤلاء يلزمهم ضمان ما هلك بأيديهم، وإن كان هلاكه من غير تعديهم، لانهم أصلا بين متعد أو معاوض.
والثانية كيد الوكيل والمضارب والشريك والمودع والمستأجر والمرتهن، فهؤلاء كلهم لا ضمان عليهم ما لم يتعدوا ويفرطوا، لانه ليس فيهم متعد بيده ولا معاوض.
وأما اليد المختلف فيها فيد الاجير المشترك إذا هلك بيده ما استؤجر على عمله من غير تفريط فيه ولا تعد عليه، ففيها قولان
(أحدهما)
أنها كيد المستعير عليها الضمان، والثانى أنها كيد المودع لا ضمان عليها فيما هلك فإذا تقرر هذا فإن الوكيل أمين فيما بيده لموكله، ولا ضمان عليه إن هلك لامرين
(أحدهما)
أن الموكل قد أقامه فيه مقام نفسه، وهو لا يلزم لنفسه ضمان ما بيده، فكذلك الوكيل الذى هو بمثابته
(والثانى)
أن الوكيل له عقد ارفاق ومعونة، وفى تعلق الضمان بها ما يخرج عن مقصود الارفاق والمعونة فيها: وسواء كانت الوكالة بعوض أو بغير عوض فكان أبو على الطبري رحمه الله يقول: إذا كانت بعوض جرت مجرى الاجير المشترك فيكون وجوب الضمان على قولين.
وهذا ليس بصحيح.
لانها إذا خرجت عن حكم الاجارة في اللزوم خرجت عن حكمها في الضمان (فرع)
قال المزني: فإن طلب منه الثمن فمنعه فقد ضمنه الا في حال لا يمكنه فيه دفعه.
قال الماوردى في حاويه " وهذا كما قال: إذا كان مع الوكيل ثمن ما باع الموكل فطلب منه فمنعه، فلا يخلو حال منعه من أحد أمرين.
اما أن يكون بعذر أو بغير عذر.
فان كان لعذر لحدوث مرض أو خوف منع من الوصول إلى موضع الثمن.
أو لخوف فوات فرض من جمعة أو مكتوبة قد ضاق وقتها.

(14/158)


أو لضياع مفتاح أو لملازمة غريم له إلى ما جرى مجرى ذلك فهذا عذر في تأخير الدفع ولا ضمان عليه ان تلف قبل الدفع.
وان منعه لغير عذر صار ضامنا له.
فان تلف كان عليه غرمه.
فلو منعه من دفعه حتى يشهد على نفسه بقبضه فقد اختلف أصحابنا الخ " (قلت) سيأتي مزيد ايضاح لهذا الفصل في آخر فصل في هذا الباب لتعلقها به هناك.
أما بقية الكلام على أحكام هذا الفصل فنقول: ان تلفت العين التى وكل في التصرف فيها فقد بطلت الوكالة.
لان محلها ذهب فذهبت الوكالة كما لو وكله في بيع بقرة فماتت.
ولو دفع إليه دينارا ووكله في الشراء به فهلك الدينار أو ضاع.
أو استقرضه الوكيل وتصرف فيه بطلت الوكالة.
سواء وكله في الشراء بعينه أو مطلقا: ويجرى عليه من الضمان ما أسلفنا ايضاحه من حيث التعدي والتفريط أو عكسهما وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
.

(فصل)
إذا ادعى رجل على رجل أنه وكله في تصرف فأنكر المدعى عليه فالقول قوله لانه ينكر عقدا الاصل عدمه فكان القول قوله.
وان اتفقا على الوكالة واختلفا في صفتها.
بأن قال الوكيل: وكلتني في بيع ثوب.
وقال الموكل: بل وكلتك في عبد، أو قال الوكيل: وكلتني في البيع بألف وقال: بل وكلتك في البيع بألفين.
أو قال الوكيل: وكلتني في البيع بثمن مؤجل وقال الموكل: بل وكلتك في البيع بثمن حال فالقول قول الموكل لانه ينكر اذنا والاصل عدمه، ولان من جعل القول قوله في أصل التصرف كان القول قوله في كيفيته كالزوج في الطلاق
(فصل)
وان اختلفا في التصرف فادعى الوكيل أنه باع المال وأنكر الموكل أو اتفقا على البيع واختلفا في قبض الثمن فادعى الوكيل أنه قبض الثمن
وتلف وأنكر الموكل ففيه قولان
(أحدهما)
أن القول قول الوكيل لانه يملك العقد والقبض.
ومن ملك تصرفا ملك الاقرار به.
كالاب في تزويج البكر.

