المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الوصايا
من ثبتت له الخلافة على الامة جاز له أن يوصى بها إلى من يصلح لها، لان أبا بكر رضى الله عنه وصى إلى عمر ووصى عمر رضى الله عنه إلى أهل الشورى رضى الله عنهم ورضيت الصحابة رضى الله عنهم بذلك
(فصل)
ومن ثبتت له الولاية في مال ولده ولم يكن له ولى بعده جاز له أن يوصى إلى من ينظر في ماله لما روى سفيان بن عيينة رضى الله عنه عن هشام بن
عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعة مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم عثمان أموالهم والمقداد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود رضى الله عنهم فكان يحفظ عليهم أموالهم وينفق على أبنائهم من ماله، وان كان له جد لم يجز أن يوصى إلى غيره لان ولاية الجد مستحقة بالشرع فلا يجوز نقلها عنه بالوصية (الشرح) الوصايا جمع وصية كعطايا وعطية مأخودة من قولهم: وصيت الشئ أصيبه من باب وعد وصلته، ووصيت إلى فلان توصية وأوصيت إليه ايصاء، وفى السبعة (فمن خاف من موص) بالتخفيف والتثقيل، والاسم الوصاية بالكسر والفتح لغة، وهو وصى فعيل بمعنى مفعول والجمع الاوصياء، وأوصيت إليه بمال جعلته له، وأوصيته عليه وهذا المعنى لا يقتضى الايجاب، وأوصيته بالصلاة أمرته بها.
قال تعالى (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) وقوله (يوصيكم الله في أولادكم.
وفى حديث خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى بتقوى الله، أي أمر فيعم الامر بأى لفظ كان، وهى في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت والوصية في الخلافة أن يعهد لمن يصلح لها من بعده بتوليها.
والوصية بالمال التبرع به بعد الموت، والاصل فيها الكتاب والسنة والاجماع.
وأما الزبير فإنه ابن عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين مات رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عنهم راض، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم على حراء فتحرك فقال اسكن حراء فما عليك الا نبى أو صديق أو شهيد، وكان عليه أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير.

(15/397)


وخبر ابن عيينة الذى ساقه المصنف رويناه في مسند أحمد عن سفيان بن عيينت عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أوصى إلى الزبير سبعة من الصحابة،
منهم عثمان وابن مسعود وعبد الرحمن، فكان ينفق على الورثة من ماله، ويحفظ أموالهم ومناقب الزبير أجل من أن تحصى، ساق الذهبي بعضها في سير أعلام النبلاء.
قال تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) إلخ.
الاية، قال مجاهد: الخير في القران كله المال (وانه لحب الخير لشديد) (إنى احببت حب الخير عن ذكر ربى) (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) وقال شعيب (إنى أراكم بخير) أي بغنى وأوجه ما قيل في الخير في القرآن ما قاله الشافعي رضى الله عنه: الخير كلمة يراد ما أريد بها بالمخاطبة بها.
قال تعالى (أولئك هم خير البرية) فقلنا: إنهم خير البرية بالايمان وعمل الصالحات لا بالمال، وقال تعالى (أولئك لهم خير) فقلنا: ان الخير المنفعة بالاجر لا ان لهم مالا، وقال (ان ترك خيرا الوصية) فقلنا: ان ترك مالا، لان المال هو المتروك.
وفى الوصية للاقربين ثلاثة تأويلات.

(أحدهما)
انهم الاولاد الذين لا يسقطون في الميراث دون غيرهم من الاقارب الذين يسقطون
(والثانى)
انهم الورثة من الاقارب كلهم.
(والثالث) انهم كل الاقارب من وارث وغير وارث، فدل ذلك على وجوب الوصية للوالدين والاقربين حقا واجبا وفرضا لازما، فلما نزلت آية المواريث فسخ فيها الوصية للوالدين وكل وارث وبقى فرض الوصية لغير الورثة من الاقربين على حاله، وهو قول طاوس وقتادة والحسن البصري وجابر بن زيد.
واختلف في القدر الذى يجب عليه ان يوصى منه على أقاويل.
(أحدها) انه الف درهم، وهو قول على بن ابى طالب
(والثانى)
خمسمائة وهذا قول النخعي (والثالث) تجب في قليل المال وكثيره، وهذا قول الزهري

(15/398)


فهدا قول من جعل حكم الآية ثابتا، وذهب الفقهاء وجمهور أهل التفسير إلى نسخها بالمواريث، واختلفوا بأى آية نسخت، فقال ابن عباس نسخت بآية الوصايا بقوله تعالى (للرجال نصيب مما ترك) الخر وقال آخرون نسخت بقوله تعالى (وأولو الارحام بعضهم اولى ببعض) الآية.
والوصية على ثلاثة اقسام قسم لا يجوز وقسم يجوز ولا يجب وقسم مختلف في وجوبه فما التى لا يجوز فالوصية للوارث لحديث شر حبيل بن مسلم عن ابى امامه سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (ان الله تعالى قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصيه لوارث) وأما التى تجوز ولا تجب فالوصية للاجانب وهذا مجمع عليه، وقد أوصى البراء بن معرور للنبى صلى الله عليه وسلم بثلث ماله فقبله ثم رده على ورثته.
واما التى اختلف فيها فالوصية للاقارب، وذهب اهل الظاهر مع من قدمنا ذكره في تفسير الآيه إلى وجوبها للاقارب تعالقا بظاهر قوله تعالى (الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين) وبما ورد عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ مات من غير وصية مات ميتة جاهليه، والدليل على انها غير واجبه للاقارب والاجانب، ماروى ابن عباس وعائشة وابن ابى اوفى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يوص، وحديث سعد بن ابى وقاص الذى فيه (انك ان تدع ورثتك اغنياء خيرا من ان تدعهم فقراء يتكففون الناس) فاقتصر صلى الله على وسلم في الوصيه على ما جعله خارجا مخرج الجواز لا مخرج الايجاب ثم بين ان غنى الورثة بعده أولى من فقرهم إلى الصدقة، ولان الوصيه لو وجبت لاجبر عليها ولاخذت من ماله عند موته ان امتنع منها كالديون والزكوات.
ولان الوصايا عطايا فأشبهت الهبات، فاما الآية فمنع الوالدين من الوصيه مع تقديم ذكرهما فيه دليل على نسخها.
وأما قوله صلى الله على وسلم من مات من غير وصيه مات ميتة جاهلية، فمحمول على أحد أمرين: أما وجوبها قبل النسخ، واما على من كانت عليه ديون وحقوق لا يوصل إلى أربابها الا بالوصية، فتصير بذكرها وادائها واجبه ويجوز الوصيه بتعيين الناظر في ماله بعد موته، فان كان له أب أو جد لم يجز أن يوصى إلى غره بالنظر، لان ولاية الجد مستحقه بالشرع.

(15/399)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ومن ثبت له الولاية في تزويج ابنته لم يجز ان يوصى إلى من يزوجها، وقال أبو ثور: يجوز كما يجوز أن يوصى إلى من ينظر في ماله، وهذا خطأ لما روى ابن عمر قال (زوجنى قدامة بن مظمون ابنة اخيه عثمان بن مظعون فأتى قدامة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انا عمها ووصى ابيها، وقد زوجتها من عبد الله بن عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: انها يتيمة لا تنكح الا بإذنها، ولان ولاية النكاح لها من يستحقها بالشرع فلا يجوز نقلها بالوصية كالوصية بالنظر في المال مع وجود الجد.

(فصل)
ومن عليه حق يدخله النيابة من دين آدمى أو حج أو زكاة أو رد وديعه جاز ان يوصى إلى من يؤدى عنه، لان إذا جاز أن يوصى في حق غيره فلان يجوز في خاصة نفسه أولى.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه أحمد والدارقطني واورده الحافظ ابن حجر في التلخيص وسكت عنه، وقال الهيثمى في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات ويؤخذ من الحديث الذى نسوقه كاملا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل وصية عثمان بن مظعون لاخيه قدامه في ابنته.
قال ابن عمر: توفى عثمان بن مظعون وترك ابنه له من خولة بنت حكيم بن أميه بن حارثه بن الاوقصى وأوصى إلى
اخيه قدامه بن مظعون.
قال عبد الله: وهما خالاى، فخطبت إلى قدامه بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبه يعنى إلى امها فارغبها في المال، فحطت إليه وحطت الجارية إلى هوى أمها فأبتا حتى ارتفع أمرهما إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال قدامة بن مظمون: يارسول الله ابنة أخى أوصى بها إلى فزوجتها ابن عمتها فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة ولكنها امرأة وانما حطت إلى هوى أمها قال: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هي يتيمه ولا تنكح الا بإذنها، قال: فانتزعت والله منى بعد أن ملكتها فزوجوها المغيرة بن شعبة) والحديث

(15/400)


دليل على ان الولى لا يجوز له ان يوصى إلى أخ له أو غيره لتزويجها خلافا لابي ثور الذى جعل الوصيه إلى من ينظر في تزويجها كالوصية إلى من ينظر في مالها، والحديث صريح وقول أبى ثور خطأ، ولان استحقاق الولاية في النكاح لا يتأسس بوصيه، وسيأتى تفصيل ذلك في أبواب المناكحات ان شاء الله.
(فرع)
إذا كان عليه دين دنيوى من حقوق الادميين أو دين أخروى من حقوق الله تعالى فانه يجوز له أن يوصى إلى من يتولى الاداء عنه لانه إذا كان يجوز له ان يوصى في اداء حقوق غيره فلان يوصى لمن يؤدى ما يتعلق بخاصة نفسه أولى.
وقال بعض الاصحاب: بوجوب الوصيه في مثل من عليه دين أو عنده وديعه أو عليه واجب يوصى بالخروج منه، فان الله تعالى فرض اداء الامانات، وطريقه في هذا الباب الوصيه فتكون فرضا عليه، وأما الوصية بجزء من ماله فليست بواجبه على أحد في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبى والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأى وغيرهم.
وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن الوصية غير واجبة الا على من عليه حقوق بغير بينة، وأمانه بغير اشهاد الا طائفة شذت فأوجبتها وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
ومن ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة مالك الوصية بثلثا في وجوه البر، لما روى عامر بن سعد عن ابيه قال: مرضت مرضا أشرفت منه على الموت فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعودني فقلت: يارسول الله لى مال كثير وليس يرثنى الا ابنتى أفأتصدق بمالى كله قال: لا، قلت: اتصدق بثلثي مالى قال: لا، قلت أتصدق بالشطر قال: لا، قلت أتصدق بالثلث قال: الثلث، والثلث كثير انك أن تترك ورثتك اغنياء خير من ان تتركهم عالة يتكففون الناس ولا يجب ذلك لقوله تعالى (وأولوا الارحام بعضمهم اولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين، الا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) وفسر بالوصية، فجعل ذلك

(15/401)


إليهم فد على انها لا تجب، ولانه عطيه لا تلزم في حياته فلم تلزم الوصية به قياسا على ما زاد على الثلث.

(فصل)
وان كانت ورثته فقراء فالمستحب ان لا يستوفى الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم (الثلث كثير انك إن تترك وثتك اغنياء خير من ان تتركهم عالة يتكففون الناس) فاستكثر الثلث وكره أن يترك ورثته فقراء فدل على أن المستحب أن لا يستوفى الثلث.
وعن على رضى الله عنه أنه قال (لان أوصى بالخمس أحب إلى من أن أوصى بالثلث) وإن كان الورثة أغنياء فالمستحب أن يستوفى الثلث لانه لما كره الثلث إذا كانوا فقراء دل على أنه يستحب إذا كانوا أغنياء أن يستوفيه.
(الشرح) حديث عامر بن سعد بن أبى وقاص رواه الستة وأحمد في مسنده
بلفظ (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بى فقلت: يا رسول الله إنى قد بلغ بى من الوجع ما ترى وانا ذو مال ولا يرثنى الا ابتة لى افاتصدق بثلثي مالى؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير أو كبير، انك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) .
وفى رواية أكثرهم (جاءني يعودني في حجة الوداع) وفى لفظ (عَادَنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مرضى فقال: أوصيت؟ قلت: نعم، قال: بكم قلت: بمالى كله في سبيل الله، قال: فما تركت لولدك؟ قلت: هم أغنياء، قال: أوصى بالعشر، فما زال يقول واقول حتى قال: أوصى بالثلث، والثلث كثير أو كبير) رواه النسائي وأحمد بمعناه الا أنه قال (قلت: نعم جعلت مالى كله في الفقراء والمساكين وابن السبيل) ورواه الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه بلفظ: مرضت عام الفتح، وساق الحديث.
أما قوله تعالى (واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض) الآية.
قيل انه أراد بالمؤمنين الانصار والمهاجرين قريضا، وفيه قولان
(أحدهما)
انه ناسخ للتوارث بالهجرة.
حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل

(15/402)


في سورة الانفال (والذين امنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الاعرابي المسلم من قريبه المسلم شيئا حتى يهاجر، ثم نسخ ذلك.
وفى هذه الآية (وأولوا الارحام الخ) (الثاني) ان ذلك ناسخ لتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، روى هشام ابن عروة عن ابيه عن جده واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وذلك انا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الانصار
نعم الاخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجه بن زيد.
وآخيت انا كعب بن مالك، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله، فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورثه غيرى حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا موارثنا وثبت عن عروة ان النبي صلى الله عليه وسلم اخى بين الزبير وبين كعب بن مالك فارثت كعب يوم أحد، فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ كعب عن الضح والريح لورثه الزبير، فانزل الله تعالى الآية، فبين تعالى أن القرابة أولى من الحلف، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة قال ابن العربي: وأولوا الارحام بالاجماع لان ذلك يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين، ولا خلاف في عمومها، وهذا حل اشكالها وأما أثر على كرم الله وجهه فانه يفيد استحباب النقص عن الثلث وهو من فقهه الذى لا يخلو من أثر عن النبي صلى اله عليه وسلم، وبهذا الفقه أخذ الشافعي رضى الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير) ولحديث ابن عباس قال (لو ان الناس غضوا من الثلث إلى الربع فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الثلث والثلث كثير) رواه أحمد والبخاري ومسلم، وقد اخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم للثلث بالكثرة، ويبدو ان (أو) التى جاءت بين كثير وكبير جاءت من الراوى بعد عهد الترقيم لان ورود (كبير) هكذا بغير اعجام تقرأ كبير وتقرأ كثير فخروجا من حرج أن اللفظ النبوى أحدهما وضع اللفظان مفصولين بأو.
اما الاحكام: فان كل ما جاز الانتفاع به من مال ومنفعة جازت الوصية به

(15/403)


وسواء كان المال عينا أو دينا حاضرا أو غائبا معلوما أو مجهولا مشاعا أو محوزا وتقدر الوصية بالثلث، وليس للوصي الزيادة عليه لحديث سعد (الثلث والثلث
كثير) وان نقص من الثلث جاز، وأولى الامرين به أن يعتبر حال الورثة، فان كانوا فقراء كان النقصان من الثلث أولى به من استيعاب الثلث لقول على كرم الله وجهه (لان أوصى بالخمس أحب إلى من أن أوصى بالثلث) وقد أورده الماوردى في الحاوى الكبير عن رواية أخرى (لان أوصى بالسدس أحب إلى من أن أوصى بالربع، وبالربع أحب إلى من الثلث) وان كان ورثته أغنياء وكان في ماله سعة فاستبقاء الثلث أولى به.
وقد قال عمر رضى الله عنه: الثلث وسط، لا بخس ولا شطط.
ولو استوعب الثلث من قليل المال وكثيره، ومع فقر الورثة وغناهم، وصغيرهم وكبيرهم، كانت وصيته ممضاة له.
فأما الزيادة على الثلث فهو ممنوع منها في قليل المال وكثيره، لان النبي صلى الله عليه وسلم منع سعدا من الزيادة عليه، فان وصى بأكثر من الثلث أو بجميع ماله نظرت فان كان له وارث كانت الوصية موقوفة على إجازته ورده.
فان ردها رجعت الوصية إلى الثلث، وان اجازها صحت.
ثم فها قولان
(أحدهما)
ان إجازة الورثة ابتداء عطية منه لا تتم الا بالقبض، وله فيها ما لم يقبض، وان كانت قبل القبض بطلت كالهبات
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وينبغى لمن رأى المريض يجنف في الوصية ان ينهاه لقوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) قال أهل التفسير: إذا رأى المريض يجنف على ولده أن يقول اتق الله ولا توص بمالك كله، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى سعدا عن الزيادة على الثلث.

(فصل)
والافضل أن يقدم ما يوصى به من البر في حياته لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أفضل؟ قال

(15/404)


أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الْفَقْرَ وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قلت لفلان كذا ولفلان كذا، ولانه لا يأمن إذا وصى به أن يفرط به بعد موته فإن اختار أن يوصى فالمستحب ان لا يؤخر الوصية لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم عنده شئ يوصى يبيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده) ولانه إذا اخر لم يأمن أن يموت فجاة فتفوته.

(فصل)
وأما من لا يجوز تصرفه في المال - فان كان ممن لا يميز كالمعتوه والمبرسم ومن عاين الموت - لم تصح وصيته لان الوصية تتعلق صحتها بالقول ولا قول لمن لا يميز، ولهذا لا يصح اسلامه ولا توبته فلم تصح وصيته، فان كان صبيا مميزا أو بالغا مبذرا ففيه قولان
(أحدهما)
لا تصح وصيته، لانه تصرف في المال فلم يصح من الصبى والمبذر كالهبة
(والثانى)
تصح، لانه انما منع من التصرف خوفا من اضاعة المال ليس في الوصيه اضاعة المال، لانه ان عاش فهو على ملكه، وان مات لم يحتج إلى غير الثواب، وقد حصل له ذلك بالوصية.
(الشرح) قوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم) الايه.
في هذه الآية وجهان كل وجحه لا يطرد في كل الناس، لان الناس منهم من يصلح لهم ان يكون معنى الآيه ما روى عن سعيد بن جبير: إذا حضر الرجل الوصيه فلا ينبغى ان يقول أوصى بمالك، فان الله تعالى رزاق ولدك، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك، فذلك قوله تعالى (فليتقوا الله) ومنهم من يصلح له ما قال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس هذا، وهو ان يقول للمحتضر من يحضره: امسك
على ورثتك، وابق لولدك، فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصيه فيتضرر بذلك ذووا القربى وكل من يستحق ان يوصى له، فقيل لهم، كما تخشون على ذريتكم وتسرون بان يحسن إليهم فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضررهم وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث

(15/405)


وأحسن ما قيل فيها ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطنية في عسكر مسلمة ابن عبد الملك فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمى فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان.
فقلت له: يا أبا بشر، ودى الا يكون لى ولد.
فقال لى: ما عليك، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل الا خرجت أحب أو كره، ولكن ان أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم، ثم تلا الآية.
وقوله (يجنف) من جنف يجنف كسمع يسمع إذا جاز والاسم منه جنف وجانف.
قال الاعشى تجانف عن حجر اليمامة ناقتي
* وما قصدت من أهلها لسوائكا ومنه قوله تعالى (فمن خاف من موص جنفا) قال الشاعر هم المولى وان جنفوا علينا
* وإنا من لقائهم لزور وقال لبيد: إنى امرؤ منعت أرومة عامر
* ضيمي وقد جنفت على خصومى وقال تَعَالَى (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لاثم) أي مائل إليه روى أبو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنَّ الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) وترجم النسائي الصلاة على من جنف في وصيته
اخبرنا على بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور - وهو زاذان - عن الحسن ابن سمرة عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ان رجلا اعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فلغ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب من ذلك وقال (لقد هممت ألا أصلى عليه) ثم دعا مملوكيه فجزاهم ثلاثة اجزاء ثم أقرع بينهم فاعتق اثنين وارق أربعة، واخرجه مسلم بمعناه الا انه قال في آخره وقال قولا شديدا بدل قوله (لقد هممت الا أصلى عليه) قال الماوردى في تأويل قوله تعالى، جنفا أو إثما ثلاثة أقاويل
(أحدهما)
ان الجنف الميل، والاثم أن يأثم في أثرة بعضهم على بعض.
وهذا قول عطاء وابن زيد
(والثانى)
ان الجنف الخطأ والاثم العمد، وهذا قول السدى (والثالث) انه

(15/406)


الرجل يوصى لولد بنيه وهو يريد بنيه.
وهذا قول طاوس.
فالاضرار في الوصية ان يوص بأكثر من الثلث، والاضرار في الدين أن يبيع بأقل من ثمن المثل ويشترى بأكثر منه.
وقد روى عكرمة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الاضرار في الوصية من الكبائر، وقال تعالى (ووصى بها ابراهيم بنيه) الآيه والافضل أن يقدم ما يوصى به حال حياته، لحديث أبى هريرة الذى ساقه المصنف قَالَ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الصدقة افضل؟ قال: ان تتصدق وانت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قلت لفلان كذا ولفلان كذا) وقد أخرج هذا الحديث الشيخان وأصحاب السنن الا الترمذي، ورواه أحمد في مسنده ولفظه في كثرها (جاء رجل فقال يارسول الله: أي الصدقة أفضل أو أعظم أجرا؟ قال: أما وأبيك لنفتأن أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخشى
الفقر وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان) وقوله (لتفتأن بالبناء لما لم يسم فاعله من الفتيا.
وفى نسخة لتنبأن من النبأ وقوله (أن تصدق بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين، وأصله أن تتصدق والتشديد على الادغام.
قوله (شحيح) قال صاحب المنتهى: الشح بخل مع حرص، قال الخطابى فيه ان المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سمة البخل، فلذلك شرط صحه البدن في الشح بالمال لانه في الحالتين يجد للمال وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيخذر معه الفقر قال ابن بطال وغيره، لما كان الشح غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية وأعظم للاجر بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره وقوله (حتى إذا بلغت الروح الحلقوم) أي قاربت بلوغه، إذ لو بلغته حقيقة لم يصح شئ من تصرفاته، والحلقوم مجرى النفس

(15/407)


قوله (قلت لفلان كذا) قال ابن حجر: الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال، وقال الخطابين: فلان الاول والثانى الموصى له، وفلان الاخير الوارث لانه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه، والمقصود أن الحديث يدل على أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في حال الصحة أفضل منه حال المرض لانه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزينه له من الامل في الحياة والحاجة إلى المال، قال تعالى (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) وفى معنى الحديث قوله تعالى (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) الآية، وفى معنى الحديث أيضا ما أخرجه
الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبى الدرداء مرفوعا (مثل الذى يعتق ويتصدق عنه موته، مثل الذى يهدى إذا شبع) .
وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه اصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده بلفظ (ما حق إمرئ مسلم ببيت ليلتين وله شئ يريد أن يوصى فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) ورواه الشافعي بلفظ (ما حق إمرئ يؤمن بالوصية) أي يؤمن بأنها حق كما حكاه ابن عبد البر عن ابن عيينة، ورواه ابن عبد البر والطحاوى بلفظ (لا يحل لامرئ مسلم له مال) وقال الشافعي: معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، وكذا قال الخطابى، قوله: مسلم.
قال ابن حجر في فتح الباري: هذا الوصف خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة إلى الامتثال لما يشعر به من نفى الاسلام عن تارك ذلك، وصية الكافر جائزة في الجملة.
وحكى ابن المنذر فيه الاجماع.
قوله يبيت صفة لمسلم.
قوله ليلتين في رواية البيهقى وأبى عوانه.
ليلة أو ليلتين، ولمسلم والنسائي ثلاث ليال، واختلاف الروايات في هذا يدل على أنه للتقريب لا للتحديد، والمعنى لا يمضى عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية الاخير، ولذلك قال ابن عمر رضى الله عنه لم أبت ليلة منذ سمعت

(15/408)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذلك إلا ووصيتي عندي، وفى تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة، أي لا ينبغى أن يبيت زمنا ما وقد سامحناه في الليلتين والثلاث، فلا ينبغى له أن يتجاوز ذلك.
أما قوله المبرسم وهو الذى أصيب بعلة الورم في الدماغ يصاب صاحبه بصداع وكراهية للضوء
وزوال للعقل، وقيل انه الموت لان بر بالسريانية الابن والسام الموت، ومنه حديث شفاء من كل داء الا السام.
قيل وما السام، قال الموت.
إذا ثبت هذا: فإن الوصايا تشتمل على أربعة شروط وهى موصى وموصى له وموصى به وموصى إليه، فأما الفصل الاول وهو الموصى فمن شرطه أن يكون مميزا حرا، فإذا اجتمع فيه هذان الشرطان صحت وصيته في ماله مسلما كان أو كافرا، فأما المجنون فلا تصح وصيته لانه غير مميز.
وأما الصبى فإن كان طفلا غير مميز فوصيته باطلة، وان كان مراهقا ففى جواز وصيته قولان.

(أحدهما)
لا تجوز، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني لارتفاع القلم عنه كالمجنون، لان الوصية عقد فأشبهت سائر العقود.
(والقول الثاني) وبه قال مالك ان وصيته جائزة لرواية عمرو بن سليم الزرقى قال سئل عمر بن الخطاب ورضى الله عنه عن غلام يافع من غسان وصى لبنت عمه وله عشر سنين، وله وارث ببلد آخر، فأجاز عمر رضى الله عنه وصيته، ولان المعنى الذى لاجله منعت عقوده هو المعنى الذى أمضيت وصيته لان الحظ له في منع العقود لانه لا يتعجل بها نفعا، ولا يقدر على استدراكها إذا بلغ والحظ له في امضاء الوصية، لانه ان مات فله ثوابها وذلك أحط له من تركه عل ورثته، وان عاش وبلغ قدر على استدراكها والرجوع فيها، فعلى هذا لو أعتق في مرضه أو حابى أو وهب ففى صحة ذلك وجهان.

(أحدهما)
صحيح ممضى لان ذلك وصيه يعتبر من الثلث.
(والوجه الثاني) أنه باطل مردود لان الوصيه بقدر على الوجوع فيها ان صح، والعتق والهبه لا يقدر على الرجوع فيها ان صح.
فأما وصية المحجور عليه بالسفه.
فإن قيل يجواز وصية الصبى فوصية

(15/409)


السفيه أجوز، وإن قيل ببطلان وصية الصبى بابطال عقوده بطلت وصية السفيه لبطلان عقوده وأما المحجور عليه بالفلس فإن ردها الغرماء بطلت، وإن أمضوها جازت، فإن قلنا: حجر الفلس كحجر المرض صحت، وإن قلنا: إنه كحجر السفه كان على وجهين، فأما العبد فوصيته باطلة، وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب لان السيد أملك منهم لما في أيديهم.
فأما الكافر فوصيته جائزة ذميا كان أو حربيا إذا أوصى بمثل ما يوصى به المسلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وأما إذا أوصى بما زاد على الثلث، فإن لم يكن له وارث بطلت الوصية فيما زاد على الثلث، لان ماله ميراث للمسلمين، ولا مجيز له منهم فبطلت فإن كان له وارث ففيه قولان.

(أحدهما)
أن الوصية تبطل بما زاد على الثلث لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى سعدا عن الوصية بما زاد على الثلث، والنهى يقتضى الفساد، وليست الزيادة مالا للوارث فلم تصح وصيته به كما لو أوصى بمال للوارث من غير الميراث.

(والثانى)
أنها تصح وتقف على اجازة الوارث، فإن أجاز نفذت، وان ردها بطلت، لان الوصية صادفت ملكه، وانما يتعلق بها حق الوارث في الثاني فصحت ووقفت الاحازة كما لو باع ما فيه شفعه، فإن قلنا: على أنها باطلة كانت الاجازه هبة مبتدأة يعتبر فيها الايجاب والقبول باللفظ الذى تنعقد به الهبة، ويعتبر في لزومها القبض، وان كان الوصية عتقا لم يصح الا بلفظ العتق، ويكون الولاء فيه للوارث، وان قلنا انها تصح كانت الاجازة امضاء لما وصى به الموصى وتصح بلفظ الاجازة كما يصح العفو عن الشفعة بلفظ العفو، فإن كانت الوصيه عتقا كان الولاء للموصى، ولا يصح الرد والاجازة الا بعد الموت لانه لا حق
له قبل الموت فلم يصح اسقاطه كالعفو عن الشفعه قبل البيع.

(فصل)
فإن أجاز الوارث ما زاد على الثلث، ثم قال أجزت لانى ظننت أن المال قليل وأن ثلثه قليل، وقد بان أنه كثير لزمت الاجازة فيما علم والقول

(15/410)


قوله فيما لم يعلم مع يمينه فإذا حلف لم يلزمه الاجازة في أحد القولين هبة، وفى الثاني إسقاط والجميع لا يصح مع الجهل به وان وصى بعيد فأجازه الوارث ثم قال أجزت لانى ظننت أن المال كثير، وقد بان أنه قليل ففيه قولان.

(أحدهما)
أن القول قوله كالمسألة قبلها
(والثانى)
أنه يلزمه الوصية لانه عرف ما أجازه ويخالف المسألة قبلها فان هناك لم يعلم ما أجازه.
(الشرح) الاحكام: الزيادة على الثلث ممنوع منها في قليل المال وكثيره لحديث سعد الذى مضى تخريجه وبيان طرقه الذى منع سعدا من الزيادة عليه، فإن وصى بأكثر من الثلث أو بجميع ماله نظر، فان كان له وارث كانت الوصية موقوفة على إجازته ورده، فان ردها رجعت الوصيه إلى الثلث، وان أجازها صحت، ثم فيها قولان.

(أحدهما)
أن اجازة الورثة ابتداء عطية منه لا تتم الا بالقبض وله الرجوع فيها ما لم يقبض، وان كانت قبل القبض بطلت كالهبات.
فان لم يكن للميت وارث فأوصى بجميع ماله ردت وصيته إلى الثلث في حق بيت المال.
وقال أبو حنيفة: وصيته إذا لم يكن له وارث نافذة في جميع ماله استدلالا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع سعدا من الزيادة على الثلث قال: لان تدع ورثتك أغنياء خيرا من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فجعل المنع من الزيادة حقا للورثة، فإذا لم يكن له وارث سقط المنع، وبما روى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال لا وارث لمن وضع ماله حيث شاء، ولانه لما كانت الصدقة بجميع
ماله جازت وصيته بجميع ماله.
ودليلنا ما روى عن أبى الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ان الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم) رواه الدارقطني ورواه أحمد والبيهقي والبزار وابن ماجه من حديث أبى هريرة بلفظ (ان الله تصدق عليكم عند موتكم بثل أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) وقد ضعف الحافظ ابن حجر اسناده وأخرجه أيضا

(15/411)


الدارقطني والبيهقي من حديث أبى أمامة بلفظ (أن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعل لكم زكاة في أموالكم) وفى اسناده اسماعيل ابن عياش وشيخه عتبه بن حميد.
ولان الانصاري أعتق ستة مملوكين له لا مال له غيرهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء على ما مضى ذكره، ولان مال من لا وارث له يصير إلى بيت المال إرثا لامرين.
أحدهما: أنه يخلف الورثة في الاستحقاق لماله.
والثانى: أنه يعقل عنه كورثته، فلما ردت الوصية إلى الثلث مع الوارث ردت إلى الثلث مع بيت المال لانه وارث، وقد يتحرر منه قياسان
(أحدهما)
أن كل جهة استحقت التركة بالوفاة منعت من الوصية بالجميع كالورثه
(والثانى)
أن ما منع من الوصايا مع الورثة منع منها مع بيت المال كالديون.
فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لان تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة فهو أنه لم يجعل ذلك تعليلا لرد الزيادة على الثلث، ولو كان ذلك تعليلا لجازت الزيادة على الثلث مع غناهم إذا لم يصيروا عالة يتكففون الناس، وإنما قاله صلة في الكلام وتنبيها على الخط.
وأما قول ابن مسعود يضع ماله حيث يشاء، فماله الثلث وحده، وله وضعه حيث شاء، وأما الصدقة فهى كالوصية إن كانت في الصحة أمضيت مع وجود الوارث وعدمه، وإن كانت في المرض ردت إلى الثلث مع وجود الوارث وعدمه والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف أصحابنا في الوقت الذى يعتبر فيه قدر المال لاخراج الثلث، فمنهم من قال الاعتبار بقدر المال في حال الوصية لانه عقد يقتضى اعتبار قدر المال، فكان الاعتبار فيه بحال العقد، كما لو نذر أن يتصدق بثلث ماله، فعلى هذا لو أوصى وثلث ماله ألف فصار عند الوفاة ألفين لم تلزم الوصية في الزيادة، فان وصى بألف ولا مال له ثم استفاد مالا لم تتعلف به الوصية وان

(15/412)


وصى وله مال فهلك ماله بطلت الوصية، ومنهم من قال: الاعتبار بقدر المال عند الموت وهو المذهب، لانه وقت لزوم الوصية واستحقاقها، ولانه لو وصى بثلث ماله ثم باع جميعه تعلقت الوصية بالثمن، فلو كان الاعتبار بحال الوصية لم تتعلق بالثمن، لانه لم يكن حال الوصية فعلى هذا لو وصى بثلث ماله وماله ألف فصار ألفين لزمت الوصية في ثلث الالفين، فإن وصى بمال ولا مال له ثم استفاد مالا تعلقت به الوصية، فان وصى بثلثه وله مال ثم تلف ماله تبطل الوصية.
(الشرح) الاحكام: تجوز الوصية بثلث ماله وإن لم يعلم قدره، واختلف أصحابنا هل يراعى بثلث ماله وقت الوصية أو عند الوفاة على وجهين
(أحدهما)
وهو قول مالك وأكثر البغداديين أنه يراعى ثلثه وقت الوصية، ولا يدخل فيها ما حدث بعده من زيادة لانها عقد، والعقود لا يعتبر فيها ما بعدها.
(والوجه الثاني) وهو قول أبى حنيفة وأكثر البصيريين أنه يراعى ثلث ماله
وقت الموت ويدخل فيه ما حدث قبله من زيادة، لان الوصايا تملك بالموت، فاعتبر بها وقت ملكها، فعلى هذين الوجهين إن وصى بثلث ماله ولا مال له ثم أفاد مالا فعلى الوجه الاول تكون الوصية باطلة اعتبارا بحال الوصية، وعلى الوجه الثاني تكون الوصية جائزة اعتبارا بحال الموت.
وعلى هذا لو وصى بفرس من خيله وهو لا يملك فرسا ولا خيلا ثم ملك قبل الموت خيولا صحت الوصيه ان اعتبر بها حال الموت، وبطلت ان اعتبر بها حال القول، وعلى هذا القول لو وصى بثلث ماله وله مال فهلك ماله وافاد غيره صحت الوصيه في المال المستفاد إن اعتبر بها حال الموت، وبطلت ان اعتبر بها حال الوصيه.
قال المصنف رحمه الله.

(فصل)
وأما الوصية بما لا قربة فيه كالوصيه للكنيسة والوصيه بالسلاح لاهل الحرب فهى باطله لان الوصيه إنما جعلت له ليدرك بها ما فات ويزيد بها الحسنات ولهذا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ان الله تعالى أعطاكم ثلث

(15/413)


أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم) وما ذكرناه ليس من الحسنات فلم تصح فيه الوصية، فإن وصى ببيع ماله من رجل من غير محاباة ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح لانه قصد تخصيصه بالتمليك
(والثانى)
لا يصح لان البيع من غير محاباة ليس بقربة، فلم تصح الوصية به، وإن وصى لذمى جاز، لما روى أن صفية وصت لاخيها بثلثها ثلاثين ألفا وكان يهوديا، ولان الذمي موضع للقربة، ولهذا يجوز التصدق عليه بصدقة التطوع فجازت له الوصية، فإن وصى لحربي ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا تصح الوصية، وهو قول أبى العباس بن القاصر، لان القصد بالوصية نفع الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربى وأخذ ماله فلا معنى
للوصية له
(والثانى)
يصح وهو المذهب لانه تمليك يصح للذمي فصح للحربى كالبيع.

