المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الهبات

الهبة مندوب إليها لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (تهادوا تحابوا) وللاقارب أفضل لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ) وفى الهبة صلة الرحم، والمستحب أن لا يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة لما روى النعمان بن بشير قال (أعطاني أبى عطية فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول الله إنى أعطيت ابني عطية وإن أمه قالت لا أرضى حتى تشهد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلْ أعطيت كل ولدك مثل ذلك؟ قال لا.
قال رسول الله اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء؟ قال بلى قال فلا إذا) قال الشافعي رحمه الله: ولانه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره، ولان الاقارب ينفس بعضها بعضا مالا ينفس العدى، فإن فضل بعضهم بعطية صحت
العطية، لما روى في حديث النُّعْمَانُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أشهد على هذا غيرى) فلو لم يصح لبين له ولم يأمره أن يشهد عليه غيره، ولا يستنكف ان يهب القليل ولا أن يتهب القليل، لما روى أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لو دعيت إلى كراع لاجبت.
ولو أهدى إلى كراع أو ذراع لقبلت) (الشرح، الحديث الاول أخرجه البخاري في الادب المفرد والبيهقي وابن طاهر في مسند الشهاب من حديث محمد بن بكير عن ضمام بن اسماعيل عن موسى

(15/367)


ابن وردان عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) قال الحافظ ابن حجر وإسناده حسن، وقد اختلف فيه على ضمام.
قال الذهبي: لينه بعضهم بلا حجة.
وقال أحمد بن حنبل: صالح الحديث.
وسرد له ابن عدى في كامله أحاديث حسنة، ولما كان ضمام ختن أبى قبيل على ابنته فقد اختلف عليه، فقيل عنه: عن أبى قبيل عن عبد الله بن عمر أورده ابن طاهر ورواه في مسند الشهاب من حديث عائشة بلفظ (تهادوا تزدادوا حبا) وفى اسناده محمد بن سليمان.
قال ابن طاهر: لا اعرفه، وأورده أيضا من وجه آخر عن أم حكيم بنت وداع الخزاعية وقال: اسناده غريب وليس بحجة.
وروى مالك في الموطأ عن عطاء الخراساني رفعه (تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) وفى الاوسط للطبراني من حديث عائشة (تهادوا تحابوا وهاجروا تورثوا أولادكم مجدا وأقيلوا الكرام عثراتهم) قال الحافظ بن حجر: وفى اسناده نظر وأخرج في الشهاب عن عائشة (تهادوا فان الهدية تذهب الضغائن) ومداره على محمد بن عبد النور عن أبى يوسف الاعشى عن هشام عن أبيه عنها.
والراوي له
عن محمد هو أحمد بن الحسن المقرى.
قال الدارقطني: ليس بثقة، وقال ابن ظاهر لا أصل له عن هشام.
ورواه ابن حبان في الضعفاء من طريق بكر بن بكار عن عائذ بن شريح عن أنس بلفظ (تهادوا فان الهدية قلت أو كثرت تذهب السخيمة) وضعفه بعائذ.
قال أبو حاتم: في حديثه ضعف.
وقال ابن طاهر: ليس بشئ وقد رواه عنه جماعة.
قال ورواه كوثر بن حكيم عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
وكوثر متروك.
وروى الترمذي من حديث ابى هريرة (تهادوا فان الهدية تذهب وحر الصدر) وفى اسناده أبو معشر المدنى تفرد به وهو ضعيف.
ورواه ابن طاهر في احاديث الشهاب من طريق عصمة بن مالك بلفظ (الهدية تذهب بالسمع والبصر) ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر بلفظ (تهادوا فان الهدية تذهب الغل) رواه محمد بن غيزغة قال: لا يجوز الاحتجاج به وقال فيه البخاري منكر الحديث وروى أبو موسى المدينى في الذيل في ترجمة زعبل، بالزاى والعين المهملة والباء

(15/368)


الموحدة، يرفعه (تزاوروا وتهادوا فان الزيارة تثبت الوداد، والهدية تذهب السخيمة.
قال ابن حجر: وهو مرسل وليس لزعبل صحبة اما حديث عبد الله بن عمر رواه احمد في مسنده والطبراني باسناده صحيح عن عبد الله بن عمرو، ورواه مسلم عن عائشة، ورواه البخاري عن ابى هريرة بلفظ الرحم شجنة من الرحمن، قال الله: من وصلته ومن قطعته.
اما حديث النعمان بن بشير عند البخاري ومسلم واحمد بلفظ (ان اباه أتى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انى نحلت ابني هذا غلاما كان لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال: فارجعه) ولفظ مسلم (نصدق على ابى ببعض ماله، فقالت امى عمرة بنت رواحة
لا ارضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق ابى إليه يشهده على صدقتي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا فقال: اتقوا الله واعدلوا في اولادكم، فرجع ابى في تلك الصدقة) وللبخاري مثله لكن ذكره بلفظ العطية لا بلفظ الصدقة.
وقد روى احمد وابو داود والنسائي والمنذري عن النعمان بن بشير قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اعدلوا بين ابنائكم، اعدلوا بين ابنائكم، اعدلوا بين ابنائكم) وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله ثقات الا المفضل ابن المهلب بن ابى صفرة، وقد اختلف فيه وهو صدوق، وفى رواية لمسلم بلفظ (ايسرك ان يكونوا في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا اذن وفى بابه عن ابن عباس عند الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور بلفظ (سووا بين اولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا احدا لفضلت النساء) وفى اسناده سعيد ابن يوسف وهو ضعيف، وذكر ابن عدى في الكامل انه لم ير له انكر من هذا وقد حسن ابن حجر في الفتح اسناده.
أما حديث أبى هريرة فقد اخرجه البخاري بلفظ (ذلود دعيت إلى كراع أو ذراع لاجبت، ولو اهدى إلى ذراع أو كراع لقبلت) ورواه احمد والترمذي وصححه من حديث انس بلفظ (لو اهدى إلى كراع لقبلت، ولو دعيت عليه لاجبت) وفى بابه عن أم حكم الخزاعية عند الطبراني قالت (قلت: يا رسول الله

(15/369)


تكره اللطف؟ قال: ما أقبحه، لو اهدى إلى كراع لقبلت) قوله: اللطف بالتحريك: اليسير من الطعام.
أما الهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة.
قال في الفتح: تطلق بالمعنى الاعم على انواع الابراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهى هبة
ما يتمخض به طلب ثواب الاخرة، والهدية وهى ما يلزم به الموهوب له عوضه، ومن خصها بالحياة اخرج الوصية، وهى تكون أيضا بالانواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الاخص على مالا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بانها تمليك بلا عوض اه والهبة والعطية والهدية والصدقة معانيها متقاربة وكلها تمليك في الحياة بغير عوض، واسم العطية شامل لجميعها، وكذلك الهبة والصدقة والهدية متغايران، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
وقال في اللحم الذى تصدق به على بريرة (هو عليها صدقة ولنا هدية) فالظاهر ان من أعطى شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة.
ومن دفع إلى انسان شيئا بتقرب به إليه محبة له فهو هدية، وجميع ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه لقوله صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) وأما الصدقة فما ورد في فضلها اكثر من ان يمكننا حصره، وقد قال الله تعالى (ان تبدوا الصدقات فنعما هي، وان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم سيئاتكم) إذا ثبت هذا فان المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة الا بالقبض، وهو قول اكبر الفقهاء، منهم النخعي والثوري والحسن بن صالح وابو حنيفة والشافعي واحمد.
وقال مالك وابو ثور: يلزم ذلك بمجرد العقد لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (العائد في هبته كالعائد في قيئه) ولانه ازالة ملك بغير عوض فلزم بمجرد العقد كالوقوف والعتق.
وربما قالوا: تبرع فلا يعتبر فيه القبض كالوصية والوقف، ولانه عقد لازم ينقل الملك فلم يقف لزومه على القبض كالبيع، وتطلق الهبة على الشئ الموهوب واحاديث النعمان بن بشير تمسك بها من اوجب التسوية بين الاولاد في

(15/370)


