المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الظهار

الظهار محرم لقوله عز وجل " الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " ويصح ذلك من كل زوج مكلف لقوله عز وجل " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " ولانه قول يختص به النكاح فصح من كل زوج
مكلف كالطلاق، ولا يصح من السيد في أمته لقوله عز وجل " والذين يظاهرون من نسائهم " فخص به الازواج، لان الظهار كان طلاقا في النساء في الجاهلية فنسخ حكمه وبقى محله (الشرح) الظهار مشتق من الظهر، وكل مركوب يقال له ظهر.
قال ابن قتيبة: وانما خصوا الظهر بالتحريم دون سائر الاعضاء لانه موضع الركوب والمرأة مركوبة إذا غشيت، فكأنه أراد بقوله.
أنت على كظهر أمي، ركوبك للنكاح على حرام كركوب أمي للنكاح، وهو استعارة وكناية عن الجماع.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف " يظاهرون " بفتح الياء وتشديد الظاء وألف وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب " يظهرون " بحذف الالف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء، وقرأ أبو العالية وعاصم وزيد بن حبيش " يظاهرون " بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وهاء مكسورة.
وفى قراءة أبى " يتظاهرون " وهى معنى قراءة ابن عامر وحمزة قال القرطبى: وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب.
والآدمية إنما يركب بطنها، ولكن كنى عنه بالظهر عن الركوب اه قلت: وقد علم الله من أمر الناس وأجناسهم وألوانهم وعاداتهم وتقاليدهم ما هو أعم في مفهومه، وأشمل في مضمونه، فلا يخلو أن تكون عادة بعض القبائل العربية أو كانت العرب كلها في زمن سابق يأتون النساء بهذه الطريقة.
يدل على ذلك قوله تعالى " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " فهذا الحوار

(17/341)


حول هذه الطريقة يدل على شيوعها وانتشارها، وفى عصرنا هذا عرفنا أن أمم الارض في أوربا وأمريكا وأكثر شعوب أسيا وأفريقيا يركبون ظهور النساء عند إتيانهن.
ومعنى أنت محرمة لا يحل لى ركوبك، وحقيقة الظهار تشبيه ظهر
بظهر، والموجب للحكم منه هو تشبيه ظهر محلل بظهر محرم قال الشافعي رضى الله عنه: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يذكر أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بثلاثة: الظهار والايلاء والطلاق، فأقر الله تعالى الطلاق طلاقا، وحكم في الايلاء بأن أمهل المولى أربعة أشهر ثم جعل عليه أن يفئ أو يطلق، وحكم في الظهار بالكفارة، فإذا تظاهر الرجل من امرأته قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها فهو متظاهر، وإذا طلقها فكان لا يملك رجعتها في العدة ثم تظاهر منها لم يلزمه الظهار.
ثم قال: وإذا تظاهر من أمته أم ولد كانت أو غير أم ولد لم يلزمه الظهار، لان الله عز وجل يقول " والذين يظاهرون من نسائهم " وليست من نسائه، فلو آلى من أمته لم يلزمه الايلاء.
وكذلك قال " والذين يرمون أزواجهم " وليست من الازواج فلو رماها لم يلتعن، لانا عقلنا عن الله عز وجل أنها ليست من نسائنا، وإنما نساؤنا أزواجنا، ولو جاز أن يلزم واحدا من هذه الاحكام لزمها كلها لان ذكر الله عز وجل لها واحد.
اه فكل زوج يجوز طلاقه يجوز ظهاره.
ومنه الذمي خلافا لابي حنيفة ومالك وهذا مبنى على أصل عندهم أن أنكحة الكفار فاسدة الاصل فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وقد استدلوا بقوله تعالى " منكم " يعنى من المسلمين، وهذا يقتضى خروج الذمي من الخطاب، وقد اعترضنا عليهم بأن هذا استدلال بدليل الخطاب، وليس حجة في إخراج الذمي قال أبو حنيفة ومالك: لا تصح منه الكفارة التى هي رافعة للحرمة فلا يصح منه التحريم.
ودليل أن الكفارة لا تصح منه أنها عبادة تفتقر إلى النية فلا تصح منه كسائر العبادات.
وهذا غير صحيح، لان من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم وبهذا قال أحمد وأصحابه كافة.
فأما ما ذكره المالكية والحنفية فيبطل بكفارة
الصيد إذا قتله في الحرم، وكذلك الحد يقام عليه، ولا نسلم أن التكفير لا يصح

(17/342)


منه، فإنه يصح منه العتق والاطعام، وإنما لا يصح منه الصوم، فلا تمتنع صحة الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة كما في حق العبد.
والنية معتبرة في تعيين الفعل للكفارة فلا يمتنع ذلك في حق الذمي، كالنية في كنايات الطلاق.
والظهار يلزم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها من زوج يجوز طلاقه، وعند مالك: ومن يجوز له وطؤها من إمائه إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد " لا يلزمه قال القاضى أبو بكر بن العربي.
وهى مسألة عسيرة جدا علينا، لان مالكا يقول إذا قال لامته: أنت على حرام لا يلزم، فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته.
ثم قال: ولكن تدخل الامة في عموم قوله: من نسائهم.
وقال عطاء: عليه نصف كفارة حرة، لان الامة على النصف من الحرة، وليس عليه دليل، والصحيح أنه ليس بظهار.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال أنت على كظهر أمي فهو ظهار، وإن قال أنت على كظهر جدتى فهو ظهار، لان الجدة من الامهات، ولانها كالام في التحريم، وان قال أنت على كظهر أبى لم يكن ظهارا، لانه ليس بمحل الاستمتاع فلم يصر بالتشبيه به مظاهرا كالبهيمة.
وان قال أنت على كظهر أختى أو عمتى ففيه قولان: قال في القديم ليس بظهار، لان الله تعالى نص على الامهات وهن الاصل في التحريم وغيرهن فرع لهن ودونهن، فلم يلحقن بهن في الظهار وقال في الجديد: هو ظهار، وهو الصحيح، لانها محرمة بالقرابة على التأبيد
فأشبهت الام، وان شبهها بمحرمة من غير ذوات المحارم نظرت، فإن كانت امرأة حلت له ثم حرمت عليه كالملاعنة والام من الرضاع وحليلة الاب عبد ولادته، أو محرمة تحل له في الثاني، كأخت زوجته وخالتها وعمتها.
لم يكن ظهارا لانهن دون الام في التحريم، وان لم تحل له قط، ولا تحل له في الثاني كحليلة الاب قبل ولادته، فعلى القولين في ذوات المحارم

(17/343)


(الشرح) في هذا الفصل أمور (أحدها) أنه إذا قال لزوجته: أنت على كظهر أمي فهو ظهار، لانه شبه امرأته بمن تحرم عليه على التأبيد، وهذا التشبيه بظهر أمه يعد ظهارا بالاجماع.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أن تصريح الظهار أن يقول: أنت على كظهر أمي (ثانيها) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه من ذوى رحمه، فإن شبهها بجدته فهو ظهار صريح عند الشافعي قولا واحدا، وبه قال أحمد ومالك وأصحاب الرأى وغيرهم، وان شبهها بظهر أخته أو عمته أو خالته كان ظهارا في قوله الجديد، وفى قول أكثر اهل العلم منهم الحسن وعطاء وجابر وزيد الشعبى والنخعي والزهرى والثوري والاوزاعي ومالك واسحاق وابو عبيد وابو ثور واحمد، وقال الشافعي في القديم لا يكون الظهار الا بأم أو جدة لانها أم أيضا لان اللفظ الذى ورد به القرآن مختص بالام، فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى فيه.
ولنا أنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الام، وحصول الزور المنكر واقع وموجود في مسألتنا فجرى مجراه، وتعليق الحكم بالام لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها إذا كانت مثلها.
(ثالثها) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الاقارب، كالامهات المرضعات والاخوات من الرضاعة وحلائل الآباء والابناء وأمهات النساء، فقد قال الربيع بن سليمان في الام: فإن قال أنت على كظهر أجنبية لم يكن مظاهرا من قبل أن الاجنبية - وان كانت في هذا الوقت محرمة - فهى تحل له لو تزوجها والام لم تكن حلالا له قط ولا تكون حلالا أبدا فأن قال أنت على كظهر أختى من الرضاعة - فإن كانت قد ولدت قبل أن ترضعه أمها فقد كانت قبل أن يكون الرضاع حلالا له ولا يكون مظاهرا بها، وليست مثل الاخت من النسب التى لم تكن حلالا قط له، وهذه قد كانت حلالا له قبل أن ترضعه أمها، فإن كانت أمها قد أرضعته قبل ان تلدها فهذه لم تكن قط حلالا له في حين، لانها ولدتها بعد أن صار ابنها من الرضاعة، وكذلك امرأة أبيه، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت على كظهر امرأة ابى - فإن كان ابوه قد

(17/344)


قد تزوجها قبل ان يولد فهو مظاهر من قبل اتها لم تكن له حلالا قط، ولم يولد إلا وهى حرام عليه، وان كان قد ولد قبل ان يتزوجها ابوه فقد كانت في حين حلالا له فلا يكون بهذا متظاهرا قال الشافعي رحمه الله: وإن قال انت على كظهر امرأة ابى أو امرأة ابني أو امرأة رجل سماه أو امرأة لاعنها أو امرأة طلقها ثلاثا لم يكن ظهارا من قبل ان هؤلاء قد كن وهن يحللن له اه وقال احمد واصحابه في الامهات المرضعات والاخوات من الرضاعة وحلائل الآباء والابناء وامهات النساء انه ظهار في كل اولئك ولم يفرق، اما إذا شبهها بظهر من تحرم عليه تحريما موقتا كأخت امرأته وعمتها أو الاجنبية فإنه ليس بظهار قولا واحدا، وعند احمد روايتان - إحداهما انه ظهار - وهو اختيار الخرقى وقول اصحاب مالك، ووجه كونه ليس ظهارا إنها غير محرمة على التأبيد فلا يكون التشبيه بها ظهارا كالحائض والمحرمة من نسائه، ووجه كونه ظهارا عند القائلين به انه شبهها بمحرمة فأشبه ما لو شبهها بالام، ولان مجرد قوله انت على حرام ظهار إذا نوى به الظهار، والتشبيه بالمحرمة تحريم فصار ظهارا
(فرع)
وإن شبهها بظهر ابيه أو بظهر غيره من الرجال أو قال: انت على كظهر البهيمة، أو انت على كالميتة، فليس بظهار قولا واحدا، وفى ذلك كله عند احمد بن حنبل روايتان، إحداهما ظهار قال الميمونى: قلت لاحمد: ان ظاهر من ظهر الرجل؟ قال فظهر الرجل حرام يكون ظهارا، وبهذا قال ابن القاسم صاحب مالك فيما إذا قال: انت على كظهر ابى وروى ذلك عن جابر بن زيد، والثانية ليس بظهار، وهو قول اكثر العلماء لانه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع، اشبه ما لو قال: انت على كمال زيد وهل فيه كفارة؟ ليس فيه كفارة عندنا وجها واحدا، لان الكفارة لا تكون إلا من ظهار وهو لم يظاهر، وعلى روايتين عند احمد، إحداهما فيه كفارة لانه نوع تحريم، فأشبه ما لو حرم ماله، والثانية ليس فيه شئ نقل ابن القاسم عن احمد فيمن شبه امرأته بظهر الرجل لا يكون ظهارا ولم أره يلزمه فيه شئ وذلك لانه تشبيه لامرأته بما ليس بمحل للاستمتاع اشبه

(17/345)


أشبه التشبيه بمال غيره، وقد مر في كتاب الطلاق حكم من قال لامرأته أنت على كالميتة والدم إن نوى به الطلاق أو نوى به الظهار، وفيه وجهان، أحدهما ظهار وهو إحدى الروايتين عن احمد.
والثانى هو يمين، وهو الرواية الاخرى لاحمد قال ابن قدامة: ولم يتحقق عندي معين الظهار واليمين قال القرطبى من المالكية: إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الاول، وإن لم يذكر الظهر - فاختلف فيه علماؤنا - فمنهم من قال
يكون ظهارا، ومنهم من قال يكون طلاقا.
وقال ابو حنيفة والشافعي لا يكون شيئا.
انتهى.
ثم نقل قول ابن العربي في انه تشبيه محلل بمحرم فكان مقيدا بحكمه بالظهر، لان الاسماء بمعانيها عندهم، وعند الشافعية والحنفية بألفاظها، على ان الخلاف في الظهار بالاجنبية قوى عند المالكية، فمنهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن، ومنهم من لا يجعله شيئا، ومنهم من يجعله في الاجنبية طلاقا، وهو عند مالك إذا قال كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر اجنبية ظهار، ولا يحل له وطؤها في حين يمينه، وقد روى عنه أيضا ان الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشئ كما قال ابو حنيفة والشافعي، وقال الاوزاعي لو قال انت على كظهر فلان فهو يمين يكفرها
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن قال انت عندي أو انت منى أو انت معى كظهر أمي فهو ظهار لانه يفيد ما يفيد قوله انت على كظهر امى، وان شببهها بعضو من اعضاء الام غير الظهر بأن قال انت على كفرج امى أو كيدها أو كرأسها فالمنصوص انه ظهار ومن اصحابنا من جعلها على قولين قياسا على من شبهها بذات رحم محرم منه غير الام، والصحيح انه ظهار قولا واحدا لان غير الظهر كالظهر في التحريم وغير الام دون الام في التحريم وان قال انت على كبدن امى فهو ظهار لانه يدخل الظهر فيه، وان قال انت على كروح أمي ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) انه ظهار لانه يعبر به عن الجملة

(17/346)


(والثانى)
أنه كناية لانه يحتمل أنها كالروح في الكرامة فلم يكن ظهارا من غير نية (والثالث) وهو قول على بن ابى هريرة أنه ليس بصريح ولا كناية، لان
الروح ليس من الاعيان التى يقع بها التشبيه.
وإن شبه عضوا من زوجته بظهر أمه بأن قال رأسك أو يدك على كظهر أمي فهو ظهار، لانه قول يوجب تحريم الزوجة، فجاز تعليقه على يدها ورأسها كالطلاق، وعلى قول ذلك القائل يجب أن يكون ههنا قول آخر انه ليس بظهار.

