المجموع
شرح المهذب ط دار الفكر قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب اللعان
إذا علم الزوج أن امرأته زنت - فإن رآها بعينه وهى تزني ولم يكن نسب يلحقه
- فله أن يقذفها، وله أن يسكت لما روى علقمة عن عبد الله " أَنَّ رَجُلًا
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رسول الله
إن رجل وجد مع امرأته رجلا ان تكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على
غيظ، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم اللهم افتح، وجعل يدعو فنزلت آية اللعان " والذى يرمون أزواجهم ولم
يكن لهم شهداء الا أنفسهم.
الآية " فذكر أنه يتكلم أو يسكت ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم كلامه
ولا سكوته.
وان أقرت عنده بالزنا فوقع في نفسه صدقها أو أخبره بذلك ثقة أو استفاض أن
رجلا يزنى بها ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب فله أن يقذفها
وله أن يسكت، لان الظاهر أنها زنت فجاز له القذف والسكوت.
وأما إذا رأى رجلا يخرج من عندها ولم يستفض أنه يزنى بها لم يجز أن يقذفها،
لانه يجوز أن يكون قد دخل إليها هاربا أو سارقا، أو دخل ليراودها عن نفسها
ولم تمكنه، فلا يجوز قذفها بالشك.
وان استفاض أن رجلا يزنى بها ولم يجده عندها ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز قذفها لانه يحتمل أن يكون عدو قد أشاع ذلك عليهما
(والثانى)
يجوز.
لان الاستفاضة أقوى من خبر الثقة.
ولان الاستفاضة تثبت القسامة في القتل فثبت بها جواز القذف (الشرح) قصة
الملاعن التى ساقها المصنف هنا رويت من طرق وبأسانيد مختلفة.
منها ما رواه الشيخان وأحمد في مسنده عن سعيد بن جبير أنه قال لعبد الله
ابن عمر " يا أبا عبد الرحمن المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال سبحان الله.
نعم.
ان أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان.
قال يا رسول الله أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ ان تكلم
تكلم بأمر عظيم وان سكت سكت
(17/385)
على مثل ذلك.
قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال:
إن الذى سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة
النور " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء " فتلاهن عليه
ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال لا والذى بعثك
بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب
الآخرة فقالت: لا والذى بعثك بعثك بالحق انه لكاذب فبدأ الرجل فشهد أربع
شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما " وعند
الشيخين وأحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن سهل بن سعد " أن عويمر العجلاني
أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول
الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فيقتلونه، أم كيف يفعل؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ نزل فيك وفى
صاحبتك فاذهب فائت بها، قال سهل: فتلاعنا، وأنا مع الناس عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما فرغ قال عويمر كذبت عليها
يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله قال ابن
شهاب فكانت سنة المتلاعنين " وفى رواية الشيخين وأحمد " ذاكم التفريق بين
كل متلاعنين " وفى لفظ لاحمد ومسلم " وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين "
أما اللغات فاللعان مصدر لاعن يلاعن لعانا وملاعنة، كقاتل يقاتل قتالا
ومقاتلة، أي لعن كل واحد الآخر، ولاعن الرجل زوجته قذفها بالفجور.
وقال ابن دريد كلمة إسلامية في لغة فصيحة.
وقال في الفتح: اللعان مأخوذ من اللعن، لان الملاعن يقول في الخامسة: لعنة
الله عليه إن كان من الكاذبين.
واختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية لانه قول الرجل، وهو الذى بدئ به في
الآية، وهو أيضا يبدأ به وقيل سمى لعانا لان اللعن الطرد والابعاد وهو
مشترك بينهما، وإنما خصت
المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها
(17/386)
قوله " واستفاض " أي شاع.
قوله " في أوقات الريب " أي الشك في سبب دخوله لماذا دخل إليها.
وقد اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلا وتحقق وجود الفاحشة منهما
فقتله، هل يقتل به أم لا؟ فمنع الجمهور الاقدام، وقالوا يقتص منه إلا أن
يأتي ببينة الزنا، أو يعترف المقتول بذلك بشرط أن يكون محصنا.
وقيل بل يقتل به لانه ليس له أن يقيم الحد بغير اذن الامام.
وقال بعض السلف: لا يقتل أصلا، ويعذر فيما فعله إذا ظهرت أمارات صدقه.
وشرط أحمد واسحاق ومن تبعهما أن يأتي بشاهدين أنه قتله بسبب ذلك ووافقهم
ابن القاسم وابن حبيب من المالكية، لكن زاد أن يكون المقتول قد أحصن.
وعند الامام الهادى من العترة أنه يجوز للرجل أن يقتل من وجده مع زوجته
وأمته وولده حال الفعل، وأما بعده فيقاد به ان كان بكرا.
ولنعد إلى ما في الفصل.
قال في البيان.
اللعان مشتق من اللعن وهو الطرد والابعاد فسمى المتلاعنان بذلك لان في
الخامسة اللعنة.
ولما يتعقب من المأثم والطرد، لانه لابد أن يكون أحدهما كاذبا فيكون ملعونا
اه إذا ثبت هذا فإن رأى الرجل امرأته تزني أو أقرت عنده بالزنا أو أخبره
بذلك ثقة واستفاض في الناس أن رجلا زنا بها ثم وجده عندها ولم يكن هناك نسب
يلحقه من هذا الزنا فله أن يقذفها بالزنا، لانه إذا رآها فقد تحقق زناها.
وإذا أقرت عنده أو أخبره ثقة أو استفاض في الناس ووجد الرجل عندها غلب على
ظنه زناها فجاز له قذفها.
ولا يجب عليه قذفها لما روى أَنَّ رَجُلًا قَالَ
" يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امرأتي لا ترد يد لامس " تعريضا منه بزناها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم طلقها.
فقال إنى أحبها.
فقال أمسكها.
وللاحاديث التى سقناها في صدر هذا البحث إذ أذن النبي صلى الله عليه وسلم
للملاعن أن يتكلم أو يسكت حيث لم ينكر عليه أيهما.
فأما إذا لم يظهر على المرأة الزنا ببينة ولا سبب حرم عليه قذفها لقوله
تعالى " إن الذين جاءوا بالافك عصبة منكم - إلى قوله تعالى - سبحانك هذا
بهتان عظيم " ولقوله صلى الله عليه وسلم
(17/387)
" من قذف محصنة أحبط الله عمله ثمانين عاما
" وإن أخبر بزناها من لا يثق بقوله حرم عليه قذفها، لانه لا يغلب على الظن
إلا قول الثقة، وإن وجد عندها رجلا ولم يستفض في الناس أنه زنا بها حرم
عليه قذفها لجواز أن يكون دخل إليها هاربا أو لحاجة أو لطلب الزنا ولم
تجبه، فلا يجوز قذفها بأمر محتمل وإن استفاض في الناس أن فلانا زنى بها ولم
يجده عندها فهل يجوز له أن يقذفها؟ فيه وجهان حكاهما المصنف
(أحدهما)
يجوز له قذفها لان الاستفاضة أقوى من خبر الثقة، والقسامة تثبت بالاستفاضة
فيثبت بها جواز القذف.
(والثانى)
لا يجوز له قذفها، ولم يذكر في التعليق والشامل غيره لجواز أن يكون أشاع
ذلك عدو لها.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ومن قذف امرأته بزنا يوجب الحد أو تعزير القذف، فطولب بالحد أو بالتعزير
فله أن يسقط ذلك بالبينة، لقوله عز وجل " والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " فدل على أنه إذا أتى بأربعة
شهداء لم يجلد.
ويجوز أن يسقط باللعان، لما روى ابن عباس رضى الله عنه " أن هلال بن أمية
قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: البينة أو الحد في ظهرك، فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على
امرأته يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد
في ظهرك.
فقال هلال: والذى بعثك بالحق إنى لصادق، ولينزلن الله عز وجل في أمرى ما
يبرئ ظهرى من الحد، فنزلت: والذين يرمون أزواجهم " ولان الزوج يبتلى بقذف
امرأته لنفى العار والنسب الفاسد، ويتعذر.
عليه إقامة البينة فجعل اللعان بينة له، ولهذا لما نزلت آية اللعان قال
النبي صلى الله عليه وسلم " أبشر يا هلال، فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا.
قال هلال قد كنت أرجو ذلك من ربى عز وجل " فإن قدر على البينة ولاعن جاز
لانهما بينتان في اثبات حق، فجاز إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على
الاخرى، كالرجلين، والرجل والمرأتين في المال.
(17/388)
وان كان هناك نسب يحتاج إلى نفيه لم ينتف
بالبينة، ولا ينتفى الا باللعان، لان الشهود لا سبيل لهم إلى العلم بنفى
النسب.
وان أراد أن يثبت الزنا بالبينة ثم يلاعن لنفى النسب جاز، وان أراد أن
يلاعن ويثبت الزنا وينفى النسب باللعان جاز.
(الشرح) حديث ابن عباس أخرجه احمد والبخاري وابو داود والترمذي وابن ماجه
والدارقطني ولفظه " أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه
وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك.
فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل
النبي صلى الله عليه وسلم يقول البينة والا حد في ظهرك، فقال هلال والذى
بعثك بالحق انى لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهرى من الحد، فنزل جبريل
وأنزل الله عليه (والذين يرمون أزواجهم) فقرأ حتى بلغ (ان كان من الصادقين)
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل اليهما فجاء هلال فشهدوا النبي صلى
الله عليه وسلم
يقول ان الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما
كان عند الخامسة وقفوها فقالوا انها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع
ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
انظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابع الاليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن
سحماء فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب
الله لكان لى ولها شأن " قوله " البينة أو حد في ظهرك " فيه دليل على أن
الزوج إذا قذف امرأته بالزنا وعجز عن اقامة البينة وجب عليه حد القاذف.
وإذا وقع اللعان سقط وهو قول الجمهور.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن اللازم بقذف الزوج انما هو اللعان فقط، ولا
يلزمه الحد، والحديث وما في معناه حجة عليه قوله فنزلت " والذين يرمون
أزواجهم " فيه التصريح بأن الآية نزلت في شأن هلال.
وقد تقدم الخلاف في ذلك.
وفى الحديث مشروعية تقديم الوعظ للزوجين قبل اللعان وقد أخرج هذا الحديث
احمد ومسلم والنسائي عن أنس بلفظ " ان هلال بن
(17/389)
أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخا
لبراء بن مالك لامه، وكان أول رجل لاعن في الاسلام.
قال فتلاعنا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضئ العينين فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به
أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء.
قال فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين " وفى رواية أن أول لعان
كان في الاسلام أن هلال بن أمية قذف شريك بن السحماء بامرأته، فَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بذلك، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم
أربعة شهداء وإلا حد في ظهرك، يردد ذلك عليه مرارا، فقال له هلال: والله يا
رسول الله إن الله ليعلم انى لصادق ولينزلن الله عليك ما يبرئ ظهرى من الحد
فبينما هم كذلك إذ نزلت عليه آية اللعان (والذين يرمون أزواجهم) إلى آخر
الآية وذكر الحديث.
رواه النسائي ورجاله رجال الصحيح وقوله " قضئ العينين " بفتح فكسر بعدها
همزة على وزن حذر، وهو فاسد العينين، والجعد خلاف السبط ويسميه عوام
المصريين (أكرت) قوله " حمش الساقين " أي دقيق الساقين.
ورواه أحمد وابو داود مطولا وفى إسناده عباد بن منصور وقد تكلم فيه غير
واحد.
وقيل فيه إنه كان قدريا داعية أما الاحكام فإنه إذا قدف الرجل رجلا محصنا
أو امرأة أجنبية منه محصنة وجب عليه حد القذف وحكم بفسقه وردت شهادته.
فإن أقام القاذف بينة على زنا المقذوف سقط عنه الحد وزال التفسيق وقبلت
شهادته ووجب على المقذوف حد الزنا لقوله تعالى " والذين يرمون المحصنات ثم
لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " الآية وإن قذف الرجل امرأته
وجب عليه حد القذف إن كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة وحكم بفسقه،
فإن طولب بالحد أو التعزير فله أن يسقط ذلك عن نفسه بإقامة البينة على
الزنا، وله ان يسقط ذلك باللعان، فإن لاعن والا أقيم عليه الحد أو التعزير.
هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذا قذف الرجل امرأته لم يجب عليه الحد بقذفها
وإنما يجب عليه اللعان فإن لاعن وإلا حبس حتى يلاعن.
(17/390)
دليلنا قوله تعالى " والذين يرمون المحصنات
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " الآية.
وهذا عام في الازواج وغير الازواج، فأخبر الازواج بأن
لعانهم يقوم مقام شهادة أربعة غيرهم بقوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم
ولم يكن لهم شهداء الا أنفسهم " الآية.
وحديث ابن عباس الذى ساقه المصنف في الفصل في قصة هلال بن أمية حين قذف
امرأته بشريك بن السحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " البينة أو حد في
ظهرك " فقال والذى بعثك بالحق انى لصادق ولينزلن الله في امرى ما يبرئ ظهرى
من الحد، فأنزل الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآية، فدعاه النبي صلى
الله عليه وسلم وقال " أبشر يا هلال قد جعل الله لك فرجا مخرجا " فقال قد
كنت أرجو ذلك من ربى وحديث عويمر العجلاني الذى مضى في اول هذا البحث وفيه:
قد انزل الله فيك وفى صاحبتك اذهب فأت بها، فأتى بها فتلاعنا.
