المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب اللقيط
التقاط المنبوذ فرض على الكفاية لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولانه تخليص آدمى له حرمة من الهلاك فكان فرضا كبذل الطعام للمضطر.
قال (اخذت منبوذا على عقد عمر رضى الله عنه فذكره عريفي لعمر رضى الله عنه فارسل إلى فدعاني والعريف عنده، فملما رأني قال: عسى الغوير ابؤسا، فقال عريفي انه لا يتهم، فقال عمر: ما حملك على ما صنعت؟ قلت: وجدت نفسا بمضيعة فأحببت أن يأجرني الله فيه، فقال هو حر وولاؤه لك وعلينا رضاعه.
ولان الاصل في الناس الحرية، فان كان عليه ثياب أو حلى أو تحته فراش أو في يده دارهم أو عنان فرس، أو كان في دار ليس فيها غيره فهى له، لانه حر، فكان ما في يده له كالبالغ.
وان كان على بعد منه مال مطروح أو فرس مربوط لم يكن له لانه لايد له عليه.
وان كان بالقرب منه وليس هناك غيره ففيه وجهان
(أحدهما)
ليس له لانه لا يد له عليه
(والثانى)
له لان الافسان قد يترك ماله بقربه فإذا لم يكن هناك غيره فالظاهر انه له، وان كان تحته مال مدفون لم يكن له لان البالغ لو جلس على الارض وتحته دفين لم يكن له ذلك فكذلك اللقيط.

(فصل)
وان وجد في بلد من بلاد المسلمين وفيه مسلم فهو مسلم، لانه اجمتع له حكم الدار واسلام من فيها، وان كان في بلد الكفار ولا مسلم فيه، فهو كافر، لان الظاهر انه ولد بين كافرين.
وان كان فيه مسلم ففيه وجهان.

(أحدهما)
انه كافر تغليبا لحكم الدار
(والثانى)
انه مسلم تغليبا لاسلام المسلم الذى فيه.
وان التقطه حر مسلم امين مقيم موسر أقر في يده، لما ذكرناه مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لابد من ان يكون في يد من يكفله، فكان
الملتقط أحق به لحق السبق

(15/284)


(الشرح) اثر عمر وسنين ابى جميلة رواه سعيد بن منصور عن سفيان عن الزهري سمع سنينا أبا جميلة بهذا.
وقال الامير ابن مأكولا في كتاب الاكمال: سنين بنونين بينهما ياء حج من النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وروى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وروى عنه الزهري.
قال أبو موسى: سنين بن فرقد.
أما غريب الخبر فقوله (قد كره عريفي) العريف رجل يكون رئيسا على نفر يعرف أمورهم ويجمعهم عند الغزو، وهو فعيل بمعنى فاعل وقوله (عسى الغوير أبؤسا) الغوير ماء لبنى كلب وهذا مثل، أول من تكلم به الزباء ملكة تدمر حين رأت الابل عليها الصناديق فاستنكرت شأن قصير إذ أخذ على غير الطريق أرادت عسى أن يأتي بذلك الطريق بشر، والابؤس جمع بأس وانتصابه بعسى على أنه خبره على ما عليه أصل القياس.
وقال الاصمعي: أصله أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو أتاهم فيه عدو فقتلهم فصار مثلا لكل شئ يخاف أن يأتي منه شر.
وقوله بمضيعه على وزن معيشة أي مهلكة من ضاع الشئ أي هلك، وقد أتى على هذا الوزن في قول قيس بن ذريح: بدار مضيعة تركتك لبنى كذلك الحين يهدى للمضاع هكذا أفاده ابن بطال في شرح غريب المهذب، وللقيط فعيل بمعنى مفعول وهو الملقوط، وهو يطلق على الطفعل المنبوذ والتقاطه واجب لقوله تعالى (تعاونوا على البر والتقوى) ولان فيه إحياء نفس فكان واجبا كاطعام المضطر وإنجائه من الغرق، وكذلك قوله تعالى (ومن أحياها
فكأنما أحيا الناس جميعا، على أن تسميته منبوذا بعد أخذه والتقاطه أو تسميته لقيطا قبل أخذه فهذا وان كان مجازا لكنه صار حقيقة شرعية فهو بعد أخذه يبقى مجازا بناء على زوال الحقيقة بزوال المعنى المشتق منه.
وحكمه شرعا فرض كفاية إذا علم به جماعة وأداه بعضهم سقط عن الباقين،

(15/285)


فان تركه الجمعة أثموا جميعا إذا علموا فتركوه مع إمكان أخذه.
على أن اللقيط حر في قول عامة أهل العلم الا النخعي.
قال ابن المذر: أجمع عوام أهل العلم أن اللقيط حر، روى هذا عن عمر وعلى رضى الله عنهما، وبه قال عمر بن عبد العزيز والشعبى والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأى ومن بتعهم.
وقال النخعي: إن التقطه للحبسة فهو حر، وان كان أراد أن يسترقه فذلك له، وذلك قول شذ فيه عن الخلفاء والعلماء، ولا يصح في النظر، فان الاصل في الادميين الحرية، فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحرارا، وانما الرق للعارض فإذا لم يعلم ذلك العارض فله حكم الاصل.
واللقيط اما أن يوجد في دار الاسلام أو في دار الكفر: فالاولى ضربان، دار اختطها المسلمون وأحدثوا مبانيها ابتداء أو أعادوا بناءها بعد أن كانت لغيرهم لغلبة الاسلام عليها وأصطباغها بصبغة الاسلام فلا يوجد فيها من غير المسلمين إلا قليل فلقيط هذه البلاد يحكم باسلامه، وإن كان فيها أهل ذمة تغليبا للاسلام ولظاهر الدار، ولان الاسلام يعلو ولا يعلى، فمثل التى أنشأها المسلمون الكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والفسطاط وتونس والرباط، ومثل التى أعادها المسلمون الاسكندرية ودمشق ودمنهور والقدس صانها الله وطهرها من رجس اعدائه اليهود، وقد مضى عام بتمامه منذ غزاها اليهود إلى ساعة كتابة هذا الفصل
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(الضرب الثاني) بلاد فتحها المسلمون وبقى أهلها على دينهم فإذا وجد فيها مسلم واحد كان لقيطها مسلما تغليبا لحكم الاسلام ووجود مسلم فيها.
وأما بلد الكفار فضربان ايضا، بلد كان للمسلمين فغلب الكفار عليه كبلاد فلسطين فهذا كالضرب الذى قبله ان كان فيه مسلم حكم باسلام لقيطه: الثاني بلد لم يفتحه المسلمون من قبل أو فتحوه وغلب الكفار عليه واستأصلوا منه شأفة المسلمين كبلاد الاندلس (لهفى على قرطبه ومرسية وقشتالة وغرناطة ومجريط (مدريد) وميورقه كلهفي على ربوع المسجد الاقصى وما حوله من المباركات)

(15/286)


ففى لقيطها مع وجود مسلم فيها وجهان
(أحدهما)
ان يحكم بكفره تغليبا للدار.
والوجه الثاني أنه مسلم تغليبا للاسلام بوجود مسلم فيه، وهذا التفصيل كله مذهب أحمد بن حنبل أيضا.
والضرب الثاني: دار لم تكن للمسلمين أصلا كأكثر بلاد أوربا وأمريكا.
فهذه البلاد إن لم يكن فيها مسلم فلقيطها كافر قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن الطفل إذا وجد في بلاد المسلمين ميتا في أي مكان وجد وجب غسله وكفنه ودفنه في مقابر المسلمين، وقد منعوا أن يدفن أطفال المشركين في مقابر المسلمين.
قال: إذا وجد لقيط في قرية ليس فيها الا مشرك فهو على ظاهر ما حكموا به انه كافر.
هذا قول الشافعي وأحمد وأصحاب الرأى.
قالوا وفى الموضع الذى حكمنا باسلامه إنما يثبت ذلك ظاهرا لا يقينا، لانه يحتمل ان يكون ولد كافر، فلو أقام كافر بينة أنه ولد على فراشه حكمنا له به.
وإذا بلغ اللقيط حدا يصح فيه اسلامه وردته فوصف الاسلام فهو مسلم، سواء
ممن حكم باسلامه أو كفره، وان وصف الكفر وهو ممن حكم باسلامه فهل هو مرتد لا يقر على كفره؟ نص الشافعي في الام انه يقر على كفره ولا يكون مرتدا.
وقال أبو حنيفة هو مرتد لا يقر على كفره، وعند الحنابلة وجهان كقولي أبى حنيفة والشافعي.
دليلنا أنه وصف الكفر بقوله، وقوله اقوى من ظاهر الدار.
اللهم الا أن يقال: الاحتياط للاسلام يلغى قوله المانع له لاحتمال أن يكون كذبا.
هكذا أفاده الرملي.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان كان له مال كانت نفقته في ماله كالبالغ، ولا يجوز للملتقط أن ينفق عليه من ماله بغير اذان الحاكم، فان أنفق عليه من غير اذنه ضمنه لانه لا ولاية له عليه الا في الكفالة فلم يملك الانفاق بنفسه كالام، وان فوض إليه الحاكم أن ينفق عليه مما وجده معه فقد قال في كتاب اللقيط يجوز.

(15/287)


وقال في كتاب اللقطة: إذا انفق الواحد على الضالة ليرجع به لم يجز حتى يدفع إلى الحاكم ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه، فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى الاخرى، وجعلهما على قولين
(أحدهما)
لا يجوز لانه لا يلى بنفسه فلم يجز ان يكون وكيلا لغيره في القبض له من نفسه، كما لو كان عليه دين ففوض إليه صاحب الدين قبض ماله عليه من نفسه
(والثانى)
يجوز لانه جعل أمينا على الطفل فجاز أن ينفق عليه مما له في يده كالوصي.
ومنهم من قال: يجوز في اللقيط ولا يجوز في الضالة، لان اللقيط لا ولى له في الظاهر، فجاز ان يجعل الواحد وليا والضالة لها مالك هو ولى عليها فلا يجوز ان يجعل الواحد وليا عليها.
وان لم يكن حاكم فانفق من غير اشهاد ضمن، وان أشهد ففيه قولان

(أحدهما)
يضمن لانه لا ولاية لفضمن، كما لو كان الحاكم موجودا
(والثانى)
لا يضمن لانه موضع ضرورة، وان لم يكن له مال وجب على السلطان القيام بنفقته لانه آدمى له حرمة يخشى هلاكه، فوجب على السلطان القيام بحفظه، كالفقير الذى لا كسب له.
ومن اين تجب النفقة؟ فيه قولان
(أحدهما)
من بيت المال، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ استشار الصحابة في نفقة اللقيط فقالوا من بيت المال، ولان من لزم حفظه الانفاق ولم يكن له مال وجبت نفقته من بيت المال، كالفقير الذى لا كسب.
فعلى هذا لا يرجع على احد بما انفق عليه، والقول الثاني لا يجب مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ لا يصرف الا فيما لا وجه له غيره واللقيط يجوز ان يكون عبدا فنفقته على مولاه، أو حرا له مال أو فقيرا له من تلزمه نفقته، فلم يلزم من بيت المال.
فعلى هذا يجب على الامام أن يقترض له ما ينفق عليه من بيت المال أو من رجل من المسلمين، فان لم يكن في بيت المال ولا وجد من يقرضه جمع الامام من له مكنة وعد نفسه فيهم وقسط عليهم نفقته، فان بان أنه عبد رجع على مولاه.
وان بان أن له أبا موسرا رجع عليه بما اقترض له، فان لم يكن له أحد وله كسب رجع في كسبه.
وان لم يكن له كسب قضى من سهم من يرى من المساكين أو الغارمين.

(فصل)
واما إذا التقطه عبد فان كان باذن السيد وهو من أهل الالتقاط جاز

(15/288)


لان الملتقط هو السيد، والعبد نائب عنه وان كان بغير اذنه لم يقر في يده لانه لا يقدر على حضانته مع خدمة السيد، وان علم به السيد واقره في يده كان ذلك التقاطا من السيد، والعبد نائب عنه (الشرح) إذا وجد مع اللقيط شئ فهو له وينفق عليه منه، والى هذا ذهب
الشافعي وأحمد وأصحاب الرأى، وذلك الطفل يملك وله يد صحيحة، بدليل أنه يرث ويورث ويصح ان يشترى له وليه ويبيع، ومن له ملك صحيح فله يد صحيحة كالبالغ فإذا ثبت هذا: فكل ما كان متصلا به أو متعلقا بمنفعة فهو تحت يده ويثبت بذلك ملكا له في الظاهر، فمن ذلك ما كان لابسا له أو مشدودا في ملبوسه أو في يديه أو مجعولا فيه كالسرير والسفط وما فيه من فرش أو دراهم، والثياب التى تحته والتى عليه، وان كان مشدودا على دابة، أو كانت مشدودة في ثيابه أو كان في خيمة أو في دار فهى له.
وأما المنفصل عنه فان كان بعيدا منه فليس في يده، وان كان قريبا منه كثوب موضوع إلى جانبه ففيه وجهان.
أحدهما: ليس هو له لانه منفصل عنه فهو كالبعيد.
والثانى: هو له، وهو أصح لان الظاهر انه ترك له فهو بمنزلة ما هو تحته، ولا القريب من البالغ يكون في يده، الا ترى ان البائع الجائل يقعد في السوق ومتاعه بقربه ويحكم بأنه في يده؟ والحمال إذا جلس لاستراحة ترك حمله قريبا منه فاما المدفون تحته فقد قال بعض الفقهاء: ان كان الحفر طريا فهو له، والا فلا، لان الظاهر أنه إذا كان طريا فواضع اللقيط حفره، وإذا لم يكن طريا كان مدفونا قبل وضعه، وقيل: ليس هو له بحال، لانه بموضع لا يستحقه إذا لم يكن الحفر طريا، فلم يكن له إذا كان طريا كالبعيد منه، ولان الظاهر انه لو كان له لشده واضعه في ثيابه ليعلم به، ولم يتركه في مكان لا يطلع عليه، وكل ما حكمنا بانه ليس له فحكمه حكم اللقطة، وما هو له انفق عليه منه، فان كان كفايته لم بجب نفقته على أحد لانه ذو مال فاشبه غيره من الناس.
فإذا ثبت هذا: فان لملتقطه الانفاق عليه بإذن الحاكم، وقال أصحاب أحمد: ينفق عليه بغير اذن الحاكم ذكره أبو عبد الله بن حامد من الحنابلة.

(15/289)


قال ابن قدامة: لانه ولى له فلم يعتبر في الانفاق عليه في حقه إذن الحاكم كوصي اليتيم، ولان هذا من الامر بالمعروف فاستوى فيه الامام وغيره كتبديد الخمر.
وروى أبو الحارث عن احمد رضى الله عنه في رجل أودع رجلا مالا وغاب وطالت غيبته وله ولد ولا نفقة له، هل ينفق عليهم؟ فلم يجعل له الانفاق عليهم من غير إذن الحاكم، فقال بعض أصحاب أحمد: هذا مثله.
وقال بعضهم وهو الصحيح عندهم: إن هذا مخالف بناء على ان الملتقط له ولاية على اللقيط عندهم فيكون له ولاية أخذه وحفظه.
ولنا أن اللقيط ينبغى أن يتولى الحاكم أمره فقد يعين له من هو أوفر خبرة وأكثر صيانة والحاكم مجتهد له بصره النافذ ورأيه الصائب وهو ولى من لا ولى له فإذا أنفق عليه الملتقط من ماله الذى وجده ضمنه لانه لا حق له في الانفاق إلا بإذن الحاكم فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رواية الربيع بن سليمان في المنبوذ هو حر ولا ولاء له، وانما يرثه المسلمون بأنهم خولوا كل مال لا مالك له، ألا ترى أنهم يأخذون مال لنصراني ولا وارث له؟ ولو كانوا أعتقوه لم يأخذوا ماله بالولاء، ولكنهم خولوا مالا مالك له من الاموال اه.
وقال في اللقطة ما يفيد عدم جواز الانفاق على الضاله بقصد الرجوع به على ربها الا باذن الحاكم، ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه، ففى النص الاول جعل للمسلمين جميعا حق الولاية والارث على اللقيط وماله، وفى النص الثاني جعل ذلك باذن الحاكم، فمن أصحابنا من نقل جواب كل مسألة إلى الاخرى فجعل في اللقطة قولين وفى اللقيط قولين، فالقول بجواز اللقطه يمنعه في اللقيط، والقول بجوازه في اللقيط يمنعه في اللقطه.
فإذا لم يجد الحاكم فأشهد رجلين أو رجلا وامرأتين أو أربع نسوة ففى ضمانه قولان.
أما إذا لم يكن له مال لم يلزم الملتقط الانفاق عليه قى قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن نفقة اللقيط غير واجبه على الملتقط كوجوب نفقة الولد، وذلك لان أسباب وجوب النفقه من

(15/290)


القرابة والزوجية والملك والولاء منتفية، والالتقاط إنما هو تخليص له من الهلاك، وتبرع بحفظه فلا يوجب ذلك نفقة كما لو فعله بغير اللقيط، فإذا عرف هذا وكان نسمة يجب تعهدها بالتربية والانفاق انصرف هذا الواجب إلى بيت مال المسلمين، لقول عمر رضى الله عنه: هو حر لك ولاؤه وعلينا نفقته، وذلك لانه كالفقير الذى لا كسب فان نفقته واجبة له في بيت مال المسلمين، وذلك لان بيت المال وارثه، وماله مصروف إليه فتكون نفقته عليه كقرابته وموالاته.
فان تعذر الانفاق عليه لعدم وجود مال في بيت المال أو كان اللقيط في مكان لا تقوم فيه حكومه تنفذ شريعة الله وترعى العجزة والفقراء واللقطاء فعلى من علم حاله أن يتولى الانفاق عليه.
ويحتمل أن يقال: إنه لا يجب الانفاق عليه من بيت المال ولو كان موجودا وفيه مال، لان بيت المال إنما ينفق منه في الوجوه التى توفر على الانفاق عليها، وقد تكون أهم من هذا، واللقيط يحتمل أن يكون غنيا، ويحتمل أن يكون له أب موسر، ويحتمل أن له سيد تجب عليه نفقته.
فإذا قلنا: إنه لا يجب الانفاق عليه من بيت المال وجب على الامام أن ينظم جماعة يكون هو أحد أفرادها تتولى الانفاق عليه على سبيل الاقراض، حتى إذا ظهر له مال أو ولى شرعى موسر، أو استطاع الكسب أمكن رد ما أنفق عليه، فان لم يكن يستطع الكسب ولم يكن له ولى موسر قضى من سهم المساكين أو الغارمين، ويجرى هذا كله على اللقيط ولو حكم بكفره.
قال في النهاية: خلافا
لما في الكفاية تبعا للماوردى.
فإذا امتنع أهل القرية أو البلدة عن أن ينفقوا على اللقيط وجب على الامام قتالهم، ويفرق هنا بين كونها قرضا وفى بيت المال مجانا، بأن وضع بيت المال الانفاق على المحتاجين فلهم فيه حق مؤكد دون مال المياسير، وإذا لزمهم وزعها الامام على مياسير بلده، فان شق ذلك فعلى من يراه الامام منهم، فان استووا في نظره تخير، وهذا إن لم يبلغ اللقيط، فان بلغ فمن سهم الفقراء أو المساكين أو الغارمين كما قررنا، فان ظهر له سيد أو قريب رجع عليه وقد ضعف هذا النووي في الروضة وخالفه الشمس الرملي في النهايه.

(15/291)


وجملة هذا أن من أنفق متبرعا فلا شئ له سواء كان الملتقط أو غيره، وإن تبرع بالانفاق عليه فأنفق عليه الملتقط أو غيره محتسبا بالرجوع عليه إذا أيسر وكان ذلك بأمر الحاكم لزم اللقيط ذلك إذا كانت النفقة قصدا بالمعروف، وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأى وان أنفق بغير أمر الحاكم محتسبا بالرجوع عليه فقد قال الشافعي ومالك والثوري والاوزاعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشعبى وابن المنذر: هو متبرع.
وقال أحمد بن حنبل: تؤدى النفقة من بيت المال، وقال شريح والنخعي يرجع عليه بالنفقة إذا أشهد عليه.
وقال بن عبد العزيز: يحلف ما أنفق احتسابا، فإن حلف استسعى والاصل عند القائلين بالرجوع أنه أدى ما وجب على غيره فكان له الرجوع على من كان الوجوب عليه كالضامن إذا قضى عن المضمون عنه.
هذا وما بقى من كلام المصنف فعلى وجهه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان التقطه كافر نظرت، فإن كان اللقيط محكوما بإسلامه لم يقر في يده، لان الكفالة ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم، ولانه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه، وان كان محكوما بكفره أقر في يده لانه على دينه، وان التقطه فاسق لم يقر في يده، لانه لا يؤمن أن يسترقه، وأن يسئ في تربيته، ولان الكفالة ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية
(فصل)
وان التقطه ظاعن يريد أن يسافر به نظرت، فان لم تختبر أمانته في الباطن، يقر في يده، لانه لا يؤمن أن يسترقه إذا غاب، وان اختبرت أمانته في الباطن، فان كان اللقيط في الحضر والملتقط من أهل البدو ويريد أن يخرج به إلى البدو منع منه، لانه ينقله من العيش في الرخاء إلى العيش في الشقاء، ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء.
وفى الخبر (من بدا فقد جفا) وان أراد أن يخرج به إلى بلد آخر ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، وهو ظاهر النص، لان البلد كالبلد
(والثانى)
لا يجوز، لان البلد الذى وجد فيه أرجى لظهور نسبه فيه.

(15/292)


وإن كان الملتقط في بدو، فإن كان الملتقط من أهل الحضر وأراد أن يخرج به إلى الحضر جاز، لان الحضر أرفق به وأنفع له، وإن كان من البادية فإن كانت حلته في مكان لا ينتقل عنه أقر في يده، لان الحلة كالقرية، وإن كان يظعن في طلب الماء والكلا ففيه وجهان
(أحدهما)
يقر في يده لانه أرجى لظهور نسبه.

(والثانى)
لا يقر في يده لانه يشقى بالتنقل في البدو.

(فصل)
وإن التقطه فقير ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقر في يده لانه لا يقدر على القيام بحضانته، وفى ذلك إضرار باللقيط
(والثانى)
يقر في يده لان الله تعالى يقوم بكفاية الجميع.
(الشرح) حديث (من بدا فقد جفا) رواه أحمد في المسند عن البراء بن عازب
بلفظ (من بدا جفا) ورواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود بلفظ (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن) وإسناد أحمد صحيح، وفى إسناد الطبراني نظر أما اللغات فقوله: ظاعن فاعل ظعن وبابه نفع، أي ارتحل ويتعدى بالهمزة وبالحرف، فيقال أظعنته وظعنت به، فهو ظاعن للفاعل ومظعون للمفعول، والاصل مظعون به ولكن حذفت الصله لكثرة الاستعمال، وباسم المفعول سمى الرجل، ويقال للمرأة ظعينة فعيلة بمعنى مفعولة، لان زوجها يظعن بها، ويقال الظعينة الهودج، وسواء كان فيه امرأة أم لا، والجمع ظعائن وظعن بضمتين.
ويقال الضعينة في الاصل وصف المرأة في هودجها، سميت بهذا الاسم وإن كانت في بيتها.
قال تعالى (ويوم ظعنكم ويوم إقامتكم) قوله: ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء.
المنشأ بالهمز مقصور، وهو موضع النشوء وزمان الحداثة، يقال نشأت في بنى فلان إذا شببت فيهم، مأخوذ من أنشاء الله له، أي ابتداء خلقه.
وقوله صلى الله عليه وسلم (من بدأ جفا) أي من نزل البادية صار فيه جفاء الاعراب، والجفاء ممدود وهو ضد البر، يقال جفوت الرجل أجفوه، ولا يقال جفيت.
وهو مأخوذ من جفاء السيل، وهو ما نفاه السيل، والحلة المنزل ينزله القوم وحيث يحلون.