(فصل)
وإن قال أنت على كأمى أو مثل امى لم يكن ظهارا إلا بالنية، لانه يحتمل أنها كالام في التحريم أو في الكرامة فلم يجعل ظهارا من غير نية كالكنايات في الطلاق.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه والظهار أن يقول الرجل لامرأته: انت على كظهر أمي، فإذا قال لها: أنت منى كظهر أمي أو انت معى أو ما أشبه هذا كظهر أمي فهو ظهار، وكذلك لو قال لها فرجك أو رأسك أو بدنك أو ظهرك أو جلدك أو يدك أو رجلك على كظهر امى كان ظهارا، وكذلك لو قال انت أو بدنك على كظهر امى أو كبدن امى أو كرأس امى أو كيدها أو كرجلها كان هذا ظهارا، لان التلذذ بكل أمه محرم عليه كتحريم التلذذ بظهرها اه وجملة ذلك انه إذا قال انت عندي أو منى أو معى كظهر أمي كان ظهارا بمنزلة على، لان هذه الالفاظ في معناه.
وإن قال جملتك أو بدنك أو جسمك أو ذاتك أو كلك على كظهر أمي لانه أشار إليها فهو كقوله انت.
وإن قال انت كظهر امى كان ظهارا لانه أتى بما يقتضى تحريمها عليه فانصرف الحكم إليه، كما لو قال انت طالق وذهب بعض أصحابنا إلى جعلها على قولين، احدهما هذا، والثانى ليس بظهار لانه فيه ما يدل على ان ذلك في حقه قياسا على على من شبهها بذات رحم محرم منه غير الام، وليس بصحيح وإن قال انت على كروح أمي ففيه ثلاثة أوجه ذكرها المصنف، ويمكن ان
نلحق بالروح قوله أنت على كأمى أو مثل أمي، فإنه إذا نوى به الظهار فهو ظهار

(17/347)


في قول عامة العلماء منهم ابو حنيفة وصاحباه والشافعي وإسحاق وأحمد بن حنبل وإن نوى به الكرامة والمعزة والتوقير، أو انها مثلها في الكبر أو الصفة فليس بظهار والقول قوله في نيته وقال ابو بكر من الحنابلة إن أطلق فهو صريح في الظهار، وهذا أحد الوجوه الثلاثة في الروح عندنا، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن.
وقال ابن ابى موسى فيه روايتان عن احمد اظهرهما انه ليس بظهار حتى ينويه، وهذا قول ابى حنيفة والشافعي، لان هذا اللفظ يستعمل في الكرامة فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق.
ووجه الاول انه شبه امرأته بجملة أمه فكان مشبها لها بظهرها فيثبت الظهار كما لو شبهها به منفردا.
والذى يصح عندي انه إن وجدت قرينة تلد على الظهار مثل ان يخرجه مخرج الحلف، كقوله إن فعلت كذا فأنت على كروح أمي، أو قال ذلك حال الخصومة والغضب فهو ظهار، لانه إذا خرج مخرج الحلف فالحلف يراد للامتناع من شئ أو الحث عليه، وإنما يحصل ذلك بتحريمها عليه، ولان كونها مثل أمه في صلتها أو كرامتها لا يتعلق على شرط فيدل على انه إنما أراد الظهار، ووقوع ذلك في حال الخصومة والغضب دليل على انه أراد به ما يتعلق بأذاها ويوجب اجتنابها وهو الظهار.
وإن عدم هذا فليس بظهار لانه محتمل لغير الظهار احتمالا كثيرا.
فلا يتعين الظهار فيه بغير دليل وأما قوله: أنت على كأمى فلنرجع إلى نيته، فإن قال نويت ظهارا كان ظهارا وإن قال نويت شيئا آخر فالقول قوله، وقال ابو ثور: لو قال انت على كأمى أو قال انت امى أو امرأتي امى مع الدليل الصارف له إلى الظهار كان ظهارا، إما
بنية أو ما يقوم مقامها وإن قال امى امرأتي أو مثل امرأتي لم يكن ظهارا لانه تشبيه لامه ووصف لها وليس بوصف لامرأته، قال الشافعي وإذا قال الرجل لامرأته انت على أو عندي كأمى أو انت مثل امى أو انت عدل امى واراد في الكرامة فلا ظهار، وإن اراد ظهارا فهو ظهار

(17/348)


قال المصنف رحمه الله تعالى

وإن قال انت طالق ونوى به الظهار لم يكن ظهارا، وان قال انت على كظهر امى ونوى به الطلاق لم يكن طلاقا، لان كل واحد منهما صريح في موجبه في الزوجية فلا ينصرف عن موجبه بالنية، وإن قال أنت طالق كظهر أمي ولم ينو شيئا وقع الطلاق بقوله انت طالق ويلغى قوله كظهر امى، لانه ليس معه ما يصير به ظهارا وهو قوله انت على أو من أو معى أو عندي، فيصير كما لو قال ابتداء كظهر أمي.
وان قال اردت انت طالق طلاقا يحرم كما يحرم الظهار وقع الطلاق وكان قوله كظهر امى تأكيدا وإن قال اردت انت طالق وانت على كظهر امى، فإن كان الطلاق رجعيا صار مطلقا ومظاهرا، وإن كانت بائنا وقع الطلاق ولم يصح الظهار، لان الظهار يلحق الرجعية ولا يلحق البائن وإن قال انت على حرام كظهر امى ولم ينوى شيئا فهو ظهار، لانه اتى بصريحه وأكده بلفظ التحريم، وإن نوى به الطلاق فقد روى الربيع انه طلاق، وروى في بعض فسخ المزني انه ظهار، وبه قال بعض اصحابنا، لان ذكر الظهار قرينة ظاهرة ونية الطلاق قرينة خفية، فقدمت القرينة الظاهرة على القرينة الخفية والصحيح أنه طلاق
وأما الظهار فهو غلط وقع في بعض النسخ، لان التحريم كناية في الطلاق، والكناية مع النية الصريح، فصار كما لو قال انت طالق كظهر امى، وإن قال أردت الطلاق - والظهار فإن كان الطلاق رجعيا - صار مطلقا ومظاهرا، وإن كان الطلاق بائنا صح الطلاق ولم يصح الظهار لما ذكرناه فيما تقدم، وعلى مذهب ذلك القائل هو مظاهر، لان القرينة الظاهرة مقدمة، وان قال اردت تحريم عنيها وجبت كفارة يمين وعلى قول ذلك القائل هو مظاهر
(الشرح) الاحكام: إذا طلق يريد ظهارا كان طلاقا، وإن ظاهر يريد طلاقا كان ظهارا لان كل لفظ منهما صريح في موجبه، أما إذا خلط في عبارته بينهما فقال انت طالق كظهر امى، ولم ينو شيئا منهما وقع الطلاق وسقط الظهار

(17/349)


لانه أتى بصريح الطلاق أولا وجعل قوله كظهر امى صفة له، ولانه لم يصنف الظهار إلى نفسه بحرف من حروف الظهار، كقوله على أو منى أو معى أو عندي لانه لو قال ابتداء كظهر امى فإنه ليس ظهارا لافتقاره إلى ضميره المجرور المتعلق به صريح الظهار لكونه اطلق اللفظ بغير متعلقه، فإن نوى بقوله كظهر امى تأكيد الطلاق لم يكن ظهارا كما لو اطلق، وان نوى به الظهار وكان الطلاق بائنا فهو كالظهار من الاجنبية لانه اتى به بعد بينونتها بالطلاق، وإن كان رجعيا كان ظهارا صحيحا، لان الظهار يلحق الرجعية ولا يلحق البينونة، هذا مذهبنا وبه قال احمد وأصحابه.
قال ابن قدامة لانه اتى بلفظ الظهار فيمن هي زوجة اه وإن قال أنت على كظهر امى طالق وقع الظهار والطلاق معا، سواء كان الطلاق بائنا أو رجعيا لان الظهار سبق الطلاق قال الشافعي في الام: وإذا قال انت على كظهر امى يريد طلاقا واحدا أو ثلاثا أو طلاقا بلا نية عدد لم يكن طلاقا لما وصفت من حكم الله عز وجل في
الظهار وان بينا في حكم الله تعالى ان ليس الظهار اسم الطلاق ولا ما يشبه الطلاق مما ليس لله تبارك وتعالى فيه نص ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان خارجا من هذا ما يشبه الطلاق فإنما يكون قياسا على الطلاق وإذا قال الرجل لامرأته انت طالق كظهر امى يريد الظهار فهى طالق ولا ظهار عليه لانه صرح بالطلاق ولم يكن لكظهر امى معنى إلا انك حرام بالطلاق وكظهر امى محال لا معنى له فلزمه الطلاق وسقط الظهار اهـ
(فرع)
وإن قال: انت على حرام ونوى الطلاق والظهار معا، فإن كان الطلاق رجعيا كان طلاقا وظهارا، وإن كان بائنا وقع الطلاق وسقط الظهار، وقال اصحاب احمد: إن قال انت على حرام ونوى الطلاق والظهار معا كان ظهارا ولم يكن طلاقا، لان اللفظ الواحد لا يكون ظهارا وطلاقا.
والظهار اولى بهذا اللفظ فينصرف إليه ولاصحابنا وجهان أولهما يقال له: اختر أيهما شئت، والثانى ان قال أردت الطلاق والظهار كان طلاقا لانه بدأ به.
وإن قال اردت الظهار والطلاق كان ظهارا لانه بدأ به فيكون ذلك اختيارا له ويلزمه ما بدأ به

(17/350)


ولنا أن الحرام كناية في الطلاق، فإذا لم ينو الطلاق وأراد تحريم عينها كان عليه كفارة يمين، وقد مضى حكم ذلك في كنايات الطلاق.
وقال الحنابلة: أذا أتى بلفظ الحرام ينوى الظهار كان ظهارا وليس بطلاق لانه زاحمت نيته نية الظهار وتعذر الجمع، والظهار أولى بهذه اللفظة لان معناهما واحد وهو التحريم فيجب أن يغلب ما هو الاولى أما الطلاق فهو من الاطلاق وهو حل قيد النكاح، وإنما التحريم حكم له في بعض أحواله وقد ينفك عنه، فإن الرجعية مطلقة مباحة، وأما التخيير فلا يصح
لان هذه اللفظة قد ثبت حكمها حين لفظ بها لكونه أهلا والمحل قابلا، وهذا القول يوافق ما رواه المزني في بعض نسخه من المختصر وقال الشافعي رضى الله عنه: وإن قال لامرأته أنت على حرام كظهر أمي يريد الطلاق فهو طلاق، وإن لم يرد الطلاق فهو متظاهر.
وهذه هي رواية الربيع وقد روى المزني في بعض النسخ " فهو ظهار " والقول الفصل في هذا انه إذا قال أنت على حرام كظهر أمي ولم ينو شيئا فهو ظهار، لانه أتى بصريحه، وكأن لفظ التحريم تأكيدا له، وإن نوى به الطلاق كان طلاقا في أصح القولين، ووجه القائلين بأنه ظهار أن النية هنا قرينة خفية وأن لفظ الظهار قرينة جلية، ومن ثم تقدم القرينة الجلية على الخفية، وقد غلط أصحابنا بعض نسخ المزني المذكور فيها الظهار، لان الاصل عندنا أن التحريم كناية في الطلاق خلافا للحنابلة فإنهم يجعلونه كناية في الظهار كما قدمنا، والكناية مع النية تجرى مجرى الصريح بلا مراء، فصار كما لو قال: أنت طالق كظهر امى سواء بسواء.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ويصح الظهار مؤقتا، وهو أن يقول أنت على كظهر امى يوما أو شهرا، نص عليه في الام.
وقال في اختلاف العراقيين لا يصير مظاهرا لانه لو شبهها بمن تحرم إلى وقت لم يصر مظاهر، فكذلك إذا شبهها بأمه إلى وقت، والصحيح هو الاول لما روى سلمة بن صخر قال " كنت امرأ أصيب من النساء

(17/351)


ما لا يصيب غيرى.
فلما دخل شهر رمضان خفت ان أصيب من امرأتي شيئا يتتابع بى حتى اصبح فظاهرت منه حتى ينسلخ رمضان، فبينما هي تحدثتى ذات ليلة وتكشف لى منها شئ فلم ألبث ان نزوت عليها فانطلقت إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم
فأخبرته، فقال " حرر رقبة " ولان الحكم إنما تعلق بالظهار لقوله المنكر والزور وذلك موجود في المؤقت.