فيكون المعنى قد انزل الله فيك وفى صاحبتك، أي ما انزل في هلال بن امية
وامرأته لانها عامة، ويجوز ان تكون الآية نزلت في الجميع، والمشهور هو
الاول، وإنما خص الازواج باللعان بقذف الزوجات، لان الأجنبي لا حاجة به إلى
القذف فغلظ عليه ولم يقبل منه في اسقاط الحد عنه الا بالبينة.
وإذا زنت الزوجة فقد أفسدت على الزوج فراشه وخانته فيما ائتمنها عليه،
وألحقته من الغيظ مالا يلحق الأجنبي، وربما ألحقت به نسبا ليس منه، فاحتاج
إلى قذفها لنفى ذلك النسب عنه، فخفف عنه بأن جعل لعانه يقوم مقام شهادة
أربعة.
وان قدر الزوج على البينة واللعان فله أن يسقط الحد عن نفسه بأيهما شاء.
وقال بعض الناس ليس له ان يلاعن.
دليلنا انهما بينتان في اثبات حق فجاز له اقامة كل واحدة منهما مع القدرة
على الاخرى، كالرجلين في الشهادة في المال والرجل والمرأتين (فرع)
وسواء قال الزوج رأيتها تزني أو قذفتها بزنى ولم يضف ذلك إلى رؤيته فله ان
يلاعن لاسقاط الحد عنه.
وبه قال ابو حنيفة.
وقال مالك ليس له
أن يلاعن الا إذا قال رأيتها تزني، لان آية اللعان نزلت في هلال بن امية
وكان
(17/391)
قال رأيت بعينى وسمعت بأذنى.
دليلنا قوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم "
الآية.
ولم يفرق بين أن يقول رأيت بعين أو أطلق ولانه معنى يخرج به من القذف
المضاف إلى المشاهدة، فصح الخروج به من القذف المطلق كالبينة (فرع)
وإن كان هناك ولد يريد نفيه لم ينتف بالبينة وإنما ينتفى باللعان، لان
الشهود لا سبيل لهم إلى ذلك.
وإن أراد أن يثبت الزنا بالبينة ويلاعن لنفى النسب أو يلاعن لهما جاز له
ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن عفت الزوجة عن الحد أو التعزير - ولم يكن نسب - لم يلاعن، ومن أصحابنا
من قال له أن يلاعن لقطع الفراش، والمذهب الاول، لان المقصود باللعان درء
العقوبة الواجبة بالقذف ونفى النسب لما يلحقه من الضرر بكل واحد منهما،
وليس ههنا واحد منهما، وأما قطع الفراش فإنه غير مقصود ويحصل له ذلك
بالطلاق فلا يلاعن لاجله وإن لم تعف الزوجة عن الحد أو التعزير ولم تطالب
به فقد روى المزني أنه ليس عليه أن يلاعن حتى تطلب المقذوفة حدها.
وروى فيمن قذف امرأته ثم جنت أنه إذا التعن سقط الحد، فمن أصحابنا من قال
لا يلاعن لانه لا حاجة به إلى اللعان قبل الطلب.
وقال ابو إسحاق: له أن يلاعن لان الحد قد وجب عليه فجاز أن يسقطه من غير
طلب، كما يجوز أن يقضى الدين المؤجل قبل الطلب.
وقوله: ليس عليه أن يلتعن، لا يمنع الجواز وإنما يمنع الوجوب
(فصل)
وإن كانت الزوجة أمة أو ذمية أو صغيرة يوطأ مثلها فقذفها عزر وله أن يلاعن
لدرء التعزير لانه تعزير قذف، وإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها فقذفها عزر ولا
يلاعن لدرء التعزير، لانه ليس بتعزير قذف، وإنما هو تعزير على الكذب لحق
الله تعالى.
وإن قذف زوجته ولم يلاعن فحد في قذفها ثم قذفها بالزنا الذى رماها به عزر
(17/392)
ولا يلاعن لدرء التعزير لانه تعزير لدفع
الاذى، لانا قد حددناه للقذف، فإن ثبت بالبينة أو بالاقرار أنها زانية ثم
قذفها فقد روى المزني انه لا يلاعن لدرء التعزير.
وروى الربيع انه يلاعن لدرء التعزير.
واختلف أصحابنا فيه على طريقين، فقال ابو اسحاق: المذهب ما رواه المزني وما
رواه الربيع من تخريجه لان اللعان جعل لتحقيق الزنا وقد تحقق زناها
بالاقرار أو البينة، ولان القصد باللعان إسقاط ما يجب بالقذف، والتعزير
ههنا على الشتم لحق الله تعالى لا على القذف، لانه بالقذف لم يلحقها معرة.
وقال ابو الحسن بن القطان وأبو القاسم الداركى: وهى على قولين
(أحدهما)
لا يلاعن لما ذكرناه
(والثانى)
يلاعن لانه إذا جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها، فلان يلاعن
فيمن ثبت زناها أولى.
(الشرح) درء العقوبة دفعها وإزالتها، وبابه نفع، ودارأته دافعته، وفى
الحديث " ادرءوا الحدود بالشبهات " وفى الكتاب " ويدرءون بالحسنة السيئة "
وقال تعالى (فادارأتم فيها) أي تماريتم وتدافعتم، والمدارأة بالهمز
المدافعة.
قال الشاعر بلسان ناقته: تقول وقد درأت لها وضينى
* أهذا دينه أبدا وديني؟ أكل الدهر حل وارتحال؟
* فما تبقى على ولا تقيني
والمداراة بغير همز الاخذ بالرفق أو المخاتلة.
يقال داريته إذا لاينته، ودريته إذا ختلته.
ومنه: فإن كنت لا أدرى الظباء فانني
* أدس لها تحت التراب الدواهيا أما الاحكام فإن حد القذف حق للمقذوف، فإن
عفا عنه سقط وان مات قبل أن يستوفيه ورث عنه، وقال أبو حنيفة: وهو حق لله
لا حق للمقذوف فيه، فإن عفا عنه لم يسقط، وان مات لم يورث عنه.
ووافقنا أنه لا يستوفى الا بمطالبته.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام
" فأضاف العرض الينا كإضافة الدم والمال، فوجب أن يكون ما في مقابلته
(17/393)
للمقذوف كالدم والمال، ولانه حق على البدن
إذا ثبت بالاعتراف لم يسقط بالرجوع فكان للآدمي كالقصاص، ففى قولنا إذا ثبت
بالاعتراف لم يسقط بالرجوع، احتراز من حد الزنا والخمر والقطع في السرقة.
إذا ثبت هذا فقذف زوجته ثم عفت عما وجب لها من الحد أو التعزير ولم يكن
هناك ولد لم يكن له أن يلاعن، لانه يلاعن لاسقاط الحد عنه، وقد سقط بالعفو.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن لانه يستفيد به قطع الفراش والفرقة
المؤبدة.
والمذهب الاول لان الفرقة يمكنه إحداثها بالطلاق الثلاث.
وان كان هناك ولد فله أن يلاعن لنفيه، وان لم تطالبه بالحد ولم تعف عنه،
فإن كان هناك نسب فله يلاعن لنفيه عنه، وان لم يكن هناك نسب فليس له أن
يلاعن.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن لقطع الفراش، والمذهب الاول، لانه انما
يلاعن لنفى النسب أو لاسقاط الحد عنه، وليس هناك أحدهما، وقطع الفراش يمكنه
بالطلاق الثلاث.
وجملة ما تقدم انه لا يتعرض له بإقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى
تطالبه زوجته بذلك، فإن ذلك حق لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقها،
وليس لوليها المطالبة عنها ان كانت مجنونة أو محجورا عليها، ولا لولى
الصغيرة وسيد الامة المطالبة بالتعزير من أجلهما، لان هذا حق ثبت للتشفي
فلا يقوم غير المستحق فيه مقام المستحق كالقصاص فإن أراد الزوج اللعان من
غير مطالبة نظرنا فإن لم يكن هناك نسب يريد نفيه لم يكن له أن يلاعن، وكذلك
كل موضع سقط فيه الحد، مثل أن أقام البينة بزناها أو أبرأته من قذفها أو حد
لها ثم أراد لعانها ولا نسب هناك ينفى فإنه لا يشرع اللعان، وهذا قول أكثر
اهل العلم، ولا نعلم فيه مخالفا الا بعض أصحابنا الذين قالوا: له الملاعنة
لازالة الفراش، ولكن الصحيح عندنا مثل قول سائر الفقهاء لان ازالة الفراش
تمكنه بالطلاق، والتحريم المؤبد ليس بمقصود يشرع اللعان لاجله، وانما حصل
ذلك ضمنا.
أفاده ابن قدامة في المغنى فإذا قذف امرأته ثم جنت، أو قذفها في حال جنونها
بزنا أضافه إلى حال الصحة، فإنه لا يجب عليه الحد بذلك، وانما يجب عليه
التعزير، وان أراد الولى
(17/394)
أن يطالب بما وجب لها من الحد أو التعزير
لم يكن له ذلك، لان طريقة التشفي من القاذف بإقامة الحد عليه فلم يكن له
ذلك كالقصاص، فإن التعن الزوج منها فقد قال الشافعي رضى الله عنه: وقعت
الفرقة واختلف أصحابنا فيه على وجهين، فمنهم من قال إن كانت حاملا فللزوج
أن يلاعن لان اللعان يحتاج إليه لنفى الولد عنه.
وإن كانت حائلا لم يكن له أن يلاعن لان اللعان يراد لاسقاط الحد أو لنفى
الولد ولا ولد ههنا فتحتاج إلى نفيه، ولا يجب عليه الحد إلا بمطالبتها ولا
مطالبة لها قبل الافاقة، فلم يكن له أن يلاعن.
وقال أبو إسحاق المروزى: له أن يلاعن سواء كانت حاملا أو حائلا، لانها إن
كانت حاملا احتاج إلى اللعان لنفى الولد، وإن كانت حائلا احتاج إلى اللعان
لاسقاط الحد الواجب عليه في الظاهر كمن وجب عليه دين إلى أجل فله أن يدفعه
قبل حلول الاجل، والاول أصح لان الشافعي قال " ليس على الزوج أن يلتعن حتى
تطالب المقذوفة بحدها.
(مسألة) وإن قذف زوجته الصغيرة - فإن كانت لا يوطأ مثلها - كإبنة سبع سنين
يعلم يقينا أنها لا توطأ وأنه كاذب ويجب عليه التعزير للكذب، وليس له أن
يلاعن لاسقاط هذا التعزير لانا نتحقق كذبه فلا معنى للعان.
قال الشيخ أبو حامد ولا يقام عليه التعزير إلا بعد بلوغها، لانه لا يصح
مطالبتها ولا ينوب عنها الولى في المطالبة.
وإن كانت صغيرة يوطأ مثلها كإبنة تسع سنين فما زاد صح قذفه، لان ما قاله
يحتمل الصدق والكذب، ولا يجب عليه الحد بقذفها لانها ليس بمحصنة، وإنما يجب
عليها التعزير، وهل للزوج أن يلاعن لاسقاط التعزير؟ فيه وجهان.
من أصحابنا من قال ليس له أن يلاعن، لان اللعان يراد لنفى النسب أو لاسقاط
ما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها، وذلك لا يجب قبل مطالبتها.
وقال أبو إسحاق، له أن يلاعن لاسقاط ما وجب عليه من التعزير في الظاهر وإن
لم تطالب به كما يجوز أن يقدم ما وجب عليه من الدين المؤجل قبل حلوله.
وإن كانت له زوجة كتابية فقذفها لم يجب عليه الحد لانها ليست بمحصنة، ويجب
عليه التعزير، وحكمه حكم الحد الذى يجب عليه بقذف المحصنة يسقط عنه
(17/395)
بإقامة البينة على زناها أو باللعان، لانه
إذا سقط عنه الحد الكامل بذلك فلان يسقط ما هو دونه بذلك أولى.
وإن كانت الزوجة أمة فقذفها لم يجب عليه الحد لانها ليست بمحصنة، ويجب عليه
التعزير، وليس للسيد أن يطالب به لانه ليس بمال ولا له بدل هو مال،
وحق السيد إنما يتعلق بالمال أو بما بدله المال، فإن طالبته الامة به كان
له أن يسقط ذلك بالبينة أو باللعان كما قلنا في الحد الذى يجب عليه بقذف
المحصنة.
وإن عفت الامة عما وجب لها من التعزير سقط لانه لا حق للسيد فيه (مسألة)
إذا قامت البينة على امرأة بالزنا أو أقرت بذلك ثم قذفها الزوج أو أجنبي
بذلك الزنا أو بغيره لم يجب عليه حد القذف لقوله تعالى " والذين يرمون
المحصنات " الآية.
وهذه ليست بمحصنة، ولان القذف هو ما احتمل الصدق والكذب.
فأما ما احتمل أحدهما فإنه لا يكون قذفا، ألا ترى أنه لو قذف الصغيرة التى
لا يوطأ مثلها في العادة.