(14/159)


(والثانى)
أنه لا يقبل قوله، لانه إقرار على الموكل بالبيع وقبض الثمن، فلم يقبل كما لو أقر عليه أنه باع ماله من رجل وقبض ثمنه، وإن وكله في ابتياع جارية فابتاعها ثم اختلفا، فقال الوكيل: ابتعتها بإذنك بعشرين.
وقال الموكل: بل أذنت لك في ابتياعها بعشرة، فالقول قول الموكل لما بيناه.
فإن حلف الموكل صارت الجارية للوكيل في الظاهر، لانه قد ثبت أنه ابتاعها بغير الاذن، فإن كان الوكيل كاذبا كانت الجارية له في الظاهر والباطن، وإن كان صادقا كانت الجارية للموكل في الباطن، وللوكيل في الظاهر قال المزني: ويستحب الشافعي رحمه الله في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل فيقول: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فبعه إياها بعشرين، فان قال له: بعتك هذه الجارية بعشرين صارت الجارية للوكيل في الظاهر والباطن وإن قال كما قال المزني: إن كنت أذنت لك في ابتياعها بعشرين فقد بعتكها بعشرين، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لا يصح، لانه بيع معلق على شرط فلم يصح، وجعل ما قاله المزني من كلام الحاكم لا من كلام الموكل.
ومنهم من قال يصح، لان هذا الشرط يقتضيه العقد لانه لا يصح أن يبيعها إلا أن يكون قد أذن له في الابتياع بعشرين، وما يقتضيه العقد لا يبطل العقد بشرطه فان امتنع الموكل من البيع قال المزني: يبيعها الوكيل ويأخذ حقه من ثمنها.
وقال أبو سعيد الاصطخرى فيه وجهان
(أحدهما)
ما قال المزني.

(والثانى)
أنه يملكها ظاهرا وباطنا بناء على القولين فيمن ادعى على رجل
أنه اشترى منه دارا وأنكر المشترى، وحلف أن المستحب للمشترى أن يقول للبائع: إن كنت اشتريتها منك فقد فسخت البيع، وإن لم يفعل المشترى ذلك ففيه قولان
(أحدهما)
أن البائع يبيع الدار ويأخذ ثمنها
(والثانى)
أن البائع يملك الدار لان المشترى صار كالمفلس بالثمن لتعذر الثمن من جهته، فيكون البائع أحق بعين ماله.
وقال أبو إسحاق: لا يملك الوكيل الجارية قولا واحدا، وتخالف الدار لانها كانت للبائع، فإذا تعذر الثمن انفسخ البيع وعاد المبيع إليه كما يعود إذا

(14/160)