(فصل)
ويجوز تعليقه بشرط كدخول الدار ومشيئة زيد لانه قول يوجب تحريم الزوجة فجاز تعليقه بالشرط كالطلاق، وإن قال إن تظاهرت من فلانه فأنت على كظهر امى، فتزوج فلانة وتظاهر منها صار مظاهرا من الزوجة لانه قد وجد شرط ظهارها وإن قال: إن تظاهرت من فلانة الاجنبية فأنت على كظهر امى، ثم تزوج فلانة وظاهر منها ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصير مظاهرا من الزوجة لانه شرط ان ظهار من الاجنبية، والشرط لم يوجد فصار كما لو قال إن تظاهرت من فلانة وهى أجنبية فأنت على كظهر أمي ثم تزوجها وظاهر منها
(والثانى)
يصير مظاهرا منها لانه علق ظهارها بعينها ووصفها بصفة، والحكم إذا تلعق بعين على صفة كانت الصفة تعريفا لا شرطا.
كما لو قال والله لا دخلت دار زيد هذه فباعها زيد ثم دخلها فإنه يحنث وإن لم تكن ملك زيد
(فصل)
وإن قالت الزوجة لزوجها أنت على كظهر أبى أو أنا عليك كظهر أمك لم يلزمها شئ لانه قول يوجب تحريما في الزوجية يملك الزوج رفعه فاختص به الرجل كالطلاق.
(الشرح) حديث سلمة بن صخر أورده المصنف مختصرا، وقد أخرجه أحمد وأبو داود الترمذي وقال حديث حسن وأخرجه الحاكم وصححه ابن خزيمة وابن الجارود، وقد أعله عبد الحق بالانقطاع.
وأن سليمان بن يسار لم يدرك سلمة وقد حكى ذلك الترمذي عن البخاري.
ثم إن في إسناده أيضا محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف.
ولفظ الحديث

(17/352)


عن سملة بن صخر رضى الله عنه قال " كنت امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيرى، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب في ليلتى شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركنى النهار، وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لى منها شئ فوثبت عليها فلما أصبحت غدوت على قومتى فأخبرتهم خبرى وقلت لهم انطلقوا معى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بأمرى، فقالوا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن.
أو يقول فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالة يبقى عارها علينا.
ولكن اذهب أنت واصنع ما بدالك.
فخرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبرى فقال لى أنت بذاك.
قلت أنا بذاك؟ فقال أنت بذاك؟ قلت أنا بذاك.
فقال أنت بذاك؟ قلت نعم ها أنذا فأمض في حكم الله عز وجل فأنا صابر له.
قال اعتق رقبة، فضربت صفحة رقبتي بيدى وقلت لا والذى بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها.
فقال صم شهرين متتابعين.
قال قلت يا رسول الله الله وهل أصابني ما أصابني الا في الصوم.
قال فتصدق.
قال قلت والذى بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وحشا ما لنا عشاء.
قال اذهب إلى صاحب صدقة بنى زريق فقل له فليدعها اليك فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك.
قال فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأى.
ووجدت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السعة والبركة وقد أمر لى بصدقتكم فادفعوها إلى فدفعوها إلى " على أن الحديث إذا كان قد رجح النسائي إرساله فإنه لا يضر ارسال ورود الحديث من طرق بعضها متصل وبعضها مرسل لا يكون هذا ضعفا، وانما يزيد الحديث قوة.
وقد رواه البزار من وجه آخر عن ابن عباس وزاد فيه " كفر ولا تعد "
أورده الحافظ في بلوغ المرام.
وسلمة بن صخر هو البياضى بفتح الموحدة وتخفيف المثناة التحتية وضاد معجمة.
أنصارى خزرجي.
كان أحد البكائين.
روى عنه سليمان بن يسار وابن المسيب.
قد أوردنا كلام الحدثين فيه.
للحديث متابعات من طرق غير سلمة.
ففى رواية ابن عباس أن الرجل قال للنبى صلى الله وسلم

(17/353)


" رأيت خلخالها في ضوء القمر " وقوله شيئا يتتابع بى.
يدفعني إلى اللجاج والتهافت في الشر.
وقوله " نزوت عليها " أي قفزت وطفرت أما الاحكام فإنه يصح الظهار موقتا مثل أن يقول أنت على كظهر أمي شهرا أو حتى ينسلخ رمضان.
فإذا مضى الوقت زال الظهار وحلت المرأة بلا كفارة.
ولا يكون عائدا بالوطئ في المدة في أحد القولين للشافعي رضى الله عنه.
وهو قول ابن عباس وعطاء وقتادة والثوري واسحاق وأبى ثور وأحمد بن حنبل.
وقال الشافعي في اختلاف العراقيين وهما أبو حنيفة وابن أبى ليلى لا يكون ظهارا وبه قال ابن أبى ليلى والليث.
لان الشرع ورد بلفظ الظهار مطلقا.
وهذا لم يطلق فأشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه في وقت دون آخر وقال طاوس إذا ظاهر في وقت فعليه الكفارة وان بر.
وقال مالك في المدونة.
يسقط التأقيت ويكون ظهارا مطلقا.
لان هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة فإذا وقته لم يتوقف كالطلاق دليلنا حديث سلمة بن صخر وقوله " تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصابها في الشهر فأمره بالكفارة.
ولم يعبتر عليه تقييده.
لانه منع نفسه بيمين لها كفارة فصح مؤقتا كالايلاء وفارق الطلاق فإنه يزيل الملك وهو يوقع تحريما يرفعه التكفير فجاز تأقيته.
ولا يصح قول من أوجب الكفارة وان بر.
لان الله تعالى انما.
أوجب الكفارة على
الذين يعودون لما قالوا.
ومن بر وترك العود في الوقت الذى ظاهر فلم يعد لما قال فلا تجب عليه كفارة.
وفارق التشبيه بمن لا تحرم عليه على التأبيد لان تحريمها غير كامل.
وهذه حرمها في هذه المدة تحريما مشبها بتحريم ظهر أمه.
على أننا نمنع الحكم فيها.
وإذا ثبت هذا فأنه لا يكون عائدا الا بالوطئ في المدة.
وهذا هو المنصوص عن الشافعي.
وقال بعض أصحابه ان لم يطلقها عقيب الظهار فهو عائد عليه الكفارة وقال أبو عبيد " إذا أجمع على غشيانها في الوقت لزمته الكفارة والا فلا.
لان العود العزم على الوطئ ولكن حديث سلمة بن صخر دليل على أنه لم يوجب عليه الكفارة الا بالوطئ.
ولانها يمين لم يحنث فيها فلا يلزمه كفارتها كاليمين بالله تعالى

(17/354)


ولان المظاهر في وقت عازم على امساك زوجته في ذك الوقت.
فمن أوجب الكفارة عليه بذلك كان قوله كقول طاوس.
فلا معنى لقوله يصح الظهار مؤقتا لعدم تأثير الوقت.
(مسألة) قوله ويجوز تعليقه بشرط كدخول الدار ومشيئة زيد.
وهذا صحيح فقد قال الشافعي في الام.
فإذا قال لامرأته ان دخلت الدار فأنت على كظهر أمي فدخلت الدار كان متظاهر حين دخلت.
وكذلك ان قال ان قدم فلان أو نكحت فلانة.
اه وجملة ذلك أنه يصح تعليق الظهار بالشروط.
ونحو أن يقول ان دخلت الدار فأنت على كظهر أمي.
وان شاء زيد فأنت على كظهر أمي.
فمتى شاء زيد أو دخلت الدار صار مظاهرا والا فلا.
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأى وأحمد ابن حنبل لانه يمين فجاز تعليقه على شرط كالايلاء.
ولان الظهار أصله كان طلاقا والطلاق يصح تعليقه بالشرط فكذلك الظهار
(فرع)
قال في الام " ولو قال لامرأة لم ينكحها إذا نكحتك فأنت على كظهرا أمي فنكحها لم يكن متظاهرا.
لانه لو قال في تلك الحال أنت على كظهر أمي لم يكن متظاهرا لانه انما يقع التحريم من النساء على من حل ثم حرم.
فأما من لم يحل فلا يقع عليه تحريم ولا حكم تحريم لانه محرم فلا معنى للتحريم في التحريم.
لانه في الحالين قبل التحريم وبعد محرم بتحريم.
اه وجملة ذلك أنه إذا قال لاجنبية أنت على كظهر أمي جاز له أن يطأها ولا كفارة عليه.
وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة.
ويروى ذلك عن ابن عباس لقول الله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم) والاجنبية ليست من نسائه.
ولان الظهار يمين ورد الشرع بحكمها مقيدا بنسائه فلم يثبت حكمها في الاجنبية كالايلاء.
فإن الله تعالى يقول " والذين يظاهرون من نسائهم " كما يقول للذين يؤلون من نسائهم " ولانها ليست بزوجة فلم يصح الظهار منها كأمته.
ولانه حرم محرمة فلم يلزمه شئ كما لو قال أنت حرام.
ولانه نوع تحريم فلم يتقدم النكاح كالطلاق وقال أحمد وأصحابه إذا قال لامرأة أجنبية أنت على كظهر أمي لم يطأها ان تزوجها حتى يأتي بالكفارة

(17/355)


قال ابن قدامة يصح الظهار من الاجنبية.
سواء قال ذلك لامرأة بعينها أو قال كل النساء على كظهر أمي.
وسواء أوقعه مطلقا أو علقه على التزويج فقال كل امرأة أتزوجها فهى على كظهر أمي.
ومتى تزوج التى ظهار منها لم يطأها حتى يكفر.
ويروى نحو هذا عن عمر.
وبه قال سعيد بن المسيب وعروة وعطاء والحسن ومالك واسحاق وأبو حنيفة اه وحجة هذا الفريق ما رواه أحمد في مسنده عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال في رجل قال ان تزوجت فلانة فهى على كظهر أمي فتزوجها. قال عليه كفارة الظهار.
ولانها يمين مقفرة فصح انعقادها قبل النكاح كاليمين بالله تعالى.
(فرع)
إذا قال لامرأته ان تظاهرت من امرأتي الاخرى فأنت على كظهر أمي ثم تظاهر من الاخرى صار مظاهرا منهما جميعا.
وان قال ان تظاهرت من فلانة الاجنبية فأنت على كظهر أمي.
ثم قال للاجنبية أنت على كظهر أمي فقد قال الشافعي إذا قال لامرأته إذا تظاهرت من فلانه - امرأة له أخرى - فأنت على كظهر أمي.
فتظاهر منها كان من امرأته التى قال لها ذلك مظاهرا.
ولو قال لامرأته إذا تظاهرت من فلانة - امرأة أجنبية - فأنت على كظهر أمي فتظاهر من الاجنبية لم يكن عليه ظهار.
لان ذلك ليس بظهار.
وكذلك لو قال لها إذا طلقتها فأنت طالق فطلقها لم تكن امرأته طالقا لانه طلق غير زوجته اه (مسألة) ليس على النساء تظاهر.
وانما قال تعالى " والذين يظاهرون منكم من نسائهم " ولم يقل اللائى يظهرن منكن من أزواجهن.
انما الظهار على الرجال.
قال ابن العربي.
هكذا روى عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبى الزناد وقد أفاده مالك في المدونة وهو صحيح المعنى لان الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال.
ليس بيد المرأة منه شئ.
وهذا اجماع قال أبو عمر بن عبد البر ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء.
وقال الحسن بن زياد هي مظاهر.
وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد ليس ظهار المرأة من الرجل بشئ قبل النكاح كان أو بعده وقال الشافعي لا ظهار للمرأة من الرجل.
وقال الاوزاعي إذا قالت المرأة

(17/356)


لزوجها أنت على كظهر أمي فلانة فهى يمين تكفرها، وكذلك قال إسحاق.
قال لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها.
وقال الزهري أرى أن تكفر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها
رواه معمر عنه وابن جريج عن عطاء قال حرمت ما أحل الله.
عليها كفارة يمين وهو قول أبى يوسف.
وقال محمد بن الحسن لا شئ عليها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا صح الظهار ووجد العود وجبت الكفارة لقوله عز وجل " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " والعود هو أن يمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فلم يفعل.
وإن ماتت المرأة عقيب الظهار أو طلقها عقيب الظهار لم تجب الكفارة.
والدليل على أن العود ما ذكرناه هو أن تشببهها بالام يقتضى أن لا يمسكها.
فإذا أمسكها فقد عاد فيما قال، فإذا ماتت أو طلقها عقيب الظهار لم يوجد العود فيما قال
(فصل)
وان تظاهر من رجعية لم يصر عائدا قبل الرجعة، لانه لا يوجد الامساك وهى تجرى إلى البينونة، فإن راجعها فهل تكون الرجعة عودا أم لا؟ فيه قولان: قال في الاملاء لا تكون عودا حتى يمسكها بعد الرجعة، لان العود استدامة الامساك، والرجعة ابتداء استباحة فلم تكن عودا.
وقال في الام: هو عود لان العود هو الامساك، وقد سمى الله عز وجل الرجعة إمساكا فقال " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ولانه إذا حصل العود باستدامة الامساك فلان يحصل بابتداء الاستباحة أولى، وان بانت منه ثم تزوجها فهل يعود الظاهر أم لا؟ على الاقوال التى مضت في الطلاق.
فإذا قلنا إنه يعود فهل يكون النكاح عودا؟ فيه وجهان، الصحيح لا، بناء على القولين في الرجعة.
وان ظاهر الكافر من امرأته وأسلمت المرأة عقيب الظهار - فإن كان قبل الدخول - لم تجب الكفارة لانه لم يوجد العود، وان كان بعد الدخول لم يصر عائدا ما دامت في العدة لانها تجرى إلى البينونة.
وان أسلم الزوج قبل انقضاء العدة ففيه وجهان:

(17/357)


(أحدهما)
لا يصير عائدا لان العود هو الامساك على النكاح، وذلك لا يوجد إلا بعد الاسلام.