(فصل)
واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى فيمن وصى لقاتله فقال في أحد القولين: لا يجوز لانه مال يستحق بالموت فمنع القتل منه كالميراث، وقال في الثاني يجوز لانه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يمنع القتل منه كالبيع، فإن قتلت أم الولد مولاها عتقت لان عتقها ليس بوصية، بدليل أنه لا يعتبر من الثلث فلم يمنع القتل منه.
فإن قتل المدبر مولاه فإن قلنا ان التدبير عتق بالصفة عتق لانه ليس بوصية، وإنما هو عتق بصفة وقد وجدت الصفه فعتق، وان قلنا إنه وصية وقلنا ان الوصية للقاتل لا تجوز لم يعتق، وان قلنا انها تجوز عتق من الثلث فإن كان على رجل دين مؤجل فقتله صاحب الدين حل الدين، لان الاجل حق للمقتول لا حظ له في بقائه، بل الحظ في إسقاطه ليحل الدين ويقضى فيتخلص منه (الشرح) حديث إن الله تعالى أعطاكم الخ.
فقد رواه الدارقطني عن أبى الدرداء وسكت ولم يتكلم عليه الحافظ بن حجر، ورواه وأخرجه أيضا أحمد وكذلك البيهقى وابن ماجه والبزار من حديث أبى هريرة.
قال الحافظ بن حجر وإسناده ضعيف، ورواه الدارقطني والبيهقي عن أبى أمامة، وفى اسناده اسماعيل ابن عياش، وهو ثقة في الشاميين ضعيف في غيرهم، وهو رواه عن شيخه عتبه

(15/414)


ابن حميد الضبى صدوق له أوهام.
ورواه العقيلى في الضعفاء عن أبى بكر الصديق وفى إسناده حفص بن عمرو بن ميمون وهو متروك.
وعن حالد بن عبد الله السلمى عند ابن عاصم وابن السكن وابن قانع وأبى نعيم والطبراني وهو مختلف في صحبته، ورواه عنه ابنه الحارث وهو مجهول وأما وصية أم المؤمنين صفية رضى الله عنها فقد مضى تخريج الخبر في كتاب
الوصي فلا ضرورة لاعادته.
أما الاحكام فإن الوصية للبيع والكنائس باطلة لانها مجمع معاصيهم ومنتدى تأليههم للبشر، ومبادءة التثليث والتجسيد.
وكذلك الوصية لكتب التوراة والاناجيل لتبديلها وتغييرها، وسواء كان الموصى مسلما أو كافرا.
وأجازها أبو حنيفة من الكافر دون المسلم، وهكذا أجاز وصيته بالخمر والخنزيد يتصدقت بها على أهل الذمة.
وهذا فاسد لقوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وخالف أبا حنيفة صاحباه في الكنيسه ووافقنا فيما عداها.
فأما الوصيه للكافر فجائزة ذميا كان أو حربيا، وقال أبو حنيفة: الوصيه للحربى باطلة لان الله تعالى أباح للمسلمين أموال المشركين فلم يجز أن يبيح للمشركين أموال المسلمين وهذا فاسد من وجهين
(أحدهما)
أنه لما لم يمنع شرك الذمي لم يمنع شرك الحربى من الوصيه كالنكاح
(والثانى)
أنه لما جازت الهبة للحربى وهى أمضى عطية من الوصية كان أولى أن تجوز له الوصيه، وسواء كان الموصى مسلما أو كافرا.
فأما الوصية للمرتد فعلى ثلاثة أقسام ذكرناها في كتاب الوقف
(أحدهما)
أن يوصى لمن يرغب عن الاسلام فالوصية باطله لعقدها على معصية (الثاني) أن يوصى بها لمسلم فيرتد عن الاسلام بعد الوصية له فالوصيه جائزة لانها وصيه صادفت حال الاسلام (والثالث) أن يوصى بها لمرتد معين ففى الوصية وجهان، أحدهما باطلة.
والثانى: جائزة.
أما المحاباة في المرض، وهى أن يعاوض بماله ويسمع لمن عاوضه ببعض عوضه وهى أقسام (أحدها) المحاباة في البيع والشراء، ولا يمنع ذلك صحة في

(15/415)


قول جمهور الفقهاء.
وقال أصحاب داود بن على: العقد باطل.
وعموم قوله تعالى: وأحل الله البيع دليل على صحة قول الجمهور، ولانه تصرف صدر من أهله في محله فصح كغير المريض، فلو باع في مرضه فرسا قيمته خمسون بعشرين فقد جابى المشترى بثلاثة أخماسه، وليس له المحاباة بأكثر من الثلث، فإن أجاز الورثة ذلك لزم البيع ن وإن لم يجيزوا واختار المشترى فسخ البيع فله ذلك لان الصفقة تبعضت عليه ن وإن اختار إمضاء البيع فالصحيح عند أصحاب أحمد وهو اختيار ابن قدامه في المغنى أنه يأخذ النصف للبيع بنصف الثمن ويفسخ البيع في الباقي.
وهذا أحد الوجهين عند أصحاب الشافعي.
والوجه الثاني أنه يأخذ ثلثى المبيع بالثمن كله، لانه يستحق الثلث بالمحاباة والثلث الآخر بالثمن.
وعند مالك له أن يفسخ ويأخذ ثلث المبيع بالمحاباة ويسمية أصحابه خلع الثلث ولاصحابنا كما ساق المصنف ذلك إذا وصى ببيع ماله من رجل من غير محاباة.
فإذا قلنا إن مجرد التخصيص بالتمليك يقوم مقام المحاباة صحت الوصية على هذا الوجه.
وإن قلنا إن البيع من غير محاباة ليس قربة والمراعى في الوصيه التقرب إلى الله تعالى لحديث أبى الدرداء لم تصح الوصيه (فرع)
تصح الوصيه للذمي باتفاق أهل العلم لا نعلم في ذلك خلافا، ولان الصدقة عليه جائزة فجازت الوصيه.
أما الحربى ففيه لاصحابنا وجهان
(أحدهما)
وهو المذهب وبه قال أحمد في المنصوص عنه وهو قول مالك أن الوصيه للحربى تصح وهو دار الحرب
(والثانى)
لا تصح وهو قول أبى حنيفه لقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إلى قوله
تعالى انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) الآيه: فيدل ذلك على أن من قاتلنا لا يحل بره، وهو قول أبى العباس بن القاص من أصحابنا، لان القصد من الوصيه القربة إلى الله بنفع يعود إلى الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربى وأخذ سلبه، فلا معنى للوصيه مع قيام هذا كله.

(15/416)


دليلنا: أنه تمليك يصح للذمي فصح للحربى، ولما كانت تصح هبته فقد صحت الوصية له كالذمي، وقد رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى عمر حلة من حرير فقال (يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت، فقال: إنى لم أعطيكها لتلبسها، فكساها عمر أخا مشركا له بمكه) .
وعن أسماء بنت أبى بكر قالت (أتتنى أمي وهى راغبة تعنى عن الاسلام فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتتنى أمي وهى راغبه أفأصلها، قال: نعم وهذان الخبران فيهما صلة أهل الحرب وبرهم، والاية حجة لنا فيمن لم يقاتل، فأما المقاتل فقد نهى عن قوليه لا عن بره والوصية له، وقد رأينا كيف أن صلاح الدين الايوبي كان يبر المقاتلة من الصليبيين حتى كان مضرب المثل في المروءة وعلو الهمة فكان يداوى مرضاهم ويأسو جراحهم، بيد أنه لم يعف عمن طغى وتجبر وقطع طريق الحاج فأقسم لئن أظفره الله به ليضربن عنقه بيده، وعندما وقع في الاسر مع غيره من ملوك أوربة عفا عنهم جمعيا إلا ذلك فقتله بيده، برا بقسمه رغم ما عرضه الفرنجة عليه من فداء سخى بالمال بالغا ما بلغ قدره، فهذا هو طريق الشرع، وإن احتج بالمفهوم فإنه لا يراه حجة ثم قد حصل الاجماع على جواز الهبة.
والوصية في معناها، فأما المرتد فعند أبى الخطاب من أصحاب الامام أحمد تصح الوصية له كما تصح قبته.
وقال ابن أبى موسى: لا تصح لان ملكه غير مستقر ولا يرث ولا يورث فهو كالميت، ولان ملكه يزول عن
ماله بردته في قول جماعه منهم فلا يثبت له الملك بالوصية، وقد مضى مذهبنا فيه في الوقف.
(فرع)
الوصيه للقاتل فيها قولان.
أحدهما - وهو مذهب مالك رضى الله عنه تجوز الوصيه، وإن لم يرث كما تجوز الوصيه للكافر، وإن لم يرث، ولانه تمليك يراعى فيه القبول فلم يمنع منه القتل كالبيع، وهذا أحد الاوجه الثلاثه عند الحنابله حيث قال ابن حامد: تجوز الوصيه له.
وهو قول أبى ثور وابن المنذر أيضا.
والقول الثاني وهو قول أبى حنيفة رضى الله عنه وأحد الاوجه الثلاثة

(15/417)


عند الحنابله: لا تصح الوصية له.
لان أحمد رضى الله عنه نص على أن المدبر إذا قتل سيده بطل تدبيره، وعندنا أنه يبطل إذا اعتبر التدبير وصية، أما إذا اعتبر صفة فإن التدبير ماض ويعتق بموت سيده ولو قتلا وهذا أيضا قول الثوري وأصحاب الرأى لان القتل يمنع الميراث الذى هو آكد من الوصية فالوصية أولى، ولان الوصية أجريت مجرى الميراث فيمنعها ما يمنعه، لان الميراث أقوى التمليكات فلما منع منه القتل كان أولى أن يمنع من الوصية.
فإذا تقرر هذان القولان فلا فرق بين أن يوصى له بعد جرحه إياه وجنايته عليه، وبين أن يوصى له قبل الجناية ثم يجنى عليه فيقتله في أن الوصية على قولين ولكن لو قال الموصى وليس بمجروح: قد وصيت بثلثي لمن يقتلين فقتله رجل لم تصح الوصية له قولا واحدا لامرين.

(أحدهما)
أنها وصية عقدت على معصية.

(والثانى)
أن فيها إغراء بقتله، فلو وصى بثلثه لقاتل زيد، فإن كان قبل القتل لم يجز لما ذكرنا، وإن كان بعد قتله جاز، وكان القتل تعريفا، وهكذا لو
وهب في مرضه لقاتله هبة أو حاباه في بيع أو أبرأه من حق فكل ذلك على قولين لانها وصية له تعتبر في الثلث، وهكذا لو أعتق في مرضه عبدا فقتل العبد سيده كان في عتقه قولان لانها وصية له، ولكن لو وهب هبة في صحته أو أبرأ من حق أو حابى في بيع أو أعتق عبدا، ثم إن الموهوب له قتل الواهب أو المبرأ قتل المبرئ أو المحابى قتل المحابى والعبد قتل السيد كان ذلك كله نافذا ماضيا، لان فعله في الصحة جرى مجرى الوصايا، ولو جرح رجل رجلا ثم إن المجروح وصى للجارح بوصية ثم جنى على الموصى آخر فذبحه جازت الوصية للجارح الاول، لان الذابح صار قاتلا، ولو لم يكن الثاني قد ذبحه ولكن لو جرحه صار الثاني والاول قاتلين، فردت الوصية للاول في أحد القولين، وهذا هو قول مالك وأبى ثور وابن المنذر وأحد القولين عند أحمد، وأظهر القولين للشافعي لان الهبة تصح فصحت الوصيه له كالذمي، وقال القاضى أبو بكر من الحنابله: لا تصح الوصيه له وهذا هو قول الثوري وأصحاب الرأى وأحد قولى الشافعي.

(15/418)


قال الماوردى في حاويه: وإذا قتل المدبر سيده فإن قيل: إن الدبير عتق بصفة لم يبطل عتقه، وإن قيل: إن التدبير وصيه ففى بطلان عتقه قولان لانه يعتق في الثلث، ولو قتلت أم الولد سيدها بعد عتقها صح عتقها قولا واحدا لامرين.
أحدهما: أن عتقها مستحق من رأس المال.
والثانى: أن في استبقائها على حالها إضرارا بالورثه لانهم لا يقدرون على بيعها، وخالف استبقاء رق المدبر للقدرة على بيعه ثم ينظر في أم الولد إذا كان قتلها عمدا - فان لم يكن ولدها باقيا قتلت قودا، وإن كان باقيا سقط القود عنها لان ولدها شريك للورثه في القود فيها ن وهو لا يستحق القود من أمه فسقط
حقه، وإذا سقط القود عنها في حق بعض الورثة سقط في حق الجميع اه.
ولو أن رجلا وصى لابن قاتله أو لابيه أو لزوجته صحت الوصيه لان القاتل غير الموصى له، ولو أوصى لعبد القاتل لم تجز في أحد القولين لانها وصيه للقاتل، ولو أقر رجل لقاتله بدين كان إقراره نافذا قولا واحدا لان الدين لازم وهو من رأس المال فخالف الوصايا، ولو كان للقاتل على المقتول دين مؤجل حل بموت المقتول ولا يبقى إلى أجله، لان الاجل حق لمن عليه الدين لا يورث عنه، وليس كالمال الموروث إذا منع القاتل منه صار إلى الورثة، وسواء كان القتل في الوصيه عمدا أو خطأ كما أن الميراث يمنع منه قيل العمد والخطأ، فلو أجاز الورثة الوصيه للقاتل، وقد منع منها في أحد القولين كان في إمضائها بإجازته وجهان من اختلاف قولين في إمضائها للوصيه للوارث.
فان قلنا: إن الوصية للوارث مردودة ولا تمضى باجازتهم ردت الوصية للقاتل ولم تمض باجازتهم، وإن قلنا إنه يمضى الوصية للوارث باجازتهم أمضيت الوصيه للقاتل باجازهم، والاصح إمضاء الوصيه للوارث بالاجازة، ورد الوصيه للقاتل مع الاجازة، لان حق الرد في الوصيه للقاتل انما هو للمقتول لما فيه من حسم الذرائع المفضيه إلى قتل نفسه فلم تصح الوصيه له.
باجازتهم،

(15/419)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف قوله في الوصية فقال في أحد القولين لا تصح لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا وصية لوارث) ولانها وصية لا تلزم لحق الوارث فلم تصح، كما لو أوصى بمال لهم من غير الميراث فعلى هذا الاجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها ما يعتبر في الهبة.
والثانى تصح لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: لا تجوز لوارث وصية
إلا ان شاء الورثة، فدل على أنهم إذا شاءوا كانت وصية، وليست الوصية في ملكه وإنما يتعلق بها حق الورثة في الثاني فلم يمنع صحتها كبيع ما فيه شفعة، فعلى هذا إذا أجاز الورثة نفذت الوصية
(فصل)
ولا تصح الوصية لمن لا يملك فإن وصى لميت لم تصح الوصية لانه تمليك فلم يصح للميت كالهبة، وإن وصى لحمل تيقن وجوده حال الوصية بأن وضعته لدون ستة أشهور من حين الوصية أو لستة أشهور وليست بفراش صحت الوصية لانه يملك بالارث فملك بالوصية، وان وضعته لستة أشهر وهى فراش لم تصح الوصية لانه يجوز أن يكون حدث بعد الوصيه فلم تصح الوصيه بالشك فإن ألقتله ميتا لم تصح الوصيه لانه لا يتيقن حياته حال الوصيه، ولهذا لا يحكم له بالارث فلم يحكم له بالملك بالوصية، فإن وصى لما تحمل هذه المرأة لم تصح الوصية.
وقال أبو إسحاق تصح والمذهب الاول لانه تمليك لمن لا يملك فلم يصح
(فصل)
فإن قال وصيت بهذا العبد لاحد هذين الرجلين لم يصح لانه تمليك لغير معين، فإن قال أعطوا هذا العبد أحد هذين الرجلين جاز لانه ليس بتمليك وانما هو وصية بالتمليك، ولهذا لو قال بعت هذا العبد من أحد هذين الرجلين لم يصح ولو قال لوكيله بع هذا العبد أحد هذين الرجلين جاز
(فصل)
فإن أوصى لعبده كانت الوصيه لوارثه، لان العبد لا يملك فكانت الوصيه للوارث، وقد بيناه، فإن وصى لمكاتبه صحت الوصيه، لان المكاتب يملك المال بالعقد فصحت له الوصيه، فإن وصى لام ولده صحت لانها حرة عند الاستحقاق، فإن وصى لمدبره وعتق من الثلث صحت له الوصيه

(15/420)


لانه حر عند الموت فهو كأم الولد، فإن لم يعتق كانت الوصيه للوارث وقد بيناه فان وصى لعبد غيره كانت الوصيه لمولاه، وهل يصح قبوله من غير اذن المولى
فيه؟ وجهان
(أحدهما)
وهو الصحيح انه يصح ويملك به المولى يملك ما يصطاده بغير اذنه
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه لا يصح لانه تمليك للسيد يعقد فلم يصح القبول فيه من غير اذنه، وهل يصح قبول السيد؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
لا يصح لان الايجاب للعبد فلم يصح قبول السيد كالايجاب في البيع
(والثانى)
يصح لان القبول في الوصيه يصح لغير من أوجب له وهو الوارث بخلاف البيع.
(الشرح) حديث جابر أخرجه الدارقطني وصوب إرساله، ويبدو أن المصنف ساقه لاحتجاج الشافعي به في أحد قوليه، وإلا فحديث عمرو بن خارجه رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والترمذي وصححه والدارقطني والبيهقي (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ على ناقته وأنا تحت جرانها وهى تقصع بجرتها، وإن لغامها يسيل بين كنفى فسمعته يقول: ان الله قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصيه لوارث) وعن أبى أمامه عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي قَالَ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: إن الله تعالى قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصيه لوارث) وأخرجه الدارقطني عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تجوز وصيه لوارث الا أن يشاء الورثة) وعن عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة) رواه الدارقطني.
وهذا الحديث قال فيه الشافعي رضى الله عنه: إن هذا المتن متواتر.
قال وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون فِي إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عام الفتح: لا وصيه لوارث، ويأثرونه عمن يحفظونه
عنه ممن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافه فهو أقوى من نقل واحد

(15/421)


قلت: وقد ضعف الحافظ بن حجر جميع طرقه وقال: لا يخلو واحد منها من مقال ولكنه يسلم بأنها في مجموعها تصل إلى درجة الاحتجاج بها وقد عده السيوطي في الاحاديث المتواترة في كتابه الموسوم بالازهار المتناثرة في الاحاديث المتواترة.
وهو مروى عن أبى أمامة وعمرو بن خارجه وعلى وابن عباس وعمرو بن دينار وأبى جعفر وجابر بن الله وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وزيد بن أرقم والبراء بن عازب.
وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا.
قال وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة قال الحافظ بن حجر: لكن الحجة في هذا إجماع العلماء على مقتضاه، كما صرح به الشافعي وغيره.
ثم قال والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم، لان الاكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة.
وقال الصنعانى في سبل السلام: الاقرب وجوب العمل به لتعدد طرقه، وإن نازع الفخر في تواتره، ولا يضر ذلك بثبوته.
وقبل إنها لا تصح الوصيه لوارث أصلا، وهو الظاهر لان النفى إما أن يتوجه إلى الذات، والمراد لا وصية شرعية.
وإما إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة، ولا يصح أن يتوجه هاهنا إلى الكمال الذى هو أبعد المجازين.
وقد اختلف في تعيين ناسخ آية الوصية للوالدين، فقبل آية الفرائض، وقيل الاحاديث المذكورة في الباب.
وقيل دل الاجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: أخبرنا ابن عيينه عن سليمان
الاحول عن مجاهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (لا وصية لوارث) وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآى المواريث وأن لا وصية لوارث مما لا أعرف عن احد ممن لقيت خلافا.

(15/422)


وإذا كانت الوصايا لمن أمر الله تعالى ذكره بالوصية منسوخة بآى المواريث وكانت السنه تدل على أنها لا تجوز لوارث، وتدل على أنها تجوز لغير قرابة دل ذلك على نسخ الوصية للورثة، وأشبه أن يدل على نسخ الوصايا لغيرهم قال ودل على أن الوصايا للوالدين وغيرهما ممن يرث بكل حال إذا كان في معنى غير وارث فالوصية له جائزة ومن قبل أنها إنما بطلت وصيته إذا كان وارثا، فإذا لم يكن وارثا فليس بمبطل للوصيه.
وإذا كان الموصى يتناول من شاء بوصيته كان والده دون قرابته إذا كانوا غير ورثه في معنى من لا يرث، ولهم حق القرابة وصلة الرحم.
وقال الشافعي رضى الله عنه في باب الوصيه للوارث من الام: ورأيت متظاهرا عند عامة من لقيت من أهل العلم بالمغازي (1) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته عام الفتح (لا وصية لوارث) فحكم الوصية لوارث حكم ما لم يكن، فمتى أوصى رجل لوارث وقفنا الوصيه، فان مات الموصى والموصى له وارث، فلا وصية له، وإن حدث للموصى وارث يحجبه أو خرج الموصى له من أن يكون يوم يموت وارثا له، بأن يكون أوصى صحيحا لامرأته ثم طلقها ثلاثا ثم مات مكانه، فالوصية لها جائزة لانها غير وارثه، وإنما ترد الوصيه وتجوز إذا كان لها حكم، ولا يكون لها حكم الا بعد موت الموصى حتى تجب أو تبطل.
ولو أوصى لرجل وله دونه وارث يحجبه فمات الوارث قبل الموصى فصار
الموصى له وارثا، أو لامرأة ثم نكحها ومات وهى زوجته بطلت الوصيه لهما معا، لانها صارت وصية لوارث
__________
(1) لما كان أظهر ما في التاريخ من المحولات الاجتماعية والسياسيه هو المغازى فقد كان المؤرخون يسمون (أهل العلم بالمغازي)

(15/423)


ولو أوصى لوارث وأجنبى بعيد أو دار أو ثوب أو مال مسمى بطل نصيب الواث وجاز للاجنبي ما يصيبه وهو النصف من جميع ما أوصى به للوارث والاجنبى، ولكن لو قال: أوصيت بكذا لفلان وفلان فإن كان سمى للوارث ثلثا ولاجنبي ثلثى ما أوصى به جاز للاجنبي ما سمى له، ورد عن الوارث ما سمى له، ولو كان له ابن يرثه ولابنه أم ولدته أو حضنته، أو أرضعته أو أب أرضعه أو زوجه أو ولد لا يرثه أو خادم أو غير فأوصى لهؤلاء كلهم أو لبعضهم جازت الوصيه لهم لان كل هؤلاء غير وارث وكل هؤلاء مالك لما أوصى له به لملكه لماله إن شاء منعه ابنه وإن شاء أعطاه إياه.
وقال الصنعانى في سبل السلام: وذهب الهادى وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) الآية، قالوا: ونسخ الوجوب لا ينافى بقاء الجواز، قلنا: نعم لو لم يرد هذا الحديث، فإنه ناف لجوازها إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث كما قال ابن عباس: كان المال للولد والوصية للوالدين، فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، وجعل للابوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع.
وقوله في الحديث: إلا ان يشاء الورثة، دليل على صحة الوصية ونفاذها للوارث إن أجازها الورثة، لانهم قد أسقطوا حقهم.
وهو قول جمهور الفقهاء
ما عدا المزني من أصحاب الشافعي وداود بن على الظاهرى وأصحابه وبعض الحنابلة حيث قالوا: لا أثر لاجازتهم، والظاهر أن لهم أثرا في جوازها، لانه صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الوصية للوارث قيدها بقوله إلا ان يشاء الورثة وأطلق لما منع الوصية عن الزائد عن الثلث، وليس لنا تقييد ما أطلقه ومن قيد هنالك قال: إنه يؤخذ القيد من التعليل بقوله (انك ان تذر..الخ) فإنه دل على أن المنع من الزيادة على الثلث كان مراعاة لحق الورثة، فان أجازوا سقط حقهم ولا يخلو عن قوة.
هذا في الوصية للوارث، واختلفوا إذا أقر المريض للوارث بشئ من ماله فأجازه الاوزاعي وجماعة مطلقا.

(15/424)


وقال أحمد: لا يجوز اقرار المريض لوارثه مطلقا، واحتج بأنه لا يؤمن بعد المنع من الوصية لوارثه أن يجعلها اقرارا، واحتج الاول بما يتضمن الجواب عن هذه الحجة فقال ان التهمه في حق المحتضر بعيدة وبانه وقع الاتفاق أنه لو أقر بوارث آخر صح اقراره مع أنه يتضمن الاقرار بالمال وبأن مدار الاحكام على الظاهر فلا يترك اقراره للظن المحتمل فإن أمره إلى الله.
(قلت) وهذا القول أقوى دليلا، واستثنى مالك ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها من غير الولد، كابن العم قال: لانه يتهم في أنه يزيد لابنته، وينقص ابن العم، وكذلك استثنى ما إذا أقر لزوجته المعروف بمحبته لها وميله إليها، وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد لا سيما إذا كان له منها ولد في تلك الحال.
قلت: والاحسن ما قيل عن بعض المالكين واختاره الرويانى في بحر المذهب من أصحابنا: ان مدار الامر على التهمه وعدمها، فإن فقدت جاز والا فلا، وهى تعرف بقرائن الاحوال وغيرها.
وعن بعض الفقهاء: أنه لا يصح اقراره الا للزوجة بمهرها، وسياتى مزيد
ايضاح ان شاء الله.
وفائدة الخلاف أن الوصيه إذا كانت صحيحة فاجازة الورثة تنفيذ، فإذا اجازها الورثة لزمت الوصية، وان كانت باطله كانت هبة مبتدأه تفتقر إلى شروط الهبة من اللفظ والقبول والقبض، ولو رجع المجيز قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض صح رجوعه.
وأما بقية الفصول من الوصيه للعبد والمكاتب وأم الولد وعبد غيره فعلى وجهها.
ولا تفتقر إلى مزيد والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وتجوز الوصيه بالمشاع والمقسوم لانه تمليك جزء من ماله فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع، ويجوز بالمجهول كالحمل في البطن واللبن في الضرع وعبد من عبيد وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق لان الموصى له يخلف الميت في ثلثه كما يخلفه الوارث في ثلثه فلما جاز أن يخلف الوارث الميت

(15/425)


في هذه الاشياء جاز أن يخلفه الموصى له، فان وصى بمال الكتابة جاز ذكرناه فان وصى برقبته فهو على القولين في بيعه.

(فصل)
فان وصى بما تحمله الجارية أو الشجرة صحت الوصيه لان المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ومن أصحابنا من قال: أذا قلنا: ان الاعتبار بحال الوصيه لم تصح لانه لا يملك في الحال ما وصى به.

(فصل)
وتجوز الوصية بالمنافع لانها كالاعيان في الملك بالعقد والارث فكانت كالاعيان في الوصية ويجوز بالعين دون المنفعة وبالعين لواحد وبالمنفعه لآخر لان المنفعة والعين كالعين فجاز فيهما ما جاز في العينين ويجوز بمنفعة مقدرة بالمدة وبمنفعه مؤبدة لان المقدرة كالعين المعلومة والمؤبدة كالعين المجهولة فصحت الوصيه بالجمع.

(فصل)
وتجوز الوصيه بما يجوز الانتفاع به من النجاسات كالسماد والزيت النجس والكلب وجلد الميته لانه يحل اقتناؤها للانتفاع بها فجاز نقل اليد فيها بالوصية، ولا يجوز بما لا يحل الانتفاع به كالخمر والخنزير والكلب العقور لانه لا يحل الانتفاع بها ولا تقر اليد عليها فلم تجز الوصيه بها.
(الشرح) إذا أوصى لرجل بمعين من ماله، ولآخر بجزء مشاع منه كثلث المال وربعه فأجيز لهما، انفرد صاحب المشاع بوصيته من غير المعين ثم يشارك صاحب المعين فيه فيقتسمانه بينهما على قدر حقيهما فيه، ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر ماله في الوصية كمسائل العول وكما لو أوصى لرجل بماله ولاخر بجزء منه، فأما في حال الرد فان كانت وصيتهما لا تجاوز الثلث مثل أن يوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بمعين قيمته سدس المال، فهى بحال الاجازة سواء إذ لا أثر للرد، وان جاوزت ثلثه رددنا وصيتهما إلى الثلث وقسمناه بينهما على قدر وصيتهما الا أن صاحب المعين يأخذ نصيبه من المعين والاخر يأخذ حقه من جميع المال، وقد رجح ابن قدامه من الحنابله أنهما يقتسمان الثلث على حسب مالهما في الاجازة وهذا قول ابن أبى ليلى وقال أبو حنيفة ومالك في الرد: يأخذ صاحب المعين نصيبه منه ويضم الاخر

(15/426)


سهامه إلى سهام الورثة ويقتسمون الباقي على خمسة في مثل مسألة الخرقى لان له السدس، وللورثة أربعة أسداس وهو مثل كلام الخرقى من الحنابلة إلا أن الخرقى يعطيه السدس من جميع المال وعندهما أنه يأخذ خمس المائتين وعشر المعين.
واتفقوا على أن كل واحد من الوصيين يرجع إلى نصف وصيته، لان كل واحد منهما قد أوصى له بثلث المال وقد رجع إلى الوصيان إلى الثلث وهو نصف الوصيتين فيرجع كل واحد إلى نصف وصيته، ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر
ماله في الوصية.
قال الشافعي: ولو أوصى له بالثلث من دار أو أرض فأذهب السيل ثلثيها وبقى ثلثها، فالثلث الباقي للموصى له إذا خرج من الثلث، فسوى الشافعي رضى الله عنه بين استحقاق الثلثين مشاعا وبين ذهاب ثلثيها بالسيل محوزا في أن الوصيه تكون بالثلث الباقي بعد الاستحقاق والتلف بالسيل، والذى أراه الفرق بين المسألتين من أن استحقاقه لا يمنع من إمضاء الوصية بالثلث الباقي كله وذهاب الثلثين منها للسيل يمنع ان تكون الوصية بجميع الثلث الباقي، ويوجب أن تكون الوصية بثلث الثلث الباقي، فإذا استحق ثلثيها لم يمنع أن يكون الثلث الباقي شائعا في جميعها فصحت الوصيه في جميعه، فوجبت الوصيه في ثلث ما بقى وثلث ما هلك يكون كحم الاشاعة في الجميع باقيا.
ألا ترى لو أن رجلا اشترى من رجل نصف دار جميعها بيده، ثم استحق بعد الشراء نصفها كان النصف الباقي هو المبيع منها.
(فإن قيل) أفليس لو أوصى له برأس من غنمه فهلك جميعها إلا رأسا منها بقى، فإن الوصيه تتعين فيه ولا يكون الهالك وإن كان متميزا من الوصيه وغيرها فهلا كان ما هلك بالسيل كذلك.
قيل الوصيه برأس من غنمه يوجب الاشاعة في كل رأس منها؟ وإنما جعل إلى الوارث أن يعينه فيما شاء من ميراثه، وليس كذلك الوصيه بثلث الدار لان الثلث شائع في جميعها فافترقا فإذا تقرر ما وصفته من مذهب الشافعي في التسوية بين الاستحقاق والتلف وما رأيته من فافترق بين الاستحقاق والتلف ففرع على ذلك ما صح به الجواب.

(15/427)


(فرع)
إذا أوصى بشجرة مدة أو بما تثمر أبدا صحت لجواز ملك المعدوم ومن ثم لم يملك واحد من الموصى له أو الوارث إجبار الآخر على سقيها لانه
لا يجبر على سقى ملكه ولا سقى ملك غيره، وإذا أراد أحدهما سقى الشجرة على وجه لا يضر بصاحبه لم يملك الآخر منعه، وإذا يبست الشجرة كان حطبها للوارث، لان الموصى له ليس له منها إلا الثمرة، وان وصى له بثمرتها سنة بعينها لم يتحمل تلك السنة فلا شئ للموصى له.
وان قال: لك ثمرتها أول العام الذى تثمر فيه صح وله ثمرتها أول عام تثمر وكذلك إذا أوصى له بما تحمل شاته، وان أوصى لرجل بشجرة ولآخر بثمرتها صح وكان صاحب الرقبة قائما مقام الوارث وله ماله، وان وصى بلبن شاة وصوفها صح كما تصح الوصيه بثمرة الشجرة، وكذلك ان وصى بلبنها خاصة أو صوفها خاصة صح، ويقوم الموصى به دون العين.
(فرع)
تجوز الوصية بالمنافع فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى بخدمة عبده أو بغلة داره وثمرة بستانه والثلث يحتمله جاز ذلك اه.
قلت: ان الوصايا بمنافع الاعيان جائزة كالوصايا بالاعيان لانه لما صح عقد الاجارة عليها صح بالاولى الوصيه بها، وسواء قدرت بمدة أو جعلت مؤبدة، وقال ابن أبى ليلى: ان قدرت بمدة تصح فيها الاجارة صحت، وان لم تقدر بمدة تصح فيها الاجارة بطلت، حملا للوصية على الاجارة.
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء إلى جواز الوصية بها على التأبيد بخلاف الاجارة لان الو صايا تجوز مع الجهالة فإذا صح جوازها مقدرة ومؤبدة فقد ذكر الشافعي رضى الله عنه الوصيه بخدمة العبد وغلة الدار وثمرة البستان، فأما الوصية بخدمة العبد فله أن يؤاجره وله أن يستخدمه كما يجوز له أن يوصى لفلان بفرسه ولآخر بركوبها فيكون لاحدهما عينها وللآخر منفعتها عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فرع)
الوصيه بالميته جائزة لانه قد يدبغ جلدها ويطعم بزاته لحمها، وكذلك
الوصيه بالروث والزبل، لانه قد ينتفع به في تسميد الارض واخصابها للغرس والزرع، ولاشك أن الشرع الحكيم بسماحته واحاطته بمصالح البشر لم يقف من

(15/428)


النجاسات موقف العداء المطلق، فإنه متى ثبت أن لها فائدة ما في حياة الناس فلا بد أن تقتنص هذه الفائدة، وإننا في عصر تقدمت فيه العلوم الكيمياوئية حتى صنعت المواد السمادية من الهواء، فإنه يكثف بأجهرة التكثيف وستخرج منه أثقل الاجسام صلابه وثقلا كسلفات النشادر، ومع التطور العظيم في علوم الكيمياء والاسمدة، فان الاجماع بين المتخصصين منعقد على أن أعلى أنواع السماد وأسلمها للارض وأعظمها إخصابا للتربه هو الاسمدة العضوية كالروث والبراز الحيوانى والآدمي لهذا أجاز الوصية بكل نافع ولو كان نجسا.
أما الوصية بالخمر والخنيزير والكلب العقور فباطله، لان الانتفاع بها محرم فلو انه اوصى بجرة فيها خمر قال الشافعي رضى الله عنه: اريق الخمر ودفعت إليه الجرة، لان الجرة مباحة والخمر حرام.
فاما الوصية بالحيات والعقارب وحشرات الارض والسباع والذئاب فباطله لانه لا منفعة فيهجميعا.
فأما الوصية بالفيل فان كان منتفعا به فجائر لجواز ان يبيعه ويقوم في التركة ويعتبر من الثلث، وإن كان غير منتفع به فالوصيه باطلة.
فأما الفهد والنمر والشاهين والصقر فالوصيه بذلك جائزة لانها جوارح ينتفع بها للصيد وتقوم في التركة لجواز بيعها وتعتبر في الثلث، وأما الوصية بما تصيده الكلاب فباطلة لان الصيد لمن صاده
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ويجوز تعليق لوصية على شرط في الحياة لانها تجوز في المجهول فجاز تعليقها بالشرط كالطلاق والعتاق، ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت
لان ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليقها على شرط في الحياة جاز بعد الموت.

(فصل)
وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء لزمت بالموت لانه لا يمكن اعتبار القبول فلم يعتبر، وإن كانت لمعين لم تلزم إلا بالقبول لانه تمليك لمعين

(15/429)


فلم يلزم من غير قبول كالبيع، ولا يصح القبول إلا بعد الموت، لان الايجاب بعد الموت فكان القبول بعده.
فان قبل حكم له بالملك.
وفى وقت الملك قولان منصوصان.

(أحدهما)
تمليك بالموت والقبول، لانه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يقع الملك قبله كالهبة.

(والثانى)
أنه موقوف، فان قبل حكمنا بأنه ملك من حين الموت، لانه لا يجوز أن يكون للموصى لان الميت لا يملك، ولا يجوز أن يكون للوارث لان الوارث لا يملك إلا بعد الدين والوصية، ولا يجوز أن يكون للموصى له لانه لو انتقل إليه لم يملك رده كالميراث، فثبت أنه موقوف.
وروى ابن عبد الحكم قولا ثالثا أنه يملك بالموت ووجهه أنه مال مستحق بالموت فانتقل به كالميراث.