تحالف المتبايعان والجارية لم تكن للوكيل، فتعود إليه عند التعذر، فان قلنا يملكها ظاهرا وباطنا تصرف فيها بالوطئ وغيره.
وان قلنا انها للموكل في الباطن كان كمن له على رجل دين لا يصل إليه.
ووجد له مالا من غير جنس حقه.
(الشرح) الاحكام: قال المزني رحمه الله تعالى: فان كان وكله ببيع متاعه فباعه فقال الوكيل قد دفعت اليك الثمن فالقول قوله مع يمينه.
وقال الماوردى في حاويه: اعلم أن ما يدعيه الوكيل على موكله ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يقبل فيه قول الوكيل.
وقسم لا يقبل فيه قوله.
وقسم اختلف قوله في قبول قوله (1) فيه.
فأما القسم الاول وهو ما قبل فيه قول الوكيل على الموكل فهو في رد ما قد ائتمنه عليه.
وجملة الايدى التى لا يتعلق بها ضمان أنها على ثلاثة أقسام (أحدها) ما يقبل فيه (قول (2)) صاحبها في رد ما كان معه، وهو من ائتمنه المالك على ماله في حق نفسه من غير نفع يعود (عليه) في أمانته كالمودع، فقوله في رد ما بيده من الوديعة على ربها مقبول، لانه لما أقامه مقام نفسه وجب أن يكون قوله عليه (مقبولا) كقوله على نفسه
(والثانى)
من لا يقبل قوله وان كان أمينا في رد ما بيده وهو من يده لحق
نفسه كالمرتهن فلا يقبل قوله في الرهن على راهنه، لانه ليس بنائب عنه، فلم يقبل قوله عليه (والثالث) من اختلف أصحابنا في قبول (قوله) وهو من كان نائبا عن المالك لكن لنفع يعود عليه (من) نيابته، كالعامل في القراض، والاجير المشترك، ففى قبول قولهم وجهان
(أحدهما)
أن قولهم مقبول في رد ما بأيديهم لنيابتهم عن المالك، وهذا أظهر القولين (الوجهين) وهو قول الجمهور
__________
(1) اختلف قوله، أي قول الامام الشافعي رضى الله عنه، وكذا كل ما جاء على هذا النحو من عود ضمير الغائب على غير مذكور في اثبات قول أو حكم أو مذهب.
(2) ما بين القوسين منا.

(14/161)


(والثانى)
وهو قول أبى على الطبري: أن قولهم غير مقبول في رد ما بأيديهم لان عود النفع إليهم يجعلهم كالمتصرفين في حق أنفسهم فلم يقبل قولهم كالمرتهن فإذا تقرر هذا للاصل فالوكيل إن كان متطوعا، فقوله في رد ما بيده مقبول على موكله، وإن كان بأجرة ففى قبول قوله وجهان، فهذا ما يتعلق بالقسم الاول مما يقبل فيه قول الوكيل على الموكل.
وأما القسم الثاني: وهو مالا يقبل فيه قول الوكيل على الموكل، فهو أن يدعى إذنا في تصرف لقول الوكيل: أمرتنى ببيع كذا، أو بإعطاء زيد كذا فينكر الموكل ذلك، فالقول قول الموكل دون الوكيل، لانه في هذه الدعوى بمثابة مدعى عقد الوكالة، ومدعى الوكالة لا يقبل قوله في ادعائها، لذلك مدعى الاذن لا يقبل قوله في ادعائه، وكذلك إذا اتفقا على الاذن، واختلفا في صفته كقول الوكيل أمرتنى بإعطاء زيد ألفا فقال: بل أمرتك بإعطائه ثوبا، وكقوله
أمرتنى ببيع عبدك بألف، فقال: بل أمرتك بألفين، فالقول فيه قول الموكل، فلا يقبل فيه دعوى الوكيل إلا ببينه يقيمها على ادعاءه، والبينة شاهدان عدلان لا غير، لانها بينة في إثبات الوكالة.
وأما القسم الثالث: وهو ما اختلف قوله في قبول (قول) الوكيل فيه على موكله، فهو أن يوكل في عمل فيدعى الوكيل إيقاعه على الوجه المأذون فيه، وينكره الموكل، كتوكيله في بيع أو نكاح أو هبة أو عتق أو طلاق أو إقباض مال، فينكر الموكل ذلك مع تصديق البائع والمنكوحة والموهوبة له والمطلقة والقابض والمقبض، ففيه قولان محكيان عن الشافعي، ووجهان ذكرهما ابن سريج، فأحد قولى الشافعي أن القول في جميع ذلك قول الموكل إلا أن يقيم الوكيل بينة على ما ادعاه، والبينة عليه معتبرة في كونه مالا أو غير مال، وإنما كان القول قول الموكل لانها عقود فلم يلزم بمجرد الدعوى.
والقول الثاني: أن القول في جميع ذلك قول الوكيل، لان الموكل أقامه مقام نفسه، بعد قوله عليه.
فهذان قولا الشافعي المحكيان عنه.
وأما وجها أبى العباس بن سريج فإنه ذكر في كتاب الوكالة بعد حكاية قول