(والثانى)
يصير عائدا لان قطع البينونة بالاسلام أبلغ من الامساك فكان العود به أولى.

(فصل)
وإن كانت الزوجة أمة فاشتراها الزوج عقيب الظهار ففيه وجهان
(أحدهما)
إن الملك عود لان العود أن يمسكها على الاستباحة وذلك قد وجد
(والثانى)
وهو قول أبى إسحاق ان ذلك ليس بعود لان العود هو الامساك على الزوجية والشروع في الشراء تسبب لفسخ النكاح فلم يجز أن يكون عودا، وان قذفها وأتى من اللعان بلفظ الشهادة وبقى لفظ اللعن فظاهر منها ثم أتى بلفظ اللعن عقيب الظهار لم يكن ذلك عودا لانه يقع به الفرقة فلم يكن عودا كما لو طلقها.
وان قذفها ثم ظاهر منها ثم أتى بلفظ اللعان ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه صار عائدا لانه أمسكها زمانا أمكنه أن يطلقها فيه فلم يطلق.

(والثانى)
وهو قول ابى اسحاق أنه لا يكون عائدا لانه اشتغل بما يوجب الفرقة فصار كما لو ظاهر منها ثم طلق وأطال لفظ الطلاق
(فصل)
وان كان الظهار موقتا ففى عوده وجهان
(أحدهما)
وهو قول المزني أن العود فيه أن يمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه كما قلنا في الظهار المطلق
(والثانى)
وهو المنصوص أنه لا يحصل العود فيه الا بالوطئ لان امساكه يجوز أن يكون لوقت الظهار.
ويجوز أن يكون لما بعد مدة الظهار، فلا يتحقق العود الا بالوطئ، فإن لم يطأها حتى مضت المدة سقط الظهار ولم تجب الكفارة لانه لم يوجد العود (الشرح) قوله تعالى " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " في هذه الآية " والذين يظاهرون " ان هذا ابتداء والخبر " فتحرير رقبة " فحذف " عليهم " لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة، والمجمع عليه عند العلماء أن قوله أنت على كظهر أمي منكر من القول وزور، فمن قال هذا القول حرم عليه وطئ امرأته فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار لقوله تعالى " ثم يعودون لما قالوا "

(17/358)


فمن عاد لزمته الكفارة.
قال القرطبى وهذا يدل على أن الكفارة لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليه العود، وهذا حرف مشكل اختلف فيه الناس على سبعة أقوال (الاول) انه العزم على الوطئ.
وهو مشهور قول أبى حنيفة وأصحابه.
وروى عن مالك فإن عزم على وطئها كان عودا وان لم يعزم لم يكن عودا.
(الثاني) العزم على الامساك بعد التظاهر منها.
قاله مالك (الثالث) العزم عليهما - وهو قول مالك في موطئه، قال بعد ذكر الآية سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على اصابتها وامساكها فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة، وان طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على امساكها واصابتها فلا كفارة عليه.
قال مالك وان تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر.
(الرابع) أنه اوطئ نفسه، فإن لم يطأ لم يكن عودا، قاله الحسن ومالك أيضا.
(الخامس) وهو قول الامام الشافعي رضى الله عنه هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، لانه لما ظاهر قصد التحريم، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من ايقاع التحريم ولا كفارة عليه.
وان أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة (السادس) أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه الا الكفارة، ومعنى العود عند القائلين بهذا انه لا يستبيح وطؤها الا بكفارة يقدمها.
قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد.
(السابع) هو تكرير الظهار بلفظه، وهذا قول اهل الظاهر النافين للقياس قال إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود، وان لم يكرر فليس بعود، ويسند ذلك إلى بكير الاشج وابى العالية وابى حنيفة أيضا.
وهو قول الفراء وقال ابو العالية وظاهر الآية يشهد له لانه قال ثم يعودون لما قالوا، أي إلى قول ما قال.
وروى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى " والذين يظاهرون.
الخ " هو ان يقول لها انت على كظهر امى.
فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار قال ابن العربي فأما بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح

(17/359)


عن بكير.
وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه.
وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم.
وايضا فإن المعنى ينقضه، لان الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة.
وهذا لا يعقل ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الاعادة من قتل ووطئ في صوم أو غيره.
وقد رد القرطبى على ابن العربي فقال: قوله يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه.
حمل منه عليه.
وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم.
وقال بعض أهل التأويل الآية فيهما تقديم وتأخير، ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع فتحرير رقبة لما قالوا، أي فعليهم تحرير من أجل ما قالو ا، فالجار والمجرور متعلق بالمحذوف الذى هو خبر الابتداء وهو عليهم.
قاله الاخفش.
وقال الزجاج المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.
وقيل المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الاسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة
وقال الفراء اللام بمعنى عن.
والمعنى ثم يعودون عما قالوا ويريدون الوطئ، وقال الاخفش لما قالوا والى ما قالوا واحد، واللام.
وإلى يتعاقبان قال " الحمد الله الذى هدانا لهذا " وقال فاهدوهم إلى صراط الجحيم " وقال " بأن ربك أوحى لها " وقال " وأوحى إلى نوح " قال ابن قدامة في المغنى: أوجب الله تعالى الكفارة بأمرين ظهار وعود فلا تثبت بأحدهما، ولان الكفارة في الظهار كفارة يمين فلا يحنث بغير الحنث كسائر الايمان، والحنث فيها هو العود.
وذلك فعل ما حلف على تركه وهو الجماع، وترك طلاقها ليس بحنث فيها، ولا فعل لما حلف على تركه فلا تجب به الكفارة ولانه لو كان الامساك عودا لوجبت الكفارة على المظاهر المؤقت وإن بر.
وقد نص الشافعي على أنها لا تحب عليه قلت: وليس في كلام القرطبى ولا ابن قدامة في الرد على الشافعي ما يدفع قوة حكمه إذ يقول متى أمسكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه فلم يطلقها فعليه الكفارة، لان ذلك هو العود

(17/360)


وقال الشافعي رضى الله عنه الذى عقلت مما سمعت في يعودون لما قالوا " أن المتظاهر حرم مس امرأته بالظهار، فإذا أنت عليه مدة بعد القول بالظهار لم يحرمها بالطلاق الذى يحرم به ولا شئ يكون له مخرج من أن تحرم عليه به، فقد وجب على كفارة الظهار، كأنهم يذهبون إلى انه إذا أمسك ما حرم على نفسه انه حلال فقد عاد لما قال فخالفه فأحل ما حرم.
ولا أعلم له معنى أولى به من هذا ولم أعلم مخالفا في أن عليه كفارة الظهار، وإن لم يعد بتظاهر آخر فلم يجز أن يقال لما لم أعلم مخالفا في أنه ليس بمعنى الآية.
وإذا حبس المتظاهر امرأته بعد الظهار قدر ما يمكنه ان يطلقها ولم يطلقها فكفارة الظهار له لازمة.
ولو طلقها بعد ذلك أو لاعنها فحرمت عليه على الابد لزمته كفارة الظهار.
وكذلك لو ماتت أو ارتدت فقتلت على لردة.
ومعنى قول الله تعالى " من قبل ان يتماسا " وقت لان يؤدى ما أوجب عليه من الكفارة فيها قبل المماسة، فإذا كانت المماسة قبل الكفارة فذهب ا؟ قت لم تبطل الكفارة ولم يزد عليه فيها، كما يقال له أد الصلاة في وقت كذا وقبل وقت كذا فيذهب الوقت فيؤديها لانها فرض عليه، فإذا لم يؤدها في الوقت أداها قضاء بعده، ولا يقال له زد فيها لذهاب الوقت قبل أن تؤديها.
(مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه " ولو تظاهر منها فأتبع التظاهر طلاقا تحل له بعده قبل زوج له عليها فيه الرجعة أو لا رجعة له لم يكن عليه بعد الطلاق كفارة، لانه أتبعها الطلاق مكانه، فإن راجعها في العدة فعليه الكفارة في التى يملك رجعتها.
ولو طلقها ساعة نكحها لان مراجعتها بعد الطلاق أكثر من حبسها بعد الظهار وهو يمكنه أن يطلقها ولو تظاهر منه ثم أتبعها طلاقا لا يملك فيه الرجعة ثم نكحها لم تكن عليه كفا؟ ؟، لان هذا ملك غير الملك الاول الذى كان في الظهار.
ألا ترى انه لو تظاهر منها بعد طلاق لا يملك فيه الرجعة لم يكن فيه متظاهرا.
ولو طلقها ثلاثا أو طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره سقط عنه الظهار اه قلت انه إذا طلق من ظاهر منها ثم تزوجها لم يكن عليه كفارة إلا إذا راجعها

(17/361)


في العدة.
وقال أحمد وأصحابه لم يحل له وطؤها حتى يكفر سواء كان الطلاق ثلاثا أو أقل منه، وسواء رجعت إليه بعد زوج آخر أو قبله.
نص عليه أحمد، وهو قول عطاء والحسن والزهرى والنخعي ومالك وابى عبيد وقال قتادة إذا بانت سقط الظهار، فإذا عاد فنكحها فلا كفارة عليه.
وللشافعي قولان كالمذهبين.
وقول ثالث ان كانت البينونة بالثلاث لم يعد الظهار، وإلا عاد وبناه على الاقاويل في عود صفة الطلاق في النكاح الثاني وقد مضى (فرع)
إذا تظاهر المسلم من امرأته ثم ارتد أو ارتدت مع الظهار - فإن عاد المرتد منهما إلى الاسلام في العدة فحبسها قدر ما يمكنه الطلاق - لزمه الظهار وان طلقها مع عودة المرتد منهما إلى الاسلام أو لم يعد المرتد منهما إلى الاسلام فلا ظهار عليه الا ان يتناكحا قبل ان تبين منه بثلاث فيعود عليه الظهار (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه " وإذا تظاهر الرجل من امرأته وهى أمة ثم عتقت فاختارت فراقه فالظهار لازم له لانه حبسها بعد الظهار مدة يمكنه فيها الطلاق.
ولو تظاهر منها وهى أمة فلم يكفر حتى اشتراها لم يكن له ان يقربها حتى يكفر، لان كفارة الظهار لزمته وهى أمة زوجة - إلى ان قال - وإذا قال الرجل لامرأته انت على كظهر امى والله لا اقربك، أو قال والله لا اقربك وانت على كظهر امى فهو مول متظاهر يؤمر بأن يكفر للظهار من ساعته، ويقال له ان قدمت الفيئة قبل الاربعة الاشهر فهو خير لك.
وان فئت كنت خارجا بها من حكم الايلاء، وعاصيا ان قدمتها قبل كفارة الظهار، فإن اخرتها إلى اربعة اشهر فسألت امرأتك ان توقف للايلاء وقفت، وإن فئت خرجت من الايلاء، وان لم تفئ قيل طلق والا طلق عليك اه هذا وما في الفصول من اللعان سيأتي في بابه خشية الاطالة
(مسألة) للعود في الظهار المؤقت وجهل
(أحدهما) ان العود هو الامساك بعد الظهار بقدر ما يمكنه من طلاقها كالمنصوص في الظهار المطلق.
وهذا هو اختيار المزني
(والثانى)
وهو المنصوص في المؤقت ان العود لا يتحقق الا بالوطئ فإذا مضت المدة بغير وطئ سقط الظهار وسقط وجوب الكفارة لان العود لم يوجد وهو الذى يتعلق به الكفارة