أو قال الناس كلهم زناة لم يكن قذفا ولان الحد إنما جعل دفعا للعار عن نسب
المقذوفة، وهذه لا عار عليها بذلك القذف، لان زناها قد ثبت ويجب عليه
التعزير لانه أذاها وسبها وذلك محرم فعزر لاجله، فإن كان المؤذى لها بذلك
أجنبيا لم يسقط عنه ببينة ولا بغيرها، لان هذا تعزير أذى وليس بتعذير قذف.
وإن كان المؤذى لها بذلك زوجها فهل له إسقاطه باللعان.
نقل المزني ليس له إسقاطه باللعان.
ونقل الربيع أن له إسقاطه باللعان، فاختلف أصحابنا في ذلك، فقال ابو اسحاق
الصحيح ما نقله المزني، وما نقله الربيع غلط، لان اللعان إنما يراد لتحقيق
الزنا والزنا هنا متحقق فلا فائدة في اللعان.
ولان اللعان إنما أسقط حق المقذوفة، وأما حق الله فلا يسقط، وهذا التعزير
لحق الله تعالى فلم يجز إسقاطه باللعان، كما قلنا فيمن قذف صغيرة لا يوظأ
مثلها فإن قيل لو كان هذا التعزير لحق الله تعالى لما كان يفتقر إلى
مطالبتها، كما لو قال، الناس كلهم زناة، فإن الامام يعزره من غير مطالبة.
قلنا انما افتقر إلى مطالبتها لانه يتعلق بحق امرأة بعينها.
وقال أبو الحسين ابن القطان وابو القاسم الداركى هي على قولين
(17/396)
(أحدهما)
لا يلاعن لما ذكرناه
(والثانى)
يلاعن، لانه إذا جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها فلان يلاعن
فيمن ثبت زناها أولى.
ومنهم من قال ليست على قولين.
وإنما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذى قال لا يلاعن إذا كان قد رماها
بالزنا مضافا إلى ما قبل الزوجية، مثل ان رماها بالزنا وهما أجنبيان فأقام
عليها البينة بذلك ثم تزوجها ورماها بذلك الزنا لانه كان في الاصل لا يجوز
له اللعان لاجله فكذلك في الثاني، والموضع الذى قال: له أن يلاعن إذا رماها
بالزنا في حال الزوجية، فحققه عليها بالبينة ثم رماها به ثانيا فله أن
يلاعن لانه كان في الاصل له إسقاط حده باللعان قبل البينة فكذلك بعد البينة
(فرع)
وإن قذف امرأته بالزنا ولم يقم عليها البينة ولم يلاعن فحد ثم رماها بذلك
الزنا فإنه لا يجب عليه الحد، لان القذف هو ما احتمل الصدق والكذب وهذا لا
يحتمل إلا الكذب، ولان الحد إنما يراد لدفع العار عن نسب المقذوفة وقد دفع
عنه العار بالحد الاول فلا معنى لاقامة الحد ثاينا، ويجب عليه التعزير لانه
آذاها بذلك، والاذى بذلك محرم ولا يلاعن لاسقاط هذا التعزير، لانه تعزير
أذى فهو كالتعزير لاذى الصغيرة التى لا يوطأ مثلها وإن قذف أجنبي أجنبية
بالزنا ولم يقم البينة على الزنا فحد القاذف ثم رماها القاذف بذلك ثانيا
فإنه لا يجب عليه الحد وإنما يجب عليه التعزير للاذى.
وقال بعض الناس يجب عليه حد القذف دليلنا ما روى أن أبا بكرة شهد هو ورجلان
معه على المغيرة بن شبعة بالزنا فحدهم عمر رضى الله عنه.
ثم قال أبو بكرة للمغيرة: قد كنت زنيت، فهم عمر بجلده فقال له على رضى الله
عنه: إن كنت تريد أن تحده فارجم صاحبك، فأدرك عمر معنى قول على عليه
السلام: إن كنت تجعل هذا قذفا ثانيا فقد تمت الشهادة على
المغيرة.
وإن كان هو القذف الاول فقد حددته.
(فرع)
قال ابن الصباغ في الشامل: إذا قذف الرجل امرأته وثبت عليها الحد بلعانه
نظرت - فإن لاعنته - فقد عارض لعانه لعانها فلا يثبت عليها الزنا ولا يجب
عليها الحد ولا تزول حصانتها.
ومتى قذفها هو أو غيره وجب عليه حد القذف.
وإن قذفها ولاعنها ولم تلاعن هي فقد وجب عليها الحد ويسقط احصانها
(17/397)
في حق الزوج.
وهل تسقط حصانتها في حق الأجنبي؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تسقط حصانتها لانه قد ثبت زناها بلعان الزوج فلا يسقط احصانها لان اللعان
حجة تختص بالزوج، ولهذا لا يسقط عن الأجنبي حد القذف به فلا يسقط احصانها
به في حقه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق أن الزوج إذا قذفها وتلاعنا، ثم قذفها بذلك الزنا
الذى تلاعنا عليه لم يجب عليه الحد.
وان قذفها بزنا آخر ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجب عليه الحد، لان اللعان لا يسقط الا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته
إلى القذف.
وقد زالت الزوجية فزالت الحاجة إلى القذف.
وان تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد، فكل موضع قلنا لا يجب على الزوج الحد بقذفها
بعد الزوجية فإنه يجب عليه التعزير لانه أذاها والاذى محرم، ولا خلاف أنه
لا يسقط هذا التعزير ولا الحد الذى يجب عليه إذا قذفها برنا آخر باللعان،
لان اللعان انما يكون بين الزوجين وهما أجنبيان.
هذا مذهبنا وقال أبو حنيفة إذا قذفها أجنبي فإن كان الزوج لاعنها ونفى
حملها وكان الولد حيا فعلى الأجنبي الحد، وان كان لم ينف حملها، أو نفاه
وكان الولد ميتا فإنه لا حد على الأجنبي.
دليلنا ما رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم لاعن بين هلال بن أمية
وامرأته ففرق بينهما وقضى بأن لا يدعى الولد لاب، وأنها لا ترمى ولا ولدها
فمن رماها أو ولدها فعليه الحد ولم يفرق وهذا حجة لما قال ابن الصباغ فإنها
أجابته باللعان وقال صلى الله عليه وسلم " فمن رماها أو ولدها فعليه الحد "
ولم يفرق بين الزوج وغيره.
والله تعالى أعلم بالصواب
(17/398)
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى:
بَابُ مَا يلحق من النسب وما لا يلحق وما يجوز نفيه باللعان وما لا يجوز
إذا تزوج امرأة وهو ممن يولد لمثله، وأمكن اجتماعهما على الوطئ، وأتت بولد
لمدة يمكن أن يكون الحمل فيها لحقه في الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم "
الولد للفراش " ولان مع وجود هذه الشروط يمكن أن يكون الولد منه، وليس ههنا
ما يعارضه ولا ما يسقطه، فوجب أن يلحق به
(فصل)
وإن كان الزوج صغيرا لا يولد لمثله لم يلحقه، لانه لا يمكن أن يكون منه
وينتفى عنه من غير لعان، لان اللعان يمين واليمين جعلت لتحقيق ما يجوز أن
يكون، ويجوز أن لا يكون فيتحقق باليمين أحد الجائزين، وههنا لا يجوز أن
يكون الولد له فلا يحتاج في نفيه إلى اللعان.
واختلف أصحابنا في السن التى يجوز أن يولد له، فمنهم من قال يجوز أن يولد
له بعد عشر سنين، ولا يجوز أن يولد له قبل ذلك، وهو ظاهر النص.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مروهم
بالصلاة وهم أبناء سبع، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ،
وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في المضاجع " ومنهم من قال يجوز أن يولد له بعد تسع
سنين ولا يجوز أن يولد له قبله،
لان المرأة تحيض لتسع سنين فجاز أن يحتلم الغلام لتسع، وما قاله الشافعي
رحمه الله أراد على سبيل التقريب لانه لابد أن يمضى بعد التسع إمكان الوطئ
وأقل مدة الحمل وهو ستة أشهر، وذلك قريب من العشرة وإن كان الزوج مجبوبا
فقد روى المزني أن له أن يلاعن، وروى الربيع أنه ينتفى من غير لعان.
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق إن كان مقطوع الذكر والانثيين انتفى من
غير لعان لانه يستحيل أن ينزل مع قطعهما، وإن قطع أحدهما لحقه، ولا ينتفى
إلا بلعان، لانه إذا بقى الذكر أولج وأنزل، وإن بقى الانثيان ساحق وأنزل،
وحمل الروايتين على هذين الحالين
(17/399)
قال القاضى أبو حامد: في أصل الذكر ثقبان
إحداهما للبول والاخرى للمنى فإذا انسدت ثقبة المنى انتفى الولد من غير
لعان لانه يستحيل الانزال، وإن لم تنسد لم ينتف إلا باللعان، لانه يمكن
الانزال.
وحمل الروايتين على هذين الحالين (الشرح) حديث " الولد للفراش " رواه أحمد
والشيخان وأصحاب السنن إلا أبا داود، وقد عده السيوطي في الاحاديث
المتواترة.
وقال الحافظ بن حجر: هذا الحديث رواه بضعة وعشرون نفسا (قلت) ورد هذا
الحديث عن أبى هريرة وعائشة وعثمان وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر
وأبى أمامة وعمرو بن خارجة وابن الزبير وابن مسعود وَعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وقاص
والبراء بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عباس
والحسن بن على عليهما السلام وعبادة بن الصامت وواثلة بن الاسقع ومعاوية بن
عمرو وأنس وعبد الله بن حذافة السهمى وسودة بنت زمعة وأبى مسعود البدرى
وزينب بنت جحش.
وعن التابعين مرسلا سعيد بن المسيب وعبيد بن عمر والحسن البصري.
وفى لفظ للبخاري " الولد لصاحب الفراش ".
أما حديث " مروهم بالصلاة " أخرجه
أبو داود والترمذي وغيرهما من حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ ومن حديث سبرة بن معبد الجهنى.
قال الترمذي هو حديث حسن ولفظ رواية عمرو بن شعيب " مُرُوا أَوْلَادَكُمْ
بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا
وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في المضاجع " أما اللغات،
فقوله " ما يلحق من النسب " فهو من باب تعب ومصدره لحاق بالفتح أي أدرك
وألحق مثله: وألحقت زيد بعمرو أتبعته إياه فلحق به وألحق أيضا.
وفى الدعاء " ان عذابك بالكفار ملحق " يجوز اسم فاعل بالكسر أي لاحق
وبالفتح اسم مفعول لان الله ألحقه وألحق القائف الولد بأبيه واستلحقت الشئ
ادعيته.
ولحقه الثمن لحوقا لزمه، فاللحوق اللزوم واختلف في معنى الفراش فذهب الاكثر
إلى أنه اسم للمرأة، وقد يعبر به عن حالة الافتراش.
وقيل انه اسم للزوج.
روى ذلك عن أبى حنيفة.
وأنشد بن الاعرابي مستدلا على هذا المعنى قول جرير.
باتت تعانقه وبات فراشها
(17/400)
وفى القاموس: إن الفراش زوجة الرجل.
قيل ومنه " وفرش مرفوعة " والجارية يفترشها الرجل.
اه والعاهر الزانى، يقال " عهر " أي زنى.
قيل ويختص ذلك بالليل.
قال في القاموس: عهر المرأة كمنع عهرا ويكسر ويحرك، وعهارة بالفتح وعهورة،
وعاهرها عهارا أتاها ليلا للفجور أو نهارا.
اه ومعنى له الحجر أي الخيبة أو لا شئ له في الولد، والعرب تقول: له الحجر
وبفيه الترب، يريدون ليس له إلا الخيبة، وقيل المراد بالحجر أنه يرجم
بالحجارة إذا زنى، ولكنه يرد على هذا أنه لا يرجم كل من زنى بل المحصن فقط
أما الاحكام فإنه يمهد لذلك بأنه لا فرق أولا بين كون الزوجة مدخولا بها أو
غير مدخول بها في أنه يلاعنها.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من علماء الامصار، منهم عطاء
والحسن والشعبى والنخعي وعمرو بن دينار وقتادة وَمَالِكٌ وَأَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْل الْعِرَاقُ وَالشَّافِعِيُّ، فإن كانت
غير مدخول بها فقد قال أحمد وسعيد بن جبير وقتادة ومالك: لها نصف الصداق،
فإن كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما على ما سيأتي بيانه، فإن كان
غير المكلف الزوج فله حالان
(أحدهما)
أن يكون طفلا
(والثانى)
أن يكون بالغا زائل العقل، فإن كان طفلا - فإن أتت امرأته بولد نظرنا - فإن
كان لدون عشر سنين، وهى السن التى يؤيدها ظاهر النص والحديث " اضربوهم
عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " وإن ذهب بعض الاصحاب إلى ما دون ذلك،
فإن كان لدون عشر سنين لم يلحقه الولد ويكون منفيا عنه، لان العلم يحيط به
بأنه ليس منه، فإن الله عز وجل لم يجر العادة بأن يولد له لدون ذلك فينتفى
عنه، كما لو أتت به المرأة لدون ستة أشهر منذ تزوجها كما سيأتي، ولان الولد
لا يخلق الا من ماء الرجل والمرأة ولو أنزل لبلغ.