(14/162)


الشافعي وجهين ذكر احتمالهما، ونص توجيههما، أحد الوجهين أنه إن كان ما أقر به الوكيل يتم به وحده كالعتق والطلاق والابراء كان قوله مقبولا فيه، لانه لما كان يصح من الوكيل في الحال صح إقراره به في تلك الحال، وما كان بخلافه لم يقبل إقراره به.
والوجه الثاني: وهو الذى عول عليه واعتمد على نصرته: إن؟ ن الاقرار به كإيقاع (طلاق) قبل قوله فيه، وما كان بخلافه لم يقبل قوله فيه، وهذان الوجهان إنما يكون للقول بها وجه إذا كان الوكيل عند الاختلاف باقيا على
الوكالة، فأما منع عزله عنها فلا وجه لتخريجها لما يقتضيه تعليل كل واحد منهما والله تعالى أعلم.
(فرع)
إذا أمر الموكل وكيله ببيع متاعه وقبض ثمنه، فادعى الوكيل البيع وقبض الثمن وتسليمه إلى الموكل، فإن صدقه على البيع وقبض الثمن وتسليمه إلى الموكل، فإن صدقه على البيع وقبض الثمن وأنكر أن يكون قبضه منه كان قول الوكيل مقبولا عليه، لكن مع يمينه، لانه اختلاف في الدفع، ولو صدقه على البيع وأنكر قبض الوكيل الثمن من المشترى فهو على قولين، لان الوكيل يدعى عملا ينكره الموكل، وإن كذبه في البيع وقبض الثمن، فهو على قولين أيضا لما ذكرنا.
(فرع)
إذا أمر الرجل وكيله أن يشترى سيارة، فقال الوكيل: اشتريتها بألف، قال الموكل: اشتريتها بخمسمائة فالقول قول الوكيل مع يمينه أنه اشترى السيارة بألف - وثمة قول بأنه إذا كانت السيارة ليست بيده فالقول قول الموكل - وهذا ليس بصحيح، بل قول الوكيل أولى في الحالين لقبول قوله في أصل الشراء وكذا يقبل قوله في قدر أصل ثمنه.
(فرع)
قال المزني: ولو قال أمرتك أن تشترى هذه الجارية بعشرة فاشتريتها بعشرين.
وقال الوكيل: بل أمرتنى بعشرين فالقول قول الآمر مع يمينه وتكون الجارية في الحكم للموكل، والشافعي يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالآمر فيقول: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فقد بعته إياها بعشرين، ويقول للآخر: قد قبلت، ليحل له الفرج ولمن يبتاعها منه.

(14/163)


وقد أثارت هذه العبارة من المزني كلاما لدى الاصحاب، لانه إن قبل فبيع الموكل معقود بشرط وهو قوله: ان كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين فقد بعتها
عليك بعشرين، وهذا شرط يفسد معه البيع، فاختلف أصحابنا فيما ذكره المزني من ذلك على وجهين.
أحدهما: أن المزني انما اختار للحاكم أن يقول ذلك لهما تنبيها على معنى هذا العقد، والسبب المقصود به من غير أن يذكراه في نفس العقد، فإذا ذكراه فيه لم يصح، بل يعقد له مطلقا من هذا الشرط، وهذا قول أكثر البصريين.
والوجه الثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وجمهور البغداديين أنه يجوز لهما أن يعقداه كذلك لانه هكذا يكون في الحكم فجائز أن يكون ملفوظا به في العقد.
(فرع)
إذا ثبت ما أسلفنا فللموكل حالتان: احداهما: أن يجيب إلى بيعها على الوكيل ان كان صادقا فيصير الوكيل مالكا لها ظاهرا وباطنا.
ويجوز له امساكها والاستمتاع بها وبيعها وأخذ الفضل من ثمنها والحال الثانية: أن لا يجيب إلى بيعها فلا يجبر عليه لانه ليس بمالك، ولو كان مالكا لم يجبر على بيع ملكه، وهل يكون الوكيل مالكا لها أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبى سعيد الاصطخرى انه قد ملكها ملكا تاما ظاهرا وباطنا لان الملك قد انتقل عن الموكل بثمنه فاقتضى أن ينتقل إلى الوكيل بعقده، فعلى هذا يجوز للوكيل أن يمسكها، وان باعها ملك الفضل في ثمنها.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: انه لا يصير مالكا لها، وانما له أن يأخذ من ثمنها ما غرم فيه، لانه مقر بأنها ملك لموكله، فعلى هذا لا يجوز أن يستمتع بها، وان كان في ثمنها فضل لم يملكه، وهل يجوز أن ينفرد ببيعها أم لا؟ على وجهين.