(15/293)


أما الاحكام فإنه ليس لكافر التقاط مسلم لانه لا ولاية لكافر على مسلم، ولانه لا يؤمن أن يفتنه ويلقنه الكفر، بل الظاهر أنه يربيه على ملته وينشأ على ذلك كولده، فإن التقطه فلا يقر في يده، وإن كان الطفل محكوما بكفره فله التقاطه لان الذين كفروا بعضهم أولياء بعض.
أما إذا التقطه من هو مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة
أقر اللقيط في يديه، لان حكمه حكم العدل في لقطة المال والولاية في النكاح والشهادة فيه وفى أكثر الاحكام، ولان الاصل في المسلم العدالة، ولذلك قال عمر رضى الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض، فان أراد أن يسافر بلقطته فانه لا يقر في يديه، وهذا هو مذهبنا، لانه لم تتحقق أمانته فلم تؤمن خيانته، وهذا أحد الوجهين عند الحنابله.
والوجه الثاني عندهم يقر فأما من عرفت عدالته واتضحت أمانته، فيقر اللقيط في يده في سفره وحضره لانه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة، فإذا كان سفر الامين باللقيط إلى مكان يقيم به نظرت فان كان التقطه من الحضر فأراد النقل به إلى البادية لم يقر في يده لوجهين:
(أحدهما)
أن مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه وأرفه له
(والثانى)
أنه إذا وجد في الحضر فالظاهر أنه ولد فيه فبقاؤه فيه أرجى لكشف نسبه وظهور أهله واعترافهم به، النقلة به من بلد الحضر ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص، وهو أحد الوجهين عند الحنابله: يقر في يده لان ولايته ثابتة، والبلد الثاني كالبلد الاول في الرفاهية فيقر في يده، كما لو انتقل من أحد أقسام البلد إلى قسم آخر، وفارق المنتقل به إلى البادية لانه يضر به بتفويت الرفاهية عليه وان التقطه من البادية فله نقله إلى الحضر لانه ينقله من أرض البؤس والشقاء إلى الرفاهية والدعة والدين (الثاني) لا يقر في يده، ولان بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه فلم يقر في يد المنتقل عنه قياسا على المنتقل به إلى الباديه، وان أقام به في حلة يستوطنها، فله ذلك، وان كان ينتقل به إلى المواضع أحتمل أن يقر في يديه، لان الظاهر

(15/294)


أنه أبن بدويين وإقراره في يدى ملتقطه أرجى لكشف نسبه، ويحتمل أن يؤخذ منه فيدفع إلى صاحب قرية لانه أرفه له وأخف عليه وكل موضع قلنا ينزع من ملتقطه فإنما يكون ذلك إذا وجد من يدفع إليه ممن هو أولى به، فإن لم يوجد من يقوم به أقر في يدى ملتقطه، لان إقراره في يديه مع قصوره أولى من إهلاكه، وإن لم يوجد إلا مثل ملتقطه فملتقطه أولى به.
إذ لا فائدة في نزعه من يده، ودفعه إلى مثله.
(فرع)
إذا التقطه فقير فإن قلنا إنه لا يقدر على حضانته من حيث ضعف الامكانيات اللازمة لحياة الطفل من الامور التى تخرج من الانفاق، إذ أن الانفاق لا يلزم الملتقط كما قررنا قبل، كأن كان مسكنه غير صحي لا تتوفر فيه وسائل التهوية ولا أسباب الوقاية والنظافة، فعلى هذا الوجه لا يقر في يده، وإن قلنا بأن الامور تجرى بضمان الله وكفالته، وأن الله تعالى تكفل بحفظه إذا شاء، وأن الاسباب الضرورية للحياة التى ينشأ عليها ابناء الفقراء مألوفة عندهم ويشبون عليها وتبنى فيها أجسامهم كأقوى ما تبنى الاجسام، وقد رأينا بالحس والمشاهدة ما يتمتع به أبناء الفقراء من مناعة ضد الامراض مع الكفاف في العيش، وذلك من رعاية الله تعالى لخلقه، فعلى هذا الوجه يقر في يده وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن تنازع في كفالته نفسان من أهل الكفالة قبل أن يأخذاه، أخذه السلطان وجعله في يد من يرى منهما أو من غيرهما، لانه لا حق لهما قبل الاخذ ولا مزية لهما على غيرهما، فكان الامر فيه إلى السلطان.
وإن التقطاه وتشاحا أقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة أقر في يده.
وقال أبو على بن خيران: لا يقرع بينهما، بل يجتهد الحاكم فيقره في يد من هو أحظ له، والمنصوص هو الاول لقوله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون
أقلامهم أيهم يكفل مريم) ولانه لا يمكن أن يجعل في أيديهما، لانه لا يمكن أجتماعهما على الحضانة، ولا يمكن أن يجعل بينهما مهايأة، لانه تختلف عليه الاخلاق والاغذية فيستضر، ولا يمكن أن يقدم أحدهما لانهما متساويان في

(15/295)


سبب الاستحقاق، ولا يمكن أن يسلم إلى غيرهما، لانه قد ثبت لهما حق الالتقاط فلا يجوز اخراجه عنهما فأقرع بينهما.
كما لو أراد أن يسافر بإحدى نسائه، وان ترك أحدهما حقه من الحضانة ففيه وجهان
(أحدهما)
يدفع إلى السلطان فيقره في يد من يرى، لان الملتقط لا يملك غير الحفظ.
فأما إقرار اللقيط في يد غيره فليس ذلك إليه، ولهذا لو انفرد بالالتقاط لم يملك أن ينقله إلى غيره.

(والثانى)
وهو المذهب أنه يقر في يد الآخر من غير اذن السلطان، لان الحضانة بحكم الالتقاط لا تفتقر إلى اذن السلطان، ولهذا لو انفرد كل واحد منهما بالالتقاط ثبت له الحضانة من غير اذن، فإذا اجتمعا وترك أحدهما حقه ثبت للآخر كالشفعة بين شفيعين.

(فصل)
فاما إذا اختلفا في الالتقاط فادعى كل واحد منهما انه الملتقط ولم تكن بينة، فان لم يكن لاحدهما عليه يد أقره السلطان في يد من يرى منهما أو من غيرهما، لانه لاحق لهما، وان كان في يد احدهما فالقول قوله مع يمينه لان اليد تشهد له.
وان كان في يدهما تحالفا، فان حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين يقرع بينهما على المذهب، وعلى قول أبى على بن خيران يقره الحاكم في يد من هو أحظ له، فان كان لاحدهما بينة قضى له، لان البينة اقوى من اليد والدعوى، وان كان لكل واحد منهما بينة، فان كانت بينة أحدهما اقدم تاريخا قضى له، لانه قد
ثبت له السبق إلى الالتقاط، وان لم تكن بينة أحدهما أقدم تاريخا فقد تعارضت البينتان، ففى أحد القولين تسقطان فيصيران كما لو لم تكن بينة، وقد بيناه، وفى القول الثاني تستعملان، وفى الاستعمال ثلاثة أقوال (أحدها) القسمة
(والثانى)
القرعة (والثالث) الوقف.
ولا يجئ ههنا الا القرعة لانه لا يمكن قسمة اللقيط بينهما.
ولا يمكن الوقف، لان فيه اضرارا باللقيط فوجبت القرعة.

(15/296)


(الشرح) الاحكام: إذا تنازع كفالته اثنان من غير أهل الكفالة لفسقهما أو رقهما مع كونهما غير مأذونين من سيديهما فانه لا يقر في يدى واحد منهما: وينزع منهما ويسلم إلى غيرهما: فإذا كانا من أهل الكفالة، وان كل واحد منهما ممن يقر في يده لو انفرد، الا أن أحدهما احظ للقيط من الاخر، مثل أن يكون احدهما موسرا والاخر معسرا فالموسر أحق لان ذلك أحظ للطفل، وان التقط مسلم وكافر طفلا محكوما بكفره، فقد قال أصحابنا وأصحاب أحمد: هما سواء، لان للكافر ولاية على الكافر، ويقر في يده إذا انفرد بالتقاطه، فساوى المسلم في ذلك، ولابن قدامة الحنبلى رأى في مخالفته مذهبه بقوله: ان دفعه إلى المسلم احظ له، لانه يصير مسلما فيسعد في الدنيا والاخرة، وينجو من النار، ويتخلص من الجزية والصغار، فالترجيح بهذا أولى من الترجيح باليسار الذى انما يتعلق به توسعة عليه في الانفاق، وقد يكون الموسر بخيلا فلا تحصل التوسعة، فان تعارض الترجيحان فكان المسلم فقيرا والكافر موسرا فالمسلم أولى، لان النفع الحاصل له باسلامه أعظم من النفع الحاصل بيساره مع كفره.
قال: وعلى قياس قولهم في تقديم الموسر ينبغى أن يقدم الجواد على البخيل، لان حظ الطفل عنده اكثر من الجهة التى يحصل له الحظ فيها باليسار، وربما تخلق باخلاقه
وتعلم من جوده.
فإذا تساويا في كونهما مسلمين عدلين حرين مقيمين فهما سواء فيه فان ضى احدهما باسقاط حقه وتسليمه إلى صاحبه جاز، لان الحق له فلا يمنع من الايثار به، وان تشاحا أقرع بينهما لقول الله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) ولانه لا يمكن كونه عندهما، لانه لا يمكن ان يكون عندهما في حاله واحدة، وان تهايأة فجعل عندكل واحد يوما أو اكثر من ذلك اضر بالطفل لانه تختلف عليه الاغذية والانس والالف، ولا يمكن دفعه إلى احدهما دون الاخر بغير قرعة لان حقهما متساو، فتعيين أحدهما بالتحكم لا يجوز فتعين الاقراع بينهما، كما يقرع بين الشركاء في تعيين السهام في القسمة وبين النساء في البداية بالقسمة وبين العبيد في الاعناق، والرجل مقدم على المرأة عندنا على الاصح

(15/297)


وهما سواء عند احمد وأصحابه، ولا ترجح المرأة هنا كما ترجح في حضانة ولدها على ابيه لانها رجحت هناك لشفقتها على ولدها وتوليها لحضانته بنفسها، والاب يحضنه باجنبية، فكانت أمه أحظ له وأرفق به، أما ههنا فانها أجنبية من اللقيط والرجل يحضنه بأجنبية فاستويا على القول بالتساوى، أو رحج الرجل على الاصح فان كان احدهما مستور الحال والاخر ظاهر العدالة رجح السلطان العدل على المستور، لان المانع من الالتقاط منتف في حقه والاخر مشكوك فيه، فيكون الحظ للطفل في تسليمه إليه أثم، ويحتمل أن يساوى السلطان بينهما بالقرعة لان احتمال وجود المانع لا يؤثر في المنع فلا يؤثر في الترجيح، والامر متروك إلى اجتهاد الحاكم الذى ليس له أن يسلم إلى ثالث لم يثبت له حق الالقاط.
وقال أبو على بن خيران: يجتهد الحاكم في اختيار الاحظ للطفل والاجدى عليه والاحفظ وليس له أن يقرع بينهما وليس هذا بالمذهب بل المذهب الاقراع
(فرع)
وان رأياه جميعا فسبق أحدهما فأخذه أو وضع يده عليه فهو أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) وان رآه أحدهما قبل صاحبه فسبق إلى أخذه الآخر، فالسابق إلى أخذه أحق، لان الالتقاط هو الاخذ لا الرؤية، ولو قال أحدهما لصاحبه: ناولنيه، فأخذه الآخر نظرت إلى نيته، فان نوى أخذه لنفسه فهو أحق به، كما لو لم يأمره الاخر بمناولته أياه، وان نوى مناولته فهو للآمر لانه فعل ذلك بنية النيابة عنه، فأشبه ما لو توكل له في تحصيل مباح.
فان اختلفا فقال كل واحد منهما: أنا التقطته ولا بينة لاحدهما، وكان في يد أحدهما، فالقول قوله مع يمينه أنه التقطه، وهذا هو المذهب عند أصحاب أحمد كما ذكره أبو الخطاب، وقد خالفه القاضى وجعل قياس مذهب أحمد أنه لا يحلف كما في الطلاق والنكاح.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم، فان كان في يديهما تحالفا فان حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين ويقرع السلطان بينهما على المذهب.

(15/298)


وقال أبو على بن خيران مقالته في الفرع قبله لا قرعة بينهما بل يجتهد الحاكم في اختيار أحدهما ممن هو أحظ للطفل، فإن كان لاحدهما بينة قضى له، وإن كان لكل منهما بينة نظرت في أقدم البينتين تاريخا وقضيت لصاحبها، فإذا استوى تاريخهما أو أطلقتا معا، أو أرخت إحداهما وأطلقت الاخرى فقد تعارضتا، وهل تسقطان؟ أو تستعملان؟ فيه قولان عندنا وجهان عند أصحاب أحمد،
(أحدهما)
تسقطان فيصيران كمن لا بينة لهما فيقرع بينهما.

(والثانى)
تستعملان، وفى الاستعمال ثلاثة أقوال.
أحدها: القسمة
واستعمال القسمة بين المتداعيين إذا جاز في المال فلا سبيل إليه ههنا.
والثانى: الاقراع بينهما.
والثالث: الوقف وفى الوقف إضرار باللقيط، وليس اللقيط مما يجوز وقفه فلا مناص من الاقراع فوجبت القرعة بينهما، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وإن ادعى حر مسلم نسبه لحق به وتبعه في الاسلام، لانه يقر له بحق لا ضرر فيه على أحد فقبل كما لو أقر له بمال، وله أن يأخذه من الملتقط لان الوالد أحق بكفالة الولد من الملتقط، وإن كان الذى أقر بالنسب هو الملتقط فالمستحق أن يقال له: من أين صار ابنك؟ لانه ربما اعتقد أنه بالالتقاط صار أباله، وإن ادعى نسبه عبد لحق به ن لان العبد كالحر في السبب الذى يلحق به النسب، ولا يدفع إليه لانه لا يقدر على حضانته لاشتغاله بخدمة مولاه، وان ادعى نسبه كافر لحق به، لان الكافر كالمسلم في سبب النسب، وهل يصير اللقيط كافرا؟ قال في اللقيط: أحببت أن أجعله مسلما.
وقال في الدعوى والبينات: أجعله مسلما، فمن أصحابنا من قال: إن أقام البينة حكم بكفره قولان واحدا، وإن لم تقم البينة ففيه قولان.

(أحدهما)
يحكم بكفره لانا لما حكمنا بثبوت نسبه فقد حكما بأنه ولد على فراشه (والقول الثاني) يحكم بإسلامه لانه محكوم بإسلامه بالدار فلا يحكم بكفره يقول كافر.
وقال أبو إسحاق: الذى قال في اللقيط أراد به إذا ادعاه وأقام البينه

(15/299)


عليه، لانه قد ثبت بالبينه أنه ولد على فراش كافر، والذى قال في الدعوى والبينات أراد إذا ادعاه من غير بينه لانه محكوم باسلامه بظاهر الدار، فلا يصير كافرا بدعوى الكافر، وهذا الطريق هو الصحيح لانه نص عليه في الاملاء.
وإذا قلنا انه يتبع الاب في الكفر فالمستحق أن يسلم إلى مسلم إلى أن يبلغ احتياطا
للاسلام، فان بلغ ووصف الكفر أقررناه على كفره، وان وصف الاسلام حكمنا باسلامه من وقته.

(فصل)
وان ادعت امرأة نسبه ففيه ثلاثة أوجه.
أحدها: يقبل لانها أحد الابوين، فقيل اقرارها بالنسب كالاب.
والثانى: لا يقبل وهو الظاهر النص لانه يمكن اقامة البينه على ولادتها من طريق المشاهدة، فلا يحكم فيها بالدعوى بخلاف الاب، فانه لا يمكن اقامة البينه على ولادته من طريق المشاهدة، فقبلت فيه دعواه، ولهذا قلنا: انه إذا قال لامرأته: ان دخلت الدار فأنت طالق، لم يقبل قولها في دخول الدار الا ببينه، ولو قال لها: ان حضت فأنت طالق، قبل قولها في الحيض من غير بينه، لما ذكرناه من الفرق، فكذلك ههنا.
والثالث: ان كانت فراشا لرجل لم يقبل قولها، لان اقرارها يتضمن الحاق النسب بالرجل وان لم تكن فراشا قيل لانه لا يتضمن الحاق النسب بغيرها.
(الشرح) اللغه: الدعوى، ودعواه ودعواها كلها بكسر الدال.
قال الازهرى: الدعوة بالكسر ادعاء الولد الدعى غير أبيه، يقال: الدعى بين الدعوة بالتكسر إذا كان يدعى إلى غير أبيه أو يدعيه غير أبيه فهو بمعنى فاعل من الاول وبمعنى مفعول من الثاني.
وعن الكسائي: لى في القوم دعوة أي قرابه واخاه، والدعوة بالفتح في الطعام اسم من دعوت الناس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك، يقال: نحن في دعوة فلان ومدعاته ودعائه بمعنى.
قال أبو عبيد: وهذا كلام أكثر العرب الا عدى الرباب فانهم يعكسون ويجعلون الفتح في النسب والكسر في الطعام، ودعوى فلان كذا أي قوله: وادعيت الشئ تمنيته، وادعيته طلبته لنفسي والاسم الدعوى.
أما الاحكام: فانه إذا ادعى نسبه فلا تخلو دعوى النسب من قسمين.

(15/300)


أحدهما: أن يدعيه واحد ينفرد بدعواه فينظر، فإن كان المدعى رجلا مسلما حرا لحق نسبه به بغير خلاف بين أهل العلم إذا أمكن ان يكون منه، لان الاقرار محض نفع للطفل لاتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه، فقبل كما لو أقر له بمال ثم إن كان المقر به ملتطة أقر في يده، إلا أن المستحق أن يناقش كيف صار ابنك لانه قد يعتقد أنه بالالتقاط يصير أبا له، والله يقول (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) .
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه.
وإذا التقط مسلم لقيطا فهو حر مسلم ما لم يعلم لابويه دين غير دين الاسلام، فإذا أقر به نصراني ألحقناه به وجعلناه مسلما لان اقراره به ليس يعلم منا أنه كما قال، فلا نغير الاسلام إذا لم نعلم الكفر.
اه من الدعوى والبينات من الام.
وقال في كتاب اللقيط من الام.
سئل أبو حنيفة رحمه الله عن الصبى يسبى وأبوه كافر وقعا في سهم رجل ثم مات أبوه وهو كافر ثم مات الغلام قبل أن يتكلم بالاسلام فقال لا يصلى عليه، وهو على دين أبيه لانه لا يقر بالاسلام.
وقال الاوزاعي: مولاه أولى من أبيه يصلى عليه.
وقال لو لم يكن معه أبوه ن وخرج أبوه مستأمنا لكان لمولاه أن يبيعه من أبيه.
وقال أبو يوسف إذا لم يسب معه أبوه صار مسلما، ليس لمولاه أن يبيعه من أبيه إذا دخل بأمان، وهو ينقض قول الاوزاعي: انه لا بأس أن يبتاع السبى ويرد إلى دار الحرب في مسألة قبل هذا، فالقول في هذا ما قال أبو حنيفة إذا كان معه أبواه أو أحدهما فهو مسلم اه.
(قلت) إذا ادعى نسبه اثنان فصاعدا نظرت، فإذا ادعاه مسلم وكافر أو حر وعبد فهما سواء، وهذا هو مذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما.
وقال أبو حنيفة المسلم أولى من الذمي والحر أولى من العبد، لان على اللقيط ضررا إذا
ألحق بالعبد والذمى، فكان الحاقه بالحر المسلم أولى، كما لو تنازعوا في الحضانة.
ولنا أن كل واحد لو انفرد صحت دعواه، فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى كالاحرار المسلمين، وما ذكروه من الضرر لا يتحقق، فاننا لا نحكم برقه

(15/301)


ولا كفره، ولا يشبه النسب الحضانة، بدليل أننا نقدم في الحضانة الموسر والحضرى ولا نقدمهما في دعوى النسب.
وجعل الامام الشافعي رضى الله عنه التسليم للنصراني بدعواه بنوة اللقيط لا يعد تسليما للقيط بالكفر، بل نجعله مسلما حتى نعلم الكفر.
وهذا احد قوليه فمن أصحابنا من قال: إن اقام الذمي البينة حكمنا بكفره قولا واحدا، كقوله في الاخذ بقول أبى حنيفة مما سقناه عنه.
وإن لم تقم بينة ففيه قولان
(أحدهما)
إن الحكم بثبوت النسب من الكافر حكم بكفره على طريق التبع والضمن، لانه ولد على فراشه.

(والثانى)
لان غلبة دار الاسلام أقوى من دعوى النسب التى يدعيها الكافر وكل لقيط في دار الاسلام هو مسلم، فلا يحكم بكفره بقول كافر.
وذهب أبو إسحاق المروزى في قولى الشافعي إلى تخريجهما وجهين للمسألة لا قولين، بأن الكفر بكفره يتبع البينة للذى ادعاه من الكفار، فإذا ثبت أنه ولد على فراش الكفر قضينا بكفره والحقناه بصاحب البينة، وأنه إذا لم يقيم بينة حكمنا بإسلامه وهذا هو توجيه ما في الدعوى والبينات من الام، وفى هذا التخريج ما يؤيده من قوله في الاملاء قال النووي في المنهاج: ومن حكم بإسلامه بالدار فأقام ذمى بينة بنسبه لحقه وتبعه في الكفر.
وقال الزركشي: وكذلك المعاهد والمؤمن.
وقال الرملي: فارتفع ما ظنناه من إسلامه، لان الدار حكم باليد، والبينة أقوى من اليد المجردة
وتصور علوقه من مسلم بوطئ شبهة أمر نادر لا يعول عليه مع البينة.
قال وإن اقتصر الكافر على الدعوى بأنه ابنه ولا حجة له فالمذهب أنه لا يتبعه في الكفر وان لحقه في النسب، لانا حكمنا بإسلامه فلا نغيره بدعوى كافر مع إمكان تلك الشبهة النادرة.
والطريق الثاني: فيه قولان ثانيهما يتبعه في الكفر كالنسب، وجعل الماوردى محل الخلاف ما إذا استلحقه قبل أن يصدر منه صلاة أو صوم، فإن صدر منه ذلك لم يغير عن حكم الاسلام قطعا، وسواء اقلنا بتبعيته في الكفر أم لا يحال بينهما كما يحال بين أبوى مميز وصف الاسلام وبينه

(15/302)


قال في الكفاية وقضية اطلاقهم وجوب الحيلولة بينهما إن قلنا بعدم تبعيته له في الكفر، لكن في المهذب انه يستحق تسلميه لمسلم، فإذا بلغ ووصف الكفر، فان قلنا بالتبعية قرر لكن هذا التقرير يهدده لعله يسلم ن وإلا ففى تقريره ما سبق من الخلاف.
(فرع)
إذا كان المدعى امرأة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو أحد الروايات عن أحمد رضى الله عنه أن دعواها تقبل ويلحقها نسبه لانها أحد الابوين، فيثبت النسب بدعواها كالاب، ولانه يمكن أن يكون منها كما يكون ولد الرجل بل أكثر، لانها تأتى به من زوج ووطئ بشبهة ويلحقها ولدها من الزنا دون الرجل، ولان في قصة داود وسليمان في المرأتين كان لهما بنان فذهب الذئب بأحدهما فادعت كل واحدة منهما أن الباقي ابنها وأن الذى أخذه الذئب ابن الاخرى فحكم به داود للكبرى وحكم به سليمان للاخرى بمجرد الدعوى منهما فعلى هذا الوجه يلحق بها دون زوجها، لانه لا يجوز أن يلحقه نسب ولد لم يقر به، وكذلك إذا ادعى الرجل نسبه لم يلحق بزوجته.
فان قيل الرجل يمكن
أن يكون له ولد من امرأة أخرى أو من أمته، والمرأة لا يحل لها نكاح غير زوجها ولا يحل وطؤها لغيره، قلنا يمكن أن تلد من وطئ شبهة أو غيره، وإن كان الولد يحتمل أن يكون موجودا قبل أن يتزوجها هذا الزوج أمكن أن يكون من زوج آخر.
فان قيل إنما قبل الاقرار بالنسب من الزوج لما فيه من المصلحة بدفع العار عن الصبى وصيانته عن النسبة إلى كونه ولد زنا، ولا يحصل هذا بالحاق نسبه بالمرأة، بل الحاقه بها دون زوجها تطرق للعار إليه واليها.
قلنا بل قبلنا دعواه لانه يدعى حقا لا منازع له فيه، ولا مضرة على أحد فيه فقبل قوله فيه كدعوى المال، وهذا متحقق في دعوى المرأة.
والوجه الثاني وهو رواية ثانيه عن أحمد رضى الله عنه نقلها الكوسج عنه في امرأة ادعت ولدا، ان كان لها اخوة أو نسب معروف لا تصدق الا ببينه وان لم يكن لها دافع لم يحل بينها وبينه، لانه إذا كان لها أهل وتسب معروف لم تخف ولادتها عليهم، يتضررون بالحاق النسب بها لما في من تعييرهم