(17/362)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن تظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات وأمسكهن، لزمه لكل واحد كفارة، وإن تظاهر منهن بكلمة واحدة بأن قال: أنتن على كظهر أمي وأمسكهن ففيه قولان، قال في القديم: تلزمه كفارة واحدة لما روى ابن عباس وسعيد بن المسيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه سئل عن رجل تظاهر من أربع نسوة فقال يجزيه كفارة واحدة.
وقال في الجديد: يلزمه أربع كفارات لانه وجد الظهار والعود في حق كل واحدة منهم، فلزمه أربع كفارات، كما لو أفردهن بكلمات.
وإن تظاهر من امرأة ثم ظاهر منها قبل أن يكفر عن الاول نظرت - فإن قصد التأكيد - لزمه كفارة واحدة، وإن قصد الاستئناف ففيه قولان، قال في القديم تلزمه كفارة واحدة، لان الثاني لم يؤثر في التحريم، وقال في الجديد يلزمه كفارتان لانه قول يؤثر في تحريم الزوجة كرره على وجه الاستئناف، فتعلق بكل مرة حكم الطلاق، وإن أطلق ولم ينو شيئا فقد قال بعض أصحابنا حكمه حكم ما لو قصد التأكيد.
ومنهم من قال: حكمه حكم ما لو قصد الاستئناف، كما قلنا فيمن كرر الطلاق.
وإن كانت له امرأتان وقال لاحداهما: إن تظاهرت منك فالاخرى على كظهر أمي، ثم تظاهر من الاولى وأمسكها لزمه كفارتان قولان واحدا لانه أفرد كل واحدة منهما بظهار.
(الشرح) إذا تظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات فقال: لكل واحدة أنت على كظهر أمي، فإن لكل يمين كفارة.
وهذا قول عروة وعطاء وأحمد بن حنبل في رواية ابى عبد الله بن حامد.
وقال في رواية ابى بكر: يجزئه كفارة واحدة.
ولانها أيمان متكررة على أعيان متفرقة فكان لكل واحدة كفارة، كما لو كفر ثم ظاهر، ولانها أيمان لا يحنث في إحداها بالحنث في الاخرى فلا تكفرها كفارة واحدة كالاصل، ولان الظهار معنى يوجب الكفارة، فتعدد الكفارة بتعدده في المحال المختلفة كالقتل، ويفارق الحد فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات،

(17/363)


فأما ان ظاهر من امرأته مرارا ولم يكفر فإن قصد توكيده فعليه كفارة واحدة، وإن قصد الاستئناف ففيه قولان.
القديم تلزمه كفارة واحدة لعدم تأثير الثاني في التحريم.
والجديد يلزمه لكل يمين كفارة، لتعلق الطلاق بكل مرة ينطق به على سبيل الاستئناف، فإذا لم ينو شيئا فقد ذهب بعض أصحابنا إلى إلحاقه بالتوكيد وذهب الآخر إلى إلحاقه بالاستئناف وقال أحمد وأصحابه ليس عليه إلا كفارة واحدة ولم يفرق لان الحنث واحد فوجبت كفارة واحدة كما لو كانت اليمين واحدة أما إذا تظاهر من نسائه الاربع بكلمة واحدة فقد قال في القديم تلزمه كفارة واحدة، وهو قول على وعمر وعروة وطاوس وعطاء وربيعة ومالك والاوزاعي واسحاق وأبى ثور وأحمد بن حنبل.
وقال الشافعي في الجديد وإذا تظاهر الرجل من أربع نسوة له بكلمة واحدة أو بكلام متفرق فسواء وعليه في كل واحدة منهن كفارة، لان التظاهر تحريم لكل واحدة منهم لا تحل له بعد حتى يكفر كما يطلقهن معا في كلمة واحدة أو كلام متفرق، فتكون كل واحدة منهن طالقا.
قال وإذا تظاهر الرجل من امرأته مرتين أو ثلاثا أو أكثر يريد بكل واحدة منهن ظهارا غير صاحبه فهل يكفر؟ فعليه في كل تظاهر كفارة كما يكون عليه في كل تطليقة تطليقة لان التظاهر طلاق جعل المخرج منه كفارة، ولو قالها متتابعة فقال أردت ظهارا واحدا كان واحدا، كما يكون لو أراد طلاقا واحدا وابانة بكلمة واحدة. وانتهى من الام.
وجملة ذلك أنه إذا تظاهر من أربع من نسائه بكلمة واحدة كان عليه لكل واحدة كفارة.
وهو قول الحسن والنخعي والزهرى ويحيى الانصاري والحكم والثوري واصحاب الرأى، ومفهوم كلام الخرقى من الحنابلة أنه إذا ظاهر منهن بكلمات فقال لكل واحدة أنت على كظهر أمي فإن لكل يمين كفارة، وهذا قول عروة وعطاء.
قال أبو عبد الله بن حامد من أصحاب أحمد المذهب رواية واحدة في هذا، وتابعه القاضى وخالفه أبو بكر فقال فيه رواية أخرى أنه يجزئه كفارة واحدة.
قال ابن قدامة واختار هذا الذى قلناه اتباعا لعمر بن الخطاب والحسن

(17/364)


وعطاء وابراهيم وربيعة وقبيصة واسحاق، لان كفارة الظهار حق لله تعالى فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد وعليه يخرج الطلاق (مسألة) إذا ظاهر من امرأة ثم قال لاخرى أشركتك معها أو أنت شريكتها أو كهى ونوى المظاهرة من الثانية صار مظاهرا منها بغير خلاف علمناه، وبه قال مالك وأحمد.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإذا وجبت الكفارة حرم وطؤها إلى أن يكفر لقوله عز وجل " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فمن لم يجد فصيام شهرين متتابيعن من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " فشرط في العتق والصوم أن يكونا قبل المسيس، وقسنا عليهما الاطعام وروى عكرمة أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فقال " ما حملك على ما صنعت؟ قال رأيت بياض ساقها في القمر، قال فاعتزلها حتى تكفر عن يمينك "
واختلف قوله في المباشرة فيما دون الفرج، فقال في القديم تحرم لانه قول يؤثر في تحريم الوطئ فحرم به ما دونه من المباشرة كالطلاق.
وقال في الجديد لا تحرم لانه وطئ لا يتعلق بتحريمه مال فلم يجاوزه التحريم كوطئ الحائض.
والله تعالى أعلم.
(الشرح) حديث عكرمة هكذا ساقه المصنف مرسلا، وهى رواية النسائي ولفظه " فلا تقربها حتى تقضى ما عليك " وقد أخرجه موصولا عن ابن عباس أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه، قال الحافظ بن حجر ورجاله ثقات لكن أعله أبو حاتم والنسائي بالارسال وقال ابن حزم رجاله ثقات ولا يضره ارسال من أرسله.
وأخرج البزار شاهدا له من طريق خصيف عن فطاء عن ابن عباس " أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي ظاهرت من امرأتي فرأيت ساقها في القمر فواقعتها قبل أن أكفر، فقال كفر ولا تعد " وقد بالغ أبو بكر بن العربي فقال ليس في الظهار حديث صحيح

(17/365)


أما الاحكام فإنه يحرم على المظاهر وطئ امرأته قبل أن يكفر وليس في ذلك اختلاف إذا كانت الكفارة عتقا أو صوما لقوله تَعَالَى " فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا " وقوله تعالى " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا " وأكثر أهل العلم على أن التكفير بالاطعام مثلهما قياسا عليهما، وأنه يحرم وطؤها قبل التكفير منهم عطاء والزهرى وأصحاب الرأى ومالك.
وذهب أبو ثور إلى إباحة الجماع قبل التكفير بالاطعام، وعن أحمد ما يقضى ذلك، لان الله تعالى لم يمنع المسيس قبله كما في العتق والصوم دليلنا حديث عكرمة، ولانه مظاهر لم يكفر فحرم عليه جماعها، كما لو كانت كفارته العتق أو الصيام.
(فرع)
التلذذ بما دون الفرج من القبلة واللمس والمباشرة، فقد ذهب في القديم إلى تحريمه، لان الظهار قول يحرم به الوطئ فحرم به ما دونه من المباشرة كالطلاق وهو احدى الروايتين عن أحمد واختيار أبى بكر من أصحابه، وهو قول الزهري ومالك والاوزاعي وأبى عبيد وأصحاب الرأى.
وروى ذلك عن النخعي لان ما يحرم به الوطئ يحرم به دواعيه كالطلاق والاحرام وقال في الجديد: لا يحرم عليه سوى الجماع، والرواية الثانية عن أحمد حيث يقول: أرجو أن لا يكون به بأس.
وهو قول الثوري واسحاق وأبى حنيفة.
وحكى عن مالك، وذلك لانه وطئ يتعلق بتحريمه مال فلم يتجاوزه التحريم كوطئ الحائض.
والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل

(17/366)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب كفارة الظهار

وكفارته عتق رقبة لمن وجد وصيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرقبة وإطعام ستين مسكينا لمن لا يجد الرقبة ولا يطيق الصوم، والدليل عليه قوله عز وجل " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " وروت خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت " ظاهر منى زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول: اتق الله فإنه ابن عمك، فما برحت حتى نزل القرآن " قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله.
الآية " فقال يعتق رقبة، فقلت لا يجد، قال فليصم شهرين متتابعين، قلت يا رسول الله شيخ كبير ما به صيام، قال فليطعم ستين مسكينا، قلت يا رسول الله ما عنده شئ يتصدق به، قال فأتى
بعرق من تمر، قلت يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر، قال قد أحسنت فاذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكنيا وارجعي إلى ابن عمك " فإن كان له مال يشترى به رقبة فاضلا عما يحتاج إليه لقوته ولكسوته ومسكنه وبضاعة لا بد له منها وجب عليه العتق.
وان كان له رقبة لا يستغنى عن خدمتها، بأن كان كبيرا أو مريضا أو ممن لا يخدم نفسه لم يلزمه صرفها في الكفارة، لان ما يستغرقه حاجته كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل، كما نقول فيمن معه ماء يحتاج إليه للعطش، وان كان ممن يخدم نفسه ففيه وجهان
(أحدهما)
يلزمه العتق لانه مستغن عنه
(والثانى)
لا يلزمه لانه ما من أحد الا ويحتاج إلى الترفه والخدمة، وان وجبت عليه كفارة وله مال غائب - فإن كان لا ضرر عليه في تأخير الكفارة، ككفارة القتل وكفارة الوطئ في رمضان - لم يجز أن ينتقل إلى الصوم لانه

(17/367)


قادر على العتق من غير ضرر، فلا يكفر الصوم كما لو حضر المال، وإن كان عليه ضرر في تأخير الكفارة ككفارة الظهار ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يكفر بالصوم لان له مالا فاضلا عن كفايته يمكنه أن يشترى به رقبة فلا يكفر بالصوم، كما نقول في كفارة القتل
(والثانى)
له أن يكفر الصوم لان عليه ضررا في تحريم الوطئ إلى أن يحضر المال فجاز له أن يكفر بالصوم
(فصل)
وإن اختلف حاله من حين وجبت الكفارة إلى حين الاداء ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أن يعتبر حال الاداء لانها عبادة لها بدل من غير جنسها فاعتبر فيها حال الاداء كالوضوء
(والثانى)
يعتبر حال الوجوب لانه حق يجب على وجه التطهير فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد (والثالث) يعتبر أغلظ الاحوال
من حين الوجوب إلى حين الاداء، فأى وقت قدر على العتق لزمه لانه حق يجب في الذمة بوجود المال فاعتبر فيه أغلظ الاحوال كالحج
(فصل)
ولا يجزئ في شئ من الكفارات إلا رقبة مؤمنة لقوله عز وجل " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " فنص في كفارة القتل على رقبة مؤمنة وقسنا عليها سائر الكفارات.

(فصل)
ولا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب التى تضر العمل ضررا بينا لان المقصود تمليك العبد منفعته وتمكينه من التصرف، وذلك لا يحصل مع العيب الذى يضر بالعمل ضررا بينا، فإن أعتق أعمى لم يجز لان العمى يضر بالعمل الضرر البين، وإن أعتق أعور أجزأه لان العور لا يضر بالعلم ضررا بينا لانه يدرك ما يدرك البصير بالعينين ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل لان ذلك يضر العلم ضررا بينا، ولا يجزئ مقطوع الابهام أو السبابة أو الوسطى لان منفعة اليد تبطل بقطع كل واحد منهما، ويجزئ مقطوع الخنصر أو البنصر لانه لا تبطل منفعة اليد بقطع إحداهما، فإن قطعتا جميعا - فإن كانتا من كف واحدة - لم تجزه لانه تبطل منفعة اليد بقطعهما، وان كانتا من كفين أجزأه لانه لا تبطل منفعة كل واحد من الكفين، وان قطع منه أنملتان - فإن كانتا من الخنصر أو البنصر - أجزاه، لان ذهاب كل واحدة منهما لا يمنع الاجزاء فلان لا يمنع ذهاب أنملتين أولى، وان كانا من الوسط أو السبابة لم يجزه لانه

(17/368)


تبطل به منفعة الاصبع، وإن قطعت منه أنملة - فإن كانت من غير الابهام - أجزأه لانه لا تبطل به منفعة الاصبع، وإن كانت من الابهام لم يجزه لانه تبطل به منفعة الابهام.