(أحدهما)
يبيعها بنفسه
(والثانى)
يتولاه الحاكم، فإن كان الثمن بقدر ما دفع فقد استوفاه، وان كان أقل فلا رجوع له ينافيه، وان كان أكثر فلا
حق له في الزيادة.
وهل يجوز اقرارها في يده؟ أم ينزعها الحاكم منه؟ على وجهين، أحدهما:

(14/164)


يقرها في يده لانه لا خصم له فيها، والوجه الثاني: ينزعها منه لانه مال قد جهل مستحقه فصار كأموال العيب - التى ترد بالعيب ويختلف فيها المتبايعان ويضع الحاكم يده عليها حتى يفصل في النزاع - أم يكون مشترى الجارية مالكها، على الوجهين جميعا، ولا يكون عدم ملك البائع لها بمانع من استقرار ملك المشترى من وكيل في بيعها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن اختلفا في تلف المال فادعى الوكيل أنه تلف وأنكر الموكل فالقول قول الوكيل، لان التلف يتعذر إقامة البينة عليه فجعل القول قوله.

(فصل)
وإن اختلفا في رد المال فقال الوكيل: رددت عليك المال وأنكر الموكل نظرت، فان كانت الوكالة بغير جعل فالقول قول الوكيل مع يمينه: لانه قبض العين لمنفعة المالك، فكان القول في الرد قوله كالمودع، وإن كانت الوكالة بجعل ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يقبل قوله لانه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر والمرتهن
(والثانى)
أنه يقبل قوله لان انتفاعه بالعمل في العين، فأما العين فلا منفعة له فيها، فقبل قوله في ردها كالمودع في الوديعة.

(فصل)
إذا كان لرجل على رجل آخر حق فطالبه به فقال: لا أعطيك حتى تشهد على نفسك بالقبض نظرت، فإن كان مضمونا عليه كالغصب والعارية فان كان عليه فيه بينة فله أن يمتنع حتى يشهد عليه بالقبض، لانه لا يأمن أن يقبض ثم يجحد، ويقيم عليه البينة فيغرمه، وإن كان أمانة كالوديعة أو ما في
يد الوكيل والشريك أو مضمونا لا بينة عليه فيه، ففيه وجهان.

(أحدهما)
أن له أن يمتنع حتى يشهد بالقبض، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لانه لا يأمن أن يقبض ثم يجحد، فيحتاج أن يحلف أنه لا يستحق عليه، وفى الناس من يكره أن يحلف
(والثانى)
أنه ليس له أن يمتنع، لانه إذا جحد كان القول قوله أنه لا يستحق عليه شيئا، وليس عليه في اليمين على الحق ضرر فلم يجز له أن يمتنع والله أعلم.