(فصل)
وإن رد نظرت، فان كان في حياة الموصى لم يصح الرد لانه لا حق له في حياته فلم يملك اسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعه قبل البيع، وان رد بعد الموت وقبل القبول صح الرد لانه يثبت له الحق فملك اسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعه بعد البيع وان رد بعد القبول وقبل القبض ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح الرد لانه ملكه ملكا تاما فلم يصح رده، كما لو قبضه
(والثانى)
أنه يصح الرد، وهو المنصوص لانه تمليك من جهة الآدمى من غير
بدل فصح رده قبل القبض كالوقف، وان لم يقبل ولم يرد كان للورثه المطالبة بالقبول أو الرد، فان امتنع من القبول والرد حكم عليه بالرد، لان الملك متردد بينه وبين الورثة، كما لو تحجر أرضا فامتنع من احيائها أو وقف في مشرعة ماء فلم يأخذ ولم ينصرف.

(فصل)
وان مات الموص له قبل الموصى بطلت الوصيه ولا يقوم وارثه مقامه لانه مات قبل استحقاق الوصية، وان مات بعد موته وقبل القبول قام وارثه مقامه في القبول والرد لانه خيار ثابت في تملك المال، فقام الوراث مقامه كخيار الشفعه.

(15/430)


(الشرح) تصح الوصية مطلقة ومقيدة فالمطلقة أن يقول: إن مت فثلثي للمساكين أو لفلان، والمقيدة أن يقول: إن مت من مرضى هذا أو في هذه البلدة أو في سفري هذا فثلثي للمساكين، فإن برأ من مرضه أو قدم من سفره أو خرج من البدة ثم مات بعد ذلك فليس له وصية، وبهذا قال الحسن والثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأى.
وقال مالك: إن قال قولا ولم يكتب كتابا فهو كذلك، وإن كتب كتابا ثم صح من مرضه وأقر الكتاب فوصيته بحالها ما لم ينقضها.
ولنا أنها وصية بشرط لم يوجد شرطها فبطلت: كما لو لم يكتب كتابا أو كما لو وصى لقوم فماتوا قبله، ولانه قيد وصينه بقيد فلا يتعداه كما ذكرنا، وإن قال لاحد عبديه: أنت حر بعد موتى، وقال للآخر: أنت حر إن مت في مرضى هذا فمات في مرضه فالعبدان سواء في التدبير.
وإن برأ من مرضه ذلك بطل تدبير المقيد وبقى تدبير المطلق بحاله، ولو وصى لرجل بثلثه وقال: ان مت قبلى فهو لعمرو وصحت وصيته على حسب ما شرطه له، وكذلك في سائر الشروط فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْمُسْلِمُونَ على شروطهم) .
(فرع)
ولا يملك الموصى له الوصيه الا بالقبول في قول جمهور الفقهاء إذا كانت لمعين يمكن القبول منه لانه تمليك مال لمن هو من أهل الملك متعين، فاعتبر قبوله كالهبة والبيع، فأما ان كانت لغيره معين كالفقراء والمساكين ومن لا يمكن حصرهم كبنى هاشم وتميم أو على مصلحة كمسجد ومستشفى ومدرسة أو حج لم يفتقر إلى قبول ولزمت بمجرد الموت لان اعتبار القبول من جميعهم متعذر، فيسقط اعتباره كالوقف عليهم، ولا يتعين واحد منهم فيكتفى بقبوله، وذلك لو كان فيهم ذو رحم من الموصى به مثل ان يوصى بعبد للفقراء وأبوه فقير لم يعتق عليه، ولان الملك لا يثبت الموصى لهم بدليل ما ذكرنا من المسألة وإنما ثبت لكل واحد منهم بالفيض فيقوم قبضه مقام قبوله.
اما الادمى المعين فيثبت له الملك فيعتبر قبلوله لكن لا يعين القبول باللفظ بل يجزئ ما قام مقامه من الاخذ والفعل الدال على الرضى كقولنا في الهبة والبيع

(15/431)


فإذا ثبت هذا: فان الوصية تشتمل على أمرين.
أحدهما: العطية، والثانى الولاية، فاما العطية فهو ما يوصى به الرجل من أمواله لمن أحب، فالوقت الذى يصح فيه قبول ذلك ودره بعد موت الموصى، فان قبل أو رد بعد موته صح، وكان على ما مضى من حكم القبول والرد، فأما في حياة الموصى فلم يصح قبوله ولا رده.
وقال أبو حنيفة: يصح الرد ولا يصح القبول، لان الرد أوسع حكما من القبول، وهذا فاسد لامور، منها ان الرد في مقابلة القبول لانهما معا يرجعان إلى الوصية، فلما امتنع أن يكون ما قبل الموت زمانا للقبول، امتنع أن يكون زمانا للرد وصار كزمان ما قبل الوصية الذى لا يصح فيه قبول ولا رد، وعكسه ما بعد الموت لما صح فيه القبول صح فيه الرد، ومنها ان الرد في حال
الحياة عرف، وقيل: وقت الاستحقاق، فجرى مجرى العفو عن القصاص قبل وجوبه، وعن الشفعة قبل استحقاقها، ومنها انه قبل الموت مردود عن الوصية فلم يكن رده لها مخالفا لحكمها.
وأما الوصية بالولاية على مال طفل أو تفريق ثلثه أو تنفيذ وصية فيصح قبولها وردها في حياة الموصى وبعد موته بخلاف وصايا العطايا، وكان قبوله في حياة العاقد أصح، وذلك عطية تقبل في زمان التمليك، ولو رد الوصية في حياة الموصى لم يكن له قبلوها بعد موته ولا في حياته، ولو قبلها في حياة الموصى صحت وكان له المقام عليها إن شاء والخروج منها إذا شاء في حياة الموصى وبعد موته.
وقال أبو حنيفة.
ليس له الخروج من الوصية بعد موت الموصى، ويجوز له الخروج منها في حياته إذا كان حاضرا، وان غاب لم يجز وهذا فاسد من وجهين
(أحدهما)
ان ما كان لازما من العقود استوى حكمه في الحياة وبعد الموت وما كان غير لازم بطل، فالموت والوصيه ان خرجت عن أحدهما صارت أصلا يفتقر إلى دليل
(والثانى)
لو كان حضور إلى شرطا في الخروج من الوصية لكان رضاه معتبرا، وفى اجماعهم على ان رضاه، وان كان حاضرا غير معتبر دليل على ان الحضور غير معتبر، ولا يخلو إذا رد الوصيه من خمسة أحوال،

(15/432)


أ - أن يردها قبل موت الموصى، فلا يصح الرد لعدم وقوع الوصية فأشبه رد المبيع قبل ايجاب البيع، ولانه ليس بمحل للقبول فلا يكون محلا للرد كما قبل الوصية ب - أن يردها بعد الموت وقبل القبول، فيصح الرد وتبطل الوصية لا نعلم فيه خلافا لانه أسقط حقه في حال يملك قبوله واخذه فاشبه عفو الشفيع عن الشفعة بعد البيع.
ج - ان يرد بعد القبول والقبض فلا يصح الرد لان ملكه قد استقر فأشبه رده لسائر ملكه الا أن يرضى الورثة بذلك فتكون هبة
منه لهم تفتقر إلى شروط الهبة.
د - ان يرد بعد القبول وقبل القبض وفيه وجهان
(أحدهما)
يصح الرد لانهم لما ملكوا الرد من غير قبول ملكوا الرد من غير قبض، ولان ملك الوصي لم يستقر عليه قبل القبض فصح رده كما قبل القبول
(والثانى)
لا يصح الرد لان الملك يحصل بالقبول من غير قبض.
هـ - ان يمتنع عن القبول والرد وهذا يكون حكمه حكم الرد، لان الملك متردد بينه وبين الورثة، ومثاله من تحجر أرضا ثم امتنع من إحيائها.
أو وقف على جدول ماء فلم ياخذ ولم ينصرف وعطل مرور الماء على من ينتفعون به لارواء إنسان أو حيوان أو نبات، وفرق الحنابلة في (ج) بين المكيل والموزون وغيرهما وقد اختلف اصحابنا فيما قبل القبول وبعد الموت متى يحصل ملك الوصية للموصى له، وهل تكون باقية على ملك الموصى أو داخلة في ملك الورثة على وجهين.
أحدهما وهو قول ابن سريج وأكثر البصريين ان ملك الوصية منتقل عن الميت إلى ورثته ثم بالقبول تدخل في ملك الموصى له لزوال ملك الموصى بالموت.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأكثر البغداديين أن الوصيه باقية على ملك الموصى بعد موته حتى يقبلها الموصى له فتدخل في ملكه بقبوله وتنتقل إليه عن الموصى لان الوصية تملك عنه كالميراث، ووجه هذا القول أن الوصية تملك بالقبول فلم يجز أن يتقدم الملك على قبولها كالهبات.
قال الشافعي: وهذا قول ينكسر، والقول الثاني وهو أصحها أن القبول يدل على حصول الملك بالموت فيكون الملك موقوفا مراعى، فان قبل دل على تقدم ملكه، وان لم يقبل دل على عدم ملكه، ووجه هذا القول انه لما امتنع ان يبقى للميت ملك وان الوارصث لا يملك الارث اقتضى أن يكون الملك موقوفا على

(15/433)


قبول الموصى له ورده، وحقه في القبول باق ما لم يعلم، فإذا علم فان كان عند انفاذ
الوصايا وقسمة التركة فقبوله على الفور، فان قبل والا بطل حقه في الوصية، فاما بعد علمه وقبل انفاذا الوصايا وقسمة التركة، فمذهب الشافعي وقول جمهور أصحابه أن القول فيه على التراخي لاعلى الفور فيكون ممتدا ما لم يصرح بالرد حتى تنفذ الوصايا وتقسم التركة، وحكى أبو القاسم بن كج عن بعض أصحابنا ان القبول بعد علمه على الفور لانها عطيه كالهبات، وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي قولا ثالثا ان الوصية تدخل في ملك الموصى له بغير قبول ولا اختيار كالميراث، فاختلف أصحابنا في تخرجه قولا ثالثا للشافعي فخرجه أبو على بن أبى هريرة وأكثر متأخرى المتقدمين من أصحابنا قولا ثالثا تعليلا بالميراث، وامتنع أبو اسحاق المروزى واكثر قدامى المتقدمين من أصحابنا من تخريجه قولا ثالثا، وتأولوا رواية ابن عبد الحكم بأحد تأويلين، إما حكاية عن مذهب غيره، وإما على معنى أن بالقبول يعلم دخولها بالموت في ملكه، وفى طبيعة الوصية والفرق بينها وبين الميراث بأن الميراث عطية من الله تعالى فلم يراع فيه القبول، والوصية عطية من آدمى فروعي فيها القبول (فرع)
قال الشافعي: ولو مات قبل أن يقبل أو بعد موته، فإن مات الموصى له في حياة الموصى فالذي عليه جمهور الفقهاء أن الوصية له قد بطلت وليس لوارثه قبولها بعد موت الموصى.
وحكى عن الحسن البصري أن الوصية لا تبطل بموته، ولورثته قبولها.
قال الماوردى: وهذا فاسد من وجهين، أن الوصية في غير حياة الموصى غير لازمة، وما ليس بلازم من العقود يبطل بالموت، ولان الوصية له لا لورثته، وهو لا يملك الوصيه في حياة الموصى.
وإن مات الموصى له بعد موت الموصى لم يخل حال الموصى له قبل موته من ثلاثة أحوال، أحدها: أن يكون قد قبلها قبل موته وبعد موت الموصى فقد
بطلت برده وليس لوارثه قبولها بعد موته إجماعا.
والحال الثانية: أن يكون قد قبلها قبل موته وبعد موت الموصى فقد ملكها أو انتقلت بموته إلى وارثه، وسواء

(15/434)


قبضها الموصى له في حياته أم لا، لان القبض ليس بشرط في تملك الوصيه، والحال الثالثة: أن يموت قبل قبوله ورده فعلى مذهب الشافعي يقوم وارثه مقامه في القبول والرد ولا تبطل الوصية بموته قبل القبول.
وقال أبو حنيفة: إذا مات قبل القبول بطلت الوصية له كالهبة، وهذا فاسد، لان ما استحقه في التركة لم يسقط بالموت كالدين، ولان كل سبب استحق به تملك عين بغير اختيار مالكها لم تبطل بموته قبل تملكها كالرد بالعيب، وفارقت الوصية الهبة من حيث إن الهبة قبل القبض غير لازمة فجاز أن تبطل بموت الموصى له قبل القبول لازمة فلم تبطل بالموت، فإذا ثبت أن الوصية لا تبطل بموت الموصى له قبل الرد والقبول فورثته يقومون مقامه في القبو والرد، ولهم ثلاثة أحوال، حال يقبل جميعهم الوصية، وحال يرد جميعهم الوصية، وحال يقبلها بعضهم ويردها بعضهم، فإن قبلوها جميعا فعلى القول الذى يجعل القبول دالا على عدم الملك بالموت، فالمالك للوصية بقبول الورثة هو الموصى له لا الورثة.
فأما على القول الذى يجعل القبلو ملكا، فقد اختلف أصحابنا هل تدخل الوصيه في ملك الموصى له بقبول ورثته أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ.

(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وأبى المرووذى: أن الوصيه يملكها الورثة دون الموصى له لحدوث الملك بقبولهم.
(والوجه الثاني) وهو الظاهر من المذهب، وبه قال أكثر البصريين وحكاه أبو القاسم بن كج عن شيوخه أن الوصيه يملكها الموصى له بقبول ورثته، وان كان القبول مملكا، لانها لو لم تدخل في ملكه لبطلت، لان الورثة غير موصى
لهم، فلم يجز أن يملك الوصيه من لم يوصى له، ولو رد الورثة بأجمعهم الوصية بطلت بردهم لها، والله أعلم وهو الموفق للصواب.

(15/435)


قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

بَابُ مَا يعتبر من الثلث

ما وصى به من التبرعات كالعتق والهبة والصدقة والمحاباة في البيع يعتبر من الثلث، سواء كانت في حال الصحة أو في حال المرض، أو بعضها في لصحة وبعضها في المرض، لان الزوم الجميع عند الموت، فأما الواجبات من ديون الآدميين وحقوق الله تعالى كالحج والزكاة فإنه إن لم يوص بها وتجب قضاؤها من رأس المال دون الثلث، لانه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة، ولا حق للورثة مع الديون، فلم تعتبر من الثلث وإن وصى أن يؤدى ذلك من الثلث اعتبر من الثلث، لانها في الاصل من رأس المال فلما جعلها من الثلث علم أنه قصد التوفير على الورثة فاعترت من الثلث، وإن وصى بها ولم يقل إنها من الثلث، ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه تعتبر من الثلث وهو ظاهر النص، لانها من رأس المال، فلما وصى بها علم أنه قصد أن يجعلها من جملة الوصايا فجعل سبيلها سبيل الوصايا.

(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنه إن لم يقرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من رأس المال، وان قرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من الثلث، لانها في الاصل من رأس المال، فإذا عريت عن القرينة بقيت على أصلها، وان قرن بها ما يعتبر من الثلث علم أنه قصد أن يكون مصرفهما واحدا.
(والثالث) أنه تعتبر من رأس المال وهو الصحيح.
لانها في الاصل من رأس المال والوصية بها تقتضي التأكيد والتذكار بها، والقرينة تقتضي التسوية
بينهما في الفعل، لا في السبيل، فبقيت على أصلها.

(فصل)
وأما ما تبرع به في حياته ينظر فيه فإن كان في حال الصحة لم يعتبر من الثلث لانه مطلق التصرف في ماله لا حق لاحد في ماله فاعتبر من رأس المال، وان كان ذلك في مرض غير مخوف لم يعتبر من الثلث، لان الانسان لا يخلو من عوارض فكان حكمه حكم الصحيح، وان كان ذكك في مرض مخوف

(15/436)


واتصل به الموت اعتبر من الثلث، لما روى عمران ابن الحصين (أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ للرجل قولا شديدا ثم دعاهم فجزأهم فأفرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، ولانه في هذا الحالة لا يأمن الموت فجعل كحال الموت، وإن برئ من المرض لم يعتبر من الثلث لانه قد بان أنه لم يكن في ماله حق أحد، وان وهب في الصحة وأقبض في المرض اعتبر من الثلث لانه لم يلزم الا بالقبض وقد وجد ذلك منه في المرض.

(فصل)
وان باع في المرض بثمن المثل أو تزوج امرأة بمهر المثل صح العقد ولم يعتبر العوض من الثلث لانه ليس بوصية، لان الوصية أن يخرج ولم يخرج ههنا شيئا من غير عوض وان كاتب عبدا اعتبر من الثلث، لان ما يأخذ من العوض من كسب عبده وهو مال له فيصير كالعتق بغير عوض.
وان وهب له من يعتق عليه في المرض المخوف فقبله اعتبر عتقه من الثلث فإذا مات لم يرثه.
وقال أبو العباس: يعتبر عتقه من رأس المال ويرثه، لانه ليس بوصية، لانه لم يخرج من ملكه شيئا بغير عوض، والمذهب الاول، لانه ملكه بالقبول وعتق عليه، والعتق في المرض وصية، والميراث والوصيه لا يجتمعان، فلو
ورثناه بطل عتقه، وإذا بطل العتق بطل الارث فأثبتنا العتق وأبطلنا الارث
(فصل)
والمرض المخوف كالطاعون والقولنج وذات الجنب والرعاف الدائم والاسهال المتواتر، وقيام الدم والسل في انتهائه، والفالج الحادث في ابتدائه، والحمى المطبقه، لان هذه الامراض لا يؤمن معها معاجلة الموت فجعل كحال الموت.
فأما غير المخوف فهو كالجرب ووجع الضرس والصداع اليسير وحمى يوم أو يومين، واسهال يوم أو يومين من غير دم، والسل قبل انتهائه، والفالج إذا طال، لان هذه الامراض يؤمن معها معالجة الموت فإذا اتصل بها الموت علم أنه لم يكن موته من هذه الامراض، وان أشكل شئ من هذه الامراض رجع فيه إلى نفسين من أطباء المسلمين، ولا يقبل فيه قول الكافر، وان ضرب الحامل الطلق

(15/437)


فهو مخوف لانه منه الموت، وفيه قول آخر انه مخوف لان السلامة منه أكثر (الشرح) حديث عمران بن حصين رواه أحمد ومسلم وأصحاب الاربعة بلفظ المصنف، وفى رواية لاحمد (أن رجلا أعتق عند موته ستة رجلة له فجاء ورثته من الاعراب، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع.
قال أو فعل ذلك لو علمنا ان شاء الله ما صلينا، فأقرع بينهم فأعتق منهم اثنين وأرق أربعه) ورواه أحمد وأبو داود عن أبى زيد الانصاري (أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأعتق اثنين وأرق أربعه) وفى رواية أبى داود (لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين) وهذا النص تفسير للقول الشديد الذى أبهم في رواية عمران، وفيه تغليض وذم بالغان، لان الله تعالى لم يأذن للمريض بالتصرف الا بالثلث، فإذا تصرف في أكثر منه كان مخالفا لحكمه تعالى ومشابها لمن وهب غير ماله:
والحديثان يدلان على أن تصرفات المريض انما تنفذ من الثلث ولو كانت منجزة في الحال، ولم تضف إلى بعد الموت، وقد أسلفنا القول بالاجماع على عدم جواز الوصيه بأكثر من الثلث لمن كان له وارث، على أن التنجيز حال المرض المخوف حكمه حكم الوصيه.
واختلف الفقهاء هل تعتبر الثلث من التركة حال الوصيه أو حال الموت، وهما وجهان لاصحابنا أصحهما الموت، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وهو قول على كرم الله وجهه وجماعة من التابعين، وقال بحال الوصية مالك وأكثر العراقيين والنخعي وعمر بن عبد العزيز، وتمسكوا بأن الوصيه عقد والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله اعتبر ذلك حال النذر اتفاقا، وأجيب بأن الوصيه ليست عقدا من كل وجه، ولذلك لا يعتبر فيها الفورية ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصيه بأنها يصح الرجوع فيها والنذر يلزم، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصيه، واختلفوا أيضا هل يحسب الثلث من جميع المال، أو يتقيد بما علمه الموصى دون ما خفى عليه أو تجدد له ولم يعلم به وبالاول قال الجمهور وبالثانى قال مالك، وحجه الجمهور أنه لا يشترط أن يستحضر مقدار المال حال الوصيه اتفاقا، ولو كان عالما بجنسه فلو كان العلم به شرطا لما جاز ذلك.

(15/438)


والكلام على الاحكام أن ما وصى به من التبرعات والهبات والصدقات والمحاباة في البيع بأن يكون المبيع مقوما بعشرة فيوصى ببيعه بخمسة مثلا بعد موته، فإن الخمسة الباقية وهى قدر المحاباة تحسب من الثلث الذى أجاز الله له التصرف فيه بالوصية سواء وقعت الوصية في حال الصحة أم في حال المرض وكذلك إن أسقط عن وارثه دينا أو أوصى بقضاء دينه أو أسقطت المرأة صداقها عن زوجها أو عفا عن جناية موجبها المال فهو كالوصية.
وإن عفا عن القصاص وقلنا: الواجب القصاص عينا سقط إلى غير بدل وإن قلنا: الواجب أحد شيئين سقط القصاص ووجب المال، وإن عفا عن حد القذف سقط مطلقا، وان وصى الغريم وارثه صحت الوصية، وكذلك إن وهب له، وبهذا قال أحمد والشافعي وأبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: هو وصية للوارث، لان الوارث ينتفع بهذه الوصية وتستوفى ديونه منها.
ولنا أنه وصى لاجنبي فصح كما لو وصى لمن عادته الاحسان إلى وارثه، وإن وصى لوالد وارثه صح، فإن كان يقصد بذلك نفع الوارث لم يجز فيما بينه وبين الله تعالى.
قال طاوس في قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا، قال أن يوصى لولد ابنته وهو يريد نفع ابنته (فرع)
قال الشافعي: ويجوز نكاح المريض.
قلت: إذا تزوج إمرأة صح نكاحها ولها الميراث والصداق إن لم يزد على صداق مثلها، فإن زاد ردت الزيادة إن كانت وارثة، وأمضيت ان كانت غير وارثة وهكذا المريضة إذا نكحت رجلا صح نكاحها وورثها الزوج، وعليه صداقتها إن كان مهر المثل فما زاد، فإن نكحته بأقل من صداق مثلها، فالمحاباة بالنقصان وصية له فترد إن كان الزوج وارثا وتمضى في الثلث ان كان غير وارث.
وقال مالك: نكاح المريض فاسد لا يستحق به ميراثا.
ولا يجب فيه صداق الا أن يكون راضيا به، فيلزمه مهر المثل من الثلث مقدم على الوصايا، وكذلك نكاح المريض فاسد ولا ميراث للزوجة.
وقال ابن أبى ليلى: النكاح في المرض جائز والميراث من الثلث.

(15/439)


وقال ابن أبى هريرة: النكاح في المرض جائز ولا ميراث.
وقال الحسن البصري: ان ظهر منه الاضرار في تزويجه لم يجز، وان لم يضهر منه الاضرار،
وظهر منه الحاجة إليه في خدمة أو غيرها جاز.
ودليلنا عموم قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، ولم يفرق بين صحيح ومريض، وقال معاذ بن جبل في مرضه: زوجوني حتى لا ألقى الله عزبا.
وقال عبد الله بن مسعود: لو لم يبق من أجلى الا عشرة أيام ما أوجبت الا أن يكون لى زوجة، وروى هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير رضى الله عنه دخل على قدامة يعوده فبشر عنده بجارية فقال قدامة زوجوني بها فقال: ما تصنع بها وأنت على هذه الحال، فقال ان أنا عشت نسبت الزبير، وان مت فهم أحق من يرثنى، ولانه فراش لا يمنع منه الصحيح فوجب أن لا يمنع منه المريض، ولانه عقد فلم يمنع منه المرض كالبيع والشراء، ولانه لا يخلو عمله أن يكون لحاجة أو شهوة، فإن كان لحاجة لم يجز منعه، وان كان لشهوة فهى مباحة له كما أبيح له أن يلتذ بما شاء من أكل أو لبس.
فإذا ثبت اباحة النكاح في المرض فله أن يتزوج ما أباحه الله تعالى من واحدة إلى أربع كهو في الصحة ولهن الميراث ان مات من ذلك المرض أو غيره.
وأما الصداق فإن كان أمهرهن صداق أمثالهن فلهن الصداق مع الميراث، وان كانت عليه ديون شاركن الغرماء في التركة وضربن معهم بالحصص، وان تزوجهن أو واحدة منهن بأكثر من صداق مثلها كانت الزيادة على صداق المثل وصيه في الثلث فإن كانت الزوجة وارثة ردت الوصية لانه لا وصية لوارث، وان كانت غير وارثه لرق أو كفر دفعت الزيادة إليها ان احتملها الثلث، أو ما احتمله منها يتقدم على الوصايا كلها لانها عطية في الحياة، وهكذا لو كانت الزوجه حرة مسلمه فماتت قبله صحت لها الزيادة ان احتملها الثلث لانها بالموت قبله غير وارثه فلو كانت حين نكاحها في المرض أمة أو ذميه فأعتقت الامه أو أسلمت الذميه صارت وارثه ومنعت من الزيادة على صداق مثلها، ولو صح المريض من مرضه
ثم مات من غيره أو لم يمت صحت الزيادة على صداق المثل من رأس المال لوارثه

(15/440)


وغير وارثه، فعلى هذا لو تزوج في مرضه على صداق ألف درهم وصداق مثلها خمسمائة ومات ولا مال له غير الالف التى هي صداقها أعيت من الالف ستمائة وستة وستين درهما وثلثا، لان لها خمسمائة من المال، وتبقى خمسمائة هي جميع التركة وهى وصية لها فأعطيت ثلثها وذلك مائة درهم وستة وستون درهما وثلث درهم تأخذها مع صداق مثلها، ولو خلف مع الصداق خمسمائة صارت التركة بعد صداق المثل ألف درهم فلها ثلثها ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون درهما وثلث، ولو خلف مع الصداق ألف درهم خرجت الزيادة على صداق المثل من الثلث وأخذت الالف كلها.
إذا ثبت هذا: فإن التبرعات المنجزة كالعتق والمحاباة والهبة المقبوضة والصدقه والوقف والابراء من الدين والعفو عن الجناية الموجبه للمال إذا كانت هذه كلها في الصحه فهى من رأس المال لا نعلم في هذا خلافا، وإن كانت في مرض مخوف اتصل به الموت فهى من ثلث المال في قول جمهور العلماء.
وحكى عن أهل الظاهر في الهبة المقبوضة أنها من رأس المال، وليس بصحيح لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) رواه ابن ماجه وغيره، وهذا يدل بمفهومه على أنه ليس له أكثر من الثلث، وقد أسلفنا القول في بسط ما يكون من رأس المال وما يكون من الثلث فاسدد به يديك.
وحكم العطايا في مرض الموت المخوف حكم في خمسه أشياء.
(أحدها) أن يقف نفوذها على خروجها من الثلث أو إجازة الورثة.
(الثاني) أنها لا تصح لوارث إلا بإجارة بقيه الورثة.
(الثالث) أن فضيلتها ناقصه عن فضيلة الصدقة في الصحه.
(الرابع) أن يزاحم بها الوصايا في الثلث.
(الخامس) أن خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ولا بعده، ويفارق الوصيه في ستة أشياء.
أحدها: أنها لازمه في حق المعطى ليس له الرجوع فيها وان كثرت، ولان

(15/441)


المنع على الزيادة من الثلث إنما كان لحق الورثة لا لحقه فلم يملك إجازتها ولا ردها، وإنما كان له الرجوع في الوصية لان التبرع بها مشروط بالموت فلم يملك إجازتها ولا ردها، وإنما كان له الرجوع في الوصية، لان التبرع مشروط بالموت ففيما قبل الموت لم يوجد التبرع ولا العطية بخلاف العطية في المرض، فانه قد وجدت العطية منه والقبول من المعطى والقبض فلزمت الوصية إذا قبلت بعد الموت وقبضت.
(الثاني) أن قبولها على الفور في حال حياة المعطى وكذلك ردها.
والوصايا لا حكم لقبولها ولا ردها إلا بالموت.
فتعتبر شروطه وقت وجوده والوصية تبرع بعد الموت فتعتبر شروطه بعد الموت (الثالث) أن العطية تفتقر إلى شروطها المشروطة لها في الصحة من العلم وكونها لا يصح تعليقها على شرط وغرر في غير العتق، والوصية بخلافه (الرابع) أنها تقدم على الوصية.
وهذا قول أحمد والشافعي وجمهور العلماء، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر إلا في العتق فانه حكى عنهم تقديمه، لان العتق يتعلق به حق الله تعالى ويسرى وقفه وينفذ في ملك الغير فيجب تقديمه (الخامس) العطايا إذا عجز العتق عن جميعها بدئ بالاول فالاول سواء كان الاول عتيقا أو غيره وبهذا قال أحمد والشافعي.
وقال أبو حنيفة رضى الله عنه: الجميع سواء إذا كانت من جنس واحد.
وإن كانت من أجناس وكانت المحاباة متقدمة قدمت وان تأخرت سوى بينها وبين
العتق.
وإنما كان كذلك لان المحاباة حق آدمى على وجه المعاوضة فقدمت إذا تقدمت كقضاء الدين، وإذا تساوى جنسها سواى بينها لانها عطايا من جنس واحد تعتبر من الثلث فسوى بينها كالوصية وقال أبو يوسف ومحمد: يقدم العتق تقدم أو تأخر.
(السادس) أن الواهب إذا مات قبل القبض للهبة المنجزة كانت الخيرة للورثة ان شاء واقبضوا وان شاء وامنعوا، والوصية تلزم بالقبول بعد الموت بغير رضاهم، وما لزم المريض في مرضه من حق لا يمكنه دفعه واسقاطه كأرش الجناية وما عاوض عليه بثمن المثل.
وما يتغابن الناس بمثله فهو من رأس المال لا نعلم فيه خلافا، وهذا عند الشافعي وأصحاب الرأى وأحمد بن حنبل، وكذلك النكاح بمهر المثل جائز من رأس المال لانه صرف لماله حاجة في نفسه

(15/442)


فيقدم بذلك على وارثه.
ويعتبر في المريض الذى هذه أحكامه شرطان أحدهما: أن يتصل بمرضه الموت ولو صح في مرضه الذى أعطى فيه ثم مات بعد ذلك فحكم عطيته حكم عطية الصحيح، لانه ليس بمرض الموت.
(الثاني) أن يكون مخوفا، والامراض على ثلاثة أقسام غير مخوف كوجع الضرس والعين والاطراف والصداع وارتفاع الحرارة الطارئ فهذا حكمه حكم الصحيح لانه لا يخاف منه في العادة.

(والثانى)
الامراض المزمنة كالجذام والربو والفالج والذبحة الصدرية والسل فهذا الضرب ان أضنى صاحبه على فراشه فهو مخوف، وقال الاوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأحمد: ان وصية المجذوم والمفلوج من الثلث لانه محمول على أنهما صاحبي فراش، ومذهب الشافعي.
أنه لا يخاف تعجيل الموت فيه، وان كان لا يبرأ فهو كالهرم لا سيما الفالج إذا أزمن
(الثالث) من تحقق تعجيل موته فينظر فيه فان كان عقله قد اختل مثل نزيف المخ أو الحمى الشوكية أما من اشتد مرضه وصح عقله صح تبرعه عند أصحاب أحمد، وجمله ما مضى أن العطايا في المرض مقدمة على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها لان تلك ناجزة وهذه موقوفة، فلو ضاق الثلث عن العطايا للمريض قدم الاسبق فالاسبق، ولو ضاق الثلث عن الوصايا لم يقدم الاسبق لان عطايا المرض تملك بالقبض المترتب فثبت حكم المتقدم.
والوصايا كلها تملك بالموت فاستوى حكم المتقدم والمتأخر إلا أن يرتبها المريض فتمضى على ترتيبه ما لم يتخلل الوصايا عتق، فان تخللها عتق فان كان واجبا في كفارة أو نذر قدم على وصايا التطوع، وان كان تطوفا ففيه قولان أحدهما أن العتق مقدم على جميع الوصايا لقوته بالبراءة في غير الملك وبه قال من الصحابة ابن عمر ومن التابعين شريح والحسن ومن الفقهاء مالك والشورى، والقول الثاني أن العتق والوصايا كلها سواء في مزاحمة الثلث لان جميعها تطوع، وبه قال من التابعين ابن سيرين والشعبى ومن الفقهاء أبو ثور، على أن المريض مرض الموت إذا أشكل أمره رجع في ذلك إلى طبيبين مسلمين، لان الامراض في زماننا هذا قد تشعبت أصنافها وتعددت اختصاصات العالمين من الاطباء بها، فقد يكون المرض في رأى أحدهم

(15/443)


مخالف لرأى الآخر، فإذا اجتمعا وتشاورا أمكن اتفاقهما على حكم يؤخذ في الوصية به.
ويا حبذا لو تفقه أطباء المسلمين في أحكام الدين المتصلة بعلمهم ومهنتهم إذن لكانت منهم أمه هاديه ناصحه راشدة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان في الحرب وقد التحمت طائفتان متكافئتان، أو كان في
البحر وتموج، أو في كفار يرون قتل الاسارى، أو قدم للقتل في المحاربة، أو الرجم في الزنا، ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه كالمرض المخوف يعتبر تبرعاته فيه من الثلث، لانه لا يأمن الموت كما لا يأمن في المرض المخوف
(والثانى)
أنه كالصحيح لانه لم يحدث في جسمه ما يخاف منه الموت فإن قدم لقتل القصاص فالمنصوص إنه لا تعتبر عطيته من الثلث ما لم يجرح.
واختلف أصحابنا فيه على طريقين، فقال أبو إسحاق: هي على قولين قياسا على الاسير في يد كفار يرون قتل الاسارى، ومن أصحابنا من قال: لا تعتبر عطيته من الثلث لانه غير مخوف لان الغالب من حال المسلم أنه إذا قدر رحم وعفا، فصار كالاسير في يد من لا يرى قتل الاسارى.
(الشرح) الاحكام: يحصل التخويف يغير ما ذكرناه في مواضع خمسة تقوم مقام المرض.
1 - إذا التحم الجيشان واختلط الفريقان في القتال وكانت كل فرقة متكافئة للاخرى أو مقهورة أمامها، فأما الفئة الغالبة منهما فليست حائفة بعد ظهورها، وكذلك إذا لم يلتحما بل كانت كل منهما متميزة، سواء كان بينهما تبادل بالرماية أو لم يكن فليست هذه بحالة خوف، ولا فرق بين كون الطائفتين متفقتين في الدين أو مفترقتين فعن الشافعي رضى الله عنه قولان.
أحدهما: هذا، وبه قال مالك والاوزاعي والثوري، وأحمد، ونحوه عن مكحول، والثانى: ليس بخوف.
ليس بمريض.

(15/444)


2 - إذا قدم ليقتل قصاصا أو غيره أو كمن قدم ليرجم في حد الزنا فقولان أيضا.
أحدهما: أنه مخوف.
والثانى: إن حرج فهو مخوف، وإلا فلا، لانه
صحيح البدن، والظاهر العفو عنه، وبالاول قال أحمد، لان التهديد بالقتل جعل إكراها يمنع وقوع الطلاق وصحة البيع، ويبيح كثيرا من المحرمات ولولا الخوف لم تثبت هذه الاحكام.
3 - إذا ركب البحر، فإن كان ساكنا فليس بمخوف، وإن تموج واضطرب وهبت الريح العاصف فهو مخوف، فإن الله تعالى وصفهم بشدة الخوف بقوله تعالى (هو الذى يسيركم في البحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذة لنكونن من الشاكرين) .
4 - الاسير والمحبوس إذا كان من عادته القتل فهو خائف عطيته من الثلث وإلا فلا.
وهذا أحد قولى الشافعي، وبه قال أبو حنيفة ومالك وابن أبى ليلى وأحمد بن حنبل.
وقال الحسن: لما حبس الحجاج إياس ليس له من ماله إلا الثلث، وقال القاضى أبو بكر: عطية الاسير من الثلث، ولم يفرق، وبه قال الزهري والثوري وإسحاق وحكاه ابن المنذر عن أحمد.
وقال الشعبى ومال: الغازى عطيته من الثلث.
وقال مسروق: إذا وضع رجله في الغرز.
وقال الاوزاعي: المحصور في سبيل الله والمحبس ينتظر القتل أو تفقأ عيناه هو في ثلثه، والصحيح إن شاء الله ما ذكرنا من التفضيل، لان مجرد الحبس والاسر من غير خوف القتل ليس بمرض ولا هو في معنى المرض في الخوف فلم يجز إلحاقه به، وإذا كان المريض الذى لا يخاف التلف عطيته من رأس ماله فغيره أولى.
هذا إذا كان مأسورا لطائفة من المسلمين فإن المذهب أنه ليس مخوفا، لان المسلمين لا يقتلون أسراهم من الكفار إلا بشروط فما بالك إذا كان الاسير مسلما 5 - وقوع الطاعون في بلد فعن أحمد أنه مخوف، والمذهب عندنا أنه ليس
بمرض، وإنما يخالف المرض والله تعالى أعلم بالصواب.