والصحيح أنه إذا تحقق إمكان الانزال فقد ثبت البلوغ وألحق به الولد.
وهذا ظاهر مذهب أحمد، لان الولد يلحق بالامكان، وإن خالف الظاهر.
فإذا ولدت ولدا يمكن كونه منه فهو ولده في الحكم، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم
(17/401)
" الولد للفراش " ولا ينتفى عنه إلا بنفيه
باللعان من الزوج وحده.
وقال أحمد أن يوجد اللعان منهما جميعا.
ولنا أن نفى الولد إنما كان بيمينه والتعانه هو لا بيمين المرأة على
تكذيبه، ولا معنى ليمين المرأة في نفى النسب وهى تثبته وتكذب قول من ينفيه،
وإنما لعانها لدرء الحد عنها، كما قال تعالى " ويدرأ عنها العذاب أن
تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " وقال أحمد وأصحابه: لا يكون
اللعان تاما إلا إذا التعنا جميعا، وأن تكمل ألفاظ اللعان منهما جميعا، وأن
يبدأ بلعان الزوج قبل المرأة، فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد به، وَبِهِ
قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ مالك وأصحاب الرأى ان فعل
أخطأ السنة والفرقة جائزة وينتفى الولد عنه، لان الله تعالى عطف لعانها على
لعانه بالواو وهى لا تقتضي ترتيبها، ولان اللعان قد وجد منهما جميعا فأشبه
ما لو رتبت، وعندنا لا يتم اللعان إلا بالترتيب إلا أنه يكفى عندنا لعان
الرجل وحده لنفى الولد، وذلك حاصل مع إخلاله بالترتيب وعدم كمال ألفاظ
اللعان من المرأة.
ومن شروطه أن يذكر نفى الولد في اللعان.
وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة.
وقد خالف القاضى ابو بكر منهم فقال انه لا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه،
وينتفى بزوال الفراش، ولان حديث سهل الذى وصف فيه اللعان لم يذكر فيه الولد
وقال فيه ففرق الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لاب
ولا يرمى ولدها.
رواه أبو داود وغيره.
وفى حديث مسلم عن عبد الله أن رجلا لاعن امرأته عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وسلم
بينهما وألحق الولد بأمه.
دليلنا أن من سقط حقه باللعان كان ذكره شرطا، ولان غاية ما في اللعان أن
يثبت زناها وذلك لا يوجب نفى الولد، كما لو أقرت به أو قامت به بينة فأما
حديث سهل بن سعد فقد روى فيه - وكانت حاملا فأنكر حملها - من رواية البخاري
وروى ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بينهما وألحق الولد بالمرأة، والزيادة من الثقة مقبولة
(17/402)
فعلى هذا لابد من ذكر الولد في كل لفظة ومع
اللعن في الخامسة لانها من لفظات اللعان.
(مسألة) قال بعض أصحابنا يجوز أن يولد لهما لتسع سنين، ونصف السنة وهى مدة
الحمل، لان الجارية قد تحيض لتسع فكذلك الغلام.
وقد عرفنا أن عمرو بن العاص كان بينه وبين إبنه عبد الله إثنا عشر عاما
ولنا أن الزمن الذى يمكن البلوغ فيه والاحتلام منه يلحقه الولد فيه.
وأما قياس الغلام على الجارية فغير صحيح، لاننا نعلم أنه لا يمكنه
الاستمتاع لتسع (فرع)
قال أصحابنا: إن ولدت امرأة مقطوع الذكر والانثيين لم يلحق نسبه به في قول
عامة أهل العلم، لانه يستحيل منه الايلاج والانزال.
وإن قطعت أنثياه دون ذكره فكذلك لانه لا ينزل ما يخلق منه الولد.
وقال بعضهم يلحقه النسب لانه يتصور منه الايلاج وينزل ماء رقيقا أو منيا من
ثقبة المنى.
وبهذا قال القاضى أبو حامد المروروذى من أصحابنا وقال أبو إسحاق إن هذا لا
يخلق منه ولد عادة ولا وجد ذلك.
وبه قال أكثر أصحاب أحمد رضى الله عنه.
فأما ان قطع ذكره وحده فإنه يلحقه الولد لانه يمكن أن يساحق فينزل ماء يخلق
منه الولد.
وقال ابن اللبان لا يلحقه الولد في هاتين الصورتين في قول الجمهور ولاصحاب
أحمد اختلاف في ذلك على نحو ما ذكرنا من الخلاف عندنا، وهو الخلاف الناشئ
من روايتي الربيع والمزنى، وقد حمل أصحابنا الروايتين على الحالين اللذين
أتينا عليهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن لم يمكن اجتماعهما على الوطئ بأن تزوجها وطلقها عقيب
العقد أو كانت بينهما مسافة لا يمكن معها الاجتماع انتفى الولد من غير
لعان، لانه لا يمكن أن يكون منه.
(فصل)
وإن أتت بولد لدون ستة أشهر بولد من وقت العقد انتفى عنه من غير لعان، لانا
نعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش، وإن دخل بها ثم طلقها وهى
(17/403)
حامل فوضعت الحمل ثم أتت بولد آخر لستة
أشهر لم يلحقه، وانتفى عنه من غير لعان، لانا قطعنا ببراءة رحمها بوضع
الحمل، وأن هذا الولد الآخر علقت به بعد زوال الفراش.
وإن طلقها وهى غير حامل واعتدت بالاقراء ثم وضعت ولدا قبل أن تتزوج بغيره
لدون ستة أشهر لحقه، لانا تيقنا أن عدتها لم تنقض، وإن أتت به لستة أشهر أو
أربع سنين أو ما بينهما لحقه.
وقال أبو العباس بن سريج لا يلحقه لانا حكمنا بانقضاء العدة وإباحتها
للازواج وما حكم به يجوز نقضه لامر محتمل، وهذا خطأ لانه يمكن أن يكون منه،
والنسب إذا أمكن إثباته لم يجز نفيه، ولهذا إذا أتت بولد بعد العقد لستة
أشهر لحقه.
وإن كان الاصل عدم الوطئ وبراءة الرحم فإن وضعته لاكثر من أربع سنين نظرت -
فإن كان الطلاق بائنا - انتفى عنه بغير لعان، لان العلوق حادث بعد زوال
الفراش، وإن كان رجعيا ففيه قولان
(أحدهما)
ينتفى عنه بغير لعان لانها حرمت عليه بالطلاق تحريم المبتوتة، فصار كما لو
طلقها طلاقا بائنا (والقول الثاني) يلحقه لانها في حكم الزوجات في السكنى
والنفقة والطلاق والظهار والايلاء، فإذا قلنا بهذا فإلى متى يلحقة ولدها؟
فيه وجهان، قال أبو إسحاق يلحقه أبدا، لان العدة يجوز أن تمتد لان أكثر
الطهر لا حد له، ومن أصحابنا من قال يلحقه إلى أربع سنين من وقت انقضاء
العدة، وهو الصحيح
لان العدة إذا انقضت بانت وصار كالمبتوتة (الشرح) إذا تزوج رجل امرأة في
مجلس ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين
العقد، أو تزوج مشرقي بمغربية ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه، وبذلك
قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة يلحقه نسبه لان الولد انما يلحقه بالعقد
ومدة الحمل، ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الامكان لحق الولد، وان علم
انه لم يحصل منه الوطئ دليلنا انه لم يحصل امكان الوطئ بهذا العقد فلم يلحق
به الولد، كزوجة ابن سنة أو كما لو ولدته لدون ستة أشهر، وفارق ما قاسوا
عليه، لان الامكان إذا
(17/404)
وجد لم يعلم أنه ليس منه قطعا لجواز أن
يكون وطئها من حيث لا يعلم، ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطئ، فعلقنا
الحكم على إمكانه في النكاح، ولم يجز حذف الامكان عن الاعتبار، لانه إذا
انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه، فلم يجز إلحاقة به مع يقين كونه ليس منه.
ومن ولدت امرأته ولدا لا يمكن كونه منه في النكاح لم يلحقه نسبه ولم يحتج
إلى نفيه لانه يعلم أنه ليس منه فلم يلحقه، كما لو أتت به عقيب نكاحه لها،
وذلك مثل أن تأتى به لدون ستة أشهر من حين تزوجها فلا يلحق به في قول كل من
علمنا قوله من أهل العلم لاننا نعلم أنها علقت به قبل أن يتزوجها (فرع)
إذا طلق امرأته وهى حامل فوضعت ولدا ثم ولدت آخر قبل مضى ستة أشهر فهما من
الزوج لاننا نعلم أنهما حمل واحد، فإذا كان أحدهما منه فالآخر منه، وإن كان
بينهما أكثر من ستة أشهر لم يلحق الزوج وانتفى عنه من غير لعان لانه لا
يمكن أن يكون الولدان حملا واحدا وبينهما مدة الحمل، فعلم أنها علقت به بعد
زوال الزوجية وانقضاء العدة: وكونها أجنبية فهى كسائر الاجنبيات،
وإن طلقها فاعتدت بالاقراء ثم ولدت ولدا قبل مضى ستة أشهر من آخر أقرائها
لحقه لاننا تيقنا أنها لم تحمله بعد انقضاء عدتها ونعلم أنها كانت حاملا به
في زمن رؤية الدم فيلزم أن لا يكون الدم حيضا فلم تنقض عدتها به، وإن أتت
به لاكثر من ذلك إلى أربع سنين لحقه.
وقال أبو العباس بن سريج لا يلحقه لانها أتت به بعد الحكم بانقضاء عدتها في
وقت يمكن أن لا يكون منه فلم يلحقه، كما لو انقضت عدتها بوضع الحمل، وإنما
يعتبر الامكان مع بقاء الزوجية أو العدة، وأما بعدهما فلا يكتفى بالامكان
للحاقه، وإنما يكتفى بالامكان لنفيه، لان الفراش سبب، ومع وجود السبب يكتفى
بإمكان الحكمة واحتمالها، فإذا انتفى السبب وآثاره فينتفى الحكم لانتفائه
ولا يلتفت إلى مجرد الامكان، وبهذا قال أحمد وأصحابه.
وهذا خطأ لانه يمكن أن يكون منه لان الاصل أن الولد يلحق بالامكان فلحق به
(فرع)
إذا وضعته قبل انقضاء العدة لاقل من أربع سنين لحق بالزوج ولم ينف عنه إلا
باللعان، وإن وضعته لاكثر من أربع سنين من حين الطلاق وكان
(17/405)
بائنا انتفى عنه بغير لعان لاننا علمنا
أنها علقت به بعد زوال الفراش، وان كان رجعيا فوضعته لاكثر من أربع سنين
منذ انقضت العدة فكذلك لانها علقت به بعد البينونة، وان وضعته لاكثر من
أربع سنين منذ الطلاق ولاقل منها منذ انقضت العدة ففيه قولان
(أحدهما)
لا يلحقه لانها لم تعلق به قبل طلاق فأشبهت البائن
(والثانى)
يلحقه لانها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والايلاء،
وبهذا الذى قلناه عندنا فمثله عند أحمد رضى الله عنه، فالقولان عندنا
روايتان له أفادهما ابن قدامة.
قال المصنف رحمة الله تعالى
(فصل)
وان كانت له زوجة يلحقه ولدها ووطئها رجل بالشبهة وادعى الزوج أن الولد من
الواطئ عرض معهما على الفافة ولا يلاعن لنفيه لانه يمكن نفيه بغير لعان وهو
القافة فلا يجوز نفيه باللعان، فإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك
حتى يبلغ السن الذى ينتسب فيه إلى أحدهما، فإن بلغ وانتسب إلى الواطئ بشبهة
انتفى عن الزوج بغير لعان، وان انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه الا باللعان
لانه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان وان قال زنى بك فلان وأنت
مكرهة والولد منه ففيه قولان
(أحدهما)
لا يلاعن لنفيه لان أحدهما ليس بزان فلم يلاعن لنفى الولد كما لو وطئها رجل
بشبهة وهى زانية
(والثانى)
أن له أن يلاعن وهو الصحيح، لانه نسب يلحقه من غير رضاه لا يمكن نفيه بغير
اللعان فجاز نفيه باللعان كما لو كانا زانيين
(فصل)
وان أتت امرأته بولد فادعى الزوج انه من زوج قبله، وكان لها زوج قبله، نظرت
فإن وضعته لاربع سنين فما دونها من طلاق الاول، ولدون ستة أشهر من عقد
الزوج الثاني فهو للاول، لانه يمكن ان يكون منه، وينتفى عن الزوج بغير لعان
لانه لا يمكن أن يكون منه وان وضعته لاكثر من أربع سنين من طلاق الاول
ولاقل من ستة أشهر
(17/406)
من عقد الزوج الثاني انتفى عنهما، لانه لا
يمكن أن يكون من واحد منهما، وإن وضعته لاربع سنين فما دونها من طلاق
الاول، ولستة أشهر فصاعدا من عقد الزوج الثاني عرض على القافة، لانه يمكن
أن يكون من كل واحد منهما، فإن ألحقته بالاول لحق به وانتفى عن الزوج بغير
لعان، وإن ألحقته بالزوج لحق به
ولا ينتفى عنه إلا باللعان، وان لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك إلى
أن يبلغ وقت الانتساب، فإن انتسب إلى الاول انتفى عن الزوج بغير لعان، وإن
انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان: وإن لم يعرف وقت طلاق الاول ووقت
نكاح الزوج فالقول قول الزوج مع يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه،
لان الاصل عدم الولادة وانتفاء النسب، فإن حلف سقطت دعواها وانتفى النسب
بغير لعان، لانه لم يثبت ولادته على فراشه، وإن نكل رددنا اليمين عليها،
وإن حلفت لحق النسب بالزوج ولا ينتفى إلا باللعان، لانه ثبتت ولادته على
فراشه وإن نكلت فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبى فيحلب ويثبت نسبه، فيه
وجهان بناء على القولين في رد اليمين على الجارية المرهونة إذا أحبلها
الراهن وادعى أن المرتهن أذن له في وطئها وأنكر المرتهن ونكلا جميعا عن
اليمين
(أحدهما)
لا ترد اليمين، لان اليمين حق للزوجة، وقد أسقطته بالنكول، فلم يثبت
لغيرها.