(14/165)


(الشرح) الاحكام: هذا الفصل قد أسلفنا الكلام على بعضه ومجمل القول: إذا اختلف الموكل والوكيل لم يخل من ستة أحوال: الاول: إذا اختلفا في التلف، فقال الوكيل تلف مالك في يدى، أو الثمن الذى قبضته ثمن متاعك تلف في يدى فيكذبه الموكل، فالقول قول الوكيل مع يمينه لانه أمين.
وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه، فلا يكلف ذلك كالمودع.
وكذلك كل من كان في يده شئ على سبيل الامانة، كالاب والوصى وأمين الحاكم والمودع والشريك والمضارب والمرتهن والمستأجر والاجير المشترك على اختلاف فيه، إلا أن يدعى التلف بأمر ظاهر كالحريق والنهب وشبههما فعليه إقامة البينة على وجود ذلك في ناحيته، ثم يكون القول قوله في تلفها، وهذا هو مذهبنا ومذهب أحمد.
لان وجود الامر الظاهر مما لا يخفى، فلا تتعذر إقامة البينة عليه الثاني: أن يختلفا في تعدى الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر موكله مثل أن يدعى عليه أنه حمل على الدابة فوق طاقتها، أو حمل عليها شيئا لنفسه، أو فرط في حفظها أو لبس الثوب، أو أمره برد المال فلم يفعل، ونحو ذلك فالقول قول الوكيل مع يمينه، لانه أمين ولانه منكر لما يدعى عليه.
والقول قول المنكر.
الثالث: أن يختلفا في التصرف فيقول الوكيل: بعت الثوب، وقبضت الثمن فتلف، فيقول الموكل: لم تبع ولم تقبض شيئا، فالقول قول الوكيل مع يمينه إن كان بغير جعل، لانه إن كان يجعل كان أجيرا ويده ضامنة (فرع)
قال المزني: ولو قال لصاحب له قد طلبته منك فمنعتني وأنت ضامن فهو مدع ان الامانة تحولت مضمونة وعليه البينة، وعلى المنكر اليمين.
وهذا كما قال، إذا منعه من دفع الثمن إليه حتى هلك، ثم اختلفا فقال الوكيل: منعتك معذورا فلا ضمان على.
وقال الموكل منعتني غير معذور فعليك الضمان، فالقول قول الوكيل مع يمينه إذا كان ما قاله ممكنا، ولا ضمان عليه لانه على أصل أمانته فلا تقبل دعوى الموكل عليه في انتقاله عن الامانة إلى الضمان (فرع)
قال المزني: ولو قال وكلتك ببيع متاعى فقبضته منى وأنكر ثم أقر،

(14/166)


أو قامت عليه البينة ضمن - أي انتقل من حال الامين إلى حال الضامن - لانه خرج بالجحود من الامانة، وهذا صحيح، وصورة ذلك في رجل ادعى على رجل أنه وكله ببيع متاعه وأقبضه إياه فأنكر المدعى عليه الوكالة وقبض المتاع فالقول قوله مع يمينه لانه منكر، فإن أقام المدعى بينة بالوكالة وقبض المتاع صار ضامنا وخرج بالجحود عن الامانة فصار كجاحد الوديعة، فلو ادعى بعد قيام البينة عليه تلفها أو ردها على مالكها لم تقبل دعواه، لانه ضمن مالا يقبل قوله في ادعاء البراءة منه، ولانه صار بالانكار الاول مكذبا لهذه الدعوى منه، وهكذا لو عاد بعد إنكاره فأقر بقبض المتاع فادعى تلفه أو رده لم يقبل منه، وكان ضامنا له كقيام البينة عليه بقبضه.
فلو أقام البينة برده على موكله أو بتلف ذلك في يده قبل جحوده ففيه وجهان أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنها بينة مردودة، لانه قد أكذبها
بسابق إنكاره.
والوجه الثاني وهو قول أبى القاسم الصيمري، وحكاه أبو حامد الاسفرايينى إن بينته مقبوله، يقدم ما شهدت به على الجحود الموجب للضمان.
قال الماوردى والوجه الاول أصح.
(فرع)
قال المزني: ولو قال: وكلتك في بيع متاعى فبعته، وقال: مالك عندي شئ، فأقام عليه البينة فقال: صدق أو قد دفعت إلى أهله ثمنه فهو مصدق لان من دفع شيئا إلى أهله فليس هو عنده، ولم يكذب نفسه فهو على أصل أمانته وتصديقه.
وهذا صحيح، إذا ادعى أنه وكله في متاع أقبضه إياه ليبيعه فقال الوكيل: مالك عندي شئ أو ليس لك في يدى حق فهذا جواب مقنع في الدعوى والقول فيه قوله مع يمينه، لانه منكر.
وكل من ادعى عليه مال في يديه وذكر المدعى سبب استحقاقه كالوديعة والغصب فالمدعى عليه إذا كان منكرا له أن يجيب بأحد جوابين، إما أن يقول: ما أخذت منك هذه الوديعة، ولا غصبتك هذا المال، وإما أن يقول: مالك قبلى حق، فكلا الجوابين مقنع في إنكار الدعوى وعليه اليمين.
وصفة إحلافه وتحليفه بحسب اختلاف الجواب، فإن كان جوابه مطلقا