(فصل)
وإن كان أعرج نظرت - فإن كان عرجا قليلا - أجزأه لانه
لا يضر بالعمل ضررا بينا، وإن كان كثيرا لم يجزه لانه يضر بالعمل ضررا بينا ويجزئ الاصم لان الصمم لا يضر بالعمل بل يزيد في العمل لانه لا يسمع ما يشغله وأما الاخرس فقد قال في موضع يجزئه، وقال في موضع لا يجزئه.
فمن أصحابنا من قال: إن كان مع الخرس صمم لم يجزه، لانه يضر بالعمل ضررا بينا، وإن لم يكن معه صمم أجزأه لانه لا يضر بالعمل ضررا بينا، وحمل القولين على هذين الحالين، ومنهم من قال: إن كان يعقل الاشارة أجزاه لانه يبلغ بالاشارة ما يبلغ بالنطق، وان كان لا يعقل لم يجزه، لانه يضر بالعمل ضررا بينا، وحمل القولين على هذين الحالين.
وإن كان مجنونا جنونا مطبقا يمنع العمل لم يجزه، لانه لا يصلح للعمل، وإن كان يجن ويفيق نظرت - فإن كان زمان الجنون أكثر - لم يجزه لانه يضر به ضررا بينا، وإن كان زمان الافاقة أكثر أجزأه لانه لا يضر به ضررا بينا، ويجزئ الاحمق، وهو الذى يفعل الشئ في غير موضعه مع العمل بقبحه.

(فصل)
ويجزئ الاجدع لانه كغيره في العمل، ويجزئ مقطوع الاذن لان قطع الاذن لا يؤثر في العمل، وغيره أولى منه ليخرج من الخلاف، فإن عند مالك لا يجزئه.
ويجزئ ولد الزنا لانه كغيره في العمل، وغيره أولى منه لان الزهري والاوزاعي لا يجيزان ذلك، ويجزئ المجبوب والخصى لان الجب والخصى لا يضران بالعمل ضررا بينا، ويجزئ الصغير لانه يرجى من منافعه وتصرفه أكثر مما يرجى من الكبير، ولا يجزئ عتق الحمل لانه لم يثبت له حكم الاحياء، ولهذا لا يجب عنه زكاة الفطر، ويجزئ المريض الذى يرجى برؤه، ولا يجزئ من لا يرجى برؤه، لانه لا عمل فيه، ويجزئ نضو الخلق إذا لم

(17/369)


يعجز عن العمل، ولا يجزئ إذا عجز عن العمل، وان أعتق مرهونا أو جانيا وجوزنا عتقه أجزأه لانه كغيره في العمل
(فصل)
ولا يجزئ عبد مغصوب لانه ممنوع من التصرف في نفسه فهو كالزمن، وإن اعتق غائبا لا يعرف خبره فظاهر ما قاله ههنا أنه لا يجزئه.
وقال في زكاة الفطر إن عليه فطرته، فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الاخرى وجعلهما على قولين، أحدهما يجزئه عن الكفارة وتجب زكاة الفطر عنه لانه على يقين من حياته وعلى شك من موته، واليقين لا يزال بالشك، والثانى لا يجزئه في الكفارة ولا تجب زكاة فطرته، لان الاصل في الكفارة وجوبها فلا تسقط بالشك، والاصل في زكاة الفطر براءة ذمته منها، فلا تجب بالشك، ومنهم من قال لا يجزئه في الكفارة وتجب زكاة الفطر، لان الاصل ارتهان ذمته بالكفارة بالظهار المتحقق، وارتهانها بالزكاة بالملك المتحقق فلم تسقط الكفارة بالحياة المشكوك فيها، ولا الزكاة بالموت المشكوك فيه
(فصل)
ولا يجزئ عتق أم الولد ولا المكاتب، لانهما يستحقان العتق بغير الكفارة، بدليل أنه لا يجوز إبطاله بالبيع فلا يسقط بعتقهما فرض الكفارة كما لو باع من فقير طعاما ثم دفعه إليه عن الكفارة، ويجزئ المدبر والمعتق بصفة لان عتقهما غير مسحق بدليل انه يجوز إبطاله بالبيع
(فصل)
وإن اشترى من يعتق عليه من الاقارب ونوى عتقه عن الكفارة لم يجزه لان عتقه مستحق بالقرابة فلا يجوز أن يصرفه إلى الكفارة، كما لو استحق عليه الطعام في النفقة في القرابة فدفعه إليه عن الكفارة.
وإن اشترى عبدا بشرط أن يعتقه فأعتقه عن الكفارة لم يجزه لانه مستحق العتق بغير الكفارة فلا يجوز صرفه إلى الكفارة وإن كان مظاهرا وله عبدا فقال لامرأته: إن وطئتك فعلى أن أعتق عبدى عن كفارة الظهار فوطئها ثم اعتق العبد عن الظهار ففيه وجهان، أحدهما: وهو
قول أبى على الطبري أنه لا يجزئه لان عتقه مستحق بالحنث في الايلاء والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه يجزئه، وهو المذهب لانه لا يتعين عليه عتقه لانه مخير بين أن يعتقه وبين أن يكفر كفارة يمين

(17/370)


(فصل)
وإن كان بينه وبين آخر عبد وهو موسر فأعتق نصيبه ونوى عتق الجميع عن الكفارة أجزأه، لانه عتق العبد بالمباشرة والسراية، وحكم السراية حكم المباشرة، ولهذا إذا جرحه وسرى إلى نفسه جعل كما لو باشر قتله، وإن كان معسرا عتق نصيبه، وإن ملك نصيب الآخر وأعتقه عن الكفارة أجزأه، لانه أعتق جميعه عن الكفارة.
وإن كان في وقتين فأجزأه كما لو أطعم المساكين في وقتين، وإن أعتق نصف عبدين عن كفارة ففيه ثلاثة أوجه
(أحدهما)
لا يجزئه لان المأمور به عتق رقبة ولم يعتق رقبة
(والثانى)
يجزئه لان أبعاض الجملة كالجملة في زكاة الفطر، وزكاة المال، فكذلك في الكفارة.
(والثالث) أنه إن كان باقيهما حرا أجزاه، لانه يحصل تكميل الاحكام والتمكين من التصرف في منافعه على التمام، وإن كان مملوكا لم يجزه، لانه لا يحصل له تكميل الاحكام والتمكين التام.

(فصل)
إذا قال لغيره أعتق عبدك عنى فأعتقه عنه دخل العبد في ملكه وعتق عليه، سواء كان بعوض أو بغير عوض، واختلف أصحابنا في الوقت الذى يعتق عليه، فقال أبو إسحاق يقع الملك والعتق في حالة واحدة، ومن أصحابنا من قال: يدخل في ملكه ثم يعتق عليه، وهو الصحيح، لان العتق لا يقع عنه في ملك غيره فوجب أن يتقدم الملك ثم يقع العتق.
وإن قال أعتق عبدك عن كفارتي، فأعتقه عن كفارتة أجزأه لانه وقع العتق عنه فصار كما لو اشتره ثم أعتقه
(الشرح) حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة رواه أبو داود وابن أسحاق وأحمد بمعناه وفى إسناده محمد بن اسحاق، وأخرج بن ماجه والحاكم نحوه من حديث عائشة قالت: تبارك الذى وسع سمعه كل شئ، انى لاسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى على بعضه وهى تشتكى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرت الحديث وأصله في البخاري من هذا الوجه إلا أنه لم يسمها وأخرج أبو داود والحاكم أيضا من حديث عائشة من وجه آخر قالت: كانت جميلة امرأة أوس بن الصامت (أخى عبادة بن الصامت) وكان امرءا به لمم.

(17/371)


فإذا اشتد لممه ظاهر من امرأته، وقد أعله أبو داود بالارسال.
أما خولة بنت مالك فقد وقع في تفسير أبى حاتم خولة بنت الصامت.
قال الحافظ بن حجر وهو وهم، والصواب زوج ابن الصامت.
ورجح غير واحد أنها خولة بنت الصامت ابن ثعلبة، وروى الطبراني في الكبير والبيهقي من حديث ابن عباس أن المرأة خولة بنت خويلد، وفى إسناده ابو حمزة اليماني، وهو ضعيف.
وقال يوسف بن عبد الله بن سلام: انها خويلة، وروى أنها بنت دليح، كذا في الكاشف، وفى رواية لعائشة " والعرق ستون صاعا " تفرد بها معمر عن عبد الله بن حنظلة، قال الذهبي: لا يعرف، ووثقه ابن حبان، وفيها أيضا محمد بن إسحاق وقد عنعن.
والمشهور عرفا أن العرق خمسة عشر صاعا، كما روى ذلك الترمذي بإسناد صحيح من حديث سلمة، وأحكام هذه الفصول على وجهها على أن تراجع مقدمتنا على كتاب العتق في الجزء الخامس عشر
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن لم يجد رقبة وقد رعى الصوم لزمه أن يصوم شهرين متتابعين لقوله عز وجل " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " فإن دخل فيه في أول الشهر
صام شهرين بالاهلة، لان الاشهر في الشرع بالاهلة والدليل عليه قوله عز وجل " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج " فإن دخل فيه وقد مضى من الشهر خمسة أيام صام ما بقى وصام الشهر الذى بعده، ثم يصوم من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما، لانه تعذر اعتبار الهلال في شهر فاعتبر بالعدد كما يعتبر العدد في الشهر الذى غم عليهم الهلال في صوم رمضان وإن أفطر في يوم منه من غير عذر لزمه أن يستأنف، وإن جامع بالليل قبل أن يكفر أثم لانه جامع قبل التكفير، ولا يبطل التتابع لان جماعه لم يؤثر في الصوم فلم يقطع التتابع كالاكل بالليل.
وأن كان الفطر لعذر نظرت فإن كانت امرأة فحاضت في صوم كفارة للقتل أو الوطئ في كفارة رمضان لم ينقطع التتابع لانه لا صنع لها في الفطر: ولانه لا يمكن حفظ الشهرين من الحيض إلا بالتأخير إلى أن تيأس من الحيض،

(17/372)


وفى ذلك تغرير بالكفارة لانها ربما ماتت قبل الاياس فتفوت.
وإن كان الفطر بمرض ففيه قولان: أحدهما يبطل التتابع لانه أفطر باختياره فبطل التتابع، كما لو أجهده الصوم فأفطر.
والثانى لا يبطل لان الفطر بسبب من غير جهته فلم يقطع التتابع كالفطر بالحيض.
وإن كان بالسفر ففيه طَرِيقَانِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالفطر بالمرض، لان السفر كالمرض في إباحة الفطر، فكان كالمرض في قطع التتابع.
والثانى: أنه يقطع التتابع قولا واحدا لان سببه من جهته.
وإن انقطع الصوم بالاغماء فهو كما لو أفطر بالمرض.
وإن أفطرت الحامل أو المرضع في كفارة القتل أو الجماع في رمضان خوفا على ولديهما ففيه طريقان، أحدهما انه على قولين، لانه فطر لعذر فهو كالفطر
بالمرض، والثانى انه ينقطع التتابع قولا واحدا لان فطرهما لعذر في غيرهما فلم يلحقا بالمريض، ولهذا يجب عليهما الفدية مع القضاء في صوم رمضان، ولا يجب على المريض.
وإن دخل في الصوم فقطعه بصوم رمضان أو يوم النحر لزمه أن يستأنف، لانه ترك التتابع بسبب لا عذر فيه (الشرح) إن لم يجد المظاهر رقبة تفضل عن كفايته، أو كان العرف القائم يمنع الاسترقاق كهو في عصرنا، وكان قادرا على الصيام لزمه ان يصوم شهرين متتابعين لقوله تعالى " والذين يظاهرون من نسائهم. الآية " ولما ذكرناه من حديثى أوس بن الصامت وسلمة بن صخر إذا ثبت هذا فإن إجماع أهل العلم على أن المظاهرة فرضه صيام شهرين متتابعين وذلك لقوله تعالى " فمن لم يحد فصيام شهرين متتابعين من قبل ان يتماسا " فإن صام من الكفارة أول ليلة من الشهر كان عليه ان يتابع الصوم شهرين هلاليين متتابعين سواء كانا تامين أو ناقصين، لان الله أوجب عليه صوم شهرين، واطلاق الشهر ينصرف إلى الشهر الهلالي لقوله تعالى " يسئلونك عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ "

(17/373)


وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الشهر هكذا وهكذا، وأوما بأصابع يديه وحبس إبهام يده في الثالثة كأنه يعد خمسين " وروى أنه قال " قد يكون الشهر هكذا وهكذا وحبس إبهامه في الثالثة " وإن ابتدأ بالصوم وقد مضى من الشهر يوم أو أكثر صام ما بقى من هذا الشهر بالعدد وصام الشهر الذى بعده بالهلال تاما أو ناقصا وتم عدد الاول من الثالث ثلاثين يوما تاما كان الاول أو ناقصا، لانه لما فاته شئ من الشهر الاول لم يصمه لم يمكن اعتباره بالهلال فاعتبر بالعدد، واعتبر الثاني بالهلال لانه أمكنه ذلك
(فرع)
وإن أفطر في يوم أثناء الشهرين - فإن كان أفطر لغير عذر - انقطع تتابعه ولزمه أن يستأنف صوم شهرين متتابعين لقوله تعالى " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " ومعنى التتابع أن يوالى بالصوم أيامهما ولا يفطر فيهما لغير عذر ولم يفعل ذلك فصار كما لو لم يصم وأن جامع في ليلة في أثناء الشهرين عامدا عالما بالتحريم أثم بذلك ولا ينقطع تتابعه، وإن وطئها بالنهار ناسيا لم يفسد صومه ولم ينقطع تتابعه، وبه قال أبو يوسف، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: ينقطع تتابعه بذلك، إلا أن مالكا يقول: إذا وطئها بالنهار ناسيا فسد صومه، وأبو حنيفة يقول: لا يفسد إلا أن ينقطع التتابع.
دليلنا على انه لا ينقطع التتابع أنه وطئ لم يفسد به الصوم، فلم ينقطع التتابع كما لو وطئ امرأة أخرى، وإن كان الفطر بعذر نظرت، فإن كان العذر حيضا، ولا يتصور ذلك في كفارة الظهار، وإنما يتصور ذلك في كفارة القتل والجماع في رمضان، إذا قلنا تجب عليه الكفارة، فإن التتابع لا ينقطع، لان زمن الحيض مستحق للفطر فهو كليالى الصوم، ولان الحيض حصل بغير اختيارها ولا يمكنها الاحتراز منه.
فلو قلنا إنه ينقطع التتابع لادى إلى أن المرأة لا يمكنها أن تكفر بالصوم إلا بعد الاياس من الحيض، وفى ذلك تأخيرها عن وقت وجوبها، وربما بانت قبل الاياس، فلذلك قلنا لا يقطع التتابع.
وإن أفطرت للنفاس احتمل أن يكون فيه وجهان كما قلنا في الايلاء.