العطيه، وبه صرح البخاري، وهو قول طاوس والثوري واحمد واسحاق وبعض المالكية، قال في الفتح: والمشهور عن هؤلاء انها باطلة.
وعن احمد تصح، ويجب ان يرجع.
وعنه يجوز التفاضل ان كان له سبب، كان يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين.
وقال أبو يوسف تجب التسوية ان قصد بالتفضيل الاضرار.
وذهب الجمهور إلى ان التسوية مستحبه، فان فضل بعضا صح وكره، وحملوا الامر على الندب وكذلك حملوا النهى الثابت في رواية لمسلم بلفظ (ايسرك ان يكونوا لك في البر سواء؟ قال بلى.
قال فلا اذن) على التنزيه.
واجابوا عن حديث النعمان باجوبة عشرة جاءت في فتح الباري، اختصرها الشوكاني ووضع عليها زيادات مفيدة (احدها) ان الموهوب للنعمان كان جميع مال والده حكاه ابن عبد البر، وتعقبه بان كثيرا من طرق الحديث مصرحة بالبعضيه، كما في حديث جابر وغيره ان الموهوب كان غلاما، وكما في لفظ مسلم عن النعمان (تصدق على ابى ببعض ماله) (الجواب الثاني) ان العطية المذكورة لم ينجز، وانما جاء بشير يستشير النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فاشار عليه بان لا يفعل فترك، حكاه الطبري ويجاب عنه بان امره صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالنجيز.
وكذلك قول عمرة (لا ارضى حتى تشهد) الخ (الجواب الثالث) ان النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب فجاز لابيه الرجوع.
ذكره الطحاوي.
قال الحافظ وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله (ارجعه) فانه يدل على تقدم وقوع القبض، والذى تظافرت عليه الروايات انه كان صغيرا وكان ابوه قابضا له لصغره فأمره برد العطيه المذكورة
بعدما كانت في حكم المقبوضة.
(الرابع) ان قوله (ارجعه) دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع، وانما امره بالرجوع لان للوالد ان يرجع فيما وهب لولده، وان كان الافضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك امره به.
وفى الاحتجاج بذلك نظر، والذى يظهر ان معنى قوله ارجعه، أي لا تمض الهبة

(15/371)


المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة (الخامس) أن قوله: أشهد على هذا غيرى، إذن بالاشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الامام، وكأنه قال: لا أشهد لان الامام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار، وتعقب بأنه لا يلزم من كون الامام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه، والاذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث، وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع وقال ابن حبان: قوله (أشهد) صيغة أمر والمراد به نفى الجواز وهى كقوله لعائشة: اشترطي لهم الولاء اه.
ويؤيد هذا الوجه تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورا كما في بعض الروايات المذكورة.
(السادس) التمسك بقوله: ألا سويت بينهم، على أن المراد بالامر الاستحباب وبالنهى التنزيه.
قال ابن حجر: وهذا جيد لولا ورود تلك الالفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما رواية (سو بينهم) (السابع) قالوا المحفوظ في حديث النعمان (قاربوا بين اولادكم) لا سووا، وتعقب بانكم لا توجبون المقاربة كما لا توجبون التسوية (الثامن) في التشبيه الواقع بينهم في التسوية، بالتسوية بينهم، بالتسوية
فيهم في البر قرينة تدل على ان الامر للندب، ورد بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والنهى عن التفضيل يدلان على الوجوب فلا تصلح تلك القرينة لصرفهما وإن صلحت لنفس الامر (التاسع) ما سيأتي في الفصل الذى بعد هذا من منحة أبى بكر لعائشة.
وقوله لها فلو كنت احترثته، وكذلك ما رواه الطحاوي عن عمر أنه نحل ابنه عاصما دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين، وقال في الفتح وقد أجاب ابن عمر عن قصة عائشة بأن اخوتها كانوا راضين، ويجاب بمثل ذلك عن قصة عاصم.
ولا حجة في فعلهما لا سيما إذا عارض المرفوع (العاشر) أن الاجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض ولده

(15/372)


بالتمليك لبعضهم.
ذكره ابن عبد البر.
قال الحافظ ابن حجر ولا يخفى ضعفه لانه قياس مع وجود النص، وقد رأى الشوكاني أن التسوية واجبة وأن التفضيل محرم واختلف الموجبون للتسوية في كيفيتها فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث، واحتجوا بان ذلك حظه من المال لو مات عنه الواهب.
وقال غيرهم لا فرفق بين الذكر والانثى، وظاهر الامر بالتسوية معهم.
على أن حديث النعمان بن بشير رواه عنه عدد كثير من التابعين، منهم عروة ابن الزبير عند مسلم والنسائي وأبى داود، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوى، والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبى داود والنسائي، وعبد الله بن عتبه بن مسعود عند أحمد، وعون بن عبد الله عند أبى عوانة والشعبى عند الشيخين وأبى داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم
وقد رواه النسائي من مسند بشير والد النعمان فشذ بذلك.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وما جاز بيعه من الاعيان جاز هبته لانه عقد يقصد به ملك العين فملك به ما يملك بالبيع وما جاز هبته جاز هبة جزء منه مشاع لما روى عمر بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من المدينة حتى أتى الروحاء فإذا حمار عقير، فقيل يا رسول الله هذا حمار عقير، فقال دعوه فانه سيطلبه صاحبه، فجاء رجل من فهر فقال يا رسول الله انى أصبت هذا فشأنكم به، فأمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بقسم لحمه بين الرفاق، ولان القصد منه التمليك والمشاع كالمقسوم في ذلك.

(فصل)
وما لا يجوز بيعه من المجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملكه عليه كالمبيع قبل القبض لا تجوز هبته لانه عقد يقصد به تمليك المال في حال الحياة فلم يجز فيما ذكرناه كالبيع
(فصل)
ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لانه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع

(15/373)


(الشرح) حديث عمرو بن سلمة الضمرى كذا في نسخ المهذب وفى مواطن مختلفة من فصول المهذب وصوابه عمير بن سلمة الضمرى بالتصغير.
قال الحافظ ابن حجر في التهذيب: له صحبة وحديث، وهذا الحديث أخرجه أحمد والنسائي ومالك في الموطأ وصححه ابن خزيمة وغيره عن عمير بن سلمة الضمرى عن رجل من بهز (أنه خرج مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد مكه حتى إذا كانوا في بطن واد الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا فذكروه للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: أقروه حتى يأتي صاحبه فأتى البهرى وكان صاحبه فقال: يارسول الله
شأنكم هذا الحمار فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر فقسمه في الرفاق، وهم محرمون، قال: ثم مررنا حتى إذا كنا بالاتاية إذا نحن بظبى حاقف في ظل فيه سهم فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أن يقف عنده حتى يخير الناس عنه) .
ولاحمد والبخاري ومسلم من حديث قتادة قال (كنت يوما جالسا مع رجال مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منزل في طريق مكه ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي فلم تؤذنوني، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ: لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: لا والله لا نعينك عليه، فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتهمَا ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فوقعوا فيه يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عن ذلك فقال: هل معكم منه شئ فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها وهو محرم) ولمسلم (هل أشار إليه إنسان أو أمره بشئ قالوا: لا، قال: فكاوه) وللبخاري (قال منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقى من لحمها) قلت.
وهذا الخبر صريح في صحة هبة المشاع، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، سواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن

(15/374)