(والثانى)
ترد لانه يتعلق بيمينها حقها وحق الولد، فإذا أسقطت حقها لم يسقط حق الولد.
(فصل)
وإن جاءت امرأة ومعها ولد وادعت أنه ولدها منه وقال الزوج ليس هذا منى ولا
هو منك بل هو لقيط أو مستعار لم يقبل قولها أنه منها من غير بينة لان
اولادة يمكن إقامة البينة عليها والاصل عدمها فلم يقبل قولها من غير بينة،
فإن قلنا ان الولد يعرض مع الام على القافة في أحد الوجهين عرض على القافة،
فإن لحقته بالام لحق بها وثبت نسبه من الزوج لانها أتت به على فراشه ولا
ينتفى عنه الا باللعان وان قلنا ان الولد لا يعرض مع الام على القافة.
أو لم تكن قافة.
أو كانت وأشكل عليها فالقول قول الزوج مع يمينه انه لا يعلم أنها ولدته على
فراشه.
فإذا
(17/407)
حلف انتفى النسب من غير لعان، لانه لم تثبت
ولادته على فراشه.
وان نكل رددنا اليمين عليها فإن حلفت لحقه نسبه ولا ينتفى عنه الا باللعان.
وان نكلت فهل توقب اليمين على بلوغ الولد ليحلب؟ على ما ذكرناه من الوجهين
في الفصل قبله.
(الشرح) ان غاب عن زوجته سنين فبلغتها وفاته فاعتدت ونكحت نكاحا صحيحا في
الظاهر ودخل بها الثاني وأولدها أولادا ثم قدم الاول فسخ نكاح الثاني وردت
إلى الاول وتعتد من الثاني ولها عليه صداق مثلها والاولاد له لانهم ولدوا
على فراشه.
روى ذلك عن على عليه السلام.
وبه قال الثوري وأهل العراق وابن أبى ليلى ومالك وأهل الحجاز وأحمد واسحاق
وأبو يوسف وغيرهم من أهل العلم الا أبا حنيفة فإنه قال الولد للاول لانه
صاحب الفراش لان نكاحه صحيح ثابت ونكاح الثاني غير ثابت فأشبه الأجنبي
دليلنا أن الثاني انفرد بوطئها في نكاح يلحق النسب في مثله فكان الولد له
دون غيره.
كولد الامة من زوجها يلحقه دون سيدها.
وفارق الأجنبي فإنه ليس له نكاح.
(فرع)
إذا ولدت المرأة فأنكر زوجها الولد فلا حد عليه لان هذا ليس بقذف لاحتمال
أن يكون مراده انه لا يشبهه في خلقه أو خلقه.
وان قال وطئت بشبهة والولد من الواطئ فلا حد عليه لانه لم يقذفها ولم يقذف
واطئها.
وان قال أكرهت على الزنا فهل عليه اللعان؟ فمذهب أحمد وأبى حنيفة أنه لا حد
عليه ولا لعان لانه لم يقذفها ومن شرط اللعان القذف ويلحقه نسب الولد.
ومذهبنا أن له اللعان لانه محتاج إلى نفى الولد بخلاف ما إذا قال وطئت
بشبهة فإنه يمكن نفى النسب بعرض الولد على القافة فيستغنى بذلك عن اللعان
فلا يشرع كما لا يشرع
لعان أمته لما أمكن نفى نسب ولدها بدعوى الاستبراء فإن قال وطئك فلان بشبهة
وأنت تعلمين الحال فليس هذا بلعان وليس له نفيه باللعان لانه يمكنه نسبه
بالقافة فأشبه ما لو قال واشتبه عليك أيضا.
وقدا اختار هذا بعض أصحاب أحمد
(17/408)
وقال ابن قدامة: إنه يدخل في قوله تعالى "
والذين يرمون أزواجهم " فملك اللعان ونفى الولد، لانه قد لا يوجد قافة، وقد
لا يعترف الرجل بما نسب إليه، أو يغيب أو يموت فلا ينتفى الولد.
(فرع)
وإن أتت بولد فادعى أنه من زوج قبله نظرت - فإن كانت تزوجت بعد انقضاء
العدة - لم يلحق بالاول بحال، وان كان بعد أربع سنين منذ بانت من الاول لم
يلحق به أيضا.
وإن وضعته لاقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني لم يلحق به وينتفى عنهما.
وإن كان لاكثر من ستة أشهر فهو ولده، وان كان لاكثر من ستة أشهر منذ تزوجها
الثاني ولاقل من أربع سنين من طلاق الاول ولم يعلم انقضاء العدة عرض على
القافة وألحق بمن ألحقته به منهما، فإن ألحقته بالاول انتفى عن الزوج بغير
لعان، وإن ألحقته بالزوج انتفى عن الاول ولحق الزوج، ولا ينتفى عنه الا
باللعان، وهذا احدى الروايتين عن أحمد (رض) (مسألة) إذا تزوج رجلان أختين
فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة منهما إلى زوج الاخرى فوطئها وحملت منه
لحق الولد بالواطئ لانه وطئ يعتقد حله فلحق به النسب كالوطئ في نكاح فاسد
وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب أحمد: لا يكون الولد للواطئ وانما يكون للزوج.
وهذا الذى يقتضيه أصل أبى حنيفة لان الولد للفراش.
دليلنا أن الواطئ انفرد بوطئها فيما يلحق به النسب فلحق به، كما لو لم تكن
ذات زوج،
وكما لو تزوجت امرأة المفقود عند الحكم بوفاته ثم بان حيا، والخبر مخصوص
بهذا فنقيس عليه ما كان في معناه وان وطئت امرأة بشبهة في طهر لم يصبها
فيه، فاعتزلها حتى أتت بولد لستة أشهر من حين الوطئ لحق الواطئ وانتفى عن
الزوج من غير لعان.
وعلى قول أبى حنيفة وبعض أصحاب أحمد: يلحق الولد الزوج، لان الولد للفراش.
وان أنكر الواطئ الوطئ فالقول قوله بغير يمين ويحلق نسب الولد بالزوج، لانه
لا يمكن إلحاقه بالمنكر، ولا تقبل دعوى الزوج في قلع نسب الولد.
وان أتت بالولد لدون ستة أشهر من حين الوطئ لحق الزوج بكل حال لاننا نعلم
أنه ليس
(17/409)
من الواطئ.
وان اشتركا في وطئها في طهر فأتت بولد يمكن أن يكون منهما لحق الزوج لان
الولد للفراش وقد أمكن كونه منه وان ادعى الزوج أنه من الواطئ فقال بعض أهل
العلم: يعرض على القافة معهما فيلحق بمن ألحقته منهما، فإن ألحقته بالزوج
لحق ولم يملك نفيه باللعان، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ
رَضِيَ اللَّهُ عنه ولنا أنه يمكن الاستعانة بالطب الشرعي في تحليل فصائل
دم كل من الرجلين والام فإن تشابهت فصائل الدم عندهما أخذ بالقافة وان
اختلفت فإن كان أحدهما (ا) والآخر (ب) والام (و) فإن جاء الولد (و) رجعنا
إلى القافة.
وان جاء (ا) كان لمن فصيلته (ا) وان جاء (ب) كان كذلك، وان جاء (اب) رجعنا
إلى القافة، ويحتمل أن يلحق الزوج لان الفراش دلالته أقوى فهو مرجح لاحد
الاحتمالين فيلحق بالزوج، ويمكن أن يلحق بهما ولم يملك الواطئ نفيه عن
نفسه، وللزوج أن ينفيه باللعان.
وهذا احدى الروايتين عن أحمد (رض) وان لم توجد القافة أو أنكر الواطئ الوطئ
أو اشتبه على الطب الشرعي أو
القافة ترك إلى أن يكبر إلى وقت الانتساب فإن انتسب إلى الزوج والا نفاه
باللعان (مسألة) إذا قال: ما ولدته وانما التقطته أو استعرته، فقالت بل هو
ولدى منك لم يقبل قول المرأة الا ببينة، وهذا هو قول احمد وابى ثور واصحاب
الرأى لان الولادة يمكن اقامة البينة عليها، والاصل عدمها فلم تقبل دعواها
من غير بينة كالدين، فإن قلنا بأحد الوجهين ان الولد يعرض مع الام على
القافة أو على الطب الشرعي، فإن ألحقاه بالام لحق بها وثبت نسبه من الزوج
لانه لم يأت الا على فراشه، وليس له ان ينفيه باللعان، لانه لم يقذفها
بالزنا، وانما ادعى نفى الولادة.
وان قلنا بالوجه الآخر بعدم العرض على القافة كان القول قوله مع يمينه انه
لا يعلم انها ولدته على فراشه، وكذلك إذا أشكلت القافة حين عرض عليها أو
تشابهت فصائل الدم، واحتمل ان يكون من غيرها، أو كانت فصيلته مشابهة للزوج
ويحتمل ان يكون من غيره فإن القول قول الزوج مع يمينه، فإن حلف فلا لعان
وانتفى نسبه منه، وان نكل رددناه عليها وبحلفها يلحقه الولد،
(17/410)
وليس له أن يلاعنها، فإن نكلت هي أيضا فعلى
ما ذكره المصنف في الفصل قبله من الوجهين من وقوف اليمين حتى يبلغ الولد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا تزوج امرأة وهى وهو ممن يولد له ووطئها، ولم يشاركه أحد في وطئها بشبهة
ولا غيرها، وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا لحقه نسبه، ولا يحل له نفيه لِمَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين نزلت آية الملاعنة: أيما رجل
جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه الله على رءوس الاولين
والآخرين " وإن أتت امرأته بولد يلحقه في الظاهر بحكم الامكان وهو يعلم أنه
لم يصبها،
وجب عليه نفيه باللعان، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَيُّمَا
امْرَأَةٍ أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ، ولن يدخلها الله
تعالى جنته " فلما حرم النبي صلى الله عليه سلم على المرأة أن تدخل على قوم
من ليس منهم، دل على أن الرجل مثلها، ولانه إذا لم ينفه جعل الأجنبي مناسبا
له ومحرما له ولاولاده ومزاحما لهم في حقوقهم.
وهذا لا يجوز، ولا يحوز أن يقذفها لجواز أن يكون من وطئ شبهة أو من زوج
قبله.
(فصل)
وإن وطئ زوجته ثم استبرأها لحيضة وطهرت ولم يطأها وزنت وأتت بولد لستة أشهر
فصاعدا من وقت الزنا لزمه قذفها ونفى النسب لما ذكرناه وان وطئها في الطهر
الذى زنت فيه فأتت بولد وغلب على ظنه أنه ليس منه، بأن علم أنه كان يعزل
منها أو رأى فيه شبها بالزانى لزمه نفيه باللعان، وان لم يغلب على ظنه أنه
ليس منه لم ينفه لقوله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر "
(الشرح) عمد المصنف إلى حديث أبى هريرة فجزأه جزأين مما أوهم أنهما حديثان،
وكان يمكنه سوق الحديث برمته والاستدلال به في الموضعين بغير تجزئه ولا
تكرار، فالحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في
المستدرك وابن أبى شيبة عن ابى هريرة رضى الله عنه مرفوعا " أيما امرأة
أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ، وأيما رجل جحد
(17/411)
ولده وهو ينظر إليه احتجب الله تعالى منه،
وفضحه على رءوس الاولين والآخرين يوم القيامة " وفى رواية ابن ماجه " ألحقت
بقوم " أما أحكام الفصلين فإنه يحرم على الرجل قذف زوجته، وقد جعله القرآن
الكريم من الكبائر قال تعالى " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات لعنوا في
الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم " ولقوله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل جحد
ولده
وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رءوس الاولين والآخرين " قوله "
ينظر إليه " يعنى يراه منه، فكما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس
منهم حرم على الرجل جحد ولده، ولا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره لانه
غير مأمون على الكذب عليها، ولا برؤيته رجلا خارجا من عندها من غير أن
يستفيض زناها لانه يجوز أن يكون دخل سارقا أو هاربا أو لحاجة.