(17/374)


وإن كان الفطر للمرض ففيه قولان.
قال في القديم لا ينقطع التتابع وبه قال مالك وأحمد، لان سبب الفطر حدث بغير اختياره فهو كالحيض، ولانا لو قلنا
انه ينقطع بالفطر في المرض لادى ذلك إلى أن يتسلسل، لانه لا يأمن وقوع المرض إذا استأنف بعد البرء.
وقال في الجديد ينقطع تتابعه، وبه قال ابو حنيفة، لانه أفطر باختياره، فهو كما لو أفطر بغير المرض.
وان أفطر بالسفر - فإن قلنا ان المرض إذا أفطر قطع التتابع فالسفر أولى، وان قلنا ان أفطر بالمرض لا ينقطع ففى السفر قولان.
أحدهما لا ينقطع التتابع لان السفر عذر يبيح الفطر فهو كالمرض، والثانى أنه ينقطع التتابع لانه حدث بسبب الفطر وهو السفر.
وإن نوى الصوم من الليل ثم أغمى عليه في أثناء النهار فهل يبطل صومه؟ فيه طريقان مضى ذكرهما في الصوم وأبانهما الامام النووي رضى الله عنه، فإن قلنا لا يبطل لم ينقطع التتابع بذلك، وان قلنا يبطل صومه قال الشيخ ابو اسحاق والمحاملى: هو كالفطر بالمرض على قولين، قال العمرانى وفيه نظر، لانه لم يفطر باختياره بخلاف الفطر بالمرض فإنه أفطر باختياره آه وان أفطرت المرضع والحامل في أثناء الشهرين، فإن كان خوفا على انفسهما فهو كالفطر للمرض، وان كان خوفا على ولديهما فهل ينقطع التتابع؟ فِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قولان كالفطر للمرض.
ومنهم من قال يقطع التتابع قولا واحدا لانهما أفطرتا لحق غيرهما بخلاف المرض (فرع)
وان صام في أثناء الشهرين تطوعا أو عن نذر أو قضاء انقطع تتابعه بذلك.
لان ذلك لا يقع عن الشهرين فانقطع تتابعه به كما لو أفطر، فإن صام بعض الشهرين ثم تخللها زمان لا يجرى صومه عن كفارته مثل رمضان أو عيد الاضحى انقطع تتابعه، لان رمضان مستحق لصومه، وعيد الاضحى مستحق للفطر، وقد يمكنه أن يبتدئ صوما لا يقطعه ذلك، فإن لم يفعل ذلك فقد فرط
كما لو أفطر في أثناء الشهرين بغير عذر، ولا يجئ أن يقال تخللهما عيد الفطر ولا أيام التشريق، لان عيد الفطر يتقدمه رمضان، وأيام التشريق يتقدمها عيد

(17/375)


الاضحى.
فأما إذا ابتدأ الصوم عن الشهرين في رمضان لم يصح صومه عن رمضان لانه لم ينو الصيام عنه ولا عن الشهرين، لان الزمان مستحق لصوم رمضان فلا يقع عن غيره.
وإن ابتدأ صوم الشهرين يوم عيد الفطر لم يصح لانه مستحق للفطر ويصح صومه باقى الشهرين، وإن ابتدأ الصوم أيام التشريق، فإن قلنا بقوله الجديد وأن صومها لا يصح عن صوم التمتع، أو قلنا بقوله القديم أنه يصح صومها عن صوم التمتع، وقلنا بأحد الوجهين على القديم لا يصح صومها عن التمتع لم يصح صومه عن الشهرين، وإن قلنا يصح صومها عن التطوع صح صومها عن الشهرين
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن دخل في الصوم ثم وجد الرقبة لم يبطل صومه، وقال المزني يبطل كما قال في المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة، وقد دللنا عليه في الطهارة، والمستحب أن يخرج من الصوم ويعتق، لان العتق أفضل من الصوم لما فيه من نفع الآدمى، ولانه يخرج من الخلاف.

(فصل)
وإن لم يقدر على الصوم لكبر لا يطيق معه الصوم أو لمرض لا يرجى برؤه منه لزمه أن يطعم ستين مسكينا للآية، والواجب أن يدفع إلى كل مسكين مدا من الطعام، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حديث الجماع في شهر رمضان " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: أطعم ستين مسكينا.
قال لا أجد، قال فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِرْقٍ من تمر فيه خمسة عشر صاعا فقال خذه وتصدق به " وإذا ثبت هذا بالجماع بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أصله في الصحيحين بلفظين عن أبى هريرة، ورواه أبو داود وفى إسناده رجل فيه مقال، ورواه البيهقى وغيره مختصرا مرسلا ومتصلا، وقد مضى الكلام عليه في الصوم أما الاحكام فإنه مما يتسق مع ما قلناه في مقدمة كتاب العتق أن الشرع الحكيم جعل العتق هو الكفارة الاصلية، وأن الصوم بدل من الكفارة إذا لم يجد الرقبة حتى لقد جعل الصوم يبطل في قول المزني وأبى حنيفة إذا وجد الرقبة التى يعتقها

(17/376)


كفارة.
وجملة ما في الفصل أنه إذا دخل في الشهرين بالصوم ثم أيسر وقدر على الرقبة لم يجب عليه الانتقال إلى الرقبة، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ والمزنى يلزمه الانتقال، ودليل المذهب أنه وجد المبدل بعد شروعه في البدل فلم يلزمه الانتقال إليه، كما لو وجد الهدى بعد شروعه في صوم السبع، وقال الامام الشافعي رضى الله عنه: ولو أعتق كان أفضل لانه الاصل وليخرج بذلك من الخلاف (قلت) ولان في ذلك نفعا للآدمي بفك اساره من الرق كما أفاده المصنف.
(فرع)
ولا يجزيه الصوم عن الكفارة حتى ينوى الصوم كل ليلة لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ الليل " فهذا عام في كل صوم، وقد وافقنا أبو حنيفة على ذلك.
وهل يلزمه نية التتابع؟ فيه ثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه نية التتابع كل ليلة، لان التتابع واجب كالصوم، فلما وجب عليه نية الصوم كل ليلة فكذلك نية التتابع
(والثانى)
يلزمه التتابع أول ليلة من الشهر لان الفرص تبيين هذا الصوم عن غيره بالتتابع، وذلك يحصل بالنية أولى ليلة منه (والثالث) لا يجب عليه نية التتابع وهو الاصح، لان التتابع شرط في العبادة
وعلى الانسان أن ينوى فعل العبادة دون نية شروطها، كما قال العمرانى في الصلاة أن ينوى فعل الصلاة دون نية شرطها.
(مسألة) قوله: وان لم يقدر على الصوم لكبر الخ، فجملة ذلك أنه إذا عجز لعلة تلحقه من الجوع والظمأ وكان قادرا على الاطعام لزمه الانتقال إلى الاطعام لقوله تعالى " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " ولما ذكرناه من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر.
إذا ثبت هذا فعليه أن يطعم ستين مسكينا، كل مسكين مدا من طعام، ولا يجرز أن ينقص من عدد المساكين ولا من ستين مدا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أعطى الطعام كله مسكينا واحدا في ستين يوما جاز.
دليلنا قوله تعالى " فإطعام ستين مسكينا، وقوله " اطعام " مصدر يتعدى بأن والفعل، وهذا

(17/377)


وهذا لا يجيز الاقتصار على دون الستين، ولانه مسكين استوفى قوت يوم من كفارة، فإذا دفع إليه غيره منها لم يجزه، كما لو دفع إليه في يوم واحد (فرع)
ويجب أن يدفع إلى كل مسكين مدا في جميع الكفارات إلا كفارة الاذى فأنه يدفع إليه مدين سواء كفر بالتمر أو الزبيب أو البر أو الشعير أو الذرة وبه قال ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والاوزاعي.
وقال أبو حنيفة: إن كفر بالتمر أو الشعير لزمه لكل مسكين صاع، والصاع أربعة أمداد والمد عنده رطلان.
وإن كفر بالبر لزمه لكل مسكين نصف صاع، وفى الزبيب عنه روايتان (إحداهما) أنه كالتمر والشعير
(والثانى)
أنه كالبر وقال مالك في كفارة اليمين والجماع في رمضان كقولنا في كفارة الظهار يطعم كل مسكين مدا بمد هشام، وهو مد وثلث بمد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل بل هو مدان.
وقال أحمد من البر مد ومن التمر والشعير مدان
دليلنا ما روى أبو هريرة أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يضرب خده وينتف شعره، فقال يا رسول الله هلكت، قَالَ وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي في نهار رمضان.
قال اعتق رقبة، قال لا أجد، قال صم شهرين متتابعين قال لا أستطيع، قال أطعم ستين مسكينا، قال لا أستطيع، ثُمَّ جَلَسَ فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بِعِرْقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَدْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، فَقَالَ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: اذهب أطعمه أهلك " فإذا ثبت هذا في المجامع في رمضان قسنا سائر الكفارات عليها.
فأما خبر سلمة بن صخر حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم بوسق من تمر من صدقة بنى زريق فمحمول على الجواز، وأن ما زاد على خمسة عشر صاعا تطوع بدليل هذا الخبر.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب ذلك من الحبوب والثمار التى تجب فيها الزكاة لان الابدان بها تقوم، ويجب من غالب قوت بلده.
قال القاضى أبو عبيد بن حربويه: يجب

(17/378)


من غالب قوته، لان في الزكاة الاعتبار بمال فكذلك ههنا، والمذهب الاول لقوله تعالى " فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " والاوسط الاعدل، وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد، ويخالف الزكاة فإنها تجب من المال والكفارة تجب في الذمة، فإن عدل إلى قوت بلد آخر، فإنك كان أجود من غالب قوت بلده الذى هو فيه جاز لانه زاد خيرا، فإن لم يكن أجود، فإن كان مما يجب فيه زكاة ففيه وجهان.