(14/167)


بأن قال: ليس عندي لك حق، أحلف على ما أجاب بالله أن ماله قبله حق، ولا يجوز للحاكم أن يحلفه: ما أخذ وديعة، أو ما غصبه، لانه قد يجوز أن يكون قد ملكه عليه بعد الوديعة والغصب، بهبة أو بيع استوفى ثمنه، فلا يكون قبله حق، وبحيث إن حلف ما استودع ولا غصب بر وإن كان جوابه أن قال: ما غصبتك، أو قال: ما أخذت وديعتك، فقد اختلف أصحابنا في صفة إحلافه على وجهين
(أحدهما)
أنه يحلف بالله ماله قبله
حق احترازا مما ذكرنا (والوجه الثاني) أنه يحلف على ما أجاب بالله ما غصبه، ولا أخذ وديعته لان تركه الاحتراز في جوابه ينفى التوهم عنه فيما ذكرنا.
فإذا ثبت أن جوابه بما ذكرنا مقنع فحلف ثم قامت البينة عليه بقبض المال أو عاد فأقر به ثم ادعى تلفه أو رد ثمنه لم يضمن وكان قوله مقبولا فيه لامرين أحدهما: أن ما ادعاه في الثاني مطابق لما أجاب به في الاول، لان من يرد الشئ على مالكه فليس له شئ في يده.
والثانى: أنه ليس له في جوابه الاول تكذيب الشهود، وبهذين المعنيين فرقنا بين المسألتين، فلو قامت عليه البينة في هذه المسأله بأن المتاع كان في يده بعد أن أجاب بأن لا شئ لك عندي صار ضامنا ولم يقبل قوله في الرد أو التلف لان هذا الجواب منه مع بقاء الشئ في يده كذب وجحود فصار ضامنا: (فرع)
قال المزني: ولو جعل للوكيل فيما وكله جعلا، فقال للموكل جعلى قبلك، وقد دفعت إليك مالك، فقال: بل خنتني فالجعل مضمون لا تبرئه منه الجناية عليه.
وقد ذكرنا أن الوكالة تجوز بجعل وبغير جعل، ولا يصح الجعل إلا أن يكون معلوما، فلو قال: قد وكلتك في بيع هذا الثوب على أن جعلك عشر ثمنه أو من كل مائة درهم من ثمنه درهم لم يصح للجهل بمبلغ الثمن وله أجرة مثله، فلو وكله في بيع كتاب بأجر معلوم فباعه بيعا فاسدا فلا جعل له، لان مطلق الاذن بالبيع يقتضى ما صح منه، فصار الفاسد غير مأذون فيه فلم يستحق جعلا عليه، فلو باعه بيعا صحيحا وقبض ثمنه، وتلف الثمن في يده فله الاجرة لوجود العمل، وهذا بخلاف الصانع إذا استؤجر عليه حياكة ثوب أو تجليد كتاب

(14/168)