وقال أصحاب الرأى لا تصح هبة المشاع الذى يمكن قسمته لان القبض شرط في الهبة، ووجوب القسمة يمنع صحة القبض وتمامه، فإن كان مما لا يمكن قسمته صحت هبته لعدم ذلك فيه، وإن وهب وأحد اثنين شيئا مما ينقسم لم يجز عند
أبى حنيفة، وجاز عند صاحبيه، وان وهب اثنان اثنين شيئا مما ينقسم لم يصح في قياس قولهم، لان كل واحد من المتهبين قد وهب له جزء مشاع.
ولنا حديث عمرو بن سلمة في الفصل، ولانه يجوز بيعه فجازت هبته كالذى لا ينقسم، ولانه مشاع فاشبه ما لا ينقسم.
وقولهم: إن وجوب القسمة يمنع صحة القبض لا يصح، فإنه لم يمنع صحته في البيع فكذا ههنا، ومتى كانت الهبة لاثنين فقبضاه بإذنه ثبت ملكهما فيه، وإن قبضه أحدهما ثبت الملك في نصيبه أما قوله ما جاز بيعه من الاعيان جاز هبته، فظاهر في عموم ثبوت الملك بالقبض بالهبة فيما يجوز امتلاكه بالعوض، والجواز هنا اعتبار الشئ في حق حكمه، وأما صحته بانعقاد اللفظ بحيث إذا انضم إليه القبض اعتبر، ويثبت حكمه وفى معنى البيع، قال الشافعي رضى الله عنه ولو تغيرت عند الموهوب له بزيادة كان له أخذها وكان كالرجل يبيع الشئ وله فيه الخيار.
ولما كانت الهبة تمليكا لمعين في الحياة لم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فان علقها على شرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم لام سلمة (إن رجعت هذيتنا إلى النجاشي فهى لك) كان وعدا، وإن شرط في الهبة شروطا تنافى مقتضاها نحو أن يقول وهبتك هذا بشرط أم لا، تهبه أو لا تبيعه أو بشرط أن تهبه أو تبيعه أو بشرط أن تهب فلانا شيئا لم يصح.
وفى حصة الهبة وجهان على الشروط الفاسدة في البيع، وان وقت الهبة، فقال وهبتك هذا سنة ثم يعود إلى لم يصح، لانه عقد تمليك لعين فلم يصح مؤقتا.
وجملة ذلك أن التمليك إذا كان لعين بغير عوض عن غير احتياج كان هبة، فإن كان عن احتياج فصدقة، فإن كان للمنفعة بغير عوض فعارية أو بعوض فأجارة وإن كان للعين بعوض فبيع.
(فرع)
لا يجوز هبة المجهول أو غير المملوك أو جعله في الذمة.
قال النووي

(15/375)


وما لا يجوز بيعه كمجهول ومغصوب لمن لا يقدر على انتزاعه، وضال وآبق فلا يجوز هبته.
قال الرملي: بجامع أن كلا منهما تمليك في الحياة ولا ينافيه خير: زن وأرجح، لان الرجحان المجهول وقع تابعا لمعلوم، عل أن الاوجه كون المراد بأرجح تحقق الحق حذرا من التساهل فيه، ولا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عنه في المال الذى جاء من البحرين: خذ منه - الحديث، لان الظاهر أن ما ذكر في المجهول إنما هو بالمعنى الاخص بخلاف هديته وصدقته فيصحان فيما يظهر، واعطاء العباس الظاهر صدقة لا هبة، لكونه من جملة المستحقين.
وقد اختلف الفقهاء في ترك الدين المستقر الذى في الذمة للمدين، فقال أبو حنيفة والثوري وإسحاق: إن وهب الدين لغير من هو في ذمته أو باعه إياه لم يصح.
وقال أحمد: إذا كان لك على رجل طعام قرضا فبعه من الذى هو عليه بنقد، ولا تبعه من غيره عرضا بمالك عليه.
وقال الشافعي: إن كان الدين على معسر أو مماطل أو جاحد له لم يصح البيع لانه معجوز عن تسليمه، وإن كان على ملئ باذل له ففيه قولان.

(أحدهما)
يصح لانه ابتاع بمال ثابت في الذمة فصح، كما لو اشترى في ذمته ويشترط أن يشتريه بعين أو يتقابضان في المجلس لئلا يكون بيع دين بدين.

(والثانى)
لا يصح.
وفى نهاية المحتاج بحث حول ترك الدين المستقر الذى في الذمة المدين لغيره هل يعد هبة أم يعد إبراء فحسب بأنه لا يعد هبة في الاصح لانه غير مقدور على تسليمه، فإن قلنا: بصحة بيعه لغير من هو عليه قياسا على بيع الموصوف فإنه لا يوهب والدين مثله بلى أولى، وفرق ما بين صحة بيعه وعدم صحة هبته بأن بيع ما في الذمة التزام لتحصيل المبيع في مقابلة الثمن الذى استحقه والالتزام فيها صحيح بخلاف هبته فإنها لا تتضمن الالتزام إذ لا مقابل فيها،
فكانت بالوعد أشبه فلم يصح.
ووارد على ما لا يجوز بيعه من المجهول أنه إذا خلط متاعه بمتاع غيره فوهب أحدهما نصيبه لصاحبه فيصح مع جهل قدره وصفته للضرورة، وكذلك لو قال:

(15/376)


أنت في حل مما تأخذ أو تعطى أو تأكل من مالى فله الاكل فقط لانه إباحة وهى صحيحة بالمجهول بخلاف الاخذ والاعطاء قاله العبادي، قال: وفى خذ من عنب كرمى ما شئت لا يزيد على عنقود لانه أقل ما يقع عليه الاسم، وما استشكل به يرد بأن الاحتياط المبنى عليه حق أوجب ذلك التقدير، وأفتى القفال في: أبحت لك من ثمار بستاني ما شئت بأنه إباحة، وظاهرة أن له أخذ ما شاء، وما قاله العبادي أحوط.
وفى الانوار: لو قال ابحت لك جميع مافى دارى أو مافى كرمى من العنب: فله اكله دون بيعه وحمله واطعامه لغيره.
وتقتصر الاباحة على الموجود في الدار أو في الكرم.
ولو قال ابحت لك جميع مافى دارى اكلا واستعمالا ولم يعلم المبيح لم تحصل الاباحة اه.
ومتى قلنا لا تصح الهبة في غير مقدور عليه أو فيما لا يمكن تسليمه كالعبد الابق والجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممن لا يقدر على اخذه بهذا قال ابو حنيفة والشافعي واحمد رضى الله عنهم لانه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح في ذلك كالبيع وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا تصح الا بالايجاب والقبول لانه تمليك ادمى لادمي فافتقر إلى الايجاب والقبول كالبيع والنكاح ولا يصح القبول الا على الفور.
وقال أبو العباس يصح على التراخي، والصحيح هو الاول، لانه تمليك مال في حال الحياة فكان
القبول فيه على الفور كالبيع،
(فصل)
ولا يملك الموهوب منه الهبة من غير قبض، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ اباها نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله فلما حضرته الوفاة قال يا بنية ان أحب الناس غنى بعدى لانت وان أعز الناس على فقرا بعدى لانت، وأنى كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالى ووددت انك جذذته وحزته وانما هو اليوم مال الوارث وانما هما اخواك واختاك.
قالت هذان اخواى فمن أختاى، قال ذو بطن بنت خارجه، فانى اظنها جارية، فان مات قبل القبض قام وارثه مقامه،

(15/377)


ان شاء قبض وان شاء لم يقبض، ومن اصحابنا من قال.
يبطل العقد بالموت، لانه غير لازم فبطل بالموت كالعقود الجائزة، والمنصوص انه لا يبطل لانه عقد يؤل إلى اللزوم فلم يبطل بالموت كالبيع بشرط الخيار، فإذا قبض ملك بالقبض ومن أصحابنا من قال يتبين انه ملك بالعقد، فان حدث منه نماء قبل القبض كان للموهوب له، لان الشافعي رضى الله عنه قال فيمن وهب له عبد قبل ان يهل عليه هلال شوال، وقبض بعدما أهل ان فطرة العبد على الموهوب له والمذهب الاول، وما قال في زكاة الفطر فرعه على قول مالك رحمه الله.
(الشرح) خبر عائشة رضى الله عنها، رواه مالك في الموطأ من طريق ابن شهاب عن عروة عنها، وروى البيهقى من طريق ابن وهب عن مالك وغيره عن ابن شهاب.
وعن حنظلة بن ابى سفيا عن القاسم بن محمد نحوه قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ بلغنا عن ابى بكر رضى الله عنه انه نحل عائشة أم المؤمنين جداد عشرين وسقا من نخل له بالعالية فلما حضره الموت قال لعائشة (انك لم تكوني قبضتيه، وانما هو مال الوارث) فصار بين الورثة لانها لم تكن قبضته.
اما لغات الفصل: فان قوله نحل عائشة أي اعطاها والنحلة العطية، والوسق ستون صاعا، وحزته أي قبضته، ولو قال: حزتيه لكان جائزا ولكن الحذف افصح، واما قوله ذو بطن بنت خارجه.
فان ذو تأتى بمعنى الاسم الموصول في لغة طئ قال شاعرهم: قالوا جننت فقلت كلا
* وربى ما جننت ولا انتشيت ولكني ظلمت فكدت أبكى
* من الظلم المبين أو بكيت فان الماء ماء أبى وجدى
* وبئري ذو حفرت وذو طويت وقد تزوج أبو بكر رضى الله عنه ذو بطن بنت خارجة بن ابى زهير بالسنح في بنى الحارث من الخزوج قريب المدينة واسمها حبيبة وبنتها ام كلثوم بنت أبى بكر رضى الله عنه.
أما الاحكام: فان الهبة لا تصح الا بإذن الواهب لانه بالخيار قبل القبض