(15/445)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن عجز الثلث عن التبرعات لم يخل إما أن يكون في التبرعات المنجزة في المرض أو في الوصايا، فإن كان في التبرعات المنجزة في المرض، فإن كانت في وقت واحد نظرت، فان كانت هبات أو محاباة قسم الثلث بين الجميع لتساويهما في اللزوم، فان كانت متفاضلة المقدار قسم الثلث عليها على التفاضل، وإن كانت متساوية قسم بينها على التساوى كما يفعل في الديون ن وإن كان عتقا في عبيد أقرع بينهم لما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين، ولان القصد من العتق تكميل الاحكام، ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه، فان وقعت متفرقة قدم الاول فالاول عتقا كان أو غيره، لان الاول سبق فاستحق به الثلث فلم يجز إسقاطه بما بعده، فان كان له عبدان سالم وغانم فقال لسالم إن أعتقت غانما فأنت حر، ثم أعتق غانما قدم عتق غانم لان عتقه سابق.
فان قال ان أعتقت غانما فأنت حر حال عتق غانم ثم أعتق غانما فقد قال بعض أصحابنا: يعتق غانم، لان عتقه غير متعلق بعتق غيره، وعتق سالم متعلق بعتق غيره، فإذا أعتقناهما في وقت واحد احتجنا أن نقرع بينهما فربما خرجت القرعة على سالم فيبطل عتق غانم، وإذا بطل عتقه بطل عتق سالم فيؤدى إثباته إلى نفيه فسقط ويبقى عتق غانم لانه أصل، ويحتمل عندي أن لا يعتق واحد منهما، لانه جعل عتقهما في وقت واحد، ولا يمكن أن يقرع بينهما لما ذكرناه، ولا يمكن تقديم عتق أحدهما لانه لا مزية لاحدهما على الآخر بالسبق فوجب أن يسقطا وإن كانت التبرعات وصايا وعجز الثلث عنها لم يقدم بعضها على بعض بالسبق لان ما تقدم وما تأخر يلزم في وقت واحد وهو بعد الموت، فان كانت كلها
هبات أو كلها محاباة أو بعضها هبات وبعضها محاباة قسم الثلث بين الجميع على التفاضل إن تفاضلت وعلى التساوى إن تساوت.
وإن كان الجميع عتقا أقرع بين العبيد لما ذكرناه في القسم قبله.
وإن كان بعضها عتقا وبعضها محاباة أو هبات ففيه قولان
(أحدهما)
أن الثلث يقسم بين الجميع، لان الجميع يعتبر من الثلث، ويلزم

(15/446)


في وقت واحد
(والثانى)
يقدم العتق بماله من القوة، وان كان بعضها كتابة وبعضها هبات ففيه طريقان
(أحدهما)
أنه لا تقدم الكتابة أنه ليس له قوة وسراية فلم تقدم كالهبات
(والثانى)
أنها على قولين لانها تتضمن العتق فكانت كالعتق.

(فصل)
وإن وصى أن يحج عنه حجة الاسلام من الثلث أو يقضى دينه من الثلث ووصى معها بتبرعات، ففيه وجهان
(أحدهما)
يقسط الثلث على الجميع لان الجميع يعتبر من الثلث، فان كان ما يخص الحج أو الدين من الثلث لا يكفى تمم من رأس المال، لانه في الاصل من رأس المال، وانما اعتبر من الثلث بالوصية، فإذا عجز الثلث عنه وجب أن يتمم من أصل المال
(والثانى)
يقدم الحج والدين، لانه واجب ثم يصرف ما فضل في الوصايا
(فصل)
وان وصى لرجل بمال وله مال حاضر ومال غائب أو له عين ودين دفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين.
وإلى الورثة الثلثان، وكل ما حضر من الغائب أو نض من الدين شئ قسم بين الورثة والموصى له، لان الموصى له شريك الورثة بالثلث فصار كالشريك في المال.
وان وصى لرجل بمائة دينار وله مائة حاضرة وله ألف غائبة فللموصى له ثلث الحاضرة ويوقف الثلثان، لان الموصى له شريك الوارث في المال، فصار
كالشريك في المال.
وان أراد الموصى له التصرف في ثلث المائة الحاضرة ففيه وجهان
(أحدهما)
تجوز لان الوصية في ثلث الحاضرة ماضية، فمكن من التصرف فيه
(والثانى)
لا يجوز لانا منعنا الورثة من التصرف في الثلثين الموقوفين.
فوجب أن نمنع الموصى له من التصرف في الثلث، وان دبر عبدا قيمته مائة وله مائتان غائبة، ففيه وجهان
(أحدهما)
يعتق ثلث العبد، لان عتق ثلثه مستحق بكل حال
(والثانى)
وهو ظاهر المذهب أنه لا يعتق، لانا لو أعتقنا الثلث حصل للموصى له الثلث، ولم يحصل للورثه مثلاه.
وهذا لا يجوز

(15/447)


(الشرح) قال الشافعي: ولو أوصى بغلامه وهو يساوى خمسمائة وبداره لآخر وهى تساوى ألفا وبخمسمائة لآخر والثلث ألف درهم، دخل على كل واحد منهم عول نصف فصار للذى له الغلام نصفه، وللذى له الدار نصفها، وللذى له الخمسمائة نصفها.
قلت: إذا ضاق الثلث عن الوصايا فللورثة حالتان: حالة يجيزون، وحالة يردون، فإن ردوا قسم الثلث بين أهل الوصايا بالحصص، وتسوى منه الوصية بالمعين والمقدر.
وحكى عن أبى حنيفة أن الوصية بالمعين مقدمة على الوصية بالمقدر.
استدلالا بأن المقدر يتعلق بالذمة.
فإذا ضاق الثلث فيها زال تعلقها بالذمة.
وهذا غير صحيح، لان محل الوصايا في التركة سواء ضاق الثلث أو اتسع لها فاقتضى ان يستوى المعين والمقدر مع ضيق الثلث كما يستويان مع اتساعه، ولان الوصية بالمقدر أثبت من الوصية بالمعين، لان المعين إن تلف
بطلت الوصية به، والمقدر إن تلف بعض المال لم تبطل الوصية فإذا تقرر استواء المعين والمقدر مع ضيق الثلث عنها وجب أن يكون عجز الثلث داخلا على أهل الوصايا بالحصص، فإذا أوصى بسيارته لرجل وقيمتها خمسمائة، وبداره لآخر وقيمتها الف وبخمسمائة لآخر، فوصايا الثلاثة كلها تكون ألفين، فان كان الثلث ألفين فصاعدا فلا عجز.
وهى ممضاة، وإن كان الثلث ألفا فقد غجز الثلث عن نصفها فوجب أن يدخل العجز على جميعها.
ويأخذ كل موصى له بشئ نصفه فيعطى الموصى له بالسيارة نصفها، وذلك مائتان وخمسون ويعطى الموصى له بالدار نصفها وذلك خمسمائة.
ويعطى الموصى له بالخمسمائة نصفها وذلك مائتان وخمسون وعلى قول أبى حنيفة تسقط الوصية بالخمسمائة المقدرة، ويجعل الثلث بين الموصى له بالسيارة والدار، فيأخذ كل واحد منهما ثلثى وصيته لدخول العجز بالثلث منها، فلو كان الثلث في هذه الوصايا خمسمائة فهو ربع الوصايا الثلاثه فيعطى كل واحد ربع ما جعل له، ولو كان الثلث ألفا وخمسمائة فيجعل لكل واحد منهم ثلاثة أرباع وصيته ثم على هذا القياس

(15/448)


وإن أجازوا الوصايا كلها مع ضيق الثلث عنها ودخول العجز بالنصف عليها ففى إجازتهم قولان.

(أحدهما)
أن إجازتهم ابتداء عطية منهم لامرين.
أحدهما: أن ما زاد على الثلث منهى عنه، والنهى يقتضى فساد المنهى عنه.

(والثانى)
أنهم لما كانو بالمنع مالكين لما منعوه وجب أن يكون بالاجارة معطين لما أجازوه فعلى هذا قد ملك أهل الوصايا نصفا بالوصية لاحتمال الثلث لها ولا يفتقر بملكهم لها إلى قبض ونصفها بالعطية لعجز الثلث عنها، ولا يتم ملكهم
إلا بقبضه.
والثانى: وهو أصح، وبه قال أبو حنيفة: إن إجازة الورثة تنفيذ أو إمضاء لفعل الميت، وإن ذلك مملوك بالوصية دون العطية لامرين
(أحدهما)
أن ما استحقوه من الخيار في عقود الميت لا يكونون بالامضاء عاقدين لها كالمشترى سلعة إذا وجد وارثه به عيبا فأمضى الشراء ولم ينسخه كان تنفيذا ولم يكن عقدا فكذلك خياره في إجازة الوصية
(والثانى)
أن لهم رد ما زاد على الثلث في حقوق القسمة، فإذا أجازوه سقطت حقوقهم منه، فصار الثلث وما زاد عليه سواء في لزومه لهم، فإذا استوى الحكم في الجميع مع اللزوم اقتضى أن يكون جميعه وصية لا عطية فعلى هذا يلزمهم نصف الوصايا بالوصية من غير إجازة لاحتمال الثلث لها، ونصف بالاجازة بعد الوصيه من غير قبض تعيين، ولا رجوع يسوغ (فرع)
قد أسلفنا القول في عطايا المرض وتقديمها على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها، وقلنا عن ترتيب المريض لها ما لم يتخلل الوصايا عتق، وأقوال الفقهاء الوارد عليه، أما إذا أوصى أن يحج عنه حجة الاسلام المكتوبة من الثلث أو يقضى دينه من الثلث فقال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى أن يحج عنه ولم يحج حجة الاسلام فإن بلغ ثلثه حجته من بلده أحج عنه من بلده، وان لم يبلغ أحج عنه من حيث بلغ.
قال المزني: والذى يشبه قوله أن يحج عنه من رأس ماله لانه في قوله دين عليه وجملة ذلك أن للمستدل في الحج عنه حالتان، حالة يوصى به وحاله لا يوصى به، فإن لم يوص به فلا يخلو حاله من أحد أمرين اما أن يكون عليه حج واجب

(15/449)


أولا حج عليه، فإن لم يكن عليه حج لم يجز أن يتطوع عنه بالحج، وان كان عليه حجة الاسلام فمات من غير أن يوصى بها فواجب أن يحج عنه من رأس ماله بأقل ما يوجد من ميقات بلده، وكذلك يخرج عنه من رأس ماله ما وجب
عليه من زكوات وكفارات، وان لم يوص بها.
وقال أبو حنيفة: لا يصح الحج عنه ولا الزكاة ولا الكفارة الا بوصية منه وهذا فاسد بما ذكره النووي في الحج بأقوى حجاج، ولان ما تعلق وجوبه بالمال ازم أداؤه وان لم يوص به كالديون.
وإذا لزم أداؤه عنه فمن رأس المال كالديون وتخرج منه أجرة المثل من الميقات لا من بلده، وان كانت استطاعته من بلده شرطا وجوب حجه، لانه إذا كان حيا لزمه أداؤه بنفسه فصار نفقة معتبرة في استطاعته، وإذا مات لم يتعين الثلث عنه أن يكون في بلده، وانما لزم أن يؤتى بالحج من ميقات بلده فلذلك اعتبر أجرة المثل من ميقات بلده.
(فرع)
إذا أوصى أن يحج عنه، فإن كان عليه حج فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام.
أحدها: أن يجعل الحج من رأس ماله، فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يذكر قدر ما يحج به عنه، والثانى: أن لا يذكر، فإن لم يذكر أخرج عنه من رأس ماله قدر أجرة المثل من ميقات بلده، ولا يستفاد بوصية الا التذكير والتأكيد، وسواء ذكر القدر أم لم يذكر، فإن أجرة المثل أتم إذا كانت من الميقات وخروجها من رأس المال.
والقسم الثاني: أن يوصى بالحج من ثلثه فهذا على ضربين.

(أحدهما)
أن يجعل كل الثلث مصروفا إلى الحجه الواجبة عليه فهذا الحج عنه بالثلث من بلده أن أمكن، ولا يجوز أن يدفع إلى وارثه ان زاد على أجرة المثل، ويجوز أن يدفع إليه ان لم يزد، فإن عجز الثلث عن الحج من بلده أحج به عنه من حيث أمكن من طريقه فان عجز الا من ميقات البلد أحج به عنه من ميقات البلد، فان عجز عنه وجب اتمام أجرة المثل من ميقات بلده من رأس المال وصار فيها دور، لان ما يتمم به أجرة المثل من رأس ماله يقتضى نقصان رأس المال.
(والضرب الثاني) أن لا يجعل كل الثلث مصروفا إلى الحج بل يقول: أحجوا

(15/450)


عنى من ثلثى، فهذا إما أن يذكر قدرا فلا يزاد عليه إن وجد ويستأجر من يؤديه من بلده أو من الميقات فان لم يوجد من يحج بها من ميقاته وجب إتمامها من رأس المال لا من ثلثه لان القدر الذى حدده من الثلث لا يزاد عليه منه وإنما تؤخذ الزيادة من رأس المال، وإما أن لا يذكر القدر فيخرج من ثلثه قدر أجرة المثل ثم فيها وجهان أحدهما وهو قول أبى اسحق المروزى: الظاهر من كلام الشافعي أجرة المثل من بلد الموصى لان الوصية في الثلث تقتضي الكمال.
والوجه الثاني: أجرة مثل الميقات كما لو جعله من رأس المال وما زاد عليه تطوع لا يخرج إلا بالنص، فإن عجز الثلث عن جميع الاجرة تمم الجميع مثل أجرة الميقات من رأس المال.
فلو كان في الثلث مع الحج وصايا وعطايا ففى تقديم الحج على الوصايا وجهان حكاهما أبو إسحق المروزى.
أحدهما، يقدم الحج على جميع الوصايا في الثلث لانه مصروف في فرض ثم يصرف ما فضل بعد الحج في أهل الوصايا، والوجه الثاني أنه يسقط الثلث على الحج والوصايا بالحصص لان الحج وإن وجب فله محل غير الثلث تساوى في الثلث أهل الوصايا ثم تمم أجرة المثل من رأس المال، وعلى هذين الوجهين لو كانت عليه ديون واجبة أوصى بقضائها من ثلثه أحدهما يتقدمون بها على أهل الوصايا.
والثانى: يحاصونهم ثم يستكملون ديونهم من رأس المال فهذا حكم القسم الثاني إذا جعله من ثلثه.
القسم الثالث: أن يطلق الوصية فلا يجعله من الثلث ولا من رأس المال فالذي نص عليه الشافعي في الجديد في مناسك الحج أنه يحج عنه من رأس المال، وقال في الوصايا: يحج عنه من ثلثه، فاختلف أصحابنا فكان أبو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ
وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ يخرجان ذلك على قولين أحدهما: يكون من رأس المال كما لو لم يوص به لوجوبه كالديون، والقول الثاني: أن يكون من الثلث ليستفاد بالوصية ما لم يكن مستفادا بغيرها.
وقال أبو على بن خيران: ليس هذا على اختلاف قولين وإنما هو تبعيض الحكم على حالين فالذين جعله في الثلث هو أجرة

(15/451)


مثل المسير من بلده إلى الميقات، والذى جعله من رأس المال هو أجرة المثل من الميقات.
وقال أبو إسحق المروزى وأبو علي بن أبى هريرة: يكون ذلك من رأس المال قولا واحدا، والذى قاله ههنا أنه يكون في الثلث إذا خرج بأنه في الثلث توفيرا على ورثته، ألا تراه قال: فان لم يبلغ تمم من رأس المال.
وإذا وصى بالحج تطوعا عنه بمال ففيه قولان أحدهما: أن الوصية باطلة والثانى: جائزة وقد بسط النووي توجيهها في كتاب الحج.
(فرع)
قال مالك بن أنس رضى الله عنه: إذا أوصى لرجل بمائة دينار له حاضرة وترك غيرها ألف دينار دينا غائبة فالورثة بالخيار بين امضاء الوصية بالمائة كلها عاجلا، سواء حل الدين وسلم الغائب أم لا، وبين أن يسلموا ثلث المائة الحاضرة وثلث الدين من المال الغائب ويصير الموصى له بالمائة شريكا بالثلث في كل التركة، وإن كثرت وسمى ذلك خلع الثلث، استدلالا بأن للموصى ثلث مائة، فإذا غير الوصية بالثلث في بعضه فقد أدخل الضرر عليهم بتعيينه، فصار لهم الخيار بين التزام الضرر بالتعيين وبين العدول إلى ما كان يستحقه الموصى، فهذا دليل مالك، وما عليه في هذا القول.
واستدل اسماعيل بن اسحق بأن تعيين الموصى للمائة الحاضرة من جملة التركة الغائبة بمنزلة العبد الجاني إذا تعلقت الجناية في رقتبه فسيده بالخيار بين افتدائه
بأرش جنايته أو تسليمه، فهذا مذهب مالك ودليلاه.
ومذهب الشافعي رضى الله عنه أن الموصى له ثلث المائة الحاضرة، وثلثاها الباقي موقوف على قبض الدين أو من الغائب ما يخرج المائة كلها من ثلثه أمضيت الوصية بجميع المائة، وإن وكل ما يخرج بعضها أمضى قدر ما احتمله الثلث منها، فإن برئ الدين وتلف الغائب استقرت الوصية في ثلث المائة الحاضرة وتصرف الورثة في ثلثيها، لانها صارت جميع التركة.

(15/452)


واختلف أصحابنا إذا انتظر بالوصية قبض الدين ووصول الغئب هل يمكن الموصى له من ثلث المائة؟ على وجهين.

(أحدهما)
يمكن من التصرف فيها لانه ثلث ممضى.
(والوجه الثاني) يمنع من التصرف فيها لانه لا يجوز أن يتصرف الموصى له فيما لا يتصرف الورثة في مثليه، وقد منع الورثة من التصرف في ثلثى المائة الموقوف، فوجب أن يمنع الموصى له من التصرف في الثلث الممضى، والدليل على فساد ما ذهب إليه مالك أنه يؤول إلى أحد أمرين يمنع الوصية منهما، لانه إذا أجبر الورثة بين التزام الوصيه في ثلث كل التركة أو إمضاء الوصية في كل المائة فكل واحد من الامرين خارج عن حكم الوصية لانهم اختاروا منعه من كل المائه فقد ألزمهم ثلث كل التركة، وذلك غير موصى به.
وإن اختاروا أن لا يعطوا ثلث التركة فقط ألزمهم إمضاء الوصية بكل المائه فعلم فساد مذهبه بما يؤول إليه حال كل واحد من الخيارين، فإذا جعلتم تعيين الوصية بالمائة الحاضرية إدخال ضرر أو جنايه فالضرر قد رفعناه يوقف الثلثين على قبض الدين ووصول الغائب، فصار الضرر بذلك مرتفعا، وإذا زال الضرر ارتفت الجناية منه فبطل الخيار فيه.
فإذا تقرر ما وصفنا تفرع على ذلك أن يوصى بمائة دينار حاضرة وباقى تركته التى تخرج كل المائه من ثلثها دين أو غائب، فيخرج ثلث المائة ويوقف ثلثاها على قبض الدين ووصول الغائب، فإذا قبض ووصل منهما أو أحدهما ما يخرج كل المائة من ثلثه خرج جميعها.
وهل يمكن الورثة في حال وقف الثلثين على قبض الدين ووصول الغائب من استخدام فرس إن كان الموصى به فرسا أو سيارة إن كانت وصيه أو غير ذلك، فتركب ويتصرف في منفعتها أم لا، على وجهين.

(أحدهما)
يمكن ذلك لئلا يلزمهم إمضاء الوصيه بما لم ينتفعوا بثلثيه، وهذا على الوجه الذى يقول: إن الموصى له بالمائة إذا وقف ثلثها منع من التصرف في ثلثيها اعتبارا بالتسويه، فعلى هذا ان برئ الدين وتلف الغائب استقر ملكهم على ما وقف من ثلثيها وكان لهم التصرف في الثلثين أو بيع ثلثى الفرس أو السيارة

(15/453)


وان اقتضى من الدين أو قدم من الغائب ما يخرج جميعه من ثلثه رجع الموصى له بالفرس أو السيارة عليهم بما أخذوه من كسبهما أو أجرة، وليس للورثة أن يرجعوا على الموصى له بما اتفقوا على الفرس أو السيارة من نفقات السياسه أو الصياية، وقد كان لهم اجازة الوصية فصاروا متطوعين بالنفقه.
(والوجه الثاني) أنهم يمنعون من ذلك كما يمنعون من التصرف بالبيع، لان الظاهر نفوذ الوصية بعتقه، وعلى هذا الوجه الذى يجوز للموصى له التصرف في ثلث المائة، وان منع الورثة من التصرف في ثلثيها، فعلى هذا ان برئ الدين وتلف الغائب ولم يتصرف الورثة في استغلال الموصى به أدى الموصى له ثلثى غلة كسب الموصى به أو أجره مثله للورثة لانه لا يستحق في الوصيه الا ثلثها والباقى للورثة، وقد فوت عليهم منافع ثلثى المال وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

(فصل)
وان وصى له بثلث عبد فاستحق ثلثاه وثلث ماله يحتمل الثلث الباقي من العبد نفذت الوصية فيه على المنصوص، وقال أبو ثور وأبو العباس: لا تنفذ الوصيه الا في ثلث الباقي كما لو وصى بثلث ماله ثم استحق من ماله الثلثان والمذهب الاول، لان ثلث العبد ملكه، وثلث ماله يحتمله، فنفذت الوصيه فيه كما لو أوصى له بعبد يحتمله الثلث، ويخالف هذا إذا أوصى بثلث ماله ثم استحق ثلثاه، لان الوصية هناك بثلث ماله، وماله هو الباقي بعد الاستحقاق، وليس كذلك ههنا لانه يملك الباقي وله مال غيره يخرج الباقي من ثلثه.

(فصل)
وان وصى له بمنفعة عبد سنه، ففى اعتبارها من الثلث وجهان.
أحدهما: يقوم العبد كامل المنفعة، ويقوم مسلوب النفعه في مدة سنه، ويعتبر ما بينهما من الثلث.
والثانى: تقوم المنفعة سنه، فيعتبر قدرها من الثلث.
ولا تقوم الرقبة لان الموصى به هو المنفعة، فلا يقوم غيرها، وان وصى له بمنفعة عبد على التأبيد ففى اعتبار منفعته من الثلث ثلاثة أوجه.
أحدهما: تقوم المنفعة في حق الموصى له والرقبة مسلوبة المنفعة في حق

(15/454)


الوارث، لان الموصى له ملك المنفعة، والوارث ملك الرقبة، وينظر كم قدر التركة مع قيمة الرقبه مسلوبة المنفعة، وينظر قيمة المنفعة فتعتبر من الثلث.
والثانى: تقوم المنفعة في حق الموصى له لانه ملكها بالوصية، ولا تقوم الرقبة في حق الموصى له، لانه لم يملكها ولا في حق الوارث لانها مسلوبة المنفعة في حقه لا فائدة له فيها، فعلى هذا ينظركم قدر التركة وقيمة المنفعة، فتعتبر من الثلث، والثالث وهو المنصوص: تقوم الرقبه بمنافعها في حق الموصى له، لان المقصود من الرقبه منفعتها، فصار كما لو كانت الرقبه له فقومت في حقه، وينظر قدر التركة فتعتبر قيمه الرقبه من ثلثها، وإن وصى بالرقبة لواحد وبالمنفعه لواحد
قومت الرقبه في حق من وصى له بها، والمنفعة في حق من اوصى له بها، لان كل واحد منهما يملك ما وصى له به فاعتبر قيمتها من الثلث.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى له بشئ بعينه فاستحق ثلثه كان له الثلث الباقي إذا احتمله الثلث، وإذا أوصى له بتلت دار هو في الظاهر مالك لجميعها فاستحق تلتا الدار وبقى على ملك الموصى تلتها، فالتلت كله للموصى له إذا احتمله التلت، وهو قول الجمهور.
وقال أبو ثور: يكون له تلت التلت استدلالا بأنه لما أوصى له بتلتها، وهو في الظاهر مالك لجميعها تناولت الوصيه ثلث ملكه منها، فإذا بان ان ملكه منها التلت وجب ان تكون الوصيه بتلت التلت، لانه كان ملكه منها كمن أوصى بتلت ماله وهو ثلاثه الاف درهم فاستحق منها الفان كانت الوصيه بتلت الالف الباقيه هكذا قال أبو ثور من الفهاء وابو العباس بن سريج من اصحابنا، وهو فاسد من وجهين، احدهما: ان ما طرأ من استحقاق التلتين ليس بأكثر من أن يكون عند الوصيه غير مالك للتلتين، وقد ثبت انه لو أوصى له بتلت دار هو قدر ملكه منها كان له جميع التلت إذا احتمله التلت، كذلك إذا اوصى له بتلتها فاستحق ما زاد على التلت منها.
والثانى: هو ان رفع يده بالاستحقاق كزوال ملكه بالبيع، وقد ثبت انه لو

(15/455)


باع بعد الوصية بالثلت منها ما بقى من ثلثها صحت الوصيه بكل الثلث الباقي بعد البيع، فكذلك تصح بالثلث الباقي بعد المستحق، وليس بما ذكراه من استدلال بثلث المال وجه، لان الوصية لم تعتبر الا في ثلث ملكه، وملكه هو الباقي بعد الاستحقاق، ولو فعل مثل ذلك في الوصية بالدار فقال قد اوصيت لك بثلث
ملكى من هذه الدار فاستحق ثلثا ها كان له ثلث ثلثها الباقي (مسالة) إذا ابتدأ الوصية بتلت ماله لرجل، اوصى ان يحج عنه رجل بمائة درهم، ثم اوصى بالباقي من تلت المال لاخر، فقد اختلف اصحابنا في الموصى له بالباقي في هذه المسالة إذا قدم الوصية بالتلت على وجهين
(أحدهما)
وهو قول أبى اسحاق المروزى: انها باطلة لان تقديم الوصية بالتلت يمنع من ان يبقى شئ من التلت، فجعل نصف اجار الورثة الوصية بالتلت وبالمائة امضيا وان لم يجيزوها ردا إلى التلت، فجعل نصف التلت لصاحب التلت، وكان النصف الاخر بين الموصى له بالمائة وبين الموصى له بالباقي على ما مضى من الوجهين (فرع)
الوصية بالمنفعة كما اسلفنا القول كالوصيه بالعين، فلما كان لموصى له بالرقبة يجوز له المعاوضه عليها لانه قد ملكها بالوصية كان الموصى له بالخدمه ايضا يجوز له المعاوضه عليها لانه قد ملكها بالوصية، فإذا ثبت هذا قالوصيه بالمنفعه ضربان مقدرة بمقدرة بمدة ومؤبدة.
فان قدرت بمدة كان قال: قد اوصيت لزيد بخدمة عبى سنه فالوصيه جائزة له بخدمة سنه، والمعتبر في التلت منفعة السنة دون الرقبه.
وفى كيفيه اعتبارها وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس بن سريج انه يقوم العبد كامل المنفعة في زمانه كله.
فإذا قيل مائة دينار قوم وهو مسلوب المنفعة سنه.
فإذا قيل ثمانون دينارا فالوصيه بعشرين دينارا.
وهى خارجه من التلت ان لم يكن على الموصى دين والوجه الثاني: وهو الذى اراه مذهبنا انه يقوم خدمة مثله سنه فتعتبر من التلت، ولا تقوم الرقبه لان المنافع المستهلكة في العقود والعصوب هي المقومه دون الاعيان، فلو اراد ان يستاجر دكانا فان ذلك يعد معاوضة على المنفعة فلا تقوم العين على حدة والمنفعة على حدة، وانما العقد لا يكون الا على المنفعة فكذلك في الوصايا، فإذا علم القدر الذى تقومت به خدمة السنة اما من العين

(15/456)


على الوجه الاول أو من المنافع على الوجه الثاني نظر، فان خرج جميعه من الثلث صحت الوصية له بخدمة جميع السنة.
وان خرج ثلثه من الثلث رجعت الوصية إلى ثلثها واستخدمه ثلث السنة فإذا تقرر انه على هذه العبرة استحق استخدامه جميع السنة، فلا يخلو ان يكون في التركة مال غير العبد أم لا.
فان كان في التركة مال غيره إذا امكن الموصى من استخدامه سنة امكن الورثة أن يتصرفوا من التركة في تلك السنة بما يقابل مثل العبد، فللموصى له ان يستخدم جميع العبد سنة متوالية حتى يستوفى جميع وصيته، والورثة لا يمنعون من التصرف في رقبة العبد حتى تمضى السنة فإن باعوا الموصى بمنافعه عبدا كان أو فرسا أو سيارة أو بينا قبل مضى السنة كان في بيبعه قولان كالعبد المؤاجر.
وان لم يكن في التركة مال غير الموصى بمنافعه ولا خلف الموصى سواه ففى كيفية انتفاع الموصى له سنة ثلاثة اوجه حكاها ابن سريج.
احدها انه ينتفع به سنة متواليه ويمنع الورثة من استخدامه والتصرف فيه حتى يستكمل الموصى له سنة وصيته، ثم حينئذ يخلص للورثة بعد انقضائها.
والوجه الثاني: انه يستخدم ثلث الموصى به ثلاث سنين، ويستخدم الورثة ثلثيه حتى يستوفى الموصى له سنة وصيته في ثلاث سنين لئلا يختص الموصى له بما لم يحصل للورثه مثلاه.
والوجه الثالث: ان يتهايأ عليه الموصى له والورثة، فيستخدمه الموصى له يوما والورثة يومين حتى يستوفى سنة وصيته في ثلاث سنين.
والوجه الاول أصح لانهم قد صاروا إلى ملك الرقبة فلم يلزم ان يقابلوا الموصى له بمثلى المنفعة لان حق الموصى له في استخدام الموصى به جميعه، فلم يجز ان يجعل في ثلثه، ولان حقه مفضل ومعجل فلم يجز ان يجعل مرجأ أو مفرقا وإذا كانت الوصية بالمنفعة على التأبيد، كان قال أوصيت لزيد باستخدام
سيارتي أبدا فالوصيه جائزة إذا حملها التلت واختلف اصحابنا في الذى يعتبر قيمته في التلت على وجهين
(أحدهما)
قاله الشافعي رضى الله عنه في اختلاف العراقيين، وهو اختيار ابى العباس بن سريج انه تقوم جميع الرقبه في التلت، وان اختصت الوصيه بالمنفعة كما تقوم رقبة الوقف في التلت.

(15/457)


وان ملك الموقوف عليه المنفعة فعلى هذا هل يصير الموصى له مالكا، وان منع من بيعها أم لا.
على وجهين
(أحدهما)
لا يملكها لاختصاص الوصية بمنافعها
(والثانى)
يملكها كما يملك ام الولد.
وان كان ممنوعا من بيعها لتقويمها عليه في الثلث، وهذا قول ابى حامد المروروذى.
هذا إذا قيل ان الرقبة هي المقرمة والوجه الثاني: انه يقوم مناعفع الموصى به في الثلث دون الرقبة، لان التقويم انما يختص بما تضمنته الوصية، ولا يجوز ان يتجاوز بالتقويم إلى غيره ولانه لو اوصى بالمنفعة لرجل وبالرقبة لرجل لم يقوم في حق صاحب المنفعة الا المنفعة دون الرقبة.
كذلك إذا استبقى الرقبة على ملك الورثة واعتبار ذلك ان يقوم: كم قيمة الموصى به بمنافعه.
فإذا قيل مائة دينار، قيل: وكم قيمته مسلوب المنافع، فذا قيل عشرون دينارا علم ان قيمة منافعه ثمانون دينارا فتكون هي القدر المعتبر من الثلث.
فعلى هذا هل يحتسب الباقي من قيمة الرقبة وهو عشرون دينارا على الورثة في ثلثيهم أم لا.
على وجهين
(أحدهما)
يحتسب به عليهم، لانه قد دخل ملكهم وهذا قول أبى اسحاق المروزى (والوجه الثاني) لا يحتسب به عليهم لان ما زالت عنه المنفعة زال عنه التقويم.
فإذا ثبت ما ذكرناه وخرج القدر الذى اعتبرناه من الثلث صحت الوصية
بجميع المنفعة، وكان للموصى له استخدامه أبدا ما كان حيا وأخذ جميع أكسابه المألوفة، وهل يملك ما كان غير مألوف منها، على وجهين: أصحهما يملكه.
وفى نفقته ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول ابى سعيد الاصطخرى انها على الموصى له بالمنفعة، لان النفقة تختص بالكسب
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ انها على الورثة لوجوبها بحق الملك (والثالث) وهو ما حكاه أبو حامد الاسفرايينى تجب في بيت المال لان كل واحد من مالكى المنفعة والرقبة لم يكمل فيه استحقاق وجوبها عليه فعدل بها إلى بيت المال، فان مات الموصى له فهل تنتقل المنفعة إلى وارثه املا، على وجهين حكاهما أبو على الطبري في الافصاح
(أحدهما)
ان المنفعة تنتقل إلى ورثته لتقويمها على الابد في حقه، فعلى هذا تكون المنفعة مقدرة بحياة العين.

(15/458)


والوجه الثاني: قد انقطعت الوصيه بموت الموصى له لانه وصى له في عينه بالخدمة لا لغيره.
فعلى هذا تكون المنفعة مقدرة بحياة الموصى له ثم تعود بعد موته إلى ورثة الموصى فاما بيع الموصى بمنفعته، فان أراد الموصى له بالمنفعة ببيعه لم يجز سواء ملك جميع المنفعة أو بعضها، وسواء قيل انه مالك أو غير مالك.
وان أراد ورثة الموصى بيعه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يجوز لثبوت الملك
(والثانى)
لا يجوز لعدم المنفعة (والثالث) يجوز بيعه من الموصى له بالمنفعة ولا يجوز من غيره، لان الموصى له ينتفع به دون غيره.
والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وصى له بثمرة بستانه، فان كانت موجودة اعتبرت قيمتها من الثلث، وان لم تخلق - فان كانت على التأبيد - ففى التقويم وجهان:

(أحدهما)
يقوم جميع البستان
(والثانى)
يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مسلوب المنفعة، ويعتبر ما بينهما من الثلث، فان احتلمه الثلث نفذت الوصيه فيما بقى من البستانى.
وان احتمل بعضها كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشاركه فيه الورثة، فان كان الذى يحتمله النصف كان للموصى له من ثمرة كل عام النصف وللورثه النصف والله أعلم.
(الشرح) الاحكام: إذا أوصى له بثمرة فذلك ضربان: ان تكون الثمرة موجودة فالوصية جائزة وتعتبر قيمتها من الثلث عند موت الموصى لا حين الوصية فان خرجت من الثلث فهى للموصى له، وان خرج بعضها كان له منها قدر ما احتمله الثلث، وكان الورثة شركاءه فيها بما لم يحتمله الثلث منها والضرب الثاني ان يوصى بثمرة لم تخلق فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يوصى بثمرته على الابد فالوصية جائزة، وفيما يقوم في الثلث وجهان.
احدهما: جميع البستان.
والثانى يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مسلوب المنفعة ثم يعتبر مابين القيمتين من الثلث، فان احتمله نفذت الوصية بجميع الثمرة أبدا ما بقى البستان، وان احتمل بعضه كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشارك فيه الورثة، مثل ان يحتمل

(15/459)


النصف فيكون للموصى له النصف من ثمره كل عام وللورثه النصف الباقي، وإذا احتمل الثلث جميع القيمه وصارت الثمرة كلها للموصى له فاحتاجت إلى سقى فلا يجب على الورثة السقى بخلاف بائع الثمرة حيث وجب عليه سقيها للمشترى إذا احتاجت إلى السقى، لان البائع عليه تسليم ما تضمنه العقد كاملا والسقى من كماله وليس كذلك الوصية لان الثمرة تحدث على ملك الموصى له ولا يجب على الموصى له سقيها، لانها بخلاف البهيمة الموصى بخدمتها في الحرث والسقى، لان نفقة البيهيمة مستحقة لحرمة نفسها ووجوب حفظها بخلاف الثمرة، وكذلك لو احتاجت
النخل إلى سقي لم يلزم واحدا منهما، وأيهما تطوع به لم يرجع به على صاحبه، فان مات النخل استقطع جذاعه للورثه دون الموصى له، وليس للموصى له أن يغرس مكانه ولا ان غرس الورثة مكانه نخيلا كان له فيه حق، لان حقه كان في النخل الموصى له به دن غيره والضرب الثاني: ان يوصى بثمره مدة مقدرة، كان اوصى له بثمره عشر سنين، فمن أصحابنا من ذهب إلى بطلان الوصية مع التقدير بالمدة بخلاف المنفعة لان تقويم المنفعة المقدرة ممكن، وتقويم الثمار المقدرة المدة غير ممكن.
وذهب سائر اصحابنا إلى جوازها كالمنفعة، وفيما تقدم في الثلث وجهان احدهما: انه يقوم البستان كامل المنفعة، ويقوم مسلوب المنفعة، ثم يعتبر ما بين القيمتين في الثلث.
والوجه الثاني: ان ينظر اوسط ما تثمره النخل غالبا في كل عام ثم تعتبر قيمة الغالب من قيمة الثمرة في أول عام، ولا اعتبار بما حدث بعده من زيادة ونقص.
فان خرج جميعه من الثلث فقد استحق جميع الثمرة في تلك المدة، وان خرج نصفه فله النصف من ثمرة كل عام إلى انقضاء تلك المدة، وليس له ان يستكمل هذه كل عام في نصف تلك المدة، لانه قد تختلف ثمرة كل عام في المقادير والاثمان.
فخالف منافع العبد والبهيمة والدار.
ومثل الوصية بثمرة البستان ان تكون الماشية فيوصى له بدرها ونسلها، وتجب نفقة الماشية كما أسلفنا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(15/460)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب جامع الوصايا

إذا وصى لجيرانه صرف إلى أربعين دارا من كل جانب، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (حق الجوار أربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا، يمينا وشمالا وقداما وخلفا) .

