المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله:

كتاب النكاح

النكاح جائز لقوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) ولما روى علقمة عن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فأنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) .
(الشرح) قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم مرتبط بأول الآية (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خقتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) .
قال الشافعي رضى الله عنه: أن لا يكثر عيالكم، فدل على أن قلة العيال أدنى وقيل: قد قال الشافعي ذلك وخالف جمهور المفسرين وقالوا: معنى الآية: ذلك أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا، فانه يقال: عال الرجل يعول عولا إذا مال وجار ومنه عول الفرائض، لان سهامها زادت: ويقال عال يعيل عيلة إذا احتاج.
قال تعالى ((وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) .
وقال الشاعر: وما يدرى الفقير متى غناه
* وما يدرى الغنى متى يعيل قال ابن القيم: وأما كثرة العيال فليس من هذا ولا من هذا أي لا من الفقر ولا من الجور قلت: إن ما ذكره الشافعي لغة حكاها الفراء عن الكسائي قال: ومن الصحابة من يقول: عال يعول إذا كثر عياله، قال الكسائي وهى لغة فصيحة سمعتها من العرب، على أن قصد المصنف من سوق الآية هو الاستشهاد بها على جواز النكاح، وسنعود إليه.
أما حديث علقمة عن عبد الله بن مسعود فقد رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده، وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن سعد بن أبى وقاص قال

(16/125)


((رد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أنس (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلى ولا أنام، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بال اقوام قالوا كذا وكذا، لكنى اصوم وافطر، واصلي وانام، واتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس منى) وفى مسند احمد وصحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال لى ابن عباس: هل تزوجت، قلت: لا، قال: تزوج فان خير هذه الامة اكثرها نساء.
وفى سنن الترمذي وابن ماجه عن قتادة عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَهَى عن التبتل) وقرأ قتادة (ولقد ارسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم ازواجا وذرية) قال الترمذي: إنه حسن غريب قال: وروى الاشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن سعد بن هشام عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقال: كلا الحديثين صحيح.
(قلت) وفى سماع الحسن من سمرة خلاف مشهور مضى في غير موضع، وحديث عائشة الذى ذكره الترمذي رواه النسائي ايضا، وفى مسند الفردوس عن ابن عمر مرفوعا (حجوا تستغنوا، وسافروا تصحوا، وتناكحوا تكثروا فانى اباهى بكم الامم) وفى إسناده محمد بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن البيلمانى وهما ضعيفان، ورواه البيهقى عن الشافعي انه ذكره بلاغا وزاد في آخره حتى بالسقط، ورواه البيهقى عن ابى امامة بلفظ (تزوجوا فانى مكاثر بكم الامم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى) وفى اسناده محمد بن ثابت وهو ضعيف، وعند الدارقطني في المؤتلف وابن قانع في الصحابة عن حرملة بن النعمان بلفظ (امرأة ولود احب إلى الله من امرأة حسناء لا تلد، انى مكاثر بكم الامم يوم القيامة) وقد ضعف اسناده ابن حجر، وعند ابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (النكاح من سنتى، فمن لم يعمل بسنتى فليس منى، وتزوجوا فانى مكاثر
بكم الامم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فان الصوم له وجاء) وفى اسناده عيسى بن ميمون وهو ضعيف.

(16/126)


وفى مسلم عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (الدنيا متاع وخير متاعها لمرأة الصالحة) وعند النسائي والطبراني بإسناد حسن عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عينى في الصلاة) وعند الترمذي والدارقطني والحاكم عن أبى هريرة مرفوعا (ثلاثة حق على الله إعانتهم، المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد أن يستعف، والمكاتب يريد الاداء) وعند الحاكم عن أنس بلفظ (من رزقة الله إمرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني) .
قال ابن حجر: وإسناده ضعيف وروى بلفظ (من تزوج إمرأة صالحة فقد أعطى نصف العبادة) وفى إسناده زيد العمى وهو ضعيف.
وعند أبى داود والحاكم عن ابن عباس مرفوعا بلفظ (ألا أخبركم بخير ما يكن المرء؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إذَا نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها اطاعته) وعند الترمذي نحوه بإسناد منقطع، وعند البغوي في معجم الصحابة بلفظ (من كان موسرا فلم ينكح فليس منا) ورواه البيهقى وقال: هو مرسل، وكذا جزم به أبو داود والدولابى.
وقد روى ابن ماجه والحاكم عن ابن عباس (لم ير المتحابين مثل التزويج) وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم وصححه والطبراني من رواية عطاء عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا (لا صرورة في الاسلام) ولا رواية لعطاء عن عكرمة ولعله من رواية عمرو بن عطاء بن وراز، وهو مجهول أو عمرو بن أبى الجوار، والصرورة الذى لم يتزوج والذى لم يحج، وعند الحاكم من حديث عياض بن
غنم مرفوعا (لا تزوجوا عاقرا ولا عجوزا فإنى مكاثر بكم الامم) وإسناده ضعيف وقد قال ابن حجر في الفتح: وفيه أيضا عن الصنابح بن الاعسر وسهل بن حنيف وحرملة بن النعمان ومعاوية بن حيدة.
أما لغات الفصل وغريبه، فإن الباءة بالد النكاح والتزوج وقد تطلق الباءة على الجماع نفسه، ويقال أيضا: الباهة والباه بالالف مع الهاء وابن قتيبة يجعل هذه الاخيرة تصحيفا وليس كذلك، بل حكاه الازهرى عن ابن الانباري،

(16/127)