(15/303)


بولادتها من غير زوجها، وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل، ويحتمل أن لا يثبت النسب بدعواها بحال، وهذا قول الثوري والشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن النسب لا يثبت بدعوى المرأة، لانها يمكنها إقامة البينة على الولادة، فلا يقبل قولها بجرده، كما لو علق زوجها طلاقها بولادتها.
أما كيف تكون البينة؟ فقد قال الشافعي رضى الله عنه: لا يجوز على الولادة ولا شئ مما تجوز فيه شهادة النساء مما يغيب عن الرجال إلا أربع نسوة عدول من قبل أن الله عز وجل حيث أجاز الشهادة انتهى بأقلها إلى شاهدين أو
شاهد وامرأتين، فأقام الثنتين من النساء مقام رجل حيث أجازهما، فإذا أجاز المسلمون شهادة النساء فيما يغيب عن الرجال لم يجز والله أعلم ان يجيزوا إلا على أصل حكم الله عز وجل في الشهادات، فيجعلون كل امرأتين يقومان مقام رجل، وإذا فعلوا لم يجز إلا أربع.
وهكذا المعنى في كتاب الله عز وجل وما أجمع عليه المسلمون.
أخبرنا مسلم عن ابن جريح عن عطاء أنه قال في شهادة النساء على الشئ من أمر النساء لا يجوز فيه أقل من أربع.
وقد قال غيرنا تجوز فيه واحدة لانه من موضع الاخبار كما تجوز الواحدة في الخبر، لا أنه من موضع الشهادة، ولو كان من موضع الشهادات ما جاز عدد من النساء وإن كثرن على شئ إلى أن قال قال: فإنا روينا عن على رضى الله عنه أنه أجاز شهادة القابلة وحدها.
قلت: لو ثبت هذا عن على صرنا إليه إن شاء الله تعالى، ولكنه لا يثبت عندكم ولا عندنا عنه.
وهذا لا من جهة ما قلنا من القياس على حكم الله ولا من جهة قبول خبر المرأة، ولا أعرف له معنى.
قلت إذا ثبت هذا في وجب البينة لما يمكن أن تقوم عليه بينة كالولادة للقيط المدعى أو للمعلق طلاقها على دخول الدار في المجئ ببينة على دخول الدار، وفارق الحيض فإنه من الاعراض الخفية التى يقبل فيها الاقرار ولا يطالب فيها بالبينة لنعذرها أو استحالتها.
والوجه الثالث وهو الرواية الثالثة عن أحمد رضى الله عنه أنها ان كان لها زوج لم يثبت النسب بدعواها لافضائه إلى إلحاق النسب بزوجها

(15/304)


بغير إقراره ولا رضاه، أو إلى أن امرأته وطئت بزنا أو شبهة وفى ذلك ضرر عليه فلا يقبل قولها فيما يلحق الضرر به، وان لم يكن لها زوج قبلت دعواها لعدم هذا الضرر.
والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن تداعى نسبه رجلان لم يجز إلحاقه بهما، لان الولد لا ينعقد من اثنين، والدليل عليه قوله تعالى (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) فإن لم يكن لواحد منهما بينة عرض الولد على القافة، وهم قوم من بنى مدلج من كنانة، فإن ألحقته بإحدهما لحق به لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرف السرور في وجهه فقال: ألم ترى إلى مجزز المدلجى نظر إلى أسامة وزيد وقد غطيا رؤسهما، وقد بدت أقدامهما فقال: إن هذه الاقدام بعضها من بعض) فلو لم يكن ذلك حقا لما سر بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَلْ يجوز أن يكون من غير بنى مدلج؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجوز لان ذلك ثبت بالشرع، ولم يرد الشرع إلا في بنى مدلج
(والثانى)
أنه يجوز وهو الصحيح، لانه علم يتعلم ويتعاطى، فلم تختص به قبيلة كالعلم بالاحكام، وهل يجوز أن يكون واحدا؟ فيه وجهان.
أحدهما: أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سر بقول مجزز المدلجى وحده ولانه بمنزلة الحاكم لانه يجتهد ويحكم كما يجتهد الحاكم ثم يحكم.
والثانى: لا يجوز أقل من اثنين لانه حكم بالشبه في الخلقة فلم يقبل من واحد كالحكم في المثل في جزاء الصيد.
ولا يجوز أن يكون امرأة ولا عبدا كما لا يجوز أن يكون الحاكم إمرأة ولا عبدا ولا يقبل الا قول من جرب وعرف بالقيافة حذقه كما لا يقبل في الفتيا الا قول من عرف في العلم حذقه، وان ألحقته بهما أو نفته عنهما أو أشكل الامر عليها أو لم تكن قافه ترك حتى يبلغ، ويؤخذان بالنفقة عليه، لان كل واحد منهما يقول: أنا الاب وعلى نفقته، فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ للغلام الذى ألحقته القافة بهما: وال أيهما شئت، ولان الولد يجد لوالده مالا يجد لغيره، فإذا تعذر العمل بقول
القافة رجع إلى اختيار الولد، وهل يصح أن ينتسب إذا صار مميزا ولم يبلغ؟ فيه وجهان

(15/305)


(أحدهما)
يصح كما يصح أن يختار الكون مع أحد الابوين إذا صار مميزا.

(والثانى)
لا يصح لانه قول يتعين به النسب ويلزم الاحكام به، فلا يقبل من الصبى، ويخالف اختيار الكون مع أحد الابوين، لان ذلك غير لازم، ولهذا لم اختار أحدهما ثم انتقل إلى الاخر جاز، ولا يجوز ذلك في النسب، وان كان لاحدهما بينه قدمت على القافة، لان البينة تخبر عن سماع أو مشاهدة والقافة تخبر عن اجتهاد، فان كان لكل واحد منهما بينه فهما متعارضتان لانه لا يجوز أن يكون الولد من اثنين، ففى أحد القولين يسقطان ويكون كما لو لم تكن بينة، وقد بيناه، وفى الثاني تستعملان، فعلى هذا هل يقرع بينهما، فيه وجهان.
أحدهما: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة قضى له، لانه لا يمكن قسمة الولد بينهما، ولا يمكن الوقف، لان فيه اضرارا باللقيط فوجبت القرعة.
والثانى: لا يقرع، لان معنا ما هو أقوى من القرعة وهو القافة، فعلى هذا يصير كما لو لم يكن لهما بينة، وليس في موضع تسقط الاقوال الثلاثة في استعمال البينتين الا في هذا الموضع على هذا المذهب.
وان تداعت امرأتان نسبه وقلنا: انه يصح دعوى المرأة ولم تكن بينة، فهل يعرض على القافة، فيه وجهان
(أحدهما)
يعرض، لان الولد يأخذ الشبه من الام كما يأخذ من الاب، فإذا جاز الرجوع إلى القافة في تمييز الاب من غيره بالشبه جاز في تمييز الام من غيرها
(والثانى)
لا يعرض لان الولد يمكن معرفة أمه يقينا فلم يرجع فيه إلى القافة بخلاف الاب فانه لا يمكن معرفته الا ظنا فجاز أن يرجع فيه إلى الشبه.

(فصل)
وان ادعى رجل رق اللقيط لم يقبل الا ببينه، لان الاصل هو
الحرية فان شهدت له البينه نظرت، فان شهدت له بأنه ولدته أمته فقد قال في اللقيط: جعلته له.
وقال في الدعوى والبينات: أن شهدت له بأنه ولدته أمته في في ملكه جعلته له، فمن أصحابنا من قال يجعل له قولا واحدا، وان لم تقل ولدته في ملكه، وما قال في الدعوى والبينات ذكره تأكيدا لا شرطا لان ما تأتى به أمته من غيره لا يكون الا مملوكا له.

(15/306)


ومنهم من قال: فيه قولان
(أحدهما)
يجعل له لما بيناه
(والثانى)
لا يجعل له لانه يحتمل أن تكون الامة ولدته قبل أن يملكها ثم ملكها فلم يملك ولدها وان شهدت له البينة بالملك ولم تذكر سبب الملك، ففيه قولان.
أحدهما: يحكم له كما يحكم له إذا شهدت له بملك مال، وإن لم نذكر سببه.
والثانى: لا يحكم لان البينة قد تراه في يده فتشهد بأنه عبده بثبوت يده عليه بالالتقاط أو غيره، وإن شهدت البينة له باليد، فإن كان المدعى هو الملتقط لم يحكم له لانه قد عرف سبب يده وهو الالتقاط، ويد الالتقاط لا تدل على الملك.
فلم يكن للشهادة تأثير.
وان كان المدعى غيره، ففيه قولان.

(أحدهما)
يحكم له مع اليمين لان اليد قد ثبتت، فإذا حلف حكم له كما لو كان في يده مال فحلف عليه
(والثانى)
لا يحكم له لان ثبوت اليد على اللقيط لا تدل على الملك لان الظاهر الحرية.
(الشرح) حديث عائشة رضى الله عنها متفق عليه بلفظ (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم ترى إلى مجزز المدلجى نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامه بن زيد فقال: هذه الاقدام بعضها من بعض) وفى رواية للبخاري (ألم ترى أن مجززا المدلجى دخل فرأى أسامه وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤسهما ومدت أقدامهما فقال: ان هذه
الاقدام بعضها من بعض) ومجزر بضم الميم وفتح الجيم ثم زاى مشددة مكسورة ثم زاى أخرى اسم فاعل لانه كان في الجاهلية إذا أسر أسيرا جز ناصيته وأطلقه وقد كان الكفار يقدحون في نسب أسامه لكونه كان أسود شديد السواد، وكان زيد أبيض كذا قاله أبو داود.
وأم أيمن هي أم أيمن بركة الحبشيه مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورثها عن أبيه حيث كانت وصيفته، ويقال: كانت من سبى الحبشه الذين قدموا زمن الفيل فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجت قبل زيد عبيدا الحبشى فولدت له أيمن فكنيت به والقافة جمع قائف كقادة جمع قائد وسادة جمع سائد، والقائف هو الذى يتتبع الاثر ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه.

(15/307)


أما الاحكام: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدعوى والبينات من الام وإذا تداعى الحر والعبد المسلمان والذمى الحر والعبد مولودا وجد لقيطا فلا فرق بين أحد منهم كما لا يكون بينهم فرق فيما تداعوا فيه مما يملكون: فتراه القافه، فإن ألحقوه بأحدهم فهو ابنه ليس له أن ينفيه ولا للمولود أن ينتفى منه بحال أبدا وان ألحقته القافه باثنين فأكثر أو لم تكن قافه، أو كانت فلم تعرف، لم يكن ابن واحد منهم حتى يبلغ فينتسب إلى أيهم شاء، فإذا فعل ذلك انقطعت دعوى الآخرين، ولم يكن للذى انتسب إليه أن ينفيه وهو حر في كل حالاته بأيهم لحق لان اللقيط حر، وانما جعلناه حرا إذا غاب عنا معناه، لان أصل الناس الحريه حتى يعلم أنهم غير أحرار ولو أن أحدهم قال: هو ابني من أمة نكحتها لم يكن بهذا رقيقا لرب الامة حتى يعلم أن الامة ولدته، ولا يجعل اقرار غيره لازما له، ويكفى القائف الواحد لان هذا موضع حكم بعلم لا موضع شهادة، ولو كان، انما حكمه حكم الشهادات
ما أجزنا غير اثنين ولا أجزنا شهادة اثنين يشهدان على ما لم يحضرا ولم يريا، ولكنه كاجتهاد العالم ينفذه هذا، ولا يحتاج معه إلى ثان ولا يقبل القائف الواحد حتى يكون أمينا ولا أكثر منه حتى يكونوا أمناء أو بعضهم، فإذا أحضرنا القائف والمتداعيين للولد أو ذوى أرحامهم ان كان المدعون له موتى أو كان بعض المدعين له ميتا، فأحضرنا ذوى رحمه أحضرنا احتياطا أقرب الناس نسبا وشبها في الخلق والسن والبلد والمدعين له، ثم فرقنا بين المتداعيين منهم، ثم أمرنا القائف يلحقه بأبيه أو أقرب الناس بأبيه ان لم يكن له أب.
وان كانت معه أم أحضرنا لها نسبا في القرب منها كما وصفت ثم بدأنا فأمرنا القائف أن يلحقه بأمه لان للقائف في الام معنى، ولكى يستدل به على صوابه في الاب ان أصاب فيها ويستدل على غيره ان أخطأ فيها، فخالفنا بعض الناس في القافه فقال القافه باطل، فذكرنا لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ مجززا المدلجى ونظر إلى أقدام أسامه وأبيه زيد وقد غطيا وجوههما فقال: ان هذه الاقدام بعضها من بعض فحكى ذلك النبي صلى الله عيله وسلم لعائشه مسرورا به، فقال:

(15/308)


ليس في هذا حكم.
فقنا انه وان لم يكن فيه حكم فإن فيه دلالة عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضيه ورآه علما، لانه لو كان مما لا يجوز أن يكون حكما ما سره ما سمع منه ان شاء الله تعالى، ولنهاه أن يعود له.
فقال انك وان أصبت في هذا فقد تخطئ في غيره.
فقال فهل في هذا غيره؟ قلنا نعم، أخبرنا ابن علية عن حميد عن أنس أنه شك في ابن له فدعا القافة.
أخبرنا أنس بن عياض عن هشام عن أبيه عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ أن رجلين تداعيا ولدا، فدعا له عمر القافة، فقالوا قد اشتركا فيه، فقال له عمر وال أيهما شئت.
أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن عمر مثل معناه، أخبرنا مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عن عروة عن عمر بن الخطاب مثل معناه قال فإنا لا نقول بهذا ونزعم أن عمر قال هو ابنكما ترثانه ويرثكما، وهو للباقى منكما.
قلت فقد رويت عن عمر أنه دعا القافة، فزعمت أنك لا تدعو القافة، فلو لم يكن في هذا حجة عليك في شئ مما وصفنا، الا أنك رويت عن عمر شيئا فخالفته فيه كانت عليك قال، قد رويت عنه أنه ابنهما، وهذا خلاف ما رويتم، قلنا وأنت تخالف أيضا هذا، قال فكيف لم تصيروا إلى القول به؟ قلنا هو لا يثبت عن عمر لان اسناد حديثن هشام متصل، والمتصل أثبت عندنا وعندك من المنقطع، وانما هذا حديث منقطع وسليمان بن يسار وعروة أحسن مرسلا عن عمر ممن رويت عنه، قال فأنت تخالف عمر فيما قضى به من أن يكون ابن اثنين؟ قلت فإنك رعمت أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قضى به إذ كان في أيديهما قضاء الاموال قال كذلك قلت اه قلت ووجه دلالته ما علم من أن التقرير منه صلى الله عليه وسلم حجة، لانه أحد أقسام السنة، وحقيقة التقرير أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم فعلا من أحد أو يسمع قوله أو يعلم به وكان ذلك الفعل من الافعال التى لا يعلم تقدم انكاره لها، دل ذلك على جوازه، فان اسبتشر به فأوضح كما في هذه القصه، والحكم بالقافة إذا لم تكن بينة أو تعارضت به بينتان وسقطتا إذا ألحقوه، فنلحقه بمن ألحقوه

(15/309)


وهذا قول أنس وعطاء ويزيد بن عبد الملك والاوزاعي والليث وأبى ثور والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأى: لا حكم للقافة، ويلحق بالمدعيين جميعا تعويل على
مجرد الشبه والظن والتخمين، فإن الشبه يوجد بين الاجانب، وينتفى بين الاقارب ولهذا روى الشيخان أن رجلا أتى النبي فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال: هل لك من ابل، قال نعم، قال: فما ألوانها، قال حمر.
قال: فهل فيها من أورق، قال نعم، قال أنى أتاها ذلك، قال لعل عرقا نزع، قال: وهذا لعل عرقا نزع) قالوا ولو كان الشبه كافيا لاكتفى به في ولد الملاعنة، وفيما إذا أقر أحد الورثة بأخ فأنكره الباقون.
ودلينا عليهم غير حديث مجزز قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ولد الملاعنة (انظروها فان جاءت به أحمش الساقين كأنه وجرة فلا أراه الا قد كذب عليها وان جاءت به أكحل جعدا جماليا سابغ الاليتين خدلج الساقين فهو للذى رميت به، فأتت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا الايمان لكان لى ولها شأن (فقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم للذى أشبهه منهما، وقوله لولا الايمان لكان لى ولها شأن، يدل على أنه لم يمنعه من العمل بالشبه الا الايمان فإذا انتفى المانع يجب العمل به لوجود مقتضيه.
وكذلك قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابن زمعة حين رأى به شبها بينا بعتبه بن أبى وقاص (احتجبي منه يا سودة) فعمل بالشبه في حجب سودة عنه.
فان قيل: فالحديثان حجة عليكم إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه فيهما بل ألحق الولد بزمعة، وقال لعبد بن زمعه هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر.
ولم يعمل بشبه ولد الملاعنة في اقامة الحد عليها لشبه بالمقذوف، قلنا انما لم يعمل في ابن زمعه لان الفراش أقوى، وترك العمل بالبينة لمعارضة ما هو أقوى منه لا يوجب الاعراض عنه، إذا خلت عن المعارض وكذلك ترك اقامة الحد عليها من أجل أيمانها على ضعف الشبه عن اقامة الحد لا يوجب ضعفه عن الحاق النسب، فان الحد في الزنا لا يثبت الا بأقوى البينات

(15/310)


وأكثرها عددا وأقوى الاقرار حتى يعتبر فيه تكراره أربع مرات، ويدرأ الشبه عن نفى النسب لا يلزم منه ضعفه عن إثباته، فإن النسب يحتاط لاثباته، ويثبت بأدنى دليل، وأنه لا ينتفى إلا بأقوى الادلة، كما أن الحد لما انتفى بالشبه لم يثبت إلا بأقوى دليل، فلا يلزم حينئذ من المنع من نفيه بالشبه في الخبر المذكور أن لا يثبت به النسب في مسألتنا.
والقافة قوم يعرفون الانسان بالشبه.
ولا يختص ذلك بقبيلة معينة على الصحيح من المذهب، وبه قال أحمد رضى الله عنه وأصحابه، بل هو علم يتعلم بقواعده وأصوله التى كانت عند العرب، وكان أكثر ما يكون في بنى مدلج رهط مجزز الذى رأى أسامة وأباه زيدا، وان إياس بن معاوية المزني قائفا.
وكذلك قيل في شريح.
ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا مجربا في الاصابة، حرا لان قوله حكم.
وقد كان بعض العرب يستدل من اختلاف أحد الابناء عن إخوته على أسباب الشك التى تساوره، فقد عاد أحدهم إلى امرأته من سفر فوجدها قد ولدت له ولدا، فقال لها: لا تمشطي رأسي ولا تفليني
* وحاذري ذا الريق في يمينى واقتربى منى أخبريني
* ما له أسود كالهجين خالف ألوان بنى الجون على أن أسباب المعرفة في زماننا هذا قد اتسعت آفاقها واستقرت قواعدها على أسباب أدق ومبادئ أضبط، وإن كانت غير قطعية في أكثر أحوالها، وقد يأخذ العلم الحديث بالقيافة حيث يعجز التحليل الطبى، والقيافة أحد فروع الطب الشرعي أو هي الاساس الفعلى للطب الشرعي، ومن قرأ كتب الطب الشرعي
العربية أو الاجنبية يتضح له صحة هذا الحكم.
وقد حاء في كتاب الطب الشرعي الجنائى للدكاترة شريف وسيف النصر ومشالى أن فصائل الدم تنقسم في جميع الشعوب إلى أربعة أقسام، قسمان كبيران ويمكن إطلاق معنى السائدة عليهما ويرمز اليهما بألف وباء، ونوع يتكون منهما

(15/311)


ويرمز إليه بألف باء، ونوع نادر ويسمى (أو) فإذا كان الرجل من فصيلة (أ) والمرأة من فصيلة (ب) أمكن أن يكون الولد أأو ب أو (اب) ويلاحظ أن قيافة الدم هنا وإن كانت قائمة على أساس علمي إلا أنها سلبية وليست إيجابية، فهى تقول بأن هذا ليس أبا ولا تستطيع أن تقول هذا أب، لانه قد يكون الاب شخصا له فصيلة المدعى، ولكن يمكن أن ينفى فيقول إذا كانت فصيلة دم الابن أو كانت فصيلة الاب المدعى اب والام ب حكموا بالقطع بأن هذا ليس أباه، ولكن لو كانت فصيلته من فصيلة الطفل قالوا يحتمل أن يكون أباه ويحتمل أن يكون أبوه غيره، على أن أحسن القيافة التعرف عن طريق الاطراف كالايدى والارجل وملامح الوجه.
وهل يقبل قول واحد أو لا يقبل الا قول اثنين وجهان
(أحدهما)
أنه حكم بالاجتهاد فيصح من واحد.

(والثانى)
لا يجوز بأقل من اثنين كالحكم بالمثل في جزاء الصيد في قوله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم) ولانه حكم بالشبه في الخلقة فأشبه الحكم في المثل في جزاء الصيد (فجزاء مثل ما قتل من النعم) وبهذا الوجه قال أحمد رضى الله عنه في ظاهر رواية الاثرم عنه أنه قيل له: إذا قال أحد القافة هو لهذا، وقال الآخر هو لهذا.
قال لا يقبل واحد منهما حتى يجتمع اثنان فيكونان شاهدين، فإذا شهد إثنان من القافة أنه لهذا فهو لهذا، لانه قول يثبت به النسب فأشبه الشهادة.
وقال القاضى من الحنابلة، يقبل قول الواحد لانه حكم، ويقبل في الحكم قول واحد.
وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين فقال (إذا خالف القائف غيره تعارضا وسقطا، فان قال إثنان قولا وخالفهما واحد فقولهما أولى لانهما شاهدان فقولهما أولى لانه أقوى من قول واحد.
وان عارض قول اثنين قول اثنين سقط قول الجميع.
وان عارض قول الاثنين قول ثلاثة أو أكثر لم يرجح وسقط الجميع، فأما إن ألحقته القافة بواحد ثم جاءت قافة أخرى فألحقته بآخر كان لاحقا بالاول، لان القائف جرى مجرى حكم الحاكم، ومتى حكم الحاكم حكما لم ينقض بمخالفة وغيره له، وإن ألحقته القافة بكافر أو رقيق لم يحكم

(15/312)


بكفره ولا رقه لان الحرية والاسلام ثبتا له بظاهر الدار فلا يزول ذلك بمجرد الشبه والظن كما لم يزل ذلك بمجرد الدعوى من المنفرد.
ولو ادعى نسب اللفيط إنسان فألحق نسبه به لانفراده بالدعوى ثم جاء آخر فادعاه لم يزل نسبه عن الاول لانه حكم له به فلم يزل بمجرد الدعوى، فإن ألحقته به القافة لحق به وانقطع عن الاول، لانها بينة في إلحاق النسب، ويزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة.
(فرع)
إذا ادعاه إثنان فألحقته القافة بهما لحق بهما في النفقة.
وكان أحمد رضى الله عنه يقول: إنه ابنهما يرثهما ميراث ابن ويرثانه جميعا ميراث أب واحد وهذا يروى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضى الله عنهما وهو قول أبى ثور.
وقال أصحاب الرأى يلحق بهما بمجرد الدعوى.
وقال الشافعي لا يلحق بأكثر من واحد، فإذا ألحقته بهما سقط قولهما ولم يحكم لهما، واحتج برواية عمر رضى الله عنه أن القافه قالت (قد اشتركا فيه، فقال عمر وال أيهما شئت) ولانه لا يتصور كونه من رجلين، فإذا الحقته القافلة بهما تبينا كذبهما فسقط
قولهما كما لو الحقته بامين، ولان المدعيين لو اتفقا على ذلك لم يثبت، ولو ادعاه كل واحد منهما وأقام بينة سقطتا، ولو جاز أن يلحق بهما لثبت باتفاقهما وألحق بهما عند تعارض بينتهما، هذا وما لم نتناول من مسائل الفصل فعلى وجهه من تقرير المصنف.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ومن حكم بإسلامه أو بأحد أبويه أو بالسابي فحكمه قبل البلوغ حكم سائر المسلمين في الغسل والصلاة والميراث والقصاص والدية.
لان السبب الذى أوجب الحكم بإسلامه لم يزل فأشبه من أسلم بنفسه وبقى على إسلامه، فان بلغ ووصف الكفر فالمنصوص أنه مرتد، فان تاب وإلا قتل لانه محكوم باسلامه قطعا فأشبه من أسلم بنفسه ثم ارتد.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
ما ذكرناه
(والثانى)
أنه يقر على الكفر لانه لما بلغ زال حكم التتبع فاعتبر بنفسه، فان بلغ ولم يصف الاسلام ولا الكفر فقتله قاتل المنصوص أنه لا قود على قاتله.