(فصل)
وان وصى لقراء القرآن صرف إلى من يقرأ جميع القرآن، وهل يدخل فيه من لا يحفط جميعه، في وجهان.

(أحدهما)
يدخل فيه لعموم اللفظ.

(والثانى)
لا يدخل فيه، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف الا على من يحفظه، وان وصى للعلماء صرف إلى علماء الشرع، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف الا عليهم، ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه، لان سماع الحديث من غير علم بطرقه ليس بعلم.
(الشرح) حديث ابى هريرة مرفوعا (حق الجار اربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا يمينا وشمالا وقدام وخلف) هكذا ورد بغير تنوين قدام وخلف وقد سافها المصنف منونا لهما والحديث اخرجه أبو يعلى عن شيخه محمد بن جامع العطار، وهو ضعيف هكذا افاده الهيثمى في مجمع الزوائد على ان القول بهذا الحديد لم ينهض الحديث حجة له يجوز على قول من يقول بتقديم الحديث الضعيف على الاجتهاد، وبه قال احمد وغيره من الفقهاء، على ان المعروف من مذهب الشافعي وبناء على اصله (إذا صح الحديث فهو مذهبي) انه لا عبرة بحديث لم يصح سنده في الاصول ولا في الفروع، والعبرة في هذا بالعرف فهو يقوم مقام النص عند عدمه، الا ان الماوردى قال في حاويه في الغارمين.
قال الشافعي: ويعطى من له الدين عليهم أحب للبر، ولو أعطوه في دينهم رجوت ان يتبع، فان ضمنه في اثنين ضمن حصة الثالث، وفيه وجهان.

(15/461)


(أحدهما)
يضمن ثلث الثلث.

(والثانى)
انه يضمن اقل ما يجزئ ان يعطيه ثالثا ويخص به غارما في بلد المال، ومن كان منهم ذا رحم أولى لما في صلتها من زيادة الثواب، فان لم يكونوا فجيران المال لقوله تعالى (والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) ولقوله صلى الله عليه وسلم (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه) قال الشافعي: واقصى الجوار منهم اربعون دارا من كل ناحية، وهكذا لو أوصى لجيران كان جيرانه منتهى اربعين دارا من كل ناحية، وقال قتادة.
الجار الدار والداران، وقال سعيد بن جبير: هم الذين يسمعون الاقامة، وقال أبو يوسف هم اهل المسجد.
ودليلنا ما روى ان رجال كان نازلا بين قوم فاتى للنبى صلى الله عليه وسلم يشكوهم، فبعث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وعمر وعليا رضى الله عنهم وقال: اخرجوا إلى باب المسجد وقولوا: الا أن الجوار أربعون دارا.
قلت: فإذا صح ما استدل به الماوردى من بعث الصحابة الثلاثة ليبلغوا عنه صلى الله عليه وسلم هذا كان دليلا مسندا للمذهب والا كان تحديد الاربعون اجتهادا وعرفا يصار اليهما على انه قد استغل بعض السفهاء من واضعى الحديث حث القرآن والسنة على حسن الجوار فجعلوه مرتعا لاحاديث غير شريفة، من ذلك ماروى عن جابر رضى الله عنه مرفوعا (الجيران ثلاثه: جار له حق واحد وهو ادنى الجيران وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق، فاما الذى له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، واما الذى له الحقان فجار مسلم له حق الاسلام وحق الجوار، واما الذى له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الاسلام وحق الجوار وحق الرحم، وهذا الحديث رواه البزار عن شيخه محمد الحارثى وهو وضاع، وفيما روى من الاحاديث الصحيحة غنى، الا ان الحديث الذى ساقه الماوردى قد رواه الطبراني عن كعب بن مالك ولفظه، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فقال: يا رسول الله انى نزلت في محلة بنى فلان، وان أشدهم
لى اذى اقربهم لى جوارا فبعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر وعمر وعليا

(15/462)


يأتون باب المسجد فيقولون على بابه فيصيحون: الا ان أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه.
وفى إسناده يوسف بن السفر، أبو الفيض الدمشقي كاتب الاوزاعي وراويه كما روى عن مالك.
قال النسائي: ليس بثقة.
وقال الدارقطني متروك يكذب.
وقال ابن عدى: روى بواطيل، وقال البيهقى: هو في عداد من يضع الحديث، وقال أبو زرعة وغيره متروك فإذا وصى لقراءة القرآن وكان المضاف إليه معروفا بال وهو يقتضى إما العهد أو الاستغراق، فان قلنا بالاول، فعلى الوجه الذى يجعل الوصية لمن يحفظ القرآن كله ويخرج بذلك من لا يحفظه جميعا، وان قلنا بالثاني فكل ما قرئ من القرآن فهو قرآن دخل من لا يحفظه كله لاشتماله لفظه عليه، فإذا وصى وقال لقراء القرآن، شمل من يحفظه كله ومن يحفظ آية واحدة قولا واحدا.
فان وصى للعلماء صرف إلى علماء وفقهاء الاحكام، ودارسي الفروع، لانه لا يطلق عرفا عند من يوصون للقربة الا عليهم ولا يدخل فيهم صغار المتعلمين الحديث لانهم يسمعون الحديث، ولا يشتغلون باختلاف اسانيده، واسماء رواته، ومعرفة الثقة العدل الضابط منهم والمجروح بدلس أو سوء حفظ أو تصديق لكل ما يسمع، أو شذوذ أو نكارة أو وضع أو صاحب مقالة في الاسلام أو غلو في مذهب يخرج به عن حد العدالة إلى غير ذلك مما ينبغى العلم به وارتشاف مورده، وبذل الوسع في خدمته، لان الحديث أشرف علوم الدين واعظمها مرتقى، وأرجاها عاقبة، والله تعالى اعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
فإن وصى للايتام لم يدخل فيه من له اب، لان اليتم في بنى آدم
فقد الاب، ولا يدخل فيه بالغ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُتْمَ بَعْدَ الحلم) وهل يدخل فيه الغنى، فيه وجهان.

(أحدهما)
يدخل فيه، لانه تيتم بفقد الاب.
(الثاني) لا يدخل فيه، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف على غنى، فإن وصى للارامل دخل فيه من لا زوج لها من النساء، وهل يدخل فيه من

(15/463)


لا زوجة له من الرجال، فيه وجهان (احدهما) لا يدخل فيه، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف على الرجال
(والثانى)
يدخل فيه لانه قد يسمى الرجل أرملا كما قال الشاعر: كل الارامل قد قضيت حاجتهم
* فمن لحاجة هذا الارمل الذكر وهل يدخل فيه من لها مال، على وجهين كما قلنا في الايتام.

(فصل)
وان وصى للشيوخ اعطى من جاوز الاربعين، وان وصى للفتيان والشباب أعطى من جاوز البلوغ إلى الثلاثين، وان وصى للغلمان والصبيان أعطى من لم يبلغ.
لان هذه الاسماء لا تطلق في العرف الا على ما ذكرناه.
(الشرح) حديث (لا يتم بعد الحلم) رواه أبو داود عن على كرم الله وجهه قال (حفظت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلى الليل) وفى إسناده يحيى بن محمد المدنى الجارى، نسبة إلى الجار بلدة على الساحل بالقرب من المدينة المنورة، قال البخاري: يتكلمون فيه، وقال ابن حبان: يجب التنكب عما انفرد به من الروايات.
وقال العقيلى: لا يتابع يحيى المذكور على هذا الحديث، وفى الخلاصة ان العجلى وابن عدى وثقاه.
قال المنذرى: وقد روى هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله وانس بن مالك وليس فيها شئ يثبت، وقد أعل هذا الحديث ايضا عبد الحق وابن القطان
وغيرهما، وحسنه النووي فيما سلف من أجزاء المجموع متمسكا بسكوت ابى داود عليه، ورواه الطبراني بسند آخر عن على، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده واخرج نحوه ايضا ابن عدى عن جابر، وهذه الروايات يقوى بعضها بعضا فترقى بالحديث إلى درجة الحسن.
وقد استدل بالحديث على ان الاحتلام من علامات البلوغ، وتعقب بانه بيان لغاية مدة اليتم، وارتفاع اليتم لا يستلزم البلوغ الذى هو مناط التكليف، إنما يكون عند إدراكه لمصالح آخرته، ويؤيد مفهومه عند القائلين بان الاحتلام من علامات البلوغ روايه احمد وابى داود والحاكم من حديث على رضى الله عنه وفيه (وعن الصبى حتى يحتلم) وقد اسلفنا القول في ابواب الحجر في تعريف اليتيم

(15/464)


ما ينفع في هذا فليراجع.
على انه إذا اوصى للايتام ووجد من الايتام الفقراء من يفيدون من وصيته بما لا يبقى منه فضل كانوا أولى من اليتيم الغنى وإن شمله التعريف.
فإن وصى للارامل فهو للنساء اللاتى فارقهن ازواجهن يموت أو غيره، وهو من أرمل المكان إذا صار ذا رمل، وأرمل الرجل إذا صار بغير زاد لنفاده وافتقاره.
وارملت المرأة فهى أرملة، وهى التى لا زوج لها لافتقارها إلى من ينفق عليها.
قال الازهرى: لا يقال لها أرملة الا إذا كانت فقيرة، فإذا كانت موسرة فليست بأرمله، والجمع أرامل حتى قبل: رجل ارمل إذا لم يكن له زوج وهو قليل، لا يذهب زاده بفقد امرأته لانها ام تكن قيمة عليه.
قال ابن السكيت والارامل المساكين رجالا كانوا أو نساء وقال احمد بن حنبل في رواية حرب، وقد سئل عن رجل اوصى لارامل بنى فلان فقال: قد اختلف الناس فيها، فقال قوم هو للرجال والنساء، والذى
يعرف في كلام الناس ان الارامل النساء.
وقال الشعبى واسحاق: هو للرجال والنساء.
وانشد احدهما: هذى الارامل قد قضيت حاجتها
* فمن لحاجة هذا الارمل الذكر وقال الاخر: أحب أن أصطاد ظبيا سخيلا
* رعى الربيع والشتاء أرملا فعلى الوجه بانه لا يدخل في الوصية أرامل الرجال ان المعروف في كلام الناس انه النساء فلا يحمل لفظ الموصى الا عليه، ولان الارامل جمع ارملة فلا يكون جمعا للذكر، لان ما يختلف لفظ الذكر والانثى في واحده يختلف في جمعه، وقد أنكر ابن الانباري على قائل القول الاخر وخطأه، والشعر الذى احتج به حجة عليه بالرواية التى سقناها، اما على الرواية التى ساقها المصنف: كل الارامل قد قضيت حاجتهم فانه يدل على شمول الارامل للذكر والانثى إذ لا خلاف بين أهل اللسان في أن اللفظ متى كان للذكر والانثى ثم رد عليه ضمير غلب فيه لفظ التذكير وضميره، وهذا يؤيد الوجه القائل بشمول الوصية

(15/465)


لارامل الرجال.
فيكون ارامل جمع أرمل كأكابر وأعاظم وأصاغر وأسافل جمع أكبر وأعظم وأصغر وأسفل على ان هناك الفاظا مشتركة بين الرجال والنساء غلب استعمالها للنساء لكثرة شيوعها فيهن وقلتها بين الرجال، فالايامي من قوله تعالى (وانكحوا الايامى منكم) وفى الحديث: أعوذ بالله من بوار الايم.
قالوا يطلق ذلك على الرجال والنساء الذين لا أزواج لهم لما روى عن سعيد بن المسيب قال: آمت حفصة بنت عمر من زوجها.
وآم عثمان من رقية.
والعزاب للرجال والنساء، والثيب للرجال والنساء والبكر للرجال والنساء.
فإذا أوصى للارامل فهل يدخل فيه من لها مال.
على الخلاف الذى مضى في اليتيم اما إذا وصى الشيوخ أعطى من جاوز الاربعين لان ما دون الاربعين كهولة وما دون الكهولة فتوة أو شباب وما دون ذلك يفاعة، وما دونه صبى وما دونه طفل، فهو إلى السابعة طفل.
ثم إلى العاشرة صبى.
ثم إلى الخامسة عشرة يافع ثم إلى الثلاثين شاب أو فتى، ثم إلى الاربعين كهل، ثم بعد الاربعين شيخ، ثم بعد الستين هرم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وصى لفقراء جاز ان يدفع إلى الفقراء والمساكين، وان وصى للمساكين جاز ان يدفع إلى المساكين والفقراء، لان كل واحد من الاسمين يطلق على الفريقين، وان وصى للفقراء والمساكين جمع بين الفريقين في العطية، لان الجمع بينهما يقتضى الجمع في العطيه كما قلنا في آية الصدقات، وان وصى لسبيل الله تعالى ذفع إلى الغزاة من اهل الصدقات، لانه قد ثبت لهم هذا الاسم في عرف الشرع.
فان وصى للرقاب دفع إلى المكاتبين، لان الرقاب في عرف الشرع اسم للمكاتبين.
وان وصى لاحد هذه الاصناف دفع إلى ثلاثة منهم، لانه قد ثبت لهذه الالفاظ عرف الشرع في ثلاثة، وهو في الزكاة، فحملت الوصية عليها، فان وصى لزيد والفقراء فقد قال الشافعي رحمه الله: هو كاحدهم.
فمن اصحابنا من قال: هو بظاهره انه يكون كأحدهم يدفع إليه ما يدفع إلى أحدهم، لانه أضاف

(15/466)


إليه واليهم فوجب ان يكون كأحدهم.
ومنهم من قال: يصرف إلى زيد نصف الثلث ويصرف النصف إلى الفقراء، لانه اضاف إليه واليهم، فوجب ان يساويهم.
ومنهم من قال: يصرف إليه الربع ويصرف ثلاثة ارباعه إلى الفقراء لان اقل الفقراء ثلاثة، فكأنه وصى لاربعة، فكان حق كل واحد منهم الربع
وان وصى لزيد بدينار وبثلثه للفقراء - وزيد فقير - لم يعط غير الدينار، لانه قطع الاجتهاد في الدفع بتقدير حقه في الدينار
(فصل)
وان وصى لقبيلة عظيمد كالعلويين والهاشميين وطى وتميم ففيه قولان
(أحدهما)
ان الوصية تصرح وتصرف إلى ثلاثة منهم، كما قلنا في الوصية للفقراء
(والثانى)
ان الوصية باطله، لانه لا يمكن ان يعطى الجميع ولا عرف لهذا اللفظ في بعضهم فبطل بخلاف الفقراء، فانه قد ثبت لهذا اللفظ عرف وهو في ثلاثة في الزكاة.
(الشرح) قال الامام الشافعي: وإذا اوصى الرجل فقال: ثلث مالى في المساكين فكل من لا مال له ولا كسب يغنيه داخل في هذا المعنى وهو للاحرار دون المماليك ممن لم يتم عتقه.
قال وينظر اين كان ماله فيخرج ثلثه في مساكين أهل ذلك البلد الذى به ماله دون غيرهم، كثر حتى يغنيهم نقل إلى أقرب البلدان له، ثم كان هكذا حيث كان له مال صنع به هذا.
وهكذا لو قال: تلت مالى في الفقراء كان مثل المساكين يدخل فيه الفقير والمسكين، لان المسكين فقير، وللفقير مسكين إذا افر الموصى القول هكذا.
ولو قال ثلث مالى في الفقراء والمساكين، علمنا انه أراد التمييز بين الفقراء والمسكنة، فالفقير الذى لا مال له ولا كسب يقع منه موقعا والمسكين من له مال أو كسب يقع منه موقعا ولا يغنيه، فيجعل الثلث بينهم نصفين، ونعنى به مساكين أهل البلد الذى بين اظهرهم ماله، وفقراءهم وان قل.
ومن اعطى في فقراء أو مساكين فانما أعطى لمعنى فقر، فينظر في المساكين فان كان فيهم من يخرجه من المسكنه مائة واخر يخرجه من المسكنة خمسون، اعطى الذى يخرجه من المسكنه مائه سهمين، والذى يخرجه خمسون سهما وهكذا يصنع في الفقراء

(15/467)


على هذا الحساب، ولا يدخل فيهم، ولا يفضل ذو قرابة على غيره إلا بما وصفت في غيره من قدر مسكنته أو فقره، لان العطيه له صدقة وصلة، وما جمع ثوابين كان أفضل من التفرد بأحدهما، فان صرف الثلث في أقل من ثلاثة من الفقراء والمساكين ضمن، فان صرفه في إثنين كان في قدر ما يضمنه وجهان
(أحدهما)
وهو الذى نص عليه الشافعي في الام انه يضمن ثلث الثلث، لان أهل الاجزاء ثلاثة.
والظاهر تساويهم فيه والوجه الثاني: انه يضمن من الثلث قدر مالو دفعه إلى ثلاثة أجزأ، ولا ينحصر بالثلث لان له التسوية بينهم والتفضيل، ولو كان اقتصر على واحد فاحد الوجهين ان يضمن ثلثى الثلث.
والوجه الثاني انه يضمن ما يجزئه من دفعه اليهما فلو أوصى بثلث ماله للفقراء أو المساكين صرف الثلث في الصنفين بالسوية ودفع السدس إلى الفقراء وأقلهم ثلاثة، ودفع السدس الاخر إلى المساكين وأقلهم ثلاثة.
فان صرفه في أحد الصنفين ضمن السدس للصنف الاخر وجها واحدا، ثم عليه صرف الثلث في فقراء البلد الذى فيه المال دون المالك كالزكاة، فان تفرق ماله اخرج في كل بلد ثلث ما فيه، فان لم يوجدوا فيه نقل إلى أقرب البلاد به كما سلف القول في زكاة المال من المجموع فأما زكاة الفطر ففيها وجهان:
(أحدهما)
تخرج في بلد المال دون المالك كزكاة المال
(والثانى)
تخرج في بلد المالك دون المال لانها عن فطرد بدنه وطهرة لصومه فان نقل الزكاة من بلد المال إلى غيره كان في الاجزاء قولان فاما نقل الوصية فقد اختلف أصحابنا في اخراجه على قولين كالزكاة، ومنهم من قال يجزئ قولا واحدا وان أساء، لان الوصية عطية من آدمى قد كان له
ان يضعها حيث شاء.

(15/468)


فان وصى في سبيل الله صرف في الغزاة لما قلناه في الزكاة ويصرف ذلك في ثلاثة فصعادا من غزاة البلد ومحاربيه أغنى بلد المال على حسب منازلهم في القرب والبعد ومن كان فيهم فدائيا أو نظاميا، طيارا أو آليا أو من المشاة أو الفرسان فان لم يوجدوا في البلد نقل إلى أقرب البلاد به.
(فرع)
إذا أوصى بثلثه في الرقاب صرف في المكاتبين، وبه قال أبو حنيفة وقال مالك: يشترى به رقاب يعتقون، وأصل هذا اختلافهم في سهم الرقاب في الزكاة، هل ينصرف في العتق أو في المكاتبين، والدليل على ذلك قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء) فأثبت ذلك لهم بلام الملك والعبد لا يملك فيصرف إليه والمكاتب يملك فوجب صرفه إليه، ولانه مصروف في ذوى الحاجات، ولان مال الزكاة مصروف لغير نفع يعود إلى ربه، فلو صرف في العتق لعاد إليه الولاء فإذا تقرر ان سهم الرقاب في الزكاة مصروف في المكاتبين، وجب ان يكون سهم الرقاب في الوصايا مصوفا في المكاتبين، لان مطلق الاسماء المشتركة محمولة على عرف الشرع.
(فرع)
إذا اوصى بشئ لزيد وللمساكين فقال الشافعي رضى الله عنه: يكون كأحدهم ان عمهم أعطاه كواحد منهم، ومن أصحابنا من قال: يصرف إليه ربع الوصية وثلاثة ارباعها للفقراء، ومنهم من قال: يصرف لزيد نصف الوصية والباقى للفقراء، لانه جعل الوصية لجهتين فوجبت القسمة بينهما وبهذا قال أحمد وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد.
وعن محمد قول اخر: لزيد ثلثه وللمساكين ثلثاه، لان أقل الجمع اثنان، فان كان اوصى لزيد بدينار وبثلثيه للفقراء، وزيد فقير لم يدفع إليه من سهم الفقراء
شئ، وليس له غير الدينار، وبه قال الحسن البصري واسحاق بن راهويه، لان عطفهم عليه يدل على المغايرة بنهما، إذ الظاهر المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ولان تجويز ذلك يفضى إلى تجويز دفع الجميع إليه، ولفظه يقتضى خلاف ذلك.
(فرع)
وقوله: فإن وصى لقبيلة عظيمة كالعلويين هم أبناء على كرم الله وجهه

(15/469)


وهم يطلقون هذا على من كان من ولد محمد بن الحنفيه، ولذلك أطلق بعض من يريد كمال الشرف منهم لقب الفاطميين على انفسهم حتى ينفوا انهم من ابناء ابن الحنفية فكل فاطمي علوى وليس العكس.
أما الهاشميون فهم بنو هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو وسمى هاشما لهشمه الثريد أيام المجاعه.
عمرو الذى هشم الثريد لقومه ورجال مكه مسنتون عجاف وولده عبد المطلب بن هاشم وكان لعبد المطلب اثنا عشر ولدا، عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، والعباس وشرار، وحمزة، وحجل، وأبو لهب، وقثم، والغيداق المقب بالمقوم، والحارث أعمام النبي صلى الله عليه وسلم.
والعقب منهم لسته حمزه والعباس وأبو لهب والحارث وأبو طالب وعبد الله وقد ذكر ابن حزم وغيره أن حمزة انقرض عقبه.
أما طئ بفتح الطاء وتشديد الياء بهمزة في الآخر أخذا من الطاءة على وزن الطاعه، وهى الايغال في المرعى وهم بنو طئ بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وإليهم ينسب حاتم الطائى المشهور بالكرم، وأبو تمام الطائى الشاعر المشهور وهم من العرب العاربه من حمير، كانت منازلهم باليمن ثم افترقوا
بعد سيل العرم فنزلوا بنجد والحجاز، ثم غلبوا بنى أسد على جبلى أجأ وسلمى من بلاد نجد فنزلوهما فعرفا بجبلى طئ ثم افترقوا في أول الاسلام زمن الفتوحات في الاقطار، ومنهم بنو ثعل وزيد الخبل، وبنو تميم من العرب المستعربة وكانت منازلهم بأرض نجد ومن بطونهم طانجه ومن بطونها مزينه وهم بنو عثمان وأوس ابني عمر بن أد بن طانجه ومزينه أمهما عرفوا بها وهى بنت وبرة، ومنهم كعب ابن زهير المزني صاحب قصيدة بانت سعاد التى ألقاها أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم الامام إسماعيل بن ابراهيم المزني صاحب الامام الشافعي رضى الله عنه.
أما االاحكام: فانه إن وصى لبنى فلان وهم قبيلة ويدخل فيهم الذكر والانثى والخنثى ففى جواز الوصيه قولان.

(15/470)


(أحدهما)
تصح وتصرف إلى ثلاثة منهم فما فوق كما قلنا في الفقراء وبصحتها قال أحمد بن حنبل وقال: لا يدخل ولد البنات فيهم لانهم لا ينتسبون إلى القبيلة (والقول الثاني) لا تصح الوصية لعدم إمكان إعطاء الجميع ولا يطلق اللفظ في العرف على فخذ منهم بحيث لو أوصى لبنى طئ فلا يخص بنى مزينة، ولو أوصى لبنى هاشم فلا يخص بنى أبى طالب، فكان باطلا ويخالف الفقراء فانه ينطبق عرفا على ثلاثة منهم، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن أوصى أن يضع ثلثه حيث يرى لم يجز أن يضعه في نفسه لانه تمليك ملكه بالاذن فلم يملك من نفسه كما لو وكله في البيع، والمستحب أن يصرفه إلى من لا يرث الموصى من أقاربه، فان لم يكن له أقارب صرف إلى أقاربه من الرضاع، فان لم يكونوا صرف إلى جيرانه لانه قائم مقام الموصى، ولمستحب للموصى أن يضع فيما ذكرناه فكذلك الوصي.

(فصل)
وإن وصى بالثلث لزيد ولجبريل، كان لزيد نصف الثلث وتبطل في الباقي، فان وصى لزيد وللرياح ففيه وجهان.
أحدهما: أن الجميع لزيد، لان ذكر الرباح لغو.
والثانى: أن لزيد النصف وتبطل الوصية في الباقي كالمسألة قبلها، فان قال: ثلثى لله ولزيد ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الجميع لزيد، وذكر الله تعالى للتبرك كقوله تعالى: فأن لله خمسه وللرسول
(والثانى)
أنه يدفع إلى زيد نصفه والباقى للفقراء لان عامة ما يجب لله تعالى يصرف إلى الفقراء.

(فصل)
وإن وصى لحمل إمرأة فولدت ذكرا وأنثى صرف اليهما وسوى بينهما، لان ذلك عطية فاستوى فيه الذكر والانثى، وإن وصى إن ولدت ذكرا فله ألف، إن ولدت أنثى فلها مائة فولدت ذكرا وأنثى استحق الذكر الالف والانثى المائة، فان ولدت خنثى دفع إليه المائة لانه يقين ويترك الباقي إلى أن يتبين فان ولدت ذكرين أو أنثيين ففيه ثلاثه أوجه.
أحدها: أن الوارث يدفع الالف إلى من يشاء من الذكرين والمائة إلى من

(15/471)


يشاء من الانثيين لان الوصية لاحدهما فلا تدفع اليهما، والاجتهاد في ذلك إلى الوارث كما لو أوصى لرجل بأحد عبديه.
والثانى: أنه يشترط الذكران في الالف والانثيان في المائة، لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر فسوى بينهما، ويخالف العبد فانه جعله إلى الوارث، وههنا لم يجعله إلى الوارث.
الثالث: أنه يوقف الالف بين الذكرين والمائه بين الانثيين إلى أن يبلغا ويصطلحا، لان الوصيه لاحدهما فلا يجوز أن تجعل لهما ولا خيار للوارث، فوجب التوقف، فان قال: ما في بطنك ذكرا فله ألف، وان كان أنثى فله
مائة، فولدت ذكرا وأنثى لم يستحق واحد منهما شيئا لانه شرط أن يكون جميع ما في البطن ذكرا أو جميعه أنثى، ولم يوجد واحد منهما.
(الشرح) الاحكام: إذا أوصى بثلث ماله إلى رجل يضعه حيث يشاء هو أن يضعه أو حيث أراه الله لم يكن له أن يأخذ منه لنفسه شيئا، وان كان محتاجا لانه أمره بصرفه لا بأخذه ولم يكن له أن يصرفه إلى وارث الموصى، وان كان محتاجا لان الوارث ممنوع من الوصية وليس له أن يودعه عند نفسه ولا أن يودعه غيره، قال الشافعي رضى الله عنه: واختار له أن يعطيه أهل الحاجة من قرابة الميت حتى يغنيهم دون غيرهم، وليس الرضاع قرابة، فان لم يكن له قرابة من قبل الاب والام وكان له رضعاء أحببت أن يعطيهم، فان لم يكن له رضيع أحببت أن يعطى جيرانه الاقرب منهم فالاقرب، وأقصى الجوار منتهى أربعين دارا من كل ناحية وأحب أن يعطيه أفقر من يجده وأشدهم تعففا واستثارا، ولا يبقى في يده شيئا يمكن به أن يخرجه من ساعته.
(فرع)
ان وصى بالثلث لله ولزيد فقد كان لاصحابنا فيه وجهان.
أحدهما: أن الثلث لزيد واسم الله تعالى في الوصية ورد التبرك.
والثانى أن يصرف لزيد نصفه ويصرف النصف الباقي للفقراء، فعلى هذا الوجه إذا صرف إلى زيد الثلث كله صمن نصفه.

(15/472)


ولو قال: اصرفوا ثلثى الخير أو في سبيل البر أو في سبيل الثواب قال الشافعي رضى الله عنه: جزئ أجزاء فأعطى ذو قرابته فقراء كانوا أو أغنياء، الفقراء والمساكين، وفى الرقاب والغارمين وابن السبيل والحاج، ويدخل الضيف والسائل والمعتر منهم، فان لم يفعل الموصى ضمن سهم من منعه إذا كان موجودا.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: تجوز الوصية لما في البطن وبما في البطن إذا كان يخرج لاقل من ستة إشهر فان خرجوا عددا ذكورا وإناثا فالوصية بينهم سواء وهم لمن أوصى بهم له، وهذه المسألة مشتملة على فصلين.
أحدهما: الوصية للمحمل.
والثانى: الوصية بالحمل، فأما الوصية بالحمل فجائزة، لانه لما ملك بالارث وهو أضيق ملك بالوصية التى هي أوسع، فلو أقر للحمل إقرارا مطلقا بطل في أحد القولين، والفرق بينهما أن الوصية أحمل للجهالة له من الاقرار، ألا ترى لو أوصى لمن في هذه الدار صح، ولو أقر له يصح، فإذا قال: قد أوصيت لحمل هذه المرأة بألف نظر حالها إذا ولدت، فان وضعته لاقل من ستة أشهر من حين تكلم بالوصية لا من حين الموت صحت له الوصية لعلمنا أن الحمل كان موجودا وقت الوصية، وان وضعته لاكثر من أربع سنين من حين الوصية فالوصية باطلة لحدوثه بعدها وأنه لم يكن موجودا وقت التكلم بها، وان وضعته لاكثر من ستة أشهر وقت الوصيه ولاقل من أربع سنين، فان كانت ذات زوج يمكن أن يطأ فيحدث ذلك منه فالوصيه باطله لامكان حدوثه فلم يستحق بالشك وان غير ذات زوج يطأ فالوصيه جائزة لان الظاهر تقدمه، والحمل يجرى عليه حكم الظاهر في اللحوق فكذلك في الوصيه فإذا صحت الوصيه له فان وضعت ذكرا أو انثى فالوصية له وان وضعت ذكر أو أنثى كانت الوصيه بينهما نصفين لانها هبه لا ميراث الا إذا فضل الموصى الذكر على الانثى أو العكس فيحمل على تفضيله، فلو قال إذا ولدت غلاما فله ألف، وان ولدت جاريه فلها مائة فولدت غلاما استحق ألفا أو جاريه استحقت مائه، وان ولدت غلاما وجاريه استحق الغلام ألفا والجاريه مائه،

(15/473)


وإن ولدت خنثى دفع إليه مائة لانها يقين ووقف تمام الالف حتى يتبين، وهكذا
لو قال: إن كان في بطنك غلام فله ألف، وإن كان في بطنك جارية فلها مائة، فإن ولدت غلامين أو جاريتين صحت الوصية.
وفيها ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج (أحدها) أن للورثه أن يدفع الالف إلى أي الغلامين شاءوا والمائة إلى أي الجاريتين شاءوا لانها فلم تدفع اليهما، ورجع فيها إلى بيان الوارث كالوصية بأحد عبديه (والوجه الثاني) أنه يشترك الغلامان في الالف والجاريتان في المائة، لانها وصية لغلام وجاريه، وليس أحد الغلامين أولى من الاخر، فشرك بينهما ولم يرجع فيه إلى خيار الوارث بخلاف الوصية باحد العبدين اللذين يملكهما الوارث فجاز أن يرجع إلى خياره فيهما.
(والوجه الثالث) أن الالف موقوفه بين الغلامين، والمائة موقوفة بين الجاريتين حتى يصطلحا عليهما بعد البلوغ، لان الوصيه لواحد فلم يشرك فيها بين اثنين، وليس للوارث فيها خيار فلزم فيها الوقف فلو قال: إن كان الذى في بطنك جاريه فلها مائه، فولدت غلاما وجاريه فلا شئ لواحد منهما، بخلاف قوله ان كان في بطنك غلام فله الالف، لانه إذا قال ان كان الذى في بطنك غلام فقد جعل كون الحمل غلاما شرطا في الحمل والوصيه معا، فإذا كان الحمل غلاما وجاريه لم يوجد الشرط كاملا فلم تصح الوصيه.
وإذا قال إن كان في بطنك غلام فلم يجعل ذلك شرطا في الحمل، وإنما جعله شرطا في الوصيه فصحت الوصيه.
وهكذا لو قال: ان كان ما في بطنك غلاما، فهو كقوله: إن كان الذى في بطنك جاريه، فإذا وضعت غلاما وجاريه فلا وصيه.
وكذلك لو قال: إن كان الذى في بطنك غلاما فله ألف فولدت غلامين ففى الوصيه وجهان

(أحدهما)
باطل كما لو ولدت غلاما وجاريه لانه لم يكن كل حملها غلاما.
والوجه الثاني أنها جائزة لان كل واحد منهما غلام فاشتركا في الصفه ولم تضر الزيادة، فعلى هذا يكون على الوجوه الثلاثه التى حكاها ابن سريج من قبل أنها

(15/474)


ترجع إلى بيان الورثة في دفع الالف إلى أحدهما، والثانى يشتركان جميعا فيها.
والثالث توقف الالف بينهما حتى يصطلحا عليها.
(مسألة) لو قال قد أوصيت لحمل هذه المرأة من زوجها فجاءت بولد نفاه زوجها باللعان، ففى الوصية وجهان
(أحدهما)
وهو قول ابن سريج ان الوصية باطلة لان لعانه قد نفى أن يكون منه (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ان الوصية له جائزة، لان لعان الزوج إنما اختص بنفس النسب دون غيره من أحكام الاولاد.
ألا ترى أنها تعتد به.
ولو قذفها به قاذف حدث له.
ولو عاد واعترف به لحق به.
ولكن لو وضعت بعد أن طلقها ذلك الزوج ثلاثا ولاكثر من أربع سنين من وقت الطلاق ولاقل من ستة أشهر من حين الوصيه فلا وصيه لعلمنا أنه ليس منه.
وبخلاف الملاعن الذى يجوز أن يكون الولد منه.
(مسألة أخرى) إذا وضعت الموصى بحملها ولدا ميتا فلا وصية كما لا ميراث له، ولو وضعته حيا فمات صحت الوصية وكان لوارث الحمل كالميراث.
ولو ضرب ضارب بطنها فألقت جنينا ميتا كان فيه على الضارب قود، ولا وصية له كما لا ميراث له.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
فإن أوصى لرجل بسهم أو بسقط أو بنصيب أو بجزء من ماله فالخيار إلى الوارث في القليل والكثير، لان هذه الالفاظ تستعمل في القليل والكثير.