فتلف الثوب أو الكتاب في يده بعد عمله، فلا أجرة له إن كان مشتركا، والفرق
الذى تلف الثمن في يده والذى تلف الثوب أو الكتاب في يده أن المقصود من الاجير تسليم العلم المستحق في مقابلة العوض، فما لم يحصل التسليم لم يجب ما في مقابلته من العوض، والمقصود من الوكيل وجود العمل المأذون فيه، فلو باع الوكيل الثوب فتلف الثوب في يده قبل تسليمه إلى مستحقه بطل البيع، ولم يبطل جعل الوكيل، لان بطلانه بمعنى حادث بعد صحته، فصار بالعمل مأجورا فيه، وكان بخلاف وقوع البيع فاسدا، فلو سلم الثوب إلى مشتريه وقبض ثمنه فتلف في يده، ثم استحق الثوب من يد المشترى كان البيع فاسدا وللوكيل جعله لان بطلانه ليس من جهة الوكيل فصار مقصوده بالاذن مجرد العمل على وجه الصحة دون الصحه، وقد وجد من الوكيل ذلك العمل.
فأما رجوع المشترى بالثمن، فإن لم يعلم بالوكالة فله الرجوع على الوكيل ويرجع الوكيل به على الموكل، وإن علم بالوكاله ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى حامد المروزى ذكره في جامعه أن يرجع على الموكل دون الوكيل، لانه مبيع عليه كالمبيع على المفلس
(والثانى)
يرجع على من شاء منهما، لان لكل واحد منهما في العقد تأثيرا فإذا ثبت ما وصفنا من جواز الوكالة بجعل واستحقاقه بعد العمل، فطالب الوكيل الموكل بجعله، وادعى أنه قد باع ما وكل في بيعه، وأنه قد رد ثمنه على موكله فللموكل حالتان، حالة ينكر العمل الذى ادعاه من البيع وقبض الثمن، وحالة يعترف به، فإن انكر الموكل ذلك فالقول قوله مع يمينه، ولا جعل للوكيل إلا ببينة يقيمها على البيع، سواء قبل قوله في البيع؟ أم لا، لانه يدعى عملا يستحق به جعلا فلم يقبل قوله في دعواه، وإن صدقه الموكل على ذلك وادعى دفع الجعل إليه فالقول قول الوكيل مع يمينه وله الجعل، لان الموكل مدع براءة الذمة من جعل تعلق بها، فلو قال الموكل له بعد تصديقه على البيع،
إنك خنتني في عملك بقدر جعلك فبرئت منه بخيانتك، وأنكر الوكيل الخيانة، فالقول قول الوكيل مع يمينه أنه لم يخن وله المطالبة بجعله.

(14/169)


(فرع)
إذا تلف الثمن قبل دفعه للموكل، فإن كان لعذر في تأخير الدفع فلا ضمان، فلو منعه من دفعه حتى يشهد على نفسه بقبضه فقد اختلف أصحابنا هل له ذلك ويلزم الموكل الاشهاد على نفسه بالقبض أم لا؟ على ثلاثة أوجه.
أحدها وهو الصحيح: أن ليس له ذلك ولا يلزم الموكل بالاشهاد على نفسه بالقبض، لان قول الوكيل مقبول في الدفع، فعلى هذا يصير بالمنع ضامنا، وعليه الغرم إن تلف.
والوجه الثاني: له الامتناع بالدفع إلا بالاشهاد ليسلم من اليمين مع الاكذاب فعلى هذا لا يصير بالمنع ضامنا ولا غرم عليه إن تلف.
والوجه الثالث وهو مذهب مالك: أنه إذا قبض المال بالاشهاد لم يلزم دفعه إلا بالاشهاد، وإن قبضه بغير إشهاد لزمه الدفع بغير إشهاد، فأما من كان غير مقبول القول في الدفع فلا يلزمه الدفع إلا بالاشهاد سواء كان ضامنا كالغاصب والمستعير أو غير ضامن كالمرتهن.
فأما المضارب والاجير المشترك - فإن قلنا بأحد الوجهين: إن قوله في الدفع غير مقبول لم يلزمهم الدفع الا بالاشهاد، وان قلنا بالصحيح من المذهب: ان قولهم في الدفع مقبول ففى وجوب الاشهاد لهم ثلاثة أوجه على ما أسلفنا والله تعالى الموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(14/170)