(15/313)


ومن أصحابنا من قال: يجب القود لانه محكوم بإسلامه فأشبه ما قبل البلوغ، وهذا خطأ لانه يحتمل أن يكون غير راض بالاسلام، والقصاص يسقط بالشبهة فسقط، ويخالف ما قبل البلوغ فإن إسلامه قائم قطعا وبعد البلوغ لا نعلم بقاء الاسلام، فأما من حكم بإسلامه بالدار فانه قبل البلوغ كالمحكوم بإسلامه بأبويه أو بالسابي، فإن بلغ ووصف الكفر فإنه يفزع ويهدد على الكفر احتياطا، فإن أقام على الكفر أقر عليه.
ومن أصحابنا من قال: هو كالمحكوم باسلامه بأبويه لانه محكوم باسلامه بغيره فصار كالمسلم بأبويه، ولمنصوص أنه يقر على الكفر لانه محكوم باسلامه من جهة
الظاهر، ولهذا لو ادعاه ذمى وأقام البينة حكم بكفره.

(فصل)
وإن بلغ اللقيط وقذفه رجل وادعى أنه عبد.
وقال اللقيط: بل أنا حر ففيه قولان
(أحدهما)
أن القول قول اللقيط لان الظاهر من حاله الحرية
(والثانى)
أن القول قول القاذف لانه يحتمل أن يكون عبدا، والاصل براءة ذمة القاذف من الحد وان قطع حر طرفه وادعى انه عبد.
وقال اللقيط: بل أنا حر فالمنصوص أن القول قول اللقيط، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان كالقذف، ومنهم من قال: ان القول قول اللقيط قولا واحدا وفرق بينه وبين القذف بأن القصاص قد وجب في الظاهر ووجوب القيمة مشكوك فيه فإذا أسقطنا القصاص انتقلنا من الظاهر إلى الشك فلم يجز وفى القذف قد وجب الحد في الظاهر ووجوب التعزير يقين لانه بعض الحد، فإذا أسقطنا الحد انتقلنا من الظاهر إلى اليقين فجاز.

(فصل)
إذا بلغ اللقيط ووهب وأقبض وباع وابتاع ونكح وأصدق وجنى، وجنى عليه ثم قامت البينة على رقة كان حكمه في التصرفات كلها حكم العبد القن يمضى ما يمضى من تصرفه، وينقض ما ينقض من تصرفه فيما يضره ويضر غيره، لانه قد ثبت بالبينة أنه مملوك فكان حكمه حكم المملوك، فان أقر على نفسه بالرق لرجل فصدقه نظرت، فان كان قد تقدم منه إقرار بحريته لم يقبل إقراره بالرق، لانه باقراره بالحرية أحكام الاحرار في العبادات والمعاملات لم يقبل

(15/314)


إقراره في إسقاطها، وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية ففيه طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ.

(أَحَدُهُمَا)
لَا يقبل إقراره بالرق، لانه محكوم بحريته فلم يقبل إقراره بالرق كما لو أقر بالحرية، ثم أقر بالرق.

(والثانى)
يقبل لانا حكمنا بحريته في الظاهر، وما ثبت بالظاهر يجوز إبطاله بالاقرار، ولهذا لو ثبت إسلامه بظاهر الدار وبلغ وأقر بالكفر قبل منه، فكذلك ههنا، ومنهم من قال: يقبل إقراره بالرق قولا واحدا لما ذكرناه، ويكون حكمه في المستقبل حكم الرقيق، فأما تصرفه بعد البلوغ وقبل الحكم برقه فعلى قولين
(أحدهما)
يقبل إقراره في جميعه، لان الرق هو الاصل وقد ثبت فوجب أن تثبت أحكامه كما لو ثبت بالبينة
(والثانى)
يقبل فيما يضره ولا يقبل فيما يضر غيره، لان اقراره يتضمن ما يضره ويضر غيره فقبل فيما يضره، ولم يقبل فيما يضر غيره، كما لو أقر بمال عليه وعلى غيره، وهذا الطريق هو الصحيح وعليه التفريع فان باع واشترى فان قلنا: يقبل إقراره في الجميع، وقلنا: ان عقود العبد من غير إذن المولى لا تصح كانت عقودة فاسدة فان كانت الاعيان باقية وجب ردها، وان كانت تالفة وجب بدلها في ذمته يتبع به إذا عتق.
وان قلنا: يقبل فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره، لم يقبل قوله في افساد العقود، ويلزمه اعواضها، فان كان في يده مال استوفى منه، فان فضل في يده شئ كان لمولاه.
وان كان اللقيط جارية فزوجها الحاكم ثم أقرت بالرق فان قلنا: يقبل اقرارها في الجميع فالنكاح باطل، لانه عقد بغير اذن المولى، فان كان قبل الدخول لم يجب على الزوج شئ، وان كان بعد الدخول وجب عليه مهر المثل لانه وطئ في نكاح فاسد، وان أتت بولد فهو حر لانه دخل على أنه حر وعليه قيمته ويجب عليها عدة أمة وهى قرءآن.
وان قلنا: لا يقبل فيما يضر غيره لم يبطل النكاح، لان فيه اضرارا بالزوج ولكنه في حق الزوج في حكم الصحيح، وفى حقها في حكم الفاسد، فان كان قبل الدخول لم يجب لها مهر، لانها لا تدعيه، وان كان بعد الدخول وجب لها أقل

(15/315)


الامرين من مهر المثل أو المسمى، لانه إن كان المهر أقل لم يجب ما زاد لان فيه إضرارا بالزوج، وإن أتت منه بولد فهو حر ولا قيمة عليه لانا لا نقبل قولها فيما يضره، وتقول للزوج قد ثبت أن زوجتك أمة، فإن اخترت إمساكها كان ما تلده مملوكا للسيد لانك تطؤها على علم أنهات أمة، وإن طلقها اعتدت عدة حرة وهو ثلاثة أقراء وله فيها الرجعة لانا لا نقبل قولها عليه فيما يضره، وإن مات عنها لزمتها عدة أمة وهى شهران وخمس ليال.
لان عدة الوفاة تجب لحق الله تعالى لا حق له فيها، ولهذا تجب من غير وطئ.
وقول اللقيط يقبل فيما يسقط حق الله تعالى من العبادات، وان كان اللقيط غلاما فتزوج ثم أقر بالرق.
فإن قلنا: يقبل اقراره في الجميع: بطل النكاح من أصله لانه بغير اذن المولى فإن لم يدخل بها لم يلزمه شئ، وان دخل بها لزمه أقل الامرين من المسمى أو مهر المثل.
لانه ان كان المسمى أقل لم يجب ما زاد لانها لا تدعيه، وان كان مهر المثل أقل لم يجب ما زاد لان قوله مقبول، وان ضر غيره.
وان قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره لم يقبل قوله: ان النكاح باطل، لانه يضرها، ولكن يحكم بانفساخه في الحال لانه أقر بتحريمها، فإن كان قبل الدخول نصف المسمى وان دخل بها لزمه جميعه لانه لا يقبل قوله في اسقاط المسمى.
(الشرح) من حكم باسلامه أو باسلام أحد أبويه، وان علا وقت العلوق ولو أنثى غير وارثه، ولو كان حدوث الولد بعد موت أصله فهو مسلم بالاجماع بشرط نسبته إليه نسبة تقتضي التوارث فلا يرد آدم أبو البشر عليه السلام، ولو ارتد بعد البلوغ بأن وصف كفرا أي أعرب به عن نفسه فمرتد لانه مسلم ظاهرا وباطنا، ولو علق بين كافرين ثم أسلم أحدهما، وان علا قبل بلوغه ولو بعد تمييزه حكم باسلامه اجماعا كما في اسلام الاب والخبر (الاسلام يعلو ولا يعلى عليه) ولو
أمكن احتلامه فادعاه قبل اسلامه أصله فظاهر اطلاقهم قبول قوله فيه لزمن امكانه قال الرملي: وما بحثه الولى العراقى من عدم قبول قوله الا أن ينبت على عانته شعر خشن، غير ظاهر اللهم الا أن يقال: الاحتياط للاسلام يلغى قوله المانع له لاحتمال كذبه، ولاصل بقاء الصغر، فان بلغ ووصف كفرا فمرتد لسبق الحكم

(15/316)


بإسلامه ظاهرا وباطنا، وفى قول كافر أصلى، لان تبعيته أزالت الحكم بكفره، وقد زالت باستقلاله فعاد لما كان عليه أولا، وبنى عليه أنه يلزمه التلفظ بالاسلام بعد البلوغ بخلافه على الاول، ومن ثم لو مات قبل التلفظ جهز كمسلم.
بل قال امام الحرمين وصوبه في الروضه هو كذلك على الثاني أيضا لان هذا الامور مبنية على الظاهر، وظاهره الاسلام.
وما ذكره بعضهم من أن المسلم باسلام أحد أبويه لا يغنى عنه اسلامه شيئا ما لم يسلم بنفسه فغريب أو سبق قلم على ما قرره الاذرعى أو مفرع على وجوب التلفظ ولو تلفظ ثم ارتد فمرتد قطعا، ولا ينقض ما جرى عليه من أحكام الاسلام قبل ردته على الاصح.
ولو سبى مسلم طفلا تبع هذا الطفل سابيه في الاسلام ظاهرا وباطنا ان لم يكن معه أحد أبويه بالاجماع، ولا اعتبار بمن شذ، ولانه صار تحت ولايته كالابوين، وقضية الحكم باسلامه باطنا أنه لو بلغ ووصف الكفر كان مرتدا أما إذا كان معه أحد أبويه وان علا بأن كان في جيش واحد وغنيمة واحدة، وان لم يتحد المالك وقد سبيا معا وان أطلق القاضى في تعليقه أنه إذا سبق سبى أحدهما سبى الآخر تبع السابى، فلا يحكم باسلامه، لان تبعيتهما أقوى من تبعية السابى وان ماتا بعد، لان التبعية انما تثبت في ابتداء السبى، ولو سباه ذمى قاطن ببلادنا على حد قول امام الحرمين أو دخل به دارنا كما قال البغوي، أو
سباه في جيشنا، وكل ذلك انما هو قبل للخلاف في قولهم: لم يحكم بالامه في الاصح.
والثانى: يحكم باسلامه تبعا للدار والاوجه أنه لو سبى أبواه ثم أسلما صار مسلما بإسلامهما خلافا للحليمي ومن تبعه، ولو سباه مسلم وذمى حكم باسلامه تغليبا لحكم الاسلام، ولو سبى الذمي صبيا أو مجنونا وباعه لمسلم أو باعه المسلم السابى له مع أحد أبويه في جيش واحد ولو دون أبويه من مسلم لم يتبع المشترى لفوات وقت التبعية، لانها انما تثبت ابتداء وما جاء من قتله فسيأتي في الاقضية ان شاء الله تعالى.
(فرع)
إذا ادعى رق اللقيط مدع بعد بلوغه كلف اجابته، فان أنكر ولا بينة

(15/317)


لم تقبل دعواه، وإن كانت له بينة حكم له بها، فإن كان اللقيط قد تصرف قبل ذلك ببيع أو شراء نقضت تصرفاته لتصرفه بغير إذن، وان لم تكن بينة فأقر بالرق نظرنا، فان كان اعترف لنفسه بالحرية قبل ذلك لم يقبل إقراره بالرق لانه اعترف بالحرية وهى حق الله تعالى فلا يبطل برجوعه.
فإن قلنا: يقبل إقراره كأحد الوجهين عند الشافعي صارت أحكامه أحكام العبيد فيما عليه دون ماله، وبهذا قال أبو حنيفة ولمزني وأحمد، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لانه أقر بما يوجب حقا له وحقا عليه، فوجب أن يثبت ما عليه دون ماله كما لو قال: لفلان على ألف درهم ولى عنده رهن.
ويحتمل أن يقبل إقراره في الجميع، وهو القول الثاني للشافعي لانه ثبت ما عليه فيثبت ماله كالبينة، فإن قبلنا إقراره بالرق لم يخل من أن يكون ذكرا أو أنثى.
فإن كان اللقيط أنثى فالنكاح صحيح في حقها، فان كان قبل الدخول فلا جهر لها، وان كان دخل بها لم يسقط مهرها وأما أولادها فأحرار ولا يثبت الرق في حق أولادها باقرارها فأما بقاء النكاح فيقال للزوج: قد ثبت أنها أمة، فإن اخترت المقام على ذلك
فأقم، وإن شئت ففارقها، وسواء كان ممن يجوز له نكاحا الاماء أو لم يكن لاننا لو اعتبرنا ذلك وأفسدنا نكاحه لكان إفسادا للعقد جميعه بقولها، لان شروط نكاح الامه لا تعتبر في استدامة العقد انما تعتبر في ابتدائه.
فإن قيل: قد قبلتم قولها لى أنها أمة في المستقبل وفيه ضرر على الزوج.
قلنا لم يقبل قولها في إيجاب حق لم يدخل في العقد عليه، فأما الحكم في المستقبل فيمكن إيفاء حقه وحق من يثبت له الرق عليها بأن يطلقها فلا يلزمه ما لم يدخل عليها أو يقم على نكاحها فلا يسقط حق سيدها، فان طلقها اعتدت عدة الحرة، لان عدة الطلاق حق للزوج عند أحمد والشافعي ثلاثة قروء، وان مات اعتدت عدة الامة وهى شهران وخمس ليال لانه وطئ في نكاح فاسد، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان جنى عمدا على عبد ثم أقر بالرق وجب عليه القصاص على

(15/318)


القولين وان جنى خطأ وجب الارش في رقبته على القولين لان وجوب القصاص ووجوب الارش في رقبته يضره ولا يضر غيره فقبل قوله فيه، وإن جنى عليه حر عمدا لم يجب القود على الجاني لان ذلك مما يضره ولا يضر غيره فقبل قوله فيه، وان جنى عليه خطأ بأن قعع يده، فإن الجاني يقر بنصف الدية واللقيط يدعى نصف القيمة، فإن كان نصف القيمة أكثر من نصف الدية وجب نصف القيمة، لان ما زاد عليه لا يدعيه.
وإن كان أكثر من نصف الدية فعلى القولين إن قلنا يقبل قوله في الجميع وجب على الجاني نصف القيمة، وإن قلنا لا يقبل فيما يضر غيره وجب نصف الدية لان فيما زاد إضرارا بالجاني
(فصل)
وإن أقر اللقيط أنه عبد لرجل وكذبه الرجل سقط إقراره، كما
لو أقر له بدار فكذبه، وإن أقر اللقيط بعد التكذيب بالرق لآخر لم يقبل.
وقال أبو العباس يقبل كما لو أقر لرجل بدار فكذبه ثم أقر بها لآخر، والمذهب الاول لان بإقراره الاول قد أخبر أنه لم يملكه غيره، فإذا كذبه المقر له رجع إلى الاصل، وهو انه حر فلم يقبل اقراره بالرق بعده، ويخالف الدار لانه إذا كذبه الاول رجع إلى الاصل وهى مملوكة فقبل الاقرار بها لغيره.

(فصل)
وإن بلغ اللقيط فادعى عليه رجل أنه عبده فأنكره فالقول قوله لان الاصل الحرية، وإن طلب المدعى يمينه فهل يحلف؟ يبنى على القولين في إقراره بالرق، فان قلنا يقبل حلف لانه ربما خاف من اليمين فأقر له بالرق، وإن قلنا لا يقبل لم يحلف، لان اليمين انما تعرض ليخاف فيقر، ولو أقر لم يقبل فلم يكن في عرض اليمين فائدة وبالله التوفيق.
(الشرح) إذا جنى جناية موجبة للقصاص فعليه القود حرا كان المجني عليه أو عبدا، لان اقراره بالرق يقتضى وجوب القود عليه فيما إذا كان المجني عليه عبدا أو حرا فقبل اقراره فيه.
وان كانت الجناية خطأ تعلق أرشها برقبته، لان ذلك مضر به، فان كان أرشها أكثر من قيمته وكان في يده مال استوفى منه وان كان مما تحمله العاقلة لم يقبل قوله في اسقاط الزيادة، لان ذلك يضر بالمجنى عليه فلا يقبل قوله فيه.

(15/319)


وقيل تجب الزيادة في بيت المال لان ذلك كان واجبا للمجني عليه فلا يقبل قوله في اسقاطه.
وان جنى عليه جناية موجبة للقود وكان الجاني حرا سقط، لان الحر لا يقاد منه للعبد، وقد أقر المجني عليه بما يسقط القصاص، وإذا ادعى رق اللقيط مدع سمعت دعواه لانها ممكنة وان كانت مخالفة لظاهر الدار، فان لم يكن له بينة فلا
شئ له، أما إذا ادعاه بعد بلوغه فأنكر اللقيط فالقول قوله لاستصحاب الاصل وهو الحرية، وهى حق لله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى

كتاب الوقف الوقف قربة مندوب إليها لما روى عبد الله بن عمر أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وكان قد ملك مائة سهم من خيبر، فقال: قد أصبت مالا لم أصب مثله، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله تعالى، فقال: حبس الاصل وسبل الثمرة)
(فصل)
ويجوز وقف كل عين ينتفع بها على الدوام كالعقار والحيوان والاثاث والسلاح، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أنه ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم أنه مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ بن عبد المطلب يعنى الصدقة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما نقم ابن جميل الا أنه كان فقيرا فأعناه الله ورسوله.
فأما خالد فانكم تظلمون خالدا، ان خالدا قد حبس أدرعه وأعتده معا في سبيل الله) ولانه لما أمر عمر رضى الله عنه بتحبيس الاصل وتسبيل الثمرة، دل ذلك على جواز وقف كل ما يبقى وينتفع به.
وأما مالا ينتفع به على الدوام كالطعام وما يشم من الريحان وما تحطم وتكسر من الحيوان فلا يجوز وقفه لانه لا يمكن الانتفاع به على الدوام، ويجوز وقف الصغير من الرقيق والحيوان، لانه يرجى الانتفاع به على الدوام، ولا يجوز وقف الحمل لانه تمليك منجز فلم يصح في الحمل وحده كالبيع

(15/320)


(فصل)
واختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير، فمن أجاز إجارتها أجاز وقفها، ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها، واختلفوا في الكلب فمنهم من قال
لا يجوز وقفه لان الوقف تمليك والكلب لا يملك.
ومنهم من قال يجوز الوقف لان القصد من الوقف المنفعة وفى الكلب منفعة فجاز وقفه، واختلفوا في أم الولد فمنهم من قال يجوز وقفها لانه ينتفع بها على الدوام فهى كالامة القنة، ومنهم من قال لا يجوز لانها لا تملك
(فصل)
ولا يصح الوقف إلا في عين معينة، فإن وقف عبدا غير معين أو فرسا غير معين فالوقف باطل لانه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح في عين في الذمة كالعتق والصدقة.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ (أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوى القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول) وفى لفظ (غير متأثل مالا) وفى حديث عمرو بن دينار عند البخاري قال في صدقة عمر (ليس على الولى جناح أن يأكل صديقا له غير متأثل) قال (وكان ابن عمر هو يلى صدقة عمر ويهدى لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم) وللحديث روايات للبيهقي والطحاوى والدارقطني.
وروى النسائي وابن ماجه والشافعي عن ابن عمر، وهو متفق عليه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ عمر للنبى صلى الله عليه وسلم (إن المائة سهم التى لى بخيبر لم أصب مالا قط أعجب إلى منها، وقد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احبس أصلها وسبل ثمرتها)

(15/321)


وأما حديث أبى هريرة فقد رواه أحمد ومسلم بلفظ (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بن الوليد وعباس عم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدْ احْتَبَسَ أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى، وأما العباس فهى عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا.
ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ) وأخرجه البخاري وليس فيه ذكر عمر ولا ما قيل له في العباس.
وأخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبى رافع وفيه إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعمر (إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الاول) وأخرجه الطبراني والبزار وفى اسناده محمد بن ذكوان، وهو ضعيف.
ورواه البزار من حديث موسى بن طلحة عن أبيه نحوه.
وفى إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك.
ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وفى إسناده مندل بن على والعرزمى وهما ضعيفان.
أما اللغات فالوقف مصدر وقف يقف، ووقفته أنا يتعدى ويلزم، ووقفت الدار حبستها في سبيل الله، وشئ موقوف ووقف تسمية بالمصدر، والجمع أوقاف، كثوب وأثواب، ولا يقال أوقفت إلا في الكلام، فتقول فأوقفت عن الكلام.
وقوله (حبس الاصل وسبل الثمرة) الحبس ضد الاطلاق، أي اجعله محبوسا لا يباع ولا يوهب.
وسبل الثمرة، أي اجعل لها سبيلا، أي طريقا لمصرفها، والاثاث متاع البيت، قال الله تعالى (أثاثا ومتاعا إلى حين) وقوله (ما تقم ابن جميل) نقم من باب ضرب نقما ونقوما، وفى لغة من باب
تعب، ومعناه كره الشئ وعابه أشد العيب، وفى التنزيل (وما تنقم منا) على اللغة الاولى، أي وما تطعن فينا وتقدح، وقيل ليس لك عندنا ذنب ولا ركبنا مكروها.