(فصل)
فإن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته أعطى مثل نصيب أقلهم نصيبا لانه نصيب أحدهم، فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كان ذلك وصية بنصف المال، لانه يحتمل أن يكون قد جعل له الكل، ويحتمل أنه جعله مع ابنه فلا يلزمه الا اليقين، ولانه قصد التسوية بينه وبين ابنه ولا توجد التسوية إلا فيما ذكرناه، فإن كان له ابنان فوصى له بمثل نصيب أحد ابنيه جعل له الثلث، وإن وصى له بنصيب ابنه بطلت الوصية، لان نصيب الابن للابن فلا تصح الوصية به كما لو أوصى له بمال إبنه من غير الميراث.

(15/475)


ومن أصحابنا من قال: يصح ويجعل المال بينهما، كما أوصى له بمثل نصيب إبنه، فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كافر أو قاتل فالوصية باطله، لانه وصى بمثل نصيب من لا نصيب له، فأشبه إذا وصى بمثل نصيب أخيه وله ابن.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال لفلان نصيب أو حظ أو قليل أو كثير من مالى، فما أعرف لكثير حدا الاحكام: إذا أوصى لرجل بنصيب من ماله أو حظ أو قليل أو كثير ولم يحد ذلك بشئ فالوصية جائزة ويرجع في بيانها إلى الورثة، فما بينوه من شئ كان قولهم فيه مقبولا، فإن ادعى الموصى له أكثر لان هذه الاسماء كلها لا تختص في اللغة ولا في الشرع ولا في العرف بمقدار معلوم لاستعمالها في القليل والكثير ولان القليل والكثير حد، لان الشئ قد يكون قليلا إذا أضيف إلى ما هو أكثر منه، ويكون كثيرا إذا أضيف إلى ما هو أقل منه وحكى عنه عطاء وعكرمة أن الوصية بما ليس بمعلوم من الحظ والنصيب باطلة للجهل بها.
وهذا فاسد لان الجهل بالوصايا لا يمنع من جوازها، ألا ترى أنه لو أوصى بثلث ماله وهو لا يعلم قدره جازت الوصية مع الجهل بها، وقد
أوصى أنس بن مالك لثابت البنانى بمثل نصيب أحد ولده أما إذا أوصى له بسهم من ماله فقد اختلف الناس فيه، فحكى عن عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه والحسن البصري وإياس بن معاويه وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل أن له سدس المال.
وقال شريح بدفع له بينهم واحد من سهام الفريضتين.
وقال أبو حنيفة يدفع إليه مثل نصيب أقل الورثة نصيبا ما لم يجاوز الثلث، فان جاوزه أعطى الثلث.
وقال أبو ثور أعطيه سهما من أربعة وعشرين سهما وقال أبو يوسف ومحمد يعطى مثل نصيب أقلهم نصيبا ما لم يجاوز الثلث فإن جاوزه أعطى الثلث وقال الشافعي السهم اسم عام لا يختص بقدر محدود لانطلاقه على القليل والكثير كالحظ والنصيب فيرجع فيه إلى بيان الوارث، فان قيل روى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ لرجل أوصى له سهما سدسا.
قيل هي قضية

(15/476)


في عين يحتمل أن تكون البينة قائمة، فأمر بالسدس أو اعترف به الورثة، فإذا ثبت أنه يرجع فيه إلى بيان الورثة قبل منهم ما بينوه من قليل وكثير، فان نوزعوا أحلفوا، فلو لم يبينوا لم تخل حالهم من أن يكون عندهم بيان أو لا يكون، فان لم يكن عندهم بيان رجع إلى بيان الموصى له، فان نوزع أحلف، وان لم يكن عند الموصى له بيان فأبوا أن يبينوا ففيه وجهان من اختلاف قولين فيمن أقر بمجمل وامتنع أن يبين أحدهما يحبس الوارث حتى يبين، والثانى يرجع إلى بيان الموصى له (فرع)
إذا أوصى بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه قال الشافعي رضى الله عنه (أعطيته مثل أقلهم نصيبا) (قلت) لان الوصايا لا يستحق فيها الا اليقين والاقل، فلا تعين الزيادة على شك، فان كان سهم الزوجة أقل أعطيته مثل سهمها، وان كان سهم غيرها من
البنات أو بنات الابن أقل أعطيته مثله، واعتبار ذلك باعتبار سهام كل واحد من الورثة من أصل فريضتهم، فتجعل للموصى له مثل سهام أقلهم، وتضمه إلى أهل الفريضة، ثم يقسم المال بين الموصى له والورثة على ما اجتمع معك من العددين وقد بيناه.
ولو وصى إليه بمثل أكثرهم نصيبا اعتبرته زودته على سهام الفريضة ثم قسمت ما اجتمع من العددين على ما وصفناه، فعلى هذا لو اختلف الورثة فقال بعضهم أراد مثل أقلنا نصيبا، وقال بعضهم بل أراد مثل أكثرنا نصيبا أعطيته من نصيب كل واحد من الفريقين حصة مما اعترف بها ومثاله أن يكون الورثة ابنين وبنتين فيكون لكل ابن سهمان ولكل بنت سهم وللموصى له بمثل نصيب الذكر، ولو أراد أنثى لكان المال مقسوما على سبعة اسم فريضه ابنين وثلاثة بنات ولو ترك ابنا وبنتا وأوصى لرجل بمثل نصيب البنت فذلك ضربان
(أحدهما)
أن يريد بمثل نصيب البنت قبل دخول الوصية عليها.
فعلى هذا يكون الموصى له بمثل نصيب الابن خمس المال وللموصى له بمثل نصيب البنت ربع المال، فيصير بالوصيتين بخمس المال وربعه فيوقف على اجازتهما.

(15/477)


والضرب الثاني: أن يريد بمثل نصيب البنت بعد دخول الوصية عليها فعلى هذا يكون الموصى له بمثل نصيب الابن خمس المال، وللموصى له بمثل نصيب البنت سدس المال فتصير الوصيتان بخمس المال وسدسه فتوقف على اجازتهما فلو ابتدأ فوصى لرجل بمثل نصيب البنت ولآخر بمثل نصيب الابن كان للموصى له بمثل نصيب البنت ربع المال، فأما الموصى له بمثل نصيب الابن،
فان أراد قبل دخول الوصية عليه كان له ثلث المال ثم على هذا القياس.
ولو ترك بنتا وأخا وأوصى لرجل بمثل نصيب البنت فقد اختلف أصحابنا في قدر ما يستحقه الموصى له على وجهين.

(أحدهما)
له الربع نصف حصة البنت، لانه لما استحق مع البنت الواحدة الربع لانه نصف نصيبها.
(والوجه الثاني) وهو اصح، له الثلث لانه يصير مع البنت الواحدة كبنت ثانية كما يصير مع الابن الواحد كابن ثان، وللواحدة من البنتين الثلث فكذلك للموصى له مثل نصيب البنت الواحدة الثلث، وهكذا لو وصى بمثل نصيب أخت مع عم كان فيما يستحقه بالوصية وجهان.
أحدهما: الربع، والثانى الثلث وهكذا لو لم يرث مع البنت والاخت غيرهما، لان لكل واحدة منهما إذا انفردت النصف، والباقى لبيت المال، فعلى هذا لو وصى بمثل نصيب أخ لام فله في أحد الوجهين نصف السدس، وفى الاخر السدس.
وجملة ذلك أن الموصى جعل وارثه أصلا وقاعدة حمل عليها نصيب الموصى له وجعله مثلا له، وهذا يقتضى أن لا يزاد عليه، فان كان الورثة يتساوون في الميراث كالبنين مثلا فله نصيب أحدهم إذا كانت الوصية بمثل نصيب أحد ورثته فان تفاضلوا فله مثل نصيب أقلهم ميراثا يزاد على الفريضة، فان أوصى بنصيب وارث معين فله مثل نصيبه مزادا على الفريضة، وبهذا قال الجمهور، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وقال مالك وابن أبى ليلى وزفر وداود: يعطى مثل نصيب المعين أو مثل نصيب أحدهم إذا كانوا يتساوون من أصل المال غير مزيد، ويقسم الباقي بين الورثة

(15/478)


لان نصيب الوارث قبل الوصيه من أصل المال، فلو أوصى بمثل نصيب ابنه،
وله ابن واحد فالوصية بجميع المال، وان كان له ابنان فالوصيه بالنصف، وان كانوا ثلاثه فالوصيه بالثلث.
وقال مالك: إن كانوا يتفاضلون نظر إلى عددهم فأعطى سهما من عددهم لانه لا يمكن اعتبار أنصبائهم لتفاضلهم فاعتبر عدد رؤوسهم، وقد أوضحنا أن الموصى جعل وارثه أصلا وقاعدة، وهذا يدل على فساد ما خالفه، لان قاعدة الجمهور تقتضي أن لا يزاد أحدهما على صاحبه، ومتى أعطى من أصل المال فما أعطى نصيبه ولا حصلت له التسوية، والعبادة تقتضي التسوية، وإنما جعل مثل أقلهم نصيبا لانه اليقين، وما زاد فمشكوك فيه فلا يثبت مع الشك.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: إذا اوصى بمثل نصب ابنه ولا ابن له غيره فله النصف، فإن لم يجز الابن فله الثلث.
قلت وهذا قول أبى حنيفة وصاحبه: فإن أجازها الابن وإلا ردت على الثلث وقال الك وزفر بن الهذيل وداود بن على: هي وصية بجميع المال، استدلالا بأن نصيب ابنه إذا لم يكن له غيره الجميع فاقتضى أن تكون الوصية بمثل نصيبه وصية بجميع المال، ولانه لو كان وصى له بمثل ما كان نصيب ابنه كانت وصية بجميع المال إجماعا وجب إذا وصى له بمثل نصيب ابنه ان تكون وصيته بجميع المال حجاجا، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه.
أحدها: ان نصيب الابن اصل والوصية بمثله فرع فلم يجز أن يكون الفرع رافعا لحكم الاصل.
والثانى: أنه لو جعلت الوصية بكل المال لخرج أن يكون للابن نصيب، وإذا لم يكن للابن نصيب بطلت الوصية التى هي مثله.
والثالث: أن الوصية بمثل نصيب ابنه توجب التسوية بين الموصى له وبين ابنه، فإذا وجب ذلك كانا نصفين ن وفى إعطائه اجميع إبطال للتسوية بينهما كما
قررنا، وأما قولهم.
إن نصيب الابن كل المال، فالجواب: أن له الجميع مع عدم الوصية، فأما مع الوصية فلا يستحق الجميع.

(15/479)


وأما قوله: وصيت لك بمثل ما كان نصيب ابني فالفرق بينهما أنه لم يجعل له مع الوصية نصيبا فلذلك كانت بكل المال.
فعلى هذا لو قال: وصيت لك بنصيب ابني فالذي عليه الجمهور من أصحابنا أن الوصية باطلة، وهو قول أبى حنيفة وأحمد لانها وصية بما لا يملك، لان نصيب الابن ملكه لا ملك أبيه.
وقال بعض أصحابنا الوصية جائزة، وهو قول مالك ويجريها مجرى قوله: بمثل نصيب ابنه فيجعلها وصيه بالنصف وعند مالك بالكل ولو أوصى بمثل نصيب ابنه ولا ابن له كانت الوصية باطلة، وكذلك لو كان له ابن كافر أو قاتل لانه لا نصيب له.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: بمثل نصيب أحد ولدى فله مع الابنين الثلث ومع الثلاثة الربع حتى يكون كأحدهم.
قلت: وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه.
وقال مالك: يكون له مع الاثنين النصف ومع الثلاثة الثلث ومع الاربعة الربع، وقد ذكرنا وجه فساده لما فيه من تفضيل الموصى له على ابنه.
(قلت) ولو قال: بمثل نصيب ابني وله ولدان فالوصية باطلة، لانه يوصى بنصيب ابنه الذى هو ملك للابن فلا يملك الاب الوصية به كما لو أوصى بما يملكه ولده من كسبه لا من ميراثه، ومن أصحابنا من صحح الوصية وجعلها كقوله: بمثل نصبي أحد ابني، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
فإن وصى بضعف نصيب أحد أولاده دفع إليه مثلا نصيب أحدهم
لان الضعف عبارة عن الشئ ومثله، ولهذا يروى أن عمر رضى الله عنه أضعف الصدقة على نصارى بنى تغلب، أي أخذ مثلى ما يوخذ من المسلمين فان وصى له بضعفي نصيب أحدهم أعطى ثلاثة أمثال نصيب أحدهم.
وقال أبو ثور يعطى أربعة أمثاله وهذا غلط، لان الضعف عبارة عن الشئ ومثله فوجب أن يكون الضعفان عبارة عن الشئ ومثليه.

(فصل)
فإن وصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه وأجار الورثة قسم

(15/480)


المال بينهما على خمسة.
للموصى له بالثلث سهمان، وللموصى له النصف ثلاثة أسهم فإن لم يجيز واقسم الثلث بينهما على خمسه على ما ذكرناه لان ما قسم على التفاضل عند اتساع المال قسم على التفاضل عند ضيق المال كالمواريث، والمال بين الغرماء فان أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بثلثه وأجاز الورثة.
قسم المال بينهما على أربعة، للموصى له بالجميع ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهم، لان السهام في الوصايا كالسهام في المواريث، ثم السهام في المواريث إذا زادت على قدر المال أعيلت الفريضة بالسهم الزائد، فكذلك في الوصية، فان لم يجيز واقسم الثلث بينهما على ما قسم الجميع.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: ضعف ما يصيب أكثر ولدى نصيبا أعطيته مثله مرتين، ولو قال: ضعفين، فان كان نصيبه مائة أعطيته ثلاثمائة، فأكون قد أضعفت المائة التى تصيبه بميراثه مرة فلذاك ضعفان، وهكذا إن قال ثلاثة أضعاف وأربعة، ولم أزد على أن أنظر أصل الميراث فأضعفه له مرة بعد مرة حتى يستكمل ما أوصى له به اه اللغات: إذا أوصى لرجل بمثل ضعف نصيب أحد أولاده كان الضعف مثلى النصيب، فان كان نصيب الابن مائة كان للموصى له بالضعف مائتين، وبه قال
جمهور الفقهاء.
وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام الضعف المثل، واستدل بقوله تعالى (يضاعف لها العذاب ضعفين) أي مثلين، وقوله تعالى (فآتت أكلها ضعفين) وإذا كان الضعفان مثلين فالواحد مثل.
ولنا ان الضعف مثلان بديل قوله تعالى (إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) وقال (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) ويروى عن عمر انه اضعف الزكاة على نصارى بنى تغلب فكان يأخذ من المائتين عشرة، وقال لحذيفة وعثمان بن حنيفة لعلكما حملتما الارض مالا تطيق؟ فقال عثمان لو أضعفت عليها لاحتملت، قال الازهرى الضعف المثل فما فوقه.
قال الماوردى في حاوية، والدليل عل ان الضعف مثلان هو ان اختلاف الاسماء يوجب اختلاف المسمى إلا ما خص بدليل.
ولان الضعف اعم في اللغة

(15/481)


من المثل فلم يجز أن يسوى بينه وبين المثل، ولان انشقاق الضعف من المضاعفة والثنية من قولهم: أضعف الثوب إذا طويته بطاقين فأما الآية ففيها جوابان
(أحدهما)
ما حكاه أبو العباس عن الاثرم عن بعض المفسرين أنه جعل عذابهن إذا أتين بفاحشة ثلاثة أمثال عذاب غيرهن فلم يكن فيه دليل
(والثانى)
أن الضعف قد يستعمل في موضع المثل مجازا إذا صرفه الدليل عن حقيقته، وليست الاحكام تتعلق بالمجاز، وانما تتعلق بالحقائق فأما بيان الاحكام فإنه إذا أوصى له بضعفي نصيب ابنه فقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب (أحدها) وهو مذهب مالك أن له مثلى نصيبه لانه جعل الضعف مثلا فجعل الضعفين مثلين والمذهب الثاني وهو مذهب أبى ثور أن له أربعة أمثال نصيبه، لانه لما استحق بالضعف مثلين استحق بالضعفين أربعة أمثال
والمذهب الثالث وهو مذهب الشافعي رضى الله عنه وجمهور الفقهاء أن له بالضعفين ثلاثة أمثال نصيبه، فإن كان الابن نصيبه مائة استحق بالضعفين ثلاثمائة، لانه لما أخذ بالضعف سهم الابن ومثله حتى استحق مثلين.
وجب أن يأخذ بالضعفين لسهم الابن ومثليه يستحق به ثلاثة أمثاله.
فعلى هذا لو أوصى له بثلاثة أضعاف نصيب ابنه استحق أربعة أمثاله، وبأربعة أضعاف خمسة أمثاله وكذلك فيما زاد (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه ولآخر بربعه فقد عالت وصاياه كل ماله، فلا يخلو حال ورثته من ثلاثة أحوال: إما أن يجيزوا جميعا أو يردوا جميعا، أو يجيزوا بعضها ويردوا بعضها، فان أجازوا جميعها قسم المال بينهم على قدر وصاياهم وأصلها من إثنى عشر لاجتماع الثلث والربع ويعول بسهم، وتصح من ثلثه عشر، لصاحب النصف ستة اسهم، ولصاحب الثلث أربعة أسهم، ولصاحب الربع ثلاثة أسهم، وكان النقص ببسهم العول داخلا على جميعهم كالمواريث.
وهذا متفق عليه ولم يخالف فيه أبو حنيفة ولا غيره

(15/482)


(فصل)
فإن قال أعطوه رأسا من رقيقي ولا رقيق له، أو قال أعطوه عبدى الحبشى وله عبد سندى أو عبدى الحبشى وسماه باسمه ووصفه صفة من بياض أو سواد وعنده حبشي يسمى بذلك الاسم ومخالف له في الصفة فالوصية باطلة لانه وصى له بما لا يملكه، فإن كان له رقيق أعطى منه واحدا، سليما كان أو معيبا لانه لا عرف في هبة الرقيق فحمل على ما يقع عليه الاسلم، فإن مات ماله من الرقيق بطلت الوصية لانه فات ما تعلقت به الوصية من غير تفريط، فإن قتلوا فإن كان قبل موت الموصى بطلت الوصية لانه جاء وقت الوجوب ولا
رقيق له ن فإن قتلوا بعد موته وجبت له قيمة واحد منهم لانه يدل ما وجب له.

(فصل)
فإن وصى بعتق عبد أعتق عنه ما يقع عليه الاسم لعموم اللفظ.
ومن أصحابنا من قال: لا يجزى إلا ما يجزى في الكفارة لان العتق في الشرع له عرف وهو ما يجزى في الكفارة فحملت الوصية عليه، فإن وصى أن يعتق عنه رقبة فعجز الثلث عنها ولم تجز الورثة أعتق قدر الثلث من الرقبة لان الوصية تعلقت بجميعها، فإذا تعذر الجميع بقى في قدر الثلث، فان وصى أن يعتق عنه رقاب أعتق ثلاثة لان الرقاب جمع وأقله ثلاثة، فان عجز الثلث عن الثلاثة أعتق عنه ما أمكن، فان اتسع الثلث لرقبتين وتفضل شئ، فان لم يمكن أن يشترى بالفضل بعض الثالثة زيد في ثمن الرقبتين، وإن أمكن أن يشترى به بعض الثالثة ففيه وجهان.

(أحدهما)
يزاد في ثمن الرقبتين لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن أفضل الرقاب فقال (أكثرها ثمنا وأنفسها عند أهلها)
(والثانى)
أنه يشترى به بعض الثالثة لقوله صلى الله عليه وسلم (من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار) ولان ذلك أقرب إلى العدد الموصى به.

(فصل)
فان قال أعتقوا عبدا من عبيدى وله خنثى حكم له بأنه رجل، ففيه وجهان.
أحدهما أنه يجوز لانه محكوم بأنه عبد.
الثاني لا يجوز لان اسم العبد لا ينصرف إليه، فإن قال أعتقوا أحد رقيقي وفيهم خنثى مشكل فقد روى الربيع فيمن وصى بكتابة أحد رقيقه أنه لا يجوز الخنثى المشكل.
وروى المزني أنه يجوز

(15/483)


فمن أصحابنا من قال: يجوز كما نقله المزني، لانه من الرقيق، ومنهم من قال لا يجوز كما نقله الربيع لان إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إلى الخنثى المشكل
(فصل)
فان قال أعطوه شاة جاز أن يدفع إليه الصغير والكبير والضأن
والمعز، لان اسم الشاة يقع عليه ولا يدفع إليه تيس ولا كبش على المنصوص ومن أصحابنا من قال يجوز الذكر والانثى، لان الشاة اسم للجنس يقع على الذكر والانثى كالانسان، يقع على الرجل والمرأة فان قال أعطوه شاة من غنمي والغنم إناث لم يدفع إليه ذكر، فان كانت ذكورا لم يدفع إليه أنثى لانه أضاف إلى المال وليس في المال غيره، فان كانت غنمه ذكورا وإناثا فعلى ما ذكرنا من الخلاف فيه إذا أوصى بشاة ولم يضف إلى المال.
فان قال أعطوه ثورا لم يعط بقرة، فان قال أعطوه جملا لم يعط ناقة، فان قال أعطوه بعيرا فالمنصوص أنه لا يعطى ناقة.
ومن أصحابنا من قال يعطى لان البعير كالانسان يقع على الذكر والانثى، فان قال أعطوه رأسا من الابل أو رأسا من البقر أو رأسا من الغنم جاز الذكر والانثى، لان ذلك اسم للجنس
(فصل)
فان قال أعطوه دابة فالمنصوص أنه يعطى فرسا أو بغلا أو حمارا واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس: هذا قاله على عادة أهل مصر، فان الدواب في عرفهم الاجناس الثالثة، فان كان الموصى بمصر أعطى واحدا من الثلاثة.
وان كان في غيرها لم يعط إلا الفرس، لانه لا تطلق الدابة في سائر البلاد إلا على الفرس.
وقال أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يعطى وحدا من الثلاثة في جميع البلاد، لان اسم الدواب يطلق على الجميع، فان قال: أعطوه دابة من دوابى، وليس عنده إلا واحد من الثلاثة أعطى منه، لانه أضاف إلى ماله وليس له غيره فان قال أعطوه دابة ليقاتل عليه العدو لم يعط إلا فرسا.
فان قال ليحمل عليه لم يعط إلا بغلا أو حمارا، فان قال لينتفع بنسله لم يعط إلا فرسا أو حمارا لان القرينة دلت على ما ذكرناه.
(الشرح) حديث (سئل عن أفضل الرقاب) رواه أحمد والبخاري ومسلم

(15/484)


من حديث أبى ذر رضى الله عنه، وحديث (من أعتق رقبة) رواه ثلاثتهم أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه.
أما قوله: فإن قال (أعطوه شاة من غنمي الخ) فهو كما قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى بشاة من ماله، كأن قيل للورثه أعطوه أو اشتروها له، صغيرة كانت أو كبيرة، ضأنا أو معزا.
اه قلت: ومعنى هذا أن الوصية جائزة ترك غنما أو لم يترك، لانه جعلها في ماله ويعطيه الورثة ما شاءوا، ضأنا أو معزا كبيرا أو صغيرا سمينا أو هزيلا.
وفى استحقاق الانثى وجهان
(أحدهما)
وهو الظاهر من نصر الشافعي أنه لا يعطى إلا أنثى لان الهاء موضوعة للتأنيث (والوجه الثاني) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن للورثة الخيار في إعطئه ذكرا أو أنثى، لان الهاء من أصل الكلمة في اسم الجنس فاستوى فيه الذكر والانثى، ولكن لو قال شاة من غنمي وكانت غنمه كلها إناثا لم يعطى إلا أنثى.
وكذلك لو كانت كلها ذكورا لم يعط لا ذكرا منها.
وهكذا لو دل كلامه على المراد منها حمل عليه.
مثل قوله شاة ينتفع بدرها ونسلها لم يعط إلا كبيرة أنثى لتكون ذات در ونسل، وسواء كانت ضأنية أو معزية.
فان قال شاة ينتفع بصوفها لم يعط إلا من الضأن.
ولو قال ينتفع بشعرها لم يعط إلا من المعز، ولا يجوز إذا أوصى بشاة من ماله أن يعطى غزالا ولا ظبيا وان انطلق عليه اسم الشاة مجازا.
ولكن لو قال شاة من شياهى ولم يكن في ماله إلا ظبى ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الوصية باطلة، لان اسم الشاة يتناول الغنم، وليس بتركته فبطت (والوجه الثاني) أنها تصح لانه لما اضاف ذلك إلى شائه وليس في ماله إلا ما ينطلق عليه مجاز الاسم دون الحقيقة حمل عليه، وانصرفت وصيته إلى
الظبى الموجود في تركته حتى لا تبطل وصيته (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: بعيرا أو ثورا لم يكن لهم أن يعطوه ناقة ولا بقرة ولو قال: عشر أنيق وعشر بقرات لم يكن لهم أن يعطوه ذكرا.
ولو قال عشرة أجمال أو أثوار لم يكن لهم أن يعطوه أنثى، ولو قال: عشرة من إبلى أعطوه ما شاءوا

(15/485)


قلت: وبهذا نعلم أنه إذا أوصى بثور لم يعط إلا ذكرا.
ولو قال بقرة لم يعط الا أنثى وكان بعض أصحابنا يخرج في البقرة وجها آخر أنه يجوز أن يعطى ذكرا أو أنثى كالشاة لان الهاء من أصل اسم الجنس ولا يجوز أن يعدل في الوصيه بالثور والبقرة إلى الجواميس بخلاف الشياء التى ينطلق عليها اسم الضأن والمعز إلا ان يكون في كلامه ما يدل عليه.
أو يقول بقرة من بقرى وليس له إلا الجواميس فتنصرف إلى الجواميس، وان كان اسم البقر يتناولها مجازا.
لان إضافة الوصية إلى التركة قد صرف الاسم عن حقيقته إلى مجازه.
ولا يجوز ان يعدل به إلى بقر الوحش، فان اضاف الوصية إلى بقره ولم يكن له الا بقر الوحش فعلى ما ذكرنا من الوجهين فأما إذا أوصى ببعين فمذهب الشافعي يانه لا يعطى إلا ذكرا، لان الاسم بالذكور أخص.
وقال بعض أصحابنا هو اسم للجنس فيعطى ما شاء الوارث من ذكر أو انثى.
فأما إذا اوصى له بحمل لم يعط الا ذكرا لاختصاص هذا الاسم بالذكور.
ولو أوصى بعشر من إبله اعطاه ما شاء الوارث من ذكور واناث، وسواء اثبت الهاء في العدد أو أسقطها.
ومن اصحابنا من قال: إذا أثبت الهاء في العدد فقال عشرة من ابلى لم يعط
الا من الذكور لان عددها باثبات الهاء كما هو معروف في قواعد النحو في العدد وان اسقط الهاء في العدد فقال: عشر من ابلى لم يعط الا من الاناث، لان عددها باسقاط الهاء لقوله تعالى (سبع ليال وثمانية أيام حسوما) وقوله (سبع سموات طباقا) وقوله (سبع بقرات سمان يأكلن سبع عجاف) وكما نقول عشر نسوة وعشرة رجال.
وهذا لا وجه له لان اسم الابل إذا كان يتناول الذكور والاناث تناولا واحدا صار العدد فيها محمولا على القدر دون النوع واما إذا قال اعطوه مطية أو راحلة فذلك يتناول الذكور والاناث فيعطيه ما شاء الوارث منها.

(15/486)


فأما إذا قال أعطوه دابة فقال الشافعي رضى الله عنه: أعطى من الخيل والبغال والحمير ذكرا أو أنثى صحيحا صغيرا أو كبيرا، أعجف أو سمينا.
(قلت) لان اسم الدواب يطلق على كل ما دب على الارض اشتقاقا من دبيبه غير أنه في العرف مختص ببعضها، فان قال: اعطهوه دابة من دوابى فقد اختلف أصحابنا في قول الشافع: أعطى من الخيل والبغال والحمير الخ، فقال أبو العباس ابن سريج يحمل ذلك على عرف الناس بمصر حيث قال ذلك فيهم، وذكره لهم اعتبارا بعرفهم.
أما بالعراق والحجاز فلا ينطلق إلا على الخيل وحدها ولا يتناول غيرها إلا مجازا يعرف بقرينة، فإن كان الموصى بمصر خير ورثته بين الاصناف الثلاثة، وإن كان بالعراق لم يعطوه إلا من الخيل.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْن أَبِي هريرة: بل الجواب محمول على ظاهره في كل البلاد، بأن اسم الدواب ينطلق على هذه الاجناس الثلاثة، فإن شذ بعض البلاد بتخصيص بعضها بالاسم لم يعتبر به حكم العرف العام، فلو قرن ذلك بما يدل على التخصيص حمل على قرينته، كقوله: اعطوه دابة يقاتل عليها
فلا يعطى إلا من الخيل عتيقا أو هجينا ذكرا أو أنثى ولا يعطى صغيرا ولا مما لا يطيق الركوب، ولو قال: دابة يحمل عليها أعطى من البغال والحمير دون الخيل، ولو قال ينتفع بنتاجها يعطى من الخيل والحمير ولا يعطى من البغال وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
فإن وصى بكلب ولا كلب له فالوصية باطلة، لانه ليس عنده كلب ولا يمكن أن يشترى، فبطلت الوصية، فإن قال: أعطوه كلبا من كلابي وعنده كلاب لا ينتفع بها بطلت الوصية، لان مالا منفعة فيه من الكلاب لا يحل اقتناؤه فان كان ينتفع بها اعطى واحدا منها إلا أن يقرن به قرينة من صيد أو حفظ زرع فيدفع إليه مادلت عليه القرينة، فان كان له ثلاثة كلاب ولا مال له فأوصى بجميعها ولم تجز الوثة ردت إلى الثلث وفى كيفية الرد وجهان.

(أحدهما)
يدفع إليه من كل كلب ثلثه كسائر الاعيان
(والثانى)
يدفع إليه

(15/487)


أحدها وتخالف سائر الاعيان لان الاعيان تقوم وتختلف أثمانها والكلاب لا تقوم فاستوى جميها وفيما يأخذ وجهان.

(أحدهما)
وهو قول أبى إسحاق أنه يأخذ واحدا منها بالقرعة.

(والثانى)
يعطيه الوارث ما شاء منها فان كان له كلب واحد فوصى به ولم تجز الورثة ولم يكن له مال أعطى ثلثه، فإن كان له مال ففيه وجهان
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنه يدفع الجميع إلى الموصى له لان أقل المال خير من من الكلب فأمضيت الوصية فيه كما لو أوصى له بشاة وله مال تخرج الشاة من ثلثه
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى انه يدفع إليه ثلث الكلب لانه لا يجوز ان يحصل للموصى له شئ إلا ويحصل للورثه مثلاه ولا يمكن اعتبار
الكلب من ثلث المال لانه لا قيمة له فاعتبر بنفسه.

(فصل)
وان وصى له بطبل من طبوله وليس له الا طبول الحرب اعطى واحدا منها وان لم يكن له إلا طبول اللهو نظرت، فان لم يصلح وهو طبل لغير اللهو، وإن فصل لمباح لم يقع عليه اسم الطبل فالوصية باطله لانه وصية بمحرم وإن كان يصلح لمنفعة مباحه مع بقاء الاسم جازت الوصيه لانه يمكن الانتفاع به في مباح، وإن كان له طبل حرب وطبل لهو ولم يصلح طبل اللهو لغير اللهو اعطى طبل الحرب لان طبل اللهو لا تصح الوصيه به فيصير كالمعدوم، وإن كان يصلح لمنفعه مباحه اعطاه الوارث ما شاء منهما.

(فصل)
فان وصى بعود من عيدانه وعنده عود اللهو وعود القوس وعود البناء كانت الوصيه بعود اللهو، لان اطلاق الاسم ينصرف إليه، فان كان عود اللهو يصلح لمنفعه مباحه دفع إليه ولا يدفع معه الوتر والمضراب لان اسم العود يقع من غير وتر ولا مضراب، وان كان لا يصلح لغير اللهو فالوصيه باطله لانه وصيه بمحرم.
ومن أصحابنا من قال: يعطى من عود القوس والبناء لان المحرم كالمعدوم كما قلنا فيمن وصى بطبل من طبوله، وعنده طبل حرب وطبل لهو انه تجعل الوصيه في طبل الحرب ويجعل طبل اللهو كالمعدوم.
والمذهب انه لا يعطى شيئا

(15/488)


لان العود لا يطلع إلا على عود اللهو.
والطبل يطلق على طبل اللهو وطبل الحرب فإذا بطل في طبل اللهو حمل على طبل الحرب، فان قال أعطوه عودا من عيداني وليس عنده إلا عود القوس أو عود البناء أعطى منها لانه أضاف إلى ما عنده وليس عندها سواه.

(فصل)
فان وصى له بقوس كانت الوصية بالقوس الذى يرمى عنه النبل
والنشاب دون قوس الندف والجلاهق وهو قوس البندق، لان اطلاق الاسم ينصر إلى ما يرمى عنه ولا يعطى معه الوتر.
ومن أصحابنا من قال: يعطى معه الوتر لانه لا ينتفع به إلا مع الوتر، والصحيح أنه لا يعطى لان الاسم يقع عليه من غير وتر، فان قال: أعطهوه قوسا من قسى وليس عنده الا قوس الندف أو قوس البندق أعطى مما عنده لانه أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه، وان كان عنده قوس البندق وقوس الندف أعطى قوس البندق لان الاسم إليه أسبق.

(فصل)
فان وصى بعتق مكاتبه أو بالابراء مما عليه من الثلث أقل الامرين من قيمته أو مال الكناية لان الابراء عتق، والعتق إبراء فاعتبر أقلهما وألغى الاخر فان احتملهما الثلث عتق وبرئ من المال، وان لم يحتمل شيئا منه لديون عليه بطلت الوصية وأخذ المكاتب بأداء جميع ما عليه فان أدى عتق وإن عجز رق وتعلق به حق الغرماء والورثة، فان احتمل الثلث بعض ذلك مثل أن يحتمل النصف من أقل الامرين عتق نصفه وبقى نصفه على الكناية فان أددى عتق وان عجز رق، وان احتمل الثلث أحدهما دون الآخر اعتبر الاقل فعتق به فان لم يكن له مال غير العبد نظر، فان كان قد حل عليه مال الكناية عتق ثلثه في الحال وبقى الباقي على الكناية ان أدى عتق وان عجز رق، وان لم يحل عليه مال الكناية ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يتعجل عتق شئ منه لانه يحصل للموصى له الثلث ولم يحصل للورثة مثلاه وهذا لا يجوز كما لو أوصى بالثلث وله مال حاضر ومال غائب فانه لا تمضى الوصية في شئ حتى يحصل للورثة مثلاه.

(15/489)


(والثانى)
وهو ظاهر المذهب أنه يتعجل عتق ثلثه ويقف الثلثان على العتق
بالاداء أو الرق بالعجز لان الورثة على يقين من الثلثين اما بالاداء واما بالعجز بخلاف ما لو كان له مال حاضر ومال غائب لانه ليس على يقين من سلامة الغائب
(فصل)
فان قال: ضعوا عن مكاني أكثر ما عليه وضع عنه النصف وشئ لانه هو الاكثر، فان قال: ضعوا عنه ما شاء من كتابته فشاء الجميع فقد روى الربيع رحمه الله أنه يوضع عنه الجميع الا شيئا، وروى المزني أنه إذا قال ضعوا عنه ما شاء فشاءها كلها وضع الجميع لا شيئا، فمن أصحابنا من قال الصحيح ما رواه الربيع، لان قوله من كتابته يقتضى التبعيض وما رواه المزني خطأ في النقف والذى يقتضيه أن يوضع عنه الكل إذا شاء لان قوله ما شاء علم في الكل والبعض، وقال أبو إسحاق ما نقله الربيع صحيح على ما ذكرناه وما نقله المزني أيضا صحيح فانه يقتضى أن يبقى من الكل شئ، لانه لو أراد وضع الجميع لقال ضعوا عنه مال الكتابة فلما علقه على ما شاء دل على أنه لم يرد الكل.
فإن قال: ضعوا عنه ماقل وما كثر وضع الوارث عنه ما شاء من قليل وكثير لانه ما من قدر الا وهو قليل بالاضافة إلى ما هو أكثر وكثير بالاضافة إلى ما هو أقل منه.
فإن قال: ضعوا عنه أكثر نجومه وضع عنه أكثرها مالا لان اطلاق الاكثر ينصرف إلى كثرة المال دون طول المدة.
فإن قال ضعوا عنه أوسط النجوم واجتمع في نجومه أوسط في القدر واوسط في المدة وأوسط في العدد كان للوارث أن يضع أي الثلاثة شاء لان الوسط يقع على الثلاثة فإن استوى الجميع في المدة والقدر وضع عنه الاوسط في العدد، فان كانت النجوم ثلاثه وضع عنه الثاني، فان كانت أربعه وضع عنه الثاني والثالث، فان كانت خمسه وضع عنه الثالث وعلى هذا القياس.