(15/378)


ان شاء أقبضها وامضاها وان شاء رجع فيها ومنعها، فان قبضها الموهوب له قبل اذنه لم تتم الهبة ولم يصح القبض.
وحكى عن ابى حنيفة انه إذا قبضها في المجلس صح، وان لم ياذن له، لان الهبة قامت مقام الاذن في القبض لكونها دالة على رضاه بالتمليك الذى لا يتم الا بالقبض.
ومذهب الشافعي واحمد رضى الله عنهما انه قبض الهبة بغير اذن الواهب فلم يصح كما بعد في المجلس، أو كما لو نهاه عن قبضها، ولان التسليم غير مستحق على الواهب فلا يصح التسليم الا باذنه، كما لو اخذ المشترى المبيع من البائع قبل تسليم ثمنه، ولا يصح جعل الهبة اذنا في القبض بدليل ما بعد المجلس، ولو اذن الواهب في القبض ثم رجع عن الاذن أو رجع في الهبة صح رجوعه لان ذلك
ليس بقبض.
وان رجع بعد القبض لم ينفع رجوعه، لان الهبة قد تمت إذا عرف هذا عرف ان شرط الهبة الايجاب، كوهبتك وملكتك ومنحتك وأكرمتك وعظمتك ونحلتك، وكذا أطعمتك ولو في غير طعام كما نص عليه، وقبول، كقبلت ورضيت واتهبت متلفظا باحدب هذه الكلمات أو بإشارة من اخرس مفهومه في حقه بالقبول، لان القبول ينعقد بالكناية.
ومن أركانها ان يكون القبول مطابقا للايجاب، ومن أركانها اعتبار الفور في الصيغة، ولا يضر الفصل.
نعم في الاكتفاء بالاذن قبل وجود القبول نظر، لاننا إذا تصورنا ان الواهب لا يفترق عن الراهن عند تقديمه المعين إلى المتهب الا في الصيغة، تبين لنا أهمية الصيغة وضرورتها عند العقد واعتبار القبول على الفور لفظا، ولا يكفى لفظ يحتمل القبول والرفض الا إذا اقترن اللفظ بالقبض وتسليط اليد، كقوله شكرا فانه لفظ يحتمل الاعتذار عن قبول الهبة ويحتمل القبول وأفتى بعض الاصحاب فيمن بعث بنته وجهازها إلى دار الزوج بأنه ان قال هذا جهاز بنتى فهو ملك لها، والا فهو عارية ويصدق بيمينه ولا يشترط الايجاب والقبول في الصدقة بل يكفى الاعطاء والاخذ، ولا في الهدية بل يكفى البعث من هذا ويكون كالايجاب والقبض من ذلك، ويكون كالقبول لجريان عادة السلف بل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ومع ذلك كانوا يتصرفون فيه

(15/379)


تصرف الملاك فسقط ما يتوهم منه انه كان اباحة.
هذا هو الصحيح.
والثانى يشترطان كالهبة.
وفرق هنا بين التمليك وبين نقل الحق أو اليد إلى غيره، كلين شاة الاضحية أو صوفها أو تنازل إحدى الضرتين عن نوبتها للاخرى (فرع)
لا يملك الموهوب الهبة الا بقبضها، فقد روى عروة عن عائشة رضى الله عنه ان ابا بكر رضى الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية
فلما مرض قال: يا بنية ما أحد أحب إلى غنى بعدى منك، ولا أحد أعز على فقرا منك، وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا وددت انك حزتيه أو قبضتيه، وهو اليوم مال الوارث اخواك واختاك، فاقتسموا على كتاب الله عزوجل.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ما أبال أقولام ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالى وفى يدى.
وإذا مات هو قال: كنت نحلته ولدى، لا نحلة الا نحلة يحرز الولد دون الوالد فان مات ورثه) فإذا مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض، فان قلنا بانه عقد يؤول إلى اللزوم لم يبطل بموت احد المتعاقدين بل يقوم ورثته مقامه، وهذا قول أكثر اصحابنا، وهو قو أبى الخطاب من الحنابلة حيث يقول: إذا مات الواهب قام وارثه مقامه في الاذن في القبض والفسخ.
وان قلنا بقول بعض الاصحاب بانه من العقود الجائزة يبطل بموت أحد المتعاقدين كالوكالة والشركة، وهو قول الامام أحمد حيث قال في رواية أبى طالب وأبى الحارث في رجل اهدى هدية فلم تصل إلى المهدى حتى مات، فانها تعود إلى أصحابها ما لم يقبضها.
وروى باسناده عن ام كلثوم بنت سلمة قالت (لما تزوج رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ سلمة قال لها (انى قد اهديت إلى النجاشي حلة وأواقى مسك، ولا أرى النجاشي الا قد مات، ولا أرى هديتي الا مردودة على، فان ردت فهى لك.
قالت فكان مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وردت عليه هديته، فاعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة) ووجه ضعف القول بانفساخ العقد بموت أحدهما أن ليس المدار على القبول

(15/380)


بل على الايلولة للزوم كما قررنا، وهو جار في الهدية والصدقة أيضا، ويجرى
الخلاف في الجنون والاغماء، ولولى المجنون قبضها قبل الافاقة وفرق الحنابلة بين المكيل والموزون وغيرهما، فالمكيل والموزون لا يصح التمليك بغير قبض أما في غيهما يصح بغير القبض لما روى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا انهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة قبضت أو لم تقبض، وهو قول مالك وابى ثور.
وعن احمد رواية اخرى لا تلزم الهبة في الجميع لا بالقبض، وهو قول أكثر أهل العلم.
قال المروزى: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، على ان الهبة لا تجوز الا مقبوضة، ويروى ذلك عن النخعي والثوري والحسن بن صالح والعنبري والشافعي وأصحاب الرأى لما ذكرنا ومن أصحابنا من قال: انما يستغنى عن القبض إذا تحقق الايجاب والقبول واستقر العقد بينهما، ولانه عقد تمليك فافتقر إلى الايجاب والقبول كالنكاح، وعلى هذا القول إذا حدث نماء في الهبة قبل القبض كانت للموهوب له، والمنصوص ان النماء بعد القبض كان للموهوب قال في الام: وإذا وهب الرجل للرجل جارية أو دار، فزادت الجارية في يديه، أو بنى الدار فليس للواهب الذى ذكر انه وهب للثواب ولم يشترط ذلك ان يرجع في الجارية، أي حال ما كانت زادت خيرا أو نقصت، كما لا يكون له إذا أصدق المرأة جاريه فزادت في يديها ثم طلقها ان يرجع بنصفها زائدة.
اه قلت: وليست الفطرة التى لزمت الموهوب له منفعة تعود عليه، وانما هي قربة صادفت محلها فلا شبه بينها وبين النماء عائد، والفطرة بذل واخراج والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان وهب لغير الولد وولد شيئا وأقبضه لم يملك الرجوع فيه، لما روى ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما رفعاه إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (لَا يحل للرجل ان يعطى العطية فيرجع فيها الا الوالد فيما أعطى ولده)

(15/381)


وان وهب للولد أو ولد الولد وان سفل جاز له أن يرجع للخبر، ولان الاب لا يتهم في رجوعه، لانه لا يرجع الا لضرورة أو لاصلاح الولد، وان تصدق عليه فالمنصوص ان له أن يرجع كالهبة.
ومن أصحابنا من قال لا يرجع، لان القصد بالصدقة طلب الثواب وإصلاح حاله مع الله عزوجل، فلا يجوز ان يتغير رأيه في ذلك، والقصد من الهبة إصلاح حال الولد، وربما كان الصلاح في استرجاعه فجاز له الرجوع.
وإن تداعى نسب مولود ووهبا له مالا لم يجز لواحد منهما أن يرجع لانه لم يثبت له بنوته، فإن لحق بأحدهما ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز لانه ثبت أنه ولده
(والثانى)
لا يجوز لانه لم يثبت له الرجوع في حال العقد، وإن وهب لولده ووهب الولد لولده ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه في ملك من يجوز له الرجوع في هبته
(والثانى)
لا يجوز لانه رجوع على غير من وهب له فلم يجز، وإن وهب لولده شيئا فأفلس الولد وحجر عليه ففيه وجهان
(أحدهما)
يرجع لانه حقه سابق لحقوق الغرماء.