(أحدهما)
يجزئه لانه قوت تجب فيه الزكاة فأشبه قوت البلد

(والثانى)
لا يجزئه وهو الصحيح لانه دون قوت البلد، فإن كان في موضع قوتهم الاقط ففيه قولان
(أحدهما)
تجزئه لانه مكيل مقتات فأشبه قوت البلد
(والثانى)
لا يجزئه لانه يجب فيه الزكاة فلم يجزئه كاللحم، وان كان لحما أو سمكا أو جرادا ففيه طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالاقط.
ومنهم من قال لا يجزئه قولا واحدا، ويخالف الاقط لانه يدخله الصاع، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا قُوتَ فِيهِ وجب من غالب قوت أقرب البلاد إليه
(فصل)
ولا يجوز الدقيق السويق والخبز، ومن أصحابنا من قال يجزئه لانه مهيا للاقتيات مستغنى عن مؤنته، وهذا فاسد، لانه ان كان قد هيأه لمنفعة فقد فوت فيه وجوها من المنافع، ولا يجوز إخراج القيمة لانه أخذ ما يكفر به فلم يجز فيه القيمة كالعتق
(فصل)
ولا يجوز أن يدفع الواجب إلى أقل من ستين مسكينا للآية والخبر فإن جمع ستين مسكينا وغداهم وعشاهم لما عليه من الطعام لم يجزه، لان ما وجب للفقراء بالشرع وجب فيه التمليك كالزكاة، ولانهم يختلفون في الاكل ولا يتحقق أن كل واحد منهم يتناول قدر حقه وإن قال لهم ملكتكم هذا بينكم بالسوية ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجزئه.
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى لانه يلزمهم مؤنة في قسمته فلم يجزه، كما لو سلم إليهم الطعام في السنابل
(والثانى)
أنه يجزئه وهو الاظهر لانه سلم إلى كل واحد منهم قدر حقه والمؤنة في قسمته قليلة، فلا يمنع الاجزاء

(17/379)


(الشرح) الاحكام: اختلف أصحابنا في هل يلزمه أن يخرج من غالب قوته أو من غالب قوت البلد؟ على وجهين.
قال أبو عبيد بن حربويه يلزمه من غالب قوته وهو اختيار الشيخ أبى حامد، لان الزكاة زكاتان، زكاة المال وزكاة النفس، فلما
كانت زكاة النفس يجب إخراجها من غالب قوت البلد لقوله تعالى " من أوسط ما تطعمون أهليكم " والاوسط الاعدل، وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد، فإن عدل عن قوته وقت بلده إلى قوت بلد آخر، فإن كان أعلى منها وجب عليه إخراجه، بأن عدل عن الذرة والشعير إلى البر، أو كان في مصر وأخرج زبيبا أجزأه لانه أعلى مما وجب عليه، وإن كان دون ذلك بأن عدل عن البر إلى الذرة والشعير فهل يجزئه؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد، وحكاهما المصنف في المهذب هنا وجهين.

(أحدهما)
يجزئه لانه قوت تجب فيه الزكاة
(والثانى)
لا تجزئه وهو الاصح لانه دون ما وجب عليه، وإن أخرج من قوت لا تجب فيه الزكاة - فإن كان غير الاقط - لم يجزه، وإن كان من الاقط ففيه وجهان كما قلنا في زكاة الفطر، وان كان في بلد لا قوت لهم تجب فيه الزكاة وجب من قوت أقرب بلد إليه، وله يجزئه اخراج الخبز والدقيق والسويق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجزئه لانه مهيأ للاقتيات
(والثانى)
لا يجزئه وهو الاصح لانه قد فوت فيه وجوها من المنفعة.
وان أخرج القيمة لم يجزه كما قلنا في الزكاة وأكثر أهل المدن يقلدون من يجيز اخراج القيمة بيد أن الاولى عندنا والاقرب إلى المذهب أن يشترى دقيقا يخرجه منه، وهو وجه صحيح عندنا، وان كان الاصح غيره كما تقدم.
(مسألة) قوله " ولا يجوز أن يدفع الواجب إلى أقل من ستين مسكينا الخ " فجملة ذلك أنه إذا دفع إلى مائة وعشرين مسكينا ستين مدا لكل مسكين نصف مد لم يجزه ذلك.
وقيل له اختر له منهم ستين مسكينا وادفع إلى كل واحد منهم نصف مد، لانه لا يجوز أن يدفع إلى كل واحد منهم أقل من مد، فإن دفع إلى ستين مسكينا ستين مدا إلى كل واحد منهم مدا دفعة واحدة أو في أوقات متفرقة
أجزأه لقوله تعالى " فإطعام ستين مسكينا " فعم ولم يخصص.

(17/380)


وان دفع إلى ثلاثين مسكينا ستين مدا إلى كل واحد مدين لم يجزه الا ثلاثون لانه لم يطعم ستين مسكينا، وعليه أن يطعم ثلاثين مسكينا ثلاثين مدا أخرى لكل واحد مد، وهل له أن يرجع على كل واحد من الثلاثين بما زاد على المد؟ ينظر فيه فإن بين أن ذلك عن كفارة واحدة كان له أن يرجع به، لان ما زاد على المدعى الكفارة لا يجزئ دفعه إلى واحد، وان أطلق لم يرجع لان الظاهر أن ذلك تطوع وقد لزم بالقبض.
وان وجب عليه كفارتان من جنس أو جنسين، فدفع إلى كل مسكين مدين أجزأه لانه لم يدفع إليه عن كل كفارة أكثر من مد، ويجوز الدفع إلى الكبار من المساكين والى الصغار منهم لقوله تعالى " فإطعام ستين مسكينا " ولم يفرق ولكن يدفع مال الصغير إلى وليه، فإن دفع إلى الصغير لم يجزه لانه ليس من أهل القبض، ولهذا لو كان له عليه دين فأقبضه اياه لم يبرأ بذلك (فرع)
والدفع المبرئ له هو أن يدفع إلى كل مسكين مدا يقول خذه أو كله أو ألحقه لك وان قدم ستين مدا إلى ستين مسكينا وقال خذوا أو كلوا أو أبحته لكم لم يجزه ذلك، لان عليه أن يوصل إلى كل واحد منهم مدا، وهذا لم يفعل ذلك.
وان قال ملكتكم هذا بينكم بالسوية أو قبضتكم اياه فقبضوه فَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ لَا يجزيه لان عليهم مشقة في القسمة فلم يجزه، كما لو دفع إليهم الطعام في سنابله.
وقال أبو إسحاق يجزيه.
وهو الاصح.
لانه قد ملكهم اياه، ولا يلحقهم في قسمته كبير مشقة، ويمكن كل واحد منهم بيع نصيبه مشاعا، فإن جمع ستين
مسكينا وغداهم وعشاهم لم يجزه لاختلاف كل منهم عن الآخر في القدر الذى تناوله من الطعام وتعاطاه.
وقال أبو حنيفة يجزيه.
دليلنا أن الواجب عليه دفع الحب وهذا لم يدفع الحب، ولانه لا يتحقق أن كل واحد منهم أكل قدر حقه وهو يشك في اسقاط الفرض عن ذمته والاصل بقاؤه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز أن يدفع إلى مكاتب لانها تجب لاهل الحاجة والمكاتب

(17/381)


مستغن بكسبه إن كان له كسب، أو بأن يفسخ الكتابة ويرجع إلى مولاه إن لم يكن له كسب، ولا يجوز أن يدفع إلى كافر لانها كفارة فلا يجوز صرفها إلى كافر كالعتق، ولا يجوز دفعها إلى من تلزمه نفقته من زوجة أو والد أو ولد، لانه مستغن بالنفقة، فإن دفع بعض ما عليه من الطعام ثم قدر على الصيام لم يلزمه الانتقال إلى الصوم، كما لا يلزمه الانتقال إلى العتق إذا وجد الرقبة في أثناء الصوم والافضل أن ينتقل إليه لانه أصل
(فصل)
ولا يجوز أن يكفر عن الظهار قبل أن يظاهر، لانه حق يتعلق بسببين فلا يجوز تقديمه عليهم كالزكاة قبل أن يملك النصاب، ويجوز أن يكفر بالمال بعد الظهار وقبل العود لانه حق مال يتعلق بسببين، فإذا وجد أحدهما جاز تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول، وكفارة اليمين قبل الحنث
(فصل)
ولا يجوز شئ من الكفارات إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " ولانه حتى يجب على سبيل الطهرة فافتقر إلى النية كالزكاة، ولا يلزمه في النية تعيين سبب الكفارة، كما لا يلزمه في الزكاة تعيين المال الذى يزكيه.
فإن كفر بالصوم لزمه أن ينوى كل ليلة أنه صائم غدا عن الكفارة.
وهل يلزمه نية التتابع؟ فيه ثلاث أوجه
(أحدها) يلزمه أن ينوى كل ليلة، لان التتابع واجب فلزمه نيته كالصوم.

(والثانى)
يلزمه أن ينوى ذلك في أوله لانه يتميز بذلك عن غيره (والثالث) وهو الصحيح أنه لا تلزمه نية التتابع، لان العبادة هي الصوم، والتتابع شرط في العبادة فلم تجب نيته في أداء العبادة، كالطهارة وستر العورة لا يلزمه نيتهما في الصلاة.

(فصل)
وان كان المظاهر كافرا كفر بالعتق أو الطعام لانه يصح منه العتق والاطعام في غير الكفارة فصح منه في الكفارة، ولا يكفر بالصوم لانه لا يصح منه الصوم في غير الكفارة فلا يصح منه في الكفارة، فإن كان المظاهر عبدا فقد ذكرناه في باب المأذون فأغنى عن الاعادة، وبالله التوفيق (الشرح) حديث انما الاعمال بالنيات قال فيه الحافظ بن حجر حديث عزيز وقال فيه الشافعي انه نصف الدين.
قلت: ولهذا زعم بعض المشتغلين بالفتيا

(17/382)


والدعوة والارشاد من الازهريين انه متواتر وصححنا لهم هذا الفهم بما كتبناه في مجلة الازهر في حينه.
لان الحديث آحادى من طرفه الاول، إذ لم يروه من الصحابة الا عمر، ومع أن عمر خطب به على المنبر فإنه لم يروه عنه سوى علقمة ابن وقاص الليثى، ولم يروه عن علقمة سوى محمد بن ابراهيم التيمى، ولم يروه عن التيمى سوى يحيى بن سعيد الانصاري.
وفى هذا الاسناد نكتة قلما تتوفر لغيره من الاحاديث، وهى أن كلا من علقمة الليثى والتيمي والانصاري تابعيون متعاصرون أقران، ولم يشترك اثنان منهما في سماع الحديث من الثالث أو من عمر أما الاحكام فإنه لا يجوز دفع الكفارة إلى عبد ولا كافر ولا إلى من يلزمه نفقته لما ذكره النووي في كتاب الزكاة، ولا يجوز دفعها إلى مكاتب.
وان جاز دفع الزكاة إليه، لان القصد بالكفارة المواساة المحضة، والمكاتب مستغن عن
ذلك، لانه ان كان له كسب فنفقته في كسبه.
وان لم يكن له كسب فيمكنه أن يعجز نفسه وتكون نفقته على السيد (فرع)
وان أطعم بعض المساكين ثم قدر على الصيام لم يلزمه الصيام كما قلنا فيمن قدر على العتق بعد الشروع في الصيام.
وان وطئها في خلال الاطعام أثم بذلك ولا يلزمه الاستئناف وقال مالك يلزمه.
دليلنا أن الوطئ لا يبطل ما فعله من الاطعام فلم يلزمه الاستئناف كما لو وطئ غيرها (فرع)
ولا يجزيه الاطعام إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نوى " متفق عليه.
وهل يجب أن تكون النية مقارنة للدفع؟ أم يجوز تقديمها على الدفع؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الزكاة وأما التتابع فقد مضى كلامنا في نيته في هذا الباب قبل هذه الفصول بقليل (فوائد) لو أن المظاهر أدى الكفارة بإطعام المساكين فأحضرهم وأطعم كل واحد مدا لم يجزئه ذلك الا أن يملكه اياه.
هذا هو مذهبنا به قال أحمد في احدى روايتيه.
والاخرى أنه يجزئه إذا أطعمهم القدر الواجب لهم.
وهو قول النخعي وأبى حنيفة.
وأطعم أنس في فدية الصيام.
قال أحمد أطعم شيئا كثيرا وصنع الجفان.
وذكر حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس.
وذلك لقول

(17/383)


الله تعالى " فإطعام ستين مسكينا " وهذا قد أطعمهم فينبغي أن يجزئة، ولانه أطعم المساكين فأجزأه كما لو ملكهم ولنا أن المنقول عن الصحابة إعطاؤهم، ولانه مال وجب للفقراء شرعا فوجب تمليكهم إياه كالزكاة قلنا: إنه لا يجب التتابع في الاطعام وبه قال أحمد، فلو أطعم واحد اليوم
والثانى بعد يومين والثالث بعد كذا حتى يستكمل الستين صح.
وذلك لان الله تعالى لم يشترط التتابع فيه كما قاله في الصوم.
ولو وطئ في أثناء الاطعام لم تلزمه إعادة ما مضى منه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وقال مالك: يستأنف لانه وطئ في أثناء كفارة الظهار فوجب الاستئناف كالصيام.
دليلنا انه وطئ في أثناء ما لا يشترط التتابع فيه فلم يوجب الاستئناف كوطئ غير المظاهر منها أو كالوطئ في كفارة اليمين، وبهذا فارق الظهار إذا أعطى مسكينا مدين من كفارتين في يوم واحد أجزأه وهو إحدى الروايتين عن أحمد والاخرى لا يجزئه، وهو قول أبى حنيفة لانه استوفى قوت يوم من كفارة فلم يجزئه الدفع إليه ثانيا في يومه كما لو دفعهما إليه من كفارة واحدة والقيمة في الكفارة لا تجزئ عندنا ولا عند أحمد ونظرا لان الشارع الحكيم شرع الدين للسواد من الناس وأكثر الناس أهل قرى وبادية وأقلهم يسكنون المدائن لذلك كان الحب هو المشروع، ويجوز إخراج الدقيق على قول صحيح والاصح الحب، وإذا كان أهل المدائن أنفع لهم أن يعطوا الدقيق كان الدقيق أولى لانه بالنسبة لهم هو حال الكمال وتيسير المنفعة.
أما أهل القرى فحال الكمال وتيسير المنفعة لهم هو الحب فلا يعطوا الدقيق.
والله أعلم

(17/384)