(فصل)
وان كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصى لرجل بما في ذمته لم تصح الوصيه لانه لا شئ له في ذمته فصار كما لو وصى بماله في ذمة حر ولا شئ له
في ذمته، وان وصى له بما يقبضه منه صحت الوصيه لانه أضاف إلى حال يملكه فصار كما لو وصى له برقبة مكاتب إذا عجزه وفى هذا عندي نظر لانه لا يملكه

(15/490)


بالقبض وانما يعتق بحكم الصفة كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه ثم لا يملكه، وان وصى برقبته والكتابة فاسدة نظرت فان لم يعلم بفساد الكتابة ففيه قولان،
(أحدهما)
أن الوصية جائزة لانها صادفت ملكه.

(والثانى)
أنها باطلة لانه وصى وهو يعتقد أنه يملك الوصيه وان وصى بها وهو يعلم أن الكتابة فاسدة صحت الوصية قولا واحدا كما لو باع من رجل شيئا بيعا فاسدا ثم باعه من غيره وهو يعلم فساد البيع الاول، ومن أصحابنا من قال: القولان في الجميع ويخالف البيع فان فاسده لا يجرى مجرى الصحيح في الملك وفى الكتابة الفاسدة كالصحيح في العتق والصحيح هو الطريقة الاولى.

(فصل)
وان وصى بحج فرض من رأس المال حج عنه من الميقات لان الحج من الميقات.
وما قبله تسبب إليه فان وصى به من الثلث، فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه يحج عنه من بلده، فان عجز الثلث عنه تمم من رأس المال لانه يجب عليه الحج من بلده.

(والثانى)
وهو قول أكثر أصحابنا أنه من الميقات لان الحج يجب بالشرع من الميقات فحملت الوصيه عليه، وان أوصى أن يجعل جميع الثلث في حج الفرض حج عنه من بلده، وان عجز الثلث عن ذلك حج عنه من حيث أمكن من طريقه، وان عجز عن الحج من الميقات تمم من رأس المال ما يحج به من الميقات لان الحج من الميقات مستحق من رأس المال وانما جعله من الثلث توفيرا على الورثة فإذا لم يف الثلث بالجميع بقى فيما لم يف من رأس المال.

(فصل)
وان أوصى بحج التطوع، وقلنا انه تدخله النيابة نظرت، فان
قال أحجوا بمائه من ثلثى حج عنه من حيث أمكن، وان لم يوجد من يحج بهذا القدر بطلت الوصيه وعاد المال إلى الورثة لانها تعذرت فبطلت كما لو أوصى لرجل بمال فرده، وان قال: أحجوا عنى بثلثي صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج فان اتسع المال لحجة أو حجتين وفضل ما لا يكفى لحجة أخرى من بلده حج من حيث أمكن من دون بلده إلى الميقات، فان عجز الفضل عن حجة من الميقات رد الفضل إلى الورثة، وان أمكن أن يعتمر به لم يفعل لان الموصى له هو الحج

(15/491)


دون العمرة، فإن قال أحجوا عنى حج عنه بأجرة المثل من حيث أمكن من بلده إلى الميقات، فإن عجز الثلث عن حجة من الميقات بطلت الوصية لما ذكرناه.

(فصل)
وإن وصى أن يحج عنه رجل بمائة ويدفع ما يبقى من الثلث إلى آخر وأوصى بالثلث لثالث فقد وصى بثلثي ماله، فان كان الثلث مائة سقطت وصيته للموصى له بالباقي لان وصيته فيما يبقى بعد المائة ولم يبق شئ، فان أجاز الورثة دفع إلى الموصى له بالثلث ثلثه وهو مائه وإلى الموصى له بالمائة مائه وان لم يجيزوا قسم الثلث بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالمائة نصفين لانهما اتفقا في قدر ما يستحقان وهو المائه، فان كان الثلث أكثر من مائه وأجاز الورثة دفع الثلث إلى الموصى له بالثلث ودفع مائه إلى الموصى له بالمائة ودفع ما بقى إلى الموصى له بالباقي، وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث ردت الوصية إلى نصفها وهو الثلث، فيدفع إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث، وفى النصف الآخر وجهان:
(أحدهما)
يقدم فيه الموصى له بالمائة ولا يدفع إلى الموصى له بالباقي شئ حتى يأخذ الموصى له بالمائة حقه لانه وإن ككان قد اعتد به مع الموصى له بالمائة
في إحراز الثلث إلا أن حقه فيما يبقى بعد المائة فلا يأخذ شيئا قبل أن يستوفى الموصى له بالمائة حقه كما اعتد بالاخ من الاب مع الاخ من الاب والام على الجد في إحراز ثلثى المال ثم لا يأخذ شيئا مع الاخ من الاب والام، فان كان النصف مائه أو أقل أخذه الموصى له بالمائة، وان كان أكثر أخذ الموصى له بالمائة مائه وأخذ الموصى له بالباقي ما يبقى.
(والوجه الثاني) أن الموصى له بالمائة والموصى له بالباقي يقسمان النصف على قدر وصبتهما من الثلث، فان كان الثلث مائتين اقتسما المائة نصفين لكل واحد منهما خمسون وإن كان مائه وخمسين اقتسما الخمسة والسبعين اثلاثا، الموصى له بالمائة خمسون، وللموصى له بالباقي خمسة وعشرون، وعلى هذا القياس، لانه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث لا من بعضه فلم يجز أن يأخذ

(15/492)


من نصف الثلث ما كان يأخذ من جميعه، كأصحاب المواريث إذا زاحمهم من له فرض أو وصية.

(فصل)
وإن بدأ فوصى بثلث ماله لرجل ثم وصى لمن يحج عنه بمائة ووصى لآخر بما يبقى من الثلث فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أن الوصية بالباقي بعد المائة باطلة لان الوصية بالثلث تمنع من أن يبقى شئ من الثلث فعلى هذا إن أجاز الورثة نفذت الوصيتان، وإن لم يجيز واردت الوصية إلى الثلث، فإن كان الثلث مائه استوت وصيتهما فيقتسمان الثلث بينهما نصفين، وإن كان الثلث خمسمائة قسم الثلث بينهما على ستة أسهم للموصى له بالثلث خمسة أسهم وللموصى له بالمائة سهم، فإن كان الثلث ألفا قسم على أحد عشر سهما للموصى له بالثلث عشرة أسهم وللموصى له بالمائة سهم.
والوجه الثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إن الحكم في هذه المسألة
كالحكم في المسألة قبلها لانه إذا أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه لم يرد ذلك الثلث لان الوصيه الاولى قد استوعبته وإنما أراد ثلثا ثانيا، فإذا أوصى بعد المائه بما يبقى من الثلث دل على أنه أراد ما يبقى من الثلث الثاني، فصار موصيا بثلثي ماله كالمسألة قبلها.

(فصل)
وان وصى لرجل بعبد ولآخر بما بقى من الثلث قوم العبد مع التركة بعد موت الموصى، فان خرج من الثلث دفع إلى الموصى له فان بقى من الثلث شئ دفع إلى الآخر وان لم يبق شئ بطلت الوصيه بالباقي لان وصيته فيما في، وإن أصاب العبد عيب بعد موت الموصى قوم سليما ودفع إلى الموصى له الباقي لانه وصى له بالباقي من قيمته وهو سليم.
وإن مات العبد بعد موت الموصى بطلت الوصيه فيه وقوم وقت الموت مع التركة ودفع إلى الموصى له الباقي من الثلث لانهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الاخرى، كما لو وصى لرجلين فرد أحدهما.

(فصل)
فان وصى له بمنفعة عبد ملك الموصى له منافعه واكتسابه، فان كان

(15/493)


جارية ملك مهرها لانه بدل منفعتها، ولا يجوز للمالك وطؤها لانه تملك الرقبه من غير منفعه ولا الموصى له وطؤها لانه تملك المنفعة من غير الرقبه والوطئ لا يجوز إلا في ملك تام ويجوز تزويجها لاكتساب المهر وفيمن يملك العقد ثلاثة أوجه (أحدها) يملكه الموصى له بالمنفعه لان المهر له
(والثانى)
يملكه المالك لانه يملك رقبتها (والثالث) لا يصح العقد إلا باتفاقهما لان لكل واحد منهما حقا فلا ينفرد به أحدهما دون الاخر، فان أتت بولد مملوك ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه للموصى له لانه من جملة فوائدها فصار كالكسب
(والثانى)
أنه كالام رقبته للمالك ومنفعته للموصى له لانه جزء من
الام فكان حكمه حكم الام، فان قتل ففى قيمته وجهان
(أحدهما)
أنها للمالك لانها بدله فكانت له
(والثانى)
وهو الصحيح أنه يشترى به مثله للمالك رقبته وللموصى له منفعته لانه قائم مقام الاصل فكان حكمه حكم الاصل، فان جنى على طرفه ففى أرشه وجهان
(أحدهما)
أنه للمالك لانه يدل ملكه
(والثانى)
وهو الصحيح أن ما قابل منه ما نقص من قيمة الرقبه للمالك وما قابل منه ما نقص من المنفعة للموصى له لانه دخل النقص عليهما فقسط الارش عليهما، فان احتاج العبد إلى نفقة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أن النفقه على الموصى له بالمنفعه لان الكسب له.

(والثانى)
أنها على المالك، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لان النفقة على الرقبه فكانت على مالكها (والثالث) أنها في كسبه فان لم يف الكسب ففى بيت المال لانه لا يمكن ايجابها على المالك لانه لا يملك الانتفاع ولا على الموصى له لانه لا يملك الرقبه فلم يبق الا ما قلناه، فان احتاج البستان الموصى بثمرته إلى سقى أو الدار الموصى بمنفعتها إلى عمارة لم يجب على واحد منهما، لانه لو انفرد كل واحد منهما بملك الجميع لم يجبر على الانفاق فإذا اشتركا لم يجب
(فصل)
فان أراد المالك بيع الرقبه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يجوز لانه يملكها ملكا تاما
(والثانى)
أنه لا يجوز لانها عين مسلوبة المنفعة فلم يجر

(15/494)


بيعها كالاعيان التى لا منفعه فيها (والثالث) يجوز بيعها من الموصى له لانه يمكنه الانتفاع بها ولا يجوز من غيره لانه لا يمكنه الانتفاع بها فان أراد أن يعتقه جاز لانه يملكه ملكا تاما وللموصى له أن يستوفى المنفعة بعد العتق لانه تصرف في
الرقبه فلم يبطل به حق الموصى له من المنفعة ولا يرجع العبد على المالك بأجرته كما يرجع العبد المستأجر على مولاه بعد العتق في أحد القولين لان هناك ملك المولى بدل منفعته ولم يملك المولى ههنا بدل المنفعة (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال أعطوه كلبا من كلابي أعطاه الوارث أيها شاء وهذا كما قال، فإن الوصية بالكلب المنتفع به جائزة، لانه لما جاز إقراره في يد صاحبه، وحرم انتزاعه من يد صاحبه جاز أن يكون وصيه وميراثا فإذا أوصى له بكلب ولا كلاب له فالوصية باطلة، لانه لا يصح أن يشترى ولا يلزم أن يستوهب، وإن كان له كلاب فضربان: منتفع به وغير منتفع، فان كانت كلابه كلها غير منتفع بها فالوصية باطله لحظر اقتنائه وتحريم إمساكه، وإن كانت كلها منتفعا بها فكان له كلب حرث وكلب ماشية وكلب صيد نظرت، فان كان الموصى له صاحب حرث وماشية وصيد فالوارث بالخيار في إعطائه أي كلب شاء من حرث أو ماشية أو صيد.
وإن كان الموصى له ليس بصاحب حرث ولا ماشية ولا صيد ففى الوصية وجهان.
أحدهما الوصية باطلة اعتبارا بالموصى له وأنه غير منتفع به، وإن كان الموصى له ممن ينتفع بأخذها بأن كان صاحب حرث لا غير أو صاحب صيد لا غير فالوصية جائزة، وفيها وجهان.
أحدهما: يلزم الوارث أن يعطيه الكلب الذى يختص بالانتفاع به دون غيره اعتبارا بالموصى له.
والثانى أن للوارث الخيار في إعطائه أي الكلاب شاء اعتبارا بالموصى به.
فأما الوصية بالجرو الصغير المعد للتعليم ففى جوازها وجهان من اختلاف الوجهين في اقتنائه.
أحدهما: أن اقتناءه غير جائز والوصية به باطله لانه غير منتفع به في الحال.
والثانى أن اقتناءه جائز والوصية به جائزة لانه سينتفع به في ثانى حال، ولان تعليمه منفعة في الحال.

(15/495)


ولو كان لرجل ثلاثة كلاب ولم يترك شيئا سواها فأوصى بجميعها لرجل، فإن أجازها الورثة له وإلا ردت الوصيه إلى الثلث، ثم في كيفية رجوعها إلى الثلث وجهان.
أحدهما أن تستحق من كل كلب ثلثه فيحصل له ثلث الثلاثة، ولا يستحق واحدا بكماله إلا عن مراضاته، والوجه الثاني: أنه قد استحق بالوصية أحدها بخلاف الاموال، لان الاموال مقومه تختلف اثمانها، وليس كالكلاب التى لا تقوم، فاستوى فيه حكم جميعها، فعلى هذا فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزى أنه يأخذ أحدها بالقرعة.
الثاني أن للورثة أن يعطوه أيها شاءوا فأما إن كان له كلب واحد ولا مال له غيره فأوصى به لرجل فهو كمن أوصى بجميع ماله، فإن أجازه الورثة وإلا كان للموصى له ثلثه وللورثه ثلثاه، ويكون بينهما على المهايأة.
وإن ملك مالا فأوصى بهذا الكلب الذى ليس له كلب سواه ففى الوصية وجهان.
أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن الوصيه جائزة في الكلب كله للموصى به له، لان قليل المال خير من الكلب الذى ليس بمال.
والوجه الثاني - وهو قول ابى سعيد الاصطخرى - ان للموصى له ثلث الكلب إذا منع الورثة من جميعه.
وإن كثر مال التركة لانه ممالا يمكن أن يشترى فيساويه الورثة فيما صار إليهم من المال، فاختص الكلب بحكمه وصار كأنه جميع التركة، فلو ترك ثلاثة كلاب ومالا، وأوصى بجميع كلابه الثلاثة، فعلى قول أبى على بن أبى هريرة: الوصيه بجميع الكلاب الثلاثه ممضاة وإن قل مال التركة وعلى قول أبى سعيد الاصطخرى تصح الوصيه في أحدها إذا امنع الورثة من جميعها (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال أعطوه طبلا من طبولي وله طبلان للحرب واللهو أعطاه أيهما شاء، فإن لم يصلح الذى للهو الا للطرب لم
يكن لهم أن يعطوا إلا الذى للحرب وأصل هذه المسائل أن الوصيه بما لا منفعة فيه باطله والوصيه بما فيه منفعة مباحه ومنفعة محظورة ومنفعة مشتركة بين الحظر والاباحه ن فإن كانت المنفعة مباحه جاز بيع ذلك والوصيه به، وان كانت المنفعة محظورة لم يجز بيعه ولا الوصيه به وان كانت مشتركة جاز بيعه والوصيه به لاجل الاباحه ونهى عن استعماله في الحظر

(15/496)


فإذا ثبت هذا: وأوصى له بطبل من طبوله، فان لم يكن له إلا طبول الحرب فالوصية به جائزة، لان طبل الحرب مباح، ثم ينظر، فإن كان اسم الطبل يطلق عليه بغير جلد دفع إليه الطبل بغير جلد، وإن كان لا يطلق عليه الاسم الا بالجلد دفع إليه مع جلده، وإن كانت طبوله كلها طبول اللهو فإن كانت لا تصلح إلا للهو فالوصية باطله لان طبول اللهو محظورة، وإن كانت تصلح لغير اللهو في غير المنافع المباحة جازت الوصية بها.
وإن كانت طبوله نوعين طبول حرب وطبول لهو فإن كانت طبول اللهو لا تصلح لغير اللهو لم يعط إلا طبل الحرب، وان كانت طبول اللهو تصلح لغيره من المباحات كان الوارث بالخيار في اعطائه ما شاء من طبل لهو أو حرب لانطلاق الاسم عليه، إلا أن يدل كلامه على أحدهما فيحمل عليه، كقوله: أعطوه طبلا للجهاد أو الارهاب فلا يعطى إلا طبل الحرب، وإن قال: طبلا للفرح والسرور لم يعط إلا طبل اللهو.
فأما الوصية بالدف العربي فجائزة لورود الشرع باباحة الضرب به في المناكح (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: عودا من عيداني، وله عبدان يعزف بها وعيدان قسى وعصى وغيرها، فالعود إذا وجه به المتكلم للعود الذى يضرب به دون ما سواه مما يقع عليه اسم عود، فان كان العود يصلح لغير الضرب جازت الوصية ولم يكن عليه إلا اقل ما يقع عليه اسم عود وأصغره بلا
وتر، وان كان لا يصلح لغير الضرب بطلت عندي الوصية.
ومعنى كلام الشافعي أنه إذا قال: اعطوه عودا من عيداني فمطلق هذا الاسم يتناول عيدان الضرب والعزف واللهو دون عيدان القسى والعصى، فان كان عود الضرب لا يصلح لغير الضرب واللهو فالوصيه باطله، وان كان يصلح لغير اللهو فالوصية جائزة، ويعطاه بغير وتر لانطلاق الاسم عليه، وان لم يكن عليه وتر ينظر فان كان لا يصلح لغير اللهو الا بعد تفصيله وتخليعه فصل وخلع ثم دفع إليه، وان كان يصلح لغير اللهو لم يفصل ودفع إليه غير مفصل.
(مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه (وكذلك المزمار) يعنى أنه ان كان

(15/497)


لا يصلح الا للهو فالوصية باطله، وان كان يصلح لغير اللهو فالوصية به جائزة، ثم الكلام في التفصيل على ما مضى.
فأما الشبابه التى ينفخ فيها مع طبل الحرب وفى الاسفار، فالوصية بها جائزة.
وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: أعطوه قوسا من قسى وله قسى معمولة، وقسى غير معمولة أو ليس منها شئ فقال: اعطوه عودا من القسى كان عليهم أن يعطوه قوسا معمولة أي قوس شاءوا - صغيرة أو كبيرة.
عربية أو أي عمل شاءوا - إذا وقع عليه اسم قوس ترمى بالنبل أو النشاب أو الحسبان ومعنى هذا الكلام أنه إذا أوصى بقوس من القسى فمطلق القوس يتناول قوس السهام والحربة دون قوس النداف والجلاهق الذى هي منها البندق، فلا يعطى الا قوس السهام الحربية سواء أعطاه قوس نشاب وهى الفارسية، أو قوس نبل وهى العربية أو قوس حسبان، والخيار فيها إلى الوارث لاشتراك الاسم في جميعها، ولا يلزم أن يدفع الوتر معه، لانه يسمى قوسا بغير وتر، وهكذا لو أوصى له بدابة لم يعط سرجها.
فأما أن قال: أعطوه قوسا من قسى وله قوس نداف وقوس جلاهق أعطى قوس الجلاهق التى يرمى عنها لانها أخص بالاسم، فان لم يكن له الا قوس نداف دفع إليه، ولو اقترن بكلامه ما يدل على مراده عمل على ما دل عليه كلامه من القسى الثلاث.
أما بقية الفصول فقد مضى الكلام على بعضها، ومنها ما هو على وجهه من كلام المصنف، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(15/498)


قال المصنف رحمه الله تعالى

باب الرجوع في الوصية يجوز الرجوع في الوصية لانها عطية لم تزل الملك فجاز الرجوع فيها كالهبة قبل القبض، ويجوز الرجوع بالقول والتصرف لانه فسخ عقدا قبل تمامه فجاز بالقول والتصرف كفسخ البيع في مدة الخيار، وفسخ الهبة قبل القبض، وإن قال هو حرام عليه فهو رجوع لانه لا يجوز أن يكون وصية له وهو محرم عليه، فان قال: لوارثي فهو رجوع لانه لا يجوز أن يكون للوارث وللموصى له، وإن قال هو تركتي ففيه وجهان.
أحدهما: أنه رجوع لان التركة للورثة، والثانى: أنه ليس برجوع لان الوصية من جملة التركة.

(فصل)
وإن وصى لرجل بعبد ثم وصى به لاخر لم يكن ذلك رجوعا لامكان أن يكون نسى الاول أو قصد الجمع بينهما، فان قال ما وصيت به لفلان فقد وصيت به لاخر فهو رجوع، ومن أصحابنا من قال: ليس برجوع كالمسألة قبلها والمذهب الاول لانه صرح بالرجوع.

(فصل)
وإن باعه أو وهبه وأقبض أو أعتقه أو كاتبه أو أوصى أن يباع أو يوهب ويقبض أو يعتق أو يكاتب قهو رجوع، لانه صرفه عن الموصى له، وإن عرضه للبيع أو رهنه في دين أو وهبه ولم يقبضه فهو رجوع، لان تعريضه
لزوال الملك صرف عن الموصى له.
ومن أصحابنا من قال: إنه ليس برجوع لانه لم يزل الملك، وليس بشئ، وإن وصى بثلث ماله ثم باع ماله لم يكن ذلك رجوعا لان الوصية بثلث المال عند الموت لا بثلث ما باعه، فإن وصى بعبد ثم دبره - فإن قلنا: ان التدبير عتق بصفة - كان ذلك رجوعا، لانه عرضه لزوال الملك، وإن قلنا: إنه وصية وقلنا في أحد القولين: إن العتق يقدم على سائر الوصايا - كان ذلك رجوعا لانه أقوى من الوصية فأبطلها، وان قلنا: إن العتق كسائر الوصايا ففيه وجهان

(15/499)


(أحدهما)
أنه ليس برجوع، فيكون نصفه مدبرا ونصفه موصى به، كما لو أوصى به لرجل ثم وصى به لآخر
(والثانى)
أنه رجوع، لان التدبير أقوى، لانه يتنجز من غير قبول، والوصية لا تتم إلا بالقبول، فقدم التدبير كما يقدم ما تنجز في حياته من التبرعات على الوصية.

(فصل)
وان وصى له بعبد ثم زوجه أو أجره أو علمه صنعة أو ختنه لم يكن ذلك رجوعا، لان هذه التصرفات لا تنافى الوصية، فإن كانت جاريه فوطئها لم يكن ذلك رجوعا لانه استيفاء منفعة فلم يكن رجوعا كالاستخدام.
وقال أبو بكر بن الحداد المصرى: ان عزل عنها لم يكن رجوعا، وان لم يعزل عنها كان رجوعا لانه قصد التسرى بها.

(فصل)
وان وصى بطعام معين فخلطه بغيره كان ذلك رجوعا لانه جعله على صفة لا يمكن تسليمه، فإن وصى بقفيز من صبرة ثم خلط الصبرة بمثلها لم يكن ذلك رجوعا، لان الوصية مختلطة بمثلها، والذى خلطه به مثله، فلم يكن رجوعا، فإن خلطه بأجود منه كان رجوعا، لانه أحدث فيه بالخلط زيادة لم يرض بتمليكها، فان خلطه بما دونه ففيه وجهان.

(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: انه ليس برجوع، لانه نقص أحدثه فيه فلم يكن رجوعا كما لو أتلف بعضه.

(والثانى)
أنه رجوع لانه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود منه، فان نقله إلى بلد أبعد من بلد الموصى له ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه رجوع لانه لو لم يرد الرجوع لما أبعده عنه
(والثانى)
أنه ليس برجوع لانه باق على صفته.

(فصل)
فان وصى بحنطة فقلاها أو بذرها كان ذلك رجوعا، لانه جعله كالمستهلك، وان وصى بحنطة فطحنها أو بدقيق فعجنه، أو بعجين فخبزه، كان ذلك رجوعا، لانه أزال عنه الاسم، ولانه جعله للاستهلاك، وان وصى له بخبز فجعله فتيتا ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه رجوع لانه أزال عنه اطلاق اسم الخبز، فأشبه إذا ثرده.

(والثانى)
ليس برجوع، لان الاسم باق عليه، لانه يقال خبز مدقوق،

(15/500)


وان وصى برطب فجعله تمرا ففيه وجهان.
أحدهما: أنه رجوع لانه أزال عنه اسم الرطب.
والثانى: ليس برجوع لانه أبقى له وأحفظ على الموصى له.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وللرجل إذا أوصى بوصية تطوع بها أن ينقضها كلها أو يبدل منها ما شاء التدبير أو غيره ما لم يمت، وإن كان في وصيته إقرار بدين أو غيره أو أعتق بثاث فذلك شئ واجب عليه أوجبه على نفسه في حياته لا بعد موته، فليس له أن يرجع من ذلك في شئ.
ثم قال في باب ما يكون رجوعا في الوصية وتغييرا لها وما لا يكون رجوعا ولا تغييرا: وإذا أوصى رجل بعبد بعينه لرجل ثم أوصى بذلك العبد بعينه لرجل فالعبد بينهما نصفان، ولو قال: العبد الذى أوصيت به لفلان لفلان، أو قد أوصيت بالذى أوصيت به لفلان لفلان كان هذا ردا للوصية الاولى، وكانت وصيته
للآخر منهما، ولو أوصى لرجل بعبد ثم أوصى أن يباع ذلك العبد كان هذا دليلا على إبطال وصيته به للاول، ولو أوصى لرجل بعبد ثم باعه أو كاتبه أو دبره أو وهبه كان هذا كله ابطالا للوصية فيه.
ثم قال: ولو أوصى به لرجل ثم أذن له في التجارة أو بعثه تاجرا إلى بلد أو أجره أو علمه كتابا أو قرآنا أو علما أو صناعة أو كساه أو وهب له مالا أو زوجه لم يكن شئ من هذا رجوعا في الوصية، ولو كان الموصى به طعاما فباعه أو وهبه أو أكله أو كان حنطة فطحنها أو دقيقا فعجنه أو خبزه، أو حنطة فجعلها سويقا كان هذا كله كنقض الوصية، ولو أوصى له بما في هذا البيت من الحنطة ثم خلطها بحنطة غيرها كان هذا ابطالا للوصية، ولو أوصى له بما في البيت بمكيلة حنطة ثم خلطها بحنطة مثلها لم يكن هذا ابطالا للوصية وكانت له المكيلة التى أوصى بها له.
اه قلت: ما أورد الشافعي في هذا الكلام صور لما يمكن أن يكون رجوعا بالصرف وابطالا، أو تصرفا لا يعد رجوعا ولا يؤثر في صحتها، وبيان هذا أنه إذا أوصى لرجل بمعين من ماله ثم وصى به لاخر أو وصى بثله له ثم وصى لآخر بثلثه أو وصى بجميع ماله لرجل ثم وصى به لاخر فهو بينهما، ولا يكون ذلك رجوعا

(15/501)


في الوصية الاولى، وبهذا قال ربيعة ومالك والشورى والشافعي وإسحاق وأحمد ابن حنبل وابن المنذر وأصحاب الرأى.
وقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وطاوس وداود بن على وصيته للآخر منهما، لانه وصى للثاني بما وصى به للاول فكان رجوعا، كما لو قال: ما وصيت به لبشر فهو لبكر، ولان الثانية تنافى الاولى، فإذا أتى بها كان رجوعا، كما لو قال: هذا لورثتي ولنا أنه وصى لهما فاستويا فيها، كما لو قال لهما: وصيت لكما بسيارتى، وما
قاسوا عليه صرح فيه بالرجوع عن وصيته.
وفى مسألتنا يحتمل أنه قصد التشريك فلم تبطل وصية أحدهما بالشك.
وإن قال: ما أوصيت به لبشر فهو لبكر كان ذلك رجوعا في الوصية لبشر.
وهذا قول الشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى، وهو أيضا مذهب الحسن وعطاء وطاوس ولا نعلم فيه مخالفا، لانه صرح بالرجوع عن الاول بذكره أن ما أوصى به مردود إلى الثاني، فأشبه ما لو قال رجعت عن وصيتى لبشر وأوصيت بها لبكر بخلاف ما إذا أوصى بشئ واحد لرجلين أحدهما بعد الاخر، فانه يحتمل أنه قصد التشريك بينهما، وقد ثبتت وصية الاول يقينا فلا تزول بالشك وإن قال ما أوصيت به لفلان فنصفه أو ثلثه كان رجوعا في القدر الذى وصى به للثاني خاصة وباقيه للاول.
وأجمع أهل العلم على أن للوصي أن يرجع في جميع ما أوصى به وفى بعضه الا الوصية بالاعتاق،، وبعضهم على جواز الرجوع في الوصية به أيضا.
وروى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يغير الرجل ما شاء من وصيته، وبه قال عطاء وجابر بن زيد والزهرى وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقال الشعبى وابن سيرين وشبرمة والنخعي: يغير منها ما شاء الا العتق، لانه اعتاق بعد الموت فلم يملك تغيير تغييره كالتدبير.
ولنا أنها وصيه فملك الرجوع عنها كغير العتق، ولانها عطيه تنجز بالموت فجاز له الرجوع عنها قبل تنجيزها، كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه، وفارق التدبير فانه تعليق على شرط فلم يملك تغييره كتعليقه على صفه الحياة

(15/502)


ويحصل الرجوع بقوله: رجعت في وصيتى أو أبطلتها أو غيرتها أو ما أوصيت به لفلان فهو لفلان أو فهو لورثتي أو في ميراثي، وإن أكله أو أطعمه أو أتلفه
أو وهبه أو تصدق به أو باعه، أو كان ثوبا غير مفصل ففصله ولبسه، أو جارية فأحبلها أو ما أشبه ذلك فهو رجوع ولا يعد من الرجوع جماع الجارية بخلاف ما لو أحبلها.
قال ابن المنذر: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أنه إذا أوصى لرجل بطعام فأكله أو بشئ فأتلفه أو تصدق به أو وهبه أو بجارية فأحبلها أو أولدها أنه يكون رجوعا.
وحكى عن أصحاب الرأى أن بيعه ليس برجوع لانه أخذ بدله بخلاف الهبة، ولانه أزال ملكه عنه فكان رجوعا كما لو وهبه، وإن عرضه على البيع أو وصى ببيعه أو أوجب الهبة فلم يقبلها الموهوب له أو كاتبه أو وصى بإعتاقه أو دبره كان رجوعا، لانه يدل على اختياره للرجوع بعرضه على البيع وإيجابه للهبة ووصيته ببيعه أو إعتاقه لكونه وصى بما ينافى الوصية الاولى، والكتابة، بيع والتدبير أقوى من الوصية لانه ينجز بالموت فيسبق أخذ الموصى له وإن رهنه كان رجوعا لانه علق به حقا يجوز بيعه فكان أعظم من عرضه على البيع، وفيه وجه آخر أنه ليس برجوع، وهو وجه لاصحاب أحمد لانه لا يزيل الملك فأشبه إجارته، وكذلك الحكم في الكتابة.
(فرع)
وإن وصى بجب ثم طحنه أو بدقيق فعجبنه أو بعجين فخبزه أو بخبز ففته كان رجوعا، لانه أزال اسمه وعرضه للاستعمال، فدل على رجوعه، وبهذا قال أحمد وأصحابه.
أما تفتيته ودقه فقد قال أصحاب أحمد: يعد رجوعا ولا صحابنا فيه وجهان حكاهما المصنف.
وإن وصى بشئ معين ثم خلطه بغيره على وجه لا يتميز منه كان رجوعا لانه يتعذر بذلك تسليمه.
وإن وصى بقفيز قمح من صبرة ثم خلطها بغيرها نظرت فإن كان بخير منها كان ذلك رجوعا لانه أحدث فيه زيادة ليست من الوصيه.
أما إذا خلطه بما دونه ففيه وجهان
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
ان ذلك ليس رجوعا قياسا على ما إذا تلف بعضه فصار الباقي على وصته.

(15/503)


(والثانى)
انه رجوع، وقد ذهب احمد واصحابه إلى ان الخلط بما هو خير منه أو بما دونه أو بمثله لا يعد رجوعا لانه كان مشاعا وبقى مشاعا وعندهم وجه ضعيف فيما خلط بخير منه انه يكون رجوعا، لانه لا يمكنه تسليم الموصى به إلا بتسليم خير منه، ولا يجب على الوارث تسليم خير منه فصار متعذر التسليم بخلاف ما إذا خلطه بمثله أو دونه، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وصى بقطن فغزله أو بغزل فنسجه كان ذلك رجوعا، لانه أزال عنه الاسم، وان أوصى له بقطن فحشى به فراشا ففيه وجهان
(أحدهما)
انه رجوع لانه جعله للاستهلاك
(والثانى)
ليس برجوع لان الاسم باق عليه.

(فصل)
وان أوصى له بثوب فقطعه أو بشاة فذبحها، كان رجوعا، لانه ازال عنه الاسم، ولانه جعله للاستهلاك، وان وصى له بحلم فطبخه أو شواه كان ذلك رجوعا، لانه جعله للاكل، وان قدده ففيه وجهان كما قلنا في الرطب إذا جعله تمرا.

(فصل)
وان وصى له بثوب فقطعه قميصا أو بساج فجعله بابا ففيه وجهان
(أحدهما)
انه رجوع، لانه ازال عنه اطلاق اسم الثوب والساج.
ولانه جعله للاستعمال.

(والثانى)
انه ليس برجوع، لان اسم الثوب والساج باق عليه
(فصل)
وان وصى بدار فهدمها كان رجوعا لانه تصرف ازال به الاسم فكان رجوعا، كما لو وصى بحنطة فطحنها، وان تهدمت نظرت لان لم يزل عنها
اسم الدار فالوصية باقية فيما بقى.
وأما ما انفصل عنها فالمنصوص انه خارج من الوصية لانه انفصل عن الموصى به في حياة الموصى.
وحكى القاضى أبو القاسم ابن كج رحمه الله وجهان آخر: انه للموصى له لانه تناولته الوصيه فلم يخرج منها بالانفصال، وإن زال عنها اسم الدار ففى الباقي من العرصة وجهان (احدهما) انه تبطل فيه الوصية لانه ازال عنها اسم الدار
(والثانى)
لا تبطل لانه لم يوجد من جهته ما يدل على الرجوع.

(15/504)


(فصل)
وان وصى له بأرض فزرعها لم يكن ذلك رجوعا، لانه لا يراد للبقاء، وقد يحصل قبل الموت فلم يكن رجوعا، وإن غرسها أو بنى فيها ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه رجوع لانه جعلها لمنفعة مؤبدة، فدل على الرجوع،
(والثانى)
ليس برجوع لانه استيفاء منفعة فهو كالزراعة، فعلى هذا في موضع الاساس وقرار الغراس وجهان.

(أحدهما)
أنه لا تبطل فيه الوصية كالبياض الذى بينهما فإذا مات الغراس أو زال البناء عاد إلى الموصى له.

(والثانى)
أنه تبطل الوصية فيه لانه جعله تابعا لما عليه.

(فصل)
وإن أوصى له بسكنى دار سنة فأجرها دون السنة لم يكن ذلك رجوعا، لانه قد تنقضي الاجارة قبل الموت، فان مات قبل انقضاء الاجارة ففيه وجهان
(أحدهما)
يسكن مدة الوصية بعد انقضاء الاجارة
(والثانى)
انه تبطل الوصية بقدر ما بقى من مدة الاجارة وتبقى في مدة الباقي.
(الشرح) إذا وصى بكتان أو قطن فغزله أو وصى بغزل فنسجه أو بثوب فقطعه أو بسبيكة فصاغها أو شاة فذبحها كان ذلك رجوعا، وبهذا قال اصحاب الراى والشافعي في ظاهر المذهب وهو الراجع من أحمد، واختار أبو الخطاب
من الحنابله انه ليس برجوع، وهو قول ابى ثور لانه لا يزيل الاسم.
دلينا: انه عرضة للاستعمال فصار رجوعا كالمسائل قبله، ولا يصح قوله انه لا يزيل الاسم، فان الثوب لا يسمى غزلا، والغزل لا يسمى كتابا.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو اوصى له بدار وقبل كانت له وما ثبت فيها من ابوابها وغيرها دون ما فيها.
قلت لان الوصيه إذا كانت بالدار دخل فيها كل ما كان من الدار ولها ولم يدخل في الوصيه كل ما كان في الدار إذا لم يكن منها، فالداخل في الوصيه حيطانها وسقوفها وابوابها المنصوبة عليها، وما كان متصلا بها من زخرفها ودرجها، ولم يخل فيها ما انفصل عنها من ابوابها ورفوفها وسلاليمها المنفصلة عنها.
وجملة ذلك ان كل ما جعلناه داخلا في البيع معها دخل في الوصيه بها، وكل

(15/505)


ما لم نجعله داخلا في البيع لم يدخل في الوصية، فلو كان الموصى به أرضا دخل في الوصيه نخلها وشجرها، ولم يدخل فيه زرعها، ولو كان نخلها عند الوصية مثمرا لم يدخل ثمرها في الوصية إن كان مؤبرا، وفى دخوله فيها إن كان غير مؤبر وجهان
(أحدهما)
يدخل كالبيع
(والثانى)
لا يدخل لخروجه عن الاسم، وان كان متصلا، وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف قوليه في دخوله في الرهن.
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولو انهدمت في حياة الموصى كانت له إلا ما انهدم منها فصار غير ثابت فيها، وصورتها في رجل أوصى لرجل بدار فانهدمت فلا يخلو انهدامها من ثلاثة أحوال.