وبعضهم يقول الهاء مبدلة من الهمزة يقال: فلان حريص على الباءة والباء والباه بالهاء والقصر أي على النكاح.
قال ابن الانباري: الباه الواحدة والباء الجمع ثم حكاها الازهرى عن ابن الاعرابي أيضا ويقال إن الباءة هو الموضع الذى تبوء إليه الابل ثم جعل عبادة عن المنزل ثم كنى به عن الجماع إما لانه لا يكون إلا في الباءة غالبا أو لان الرجل يتبوأ من أهله أي يستمكن كما يتبوأ من داره، وقوله عليه الصلاة والسلام (من استطاع منكم الباءة) على حذف مضاف والتقدير من وجد مؤنة النكاح فليتزوج ومن لم يستطع أي من لم يجد أهبة فعليه بالصوم، وقيل الباءة بالمد القدرة على مؤن النكاح وبالقصر الوطئ.
قال أبو العلاء المعرى.
والباء مثل الباء يخ
* - فض للدناءة أو يجر قال ابن حجر: ولا مانع من الحمل على المعنى الاعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطئ ومؤن التزويج، وقد وقع في رواية عند الاسماعيلي من طريق أبى عوانه بلفظ (من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج) وفى رواية للنسائي (من كان ذا طول فلينكح) وقوله (اغض للبصر وأحصن للفرج) أي أشد غضا للبصر وأشد
إحصانا ومنعا من الفاحشه، وقوله (فعليه) قيل هذا من إغراء الغائب، ولا تكاد العرب تغرى إلا الشاهد، تقول عليك زيدا، ولا تقول عليه زيدا.
قال الطيبى وجوابه أنه لما كان الضمير للغائب راجعا إلى لفظة من وهى عبارة عن المخاطبين في قوله (يا معشر الشباب) والشباب جمع شاب.
قال الازهرى لم يجمع فاعل على فعال غيره، وبيان لقوله (منكم) جاز قوله عليه لانه بمنزلة الخطاب، وأجاب القاضى عياض بأن الحديث ليس فيه اغراء الغائب، بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولا بقوله (من استطاع منكم) وقد استحسنه القرطبى والحافظ ابن حجر، وقوله: وجاء بكسر الواو والمد وأصله الغمز ومنه وجأ في عنقه أذا غمزه، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ أنثييه غمزهما حتى رضهما وتسمية الصيام وجاء استعارة، والعلاقه المشابهة،

(16/128)


لان الصوم لما كان مؤثرا في ضعف شهوة النكاح شبه بالصوم.
وقد يقال: إن الصوم بما فيه من عبادة في ذاته وفيما يلابسه من ترك لشهواته الحسية والمعنوية فإنه صارف عن مقارفة الشهوات أو التجانف للمآثم، وهو بما يحيط بالمرء من فيض نور الطاعة وقاية من الفحشاء أي وقاية.
(أما الاحكام) فان النكاح مشروع بالكتاب والسنة كما أوردنا من نصوصهما وقد اختلف الفقهاء في كونه واجبا أو جائزا فمذهبنا جوازه، وهو المشهور من مذهب أحمد بن حنبل رضى الله عنه إلا أن يخاف أحد على نفسه الوقوع في محظور بتركه فيلزمه إعفاف نفسه.
وحكى عن داود أنه واجب في العمر مرة واحدة للآية والخبر.
دليلنا أن الله تعالى حين أمر به علقه على الاستطابه بقوله (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) والواجب لا يقف على الاستطابة، وقال.
مثنى وثلاث ورباع.
ولا يجب ذلك
بحال بالاتفاق.
قالت عائشة رضى الله عنها كانت مناكح أهل الجاهلية على أربعة أقسام.
(أحدها) مناكح الرايات وهو أن المرأة كانت تنصب على بابها راية لتعرف أنها عاهرة، فيأتيها الناس.

(والثانى)
أن الرهط من القبيله أو الناحية كانوا يجتمعون على وطئ إمرأة لا يخالطهم غيرهم، فإذا جاءت بولد ألحق بأشبههم (الثالث) نكاح الاستخبار، وهو ان المرأة إذا ارادت ان يكون ولدها كريما بذلت نفسها لعدة من فحول القبائل ليكون ولدها كأحدهم (الرابع) النكاح الصحيح وهو الذى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه ولدت من نكاح لا سفاحا، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد قبل النبوة من عمها ورقة بن نوفل، وكان الذى خطبها له عمه ابو طالب وخطب فقال الحمد لله الذى جعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا وجعلنا سدنته، وهذا محمد قد علمتم مكانه من العقل والنبل، وان كان في المال قل، الا ان المال ظل زائل،

(16/129)


وعارية مسترجعة.
وما أردتم من المال فعلى، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك، فزوجها منه عمها.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا يصح النكاح إلا من جائز التصرف.
فأما الصبى والمجنون فلا يصح منهما عقد النكاح لانه عقد معاوضة فلم يصح من الصبى والمجنون كالبيع.
وأما المحجور عليه لسفه فلا يصح نكاحه بغير إذن الولى لانه عقد يستحق به المال فلم يصح منه من غير اذن الولى ويصح منه بإذن الولى لانه لا يأذن له إلا فيما يرى الحظ فيه.
وأما العبد فلا يصح نكاحه بغير إذن المولى لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (إذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل) ولانه بالنكاح تنقص قيمته ويستحق بالمهر والنفقة كسبه، وفى ذلك إضرار بالمولى فلم يجز من غير إذنه، ويصح منه باذن المولى لانه لما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه بغير إذنه دل على أنه يصح باذنه، ولان المنع لحق المولى فزال باذنه.