(والثانى)
لانه تعلق به حق الغرماء فلم يجز له الرجوع كما لو رهنه
(فصل)
وإن زاد الموهوب في ملك الولد أو زال الملك فيه ثم عاد إليه فالحكم فيه كالحكم في المبيع إذا زاد في يد المشترى أو زال الملك فيه ثم عاد إليه ثم أفلس في رجوع البائع، وقد بيناه في التفليس (الشرح) حديث ابن عمر وابن عباس رواه طاوس أن ابن عمر وابن عباس رفعاه إلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا يحل للرجل أن يعطى العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده، ومثل الرجل يعطى العطية ثم ايرجع فيها الا
الوالد فيما يعطى ولده.
ومثل الرجل يعطى العطية ثم يرجع فيها كمثل المكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه، وكذلك ابن حبان والحاكم وصححاه وقد استدل بالحديث على تحريم الرجوع في الهبة، لان القئ حرام فالمشبه به مثله، ووقع في رواية أخرى للبخاري وغيره: كالكلب يرجع في قيئه، وهى

(15/382)


تدل على عدم التحريم، لان الكلب غير متعبد فالقئ ليس حراما عليه، وهكذا قوله: كمثل الكلب الخ، وتعقب بأن ذلك للمبالغة في الزجر كقوله صلى الله عليه وسلم فيمن لعب بالنردشير (فكأنما غمس يده في لحم خنزير) وأيضا الرواية الدالة على التحريم غير منافية للرواية الدالة على الكراهة على تسليم دلالتها على الكراهة فقط، لان الدال على التحريم قد دل على الكراهة وزيادة، وقد قدمنا في باب نهى المتصدق أن يشترى ما تصدق به من كتاب الزكاة عن القرطبى أن التحريم هو الظاهر من سياق الحديث.
وقدمنا أيضا أن الاكثر حملوه على التنفير خاصة لكون القئ مما يستقذر.
ويؤيد القول بالتحريم قوله صلى الله عليه وسلم (وليس لنا مثل السوء) في حديث ابن عباس عند أحمد والبخاري.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل للرجل.
قال في الفتح: وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء إلا هبة الوالد لولده، وذهب الحنفية والزيدية إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة، إلا إذا حصل مانع من الرجوع، كالهبة لذى رحم ونحو ذلك من الموانع.
وقال الطحاوي: ان قوله (لا يحل) لا يستلزم التحريم.
قال وهو كقوله صلى الله عليه وسلم (لا تحل الصدقة لغنى) وانما معناه لا تحل له من حيث تحل
لغيره من ذوى الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة وقال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب ومن كان والدا والموهوب له ولده والهبة لم تقبض، والتى ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الاخبار باستثناء كل ذلك.
وأما ما عدا ذلك كالغنى يثيب الفقير ونحو من يصل رحمه فلا رجوع.
قال: ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة.
قال ابن حجر: اتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض وقد أخرج مالك عن عمر أنه قال: من وهب هبة يرجو ثوابها فهى رد على صاحبها ما لم يثب منها.
ورواه البيهقى عن ابن عمر مرفوعا وصححه الحاكم.
قال ابن حجر: والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر ورواه عبد الله بن موسى مرفوعا، قيل وهو وهم وصححه الحاكم وابن حزم، ورواه ابن حزم أيضا عن

(15/383)


أبى هريرة مرفوعا بلفظ (الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها) وأخرجه أيضا ابن ماجة والدارقطني ورواه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة مرفوعا بلفظ (إذا كانت الهبة لذى رحم لم يرجع.
ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس.
قال ابن حجر وسنده ضعيف.
وقال ابن الجوزى: أحاديث ابن عمر وأبى هريرة وسمرة ضعيفة وليس منها ما يصح.
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس مرفوعا (من وهب هبة فهو أحق بها حتى يثاب عليها، فان رجع في هبته فهو كالذى يقئ ويأكل منه) فان صحت هذه الاحاديث كانت مخصصة لعموم حديث طاوس الا أنها لم تثبت، كما رأيت من كلام ابن الجوزى وابن حجر وغيرهما من فقهاء المحدثين.
وقد استدل الجمهور بحديث الفصل على أن للاب أن يرجع فيما وهب لابنه، وقال أحمد (لا يحل للواهب أن يرجع في هبته مطلقا) ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور
حديث عائشة عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي مرفوعا (ان أطيب ما أكلتم من كسبكم، وان أولادكم من كسبكم) وفى لفظ (ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئا) رواه أحمد وحديث جابر أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لى مالا وولدا وان أبى يريد أن يجتاح مالى، فقال (أنت ومالك لابيك) رواه ابن ماجه وحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن أعرابيا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (أن أبى يريد أن يجتاح مالى، فقال أنت ومالك لوالدك، ان أطيب ما أكلتم من كسبكم، وان أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئا) رواه أحمد وأبو داود.
وقال الشافعي رضى الله عنه وأبو حنيفة ومالك: ومالك: ليس للوالد أن يأخذ من مال ولده الا بقدر حاجته، لحديث (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام، الخ.
الحديث متفق عليه وقال النووي في المنهاج وللاب الرجوع في هبة ولده وكذا لسائر الاصول على المشهور، قال الرملي، بالمعنى الاعم الشامل للهديه والصدقه على الراجح،

(15/384)


بل يوجد التصريح بذلك في بعض النسخ، ولا يتعين الفور، بل له ذلك متى شاء وإن لم يحكم به حاكم، أو كان الولد صغيرا فقيرا مخالفا دينا للخبر وساقه.
واختص بذلك لانتفاء التهمة فيه، إذ ما طبع عليه من إيثاره لولده على نفسه يقضى بأبه إنما رجع لحاجة أو مصلحة، ويكره الرجوع من غير عذر، فإن وجد ككون الولد عاقا، أو يصرفه في معصية أنذره به فإن أصر لم يكره.
وبحث الاسنوى ندبه في العاصى وكراهته في العاق إن زاد عقوقه وندبه ان أزاله وإباحته إن لم يفد شيئا، والاذرعى ذهب إلى عدم كراهته إن احتاج
الاب لنفقة أو دين، بل ندبه حيث كان الولد غير محتاج له، ووجوبه في العاصى إن غلب على الظن تعينه طريقا إلى كفه عن المعصية، ويمتنع الرجوع كما بحثه البلقينى في صدقة واجبة كنذر وزكاة وكفارة، وكذا في لحم اضحية تطوع، لانه انما يرجع ليستقل بالتصرف وهو ممتنع هنا.
وكذا له الرجوع لسائر الاصول وان علوا أو سفلوا على المشهور، وأفهم كلامه اختصاص الرجوع بالواهب فلا يجوز ذلك لابيه لو مات ولم يرثه فرعه الموهوب له لمانع قام به وورثه.
جده، لان الحقوق لا تورث وحدها انما تورث بتبعية المال وهو لا يرثه.
ولا يملك الوالد الرجوع الا إذا كانت باقيه في ملك الابن، فان فان خرجت عن ملكه لم يكن له الرجوع فيها لانه ابطال لغير ملك الابن فإن عادت إليه بسبب جديد كبيع أو ارث أو وصية لم يملك الرجوع أيضا لان ملكها لم يستفده من جهة ابيه، أما ان عادت بفسخ أو اقالة فله الرجوع على أحد الوجهين.
(فرع)
إذا تداعى رجلان نسب مولود ووهب له كل منهما مالا فليس لواحد منهما أن يرجع في هبته لان نسبه لم يثبت لواحد منهما، أما إذا لحق بأحدهما ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لثبوت البنوة
(والثانى)
لا يجوز لانه لم يكن ثبت له الرجوع في حال العقد والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان وهب شيئا لمن هو دونه لم يلزمه أن يثيبه بعوض، لان

(15/385)


القصد من هبته الصلة فلم تجب المكافأة فيه بعوض كالصدقه.
وان وهب لمن هو مثله لم يلزمه أيضا أن يثيبه، لان القصد من اكتساب المحبة وتأكيد الصداقه، وان وهب لمن هو أعلى منه ففيه قولان، قال في القديم: لم يلزمه أن
يثيبه عليه بعوض، لان العرف في هبة الادنى للاعلى أن يلتمس به العوض فيصير ذلك كالمشروط.
وقال في الجديد: لا يجب لانه تمليك بغير عوض فلا يوجب المكافأة بعوض كهبة انظير للنظير فان قلنا: لا يجب فشرط فيه ثوابا معلوما ففيه قولان
(أحدهما)
يصح لانه تمليك مال بمال فجاز كالبيع، فعلى هذا يكون كبيع بلفظ الهبة في الربا والخيار وجميع أحكامه.