(أحدهما)
أن تنهدم في حياة الموصى.

(والثانى)
بعد موته وبعد قبول الموصى له.
(والثالث) بعد موته وقبل قبول الموصى، فان انهدمت في حياة الموصى،
فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يزول اسم الدار عنها بالانهدام.
والثانى: أن لا يزول، فان لم يزل اسم الدار عنها لبقاء بنيان فيها تسمى دارا، فالوصية جائزة وله ما كان ثابتا فيها من بنيانها، فأما المنفصل عنها بالهدم فالذي نص عليه الشافعي ان يكون خارجا من الوصية، فذهب الجمهور من أصحابنا إلى حمل ذلك على ظاهره، وأنه خارج من الوصية، لان ما انفصل عنه لا يسمى دارا، فلم يكن للموصى له بالدار فيها حق.
وحكى أبو القاسم بن كج وجها آخر عن بعض أصحابنا أن نص الشافعي على خروج ما نهدم من الوصية محمول على انه هدمه بنفسه فصار بذلك رجوعا فيه، ولو انهدمت بسبب من السماء لا ينسب لفعل الموصى كان للموصى له باقى الدار لانه منهما وانما بان عنها بعد أن تناولته الوصية، وان كانت الدار بعد انهدامها لا تسمى دارا لانها صارت عرصة لا بناء فيها ففى بطلان الوصية وجهان.

(أحدهما)
لا تبطل وهذا قول من جعل الالة بعد انفصالها ملكا للموصى له (والوجه الثاني) أن الوصية بها باطلة وهو الاصح، لانها إذا كانت عرصة لم تسم دارا، ألا ترى لو حلف لا يدخلها لم يحنث بدخول عرصتها بعد ذهاب

(15/506)


بنائها، وهذا قول من جعل ما انفصل عنها غير داخل في الوصية، فأما إن كان انهدامها بعد موت الموصى وبعد قبول الموصى له فالوصية بهما ممضاة، وجميع ما انفصل عنها من البناء كالمتصل يكون ملكا للموصى له لاستقرار ملكه عليها بالقبول.
فاما إن كان انهدامها بعد موت الموصى وقبل قبول الموصى له، فان لم يزل اسم الدار عنها فالوصية بحالها، فإذا قبلها الموصى له، فان قيل: ان القبول يبنى عن تقدم الملك بموت الموصى وكل ذلك ملك للموصى له المنفصل منه والمتصل
فان قيل: إن القبول هو المملك فله الدار وما اتصل بها من البناء.
وفى المنفصل وجهان (احدهما) للموصى له
(والثانى)
للورثة، وإن لم تسم الدار بعد انهدامها دارا.
(فان قلنا) إن القبول يبنى عن تقدم الملك، فالوصية جائزة وجهان واحدا وله العرصة وجميع ما فيها من منفصل أو متصل، إذا كان عند الموت متصلا، وان قيل: إن القبول هو المملك مع بطلان الوصية بانهدامها على مضى من الوجهين
(أحدهما)
باطلة
(والثانى)
جائزة وله ما اتصل بها.
وفى المنفصل وجهان: وما بقى من كلام المصنف فعلى وجهه وليس فيه أقاويل تذكر، والله تعالى أعلم بالصواب.

(15/507)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب الأوصياء

لا تجوز الوصية الا إلى بالغ عاقل حر عدل، فأما الصبى والمجنون والعبد والفاسق فلا تجوز الوصيه إليهم، لانه لاحظ للميت ولا للطفل في نظر هؤلاء ولهذا لم تثبت لهم الولاية، واما الكافر فلا تجوز الوصية إليه في حق المسلم، لقوله عز وجل (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم) ولانه غير مأمون على المسلم، ولهذا قال الله تعالى (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمه) وفى جواز الوصية إليه في حق الكافر وجهان (احدهما) انه يجوز لانه يجوز أن يكون وليا له فجاز ان يكون وصيا له كالمسلم
(والثانى)
لا يجوز كما لا تقبل شهادته للكافر والمسلم.

(فصل)
وتجوز الوصية إلى المرأة لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصى إلى ابنته حفصة في صدقته ما عاشت، فإذا ماتت فهو إلى ذوى الرأى من أهلها،
ولانها من أهل الشهادة فجازت الوصية إليها كالرجل.
واختلف أصحابنا في الاعمى فمنهم من قال: تجوز الوصية إليه لانه الشهادة فجازت الوصية إليه كالبصير، ومنهم من قال: لا تجوز الوصية لانه تفتقر الوصية إلى عقود لا تصح من الاعمى، وفضل نظر لا يدرك الا بالعين.
(الشرح) تصح الوصيه إلى الرجل العاقل المسلم الحر العدل اجماعا، ولا تصح إلى مجنون ولا طفل ولا وصية مسلم إلى كافر بغير خلاف نعلمه، لان المجنون والطفل ليسا من أهل التصرف في أموالهما، فلا يليان على غيرهما، والكافر ليس من أهل الولاية عن مسلم، لقوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر) .
قال ابن أبى حاتم حدثنا أبى حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان حدثنا عيسى ابن يونس عن أبى حيان التيمى عن أبى النباع عن ابن أبى الدهقانة قال: قيل

(15/508)


لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخدت إذن بطانة من دون المؤمنين.
فعلى هذا الاثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التى فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التى يخشى أن يفشوها إلى الاعداد من أهل الحرب، ولهذا قال تعالى (لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم) وما هنا مصدرية فيكون المصدر الصريح المفعول لودوا (عنتكم) .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن إسرائيل حدثنا هشيم حدثنا العوام عن الازهر بن راشد قال: كانوا أنسا فإذا حدثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن البصري فيفسره لهم قال: فحدث ذات يوم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تستضئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا) فأتوا
الحسن ففسر لهم الاستضاءة: لا تستشيروا المشركين في شئونكم تصديق ذلك في كتاب الله وتلا الاية، ويقول الشافعي رضي الله عنه في الأم في باب الاوصياء ولا تجوز الوصيه الا إلى بالغ مسلم عدل.
وروى ابن اسحاق وغيره عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فانزال الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الاية، وأخرج عبد بن حميد انها نزلت في المنافقين من أهل المدينة، هي المؤمنون ان يتولوهم ومن ثم فلا تصح وصيه مسلم إليه لانه لا يلى على مسلم، ولانه ليس من أهل الشهادة ولا العدالة فلم تصح الوصيه إليه كالمجنون والفاسق، وأما وصيه الكافر إليه، فان لم يكن عدلا في دينه لم تصح الوصيه إليه، لان عدم العدالة في المسلم يمنع صحة الوصية إليه فمع الكفر أولى، وان كان عدلا في دينه ففيه وجهان.
أحدهما: تصح الوصيه إليه، وهو قول أصحاب الرأى لانه يلى بالنسب فيلى الوصية كالمسلم.
والثانى: لا تصح، وهو قول أبى ثور لانه فاسق فلم تصح الوصية إليه كفاسق المسلمين.
ولاصحاب أحمد وجهان كهذين، وأما وصية الكافر إلى المسلم الا أن تكون تركته خمرا أو خنزيزا.

(15/509)


أما الوصية إلى المرأة فإنها تصح في قول أكثر أهل العلم، وروى ذلك عن شريح.
وبه قال مالك الثوري والاوزاعي والحسن بن صالح واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأى وأحمد بن حنبل، ولم يجزه عطاء، لانها لا تكون قاضية فلا تكون وصية.
دليلنا أن عمر رضى الله عنه اوصى إلى حفصة، ولانها من أهل الشهادة فاشبهت الرجل، وتخالف القضاء، فان المعتبر له الكمال في الخلقة والاجتهاد
بخلاف الوصية، وتصح الوصية للاعمى في أحد الوجهين لانه من أهل الشهادة وهو قول أحمد وأصحابه، ولم يسلم القائلون بالجواز لمخالفيهم حكمهم، لانه يمكنه التوكيل فيما يحتاج إلى نظر، ثم انه من أهل الشهادة والولاية في النكاح، والولاية على أولاده الصغار، فصحت الوصية إليه كالبصير.
وعلى الوجه الاخر عند أصحابنا انه لا تصح الوصية إليه بناء على انه لا يصح بيعه ولا شراؤه فلا يوجد فيه معنى الولاية، وقد مضى في البيوع وفى السلم وفى غيرهما مزيد بيان.
أما الصبى العاقل فلا تصح الوصيه إليه لانه ليس من أهل الشهادة والاقرار، ولا يصح تصرفه الا بإذن، فلم يكن من أهل الولاية بطريق الاولى، ولانه مولى عليه، فلا يكون واليا كالطفل والمجنون وهو الصحيح من مذهب الحنابلة وليس عندهم نص عن أحمد فيه، وانما رجح أكثرهم مذهبنا في الصبى الا القاضى فقد قال: قياس المذهب صحة الوصية إليه، لان احمد قد نص على صحة وكالته وأما الفاسق فان الوصيه إليه لا تصح في قول مالك والشافعي واحمد.
وفى رواية عن احمد صحة الوصية إليه في رواية ابن منصور عنه وعند الخرقى من الحنابلة إذا كان خائنا ضم إليه أمين وقال ابن قدامه: وهذا يدل على صحة الوصية إليه ويضم الحاكم إليه امينا.
وقال أبو حنيفة تصح الوصية إليه وينفذ تصرفه وعلى الحاكم عزله لانه بالغ عاقل فصحت الوصيه إليه كالعدل، وبهذا يكون على قول أصحاب الحمد عدم جواز إفراده بالوصية.
وعند ابى حنيفة لا يجوز إقراره على الوصيه.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(15/510)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف أصحابنا في الوقت الذى تعتبر فيه الشروط التى تصح بها
الوصية إليه، فمنهم من قال يعتبر ذلك عند الوفاة، فإن وصى إلى صبى فبلغ أو كافر فاسلم أو فاسق فصار عدلا قبل الوفاة صحت الوصية، لان التصرف بعد الموت فاعتبرت الشروط عنده كما تعتبر عدالة الشهود عند الاداء أو الحكم دون التحمل، ومنهم من قال: تعبتر عند العقد وعند الموت، ولا تعتبر فيما بينهما، لان حال العقد حال الايجاب، وحال الموت حال التصرف فاعتبر فيهما.
ومنهم من قال: تعتبر في حال الوصية وفيما بعدها، لان كل وقت من ذلك يجوز ان يستحق فيه التصرف بان يموت، فاعتبرت الشروط في الجميع.

(فصل)
وإن وصى إلى رجل فتغير حاله بعد موت الموصى - فإن كان لضعف - ضم إليه معين امين، وإن تغير بفسق أو جنون بطلت الوصيه إليه ويقيم الحاكم من يقوم مقامه.

(فصل)
ويجوز ان يوصى إلى نفسين.
لما روى أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلت النظر في وقفها إلى على كرم الله وجهه، فإن حدث به حدث رفعه إلى ابنيها فيليانها، ويجوز ان يجعل اليهما والى كل واحد منهما لانه تصرف مستفاد بالاذن، فكان على حسب الاذن، فإن جعل إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما ان ينفرد بالتصرف، فان ضعف احدهما أو فسق أو مات جاز للآخر ان ينصرف ولا يقام مقام الاخر غيره لان الموصى رضى بنضر كل واحد منهما وحده، فان وصى اليهما لم يجز لاحدهما ان ينفرد بالتصرف لانه لم يرض بأحدهما، فان ضعف احدهما ضم إليه من يعينه، فان فسق أحدهما أو مات أقام الحاكم من يقوم مقامه لان الموصى لم يرض بنظره وحده، فان اراد الحاكم ان يفوض الجميع إلى الثاني لم يجز لانه لم يرضى الموصى باجتهاده وحده فان ماتا أو فسقا فهل للحاكم ان يفوض إلى واحد.
فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، لانه سقط حكم الوصية بموتهما وفسقهما فكان الامر
فيه إلى الحاكم
(والثانى)
لا يجوز لانه لم يرضى بنظر واحد، وان اختلف

(15/511)


الوصيان في حفظ المال جعل بينهما نصفين، فإذا بلغا إلى التصرف - فان كان التصرف إلى كل واحد منهما - تصرف كل واحد منهما في الجميع، وان كان اليهما لم يجز لاحدهما ان ينفرد بالتصرف دون الاخر.

(فصل)
ومن وصى إليه في شئ لم يصر وصيا في غيره ومن وصى إليه إلى مدة لم يصر وصيا بعد المدة لانه تصرف بالاذن فكان على حسب الاذن.
(الشرح) الشروط التى اسلفنا تقريرها هل تعتبر في الوصي حال العقد أو حال الموت أو حال العقد والموت؟ على اختلاف بين اصحابنا، والى اعتبارها حال العقد ذهب أحمد وأصحابه في أحد الوجهين عندهم، لانها شروط لعقد فتعتبر حال وجوده كسائر العقود فلا ينفع وجودها بعده، وعلى الوجه الثاني لو كانت الشروط كلها منتفية أو بعضها حال العقد ثم وجدت حالة الموت لصحت الوصية إليه، وهو الوجه الثاني عند أصحاب أحمد.
والوجه الثالث: ان تعتبر حال صدور العقد عند الوفاة، ولا تعتبر حالة فيما بينهما من الزمن كما سيأتي.
(فرع)
الوصية ولاية وامانة والفاسق ليس من اهلهما، فعلى هذا إذا كان الوصي فاسقا فحكمه حكم من لا وصى له عند أصحاب أحمد، وينظر الحاكم في ماله، وعند أحمد أن الوصية باطلة ابتداء كالذى طرا عليه فسقه بعد الوصية تزول ولايته ويقيم الحاكم مقامه امينا، وهذا هو قول الثوري والشافعي واسحاق واحمد ابن حنبل.
وعلى قول بعض الحنابلة كالخرقي تصح الوصية ويضم إليه امين ينظر معه، وروى ذلك عن الحسن وابن سيرين لانه امكن حفظ المال بالامين، تعين ازالة يد الفاسق الخائن وقطع تصرفه، لان حفظ المال على اليتيم اولى من رعاية قول الموصى الفاسد.
واما العدل الذى يعجز عن النظر لعلة أو ضعف طرا، فان الحاكم يضم إليه امينا، ولا تزول يده عن المال ولا نظره ويكون الاول هو الوصي دون الثاني، وهذا معاون له، لان ولاية الحاكم انما تكون عند عدم الوصي، وهذا قول الشافعي وابى يوسف واحمد بن حنبل ولا اعلم لهم مخالفا.

(15/512)


اما إذا تغير حال الوصي بجنون أو كفر أو سفه أو فسق زالت ولايته وصار كانه لم يوص إليه، ويرجع الامر إلى الحاكم فيقيم امينا ناظرا الميت في امره وامر اولاده من بعده كما لو لم يخلف وصيا اما إذا تغيرت حالته بعد الوصية وقبل الموت ثم عاد فكان عند الموت جامعا لشروط الوصية صحت الوصية إليه.
لان الشروط موجودة حال العقد والموت فصحت الوصية كما لو لم تتغير حاله.
هذا وجه ووجه آخر تبطل لان كل حالة منها حالة للقبول والرد فاعتبرت الشروط فيها.
فاما ان زالت بعد الموت وانعزل ثم عاد فكمل الشروط لم تعد وصيته لانها زالت فلا تعود الا بعقد جديد.
إذا ثبت هذا فانه يجوز للرجل الوصية إلى اثنين.
فمتى اوصى اليهما مطلقا لم يجز لواحد منهما الانفراد بالتصرف، فان مات احدهما أو جن أو وجد منه ما يوجب عزله اقام الحاكم مقامه امينا، لان الموصى لم يرض بنظر هذا الباقي منهما وحده، فان اراد الحاكم رد الباقي منهما فوجهان: احدهما: لا يجوز.
والثانى: يجوز.
لان النظر لو كان له لموت الموصى عن غير وصية كان له رده إلى واحد كذلك ههنا، فيكون ناظرا بالوصية من الموصى والامانة من جهة الحاكم.
ولنا ان الموصى لم يرض بتصرف هذا وحده فوجب ضم غيره إليه، لان الوصية مقدمة على نظر الحاكم واجتهاده.
فان كانت الوصية بالاذن لكل واحد منهما ان يتصرف منفردا، فإذا مات
احدهما أو جن أو ارتد أو فسق جاز للاخر ان يتصرف ولا يقام مقام الاخر غيره لان تصرف الباقي منهما على حسب الاذن مستفاد منه، ولانه رضى بنظر كل واحد منهما وحده، فلا سبيل إلى اقامه بديل لمن بطل عقده.
وان تغيرت حالهما جميعا بموت أو غيره فهل للحاكم ان ينصب مكانهما واحدا؟ فيه وجهان احدهما له ذلك، لانه لما عدم الوصيان صار الامر إلى الحاكم بمنزلة ما لم يوص، ولو لم يوص لاكتفى بواحد، كذا ههنا، ويفارق ما إذا كان احدهما حيا لان الموصى بين انه لا يرضى بهذا وحده بخلاف ما إذا ماتا معا

(15/513)


والثانى: لا يجوز ان ينصب الا اثنين لان الموصى لم يرض بواحد فلم يقتنع به كما لو كان احدهما حيا فاما ان جعل لكل واحد منهما التصرف منفردا فمات احدهما أو خرج من الوصية لم يكن للحاكم ان يقيم مقامه امينا لان الباقي منهما له النظر بالوصية فلا حاجة إلى غيره، وان ماتا معا أو خرجا عن الوصية فللحاكم ان يقيم واحدا يتصرف، وان تغيرت حال احد الوصيين تغييرا لا يزيله عن الوصية كالعجز عنها لضعف أو علة ونحو ذلك، وكان لكل واحد منهما التصرف منفردا، فليس للحاكم ان يضم اليهما امينا، لان الباقي منهما يكفى، الا ان يكون الباقي منهما يعجز عن التصرف وحده لكثرة العمل ونحوه، فله ان يقيم امينا، وان كانا ممن ليس لاحدهما التصرف على الانفراد فعلى الحاكم ان يقيم مقام من ضعف منهما عنها امينا يتصرف معه على كل حال فيصيرون ثلاثة: الوصيان والامين معهما.
وليس لواحد منهم التصرف وحده (فرع)
قوله: ومن وصى إليه في شئ لم يصر وصيا في غيره الخ.
وهذا
صحيح لانه يجوز ان يوصى إلى رجل بشئ دون شئ، مثل ان يوصى إلى انسان بتفريق وصيته دون غيرها أو بقبض معاشه أو بقضاء ديونه، أو بالنظر في امر أطفاله فحسب، فلا يكون له غير ما جعل إليه ويجوز ان يوصى إلى انسان بقبض معاشه لصغره، وبآخر للانفاق عليهم من هذا المعاش، والى آخر بقضاء ديونه، والى آخر بالانفاق على أطفاله، فلا يكون لكل واحد منهم الا ما جعل له دون غيره، ومتى اوصى إليه بشئ لم يصر وصيا في غيره.
وبهذا قال الشافعي واحمد بن حنبل وقال أبو حنيفة: يصير وصيا في كل ما يملكه الوصي، لان هذه ولاية تنقل من الاب بموته، فلا تتبعض كولاية الجد ولنا انه استفاد التصرف بالاذن من جهة انسان، فكان مقصورا على ما اذن فيه كالوكيل.
وولاية الجد ممنوعة ثم ولاية الجد استفادها بقرابته وهى لاتتبعض والاذن يتبعض فافترقا.
وكذلك إذا اوصى له إلى زمن معين موصوف، كان إذا بلغ الصبى أو قدم

(15/514)


المسافر، أو معين كقوله إلى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة بعد الاف، وهو العام الذى نخط فيه هذا الشرح، فانه لا يجوز ان يتجاوزه لان الاذن موقت بالعام المذكور.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وللوصي ان يوكل فيما لم تجربه العادة ان يتولاه بنفسه كما قلنا في الوكيل، ولايجوز ان يوصى إلى غيره، لانه يتصرف بالاذن فلم يملك الوصية كالوكيل، فان قال اوصيت اليك: فان مت فقد اوصيت إلى فلان صح، لان عمر رضى الله عنه وصى إلى حفصة، فإذا ماتت فالى ذوى الراى من اهلها،
ووصت فاطمة رضى الله عنها إلى على كرم الله وجهه، فإذا مات فالى ابنيها، ولانه علق وصية التالى على شرط، فصار كما لو قال وصيت اليك شهرا ثم قال إلى فلان، فان اوصى إليه واذن له ان يوصى إلى من يرى فقد قال في الوصايا لا يجوز.
وقال في اختلاف العراقيين يجوز.
فمن اصحابنا من قال يجوز قولا واحدا لانه ملك الوصية والتصرف في المال، فإذا جاز ان ينقل التصرف في المال إلى الوصي جاز ان ينقل الوصية إليه، وما قال في الوصايا اراد إذا اطلق الوصية ومنهم من قال فيه قولان (احدهما) يجوز لما ذكرناه
(والثانى)
لا يجوز لانه يعقد الوصية عن الموصى في حال لا ولاية له فيه.
وان وصى إليه واذن له ان يوصى بعد موته إلى رجل بعينه ففيه وجهان (احدها) يجوز لانه قطع اجتهاده فيه بالتعيين
(والثانى)
انه كالمسالة الاولى لان علة المسالتين واحدة
(فصل)
ولا تتم الوصية إليه االا بالقبون لانه وصية فلا تتم الا باقبول كالوصيه له.
وفى وقت القبول وجهان (احدهما) يصح القبول في الحال لانه اذن له في التصرف فصح القلو في الحال كالوكالة
(والثانى)
لا يصح الا بعد الموت كالقبول في الوصية له.

(فصل)
وللموصى ان يعزل الوصي إذا شاء، وللوصي ان يعزل

(15/515)


نفسه متى شاء، لانه تصرف بالاذن فجاز لكل واحد منهم فسخه كالوكالة.

(فصل)
إذا بلغ الصبى واختلف هو والوصى في الفقه، فقال الوصي انفقت عليك، وقال الصبى لم تنفق على، فالقول قول الوصي لانه امين وتتعذر عليه إقامة البينة على النفقة، فإن اختلفا في قدر النفقة فقال: انفقت عليك في كل سنة مائة دينار.
وقال الصبى بل انفقت على خمسين دينارا، فان كان ما يدعيه
الوصي النفقة بالمعروف فالقول قوله لانه امين، وان كان اكثر من النفقة بالمعروف فعليه الضمان لانه فرط في الزيادة وان اختلفا في المدة فقال الوصي: انفقت عشر سنين، وقال الصبى خمس سنين، ففيه وجهان (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ القول قول الوصي، كما لو اختلفا في قد النفقة
(والثانى)
وهو قول اكثر اصحابنا ان القول قول الصبى، لانه اختلاف في مدة، الاصل عدمها
(فصل)
وان اختلفا في دفع المال إليه فادعى الوصي انه دفعه إليه وانكر الصبى، ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص ان القول قول الصبى لانه لم ياتمنه على حفظ المال فلم يقبل قوله عليه، كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودوع، والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها
(والثانى)
ان القول قول الوصي كما قلنا في النفقة.
(الشرح) الاحكام: إذا اوصى له في شئ لا يحسن القيام به بنفسه جاز له ان يوكل عنه من يتولاه، كان كان ما عهد إليه بالوصية فيه كثير الجوانب متعدد الجهات بحيث يحتاج الوصي إلى من يعينه على ادائه وكذلك لو كان العمل شاقا لا يقدر مثله على القيام به ويحتاج إلى شخص قوى يؤديه، أو كان اغلعمل يفتقر إلى مهارة أو فن خاص له دارسوه والمتخصصون فيه كالهندسة ونحوها جاز له

(15/516)


توكيل غيره ممن بمثل هذه الامور، وكذلك لو كان العمل سهلا ولكن من الاعمال التى يترفع الوصي في العادة عن مثلها لدناءتها جاز له أن يوكل من يقوم بها أما الوصية إلى غيره بغيره إذن من الموصى فانه لا يصح ذلك منه قولا واحدا.
أما إذا قال: أوصيت اليك ومن بعدك إلى فلان، فان ذلك جائز ولا كلام لما روينا عن عمر أنه وصى إلى حفصة، فإذا ماتت فالى ذوى الرأى من قومها، ولذا جاز أن وصى إلى من يخلفه بالتعيين كأوصيت إلى فلان فإذا مات فالاى فلان كما أوصيت فاطمة إلى على ومن بعده إلى ولديها السبطين رضى الله عنهما، كما يجوز ان يوصى إلى من يخلفه بالوصف كقول عمر: فالى ذوى الرأى من قومها، وتجرى هذه الوصية مجرى المعلق على شرط كالوصية إلى أجل معين أو موصوف على ما مضى في الفصل قبله.
أما إذا أوصى إليه ثم أذن له أن يوصى إلى من يرى أو إلى من يشاء، أو كل من أوصيت إليه فقد أوصيت إليه أو فهو وصى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الوصايا من الام: ولو أوصى رجل إلى رجل فمات الموصى إليه وأوصى بما أوصى به إلى رجل لم يكن وصى الوصي وصيا للميت الاول، لان الميت الاول لم يرض الموصى الآخر.
ولو قال: أوصيت إلى فلان فان حدث به حدث فقد أوصيت إلى من وصى إليه لم يجز ذلك لانه انما أوصى بمال غيره.
وقال في اختلاف العراقيين في نسخة السراج البلقينى باب الوصي من اختلاف العراقيين، وهى بعد وصية الامام الشافعي رضى الله عنه التى كتبها قبل موته قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أن رجلا أوصى إلى رجل فمات الموصى إليه فأوصى إلى آخر، فان أبا حنيفة كان يقول: هذا الاخر وصى الرجلين جميعا وبهذا يأخذ، وكذلك بلغنا عن ابراهيم، وكان ابن أبى ليلى يقول: هذا الآخر وصى الذى أوصى إليه، ولا يكون وصيا للاول الا أن يقول الثاني: قد أوصيت اليك في كل شئ، أو يذكر وصية الاخر.
فمن أصحابنا من قال بالجواز قولا واحدا لانه ملك الوصية والتصرف في المال

(15/517)


ورضى الموصى باجتهاده واجتهاد من يراه فصح كما لو وصى اليهما معا، وهذا قول أكثر أهل العلم، واليه ذهب أحمد وأصحابه.
وقالوا لانه مأذون له في الاذن في التصرف فجاز له أن يأذن لغيره كالوكيل إذا أمر بالتوكيل، وما قال الشافعي في الوصايا أراد إذا أطلق الوصية.
ومن أصحابنا من قال: فيه فولان.
أحدهما: يجوز لما أثبتناه، والثانى: لا يجوز لانه ليس له أن يوصى لانه بتوليه فلا يصح أن يولى فيما لا ولاية له فيه.
أما إذا وصى له وأذن له في أن يوصى إلى فلان بعده بعينه ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، لانه لم يترك له اعمال الوصع ولا بذل الجهد في تعيينه فقد أذن له أن يوصى إليه معينا باسمه فصح كما لو أوصى له ثم من بعده إلى فلان، والثانى: أنه كالمسأله قبلها لانه كان بوسعه أن يوصى إليه من بعده، ولكنه أذن له في الوصية فكأنه جعل الوصية من شأنه.
وجملة ذلك أنه لا يجوز للوصي أن يوصى إلى غيره، وهو قول الشافعي واسحاق وأحد قولى أحمد.
والظاهر من مذهب الخرقى من الحنابلة لقوله في ذلك في الوكيل لانه يتصرف بتوليه فلم يكن له التفويض كالوكيل.
وقال مالك وابو حنيفة والثوري وابو يوسف وأحمد في أحد قوليه له أن يوصى إلى غيره.
(فرع)
يصح قبول الوصية وردها في حياة الموصى، لانها اذن في التصرف فصح قبوله بعد العقد كالوكيل، وهى لا تتم الا بالقبول كالوصية له، والفرق بينهما أن الاولى اذن له في التصرف والثاينة تمليك في وقت فلم يصح القبول قبل الوقت، هذا وجه والوجه الاخر أنه يجوز تأخير القبول إلى ما بعد الموت لانها نوع وصية فصح قبولها بعد الموت كالوصية له، ومتى قبل صار وصيا وله عزل نفسه متى شاء مع القدرة والعجز في حياة الموصى، وبعد موته بمشهد منه وفى
غيبته، وبهذا قال الشافعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز له ذلك بعد الموت بحال ولا يجوز في حياته الا بحضرته: لانه غره بالتزام وصيته ومنعه بذلك الايصاء إلى غيره، وذكر ابن ابى موسى رواية عن أحمد: ليس له عزل نفسه بعد الموت لذلك، وهذا فاسد لانه متصرف باذن فكان له عزل

(15/518)


نفسه كلوكيل، فأما اختلاف الوصي والوصى فقد مضى كلامنا فيه في الحجر وفى الوكالة، وبعض صوره في الوديعة، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يلحق الميت مما يفعل عنه بعد موته بغير إذانه إلا دين يقضى عنه أو صدقة يتصدق بها عنه أو دعاء يدعى له، آفأما الدين فالدليل عليه ما روى أن إمرأة من خثعم (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحج عن أبيها فأذن لها، فقالت: أينفعه ذلك؟ قال نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه) وأما الصدقة فالدليل عليها ما روى ابن عباس (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمة توفيت أفينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال: فإن لى مخرفا فأشهدك أبى قد تصدقت به عنها) : وأما الدعاء فالدليل عليه قوله عز وجل (والذين جاؤا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) فأثنى الله عز وجل عليهم بالدعاء لاخوانهم من الموتى، واما ما سوى ذلك من القرب كقراءة القرآن وغيرها فلا يلحق الميت ثوابها.
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذا مات الانسان انقطع عنه عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو له) واختلف أصحابنا فيمن مات وعليه كفارة يمين فأعتق عنه، فمنهم من قال: لا يقع العتق عن الميت بل يكون للعتق لان
العتق غير متحتم على الميت لانه كان يجوز له تركه إلى غيره فلم يقع عنه، كما لو تطوع بالعتق عنه في غير الكفارة، ومنهم من قال: يقع عنه لانه لو أعتق في حياته سقط به الفرض، وبالله التوفيق.
(الشرح) حديث المرأة الخثعمية رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده عن ابن عباس، وأخرجه أحمد والترمذي وصححه والبيهقي من حديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وعن عبد الله بن الزبير قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إلَى رَسُولِ الله صلى لله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ

(15/519)


لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دين فقضيته عنه أكان يجزى ذلك عَنْهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاحْجُجْ عَنْهُ) رَوَاهُ أحمد ولنسائي بمعناه ؤ وقال الحافظ ابن حجر سناده صالح.
وعن ابن عباس أيضا أن امرأة من جهينة جاءت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إنَّ أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال نعم حجى عنها.
أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء.
رواه البخاري والنسائي بمعناه.
وعند أحمد ورواية أخرى للبخاري بنحو ذلك وفيها قال: جاء رجل فقال إن أختى نذرت أن تحج، وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره حيث لم يستفصله أوارث هو أم لا، وشبهه بالدين وروى الدارقطني عن ابن عباس أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن أبى مات وعليه حجة الاسلام أفأحج عنه؟ الحديث) أما حديث ابن عباس أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم قال: فإن لى مخرقا فأنا أشهدك أنى قد تصدقت به عنها) فقد رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي وقد
ورد اسم الرجل الذى سأل النبي صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري أنه سعد ابن عبادة، ويؤيد ذلك أن احمد والنسائي أخرجا حديثا عن الحسن عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال (يارسول الله إنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ نَعَمْ قلت: فأى الصدقة أفضل؟ قال سقى الماء، قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة) أما حديث (إذا مات ابن آدم) فقد رواه مسلم وأصحاب السنن مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
لفظ مسلم (إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له) أما قوله تعالى من سورة الحشر (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولا خواننا الذين سبقونا بالايمان) فقد روى عن سعد بن أبى وقاص قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان يعنى قوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذى أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون

(15/520)


الله ورسوله أولئك الصادقون، والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إلى قوله تعالى المفلحون) ثم قال: وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كاثنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التى بقيت، ثم قرأ: والذين جاءوا من بعدهم.
الآيه أما اللغات فقوله: فإن لى مخرفا.
في رواية مخراف، والمخرف والمخراف الحديقة من النخل أو العنب أما أحاديث الفصل فإنها تدل على ان الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل اليهما ثوابها فيخصص العام من قَوْله تَعَالَى (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سعى) اخبرنا الربيع بن سليمان قال حدثنا الشافعي إملاء قال: يلحق الميت من فعل غيره وعمله ثلاث: حج يؤدى عنه، ومال
يتصدق به عنه أو يقضى، ودعاء.
فأما ما سوى ذلك من صلاة أو صيام فهو لفاعله دون الميت، وانما قلنا بهذا دون ما سواه استدلالا بالسنة في الحج خاصة قياسا.
وذلك الواجب دون التطوع ولا يحج احد عن احد تطوعا لانه عمل على البدن.
فأما المال فإن الرجل يجب عليه فيما له الحق من الزكاة وغيرها فيجزيه ان يؤدى عنه بأمره لانه إنما اريد بالفرض فيه تأديته إلى اهله لا عمل البدن، فإذا عمل امرؤ عنى ما فرض من مالى فقد ادى الفرض عنى.
واما الدعاء فإن الله عز وجل ندب العباد إليه.
وامر رسوله صلى الله عليه وسلم به فإذا جاز ان يدعى للاخ حيا جاز ان يدعى له ميتا، ولحقه ان شاء الله تعالى بركة ذلك، مع ان الله عز ذكره واسع لان يوفى الحى اجره ويدخل على الميت منفعته.
وكذلك كلما تطوع رجل عن رجل صدقة تطوع اه وقال شيخنا النووي في كتاب الاذكار في باب ما ينفع الميت من قول وغيره اجمع العلماء على ان الدعاء للاموات ينفعهم ويصلهم ثوابه: واحتجوا بقول الله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم) الآيه وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها.
وفى الاحاديث المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد، وكقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لحينا وميتنا وغير ذلك.
واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي

(15/521)


وجماعة أنه لا يصل.
وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، والمختار أن يقول بعد القراءة: اللهم أوصل ثواب ما قرأته، والله أعلم اه وقال ابن النحوي في شرح المنهاج: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور.
والمختار الوصول إذا سأل الله أيصال ثواب قراءته، وينبغى الجزم به لانه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعى، فلان يجوز بما هو له أولى، ويبقى الامر فيه موقوفا على استجابة الدعاء، وهذا المعنى لا يخص بالقراء بل يجرى في سائر الاعمال، والظاهر أن الدعاء متفق عليه انه ينفع الميت والحى القريب والبعيد بوصية وغيرها.
وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضل الدعاء ان يدعو لاخيه بظهر الغيب وقد حكى النووي في شرح مسلم الاجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حكى أيضا الاجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصل ثوابها ولم يقيد ذلك بالولد.
وحكى الاجماع على لحوق قضاء الدين، والحق أنه يخصص عموم الاية بالصدقة من الولد كما في أحاديث الفصل وبالحج من الولد كما في حديث الخثعمية ومن غير الولد أيضا كما في حديث المحرم عن أخيه شبرمة.
وقد نشرت مطبعة الامام رسالة في هذا الموضوع مستوفاة اسمها (تفسير سورة يس) للسيد صديق حسن خان وجعلت في آخرها ما يتعلق بهذا الموضوع وهو يغنى عن التطويل هنا.
تم الجزء الخامس عشر ويليه الجزء السادس عشر وأوله كتاب العتق

(15/522)