كما قررنا ذلك في صدر هذا البحث (فرع)
اللعان واجب إذا رأى امرأته تزني في طهر لم يطأها فيه فإنه يلزمه اعتزالها
حتى تنتهى عدتها، فإذا أتت بولد لستة أشهر من حين الزنا فأكثر لزمه قذفها
ونفى ولدها لان ذلك يجرى مجرى اليقين في ان الولد من الزانى، فإذا لم ينفه
لحقه الولد.
وورثه وورث أقاربه وورثوا منه.
ونظر إلى بنانه واخواته.
وليس ذلك بجائز وسيحمل هو وزره فيجب نفيه لازالة ذلك وإذا أقرت له بالزنا
وقع في قلبه صدقها فهو كما لو رآها.
وكذلك إذا غلب على ظنه زناها في طهر وطئها فيه ثم اتت بولد فرأى ملامح
الزانى ومخايله واضحة في الوليد.
أو كان يطؤها ويعزل عنها ثم ولدت لستة اشهر من حين العزل فصاعدا لزمه نفيه
ايضا باللعان.
فإن لم يوقن أو يظن ظنا قويا انه ليس منه لم ينفه لحديث ابى هريرة رضى الله
عنه الذى اخرجاه الشيخان واصحاب السنن الا ابا داود عن النبي صلى الله عليه
وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر " وما رواه الشافعي بسنده عن ابن عمر "
ان عمر قال: ما بال رجال يطأون ولائدهم ثم يعتزلونهن.
لا تأتيني وليدة يعترف سيدها ان قد ألم بها الا ألحقت به ولدها.
فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا "
(17/412)
ومقتضى هذا أن الولد يلحق الاب بعد ثبوت
الفراش، وهو لا يثبت إلا بعد
إمكان الوطئ في النكاح الصحيح أو الفاسد، وإلى ذلك ذهب جمهور الفقهاء، وقال
أبو حنيفة: إنه يثبت بمجرد ال؟ قد، واستدل له بأن مجرد المظنة كافية، ورد
بمنع حصولها بمجرد العقد، بل لابد من إمكان الوطئ، ولا شك أن اعتبار مجرد
العقد في ثبوت الفراش جمود ظاهر وحكى ابن القيم عن ابى حنيفة أنه يقول بأن
نفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها بل لو طلقها عقبه في المجلس تصير
الزوجة به فراشا، وكذلك قوله بأن العقد يثبت به الفراش ولحوق النسب، ولو
كانت بينهما م؟ افة طويلة لا يمكن وصوله إليها في مقدار مدة الحمل، وهذا
كله لا دليل عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أتت امرأته بولد أسود وهما أبيضان، أو بولد أبيض وهما أسودان ففيه
وجهان:
(أحدهما)
أن له أن ينفيه لما روى ابن عباس رضى الله عنه في حديث هلال ابن أمية إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إن جاءت به أورق جعدا
جماليا خدلج الساقين سابغ الاليتين فهو للذى رميت به، فجاءت به أورق جعدا
جماليا خدلج الساقين سابغ الاليتين، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لولا الايمان لكان لى ولها شأن " فجعل الشبه
دليلا على أنه ليس منه
(والثانى)
أنه لا يجوز نفيه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ بنى فزارة فقال " إن امرأتي جاءت بولد أسود ونحن أبيضان، فقال هل لك
من إبل؟ قال نعم، قال ما ألوانها؟ قال حمر.
قال هل فيها من أورق؟ قال إن فيها لورقا.
قال فأنى ترى ذلك؟ قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال وهذا عسى أن يكون نزعه
عرق " (الشرح) حديث ابن عباس رواه أحمد وأبو داود وهو مطول عنده، وفى
إسناده عباد بن منصور فيه مقال معروف.
وحديث أبى هريرة أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الاربعة والدارقطني
ولفظه " جاء رجل من بنى فزارة
(17/413)
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ولدت امرأتي غلاما أسود، وهو حينئذ يعرض بأن
ينفيه، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لك من
ابل؟ قال نعم، قال فما ألوانها؟ قال حمر، قال هل فيها من اورق؟ قال ان فيها
لورقا، قال فأنى أتاها ذلك؟ قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال فهذا عسى أن
يكون نزعه عرق ولم يرخص له في الانتفاء منه " ولابي داود في رواية " إن
امرأتي ولدت غلاما أسود وانى أنكره " قوله " هلال بن أمية " هو أحد الثلاثة
الذين خلفوا.
قوله " جاء رجل " اسمه ضمضم بن قتادة أما اللغات فالاورق الاسمر، وفى
المصباح ما كان لونه كلون الرماد، والاسم الورقة كالحمرة والخضرة والصفرة.
والجعد ضد السبط وقد مضى.
وقال الهروي يكون مدحا وذما، فالمدح؟ بعنيين، أحدهما أن يكون معضوب الخلق
شديد الاسر، والثانى أن يكون شعرا جعدا، والذم بمعنيين.
أحدهما أن يكون قصيرا مترددا، والثانى أن يكون نحيلا، يقال رجل جعد اليدين
وجعد الاصابع أي مقبضها، والجمالى بضم الجيم، الضخم الاعضاء التام الاوصال،
هكذا قال ابن بطال، وقال في المصباح: عظيم الخلق، وقيل طويل الجسم اه.
قالوا ناقة جمالية من بدانتها، قال الشاعر: جمالية لم يبق سيرى ورحلتي
* على ظهرها من نيها غير محفدى وخدلج الساقين أي عريض صدر القدمين خفاق
القدم، وسابغا الاليتين أي كامل واف، ومنه الدرع السابغة
أما الاحكام فإن حديث ابن عباس دليل على أنه يجوز للاب.
أن ينفى ولده بمجرد كونه مخالفا لهما في اللون، وبهذا قال القاضى وأبو
الخطاب من الحنابلة، وهو أحد الوجهين عند أصحابنا، وحديث أبى هريرة دليل
على أنه لا يجوز له أن ينفى ولده بمجرد كونه مخالفا لهما في اللون وقد حكى
القرطبى وابن رشد الاجماع على ذلك وتعقبهما الحافظ بن حجر بأن الخلاف في
ذلك ثابت عند الشافعية فقالوا: ان لم ينضم إلى المخالفة في اللون قرينة زنا
لم يجز النفى، فإن اتهمها فأتت بولد على لون الرجل الذى اتهمها به جاز
(17/414)
النفى على الصحيح عندهم.
وعند الحنابلة يجوز النفى مع القرينة مطلقا.
وقال ابن قدامة: لا يجوز النفى بمخالفة الولد لون والديه أو شبههما، ولا
لشبهه بغير والديه لما روى أبو هريرة (وساق حديث الفزارى) (قلت) ولان الناس
كلهم لآدم وحواء وألوانهم وخلقهم مختلفة، فلولا مخالفتهم شبه والديهم
لكانوا على خلفة واحدة، ولان دلالة الشبه ضعيفة، ودلالة ولادته على الفراش
قوية فلا يجوز ترك القوى لمعارضة الضعيف، ولذلك لما تنازع سعد بن أبى وقاص
وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه شبها
بينا بعتبة ألحق الولد بالفراش وترك الشبه، وهذا اختيار أبى عبد الله ابن
حامد من أصحاب أحمد.
وهو الوجه الآخر لاصحاب الشافعي
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أتت امرأته بولد وكان يعزل عنها إذا وطئها لم يجز له نفيه، لِمَا رَوَى
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا
رَسُولَ الله إنا نصيب السبايا ونحب الاثمان أفنعزل عنهن؟ فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وجل إذا قضى خلق نسمة
خلقها " ولانه قد يسبق من الماء مالا يحس به فتعلق به، وإن
أتت بولد وكان يجامعها فيما دون الفرج ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز له النفى لانه قد يسبق الماء إلى الفرج فتعلق به
(والثانى)
أن له نفيه لان الولد من أحكام الوطئ، فلا يتعلق بما دونه كسائر الاحكام.
وإن أتت بولد وكان يطؤها في الدبر ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز له نفيه، لانه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما تعلق به.
(والثانى)
له نفيه لانه موضع لا يبتغى منه الولد.
(فصل)
إذا قذف زوجته وانتفى عن الولد - فإن كان حملا - فله أن يلاعن وينفى الولد،
لان هلال بن أمية لاعن على نفى الحمل، وله أن يؤخره إلى أن تضع، لانه يجوز
أن يكون ريحا أو غلظا فيؤخر ليلاعن على يقين، وإن كان الولد منفصلا ففى وقت
نفيه قولان
(أحدهما)
له الخيار في نفيه ثلاثة
(17/415)
أيام، لانه قد يحتاج إلى الفكر والنظر فيما
يقدم عليه من النفى، فجعل الثلاث حدا لانه قريب، ولهذا قال الله عز وجل "
يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء
فيأخذكم عذاب قريب " ثم فسر القريب بالثلاث، فقال " تمتعوا في داركم ثلاثة
أيام ذلك وعد غير مكذوب "
(والثانى)
وهو المنصوص في عامة الكتب أنه على الفور، لانه خيار غير مؤد لدفع الضرر،
فكان على الفور كخيار الرد بالعيب، فإن حضرت الصلاة فبدأ بها أو كان جائعا
فبدأ بالاكل، أو له مال غير محرز واشتغل بإحرازه، أو كان عادته الركوب
واشتغل بإسراج المركوب، فهو على حقه من النفى، لانه تأخير لعذر.
وان كان محبوسا أو مريضا أو قيما على مريض أو غائبا لا يقدر على المسير
وأشهد على النفى فهو على حقه وان لم يشهد مع القدرة على الاشهاد سقط حقه،
لانه لما تعذر عليه الحضور للنفي أقيم الاشهاد مقامه إلى أن يقدر
كما أقيمت الفيئة باللسان مقام الوطئ في حق المولى إذا عجز عن الوطئ إلى أن
يقدر (الشرح) حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختلفة كلها
تؤدى معنى ما ساقه المصنف هنا، وقد مضى الكلام على طرقه وأقوال العلماء فيه
في أحكام العزل من كتاب النكاح فليراجع.
وروى معناه عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وأسامة بن
زيد وغيرهم رضى الله عنهم أجمعين.
فإذا أتت بولد وكان يعزل عنها لم يجز له نفيه لحديث ابى سعيد، ولانه قد
يسبق من الماء مالا يحس به فتعلق.
وأما ان كان لا يطؤها الا دون الفرج أو في الدبر فأتت بولد، فذكر أصحابنا
فيه وجهين
(أحدهما)
انه ليس له نفيه لانه لا يأمن ان يسبق الماء إلى الفرج فيعلق به، وبه قال
احمد.
وقال ابن قدامة: هو بعيد لانه من أحكام الوطئ في الفرج فلا يتعلق بما دونه
كسائر الاحكام، ودلالة عدم الوطئ في الفرج على انتفاء الولد أشد من دلالة
مخالفة الولد لون أبيه اه.
وهذا هو الوجه الثاني عندنا وبشجب ابن قدامة لما قاله أصحابه يكون في مذهب
احمد في المسألة قولان
(17/416)
وقال أبو حنيفة لا يلاعن وبناه على أصله في
أن اللواط لا يوجب الحد.
وهذا فاسد لان الرمى به معرة، وقد دخل تحت عموم قوله تعالى (والذين يرمون
أزواجهم) وقد حقق القرطبى في تفسير سورتي الاعراف والمؤمنون انه يجب الحد.
وقالت المالكية: يلاعن إذا انتفى من الحمل بشرطه (مسألة) إذا ظهر بامرأته
حمل فله أن ينفيه وله أن يؤجل نفيه إلى أن تضع واختلف أصحاب أحمد فيما إذا
لاعن امرأته حاملا ونفى حملها في لعان.
فقال الخرقى وجماعة: لا ينتفى الحمل بنفيه قبل الوضع، ولا ينتفى حتى
يلاعنها بعد
الوضع وينتفى الولد فيه.
وهذا قول ابى حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، لان الحمل غير مستيقن يجوز أن
يكون ريحا أو غيرها فيصير نفيه مشروطا بوجوده ولا يجوز تعليق اللعان بشرط
ولنا أنه يصح نفى الحمل وينتفى عنه.
دليلنا حديث هلال بن أمية وأنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه
وسلم وألحقه بالاول، ولا خفاء بأنه كان حملا وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " انظروها فإن جاءت به " كذا وكذا قال
ابن عبد البر: الآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة - إلى أن قال - ولان
الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا ثبتت للحامل أحكام تخالف بها الحائل
من النفقة والفطر في الصيام وترك إقامة الحد عليها وتأخير القصاص عنها مما
يطول ذكره.
اه وقالت المالكية: إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد
سكوته، لان سكوته بعد العلم به رضا به، كما لو أقر به ثم ينفيه فانه لا
يقبل منه فان قال رجوت أن يكون ريحا ينفش أو تسقطه فأستريح من السقط، أو
يكون من أمراض النساء كالاورام الليفية التى تبدو معها المرأة كأنها حامل
في الشهر التاسع، وهى في حاجة إلى استئصال هذا الورم، فهل لنفيه بعد وضعه
مدة ما؟ فإذا جاوزها لم يكن له ذلك، فقد اختلف في ذلك على قولين
(أحدهما)
إذا لم يكن له عذر في سكوته ح؟ ؟ مضت ثلاثة أيام فهو راض به ليس له نفيه.