(15/322)


والاعتدة جمع عتاد وهو أهبة الحرب من السلاح والذخيرة وغيرهما يقال: أخذ للامر عدته وعتاده أي أهبته وآلته.
أما الاحكام: فقد استدل المصنف بحديث ابن عمر علب صحة وقف المشاع وهو مذهب الشافعي وأبى يوسف ومالك، لان عمر وقف مائة سهم بخيبر ولم تكن مقسومة، وقد عارض وقف المشاع بعض الفقهاء وأوضح ما احتجوا به أن كل جزء من المشترك محكوم عليه بالمملوكية للشريكين فيلزم مع وقف أحد الشريكين أن عليه بحكمين مختلفين متضادين مثل صحة البيع بالنسبة إلى كونه مملوكا وعدم الصحة بالنسبة إلى كونه موقوفا، فيتصف كل جزء بالصحة وعدمها وأجيب عن هذا بأبه نظير العتق المشاع كحديث الستة الاعبد كما صح هنا، وإذا صح من جهة الشارع بطل هذا الاستدلال.
وقد استدل البخاري على صحة وقف المشارع بحديث أنس في قصة بناء المسجد وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ثامنونى حائطكم، قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عزوجل) وهذا ظاهر في جواز وقف المشارع ولو كان غير جائز لانكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قولهم هذا وبين لهم الحكم.
على أن الوقف عند أكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحتة قال جابر رضى الله عنه لم يكن أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذو مقدرة إلا وقف ولم ير شريح الوقف وقال: لا حبس عن فرائض الله، وقال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة، وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف لا يلزم بمجرده،
وللواقف الرجوع فيه إلا أن يوص به بعد موته فيلزم أو يحكم بلزومه حاكم، وحكاه بعضهم عن على وابن مسعود وابن عباس، وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم.
واحتج بعضهم بما روى أن عبد الله بن زيد صاحب الاذان جعل حائطه صدقة وجعله إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط، فرده النبي صلى الله عليه وسلم ثم ماتا فورثهما.
رواه المحاملى في أماليه، ولانه أخرج ماله على وجه القربة

(15/323)


من ملكه فلا يلزم بمجرد القول كالصدقة، وهذا القول يخالف السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع الصحابة رضى الله عنهم فإنه صلى الله عليه قال لعمر في وقفه (لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث) قال الترمذي العمل عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ، لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا.
قال الحميدى شيخ البخاري: تصدق أبو بكر رضى الله عنه بداره على ولده، وعمر بربعه عند المروة على ولده، وعثمان برومة، وتصدق على بأرضه بينبع، وتصدق الزبير بداره بمكة وداره بمصر وأمواله بالمدينة على ولده، وعمرو بن العاص بالوهط، وداره بمكة على ولده، وحكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده قال: فذلك كله إلى اليوم اه.
فإن الذى قدر منهم على الوقف وقف واشتهر فلم ينكره أحد فكان إجماعا، ولانه إزالة ملك يلزم بالوصية، فإذا انجزه حال الحياة لزم من غير حكم كالعتق، وأجيب عن حديث عبد الله بن زيد بأنه إن ثبت فليس فيه ذكر للوقف والظاهر أنه جعله صدقه غير موقوف، استناب فيها النبي صلى الله عليه وسلم
فرأى والديه أحق الناس بصرفها اليهما ولذلك لم يردها عليه، إنما دفعها اليهما، ويحتمل أن الحائط كان لهما، وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة عنهما فتصرف بهذا التصرف بغير اذنهما فلم ينفذاه، وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فرده اليهما والقياس على الصدقة لا يصح لانها تلزم في الحياة بغير حكم حاكم، وانما تفتقر إلى القبض، والوقف لا يفتقر إليه فافترقا، فإذا صح الوقف فقد زال به ملك الواقف على المشهور من مذهبنا.
والصحيح من مذهب أحمد، وكذلك المشهور من مذهب أبى حنيفة.
وعن مالك: لا يزول ملكه، وهو قول لاحمد.
وحكى قولا للشافعي لقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَبِّسْ الْأَصْلَ وسبل الثمرة) .
واجيب على القول ببقاء الملك بان الوقف سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، فازال الملك كالعتق، ولانه لو كان ملكه لرجعت إليه قيمته كالملك المطلق، واما الخبر فالمراد به ان يكون محبوسا، لا يباع ولا يوهب ولا يورث،

(15/324)


وفائدة الخلاف أنا إذا حكمنا ببقاء ملكه لزمته مراعاته والخصومة فيه، ويحتمل أن يلزمه أرش جنايته كما يفدى ام الولد سيدها لما تعذر تسليمه بخلاف غير المالك إذا صح هذا فما ينتفع به باتلافه كالمطعوم المشروب والمشموم فوقفه غير جائز، وكذلك الشمع، وكذلك كل ما يسرع إليه الفساد وكل مالا يمكن الانتفاع به على الداوم وقد ألحق الحنابلة، الدراهم والدنانير بالمأكول والمشروب، ويحكى شئ عن مالك والاوزاعي في وقف الطعام انه يجوز، ولم يحكه أصحاب مالك، وهذا غير صحيح، لان الوقف تحبيس الاصل وتسبيل الثمرة وملا ينتفع به الا بالاتلاف لا يصح فيه ذلك ولا يصح في المشموم مقطوفا ويصح فيه مزروعا لبقائه مدة كما قاله النووي وغيره، ولهذا قال ابن الصلاح والخوارزمي يصح وقف المشموم كالريحان وغيره وكالعنبر والمسك بخلاف عود البخور لاستهلاكه بالمنفعة
وقد اختلف اصحابنا في الدراهم والدنانير فمن قال يجوز ان تكون لها ثمرة دائمة كالاجارة اجاز وقفها، ومن قال بعد جواز الاجارة، قال بعدم جواز الوقف فيها، لان تلك المنفعة ليست المقصود الذى خلقت له الاثمان، ولهذا لا تضمن في الغصب فلم يجز الوقف له واجاز الاصحاب وقف الدراهم والدنانير حليا وللعارية لما روى نافع قال: ابتاعت حفصة حليا بعشرين الفا فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته، رواه الخلال باسناده، ولانه عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها دائما تصح وقفها كالعقار، ولانه يصح تحبيس اصلها وتسبيل الثمرة فصح وقفها كالعقار، والى هذا ذهب أصحاب أحمد.
وروى عن أحمد أنه لا يصح وقفها، وأنكر الحديث عن حفصة في وقفه، وذكره ابن أبى موسى، ووجه هذه الرواية أن التحلى ليس هو المقصود الاصلى من الاثمان فلم يصح وقفها عليه كما لو وقف الدنانير والدراهم.
قال ابن قدامة: والاول هو المذهب، والتحلى من المقاصد المهمة، والعادة جارية به وقد اعتبره الشرع في إسقاط الزكاة عن متخذه وجوز اجارته لذلك، ويفارق الدارهم والدنانير، فان العادة لم تجر بالتحلى به ولا اعتبره الشرع في اسقاط زكاته ولا ضمان نفعه في العصب بخلاف مسألتنا.

(15/325)


(فرع)
لا يجوز وقف مالا يجوز امتلاكه كالكلب ولو كلب صيد وكذلك الخنزير كما لا يجوز وقف أدوات اللهو والمعارف، والكلب إنما ابيح الانتفاع به على خلاف الاصل للقدرة فلا يجوز التوسع فيها.
هذا هو الاصح كما قرره النووي في المنهاج وتابعه جميع الشراح.
كما لا يجوز الوقف الا على عين معينة مملوكة ملكا يقبل النقل يحصل منها مع بقاء عينها فائدة أو منفعة وضابط المنفعة المقصودة ما يصح استئجاره، على شرط
ثبوت حق الملك في الرقبه وشمل كلام النووي في المنهاج وقف الموصى بعينه مدة والمأجور، وان طالت مدتهما ونحو الجحش الصغير وان لم تكن لاولئك منفعة حالا، ولا يصح وقف حيوان أو متاع أو ثياب في الذمه لان حقيقته إزالة ملك عن عين، نعم يجوز التزامه فيها بالنذر وبهذا كله قال أحمد وأصحابه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وما جاز وقفه جاز وقف جزء منه مشاع لان عمر رضى الله عنه وقف مائة سهم من خيبر باذن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ القصد بالوقف حبس الاصل وتسبيل المنفعة، والمشاع كالمقسوم في ذلك، ويجوز وقف علو الدار دون سفلها دون علوها، لانهما عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما دون الاخر كالعبدين.

(فصل)
ولا يصح الوقف الا على بر ومعروف كالقناطر والمساجد والفقراء والاقارب، فان وقف على ما لا قربة فيه كالبيع والكنائس وكتب التوراة والانجيل، وعلى من يقطع الطريق أو يرتد عن الدين لم يصح، لان القصد بالوقف القربة، وفيما ذكرناه إعانة على المعصية، وان وقف على ذمى جاز لانه في موضع القربة، ولهذا يجوز التصدق عليه فجاز الوقف عليه، وفى الوقف على المرتد والحربي وجهان.
(احدهما) يجوز لانه يجوز تمليكه فجاز الوقف عليه كالذمي.

(والثانى)
لا يجوز، لان القصد بالوقف نفع الموقوف عليه، والمرتد والحربي مأمور بقتلهما فلا معنى للوقف عليهما، وان وقف على دابة رجل،

(15/326)


ففيه وجهان، أحدهما: لا يجوز، لان مؤنتها على صاحبها، والثانى: يجوز لانه كالوقف على مالكه.

(فصل)
ولا يجوز ان يقف على نفسه، ولا ان يشرط لنفسه منه شيئا.
وقال أبو عبد الله الزبيري (1) : يجوز لان عثمان رضى الله عنه وقف بئر رومة وقال (دلوى فيها كدلاء المسلمين) وهذا خطا لان الوقف يقتضى حبس العين وتمليك المنفعة والعين محبوسة عليه ومنفعتها مملوكة له فلم يكن للوقف معنى، ويخالف وقف عثمان رضى الله عنه لان ذلك وقف عام ويجوز ان يدخل في العام مالا يدخل في الخاص، والدليل عليه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلى في المساجد وهى وقف على المسلمين، وان كان لا يجوز ان يخص بالصدقة ولان في الوقف العام يدخل فيه من غير شرط ولا يدخل في الوقف الخاص فدل على الفرق بيهما.

(فصل)
ولا يجوز الوقف على من لا يملك كالعبد والحمل لانه تمليك منجز فلم يصح على من لا يملك كالهبة والصدقة.

(فصل)
ولا يصح الوقف على مجهول كالوقف على رجل غير معين والوقف على من يختاره فلان لانه تمليك منجز فلم يصح في مجهول كالبيع والهبة.
(الشرح) خبر عمر رضى الله عنه مضى تخريجه وبعض فقهه ولما تكلم المصنف عن منع وقف غير المعين ناسب ان يردفه بحكم المشارع، وبجوازه قال مالك والشافعي وأبو يوسف وأحمد، وقال محمد بن الحسن، لا يصح، وبناه على اصله في ان القبض شرط، وان القبض لا يصح في المشاع، وخبر عمر هو أول وقف شرع في الاسلام حيث لم يكن وقف في الجاهلية.
وقال الشافعي رضى الله عنه ان هذا الوقف المعروف حقيقة شرعية لم تعرفه الجاهلية.
وقيل ان أول وقف ما وقفه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أموال مخيريق التى أوصى بها له في السنة الثالثة.
__________
(1) في نسخ المهذب المتداولة الزبيدى وصوابه الزبيري.
المطيعى

(15/327)


وصحح أصحابنا وقف المشاع وان جهل قدر حصته أو صفتها، لان وقف عمر كان مشاعا، ولانه عقد يجوز على بعض الجملة مفرزا فجاز عليه مشاعا كالبيع، أو عرصة يجوز بيعها فجاز وقفها كالمفرزة، ولان الوقف تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة، وهذا يحصل في المشاع كحصوله في المفرز، ولا نسلم اعتبار القبض.
إذا ثبت هذا فانه يجوز ان يوقف جزءا من داره أو علويها أو سفليها.
وكذلك إذا وقف داره على جهتين مختلفتين، مثل أن يقفها على أولاده وعلى المساكين أو على جهة أخرى سواهم، لانه إذا جاز وقف الجزء مفردا جاز وقف الجزين.
(فرع)
إذا لم يكن الوقف على بر أو معروف فهو باطل، وبيان ذلك أنه لا يصح الا على ولده وأقاربه ورجل معين، أو بناء المساجد والجسور والقناطر وكتب الفقه والعم والقرآن والمقابر والسقايات ولا يصلح على غير معين كرجل وامرأة، لان الوقف تمليك للعين أو للمنفعة فلا يصح على غير معين كالبيع والاجارة، ولا على معصية كبيت النار لعبدتها والبيع والكنائس وكتب التوراة والانجيل لان ذلك معصية، فان هذه المواضع بنيت للكفر، وهذه الكتب مبدلة منسوخة.
ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شئ من التوراة وقال (أفى شك أنت يابن الخطاب؟) وفى رواية (أمتهوكون أنتم؟ لو كان موسى أخى حيا ما وسعه الا اتباعى) وفى رواية (الم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان موسى اخى حيا ما وسعه الا اتباعى) فلولا ان ذلك معصية ما غضب صلى الله عليه وسلم منه.
والوقف على قناديل البيعة أو معابد البوذيين أو دور الهندوك أو محافل البهائيين أو القاديانيين أو أي معبد يقوم على غير أصل الاسلام وخلوص
الوحدانية من شوائب الزيغ باطل.
وقال احمد بن حنبل في نصارى وقفوا على البيعة ضياعا كثيرة وماتوا ولهم أبناء نصارى فاسلموا والضياع بيد النصارى، فلهم اخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم.

(15/328)


وهذا هو مذهب الشافعي رضى الله عنه ولا نعلم فيه خلافا، ولان مالا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي كالوقف على غير معين.
فان قيل: فقد قلتم إن أهل الكتاب إذا عقدوا عقودا فاسدة وتقابضوا ثم أسلموا وترافعوا الينا لم ننقض ما فعلوه، فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه على كنائسهم؟ قلنا الوقف ليس بعقد معاوضة، وانما هو ازالة للملك في الموقوف على وجه القربة، فإذا لم يقع صحيحا لم يزل الملك فيبقى بحاله كالعتق، وقد أفتى أحمد رضى الله عنه في نصراني أشهد في وصيته أن غلامه فلانا يخدم البيعة خمس سنين ثم هو حر، ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ما عليه؟ قال هو حر ويرجع على الغلام بأجره خدمة مبلغ أربع سنين.
وروى عنه قال: هو حر ساعة مات مولاه لان هذه معصية.
وظاهر كلام المصنف التفريق بين الذمي ومعابد الكفار، حيث يقول: وان وقف على ذمى جاز الخ.
قلت هذا مبنى على أصل أن الوقف لا يصح على من لا يملك، كالوقف على القن وأم الولد والجن والملائكة ولانه يجوز التصدق عليه أما الوقف على المرتد والحربي في صفوف الاعداء فوجهان.
فمن جعله كالذمي أجاز الوقف عليه.
ومن قال أن القصد من الوقف نفع الموقوف عليه ونحن مامورون بقتل المرتد والحربي، وهذا اقصى درجات الحرمان وهو فقد الحياة، فكيف يجوز
ايصال المنفعة إليه؟ ولان أموال المرتدين والمحاربين مباحة في الاصل، ويجوز أخذها بالقهر والغلبة، فما يتجدد لهم أولى على أن الوقف لا يجوز ان يكون مباح الاخذ لانه تحبيس الاصل وفارق أهل الذمة فانه يصح الوقف عليهم لانهم يملكون ملكا محترما، ولان صفيه ام المؤمنين وقفت على اخ لها يهودى، ولان من جاز أن يقف الذمي عليه جاز أن يقف عليه المسلم كالمسلم، ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين صح أيضا لان الوقف عليهم لا على الموضع (فرع)
لا يجوز أن يخص نفسه بالوقف وكذلك إذا جعله عاما وجعل لنفسه شيئا منه فانه لا يجوز وقيل يجوز، واستدل القائلون بجوازه، ومنهم أبو عبد الله

(15/329)


الزبيري وابن حجر العسقلاني في الباري بحديث بئر رومة، وهو عن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قدم المدينة ولبس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال (من يشترى بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالى) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن، وفيه جواز انتفاع الواقف بوقفه.
وفى رواية للبغوي في كتاب الصحابة من طريق بشر بن بشير الاسلمي عن ابيه انها كانت لرجل من بنى غفار عين يقال لها رومة.
وكان يبيع منها القربة بمد فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال يا رسول الله ليس لى ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين الف درهم.
ثم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أتجعل لى ما جعلت له؟ قال نعم قال قد جعلتها للمسلمين.
وللنسائي من طريق الاحنف عن عثمان قال: إجعلها سقاية للمسلمين واجرها لك، وزاد أيضا في رواية من هذه الطريق ان عثمان قال ذلك وهو
محصور وصدقة جماعة منهم على بن أبى طالب وطلحة والزبير وسعد بن ابى وقاص وفى قوله: فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، الدليل عل جواز أن يجعل الواقف لنفسه نصيبا في الوقف، قالوا ويؤيده جعل عمر لمن ولى وقفه أن يأكل منه بالمعروف، وظاهره عدم الفرق بين أن يكون هو الناظر أو غيره.
هكذا قالوا.
قال ابن حجر في فتح الباري: ويستنبط منه صحة الوقف على النفس وهو قول ابن أبى ليلى وابى يوسف وأحمد في الارجح عنه.
وقال به ابن شعبان من المالكية، وجمهورهم على المنع الا إذا استثنى لنفسه شيئا يسيرا بحيث لا يتهم انه قصد حرمان ورثته.
ومن الشافعية أبو العباس بن سريج وطائفة.
وصنف فيه محمد بن عبد الله الانصاري شيخ البخاري جزءا ضخما، واستدل له بقصة عمر هذه، وبقصة راكب البدنة، وبحديث أنس في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، ووجه الاستدلال به انه أخرجها عن ملكه بالعتق وردها إليه بالشرط.
اه وقد حكى جواز الوقف على النفس ابن شبرمة والزبيرى.
وعن الشافعي

(15/330)


ومحمد بن الحسن انه لا يصح الوقف على النفس، قالا لانه تمليك فلا يصح أن بتملكه لنفسه من نفسه كالبيع والهبة، ولقوله صلى الله عليه وسلم (سبل الثمرة) وتسبيلها تمليكها للغير.
قال ابن حجر: وتعقب بان امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم الفائدة.
والفائدة في الوقف حاصلة لان استحقاقه إياه وقفا.
اه قلت: وقد استدل القائلون بصحة الوقف على النفس بحديث الرجل الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عندي دينار، فقال تصدق به على نفسك) رواه أبو داود والنسائي.
وقال ابن قدامة: قال الاثرم: قيل لابي عبد الله - يعنى أحمد بن حنبل - يشترط في القوف انى أنفق على نفسي وأهل منه؟ قال نعم.
واحتج قال: سمعت ابن عيينة عن ابن طاوس عن ابه عن حجر المدرى ان في صدقة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر.
اه.
ودليل المانعين وهم مالك والشافعي ومحمد بن الحسن انه إزالة ملك فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه كالبيع والهبة، وكما لو اعتق عبدا بشرط ان يخدمه، ولان ما ينفقه على نفسه مجهول، فلم يصح اشتراطه كما لو باع شيئا واشترط ان ينتفع به.
وقال النووي في المنهاج (ويصح على ذمى لا مرتد وحربي ونفسه في الاصح) وقد فهم بعض الشراح كما يقول الرملي من هذا ان النووي صحح الوقف لنفسه، والذى يتبادر إلى الفهم من كلام النووي ان عطف نفسه يرجع على المعطوف عليه وهو ذمى المقول بصحة الوقف عليه، ولكن الرملي رحمه الله قال: لتعذر تمليك الانسان ملكه أو منافع ملكه لنفسه لانه حاصل، ويمتنع تحصيل الحاصل واختلاف الجهة، إذ استحقاقه وقفا غيره ملكا الذى نظر له مقابل الاصح.
واختاره جمع، ومنه ان يشترط نحو قضاء دينه مما وقفه، أو انتفاعه به أو شربه منه أو مطالعته في الكتاب، أو طبخه في القدر أو استعماله من بئر أو كوز وقف ذلك على الفقراء؟ فيبطل الوقف بذلك، خلافا لبعض الشراح هنا، وكانه توهم جواز ذلك من قول عثمان في وقفه لبئر رومة دلوى فيها كدلاء المسلمين.

(15/331)


قال: وليس بصحيح فقد أجابوا عنه بانه لم يقل ذلك على سبيل الشرط، بل الاخبار بأن للواقف الانتفاع بوقفه العام، كالصلاة بمسجد وقفه والشرب من بئر وقفها.
نعم، لو شرط ان يضحى عنه صح أخذا من قول الماوردى وغيره بصحة شرط ان يحج عنه منه، أي لانه لا يرجع له من ذلك سوى الثواب
وهو لا يضر، بل هو المقصود من الوقف، ولو وقف على الفقراء مثلا ثم صار فقيرا أجاز له الاخذ منه.
وكذا لو كان فقيرا حال الوقف، كما في الكافي واعتمده السبكى وغيره، ويصح شرطه النظر لنفسه ولو بمقابل ان كان بقدر أجرة المثل فأقل كما قيده بذلك ابن الصلاح ومن حيل الفقهاء الذين يمنعون الوقف بهذه الصورة أن ابن الرفعة وهو من كبار الفقهاء وقف على الافقه من بنى الرفعة، فعنى بذلك نفسه، أو يأتي آخر ويقف على أولاد أبيه الذين من صفاتهم كيت وكيت ويضفى صفات نفسه على المنتفع من الوقف فينصرف ذلك إلى نفسه، وقد صحح هذه الحيلة الرملي وقال: وهو الاوجه وان خالف في الاسنوى وغيره تبعا للغزالي والخوارزمي فابطلوه إن انحصرت الصفة فيه وإلا صح.
(فرع)
إذا وقف على من لا يصح تمليكه أو غير مؤهل للملك، لان الوقف تمليك منفعة، وضرب مثلا بالعبد والحمل، لان الجنين لا يملك شيئا، كما لا يصح الوقف على مجهول أو معدوم كعلى مسجد سيبني أو على ولده ولا ولد له أو على فقراء أولاده وليس فيهم فقير.
ولا على عمارة المسجد إذا لم يبينه بموضعه ولا على ميت لان الوقف تسليط في الحال بخلاف الوصية، كما لا يصح الوقف على بهيمة مجهولة بأن أطلق بغير تعيين، وقيل هو وقف على مالكها، ومن ثم لا يصح على الوحوش ولا على الطيور المباحة، ولو كانت معينة على نزاع في الجزم به.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل لانه عقد يبطل بالجهالة فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع ولا يصح بشرط الخيار وبشرط أن

(15/332)


يرجع فيه إذا شاء أو يبيعه إذا احتاج أو يدخل فيه من شاء أو يخرج منه من شاء لانه إخراج مال على وجه القربة فلم يصح مع هذه الشروط كالصدقة.

(فصل)
ولا يجوز إلى مدة لانه إخراج مال على وجه القربة فلم يجز إلى مدة كالعتق والصدقة (الشرح) الاحكام: لا يجوز تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فدارى وقف أو فرسى حبس، أو إذا ولد لى ولد أو إذا قدم لى غائبي ونحو ذلك.
ولا نعلم في هذا خلافا، لانه نقل للملك فيما لم يبن على التغليب والسراية، فلم يجز تعليقه بالموت، وتعليقه بشرط في الحياة ولا يصح لما ذكرنا من الفرق بينهما فيما قبل هذا.
وان علق انتهاءه على شرط نحو قوله: دارى وقف إلى سنة أو إلى ان يقدم الحاج لم يصح، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة، لانه ينافى مقتضى الوقف، فان مقتضاه التأبيد.
والوجه الاخر عندهم يصح لانه منقطع الانتهاء فاشبه مالو وقفه على منقطع الانتهاء، فان حكمنا بصحته ههنا فحكمه حكم منقطع الانتهاء.
وان شرط ان يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه لم يصح الشرط ولا الوقف لا نعلم فيه خلافا، لانه ينافى مقتضى الوقف.
ويحتمل أن يفسد الشرط ويصح الوقف بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وان شرط الخيار في الوف فسد.
هكذا قال الشافعي ونص عليه أحمد وقال أبو يوسف في رواية عند يصح، لان الوقف تمليك المنافع فجاز شرط الخيار فيه كالاجارة.
ولنا أنه شرط ينافى مقتضى العقد فلم يصح، كما لو شرط أن له بيعه متى شاء، ولانه إزالة ملك لله تعالى فلم يصح الخيار فيه كالعتق، ولانه ليس بعقد معاوضه
فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالهبة، ويفارق الاجارة فإنها عقد معاوضة وهى نوع من البيع، ولان الخيار إذا دخل في العقد منع ثبوت حكمه قبل انقضاء الخيار

(15/333)


أو التصرف، وههنا أو ثبت الخيار لثبت مع ثبوت حكم الوقف ولم يمنع التصرف فافترقا.
وان شرط في الوقف ان يخرج من شاء من اهل الوقف ويدخل من شاء من غيرهم، لانه شرط ينافى مقتضى الوقف فافسده كما لو شرط ان لا ينتفع.
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز ان يقول: وقفت هذا على الفقراء أو على مسجد مثلا سنة مثلا، وبطلانه من فساد صيغته، إذ ان وضع الوقف على التأبيد فإذا جعله إلى مدة كان باطلا كالعتق والصدقة، وسواء في ذلك طويل المدة وقصيرها وقد بحث الاذرعى كما فعل الزركشي جوازه إذا وقفه على الفقراء ألف سنة أو نحوها مما يبعد البقاء إليه، كما تقرر أنه لا أثر لتوقيت الاستحقاق، كقوله وقفته على زيد سنة ثم على الفقراء، أو إلا أن يولد لى ولد، كما نقله البلقينى عن الخوارزمي وجزم به ابن الصباغ وجرى عليه في الانوار وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ولا يجوز إلا على سبيل لا ينقطع، وذلك من وجهين:
(أحدهما)
أن يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمجاهدين وطلبة العلم وما أشبهها
(والثانى)
أن يقف على من ينقرض ثم من بعده على من لا ينقرض، مثل أن يقف على رجل بعينه، ثم على الفقراء أو على رجل ثم على عقبه ثم على الفقراء، فأما إذا وقف وقفا منقطع الابتداء والانتهاء كالوقف على عبده أو على ولده ولا ولد له فالوقف باطل لان العبد لا يملك والولد الذى لم يخلق لا يملك فلا يفيد الوقف عليهما شيئا.
وإن وقف وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه، أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان
(أحدهما)
أن الوقف باطل، لان القصد بالوقف أن يتصل الثواب على الدوام، وهذا لا يوجد في هذا الوقف، لانه قد يموت الرجل وينقطع عقبه.

(والثانى)
أنه يصح ويصرف بعد انقراض الموقف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف، لان مقتضى الوقف الثواب على التأبيد، فحمل فيما سماه على ما شرطه

(15/334)


وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد.
ويقدم المسمى على غيره فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، لانه من أعظم جهات الثواب، والدليل عليه قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (لا صدقة وذو رحم محتاج) وروى سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صدقتك على المساكين صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ، صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ) وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والاغنياء؟ فيه قولان
(أحدهما)
يختص به الفقراء، لان مصرف الصدقات إلى الفقراء.