(فصل)
ومن جاز له النكاح وتاقت نفسه إليه وقدر على المهر والنفقة فالمستحب له أن يتزوج لحديث عبد الله، ولانه أحصن لفرجه وأسلم لدينه، ولا يجب ذلك لما روى ابراهيم بن ميسرة رضى الله عنه عن عبيد بن سعد يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ أحب فطرتي فليستن بسنتى، ومن سنتى النكاح) ولانه ابتغاء لذة تصبر النفس عنها فلم يجب كلبس الناعم وأكل الطيب، ومن لم تق نفسه إليه، فالمستحب له أن لا يتزوج لانه تتوجه عليه حقوق هو غنى عن التزامها ويحتاج أن يشتغل عن العبادة بسببها، وإذا تركه تخلى للعبادة فكان تركه أسلم لدينه.
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه.
قال الترمذي (لا يصح انما هو عن جابر، ورواية جابر عند أحمد وأبى داود والترمذي وحسنه بلفظ.
(أيما عبد تزوج بغير اذن سيده فهو عاهر) أما حديث عبيد بن سعد فأصح طرقه رواينا عائشة وأنس في الرهط الذين

(16/130)


جاءوا إلى البيت، وقد مضى تخريجه.
أما الاحكام فإنه لا يصح النكاح إلا من حر بالغ عاقل مطلق التصرف.
فأما العبد فلا يصح نكاحه بغير إذن السيد.
وأما الصبى والمجنون فلا يصح نكاحهما لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ.
وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق)
ولانه عقد معاوضة فلم يصح من الصبى والمجنون كالبيع.
وأما السفيه فلا يصح نكاحه بغير إذن الولى، لانه لا يأذن له إلا فيما فيه مصلحة من ذلك (فرع)
النكاح مستحب غير واجب عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ في المشهور من مذهبه وأكثر أهل العلم وقال داود بن على الظاهرى: هو واجب على الرجل والمرأة مرة في العمر دليلنا كما قلنا قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء فعلقه بالاستطابة وما كان واجبا لا يتعلق بالاستطابة.
وروى أبو أيوب الانصاري إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أربع من سنن المرسلين: الختان والتعطر والسواك والنكاح) وقوله (من أحب فطرتي) فعلقه على المحبة وسماه سنة، فإذا أطلقت السنة اقتضت المندوب إليه.
وروى أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رسول الله ما حق الزوج على المرأة؟ فبين لها ذلك، فقالت لا والله لا تزوجت أبدا، فلو كان النكاح واجبا لانكر عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، وروى أن جماعة من الصحابة ماتوا ولم يتزوجوا ولم ينكر عليهم إذا ثبت هذا فالناس في النكاح على أربعة أضرب: ضرب تتوق نفسه إليه، أي اشتاقت ويجد أهبته وهو المهر والنفقة وما يحتاج إليه، فيستحب له أن يتزوج لما رواه عبد الله بن مسعود حديث (يا معشر الشباب) والضرب الثاني: من تتوق نفسه إلى الجماع ولا يقدر على المهر والنفقة فالمستحب له أن لا يتزوج، بل يتعاهد نفسه بالصوم فإنه له وقاية.
ولا يشغل ذمته بالمهر والنفقة.
والضرب الثالث: من لا تتوق نفسه إلى الجماع ويريد التخلي إلى عبادة الله تعالى فيستحب له أن لا يتزوج، لانه يلزم ذمته حقوقا هو مستغن عن التزامها

(16/131)


والضرب الرابع، من لا تتوق نفسه وهو قادر على المهر والنفقة ولا يريد العبادة فهل يستحب له أن يتزوج؟ فيه قولان حكاهما العمرانى في الفروع،
(أحدهما)
لا يستحب له أن يتزوج لانه يشغل ذمته بما لا حاجة به إليه.

(والثانى)
يستحب له لقوله صلى الله عليه وسلم (من أحب فطرتي فليستن بسنتى، ومن سنتى النكاح.
وقال أبو حنيفة النكاح مستحب بكل حال، وبه قال بعض أصحابنا، بل قال أبو عوانة الاسفرايينى من محدثي أصحاب الشافعي (انه يجب للثائق إليه القادر على مؤنته) وصرح به في صحيحه، ونقله المصعبى في شرح مختصر الجوبنى وجها وقال ابن حزم في المحلى وفرض على كل قادر على الوطئ إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن لم يجد فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف.
انتهى.
وقال الماوردى من أصحابنا الذى نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به.
وقال القاضى عياض هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل، ولو لم يكن في الوطئ شهوة، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطئ.
فأما من لا نسل له ولا إرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت.
وقد يقال انه مندوب أيضا لعموم (لا رهبانيه في الاسلام) قال الحافظ بن حجر ولم أره بهذا اللفظ.
لكن في حديث سعد بن أبى وقاص عند الطبراني (إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفيه السمحه)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والمستحب أن لا يتزوج إلا ذات دين لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (تنكح المرأة لاربع، لمالها وحسبها وجمالها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) ولا يتزوج إلا ذات عقل، لان القصد بالنكاح العشرة وطيب العيش، ولا يكون ذلك الا مع ذات عقل، ولا يتزوج إلا من يستحسنها لما روى أبو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عن

(16/132)


رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال (إنما النساء لعب، فإذا اتخذ أحدكم لعبة فليستحسنها)
(فصل)
وإذا أراد نكاح امرأة فله أن ينظر وجهها وكفيها، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رجلا أراد أن يتزوج امرأة من نساء الانصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم (انظر إليها فإن أعين الانصار شيئا) ولا ينظر إلى ما سوى الوجه والكفين لانه عورة، ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه، لانه يعجبها من الرجل ما يعجب الرجل منها.
ولهذا قال عمر رضى الله عنه (لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم، فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن) ويجوز لكل واحد منهما أن ينظر إلى وجه الآخر عند المعاملة، لانه يحتاج إليه للمطالبة بحقوق العقد والرجوع بالعهدة.
ويجوز ذلك عند الشهادة للحاجة إلى معرفتها في التحمل والاداء.
ويجوز لمن اشترى جارية أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها للحاجة إلى معرفتها ويجوز للطبيب أن ينظر إلى الفرج للمداواة لانه موضع ضرورة فجاز له النظر إلى الفرج كالنظر في حال الختان.
وأما من غير حاجة فلا يجوز للاجنبي أن ينظر إلى الاجنبية، ولا للاجنبية أن تنظر إلى الأجنبي، لقوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم.
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)
وروت أم سملة رضى الله عنها قالت: كنت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده ميمونة، فأقبل ابن أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجبن عنه، فقلت (يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال أفعمياوان أنتما أليس تبصرانه؟) وروى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَ الفضل فاستقبلته جارية من خثعم فلوى عنق الفضل، فقال أبوه العباس: لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ؟ قَالَ رَأَيْتُ شَابًّا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما) ولا يجوز النظر إلى الامرد من غير حاجة لانه يخاف الافتتان به كما يخاف الافتتان بالمرأة

(16/133)


(فصل)
ويجوز لذوى المحارم النظر إلى ما فوق السرة ودون الركبة من ذوات المحارم لقوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الاربة من الرجال) ويجوز للرجل أن ينظر إلى ذلك من الرجل وللمرأة أن تنظر إلى ذلك من المرأة لانهم كذوى المحارم في تحريم النكاح على التأييد فكذلك في جواز النظر.
واختلف أصحابنا في مملوك المرأة، فمنهم من قال هو محرم لها في جواز النظر والخلوة، وهو المنصوص لقوله عز وجل (أو ما ملكت أيمانهن) فذكره مع ذوى المحارم في إباحة النظر.
وروى أنس رضى الله عنه قال (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة غلاما فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الغلام فتقنعت بثوب إذا قنعت رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك) ومنهم من قال ليس بمحرم، لان المحرم من يحرم على التأييد، وهذا لا يحرم على التأييد فلم يكن محرما، واختلفوا في المراهق مع الاجنبية، فمنهم من
قال هو كالبالغ في تحريم النظر لقوله تعالى (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) فدل على أنه لا يجوز لمن ظهر على عورات النساء، ولانه كالبالغ في الشهوة فكان كالبالغ في تحريم النظر.
ومن أصحابنا من قال يجوز له النظر إلى ما ينظر ذو محرم، وهو قول أبى عبد الله الزبيري لقوله عز وجل (وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا) فدل على أنهم إذا لم يبلغوا الحلم لم يستأذنوا،
(فصل)
ومن تزوج امرأة أو ملك جارية يملك وطأها فله أن ينظر منها إلى غير الفرج، وهل يجوز أن ينظر إلى الفرج؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (النظر إلى الفرج يورث الطمس)
(والثانى)
يجوز، وهو الصحيح، لانه يملك الاستمتاع به فجاز له النظر إليه كالفخذ وإن زوج أمته حرم عليه النظر إلى مابين السرة والركبة لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة والركبة)

(16/134)


(الشرح) حديث أبى هريرة رواه الشيخان وأحمد في مسنده وأصحاب السنن ما عدا الترمذي، وحديث أنس رواه أبو داود والبيهقي وابن مردويه وفى إسناده أبو جميع سالم بن دينار الهجيمى البصري، قال ابن معين ثقة، وقال أبو زرعة الرازي: بصرى لين الحديث.
وقوله (إذا قنعت) بفتح النون المشددة سترت وغطت.
وأما حديث النظر إلى الفرج يورث الطمس، فقد مضى في العبادات في ستر العورة وضعفه النووي وغيره، وكذلك حد العورة من الجارية مضى في ستر العورة فليراجع.
أما غريبه فقوله (لاربع) أي لاجل أربع، وقوله (لحسبها) بفتح الحاء والسين أي شرفها، والحسب في الاصل الشرف بالآباء وبالاقارب مأخوذ من
الحساب، لانهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها فيحكم فان زاد عدده على غيره، وقيل المراد بالحسب هنا الافعال الحسنة، وقيل المال، وهو مردود بذكره قبله، ويؤخذ من الحديث أن الشريف النسيب يستحب له أن يتزوج نسيبة، إلا ان تعارض نسيبة غير ذات دين، وغير نسيبة ذات دين، فتقدم ذات الدين، وهكذا كل الصفات وأما ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة رفعه (إن أحساب أهل الدنيا الذى يذهبون إليه المال) فقال ابن حجر: يحتمل أن يكون المراد أنه حسب من لا حسب له فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام المال لمن لا نسب له، ومنه حديث سمرة يرفعه (الحسب المال والكرم التقوى) أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم.
قوله (وجمالها) يؤخذ منه استحباب نكاح الجميلة، ويلحق بالجمال في الذات الجمال في الصفات، قوله (فاظفر بذات الدين) فيه دليل على أن اللائق بذى الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شئ لاسيما فيما تطول صحبته كالزوجه وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه والبزار والبيهقي يرفعه (لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لاموالهن فعسى أموالهن أن تطغبهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولامة سوداء ذات دين أفضل)