وبهذا قال المالكية وقالت الحنابلة: إذا ولدت ولدا فسكت عن نفيه مع امكانه
لزمه نسبه
(17/417)
ولم يكن له نفيه بعد ذلك، ومدة الثلاث فرصة
كافيه لانعام النظر واعمال الفكر والتدبر في الامر، فقد يكون في التريث أمن
من الندم، ومدة الثلاث حكمها شائع
في خيار البيع وفى اختبار المصراة، وقد جاء في تأويل قوله تعالى " قال
تمتعوا في داركم ثلاثة أيام " أنها توضيح لمبهم " قريب " في آية الناقة من
وعيدهم بالعذاب.
(والثانى)
وهو المنصوص، وهو قول ابى بكر من اصحاب احمد رضى الله عنه: لا يتقدر ذلك
بثلاث، بل هو على ما جرت به العادة ان كان ليلا، فحتى يصبح وينتشر في
الناس، وان كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب، أو ينام ان كان ناعسا، أو
يلبس ثيابه ويسرج دابته ويركب ويصلى ان حضرت الصلاة، ويحرز ماله ان كان غير
محرز، وأشباه ذلك من أشغاله، فان أخره بعد هذا كله لم يمكن له نفيه.
وقال ابو حنيفة: له تأخير نفيه يوما ويومين استحسانا، لان النفى عقيب
الولادة يشق فقدر باليومين لقلته.
وقال ابو يوسف ومحمد يتقدر بمدة النفاس لانها جارية مجرى الولادة في الحكم.
وحكى عن عطاء ومجاهد أن له نفيه ما لم يعترف به فكان له نفيه كحالة
الولادة.
ووجه القول الاول انه خيار لدفع الضرر المتحقق فكان على الفور كخيار
الشفعة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " عام خرج منه ما اتفقنا
عليه مع السنة الثابتة، فما عداه يبقى على عموم الحديث.
وما ذكره ابو حنيفة يبطل بخيار الرد بالعيب والاخذ بالشفعة، وتقديره بمدة
النفاس تحكم لا دليل عليه، وكذلك يرد هذا على ما قال عطاء، ولا يلزم القصاص
لانه لاستيفاء حق لا لدفع ضرر ولا الحمل لانه لم يتحقق ضرره.
وقالت المالكية: ان الايام الثلاثة آخر حد القلة وأول حد الكثرة (فرع)
ان كان له عذر يمنعه من الحضور لنفيه كالمرض والحبس، أو الاشتغال بحفظ مال
يخاف ضيعته أو بملازمة غريم يخالف فوته أو غيبته نظرت - فان كانت مدة ذلك
قصيرة فأخره إلى الحضور ليزول عذره - لم يبطل نفيه
لانه بمنزلة من علم ذلك ليلا فأخره إلى الصبح وان كانت تطاول فأمكنه
التنفيذ إلى الحاكم ليبعث إليه من يستوفى عليه اللعان
(17/418)
والنفى فلم يفعل سقط نفيه، فإن لم يمكنه
أشهد على نفسه أنه ناف لولد امرأنه، فإن لم يفعل بطل خياره، لانه إذا لم
يقدر على نفيه كان الاشهاد قائما مقامه كما يقيم المريض الفيئة بقوله في
الايلاء بدلا عن الفيئة بالجماع
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة فإن كان في موضع لا يجوز أن يخفى عليه ذلك
من طريق العادة، بأن كان معها في دار أو محلة صغيرة لم يقبل، لانه يدعى
خلاف الظاهر، وإن كان في موضع يجوز أن يخفى عليه كالبلد الكبير، فالقول
قوله مع يمينه، لان ما يدعيه ظاهر وإن قال علمت بالولادة إلا أنى لم أعلم
أن لى النفى - فإن كان ممن يخالط أهل العلم - لم يقبل قوله، لانه يدعى خلاف
الظاهر، وإن كان قريب عهد بالاسلام أو نشأ في موضع بعيد من أهل العلم قبل
قوله، لان الظاهر أنه صادق فيما يدعيه وإن كان في بلد فيه أهل علم إلا أنه
من العامة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقبل كما لا يقبل قوله إذا ادعى الجهل برد المبيع بالعيب.
(والثانى)
يقبل لان هذا لا يعرفه إلا الخواص من الناس بخلاف رد المبيع بالعيب، فإن
ذلك يعرفه الخاص والعام.
(فصل)
وإن هنأه رجل بالولد فقال: بارك الله لك في مولودك وجعله الله لك خلفا
مباركا وأمن على دعائه، أو قال استجاب الله دعاءك سقط حقه من النفى لان ذلك
يتضمن الاقرار به، وإن قال أحسن الله جزاءك، أو بارك الله عليك أو رزقك
الله مثله، لم يسقط حقه من النفى، لانه يحتمل أنه قال له ذلك ليقابل
التحية بالتحية.
(فصل)
وإن كان الولد حملا فقال أخرت النفى حتى ينفصل ثم ألاعن على يقين فالقول
قوله مع يمينه لانه تأخير لعذر يحتمله الحال.
وان قال أخرت لانى قلت لعله يموت فلا أحتاج إلى اللعان، سقط حقه من النفى،
لانه ترك النفى من غير عذر.
(17/419)
(الشرح) إذا ثبت ما قدمنا من شرح الفصول
فهل يتقدر الخيار في النفى بمجلس العلم؟ أو بإمكان النفى؟ على وجهين بناء
على المطالبة بالشفعة، فإن أخر نفيه عن ذلك ثم ادعى أنه لا يعلم بالولادة
وأمكن صدقه بأن يكون في موضع يخفى عليه ذلك، مثل أن يكون في محلة أخرى
فالقول قوله مع يمينه لان الاصل عدم العلم، وان لم يمكن - مثل أن يكون معها
في الدار - لم يقبل لان ذلك لا يكاد يخفى عليه.
وإن قال علمت ولادته ولم أعلم أن لى نفيه، أو علمت ذلك ولم أعلم انه على
الفور وكان ممن يخفى عليه ذلك كعامة الناس قبل منه، لان هذا مما يخفى عليهم
فأشبه ما لو كان حديث عهد بإسلام.
وان كان فقيها لم يقبل منه وقال بعض الحنابلة يحتمل أن يقبل منه لان الفقيه
يخفى عليه كثير من الاحكام أفاده ابن قدامة.
وقال أكثرهم كقولنا لا يقبل ذلك من الفقيه ويقبل من الناشئ وحديث العهد
بالاسلام.
وهل يقبل من سائر العامة؟ على وجهين ذكرهما المصنف (فرع)
إذا قال لم أصدق الخبر عنه نظرت - فإن كان مستفيضا وكان المخبر مشهور
العدالة - لم يقبل والا قبل.
وان قال لم أعلم أن على ذلك قبل قوله لانه مما يخفى، وان علم وهو غائب
فأمكنه السير فاشتغل به لم يبطل خياره.
وان كانت له حاجة تمنعه من السير فهو
على ما ذكرنا من قبل، وان أخر نفيه لغير عذر وقال: أخرت نفيه رجاء أن يموت
فأستر عليه وعلى بطل خياره، لانه أخر نفيه مع الامكان لغير عذر (مسألة)
قوله " وان هنأه رجل بالولد الخ " فجملة ذلك انه إذا هنئ به فأمن على
الدعاء لزمه في قولهم جميعا.
وان قال أحسن الله جزاءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله فانه لا
يلزمه لانه جازاه على قصده وليس ذلك اقرارا ولا متضمنا له.
وقال أحمد وأصحابه وأبو حنيفة: يلزمه الولد، لان ذلك جواب الراضي في العادة
فكان اقرارا كالتأمين على الدعاء، وان سكت كان اقرارا.
هكذا أفاده ابن قدامة، قال لان السكوت صلح دال على الرضى في حق البكر وفى
مواضع أخرى، فههنا أولى وهذا وما بقى من فروع في الفصول فقد مضى لنا بحثها
في الفصول قبله
(17/420)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
إذا أتت امرأته بولدين توأمين وانتفى عن أحدهما وأقر بالآخر أو ترك نفيه من
غير عذر، لحقه الولدان لانهما حمل واحد فلا يجوز أن يلحقه أحدهما دون
الآخر، وجعلنا ما انتفى منه تابعا لما أقر به، ولم نجعل ما أقر به تابعا
لما انتفى منه، لان النسب يحتاط لاثباته ولا يحتاط لنفيه، ولهذا إذا أتت
بولد يمكن أن يكون منه ويمكن أن لا يكون منه ألحقناه به احتياطا لاثباته،
ولم ننفه احتياطا لنفيه.
وإن أتت بولد فنفاه باللعان ثم أتت بولد آخر لاقل من ستة أشهر من ولادة
الاول لم ينتف الثاني من غير اللعان، لان اللعان يتناول الاول، فإن نفاه
باللعان انتفى، وإن أقر به أو ترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان لانهما حمل
واحد وجعلنا ما نفاه تابعا لما لحقه، ولم نجعل ما لحقه تابعا لما نفاه، لما
ذكرناه
في التوأمين.
وإن أتت بالولد الثاني لستة أشهر من ولادة الاول انتفى بغير لعان لانها
علقت به بعد زوال الفراش.
(فصل)
وان لاعنها على حمل فولدت ولدين بينهما دون ستة أشهر، لم يلحقه واحد منهما
لانهما كانا موجودين عند اللعان فانتفيا به، وإن كان بينهما أكثر من ستة
أشهر انتفى الاول باللعان، وانتفى الثاني بغير لعان، لانا تيقنا بوضع الاول
براءة رحمها منه وأنها علقت بالثاني بعد زوال الفراش
(فصل)
وإن قذف امرأته بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح - فإن لم يكن نسب - لم يلاعن
لاسقاط الحد لانه قذف غير محتاج إليه فلم يجز تحقيقه باللعان كقذف
الاجنبية، وإن كان هناك نسب يلحقه فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه لا يلاعن لانه قذف غير محتاج إليه، لانه
كان يمكنه أن يطلق ولا يضيفه إلى ما قبل العقد
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن له أن يلاعن لانه
نسب يلحقه من غير رضاه لا ينتفى بغير لعان فجاز له نفيه باللعان.
(17/421)
(الشرح) إذا ولدت امرأته توأمين - وهو أن
يكون بينهما دون ستة أشهر - فاستلحق أحدهما ونفى الآخر لحقا به، ولا عبرة
بنفيه، لان الحمل الواحد لا يجوز أن يكون بعضه منه وبعضه من غيره، فإذا ثبت
نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه، ولم
نجعل ما أقر به واستلحقه تابعا لما نفاه، لان النسب يحتاط لاثباته لا
لنفيه، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن أن يكون من غيره
ألحقناه به احتياطا، ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه، ولان الشارع الحكيم
يتشوف إلى ثبوت النسب مهما أمكن ولا يحكم بانقطاع النسب الا حيث يتعذر
اثباته، ولهذا ثبت بالفراش،
وبالدعوى وبالانساب التى بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان، ولان اثبات النسب
فيه حق لله تعالى وحق للولد وحق للاب، ويترتب عليه من الاحكام في الوصل بين
العباد ما به قوام مصالحهم، فأثبته الشرع بأنواع الطرق التى لا يثبت بمثلها
نتاج الحيوان، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن كونه من غيره
ألحقناه به احتياطا ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه.
فلو قذف أمهما فطالبته بالحد فليس له اسقاطه باللعان، لانه باستلحاقه اعترف
بكذبه في قذفه فلم يسمع منه انكاره بعد ذلك.
وقالت الحنابلة: له اسقاطه باللعان.
وحكى ابن قدامة قولا آخر للقاضى منهم انه يحد ولا يملك اسقاطه باللعان.
ووجه المذهب عندنا ظاهر.
أما وجه المسألة عندهم فإنه لا يلزم من كون الولد منه انتفاء الزنا عنها
كما لا يلزم من الولد وجود الزنا منها كون الولد منه.
ولذلك لو أقرت بالزنا أو قامت به بينة لم ينتف الولد عنه، فلا تنافى بين
لعانه وبين استلحاقه للولد.
(فرع)
إذا استلحق أحد الولدين وسكت عن الآخر لحقه، لانه لو نفياه للحقه، فإذا سكت
عنه كان أولى، ولان امرأته متى أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه باللعان.
وان نفى أحدهما وسكت عن الاخر نفيناه.
وقال أصحاب أحمد لحقاه جميعا، لان لحوق النسب مبنى على التغليب وهو يثبت
بمجرد الامكان.
وان كان لم يثبت الوطئ، ولا ينتفى الامكان للنفي فافترقا
(17/422)
ولنا أنهما كانا موجودين عند اللعان
فانتفيا به.
وإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ثم ولدت آخر لاقل من ستة أشهر انتفى الثاني
باللعان الاول وقال الحنابلة لم ينتف لان اللعان تناول الاول وحده، ويحتاج
في نفى الثاني
إلى لعان ثان.
ولنا أنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة فلا يحتاج إلى لعان ثان فأما إن
نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر، فإنه لا
يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل وينتفى الثاني بغير لعان،
لانها بولادتها للاول تبينا براءة رحمها، فيكون حملا آخر.