(والثانى)
يشترك فيه الفقراء والاغنياء: لان في الوقف الغنى والفقير سواء، وإن وقف وقفا منقطع الابتداء متصل الانتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء، أو على رجل غير معين ثم على الفقراء، ففيه طريقان.
من أصحابنا من قال: يبطل قولا واحدا لان الاول باطل والثانى فرع لاصل باطل فكان باطلا.
ومنهم من قال فيه قولان:
(أحدهما)
أنه باطل لما ذكرناه
(والثانى)
أنه يصح لانه لما بطل الاول صار كأن لم يكن.
وصار الثاني أصلا.
فإذا قلنا إنه يصح فإن كان الاول لا يمكن
اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء، لانه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه، وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) ينقل في الحال إلى من بعده، لان الذى وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه، فصار كالمعدوم
(والثانى)
وهو المنصوص: أنه للواقف ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم يجعل لمن بعده لانه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء، فبقى على ملكه.
(والثالث) أن يكون لاقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل للفقراء، لانه لا يمكن تركه عليه الواقف لانه أزال الملك فيه، ولا يمكن أن يجعل للفقراء لانه لم يوجد شرط الانتقال إليهم فكان أقرباء الواقف أحق وهل يختص به فقراؤهم؟ أو يشترك فيه الفقراء والاغنياء؟ على ما ذكرنا من القولين.

(15/335)


(فصل)
وإن وقف وقفا مطلقا ولم يذكر سبيله ففيه قولان:
(أحدهما)
أن الوقف باطل لانه تمليك فلا يصح مطلقا، كما لو قال: بعت دارى ووهبت مالى.

(والثانى)
يصح وهو الصحيح لانه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقا كالاضحية، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع الانتهاء، وقد بيناه (الشرح) الحديث الاول جزء من حديث طويل عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال (والذى بعثنى بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله.
وقال: يا أمة محمد والذى بعثنى بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل
وله قرابة محتاجون إلى صلته ويصرفها إلى غيرهم، والذى نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة) رواه الطبراني في الاوسط.
قال الهيثمى في مجمع الزوائد: وفيه عبد الله بن عامر الاسلمي، وهو ضعيف.
وقال أبو حاتم ليس بالمتروك.
أما بقية رجاله فثقات.
أما حديث سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظٍ (الصدقة على المسلمين صدقة، وهى على ذى الرحم ثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي وابن حيان والدارقطني والحاكم وحسنه الترمذي أما الاحكام: فإنه لا يجوز إلا على سبيل مراد للتأبيد لا للانقطاع ولا يتحقق هذا إلا إذا جعل وقفه لفئة أو طائفة لا تنقرض، فإذا وقف على قوم ونسلهم ثم على المساكين فانقرض القوم ونسلهم فلم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين ولم ينتقل إليهم مادام أحد من القوم أو من نسلهم باقيا، لانه رتبة للمساكين بعدهم والمساكين من الزكاة والفقراء يدخلون فيهم.
وكذلك لفظ الفقراء يدخل فيه المساكين ن لان كل واحد من اللفظين يطلق عليهما، والمعنى الذى يسميان به شامل لهما وهو الحاجة والفاقة، ولهذا لما سمى الله عز وجل المساكين في مصرف كفارة اليمين وكفارة الظهار وفدية الاذى تناولهما جميعا، وجاز الصرف إلى كل

(15/336)


واحد منهما.
فإذا وقفه وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء، كعلى رجل، أو رجل ونسله ففيه وجهان:
(أحدهما)
البطلان لانه منقطع.
وهو لا يجوز إلا على الدوام.

(والثانى)
أنه يجوز لامكان صرفه إلى أقرب الناس إلى الوقف وإن كانوا أغنياء.
وهذا هو أحد القولين عندنا وبه قال أحمد وأصحابه.
والثانى يقدم الفقراء منهم وأكثرهم حاجة.
ويحتمل أن يجزأ الوقف ثلاثة أجزاء.
فجزء يصرف إلى الغزاة في سبيل الله وجزء يصرف إلى أقرب الناس إليه من الفقراء لانهم أكثر الجهات ثوابا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صدقتك على ذى القرابة صدقة وصلة) والثالث يصرف إلى من يأخذ الزكاة لحاجته.
وهم خمسة أصناف لانهم أهل حاجة منصوص عليهم في القرآن، فكان من نص الله تعالى عليه في كتابه أولى من غيره وإن ساواه في الحاجة.
(فرع)
سبق أن قررنا أن الوقف على من لا يملك باطل، فإذا وقف وقفا متصلا غير منقطع في دوامه واستمراره إلا أنه منقطع في ابتدائه بأن وقفه على عبد أو جنين في بطن أمه على أن يؤول بعد ذلك إلى الفقراء فلاصحابنا طريقان، الاول يبطل لبطلان أوله قولا واحدا.
والثانى يصح لصحة استمراره ودوامه فيصير أوله كأن لم يكن ويصرف الوقف على وجهه الصحيح وقد بحث الرملي في شرحه على المنهاج المسألة فقال: ولو قال وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله أو نحوهما مما لا يدوم ولم يزد على ذلك فالاظهر صحة الوقف، لان مقصوده القربة والدوام، فإذا بين مصرفه ابتداء سهل إدامته على سبيل الخير، فإذا انقرض الذكور أو لم تعرف أرباب الوقف فالاظهر أنه يبقى وقفا، لان وضع الوقف الدوام كالعتق، ولانه صرفه عنه فلا يعود، كما لو نذر هديا إلى مكة فرده فقراؤها.

(والثانى)
يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف أو إلى ورثته إن كان مات، لان بقاء الوقف بلا مصرف متعذر، وإثبات مصرف لم يذكره الواقف بعيد

(15/337)


فتعين ارتفاعه، والاظهر ما أفتى به الزين العراقى أن المراد بما في كتب الاوقاف ثم الاقرب إلى الواقف أو المتوفى قرب الدرجة والرحم لا قرب الارث والعصوبة
فلا ترجيح بهما في مستويين في القرب من حيث الرحم والدرجة.
ومن ثم قال لا يرجح عم على خالة بل هما مستويان ويعتبر فيهم الفقر، ولا يفضل الذكر على غيره فيما يظهر ولكن بالقرب إلى الواقف، لان الصدقة على الاقارب أفضل القربات ن فإذا تعذر الرد للواقف تعين أقربهم إليه، لان الاقارب مما حث الشرع عليهم في جنس الوقف لخبر أبى طلحة: أرى أن تجعلها في الاقربين.
وبه فارق عدم تعينهم في نحو الزكاة، على أن لهذه مصرفا عينه الشارع بخلاف الوقف، ولو فقدت أقاربه أو كانوا كلهم أغنياء صرف الربع لصالح المسلمين، كما نص عليه البويطى في الاولى، أو إلى الفقراء والمساكين على ما قاله سليم الرازي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم، أو قال: ليصرف من غلته لفلان كذا، وسكت عن باقيها فكذلك.
وصرح في الانوار بعدم اختصاصه بفقراء بلد الوقف بخلاف الزكاة.
أما الامام إذا وقف منقطع الآخر فيصرف للمصالح لا لاقاربه، كما أفاده الزركشي، وهو ظاهر.
ولو كان الوقف منقطع الاول كوقفته على من سيولد لى، أو على مسجد سيبني ثم على الفقراء مثلا فالمذهب بطلانه لتعذر الصرف إليه حالا ومن بعده (مرعه؟) والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما الصحة، وصححه المصنف في تصحيح التنبيه ولو لم يذكر بعد الاول مصرفا بطل قطعا ن لانه منقطع الاول والآخر.
ولو قال وقفت على أولادي ومن سيولد لى على ما افصله، ففصله على الموجودين وجعل نصيب من مات منهم بلا عقب لمن سيولد له صح، ولا يؤثر فيه قوله: وقفت على أولادي ومن سيولد لى، لان التفصيل بعده بيان له، أو كان الوقف مقطوع الوسط كوقفته على أولادي ثم على رجل، وأبهم لانه لا يضر تردد في صفة أو شرط أو مصرف دلت قرينة قبله أو بعده على تعينه، إذ لا يتحقق
الانقطاع الا مع الابهام من كل وجه.
ثم قال: ثم على الفقراء، فالمذهب صحته لوجود المصرف حالا ومآلا.

(15/338)


ولو اقتصر على قوله: وقفت كذا ولم يذكر مصرفا، أو ذكر مصرفا متعذرا كوقفت كذا على جماعة فالاظهر بطلانه.
ولو وقف على شخصين ثم الفقراء مثلا فمات احدهما فالاصح المنصوص أن نصيبه يصرف إلى الآخر، لان شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعا ولم يوجدوا إذا امتنع الصرف إليهم فالصرف لمن ذكره الواقف أولى.
والثانى: يصرف إلى الفقراء كما يصرف إليهم إذا ماتا، ومحل الخلاف ما لم يفصل، وإلا بأن قال: وقفت على كل منهما نصف هذا فهما وقفان كما ذكره السبكى فلا يكون نصيب الميت منهما للآخر انتقاله للاقرب إلى الواقف ولو وقف عليهما وسكت عمن يصرف له بعدهما فهل نصيبه للآخر أو لاقرباء الواقف؟ وجهان أوجههما كما أفاده الرملي الاول وصححه الاذرعى، ولو رد أحدهما أو بان ميتا فالقياس على الاصح صرفه للآخر.
ولو وقف على زيد ثم عمرو ثم بكر ثم للفقراء، فمات عمرو قبل زيد ثم مات زيد، قال الماوردى والرويانى لا شئ لبكر وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء، لانه رتبه بعد عمرو، وعمرو بموته أولا لم يستحق شيئا فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئا.
وقال القاضى أبو الطيب: الاظهر أنه يصرف إلى بكر لان استحقاق الفقراء مشروط بانقراضه، كما لو وقف على ولده ثم ولد ولده ثم الفقراء، فمات ولد الولد ثم الولد يرجع للفقراء.
ويوافقه فتوى البغوي في مسألة حاصلها أنه إذا مات واحد من ذرية الواقف في وقف الترتيب قبل استحقاقه للوقف لحجبه بمن فوقه يشارك ولده من
بعده عند استحقاقه.
قال الزركشي وهذا هو الاقرب.
ولو وقف على أولاده فإذا انقرض أولادهم فعلى الفقراء، فالاوجه كما صححه الشيخ أبو حامد أنه منقطع الوسط، لان أولاد الاولاد لم يشرط لهم شيئا وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.
واختار ابن أبى عصرون دخولهم، وجعل ذكرهم قرينة على استحقاقهم وفيما ذكرنا كله مذهب أحمد وأصحابه في الاوجه والاقوال وطرق الترجيح (فرع)
إذا أطلق ولم يعين مصرف الوقف فالصحيح أنه يصح، لانه إزالة

(15/339)


ملك على وجه التقرب إلى الله تعالى، وما أطلق من كلام الآدميين محمول على المعهود في الشرع، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع الانتهاء فيصرف إلى أقرب الناس إليه، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح الوقف الا بالقول، فإن بنى مسجدا وصلى فيه أو أذن للناس بالصلاة فيه لم يصر وقفا، لانه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح من غير قول مع القدرة كالعتق، وألفاظه ستة: وقفت.
وحبست.
وسلبت.
وتصدقت وأبدت وحرمت.
فأما الوقف والحبس والتسبيل فهى صريحة فيه، لان الوقف موضوع له ومعروف به، والتحبيس والتسبيل ثبت لهما عرف الشرع ن فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ رضى الله عنه: حبس الاصل وسبل الثمرة.
وأما التصدق فهم كناية فيه لانه مشترك بين الوقف وصدقة التطوع فلم يصح الوقف بمجرده، فإن اقترنت به نية الواقف أو لفظ من الالفاظ الخمسة بأن يقول: تصدقت به صدقة موقوفة أو محبوسة أو مسبلة أو مؤبدة أو محرمة، أو حكم الوقف بأن يقول:
صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث صار وقفا، لانه مع هذه القرائن لا يحتمل غير الوقف، وأما قوله: حرمت وأبدت ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه كناية فلا يصح به الوقف الا بإحدى القرائن التى ذكرنا، لانه لم يثبت له عرف الشرع ولا عرف اللغة فلم يصح الوقف بمجرده كالتصدق
(والثانى)
أنه صريح لان التأبيد والتحريم في غير الابضاع لا يكون الا بالوقف فحمل عليه
(فصل)
وإذا صح الوقف لزم وانقطع تصرف الواقف فيه، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعمر رضى الله عنه: ان شئت حبست أصلها وتصدقت بها لا تباع ولا توهب ولا تورث.
ويزول ملكه عن العين.
ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر أنه لا يزول ملكه عن العين، لان

(15/340)


الوقف حبس العين وتسبيل المنفعة، وذلك لا يوجب زوال الملك.
والصحيح هو الاول، لانه سبب يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة فازال الملك كالعتق.
واختلف أصحابنا فيمن ينتقل الملك إليه، فمنهم من قال: ينتقل إلى الله تعالى قولا واحدا، لانه حبس عين وتسبيل منفعة على وجه القربة فأزال الملك إلى الله تعالى كالعتق ومنهم من قال فيه قولان
(أحدهما)
أنه ينتقل إلى الله تعالى وهو الصحيح لما ذكرنا
(والثانى)
أنه ينتقل إلى الموقوف عليه لان ما أزال المالك عن العين لم يزل المالية تنقل إلى الآدمى كالصدقة
(فصل)
ويملك الموقوف عليه غلة الوقف، فإن كان الموقوف شجرة ملك ثمرتها وتجب عليه زكاتها، لانه يملكها ملكا تاما فوجب زكاتها عليه، فإن
كان حيوانا ملك صوفه ولبنه، لان ذلك من غلة الوقف وفوائده فهو كالثمرة، وهل يملك ما تلده؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يملكه لانه نماء الوقف فأشبه الثمرة وكسب العبد
(والثانى)
أنه موقوف كالام لان كل حكم ثبت للام يتبعها فيه الولد كحرمة الاستيلاد في أم الولد، وإن كان جارية ملك مهرها لانه بدل منفعتها ولا يملك وطأها، لان في أحد القولين لا يملكها، وفى الثاني يملكها ملكا ضعيفا فلم يملك به الوطئ، فإن وطئها لم يلزمه الحد لانه في أحد القولين يملكها، وفى الثاني له شبهة ملك.
وفى تزويجها وجهان
(أحدهما)
لا يجوز، لانه ينقص قيمتها وربما تلفت من الولادة فيدخل الضرر على من بعده من أهل الوقف
(والثانى)
يجوز لانه عقد على منفعتها فأشبه الاجارة.
فإن قلنا إنها للموقوف عليه كان تزويجها إليه، وإن قلنا إنها تنتقل إلى الله تعالى كان تزويجها إلى الحاكم كالحرة التى لا ولى لها ولا يزوجها الحاكم إلا بإذن الموقوف عليه، لان له حقا في منافعها فلم يملك التصرف فيها وبغير اذنه، فإن أتت ولد مملوك كان الحكم فيه كالحكم فيما تلد البهيمة
(فصل)
وان أتلفه الواقف أو أجنبي فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين فمنهم من قال يبنى على القولين، فإن قلنا انه للموقوف عليه وجبت القيمة له لانه

(15/341)


بدل ملكه، وان قلنا: انه لله تعالى اشترى به مثله ليكون وقفا مكانه.
وقال الشيخ أبو حامد الاسفراينى: يشترى بها مثله ليكون وقفا وكانه قولا واحدا لانا وان قلنا انه ينتقل إلى الموقوف عليه الا أنه لا يملك الانتفاع برقبته، وانما يملك الانتفاع بمنفعته، ولان في ذلك ابطال حق البطن الثاني من الوقف، وان أتلفه الموقوف عليه - فإن قلنا انه إذا أتلفه غيره كانت القيمة له - لم تجب عليه،
لانها تجب له ن وان قلنا يشترى بها ما يكون وقفا مكانه أخذت القيمة منه واشترى بها ما يكون مكانه.
وان كان الوقف جارية فوطئها رجل بشبهة فاتت منه بولد ففى قيمة الولد ما ذكرناه من الطريقين في قيمة الوقف إذا أتلف، وان كان الوقف عبدا فجنى جناية توجب المال لم يتعلق برقبته، لانها ليست بمحل للبيع، فان قلنا انه للموقوف عليه وجب الضمان علين.
وأن قلنا: انه لله تعالى ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) يلزم الواقف، وهو قول أبى اسحاق وهو الصحيح، لانه منع من بيعه ولم يبلغ به حالة يتعلق الارش بذمته فلزمه أن يفديه كأم الولد
(والثانى)
أنه يجب في بيت المال لانه لا يمكن ايجابه على الواقف لانه لا يملكه ولا على الموقوف عليه لانه لا يملكه، فلم يبق الا بيت المال، والثالث أنه يجب في كسبه لانه كان محله الرقبة ولا يمكن تعليقه عليها فتعلق بكسبه لانه مستفاد من الرقبة، ويجب أقل الامرين من قيمته أو أرش الجناية لانه لا يمكن بيعه كأم الولد.
(الشرح) خبر عمر معروف ومضى الكلام عليه وافيا ان شاء الله، أما مقاصد الفصل، فإن الوقف لا ينعقد الا بالقول لانه طريقنا إلى العلم بمراده كالعتق، وألفاظ الوقف ستة، ثلاثة صريحة وثلاثة كناية، فالصريحة وقفت وحبست وسلبت، متى أتى بواحدة من هذه الثلاث صار وقفا من غير انضمام أمر زائد، لان هذه الالفاظ ثبت لها حكم الاستعمال عرفا بين الناس وشرعا بالاخبار الصحيحة بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر (ان شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها) أو (حبس الاصل وسبل الثمرة) على أي من الروايتين فصارت هذه الالفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق

(15/342)


وأما الكناية فهى: تصدقت وحرمت وأبدت فليست صريحة، لان لفظة
الصدقة والتحريم مشتركة ن فإن الصدقة تستعمل في الزكاة والهبات، والتحريم يستعمل في الظهار والايمان، ويكون تحريما على نفسه وعلى غيره، والتأييد يحتمل تأبيد التحريم وتأبيد الوقف، ولم يثبت لهذه الالفاظ عرف الاستعمال، فلا يحصل الوقف بمجردها ككنايات الطلاق فيه.
فإن انضم إليها احد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها.
(أحدها) أن ينضم إليها لفظة أخرى تخلصها من الالفاظ الخمسة فيقول: صدقة محبوسة أو موقوفة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة، أو يقول هذه محرمة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو مؤبدة.
(الثاني) أن يصفها بصفات الوقف فيقول: صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، لان هذه القرينة تزيل الاشتراك.
(الثالث) أن ينوى الوقف فيكون على ما نوى، إلا أن النية تجعله وقفا في الباطن دون الظاهر لعدم الاطلاق على ما في الضمائر، فان اعترف بما نواه لزم في الحكم لظهوره.
وإن قال: ما أردت الوقف فالقول قوله لانه أعلم بما نوى، قال في النهاية (ولا يصح الوقف من ناطق لا يحسن الكتابة إلا بلفظ) أما الاخرس فيصح بإشارته.
وأما الكاتب فبكتابته مع النية.
فلو أنه بنى مسجدا وأذن فيه وصلى فيه، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها، فمذهب الشافعي لا يكون ذلك وقفا إلا إذا اقترن باللفظ صريحا أو كناية مقترنة بما يزيل لبسها.
وقال أحمد في رواية أبى داود وأبى طالب فيمن دخل بيتا في المسجد وأذن فيه: لم يرجع فيه، وكذلك إذا اتخذ المقابر وأذن للناس فيها فليس له الرجوع.
وهذا قول أبى حنيفة رضى الله عنه.
وذكر ابن قدامة رواية أخرى عن أحمد أنه لا يصير وقفا إلا بالقول، وقد اجتهد ابن قدامة في الجمع بين الروايتين وجعلهما قولا واحدا وهو الاخذ
باللفظ، فإذا ثبت هذا فانه متى صح وقفه فقد زالت يده عنه زوال ملك وانقطع بذلك تصرفه.
فإذا قلنا بزوال ملكه عن العين وهو الصحيح من المذهب وبه قال

(15/343)


أحمد وأصحابه، فهل ينتقل الملك إلى الموقوف عليهم؟ فمن أصحابنا من قال: ينتقل الملك إلى الموقوف عليهم، وهو ظاهر مذهب أحمد حيث يقول: إذا وقف داره على ولد أخيه صارت لهم.
وهذا يدل على أنهم ملكوه.
وروى عن أحمد أنه لا يملك، فان جماعة نقلوا عنه فيمن وقف على ورثته في مرضه يجوز، لانه لا يباع ولا يورث ولا يصير ملكا للورثة، وانما ينتفعون بغلتها، وهذا يدل بظاهره على أنهم لا يملكون، ويحتمل أن يريد بوقله: لا يملكون، أي لا يملكون التصرف في الرقبة، فان فائدة الملك وآثاره ثابتة في الوقف وقال أبو حنيفة: لا ينتقل الملك في الوقف اللازم، بل يكون حقا لله تعالى لانه ازالة ملك عن العين والمنفعة على وجه القربة بتمليك المنفعة، فانتقل الملك إلى الله تعالى كالعتق.
وبهذا قال بعض أصحابنا، وهو الصحيح من المذهب عندنا.
والقول الآخر أن الوقف سبب يزيل ملك الواقف وجه إلى من يصح تمليكه على وجه لا يخرج المال عن ماليته فوجب أن ينقل الملك إليه كالهبة والبيع ولانه لا وكان تمليك المنفعة المجردة لميلزم كالعارية والسكنى ولم يزل الواقف عنه كالعارية.
ويفارق العتق فانه أخرجه عن ماليته، وامتناع التصرف في الرقبة لا يمنع الملك كأم الولد، وعلى أن الاظهر أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله تعالى فلا يكون للواقف ولا للموقوف عليه.
على أن الذى لا نزاع فيه أن الموقوف عليه يملك غلة الوقف ومنافعه لان ذلك مقصوده، والمنتفع يستوفيها بنفسه وبغيره باعارة واجارة ان كان ناظرا.
والا امتنع عليه نحو الاجارة لتعلقها بالناظر أو نائبه وذلك كسائر الاملاك،
ومحله ان لم يشرط ما يخالف ذلك.
ولو خربت ولم يعمرها الموقوف عليه أجرت للضرورة بما تعمر به، إذ الفرض أنه ليس للوقف ما يعمر به سوى الاجرة المعجلة، وذكر ابن الرفعة أنه يلزم الموقوف عليه ما نقصه الانتفاع من عين الموقوف.
ورجح السبكى أنه ان وقف أرضا غير مغروسة على معين امتنع عليه غرسها الا إذا نص الواقف عليه أو شرط له جميع الانتفاعات، ومثل الغرس البناء،

(15/344)


ولا يبنى ما كان مغروسا وعكسه.
وضابطه أنه يمتنع كل ما غير الوقف بالكلية عن اسمه الذى كان عليه حال الوقف، بخلاف ما يبقى الاسم معه، نعم إن تعذر المشروط جاز إبداله، وأفتى الولى العراقى في علو وقف أراد الناظر هدم واجهته وإخراجه رواش له في هواء الشارع بامتناع ذلك إن كانت الواجهة صحيحة أو غيرها واضر بجدار الوقف.
وإلا جاز بشرط أن لا يصرف عليه من ريع الوقف إلا ما يصرف في إعادته على ما كان عليه وما زاد في ماله، وإنما لم تمتنع الزيادة مطلقا لانها لا تغير معالم الوقف، ويملك الاجرة لانها بدل المنافع المملوكة له، وقضيته أنه يعطى جميع الاجرة المعجلة، ولو لمدة لا يحتمل بقاؤه إلى انقضائها، كما مر في الاجارة، ويملك فوائد الموقوف كثمرة.
ومن ثم لزمه زكاتها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
وروى عن طاوس ومكحول أنه لا زكاة فيه لان الارض ليست مملوكة لهم فلم تجب الزكاة في الخارج منها عليهم كالمساكين.
على أن الثمرة الموجودة حال الوقف للواقف إن كانت مؤبرة، وإلا فقولان ارجحهما أنها موقوفة كالحمل المقارن.
وذكر القاضى في فتاواه أنه لو مات الموقوف عليه وقد برزت ثمرة النخل فهى ملكه، أو وقد حملت الموقوفة فالحمل له ن أو قد زرعت الارض
فالزرع الذى بذر، فإن كان البذر له فهو لورثته ولمن بعده أجرة بقائه في الارض وأفتى جمع من المتأخرين في نخل وقف مع أرضه ثم حدث منه ودى بأن تلك الودية الخارجة من أصل النخل جزء منها فلها حكم أغصانها، وسبقهم لنحو ذلك السبكى فإنه أفتى في أرض وقف وبها شجر موز فزالت بعد أن نبت من أصولها فراخ.
وفى السنة الثانية كذلك وهكذا بأن الوقف ينسحب على كل ما نبت من تلك الفراخ المتكررة من غير احتياج إلى إنشائه.
ولو ماتت البهيمة اختص بجلدها لكونه أولى به من غيره ومحله ما لم يدبع ولو بنفسه وإلا عاد وقفا، وله مهر الجارية الموقوفة عليه بكرا أو ثيبا إذا وطئت من غير الموقوف عليه بشبهة منها، كأن كانت مكرهة أو مطاوعة لا يعتد بفعلها لصغر أو اعتقاد حل وعذرت أو نكاح ان صححناه لانه عقد على منفعة فلم يمنعه الوقف كالاجارة.
وكذا إن لم نصححه لانه وطئ شبهة هنا أيضا.