(16/135)


والحديث يكشف البشر وما استقر في طباعهم من قصد هذه الخصال الاربع وآخرها عندهم ذات الدين فاظفر أيها الحصيف بذات الدين تربت يداك أي لصقت بالتراب وهى كناية عن الفقر، وهو خبر بمعنى الدعاء، لكن لا يراد به حقيقته وبهذا جزم صاحب العمدة.
وحكى ابن العربي أن المعنى: استغنت يداك، ورد بأن المعروف أترب إذا استغنى، وترب إذا افتقر، وقيل: معناه ضعف عقلك، وقيل: افتقرت من العلم وقيل: فيه شرط مقدر أي وقع ذلك لك إن لم تفعل ورجحه ابن العربي.
وحديث إنما النساء لعب مضى تخريجه.
أما حديث أبى هريرة فقد رواه أحمد والنسائي، وأخرجه مسلم من حديث أبى حازم عنه ولفظه (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج إمرأة من الانصار فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الانصار شيئا) أما حديث أم سلمة فقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان وفى إسناده نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق، وقد روى مالك في موطئه عن عائشة أنها احتجبت من أعمى فقيل لها: إنه لا ينظر اليك قالت: لكنى أنظر إليه.
أما حديث على كرم الله وجهه فقد أخرجه الترمذي وصححه، ورواه البخاري من حديث عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه، وفيه قصة المرأة الخثعمية التى سألته صلى الله عليه وسلم عن أمها التى لم تحج، وقد مضى في كتاب الحج تفصيله وطرقه وفحواه.
أما الاحكام: فإنه يستحب له أن يتزوج ذات العقل، لان القصد بالنكاح طيب العيش معها ولا يحصل ذلك مع من لا عقل لها، ويستحب له أن يتزوج بكرا لما روى جابر قال: تزوجت إمرأة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتزوجت يا جابر؟ فقلت: نعم، فقال: بكرا أم ثيبا؟ فقلت له ثيبا، فقال هلا جارية بكرا تلاعبها وتلاعبك إلخ الحديث، ويستحب له أن لا يتزوج إلا من

(16/136)


يستحسنها لحديث (فإذا اتخذ أحدكم لعبة فليستحسنها) ويستحب له أن يتزوج ذات نسب لحديث تنكح المرأة الاربع ولقوله صلى الله عليه وسلم (تخيروا لطفكم) ولقوله صلى الله عليه وسلم (إياكم وخضراء الدمن، قيل وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) .
والاولى أن يتزوج من غير عشيرته لان الشافعي رضى الله عنه قال إذا تزوج الرجل من عشيرته فالغالب على ولده الحمق، ومن المقرر في علم الاجناس أن من أسباب انقراض الجنس حصره في أسرة واحدة فان ذلك يفضى بتدهور السلالات وضعف النسل، ويستحب له أن يتزوج الولود، لقوله صلى الله عليه وسلم (تناكحوا تكثروا) وقوله صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الولود الودود) وقوله صلى الله عليه وسلم (سوداء ولود خير من حسناء عقيم) ويستحب له أن يتزوج في شوال، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تزوجني رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شوال، وبنى بى في شوال، فكانت عائشة رضى الله عنها تستحب أن يبتنى بنسائها في شوال.
(فرع)
ويجوز للحر أن يجمع بين أربع زوجات حرائر، ولا يجوز له أن يجمع بين أكثر من أربع لقوله: مثنى وثلاث ورباع، قال الصيمري من أصحابنا إلا أن المستحب أن لا يزيد على واحدة لاسيما في زماننا هذا أي في زمان الصيمري وقال القاسم وشيعته (القاسمية) يجوز أن يجمع بين تسع ولا يجوز له أكثر من ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات عن تسع زوجات، ولان قوله تعالى (مثنى وثلاث ورباع فيكون المجموع تسعا.
وذهبت طائفة من الرافضة إلى أنه يتزوج أي عدد شاء.
دليلنا أن غيلان بن سلمة الثقفى أسلم وتحته عشر نسوة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امسك منهن أربعا وفارق سائرهن.
وروى عن نوفل بن معاوية قال: اسلمت
وتحتي خمس نسوة فقال لى النبي صلى الله عليه وسلم (امسك اربعا منهن وفارق واحدة منهن.
واما الآية فالمراد بها التخيير بين الاثنتين والثلاث والاربع، ولم يرد به الجمع، كقوله تعالى (اولى اجنحة مثنى وثلاث ورباع في صفة الملائكه

(16/137)