(والثانى)
أنه باطل، لانه عقد لا يقتضى العوض فبطل شرط العوض كالرهن، فعى هذا حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه، وان شرط فيه ثوابا مجهولا بطل قولا واحدا لانه شرط العوض، ولانه شرط عوضا مجهولا وان قلنا انه يجب العوض ففى قدره ثلاثة أقوال (أحدها) انه يلزمه أنه يعطيه إلى أن يرضى، لما روى ابن عباس رضى الله عنه (أن أعرابيا وهب للنبى صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها.
قال أرضيت قال لا، فزاده وقال أرضيت؟ فقال نعم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد هممت أن لا أتهب الا من قرشي أو أنصارى أو ثقفي)
(والثانى)
يلزمه قدر قيمته لانه عقد يوجب العوض، فإذا لم يكن مسمى وجب عوض المثل كالنكاح.
(والثالث) يلزمه ما جرت العادة في ثواب مثله، لان العوض وجب بالعرف فوجب مقداره في العرف، فان قلنا انه يجب العوض فلم يعطه ثبت له الرجوع، فان تلفت العين رجع بقيمتها، لان كل عين ثبت له الرجوع بها إذا تلفت وجب الرجوع إلى بدلها كالمبيع.
ومن أصحابنا من قال لا يجب لان حق الواهب في العين، وان نقصت العين رجع فيها، وهل يرجع بأرش ما نقص؟ فيه وجهان كالوجهين في رد القيمه إذا تلفت.
وان شرط عوضا مجهولا لم تبطل، لانه شرط ما يقتضيه العقد، لان العقد

(15/386)


على هذا القول يقتضى عوضا مجهولا، وإن لم يدفع إليه العوض وتلف الموهوب ضمن العوض بلا خلاف، وإن شرط عوضا معلوما ففيه قولان
(أحدهما)
أن العقد يبطل، لان العقد يقتضى عوضا غير مقدر فبطل بالتقدير
(والثانى)
يصح لانه إذا صح بعوض مجهول فلان يصح بعوض معلوم أولى
(فصل)
وإن اختلف الواهب والموهوب له، فقال الواهب وهبتك ببدل وقال الموهوب له: وهبتني على غير بدل.
ففيه وجهان، أحدهما أن القول قول الواهب، لان لم يقر لخروج الشئ من ملكه إلا على بدل.
والثانى أن القول قول الموهوت له، لان الواهب أقر له بالهبة وادعى بدلا الاصل عدمه.
(الشرح) حديث ابن عباس رواه أحمد وابن حبان.
وقال الهيثمى: رجال أحمد رجال الصحيح، وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبى هريرة بنحوه، وطوله الترمذي ورواه من وجه آخر، وبين أن الثواب كان ست بكرات، وكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم.
وقد روى أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي من حَدِيثُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ الله صلى لله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) أي يعطى المهدى بدلها.
والمراد بالثواب المجازات وأقله ما يساوى قيمة الهداية، ولفظ ابن أبى شيبة ويثيب ما هو خير منها.
وقد أعل حديث عائشة بالارسال.
قال البخاري: لم يذكر وكيع ومحاضر عن هشام عن أبيه عن جده عن عائشة، وقد استدل بعض المالكية به على وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدى وكانت ممن مثله يطلب الثواب، كالفقير للغنى بخلاف ما يهبه الاعلى للادنى
ووجه الدلالة منه مواظبته صلى الله عليه وسلم، ومن حيث المعنى أن الذى أهدى قصد أن يعطى أكثر مما أهدى، فلا أقل من أن يعوض بنظير هديته، وبه قال الشافعي في القديم، ويجاب بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولو وقعت المواهبه كما تقرر في الاصول وذهبت الحنفية والشافعي في الجديد أن الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لانها بيع

(15/387)


مجهول، ولان موضع الهبة التبرع.
وفى رواية الفصل (إلا من قرشي الخ) وفى رواية أبى داود (وإيم الله لا أقبل هدية بعد يومى هذا من أحد إلا أن يكون مهاجريا أو قرشيا أو أنصاريا أو دوسيا أو ثقفيا) وسبب همه صلى الله عليه وسلم بذلك ما رواه الترمذي من حديث أبى هريرة قال (أهدى رجل من فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله فعوضه منها بعض العوض فتسخطه، فسمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ على المنبر (إن رجالا من العرب يهدى أحدهم الهدية فأعوضه عنها بقدر ما عندي فيظل يسخط على) الحديث.
وقد كان ابن رسلان يحكى أن بعض أهل العلم والفضل يمتنع هو وأصحابه من قبول الهدية من أحد أصلا لا من صديق ولا من قريب ولا غيرهما.
وذلك لفساد النيات في هذا الزمان.
أما أحكام الفصل فقد قال النووي في المنهاج: ولا رجوع لغير الاصول في هبة مقيدة بنفى الثواب.
ومتى وهب مطلقا فلا ثواب إن وهب لدونه وكذا لا على منه في الاظهر.
قال في النهاية: كما لو أعاره داره إلحاقا للاعيان بالمنافع.
ولان العادة ليس لها قوة الشرط في المعارضات
(والثانى)
يجب الثواب لا طراد العادة بذلك، وكذلك لا ثواب له وإن نواه إن وهب لنظيره على المذهب، لان القصد من مثله الصلة وتأكد الصداقه
والطريق الثاني: طرد القولين السابقين، والهدية في ذلك كالهبه كما قاله النووي تفقها ونقله في الكفايه عن تصريح البندنيجى ومثل ذلك الصدقة.
وان اختار الاذرعى دليلا أن العادة متى اقتضت الثواب وجب هو أو رد الهديه والاوجه كما بحثه أيضا أن التردد ما إذا لم يظهر حالة الاهداء قرينة حاليه أو لفظيه دالة على طلب الثواب، والا وجب هو أو الرد لا محالة ولو قال.
وهبتك ببدل.
فقال بل بلا بدل، صدق المتهب بيمينه، لان الاصل عدم البدل.
ولو أهدى له شيئا على أن يقضى له حاجة فلم يفعل لزمه رده ان بقى والا فبدله كما قاله الاصطخرى، فإن كان فعلها حل، أي وإن تعين عليه تخليصه بناء على الاصح أنه يجوز أخذ العوض على الواجب إذا كان فيه كلفة، خلافا لما يوهمه كلام الاذرعى وغيره هنا

(15/388)