(15/345)


والمزوج لها الحاكم بإذن الموقوف عليه، ومن ثم لو وقفت عليه زوجته انفسخ نكاحه، وخرج بالمهر أرش البكارة فهو كأرش طرفها، ولا يحل للواقف ولا للموقوف عليه وطؤها ويحد الاول به كما حكى عن الاصحاب.
قال الرملي: وكذا الثاني كما رجحناه هنا وهو المعتمد أما المطاوعة إذا زنى بها وهى مميزة فلا مهر لها.
قال النووي في المنهاج: والمذهب أنه لا يملك قيمة العبد إذا أتلف.
ومعنى هذا أن الموقوف عليه لا يملك قيمة الموقوف إذا اتلف من واقف أو أجنبي أو موقوف عليه تعدى باستعماله في غير ما وقف له أو تلف تحت يد ضامنة له.
أما إذا لم يتعد باتلاف الموقوف عليه فلا يكون ضامنا، كما لو وقع منه صنبور على حوض سبيل فانكسر من غير تقصير ن وفى حال التعدي يشترى الحاكم أو الناظر
في الوقف بقيمة التالف بدله.
ولا بد من إنشاء وقفه من جهة مشتريه فيتعين أحد ألفاظ الوقف المارة.
قال الرملي: وقول القاضى اقمته مقامه محل نظر، وفارق هذا صيرورة القيمة رهنا في ذمة الجاني بأنه يصح رهنها دون وقفها، وعدم اشتراط جعل بدل الاضحية أضحية إذا اشترى بعين القيمه أو في الذمة، ونوى بأن القمة هناك ملك الفقراء والمشترى نائب عنهم، فوقع الشراء لهم بالعين أو مع النية.
وأما القيمة هنا فليست ملك أحد فاحتيج لانشاء وقف ما يشترى بها حتى ينتقل إلى الله تعالى، ولا يجوز شراء أنثى مكان ذكر إذا كان الموقوف ذكرا، كما لا يجوز أن يشترى صغيرا مكان كبير إذا كان الموقوف كبيرا وعكسه، لان الغرض يختلف بذلك وما فضل من القمية يشترى به شقص بخلاف نظيره الذى سيأتي في الوصيه ان شاء الله تعالى لتعذر الرقبة المصرح بها فيها.
فان لم يمكن شراء شقص بالفاضل صرف للموقوف عليه فيما يظهر، كما مر نظيره، بل لنا وجه بصرف جميع ما اوجبته الجنايه إليه.
ولو أوجبت قودا استوفاه الحاكم، فان تعذر شراء بدل الموقوف بها فبعض بدله يشترى بها لكونه أقرب إلى مقصوده كنظيره من الاضحية على الراجح ووجه الخلاف أن الشقص من حيث هو يقبل الوقف بخلاف الاضحية،

(15/346)


ولو جنى الموقوف جناية أو جبت قصاصا أقتص منه وفات الوقف، أو قصاصا أو مالا وعفى على المال فداه الواقف بأقل الامرين.
وله إن تكررت الجناية حكم أم الولد في عدم تكرر الفداء وسائر أحكامها، فان مات الوقف ثم جنى الموقوف فمن بيت المال كالحر المعسر، كما أفتى بذلك الشهاب الرملي.
ولو مات الجاني بعد الجناية لم يسقط الفداء.
هكذا أفاده الشمس الرملي
ولو جفت الشجرة الموقوفة أو قلعها ريح أو زمنت الدابة لم ينقطع الوقف على المذهب، وان امتنع وقفها ابتداء لقوة الدوام، بل ينتفع بها جذعا باجارة ويحتمل أن تباع لتعذر الانتفاع بها على وفق شرط الوقف والثمن الذى بيعت به على هذا الوجه، كقيمة العبد، فيأتى فيه ما مر، فلو لم يمكن الانتفاع بها الا باستهلاكها باحراق ونحوه صارت ملكا للموقوف عليه كما صححه ابن الرفعة والقمولى وجرى عليه ابن المقرى في روضه لكنها لا تباع ولا توهب بل ينتفع بعينها كأم الولد ولحم الاضحية فإذا ثبت هذا فانها لا تصير ملكا لان معنى عودة ملكا انه ينتفع به ولو باستهلاك عينه كالاحراق.
ومعنى عدم بطلان الوقف الذى قررناه انه مادام باقيا لا يفعل به ما يفعل بسائر الاملاك من بيع ونحوه قال النووي: والاصح جواز بيع حصر المسجد إذا بليت وجذوعه إذا انكسرت ولم تصلح الا للاحتراق اه.
وذلك لئلا تضيع وادراك اليسير من ثمنها يعود على الوقف اولى من ضياعها.
واستثنيت من بيع الوقف لصيرورتها كالمعدومة ويصرف ثمنها لمصالح المسجد ان لم يمكن شراء حصير أو جذع.
والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتصرف الغلة على شرط الواقف من الاثرة والتسوية والتفضيل والتقديم والتاخير والجمع والترتيب، وادخال من شاء بصفة واخرجه بصفة، لان الصحابة رضى الله عنهم وقفوا وكتبوا شروطهم، فكتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه صدقة للسائل والمحروم، والضيف ولذي القربى وابن السبيل،

(15/347)


وفى سبيل الله، وكتب على كرم الله وجهه بصدقته (ابتغاء مرضاة الله ليولجنى
الجنة، ويصرف النار عن وجهى ويصرفني عن النار، في سبيل الله وذى الرحم والقريب والبعيد، لا يباع ولا يورث) وكتبت فاطمة رضى الله عنها بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقراء بنى هاشم وبنى المطلب)
(فصل)
فان قال وقفت على أولادي دخل فيه الذكر والانثى والخنثى، لان الجميع اولاده، ولا يدخل فيه ولد الولد، لان ولده حقيقة ولده من صلبه، فان كان له حمل لم يدخل فيه حتى ينفصل، فإذا انفصل استحق ما يحدث من الغلة بعد الانفصال دون ما كان حدث قبل الانفصال، لانه قبل الانفصال لا يسمى ولدا، وان وقف على ولده وله ولد فنفاه باللعان لم يدخل فيه.
وقال أبو اسحاق يدخل فيه لان اللعان يسقط النسب في حق الزوج، ولا يتعلق به حكم سواه، ولهذا تنقضي به العدة، والمذهب الاول لان الوقف على ولده وباللعان قد بان انه ليس بولده، فلم يدخل فيه، وان وقف على أولاد أولاده دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، لان الجميع أولاد أولاده، فان قال على نسلى أو عقبى أو ذريتي دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، قربوا أو بعدوا، لان الجميع من نسله وعقبه وذريته، ولهذا قال الله تعالى (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى) فجعل هؤلاء كلهم من ذريته على البعد، وجعل عيسى من ذريته وهو ينسب إليه بالام، فان وقف على عترته فقد قال ابن الاعرابي وثعلب هم ذريته.
وقال القتيبى: هم عشيرته.
وان وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات، لانهم لا ينسبون إليه.
ولهذا قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا
* بنوهن ابناء الرجال الاجانب
وان وقف على البنين لم يدخل فيه الخنثى المشكل، لانا لا نعلم انه من البنين فان وقف على البنات لم يدخل فيه، لانا لا نعلم انه من البنات، فان وقف على

(15/348)


البنين والبنات ففيه وجهان
(أحدهما)
انه لا يدخل فيه، لانه ليس من البنين ولا من البنات
(والثانى)
انه يدخل لانه لا يخلو من أن يكون ابنا أو بنتا.
وان أشكل علينا - فان وقف على بنى زيد - لم يدخل بناته، فان وقف على بنى تميم وقلنا ان الوقف صحيح ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يدخل فيه البنات لان البنين اسم للذكور حقيقة
(والثانى)
يدخلن فيه، لانه إذا اطلق أسم القبيلة دخل فيه كل من ينسب إليها من الرجال والنساء.

(فصل)
وان قال وقفت على أولادي فان انقرض أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء لم يدخل فيه ولد الولد ويكون هذا وقفا منقطع الوسط فيكون على قولين كالوقف المنقطع الانتهاء.
ومن أصحابنا من قال يدخل فيه أولاد الاولاد بعد انقراض ولد الصلب لانه لما شرط انقراضهم دل على انه يستحقون كولد الصلب، والصحيح هو الاول، لانه لم يشرط شيئا، وانما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.
(الشرح) قوله الاثرة وهى أن يخص قوما دون قوم، مثل ان يقف على اولاده فيخص الذكور دون الاناث أو العكس.
واما التقديم والتأخير فيتحقق بأمرين بالمفاضلة، مثل أن يقول وقفت على اولادي للذكر مثل حظ الانثيين أو على أن للانثى الثلثين والذكر الثلث مثلا.
والثانى أن يقول على أن البطن الاعلى يقدم على البطن الثاني.
وأما التسوية فان يسوى بين الغنى والفقير أو بين الذكور والاناث والاطلاق، يقتضى ذلك.
وأما اخراج من شاء بصفة فمثل أن يقول وقفت على أولادي على
أن من اشتغلت ممثلة فلا حق لها، أو من استغنى من أولادي فلا حق له فيه، ويمكن أن يقول: إذا رجعت عن التمثيل أو افتقر فيرد إليه.
وأما كتاب عمر رضى الله عنه فقد أخرجه أبو داود، ولفظه حدثنا سليمان المهرى قال: اخبرنا ابن وهب قال: اخبرني الليث عن يحيى بن سعيد عن صدقة عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نسخها لى عبد الحميد بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب:

(15/349)


بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما كتب عبد الله عمر في ثمع فقص من خبره نحو حديث نافع قال: غير متأثل مالا، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم قال وساق القصة قال: وان شاء ولى ثمغ اشترى من ثمره رقيقا لعمله وكتب معيقيب، وشهد عبد الله بن الارقم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث، أن ثمغا وصرمة بن الاكوع والعبد الذى فيه، والمائة سهم التى بخيبر، ورقيقه الذى فيه، والمائة التى أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأى من أهلها أن لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذى القربى ولا حرج على من وليه ان أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه) وبعد، فان هذا الفصل يشتمل على أحكام نبحثها مستعينين بالله مستمدين منه التوفيق والسداد فنقول: إذا وقف على ولده لا يدخل فيه ولد الولد بحال، سواء في ذلك ولد البنين وولد البنات، لان الولد حقيقة وعرفا انما هو ولده لصلبه، وانما يسمى ولد الولد ولد مجازا، ولهذا يصح نفيه.
فيقال ما هذا ولدى إنما هو ولد ولدى.
وان قال على ولدى لصلبي فهو آكد.
وان قال على ولدى وولد ولدى ثم على
المساكين، دخل فيه البطن الاول والثانى ولم يدخل فيه البطن الثالث.
وان قال على ولدى وولد ولدى وولد ولد ولدى دخل فيه ثلاث بطون دون من بعدهم، وموضع الخلاف الاطلاق.
فأما مع وجود دلالة تصرف إلى أحد المحملين فانه يصرف إليه بغير الخلاف كان يقول: على ولد فلان وهم قبيلة ليس فيهم ولد من صلبه فانه يصرف إلى أولاد الاولاد باتفاق.
وكذلك ان قال: على أولادي أو ولدى وليس له ولد من صلبه، أو قال ويفضل ولد الاكبر أو الاعلم على غيرهم.
أو قال: فإذا خلت الارض من عقبى عاد إلى المساكين.
وان اقترنت به قرينة تقتضي تخصيص أولاده لصلبه بالوقف مثل ان يقول: على ولدى لصلبي أو الذين يلوننى ونحو هذا فانه يختص بالبطن الاول دون غيرهم.

(15/350)


وقال أحمد في روراية المروذى، قلت لابي عبد الله ما تقول في رجل وقف ضيعة على ولده فمات الاولاد وتركوا النسوة حوامل؟ فقال كل ما كان من أولاده الذكور بنات كن أو بنين فالضيعة موقوفه عليهم، وما كان من أولاد البنات فليس لهم فيه شئ لانهم من رجل آخر.
وقال أيضا فيمن وقف على ولد على بن اسماعيل ولم يقل ان مات ولد على ابن اسماعيل دفع إلى ولد ولده، فمات ولد على بن اسماعيل: دفع إلى ولد ولده أيضا لان هذا من ولد على بن اسماعيل، ووجه ذلك قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) فدخل فيه ولد البنين وان سفلوا، ولما قال (ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد) فتناول ولد البنين، وخالف القاضى وأصحابه من الحنابلة ووافقوا مذهب الشافعي رضى الله عنه فيها.
(فرع)
إذا قال وقفت هذا على ولدى وولد ولدى ما تناسلوا وتعاقبوا الاعلى فالاعلى أو الاقرب فالاقرب أو الاول فالاول أو البطن الاول ثم البطن الثاني أو قال على أولادي ثم على أولاد أولادي، أو قال على أولادي فان انقرضوا على أولاد أولادي، فكل هذا على الترتيب فيكون على ما شرط، ولا يستحق البطن الثاني شيئا حتى ينقرض البطن كله، ولو بقى واحد من البطن الاول كان الجميع له، لان الوقف ثبت بقوله فيتبع فيه مقتضى كلامه فان قال على أولادي وأولادهم ما تناسلوا وتعاقبوا على أنه من مات منهم عن ولد كان ما كان جاريا عليه جاريا على ولده، كان ذلك دليلا على الترتيب، لانه لو اقتضى التشريك لاقتضى التسوية، ولو جعلنا لولد الولد سهما مثل سهم أبيه ثم دفعنا إليه سهم أبيه صار له سهمان ولغيره سهم، وهذا ينافى التسوية، ولانه يفضى إلى تفضيل ولد الابن على الابن، وهذا يخالف أرادة الواقف فان قال وقفت على ولدى وولد ولدى ثم على أولادهم، أو على أولادي ثم على أولاد أولادي وأولادهم ما تناسلوا، أو قال على أولادي وأولاد أولادي ثم على أولاد أولادهم ما تناسلوا فهو على ما قال، يشترك فيه من شرك بينهم بواو العطف المقتضية للاشتراك بين ما بعدها في الحكم مع ما قبلها

(15/351)


ففى الصورة الاولى يشترك الولد وولد الولد ثم إذا انقرضوا صار لمن بعدهم وفى الثانية يختص به الولد، فإذا انقرضوا صار مشتركا بين من بعدهم، وفى الثالثة يشترك فيه البطنان الاولان دون غيرهم، فإذا انقرضوا اشترك فيه من بعدهم.
ومن وقف على أولاده أو أولاد غيره وفيهم حمل لم يستحق شيئا قبل انفصاله لانه لم تثبت له أحكام الدنيا قبل انفصاله.
ويروى عن جعفر بن محمد فيمن وقف نخلا على قوم وما توالدوا ثم ولد
مولود، فإن كانت النخل قد أبرت فليس له فيه شئ، وإن لم تكن قد أبرت فهو معهم.
وهذا الحكم راجع إلى اتباع الاصل في البيع، وهذا الموجود يستحق نصيبه من الاصل، وبعد التأبير لا تتبع الاصل، ويستحقها من كان له الاصل فكانت للوجود قبل التأبير لان الاصل كان له فاستحق ثمرته، كما لو باع هذا النصيب منها، ولم يستحق المولود لا يستحق منه شيئا كالمشترى.
وهذا الحكم في سائر ثمر الشجر الظاهر، فإن المولود لا يستحق منه شيئا ويستحق مما ظهر بعد ولادته.
(فرع)
إذا وقف على قوم وأولادهم وذريتهم دخل في الوقف ولد البنين بغير خلاف نعمله.
فأما ولد البنات فمذهب الشافعي رضى الله عنه أنهم يدخلون وقال الخرقى من أصحاب أحمد: لا يدخلون.
وقال أحمد فيمن وقف على ولده ما كان من ولد البنات فليس لهم فيه شئ قال ابن قدامة: وهذا النص يحتمل أن يعدى إلى هذه المسألة ويحتمل أن يكون مقصورا على من وقف على ولده ولم يذكر ولد ولده.
وممن قال لا يدخل ولد البنات في الوقف الذى على أولاده وأولاد أولاده مالك ومحمد بن الحسن.
وهكذا إذا قال: على ذريتهم أو نسلهم أو عقبه، وقال أبو بكر وعبد الله بن حامد من الحنابلة: يدخل فيه ولد البنات، وهو مذهب أبى يوسف، لان البنات أولاده، فأولادهن أولاد حقيقة، فيجب أن يدخلوا في الوقت لتناول اللفظ لهم.
وقد دل على صحة هذا قول الله تعالى (ونوحا هدينا من قبل، ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله تعالى وعيسى) وهو من ولد بنته فجعله من ذريته وكذلك ذكر الله تعالى قصة عيسى وابراهيم وموسى واسماعيل وإدريس ثم قال

(15/352)


(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن
ذرية إبراهيم وإسرائيل) وعيسى فيهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر (إن ابني هذا سيد يصلح الله على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين) يعنى الحسن بن على رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أبى بكرة رضى الله عنه.
وعن أنس قال (بلغ صفية أن حفصة قالت.
بنت يهودى فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهى تبكى وقالت: قالت لى حفصة: أنت ابنة يهودى.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبى، وإن عمك لنبى وإنك لتحت نبى فبم تفتخر عليك؟ ثم قال: اتقى الله يا حفصة) رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي.
وفى حديث عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلى: وأما أنت يا على فختنى وأبو ولدي) رواه أحمد وعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وحسن وحسين على وركيه (هذان إبناى وإبنا ابنتى، اللهم إنى أحبهما وأحب من يحبهما) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وأخرج نحوه الترمذي من حديث البراء بن عازب بدون قوله: هذان إبناى ولفظه (أبصر حسنا وحسينا فقال: اللهم إنى أحبهما فأحبهما) وللشيخين من حديث البراء أيضا بنحوه ولما قال الله تعالى (وحلائل ابنائكم الذين من أصلابكم) دخل التحريم حلائل أبناء البنات، ولما حرم الله تعالى البنات دخل في التحريم بناتهن، فإن وقف على عترته فقد قال في المصباح: العترة نسل الانسان، قال الازهرى: وروى ثعلب عن ابن الاعرابي أن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه، ولا تعرف العرب من العترة غير ذلك، ويقال: رهطه الادنون، ويقال: أقرباؤه.
ومنه قول أبى بكر رضى الله عنه: نحن عترة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي خرج منها، وبيضته التى تفقأت عنه.
وعليه قول ابن السكيت: العترة والرهط بمعنى.
ورهط الرجل قومه وقبيلته الاقربون.
وان وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات لانهم لا ينسبون إليه.
قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
* بنوهن أبناء الرجال الاباعد

(15/353)


وقد أورد المصنف البيت بإبدال القافية ولمحفوظ هو ما أثبتناه (فرع)
لا يدخل الولد المنفى بلعان إلا أن يستلحقه فيستحق حينئد من الريع الحاصل قبل استلحاقه وبعده حتى يرجع بما يخصه في مدة النفى وينتفى الولد بقوله: أشهد بالله لقد زنت وما هذا ولدى، فينتفى بلعان الزوج وحده خلافا للحنابله، فإنهم لا يعتبرون نفى الزوج وحده، وانما يعتبرون النفى باللعان التام، وهو أن يوجد اللعان بينهما جميعا فلا ينتفى بلعان الزوج وحده.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته، فإن كان للواقف أب يعرف به وينسب إليه دخل في وقفه كل من ينسب إلى ذلك الاب ولا يدخل فيه من ينسب إلى أخى الاب أو أبيه، فإن وقف الشافعي رحمه الله لاقاربه دخل فيه كل من ينسب إلى شافع بن السائب لانهم يعرفون بقرابته، ولا يدخل فيه من ينسب إلى على وعباس بن السائب ولا من ينسب إلى السائب لانهم لا يعرفون بقرابته، ويستوى فيه من قرب وبعد من أقاربه، ويستوى فيه الذكر والانثى تساوى الجميع في القرابة، فان حدث قريب بعد الوقف دخل فيه.
وذكر البويطى أنه لا يدخل فيه، وهذا غلط من البويطى لانه لا خلاف أنه إذا وقف على أولاده دخل فيه من يحدث من أولاده.

(فصل)
وان وقف على أقرب الناس إليه ولم يكن له أبوان صرف إلى الولد ذكرا كان أو أنثى لانه أقرب من غيره، لانه جزء منه، فان لم يكن له ولد
قال ولد الولد من البنين والبنات، فان لم يكن ولد ولا ولد ولد وله أحد الابوين صرف إليه لانهما أقرب من غيرهما، فان اجتمعا استويا، فان لم يكون صرف إلى أبيهما الاقرب فالاقرب، فان كان له أب وابن ففيه وجهان
(أحدهما)
أنهما سواء لانهما في درجة واحدة في القرب
(والثانى)
يقدم الابن لانه أقوى تعصيبا من الاب، فان قلنا انهما سواء قدم الاب على ابن الابن لانه اقرب منه، وان قلنا يقدم الابن قدم ابن الابن على الاب لانه أقوى تعصيبا منه، فان لم يكن أبوان ولا ولد وله اخوة صرف إليهم

(15/354)


لانهم أقرب من غيرهم، فإن اجتمع أخ من اب وأخ من أم استويا، وإن كان أحدهما من الاب والام والآخر من أحدهما قدم الذى من الاب والام لانه أقرب، فان لم يكن إخوة صرف إلى بنى الاخوة على ترتيب آبائهم.
فإن كان له جد وأخ ففيه قولان
(أحدهما)
أنهما سواء لتساويهما في القرب، ولهذا سوينا بينهما في الارث.

(والثانى)
يقدم الاخ لان تعصيبه تعصيب الاولاد، فإذا قلنا إنهما سواء قدم الجد على ابن الاخ، وان قلنا يقدم الاخ فابن الاخ وإن سفل أولى من الجد، فان لم يكن إخوة وله أعمام صرف إليهم ثم إلى أولادهم على ترتيب الاخوة وأولادهم، فان كان له عم وأبوجد فعلى القولين في الجد والاخ، وان كان له عم وخال أو عمة وخالة أو ولدهما فهما سواء، فان كان له جدتان إحداهما تدلى بقرابتين والاخرى بقرابة، فالتى تدلى بقرابتين أولى لانها أقرب، ومن أصحابنا من قال: ان قلنا ان السدس بينهما في الميراث استويا في الوقف
(فصل)
وان وقف على جماعة من أقرب الناس إليه صرف إلى ثلاثة من أقرب الاقارب، فان وجد بعض الثلاثة في درجة والباقى في درجة أبعد استوفى
ما أمكن من العدد من الاقرب وتمم الباقي من الدرجة الابعد، لانه شرط الاقرب والعدد فوجب اعتبارهما.