وتقول.
جاء في القوم مثنى وثلاث ورباع، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان مخصوصا بذلك، وما روى أن أحدا من الصحابة جمع بين أكثر من اربع زوجات.
(فرع)
وإذا أراد الرجل خطبة إمرأة جاز له النظر منها إلى ما ليس بعورة منها وهو وجهها وكفاها بإذنها وبغير اذنها ولا يجوز له أن ينظر إلى ما هو عورة منها وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وحكى عن مالك أنه لا يجوز له ذلك الا بإذنها.
وقال المزني: لا يجوز أن ينظر إلى شئ منها.
وقال داود بن على: يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها إلا إلى فرجها.
دليلنا على المزني حديث أبى هريرة مرفوعا (أنظر إليها فإن في أعين الانصار شيئا) .
وروى عن المغيرة بن شعبة قال: أردت أن أنكح إمرأة من الانصار فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (اذهب فانظر إليها فانه أحرى يؤدم بينكما قال فذهبت فأخبرت أباها بذلك، فذكر أبوها ذلك لها فرفعت الخدر فقالت: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذن لك أن تنظر فانظر، وإلا فإنى أخرج عليك ان كنت تؤمن بالله ورسوله.
وأما الدليل على داود فقوله تَعَالَى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ منها) قبل في التفسير: الوجه والكفان، وظاهر الاية يقتضى أنه لا يجوز للمرأة أن تبدى الا وجهها وكفيها.
وروى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ
تزويج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها، فدل على أنه لا يجوز له النظر إلى غير ذلك، ولان ذلك يدل على سائر بدنها.
إذا ثبت هذا: فله أن يكرر النظر إلى وجهها وكفيها، لما روى أبو الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: إذا قذف الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن يتأمل محاسن وجهها.
ولا يمكنه تأمل ذلك الا بأن يكرر إليها النظر.
قال الصيمري: فإذا نظر إليها ولم توافقه فالمستحب له أن يسكت ولا يقول

(16/138)


لا أريدها.
قال: وقد جرت عادة الرجال في وقتنا هذا أن يبعث بامرأة ثقة لتنظر إلى المرأة التى يريدون خطبتها، وهو خلاف السنة، وذلك في كتاب الافصاح.
(فرع)
قال الشيخ أبو إسحاق: ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه لانه يعجبها منه ما يعجبه منها، ولهذا قال عمر رضى الله عنه: لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم فانه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن وإذا أراد الرجل أن ينظر إلى امرأة اجنبية منه من غير سبب فلا يجوز له ذلك لا إلى العورة ولا إلى غير العورة لقوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم) ولحديث على في ارداف الرسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس خلفه في حجة الوداع في قصة الخثعمية.
وَرُوِيَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلى (يا على لا تتبع النظرة النظرة فانما لك الاولى وليست لك الآخرة) اخرجه احمد وابو داود والترمذي من حدث بريدة.
ولا يجوز للمرأة ان تنظر إلى الرجل الأجنبي لا إلى العورة ولا إلى غيرها من غير سبب، لقوله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) ولحديث دخول ابن ام مكتوم على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ام سلمة
وميمونة، وقيل عائشة وحفصة فأمرهما صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب، قائلا افعمياوان انتما، أليس تبصرانه، ولان المعنى الذى منع الرجل لاجله هو صرف الافتتان، وهذا موجود في المرأة لانها اسرع إلى الافتتان لغلبة شهوتها فحرم عليها ذلك.
(فرع)
ويجوز للرجل ان ينظر إلى وجه المرأة الاجنبية عند الشهادة وعند البيع منها والشراء، ويجوز لها ان تنظر إلى وجهه لذلك، لان هذا يحتاج إليه فجاز النظر لاجله، ويجوز لكل واحد منهما ان ينظر إلى بدن الآخر إذا كان طبيبا واراد مداواته لانه موضع ضرورة فزال تحريم النظر لذلك.
(فرع)
واختلف اصحابنا في الصبى المراهق مع المرأة الاجنبية، فمنهم من قال: هو كالرجل البالغ الأجنبي معها فلا يحل لها ان تبرز له لقوله تعالى: أو الطفل الذين لم يتطهروا على عورات النساء.
ومعناه لم يقووا على مواقعة النساء

(16/139)


والمراهق يقوى على المواقعة والجماع فهو كالبالغ، ومنهم من قال: هو معها كالبالغ من ذوى محارمها لقوله تَعَالَى (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) فأمر بالاستئذان إذا بلغوا الحلم: فدل على أنه قبل أن يبلغ الحلم يجوز دخولهم من غير استئذان.
ولا يجوز للرجل الخصئ أن ينظر إلى بدن المرأة الاجنبية.
قال ابن الصباغ: إلى أن يكبر ويهرم وتذهب منه شهوته، قال: وكذلك المخنث لقوله تعالى (أو التابعين غير أولى الاربة من الرجال) وروى أن مخنثا كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يعدونه من غير أولى الاربة.
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه هو ينعت امرأة لعبد الله بن أمية أخى أم سلمة يقول: يا عبد الله ان فتح الله
عليكم الطائف فإنى أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يدخلن هؤلاء عليكم.
رواه البخاري ومسلم وأخرجه أحمد في مسنده عن أم سلمة، ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث عائشة.
وقوله (تقبل بأربع) يعنى أربع عكن في مقدم بطنها، وقوله (تدبر بثمان) لان الاربع محيطة ببطنها وجنبيها فتبدو العكن من خلفها ثمان أربع من اليمين وأربع من اليسار.
وهذا هو تفسير مالك رضى الله عنه للحديث، وتابعه عليه جمهور العلماء في اللغة والحديث.
(فرع)
ويجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة من ذوات محارمه، وكذلك يجوز لها النظر إليه من غير سبب ولا ضرورة، لقوله تعالى (ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن) الآية وفى الموضع الذى يجوز له النظر إليها منها وجهان حكاهما المسعودي
(أحدهما)
وهو قول البغداديين من أصحابنا أنه يجوز له النظر إلى جميع بدنها الا ما بين السرة والركبة، لانه لا يحل له نكاحها بحال، فجاز له النظر إلى ذلك كالرجل مع الرجل.

(والثانى)
وهو اختيار القفال أنه يجوز له النظر إلى ما يبدو منها عند المهنه (1)
__________
(1) المهنه بفتح الميم بعدها هاء ساكنة ثم نون مفتوحه فهاء وهى الخدمة.