فإن وجب الثواب على مقابل المذهب أو على البحث المار لتلف الهديه أو عدم إرادة المتهب ردها فهو قيمة الموهوب، أي قدرها يوم قبضه، ولو مثليا في الاصح، فلا يتعين للثواب جنس من الاموال بل الخيرة فيه للمتهب، والثانى يلزمه ما يعد ثوابا لمثله عادة، وقيل إلى أن يرضى ولو بإضعاف قيمته، فإن قلنا بوجوب إنابته ولم يثبه هو ولا غيره فله الرجوع في هبته ان بقيت وبدلها ان تلفت ولو وهب بشرط ثواب معلوم عليه، كوهبتك هذا على أن تثيبني كذا فقبل فالاظهر صحة العقد نظرا للمعنى إذ هو معاوضة بمال معلوم نصح، كما لو قال بعتك، والثانى بطلانه نظرا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضى التبرع، ومن ثم يكون بيعا على الصحيح، فيجرى فيه عقب العقد أحكامه كالخيارين كما مر بما فيه، والشفعة وعدم توقف الملك على القبض، والثانى يكون هبه نظرا للفظ فلا تلزم قبل القبض أو بشرط ثواب مجهول فالمذهب بطلانه لتعذر صحته بيعا
لجهالة العوض، وهبه لذكر الثواب بناء على الاصح أنها لا تقتضيه، وقيل تصح هبة بناء على أنها تقتضيه ولو بعث هدية لم يعده بالباء لجواز الامرين كما قاله أبو على خلافا لتصويب الحريري تعين تعديته بها في ظرف، أو وهب شيئا في ظرف من غير بعث، فإن لم يجر العادة برده، كقوصرة تمر (وهى الوعاء الذى يكنز فيه من نحو خوص ولا يسمى بذلك الا وهو فيه، والا فزنبيل) وكعلبة حلوى فهو هدية أو هبه أيضا تحكيما للعرف المطرد وكتاب الرسالة يملكه الكتوب إليه ان لم تدل قرينة على عودة، قاله المتولي وهو أوجه من قول غيره أنه باق على ملك الكاتب ويملك المكتوب له الانتفاع به على وجه الاباحة، والا ان اعتيد رده أو اضطربت العادة كما اقتضاه ابن المقرى فلا يكون هديه، بل أمانه في يده كالوديعه، ويحرم استعماله لانه انتفاع بملك غيره بغير اذنه الا في أكل الهديه منه ان اقتضته العادة عملا بها، ويكون عاريه حينئذ ويسن رد الوعاء حالا، قال الاذرعى: وهذا في مأكول، أما غيره فيختلف رد ظرفه باختلاف عادة النواحى، فيتجه في كل ناحية بعرفهم وفى كل قوم عرفهم باختلاف طبقاتهم، ولو ختن ولده وحملت له هدايا ملكها الاب.

(15/389)


وقضية ذلك أن ما جرت به عادة بعض أهل البلاد من وضع طاسة (صينية) بين يدى صاحب الفرح ليضع الناس فيها دراهم: وفى الاسكندرية رأيت الناس يكتبون قائمة بأسماء الواهبين ومقدار ما دفعوه في الطاسة وهم حريصون على رد ما يأخذونه في أفراح من أعطوهم وربما زاد بعضهم على ما أخذ، وفى القاهرة تفشو هذه العادة إلا أن الحرص على الرد أقل من الاسكندرية.
قال الرملي: ثم يقسم على المزين ونحوه يجرى في ذلك التفصيل، فإن قصد
المزين وحده أو مع نظر انه المعاونين له عمل بالقصد، وان أطلق كان ملكا لصاحب الفرح يعطيه لمن يشاء، وبهذا يعلم عدم اعتبار العرف هنا، أما مع قصد خلافه فظاهر، وأما مع الاطلاق فلان حمله على من ذكر من الاب والخادم وصاحب الفرح نظرا للغالب أن كلا من هؤلاء هو المقصود هو عرف الشرع، فيقدم على العرف المخالف له بخلاف مالا عرف للشرع فيه فيحكم بالعادة فيه.
قال الشافعي رضى الله عنه: إذا وهب الرجل شقا من دار فقبضه ثم عوضه الموهوب له شيئا فقبضه الواهب سئل الواهب، فإن قال: وهبتها للثواب كان فيها شفعة، وإن قال: وهبتها لغير الثواب لم يكن فيها شفعة، وكانت المكافأة كابتداء الهبة، وهذا كله في قول من قال: للواهب الثواب إذا قال أردته فأما من قال: لا ثواب للواهب إن لم يشترطه في الهبة فليس له الرجوع في شئ وهبه ولا الثواب منه، قال الربيع وفيه قول آخر، وإذا وهب واشترط الثواب فالهبة باطلة من قبل أنه اشترط عوضا مجهولا، وإذا وهب لغير الثواب وقبضه الموهوب فليس له أن يرجع في شئ وهبه، وهو معنى قول الشافعي: وإذا وهب الرجل للرجل هبه فلم يقبضها الموهبة له حتى مات، فإن أبا حنيفة كا يقول: الهبة في هذا باطل لا تجوز وبه يأخذ، ولا يكون له وصيه إلا أن يكون ذلك في ذكر وصيه، وكان ابن ليلى يقول: هي جائزة من الثلث اه.
(فرع)
إذا اختلف الواهب ولموهوب فقال الواهب: ببدل، وقال الموهوب له على غير بدل فوجهان.
أحدهما: القول قول الواهب لانه منكر لخروج الشئ من ملكه بغير بدل

(15/390)


والثانى: القول قول الموهوب، لان المقر بالهبة والاصل فيها عدم البدل.
وقد ادعاه الواهب وأنكره الموهوب فالقول قول المنكر.
ولو وهبه وأقبضه
ومات ادعاه الوارث صدوره في المرض، وادعى المتهب كونه في الصحة صدق المتهب بيمينه، ولو أقاما بينتين قدمت بينة الوارث لان معها زيادة علم، ثم محل ما تقرر إن كان الولد حرا، ولو أبرأه من دين له عليه لم يملك الرجوع سواء أقلنا: إنه تمليك أم إسقاط، إذ لا بقاء للدين فأشبه ما لو وهبه شيئا فتلف، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى

باب العمرى والرقبى العمرى هو أن يقول: اعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك وفيها ثلاث مسائل (إحداها) أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك ولعقبك بعدك، فهذه عطية صحيحة، تصح بالايجاب والقبول، ويملك فيها بالقبض، والدليل عليه ما رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذى أعطيها لا ترجع إلى الذى أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، والثانية أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، ولم يشرط شيئا ففيه قولان.
قال في القديم هو باطل لانه تمليك عين قدر بمدة فأشبه إذا قال أعمرتك سنة أو أعمرتك حياة زيد.
وقال في الجديد: هو عطية صحيحة، ويكون للمعمر في حياته ولورثته بعده وهو الصحيح، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أعمر عمرى حياته فهى له ولعقبه من بعده يرثها من يرثه من بعده) ولان الاملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك، وتنتقل إلى الورثة، فلم يكن ما جعله له في حياته منافيا لحكم الاملاك (والثالثة) أن يقول: أعمرتك حياتك، فإن مت عادت إلى إن كنت حيا وإلى ورثتي إن كنت ميتا فهى كالمسألة الثانية، فتكون على قولين.

(15/391)


أحدهما: تبطل.
والثانى تصح لانه شرط أن تعود إليه بعد ما زال ملكه أو إلى وارثه، وشرطه بعد زوال الملك لا يؤثر في حق المعمر فيصير وجوده كعدمه.

(فصل)
وأما الرقبى فهو أن يقول: أرقبتك هذه الدار أو دارى لك رقبى ومعناه وهبت لك وكل واحد منا يرقب صاحب، فإن مت قبلى عادت إلى، وان مت قبلك فهى لك، فتكون كالمسألة الثالثة من العمرى، وقد بينا أن الثالثة كالثانية فتكون على قولين، وقال المزني: الرقبى أن يجعلها لآخرهما موتا وهذا خطأ، لما روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ من (أعمر عمرى أو أرقب رقبى فهى للمعمر يرثها من يرثه) .