(فصل)
وان وقف على مواليه وله مولى من أعلى ومولى من أسفل ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يصرف اليهما لان الاسم يتناولهما
(والثانى)
يصرف إلى المولى من أعلى، لان له مزية بالعتق والتعصيب (والثالث) ان الوقف باطل لانه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر، ولا يجوز الحمل عليهما لان المولى في أحدهما بمعنى وفى الآخر بمعنى آخر، فلا تصح ارادتهما بلفظ واحد فبطل.
(الشرح) الاحكام: الوقف على الاقارب من القرب إلى الله تعالى، يتألف من صلة الرحم والاحسان والبر، فقد أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن أنس ان

(15/355)


أبا طلحة قال (يا رسول الله ان الله يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وان أموالي بيرحاء وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.
فقال: بخ بخ، ذلك مال رابح مرتين وقد سمعت: أرى أن تجعلها في الاقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله: فقسمهما أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه) وفى رواية عند أحمد ومسلم (لما نزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
قال أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فأشهدك أنى جعلت أرضى بيرحاء لله، فقال اجعفها في قرابتك.
قال فجعلها في حسان بن ثابت وأبى بن كعب) وللبخاري معناه وقال فيه (اجعلها لفقراء قرابتك) قال محمد بن عبد الله الانصاري: أبو طلحة زيد بن سهل بن الاسود بن
حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدى بن عمرو بن مالك بن النجار.
وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان إلى حرام، وهو الاب الثالث.
وأبى بن كعب ابن قيس بن عيك بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مالك بن النجار، فعمرو يجمع حسانا وأبا طلحة وأبيا، وبين ابى وأبا طلحة ستة آباء.
وأخرج الشيخان عن أبى هريرة واللفظ لمسلم (لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الاقربين، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقار: يا بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد مناف أنقذوا انفسكم من النار، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فانى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها) وفى هذا دليل على أن كل من ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم يطلق عليهم لفظ الاقربين، لانه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ممتثلا لقوله تعالى: وأنذر

(15/356)


عشيرتك الاقربين، وهو دليل على صحة ما ذهب إليه الشافعي رضى الله عنه من دخول النساء لذكره فاطمة، ودخول الكفار وقد اختلف العلماء في الاقارب، فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذى رحم محرم من قبل الاب أو الام، ولكن يبدأ بقرابة الاب قبل الام.
وقال أبو يوسف ومحمد.
من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب وأم من تفصيل زاد زفر ويقدم من قرب.
وهو رواية عن ابى حنيفة، وأقل من يدفع له ثلاثة، وعند محمد اثنان وعند أبى يوسف واحد، ولا يصرف للاغنياء عندهم إلا إن شرط ذلك.
وقال أصحابنا: القريب من اجتمع سواء قرب أم بعد، مسلما كان أو كافرا،
غنيا أو فقيرا، ذكرا أو أنثى، وارثا أو غير وارث محرما أو غير محرم.
واختلفوا في الاصول والفروع على وجهين.
وقالوا: إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا.
وقيل يقتصر على ثلاثة وإن كانوا غير محصورين.
فنقل عن الطحاوي الاتفاق على البطلان.
قال الحافظ ابن حجر: وفى نظر، لان الشافعية عندهم وجه بالجواز، ويصرف منهم لثلاثة ولا يجب التسوية.
وقال أحمد في القرابة كالشافعي إلا أنه أخرج الكافر، وفى رواية عنه: القرابة كل من جمعه، والموصى الاب الرابع إلى ما هو أسفل منه.
وقال مالك: يختص بالعصبة سواء كان برئه أو لا، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا، ثم يعطى الاغنياء وقد تمسك برواية (فجعلها في حسان بن ثابت وأبى كعب) من قال: أقل من يعطى من الاقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان، وفيه نظر لانه وقع في رواية البخاري فجعلها أبو طلحة في ذوى رحمه، وكان منهم حسان وأبى بن كعب، فدل ذلك على أنه أعطى غيرهما معهما وفى مرسل أبى بكر بن حزم: فرده على أقاربه أبى بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه وابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر، فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم.
إذا ثبت هذا فإنه إذا وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته منتسبا إلى أبيه، ولا يدخل فيه من ينسب إلى عمه، فإذا وقف الامام الشافعي رضى الله عنه

(15/357)


لاقاربه دخل فيه كل من ينسب إلى شافع بن السائب لانه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بن عبد الله بن يزيد بن هاشم ابن الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ، وقد أعقب السائب بن عبد الله
شافعا وعليا وعباسا، ومن ثم فإن أبناءهم لا يدخلون في وقف الشافعي لاقاربه فإن أعقبوا بعد الوقف دخل عقبهم مثلهم أيضا، ولا خلاف أن ما يحدث من أولادهم بعد استحقاقهم يدخل معهم في الاستحقاق خلافا للبويطى فان وقف لاقاربه وكان له أولاد قدموا على غيرهم ثم على أولادهم.
وان قال من مات منهم عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات عن غير ولد فنصيبه لاهل الوقف.
وكان له ثلاثة بنين فمات أحدهما عن ابنين انتقل نصيبه اليهما ثم مات الثاني عن غير ولد فنصيبه لاهل الوقف، وكان له ثلاثة بنين فمات أحدهما عن ابنين انتقل نصيبه اليهما، ثم مات الثاني عن غير ولد فنصيبه لاخيه وابنى اخيه بالسوية لانهم أهل الوقف، ثم ان مات أحد ابني الابن عن غير ولد انتقل نصيبه إلى أخيه وعمه لانهما أهل الوقف.
وإن مات أحد البنين الثلاثة عن غير ولد وخلف أخويه وابنى أخ له فنصيبه لاخويه دون ابني أخيه لانهما ليسا من أهل الوقف ما دام أبويهما حيا، فإذا مات أبوهما فنصيبه لهما، فإذا مات الثالث كان نصيبه لابنى أخيه بالسوية إن لم يخلف ولدا، وإن خلف إبنا واحدا فله نصيب أبيه وهو النصف ولابني عمه النصف لكل واحد الربع وإن قال: من مات منهم من غير ولد كان جاريا عليه جاريا على من هو في درجته، فان كان الوقف مرتبا بطنا بعد بطن كان نصيب الميت غن غير ولد لاهل البطن الذى هو منه.
وإن كان مشتركا بين البطون كلها احتمل أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم لانهم في استحقاق الوقف سواء فكانوا في درجته من هذه الدرجة.
وإن كان الوقف على البطن الاول على أنه من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، ومن مات عن غير ولد انتقل نصيبه إلى من هو في درجته ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم يتساوون فيه.
سواء كان

(15/358)


من بطن واحد أو من بطون، وسواء تساويا أنصباؤهم في الوقف أو اختلفت لما ذكرنا
(والثانى)
أن يكون لاهل بطن، سواء كانوا من أهل الوقف أو لم يكونوا مثل أن يكون البطن الاول ثلاثة فمات أحدهما عن ابن ثم مات الثاني عن ابنين فمات أحد الابنين وترك أخاه وعمه وابن عمه وابنا لعمه الحى، فيكون نصيبه بين أخيه وإبنى عمه (والثالث) أن يكون لاهل بطنه من أهل الوقف، فيكون نصيبه على هذا لاخيه وابن عمه الذى مات أبوه، فإن كان في درجته في النسب من ليس من أهل الاستحقاق بحال، كرجل له أربعة بنين وقف على ثلاثة منهم على هذا الوجه وترك الرابع فمات أحد الثلاثة عن غير ولد لم يكن للرابع فيه شئ لانه ليس من أهل الاستحقاق فأشبه ابن عمهم.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن يستحق الوقف من أقرباء الواقف، ففى إحدى الروايتين يرجع إلى الورثة منهم لانهم الذى صرف الله تعالى إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه، فكذلك يصرف إليهم من صدقته ما لم يذكر له مصرفا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم ويكون وقفا عليهم، وعلى هذا ذكر أصحاب أحمد أن المقصود بالوقف هو التأبيد، وإنما صرفناه إلى هؤلاء لانهم أحق الناس بصدقته فصرف إليهم مع بقائه صدقة، ويحتمل كلام الخرقى منهم أن يصرف إليهم على سبيل الارث ويبطل الوقف فيه، فعلى هذا يكوم قوله متفقا
مع قول أبى يوسف.
والرواية الثانية عن أحمد يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف دون بقية الورثة من أصحاب الفروض، ودون البعيد من العصبات فيقدم الاقرب فالاقرب على حسب استحقاقهم لولاء الموالى لانهم خصوا بالعقل عنه وبميراث مواليه فخصوا بهذا أيضا.

(15/359)


ونازعه في هذا ابن قدامة في مغنية وقال: لا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة والاولى صرفه إلى المساكين وفى نزاعه نظر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وقف على زيد وعمرو وبكر ثم على الفقراء فمات زيد صرف إلى من بقى من أهل الوقف، فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء فمات زيد صرف إلى من بقى من أهل الوقف، فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء.
وقال أبو على الطبري: يرجع إلى الفقراء، لانه لما جعل إذا انقرضوا وجب أن تكون حصة كل واحد منهم لهم إذا انقرض، والمنصوص في حرملة هو الاول لانه لا يمكن نقله إلى الفقراء، لانه قبل انقراضهم لم يوجد شرط النقل إلى الفقراء، ولا يمكن رده إلى الواقف لانه أزال ملكه عنه فكان أهل الوقف أحق به.

(فصل)
وإن وقف مسجدا فخرب المكان وانقطعت الصلاة فيه، لم يعد إلى الملك، ولم يجز له التصرف فيه، لان ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال كما لو أعتق عبدا ثم زمن، وإن وقف نخلة فجفت أو بهيمة فزمنت أو جذوعا على مسجد فتكسرت ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز بيعه لما ذكرناه في المسجد
(والثانى)
يجوز بيعه لانه لا يرجى منفعته فكان بيعه أولى من تركه بخلاف المسجد، فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه، وقد يعمر
الموضع فيصلى فيه، فإن قلنا تباع كان الحكم في ثمنه حكم القيمة التى توجد من متلف الوقف وقد بيناه.
وان وقف شيئا على ثغر فبطل الثغر كطرسوس أو على مسجد فاختل المكان حفظ الارتفاع، ولا يصرف إلى غيره لجواز أن يرجع كما كان.

(فصل)
وإن احتاج الوقف إلى نفقة أنفق عليه من حيث شرط الواقف لانه لما اعتبر شرطه في سبيله اعتبر شرطه في نفقته كالمالك في أمواله، وإن لم يشترط أنفق عليه من غلته، لانه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة، فحمل الوقف عليه، وان لم يكن له غلة فهو على القولين إن قلنا إنه لله تعالى كانت نفقته في بيت المال كالحر المعسر الذى لا كسب له، وإن قلنا للموقوف عليه كانت نفقته عليه
(فصل)
والنظر في الوقف إلى من شرطه الواقف، لان الصحابة

(15/360)


رضى الله عنهم وقفوا وشرطوا من ينظر، فجعل عمر رضى الله عنه إلى حفصة رضى الله عنها، وإذا توفيت فإنه إلى ذوى الرأى من أهلها، ولان سبيله إلى شرطه فكان النظر إلى من شرطه.
وإن وقف ولم يشرط الناظر ففيه ثلاثة أوجه
(أحدهما)
أنه إلى الواقف لانه كان النظر إليه، فإذا لم يشرطه بقى على نظره
(والثانى)
أنه للوقوف عليه، لان الغلة له فكان النظر إليه (والثالث) إلى الحاكم لانه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه فكان الحاكم أولى، فإن جعل الواقف النظر إلى اثنين من أفاضل ولده ولم يوجد فيهم فاضل إلا واحد ضم الحاكم إليه آخر لان الواقف لم يرض فيه بنظر واحد.

(فصل)
إذا اختلف أرباب الوقف في شروط الوقف وسبيله ولا بينة جعل بينهم بالسوية، فإن كان الواقف حيا رجع إلى قوله، لانه ثبت بقوله
فرجع إليه.
(الشرح) بعض هذه الفصول مضى ذكر أحكامها.
أما المسجد فإنه إذا انهدم وتعذرت اعادته فإنه لا يباع بحال لامكان الانتفاع به حالا بالصلاة في أرضه، وبهذا قال مالك رضى الله عنه.
وقال الرملي: وبه فارق ما لو وقف فرس على الغزو فكبر ولم يصلح حيث جاز بيعه.
نعم لو خيف على نقضه نقض وحفظ ليعمر به مسجد آخر ان رأى الحاكم ذلك، وان توقع عوده حفظ له، والا فإن أمكن صرفه إلى مسجد آخر صرف إليه، والا فمنقطع الآخر فيصرف لاقرب الناس إلى الواقف، فان لم يكونوا صرف إلى الفقراء والمساكين أو مصالح المسلمين.
أما غير المنهدم فما فضل من غلة الموقوف على مصالحه يشترى به عقار ويوقف عليه بخلاف الموقوف على عمارته يجب ادخاره لاجلها لانه يعرض للضياع أو لظالم يأخذه.
ولو وقف أرضا للزراعة فتعذرت وانحصر النفع في الغرس أو البناء فعل الناظر أحدهما أو آجرها كذلك، وقد أفتى البلقينى في أرض موقوفة لتزرع حناء

(15/361)


فآجرها لتغرس كرما، فإن قوله لتزرع حناء متضمن لاشتراط أن لا يزرع غيره لان من المعلوم أنه يغتفر في الضمنى مالا يغتفر في المنطوق، على أن الفرض في مسألتنا أن لا يقصد تعطيل وقفه وثوابه، ومسألة البلقينى ليس فيها ضرورة فاحتاج إلى التقييد.
وقال أصحاب أحمد: إذا تعطلت منافع الوقف كدار انهدمت أو أرض عادت مواتا أو مسجد انصرف أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه الا
ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وان لم يمكن الانتفاع بشئ منه بيع جميعه.
وقال أحمد في رواية أبى داود صاحب السنن: إذا كان في المسجد خشبتان لهما قيمة جاز بيعهما وصرف ثمنهما عليه.
وقال في رواية صالح: يحول المسجد خوفا من اللصوص، وإذا كان موضعه قذرا، يعنى إذا كان ذلك يمنع من الصلاة فيه، ونص في رواية عبد الله على جواز بيع عرصته وتكون الشهادة في ذلك على الامام.
وقد روى على بن سعيد أن المساجد لا تباع انما تنقل آلتها.
وقال محمد بن الحسن: إذا خرب المسجد أو الوقوف عاد إلى ملك واقفه، لان الوقف انما هو تسبيل المنفعة، فإذا زالت منفعته زال حق الموقوف عليه منه فزال ملكه عنه.
دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يباع أصلها ولا تبتاع ولا توهب ولا تورث) ولان ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع بقاء تعطلها كالمعتق، والمسجد أشبه الاشياء بالمعتق (فائدة، لا يصح عندنا وقف لاجل نقش مسجد أو زخرفته، أما دهانه وملاطه وتجصيصه فجائز، لقول عمر رضى الله عنه (أكن الناس من المطر واياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) أفاده الشمس الرملي في النهاية (فرع)
إذا كان الوقف للاستغلال لم يتصرف فيه سواء ناظره الخاص أو العام أو لينتفع به الموقوف عليه، وأطلق أو قال: كيف شاء، فله استيفاء المنفعة بنفسه وبغيره بأن يركبه الدابة مثلا ليقضى له عليها حاجة فلا ينافى ذلك ما قيل في الاعارة والاجارة وما قيدناه به.

(15/362)


ثم إن شرط الواقف النظر لنفسه أو غيره اتبع كبقية شروطه، لما روى أن عمر (رض) ولى أمر صدقته لحفصة ما عاشت، ثم لاولى الرأى من أهلها، وقبول
من شرط له النظر كقبول الوكيل فيما يظهر لا الموقوف عليه ما لم يشرط له شئ من ريع الوقف، ودعوى السبكى أنه بالاباحة أشبه فلا يرتد بالرد بعيد، بل لو قبله ثم أسقط حقه منه سقط إلا أن يشترط نظره حال الوقف، فلا ينعزل بعزل نفسه على الراجح خلافا لمن زعم خلافه.
قال الرملي: نعم يقيم الحاكم متكلما غيره مدة إعراضه، فلو أراد العود لم يحتج إلى تولية جديدة، فإذا لم يشرط الواقف النظر لاحد فالنظر للقاضى الموجود ببلد الموقوف عليه كما مر نظيره في مال اليتيم، إذ نظره عام فهو أولى من غيره، ولو كان واقفا أو موقوفا عليه.
وما جزم به الماوردى من ثبوته للواقف بلا شرط في مسجد المحلة، والخوارزمي في سائر المساجد، وزاد أن ذريته مثله مردود.
هكذا أفده الرملي وشرط الناظر العدالة الباطنة مطلقا كما رجحه الاذرعى خلافا لاكفاء السبكى بالعدالة الظاهرة، ومن ثم ينعزل بالفسق المحقق بخلاف غيره بخلاف الكذب الذى يمكن أن يكون معذورا فيه.
وسواء في الناظر أكان هو الواقف أم غيره، ومتى انعزل بالفسق فالنظر للحاكم، كما تشترط الكفاية لما تولاه من نظر عام أو خاص وهى الاهتداء إلى التصرف الذى فوض له قياسا على الوصي والقيم، لانها ولاية على غيره، وعند زوال الاهلية يكون النظر للحاكم، هكذا رجحه السبكى وقد أفتى النووي بعدم عود النظر بعود الاهلية ما لم يكن نظره بشرط الواقف، لقوته بالشرط، إذ ليس لاحد عزله ولا الاستبدال به، وعارض فقد الاهلية مانع من تصرفه لا سالب لولايته.
ولو كان له النظر على مواضع فأثبت أهليته في مكان ثبتت في بقية الاماكن من حيث الامانة لا من حيث الكفاية إلا ان يثبت أهليته في سائر الاوقاف كما
قرره ابن الصلاح.
ووظيفة الناظر حفظ الاصول وثمرتها على وجه الاحتياط كولى اليتيم،

(15/363)


كما يتولى الاجارة والعمارة والاقتراض على الوقف عند الحاجة إن شرطه له الواقف أو أذن له فيه الحاكم كما في الروضه وغيرها، خلافا للبلقينى، سواء في ذلك مال نفسه وغيره، كما انه منوط به تحصيل الغله وقسمتها على مستحقيها، ويلزمه رعاية زمن عينه الواقف، ويجوز تقديم تفرقة المنذور على الزمن المعين لشبهه بالزكاة المعجله، ولو كان له وظيفه فاستناب فيها فالاجرة عليه لا على الوقف وقال الاذرعى: إن الذى نعتقده أن الحاكم لا نظر له معه ولا تصرف، بل نظره معه نظر إحاطه ورعاية.
فإن فوض الواقف إليه بعض هذه الامور لم يتعده اتباعا للشرط، ويستحق الناظر ما شرط من الاجرة، كما يجوز له رفع الامر إلى الحاكم ليقرر له أجره قال العراقى في تحريره: ومقتضاه أنه يأخذ مع الحاجة إما قدر النفقة كما رجحه الرافعى أو الاقل من نفقته وأجرة مثله كما رجحه النووي، وقد رجح بعض المتأخرين من أصحابنا أن الظاهر هنا أنه يستحق أن يقرر له أجرة المثل، وإن كان أكثر من النفقة، وانما اعتبرت النفقة هنا لوجوبها على فرعه سواء أكان وليا على ماله أم لا، بخلاف الناظر ولو جعل النظر لعدلين من أولاده وليس فيهم سوى عدل نصب الحاكم آخر، وان جعله للارشد من أولاده فالارشد، فأثبت كل منهم أنه أرشد اشتركوا في النظر بلا استقلال ان وجدت الاهلية فيهم، لان الارشدية قد سقطت بتعارض البينات فيها ويبقى أصل الرشد، ولو تغير حال الارشد حين الاستحقاق فصار مفضولا انتقل النظر إلى من هو أرشد منه، ويدخل في الارشد من أولاد أولاده الارشد من أولاد البنات، وللواقف عزل
من ولاه نائبا عنه ان شرط النظر لنفسه ونصب غيره كالوكيل.
وأفتى النووي بأنه لو شرط النظر لانسان، وجعل له أن يسنده لمن شاء فأسنده لآخر، لم يكن له عزله ولا مشاركته، ولا يعود النظر إليه بعد موته.
قال الرملي: بنظير ذلك أفتى فقهاء الشام وعللوه بأن التفويض بمثابة التمليك، وخالفهم السبكى فقال: بل كالتوكيل، وأفتى السبكى بأن للناظر والواقف من جهته عزل المدرس ونحوه ان لم يكن مشروطا في الوقف ولو لغير مصلحه، وهو مردود بما في الروضة للنووي أنه لا يجوز للامام اسقاط بعض الاجناد المثبتين

(15/364)


في الديوان بغير سبب، فالناظر الخاص أولى، ولا اثر للفرق بأن هؤلاء ربطوا أنفسهم للجهاد الذى هو فرض، ومن ربط نفسه لا يجوز إخراجه بلا سبب بخلاف الوقف فإنه خارج عن فروض الكفايات، بل يرد بأن التدريس فرض أيضا، وكذلك قراءة القرآن، فمن ربط نفسه بهما فحكمه كذلك على تسليم ما ذكر من أن الربط به كالتلبس به، وإلا فشتان ما بينهما، ومن ثم اعتمد البلقينى أن عزله من غير مسوغ لا ينفذ، بل هو قادح في نظره، وفى شرح المنهاج في الكلام على عزل القاضى بلا سبب ونفوذ العزل في الامر العام: أما الوظائف كأذان وإقامة وتدريس وطلب ونحوه فلا ينعزل أربابها بالعزل من غير سبب كما أفتى به كثير من المتأخرين، منهم ابن رزين فقال: من تولى تدريسا لم يجز عزله بمثله ولا بدونه ولا ينعزل بذلك، قال الرملي: وهذا هو المعتمد.
وإذا قلنا: لا ينفط عزره الا بسبب فهل يلزمه بيان مستنده؟ الفتوى أكثر المتأخرين بعدمه وقيده بعضهم بما إذا وثق بعلمه ودينه، وزيفه التاج السبكى بأنه لا حاصل له.
ثم بحث أنه ينبغى وجوب بيان مستنده مطلقا أخذا من قولهم: لا يقبل دعواه الصرف لمستحقين معينين، بل القول قولهم ولهم مطالبته بالحساب
وادعى الولى العراقى أن الحق التقييد وله حاصل لان عدالته غير مقطوع بها، فيجوز أن يختل وأن يظن ما ليس بقادح قادحا بخلاف من تمكن علما ودينا زيادة على ما يعتبر في الناظر من تمييز ما يقدم وما لا يقدح، ومن ورع وتقوى يحولان بينه وبين متابعة الهوى.
ولو طلب المستحقون من الواقف كتاب الوقف ليكتبوا منه نسخه حفظا لاستحقاقهم لزمه تمكينهم وذلك أخذا من افناء جماعة أنه يجب على صاحب كتب الحديث إذا كتب فيها سماع غيره معه لها أن يعيره اياها ليكتب سماعه منها ولو تغيرت المعاملة وجب ما شرطه الواقف مما كان يتعامل به حال الوقف، زاد سعره أم نقص سهل تحصيله أم لا، فإن فقد اعتبرت قيمته يوم المطالبة ان لم يكن له مثل حينئذ والا وجب مثله.
وإذا أجر الناظر الوقف على معين أو جهة اجارة صحيحة فزادت الاجرة

(15/365)


في المدة أو ظهر بالزيادة لم ينفسخ العقد في الاصح لوقوعه بالغبطة في وقته فأشبه ارتفاع القيمة أو الاجرة بعد بيع أو اجارة مال المحجور.
والثانى: تنفسخ إذا كان للزيادة وقع، والظالب ثقة لتبين وقوعه على خلاف المصلحة، وقد مر في الاجارة أنه لو كان المؤجر المستحق أو مأذونه جاز ايجاره بأقل من أجرة مثله وعليه فالاوجه انفساخه بانتقالها لغيره ممن لم يأذن له في ذلك.
وأفتى ابن الصلاح فيما إذا أجر بأجرة معلومة شهد اثنان بأنها أجرة المثل حالة العقد ثم تغيرت الاحوال فزادت أجرة المثل بأنه يتبين بطلانها وخطؤهما لان تقويم المنافع المستقبله انما يصح حيث استمرت حالة العقد بخلاف ما لو طرأ عليها أحوال تختلف بها قيمة المنفعة فإنه بان أن المقوم لم يوافق تقويمه الصواب ولو حكم حاكم بصحة اجارة وقف، وان الاجرة وقف، وأن الاجرة أجرة المثل، فإن ثبت بالتواتر
أنها دونها تبين بطلان الحكم والاجارة.
(فرع)
نفقة الوقف من حيث شرط الواقف لانه لما اتبع شرطه في سبيله وجب اتباع شرطه في نفقته، فإن لم يمكن فمن غلته، لان الوقف اقتضى تحبيس أصله وتسبيل منفعته، ولا يحصل ذلك الا بالاتفاق عليه، فكان ذلك من ضرورته، وان تعطلت منافع الحيوان الموقوف فنفقتهن على الموقوف عليه لانه ملكه، ويحتمل وجوبها في بيت المال، والله تعالى أعلم بالصواب.

(15/366)