(16/140)


لانه لا ضرورة به إلى النظر إلى ما زاد على ذلك.
قال المسعودي: وهكذا الوجهان في النظر إلى أمة غيره.
ويجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن الرجل الا إلى ما بين السرة والركبة من غير سبب ولا ضرورة، لانه لا يخاف الافتتان بذلك (فرع)
إذا امتلكت المرأة خادما فهل يكون كالمحرم لها في جواز النظر والخلوة به؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يصير محرما لها، وقد مال في المهذب إلى
ذلك، وهو المنصوص لقوله تعالى (أو ما ملكت أيمانهن) فعده من ذوى المحارم وروت أُمِّ سَلَمَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذا كان مع احداكن مكاتب وفى فلتحتجب عنه) فلولا أن الاحتجاب لم يكن واجبا عليهن قبل ذلك لما أمرهن به.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى فاطمة رضى الله عنها غلاما فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليها ومعه على والغلام وليس عليها الا ثوب واحد، فأرادت أن تغطى رأسها به ورجليها فلم يبلغ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بأس عليك انما هو أبوك وزوجك وخادمك، ولان الملك سبب يحرم الزوجية بينهما فوجب أن يكون محرما له كالنسب والرضاع.
والثانى لا يكون محرما لها.
قال الشيخ ابو حامد وهو الصحيح عند أصحابنا لان الحرمة انما تثبت بين شخصين لم تخلق بينهما شهوه كالاخ والاخت.
والخادم وسيدته شخصان خلقت بينهما الشهوة فهو كالأجنبي.
وأما الآية فقال أهل التفسير، والمراد بها الا ما دون العبيد.
وأما الخبر فيحتمل أن يكون الغلام الَّذِي أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفاطمة صغيرا.
اه (فرع)
وإذا تزوج الرجل امرأة يحل له الاستمتاع بها كان لكل واحد منهما النظر إلى جميع بدن الآخر، لانه يملك الاستمتاع به، وهل يجوز له النظر إلى الفرج؟، فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه موضع يجوز الاستمتاع به فجاز له النظر إليه كالفخذ
(والثانى)
لا يجوز لما روى من ان النظر إلى الفرج يورث الطمس وهو العمى، قال تعالى (فطمسنا أعينهم) ولان فيه دناءة وسخفا.
وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، يعنى بالطمس العمى أي في النظر، وقال الطبري في العدة

(16/141)


أي أن الولد بينهما يولد أعمى.
وإذا زوج الرجل أمته كانت كذوات محارمه فلا
يجوز له أن ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة للحديث: إذا زوج أحدكم أمته فلا ينظر منها إلى مابين السرة والركبه، ولانه إذا زوجها فحكم الملك ثابت بينهما وإنما حرم عليه الاستمتاع بها فصارت كذوات محارمه.
(مسألة (1) قال الشافعي رضى الله عنه: ان الله عز وجل لما خص به رسوله صلى الله عليه وسلم من وحيه وأنابه بينه وبين خلقه بما فرضه عليهم من طاعته افترض عليه أشياء خففها على خلقه ليزيده بها إن شاء الله قربة، وأباح له أشياء حظرها على خلقه زيادة في كرامته وتبيينا لفضيلته.
وجملة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خص بأحكام في النكاح وغيره ولم يشاركه غيره فيها فأما ما خص به في غير النكاح فأوجب الله تعالى عليه أشياء لم يوجبها على غيره ليكون ذلك أكثر لثوابه، فأوجب عليه السواك والوتر والاضحية.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاث كتبهن الله على ولم تكتب عليكم: السواك والوتر والاضحية.
وكان يجب عليه إذا لبس لامة حربه أن لا ينزعها حتى يلقى العدو.
الدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ما كان لنبى إذا لبس لامته أن ينزعها حتى حكم الله بينه وبين عدوه وأما قيام الليل فمن أصحابنا من قال كان واجبا عليه إلى أن مات لقوله تعالى (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) الايه.
والمنصوص أنه كان واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) وبعض أهل العلم يرى أن الاية ليست ناسخه.
وأن قوله نافلة لك تجرى مجرى معناها اللغوى، أي زيادة خاصة بك وليست نافلة بمعناها الاصطلاحي أمن كونها دون الواجب.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى منكرا أنكره وأظهره، لان إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، وقد ضمن الله تعالى له النصر.
وحرم عليه أشياء لم يحرمها على
__________
(1) هو فصل محذوف من النسخة المطبوعة أورده العمرانى في كشف ما في
المهذب من الاشكال، وكم في النسخة المطبوعة من نقص استدركناه في فروعنا.

(16/142)