(فصل)
ومن وجب له على رجل دين جاز له أن يبرئه من غير رضاه، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز الا بقبول من عليه الدين لانه تبرع يفتقر إلى تعيين المتبرع عليه فافتقر إلى قبوله كالوصية والهبة، ولان فيه التزاما منه فلم يملك من غير قبوله كالهبه، والمذهب الاول، لانه اسقاط حق ليس فيه تمليك مال فلم يعتبر فيه القبول كالعتق والطلاق، والعفو عن الشفعة والقصاص، ولا يصح الابراء من دين مجهول لانه ازالة ملك لا يجوز تعليقه على الشرط فلم يجز مع الجهالة كالبيع والهبة.
(الشرح) حديثا جابر أخرجهما أحمد والبخاري ومسلم بلفظ (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعمرى لمن وهبت له) وفى لفظ عند أحمد ومسلم (قال: أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فمن أعمر عمرى فهى الذى أعمر حيا وميتا ولعقبه) وفى رواية عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي (العمرى جائزة لاهلها والرقبى جائز لاهلها) .
وفى رواية لاحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه (من أعمر رجلا عمرى له
ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها، وهى لمن أعمر وعقبه) وفى رواية لابي داود والنسائي والترمذي وصححه (ايما رجل اعمل عمرى له ولعقبه فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى من أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) وفى رواية عند

(15/392)


أحمد ومسلم (إنما العمرى التى أجازها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يقول هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها) وفى رواية عند النسائي (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بالعمرى أن يهب الرجل للرجل ولعقبه الهبة ويستثنى إن حدث بك حدث ولعقبك فهى إلى وإلى عقبى إنها لمن أعطيها ولعقبه) ورواه الشافعي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن حجر المدرى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ العمرى للوارث، ورواه عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر مرفوعا (لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو سبيل الميراث) .
أما حديث عبد الله بن الزبير فقد رأيت نظيره عن أبى هريرة وزيد بن ثابت وفيه النهى عن الرقبى (لا ترقبوا.
من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث) وفى لفظ (الرقبى جائزة) وهى عند أحمد وابى داود والنسائي، وفى لفظ عند احمد (جعل الرقبى للوارث) ورواه أحمد والنسائي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته) .
قال الربيع: سألت الشافعي عمن أعمر عمرى له ولعقبه فقال: هي للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها فقلت: ما الحجة في ذلك، قال: السنة ثابتة من حديث الناس، وحديث مالك رضى الله عنه: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن جابر مر فوعا (أيما رجل أعمر عمرى له
ولعقبه فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) .
قال الشافعي: وبهذا نأخذ ويأخذ عامة أهل العلم في جميع الامصار بغير المدينة وأكابر أهل المدينة.
وقد روى هذا مع جابر زيد بن ثابت عنه صلى الله عليه وسلم فقلت للشافعي فإنا نخالف هذا فقال تخالفونه وأنتم تروونه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت.
إن حجتنا فيه أن مالكا قال.
أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع مكحولا الدمشقي يسأل القاسم بن محمد عن العمرى وما يقول الناس فيها فقال له القاسم ما أدركت إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا

(15/393)


إلى أن قا الشافعي بعد حوار وحجاج.
وكذلك علمنا قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العمرى بخبر ابن شهاب عن أبى سلمة عن جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قبلنا خبر الصادقين فمن روى هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرجح مما روى هذا عن القاسم لا يشك عالم أن مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى أن يقال به مما قاله ناس بعده، قد يمكن فيهم ان لا يكونوا سمعوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بلغهم عنه شئ، وانهم أناس لا نعرفهم، فلان قال قائل لا يقول القاسم قال الناس إلا لجماعة مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أو من أهل العلم لا يجهلون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة ولا يجتمعون أبدا من جهة الرأي ولا يجتمعون الا من جهة السنة.
(قوله) العمرى بضم وسكون الميم مع القصر.
قال في الفتح: وحكى ضم الميم مع ضم أوله.
وحكى فتح أوله مع السكون وهى مأخوذة من العمر وهو الحياة سميت بذلك لانهم كانوا في الجاهلية يعطى الرجل الرجل الدار ويقول له أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك فقيل لها عمرى لذلك.
والرقبى بوزنها مأخوذة من الرقبة، لان منهما يرقب الاخر متى بموت لترجع إليه، وكذا ورثته يقومون مقامه.
هذا أصلها لغة قال ابن حجر: ذهب الجمهور إلى أن العمرى إذا وقعت كانت ملكا للآخر، ولا ترجع إلى الاول الا إذا صرح باشتراط ذلك، والى أنها صحيحة جائزة.
وحكى الطبري عن بعض الناس والماوردي عن داود وطائفة وصاحب البحر عن قوم من الفقهاء أنها غير مشروعة، ثم اختلف القائلون بصحتها إلى ما يتوجه التمليك، فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقباء كسائر الهبات حتى لو كان المعمر عبدا فأعتقه الموهوب له نفذ، بخلاف الواهب أو يتوجه إلى المنفعة دون الرقبة، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وهل يسلك بها مسلك العارية أو الوقف؟ روايتان عند المالكية، وعند الحنفية التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة، وفى الرقبى إلى المنفعة، وعنهم أنها باطلة.

(15/394)


وقد حصل من مجموع الروايات ثلاثة أحوال (الاول) أن يقول أعمرتكها ويطلق.
فهذا تصريح بأنها للموهوب له، وحكمها حكم المؤبدة لا ترجع إلى الواهب.
وبذلك قالت الحنفية.
لان المطلقة عندهم حكمها حكم المؤبدة.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ والجمهور.
وله قول آخر أنها تكون عارية ترجع بعد الموت إلى الملك.
وقد قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن المطلقة للمعمر والوثته من بعده كما تفيده الاحاديث التى مضى ذكرها الحال الثاني: أن يقول هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إلى فهذه عارية مؤقتة ترجح إلى المعير عند موت المعمر.
وبه قال أكثر العلماء، ورجحة جماعة من أصحابنا، والاصح عند أكثرهم لا ترجح إلى الواهب.
واحتجوا بأنه
شرط فاسد فيلغى.
واحتجوا بحديث جابر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الانصاري الذى أعطى أمه الحديقة حياتها أن لا ترجع إليه، بل تكون لورثتها ونصه: أن رجلا من الانصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت فجاء إخوته فقالوا نحن فيه شرع سواء.
قال فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم ميراثا) رواه أحمد ويؤيده حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في العمرى مع الاستثناء بأنها لمن أعطيها، ويعارض ذلك ما في حديث جابر أيضا بلفظ (فأما إذا قلت: هي لك ما عشت فانها ترجع إلى صاحبها) ولكنه قال معمر كان الزهري يفتى به الحال الثالث: أن يقول هي لك ولعقبك من بعدك، أو يأتي بلفظ يشعر بالتأبيد، فهذا حكمها حكم الهبة عند الجمهور: وروى عن مالك أنه يكون حكمها حكم الوقف إذا انقرض المعمر وعقبه رجعت إلى الواهب، والاحاديث القاضية بأنها ملك للموهوب ولسقبه ترد عليه وقد ورد عن على رضى الله عنه أن العمرى والرقبى سواء.
وقال طاوس: من أرقب شيئا فهو على سبيل الميراث.
وقال الزهري: الرقبى وصية يعنى إذا أنا فهذالك وقال الحسن

(15/395)


ومالك وأبو حنيفة: الرقبى باطلة، لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أجاز العمرى وأبطل الرقبى.
وقال أحمد: هذا حديث لا نعرفه، ولا نسلم أن معناها ما ذكروه.
والخلاصة: إذا شرط في العمرى أنها للمعمر وعقبه فهذا تأكيد لحكمها وتكون للمعمر وورثته، وهذا قول جميع القائلين بها، وإذا أطلقها فهى للمعمر وورثته أيضا
لانها تمليك للرقبة فأشبهت الهبة، شرط أنك إذا مت فهى لى، فعن أحمد في احدى الروايتين عنه والشافعي في القديم والقاسم بن محمد وزيد بن قسط والزهرى ومالك وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن أبى ذئب وأبى ثور وداود: صحة العقد والشرط، ومتى مات المعمر رجعت إلى المعمر وعن أحمد في الرواية الاخرى عنه، وهو ظاهر مذهبه، والشافعي في الجديد وأبى حنيفة أنها تكون للمعمر إذا ثبت هذا فان العمرى يصح في العقار وغيره من الحيوان والثياب لانها نوع هبه فصحت في ذلك كسائر الهبات ومن ثم إذا قال: سكنى هذاه الدار لك عمرك أو اسكنها عمرك أو نحو ذاك فليس ذلك بعقد لازم لانه في التحقيق هبة المنافع، ولمنافع انما تستوفى بمضي الزمان شيئا فشيئا، فلا تلزم الا في قدر ما قبضه منها واستوفاه بالسكنى، وللمسكن الرجوع متى شاء، وأيهما مات بطلت الاباحه، وبهذا قال أكثر العلماء وجماعة أهل الفتوى، ومنهم الشعبى والثوري والنخعي والشافعي واسحاق وأحمد وأصحاب الرأى، وروى معنى ذلك عن حفصه رضى الله عنها، والله تعالى أعلم بالصواب

(15/396)