غيره تنزيها له وتطهيرا، فحرم على الكتابة وقول الشعر وتعليمه تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته: قال تبارك وتعالى (وما كنت تنلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون.
وذكر النقاش من أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما مات حتى كتب، والاول هو المشهور: وحرمت عليه الصدقة المفروضة قولا واحدا.
وفى صدقة التطوع قولان وقد مضى بيانه مفصلا في الزكاة وحرم عليه خائنة الاعين وهو الرمز بالعين، لما روى أن رجلا دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما خرج قال: هلا قتلتموه، فقالوا هلا رمزت الينا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما كان لنبى أن يكون له خائنة الاعين.
وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرت به إبل عست بأبوالها وأبعارها فغطى عينيه، فقيل له في ذلك، فقال قال الله تعالى (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) وأباح الله تعالى له أشياء لم يبحها لغيره تفضيلا له واختصاصا، منها انه أباح له الوصال في الصوم.
والدليل عليه أنه نهى عن الوصال، فقيل له يا رسول الله انك تواصل، فقال (انى لست مثلكم، انى أطعم وأسقى) وفى رواية (انى أبيت عند ربى فيطعمني ويسقيني) وأبيح له أربعة أخماس الغنيمة، وخمس الخمس من الفئ والغنيمة، وأبيح له أن يختار منها ما شاء، وأكرمه الله تعالى بأشياء منها أحل له الغنائم ولامته وكانت لا تحل لمن قبله من الانبياء.
ويزعم اليهود في توراتهم أن السبى والفئ والغنيمة حلال لهم بالحرب.
وفى التلمود كل اموال ودماء ونساء وأطفال غير اليهود مستباحه لليهود، وقالوا ليس
علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وجعلت له الارض مسجدا وطهورا ولامته وكان من قبله من الانبياء لا تصح صلاتهم إلا في المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم (فضلنا على الناس بثلاث، جعلت الارض لنا مسجدا وترابها طهورا وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكه وجعل له معجزات كمعجزات الانبياء قبله وزيادة، فكانت معجزة موسى العصا وانبجاس الماء من الصخرة.

(16/143)


وقد انشق القمر للنبى صلى الله عليه وسلم وخرج الماء من بين أصابعه وكانت معجزة عيسى إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص، وقد سبحت الحصى بيد النبي صلى الله عليه وسلم وحن الجذع إليه، وفضله الله تعالى عليهم بأن جعل القرآن معجزته وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا كانت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة، ونصر بالرعب مسيرة شهر، وبعث إلى الخلق كافة، وقد كان كل نبى يبعث في نسب قومه خاصة، وقال صلى الله عليه وسلم: تنام عيناى ولا ينام قلبى، وكان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، وأما ما خص بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الاحكام في النكاح فاختلف أصحابنا في المنع من الكلام فيه فحكى الصيمري أبا على بن خيران منع من الكلام فيه وفى الامامة لان ذلك قد انقضى فلا معنى للكلام فيه.
وقال سائر أصحابنا: لا بأس في الكلام بذلك وهو المشهور من المذهب لما فيه من زيادة العلم، وقد تكلم العلماء فيما لا يكون كما بسط الفرضيون مسائل الوصايا وقالوا: إذا ترك أربعمائة جدة وأكثر.
وإذا ثبت هذا فانه أبيح للنبى صلى الله عليه وسلم أن ينكح من النساء أي عدد شاء.
وحكى الطبري في العدة وجها آخر أنه لم يبح له أن يجمع بين أكثر من تسع
والاول هو المشهور، قال تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) قيل في التفسير: أن لا تجوروا في حقوقهن فحرم الزيادة على الاربع وندب إلى الاقتصار على واحدة خوفا من الجور وترك العدل، وهذا مأمون من النبي صلى الله عليه وسلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ثمانى عشرة امرأة، وقيل: بل خمسة عشر وجمع بين أربعة عشر، وقيل بل بين أحد عشر، ومات عن تسع هن عائشة بنت أبى بكر الصديق، وحفصة بنت عمر، وأم سلمه بنت أبى أمية، وأم حبيبة بنت أبى سفيان وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حي، وزينب بنت جحش، فهؤلاء ثمان نسوه كان يقسم لهن إلى أن مات صلى الله عليه وسلم والتاسعة سودة بنت زمعة كانت وهبت ليلتها لعائشة حتى قال له ربه تعالى

(16/144)


(لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن) ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى (يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك اللائى هاجرن معك) الاية.
قال الشافعي رضى الله عنه فمن ذلك أن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها وأمر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يخير نساءه فاخترته، ومن ذلك أن الله تعالى خيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا وبين أن يكون نبيا مسكينا فاختار المسكنة وهى أعلى المنزلتين ومن ثم أمره الله تعالى أن يخير زوجاته فربما كان فيهن من تكره المقام على الشدة تنزيها له، ومما خص به النبي صلى الله عليه وسلم أن جعل أزواجه أمهات المؤمنين.
قال الشافعي.
معنى قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم) في معنى دون معنى وأراد به أن أزواجه اللاتى مات عنهن لا يحل لاحد نكاحهن ومن استحل ذلك كان كافرا.
أما إذا تزوجها ولم يدخل بها ثم فارقها كالكلبيه التى قالت أعوذ بالله منك.
فقال لها لقد استعذت بمعاذ الحقى بأهلك، فقيل انه تزوجها عكرمة بن أبى جهل في خلافة الصديق أو خلافة عمر فهم برجمها، فقيل له انه لم يدخل بها فخلى عنها وقيل ان الذى تزوج منها الاشعث بن قيس الكندى.
وقال القاضى أبو الطيب الذى تزوجها المهاجر ابن أبى أميه ولم ينكر أحد ذلك فدل على انه اجماع، ومما خص به النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ فضل زوجاته على نساء العالمين.
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن، وقوله (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينه يضاعف لها العذاب ضعفين) إلى قوله تعالى (وتعمل صالحا نؤتها اجرها مرتين) فجعل حدهن مثل حد غيرهن لكمالهن وفضيلتهن كما جعل حد الحر مثلى حد العبد وكذلك حسناتهن مضاعفه لهن تفضيلا لهن وتشريفا، وقد قال الشافعي في كتاب احكام القرآن الذى رواه عنه البيهقى، وابان من فضله من المباينه بينه وبين خلقه فرض عليهم طاعته في غير آية من كتابه، وافترض عليه اشياء خففها عن خلقه، قال العمرانى وهذا أوضح معنى مما نقله المزني وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(16/145)