وقال الحنابلة لا ينتفى بغير اللعان لانه حمل منفرد، فإن استلحقه أو ترك
نفيه لحقه وإن كانت قد بانت باللعان لانه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع
الاول دليلنا أنها بانت باللعان فحرم عليه وطؤها فلا يكون ولده وإنما يكون
من سفاح لاسيما وأنه جاء بعد براءة الرحم وانقضاء العدة بوضع الاول فكان
حملها الثاني في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه لكونها أجنبية كسائر
الاجنبيات.
وقال في الام: إذا لاعن امرأته بولد فنفيناه عنه ثم جاءت بولد آخر فنفيناه
عنه ثم جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر، وما يلزم به نسب ولد المبتوتة فهو
ولده إلا أن ينفيه بلعان فإن نفاه فذلك له.
(فرع)
إذا مات أحد التوأمين أو ماتا معا فله أن يلاعن لنفى نسبهما.
وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يلزمه نفى الحى ولا يلاعن إلا لنفى الحى، لان الميت لا يصح
نفيه باللعان، فإن نسبه قد انقطع بموته فلا حاجة إلى نفيه باللعان، كما لو
ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لقطع النكاح، لكونه قد انقطع، وإذا
لم ينتف الميت لم ينتف الحى لانهما حمل واحد.
دليلنا أن الميت ينسب إليه فيقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه فكان له
نفى نسبه وإسقاط مؤنته كالحى، وكما لو كان للميت ولد.
(فرع)
إذا قذف امرأته بالزنا قبل زواجه منها لم يكن له أن يلاعن، لانه يأتي
باللعان على غير ما ورد به القرآن والسنة، لانه كمن يلاعن أجنبية عنه فلم
يصح ويقام عليه الحد.
وهل له أن يلاعن إذا جاءت بولد ينتسب إليه؟ وجهان
قال أبو إسحاق المروزى: لا يلاعن لامكان أن يطلقها من غير حاجة إلى إضافة
(17/423)
ولدها لما قبل العقد إذ هو المفرط بنكاح
حامل بالزنا فلا يشرع له نفيه.
وبهذا قال أحمد وأصحابه.
(والثانى)
قول أبى على بن أبى هريرة، لنفى ما عساه يلحقه من نسب لا يرضاه وليس من
فراشه ولا ينتفى إلا باللعان فجاز له وقال مالك وأبو ثور وأحمد: إن قذفها
بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم يلاعن سواء كان ثم ولد أو لم يكن،
وروى ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبى وقال الحسن وزرارة بن أبى أوفى وأصحاب
الرأى: له أن يلاعن لانه قذف امرأته فيدخل في عموم قوله تعالى " والذين
يرمون أزواجهم " ولانه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل
النكاح.
وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية أخرى.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن أبانها ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال النكاح - فان لم يكن نسب - لم
يلاعن لدرء الحد لانه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك نسب - فإن كان ولدا
منفصلا - فله أن يلاعن لنفيه لانه يحتاج إلى نفيه باللعان، وأن كان حملا
فقد روى المزني في المختصر أن له أن ينفيه.
وروى في الجامع أنه لا يلاعن حتى ينفصل الحمل واختلف أصحابنا فيه، فقال أبو
إسحاق لا يلاعن قولا واحدا، وما رواه المزني في المختصر أراد إذا انفصل،
وقد بين في الام، فإنه قال لا يلاعن حتى ينفصل، ووجهه أن الحمل غير متحقق
لجواز أن يكون ريحا فينفش، ويخالف إذا قذفها في حال الزوجية، لان هناك
يلاعن لدرء الحد فتبعه نفى الحمل، وههنا
ينفرد الحمل باللعان فلم يجز قبل أن يتحقق ومن أصحابنا من قال في قولان:
أحدهما لا يلاعن حتى ينفصل، لما ذكرناه والثانى يلاعن، وهو الصحيح، لان
الحمل موجود في الظهار ومحكوم بوجوده، ولهذا أمر بأخذ الحامل في الديات
ومنع من أخذها في الزكاة، ومنعت الحامل إذا طلقت أن تتزوج حتى تضع، وهذه
الطريقة هي الصحيحة، لان الشافعي
(17/424)
رحمه الله نص في مثلها على قولين وهى في
نفقة المطلقة الحامل فقال فيها قولان
(أحدهما)
تجب لها النفقة يوما بيوم
(والثانى)
لا تجب حتى ينفصل
(فصل)
وإن قذف امرأته وانتفى عن حملها وأقام على الزنا بينة سقط عنه الحد
بالبينة، وهل له أن يلاعن لنفى الحمل قبل أن ينفصل؟ على ما ذكرناه من
الطريقين في الفصل قبله.
(الشرح) إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا يا زانية في فراشي نظرت - فإن كان
هناك نسب يريد أن ينفيه، ولا يتحقق هذا إلا إذا انفصل الولد عنها - لاعن،
لانه محتاج إلى نفيه، وبه قال مالك وأحمد، حيث نقل منها قال: سألت أحمد عن
رجل قال لامرأته أنت طالق يا زانية ثلاثا، فقال يلاعن.
قلت إنهم يقولون يحد ولا يلزمها إلا واحدة.
قال بئس ما يقولون، فهذا يلاعن لانه قذفها قبل الحكم ببينونتها فأشبه
القذف، فإن كان بينهما ولد فإنه يلاعن لنفيه وإلا حد ولم يلاعن، لانه يتعين
إضافة القذف إلى حال الزوجية لاستحالة الزنا منها بعد طلاقه لها فصار كأنه
قال لها بعد ابانتها: زنيت ان كنت زوجتى، على ما قررناه، وبه قال مالك.
وقال عثمان البتى: لا يلاعن بأى حال لانها ليست بزوجة.
وقال أبو حنيفة في الوجهين لا يلاعن - يعنى في حال نفى النسب والحمل -
لانها ليست زوجة،
وينتقض عليها هذا القذف قبل الزوجية، كما ذكرنا آنفا، بل هذا أولى، لان
النكاح قد تقدم وهو يريد الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلابد
من اللعان، فإن كان هناك حمل يرجى فقد روى المزني في المختصر أن له أن
ينفيه وروى رواية أخرى أنه لا يلاعن حتى ينفصل الحمل.
فاختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق المروزى: لا يلاعن قولا واحدا، وأول ما
رواه المزني في المختصر أن الامام الشافعي أراد إذا انفصل قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: ولو قال رجل لامرأته
أنت طالق ثلاثا
(17/425)
أو طالق واحدة لم يبق له عليها من الطلاق
الا هي أو طالق ولم يدخل، أو أي طلاق ما، كان لا رجعة عليها بعده وأتبع
الطلاق مكانه يا زانية، حد ولا لعان الا أن يكون ينفى به ولدا أو حملا
فيلاعن للولد يوقف للحمل فإذا ولدت التعن، فإن لم تلد حد ولو بدأ فقال يا
زانية أنت طالق ثلاثا التعن، لان القذف وقع وهى أمرأته، ولو قال: أنت طالق
ثلاثا يا زانية حد ولا لعان، الا أن ينفى ولد افيلاعن به ويسقط الحد.
ثم قال رضى الله عنه " ولو قذف رجل امرأته فصدقته ثم رجعت فلا حد ولا لعان
الا أن ينفى ولدا فيلاعن به ويسقط الحد، ولو قذف رجل امرأته فصدقته ثم رجعت
فلا حد ولا لعان الا أن ينفى ولدا فلا ينفى الا بلعان، ولو قذف رجل امرأته
ثم زنت بعد القذف أو وطئت وطئا حراما فلا حد ولا لعان الا أن ينفى ولدا أو
يريد أن يلتعن فيثبت عليها الحد ان لم يلتعن، وإذا قذف رجل امرأته فارتدت
عن الاسلام وطلبت حدها لاعن أو حد، لان القذف كان وهى زوجة مسلمة.
اه فهذا القول من الشافعي قاطع في أنه يلاعن لنفى الحمل بعد أن يوقف إلى أن
تلد.
قال المصنف الصحيح أن يلاعن وهى حامل لان الحمل موجود في الظاهر ومحكوم
بوجوده، ويترتب على هذا الحمل أحكام في مواطن كثيرة فمثلا لا تعطى الحامل
من الارقاء في الدية ولا تؤخذ البهيمة الحامل في الزكاة، ولا يحل زواج
الحامل حيت تضع، فكيف ينتظر من وجد امرأته حاملا من غيره حتى تضع فيلاعنها
وقد غاظته بهذا الزنا في فراشه، ويمكن حمل قول الشافعي على ما إذا اشتبه
عليه الحمل ولم يتحقق وتردد فيه، أو كان محتملا أن يكون انتفاخا أو مرضا من
أمراض النساء فلا يلاعن حتى تلد.
ويمكن حمل قوليه في النفقة على ما إذا كان حملها غير مقطوع به فتجب نفقتها
حتى تلد.
أما إذا كان حملها مقطوعا به فقد وجب لها يوما بيوم، وسنأتي على هذا في
كتاب النفقات ان شاء الله.
على أن قول الشافعي يوقف حتى تلد إذا قصد به الحمل المقطوع به كان مخالفا
لحديث " ان جاءت به كذا فهو لابيه، وان جاءت به كذا فهو لفلان " فجاءت به
على النعت المكروه، فإذا اعتمدنا أصله " إذا صح الحديث
(17/426)
فهو مذهبي، حملنا قوله على ما إذا كان
الحمل غير متيقن، بدليل قوله فإن لم تلد حد.
ومن ثم يكون الحمل محتملا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قذف امرأته في نكاح فاسد - فإن لم يكن نسب - لم يلاعن لدرء الحد، لانه
قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك نسب - فإن كان ولدا منفصلا - فله أن
يلاعن لنفيه، لانه ولد يلحقه بغير رضاه لا ينتفى عنه بغير اللعان، فجاز
نفيه باللعان كالولد في النكاح الصحيح، وإن كان حملا فعلى ما ذكرناه من
الطريقين.
(فصل)
وإن ملك أمة لم تصر فراشا بنفس الملك، لانه قد يقصد بملكها
الوطئ، وقد يقصد به التمول والخدمة والتجمل، فلم تصر فراشا، فإن وطئها صارت
فراشا له، فإن أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطئ لحقه، لان سعدا نازع عبد
بن زمعة في ابن وليدة زمعة فقال عبد: هو أخى وابن وليدة أبى ولد على فراشه،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك، الولد للفراش وللعاهر الحجر " وروى
ابن عمر رضى الله عنه أن عمر رضى الله عنه قال " ما بال رجال يطأون ولائدهم
ثم يعزلونهن، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها،
فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا " وإن قذفها وانتفى عن ولدها فقد قال أحمد: أما
تعجبون من أبى عبد الله يقول بنفى ولد الامة باللعان، فجعل أبو العباس هذا
قولا، ووجهه أنه كالنكاح في لحوق النسب، فكان كالنكاح في النفى باللعان ومن
أصحابنا من قال لا يلاعن لنفيه قولا واحدا لانه يمكنه نفيه بغير اللعان وهو
بأن يدعى الاستبراء ويحلف عليه، فلم يجز نفيه باللعان بخلاف النكاح، فإنه
لا يمكنه نفى الولد فيه بغير لعان، ولعل أحمد أراد بأبى عبد الله غير
الشافعي رحمة الله عليهما.
(فصل)
إذا قذف امرأته بزناءين وأراد اللعان كفاه لهما لعان واحد، لانه في أحد
القولين يجب حد واحد، فكناه في إسقاطه لعان واحد، وفى القول
(17/427)
القول الثاني يجب حدان، إلا أنهما حقان
لواحد فاكتفى فيهما بلعان واحد، كما يكتفى في حقين لواحد بيمين واحد.
وإن قف أربع نسوة أفرد كل واحدة منهم بلعان، لانها أيمان فلم تتداخل فيها
حقوق الجماعة، كالايمان في المال.
وإن قذفهن بكلمات بدأ بلعان من بدأ بقذفها لان حقها أسبق.
وإن قذفهن بكلمة واحدة وتشاححن في البداية أقرع
بينهن، فمن خرجت لها القرعة بدأ بلعانها.
وإن بدأ بلعان إحداهن من غير قرعة جاز، لان الباقيات يصلن إلى حقوقهن من
اللعان من غير نقصان (الشرح) خبر تنازع سعد وعبد بن زمعة أخرجه أصحاب
الصحاح والمسانيد والسنن خلا الترمذي.
عن عائشة قالت " اختصم سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال سعد: يا رسول الله ابن أخى عتبة
ابن أبى وقاص عهد إلى أنه ابنه أنظر إلى شبهه.
وقال عبد بن زمعة: هذا أخى يا رسول الله ولد على فراش ابى، فنظر رسول الله
إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: هو لك يا عبد بن زمعة.
الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة، قال فلم ير
سودة قط " وفى رواية أبى داود وأخرى للبخاري " هو أخوك يا عبد " عبد بن
زمعة أخو سودة أم المؤمنين.
وقوله " الولد للفراش وللعاهر الحجر " سبق القول بتواتره أما خبر ابن عمر
فقد رواه الشافعي في الام ولم أره في مسنده في اللعان " ولم يعزه في
المنتقى إلى غيره.
ومن هذا الحديث يتضح أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ ألحق الولد بزمعة لانه صاحب الفراش، ودليله أقوى من دليل الشبه، وقد
ذهب بعضهم إلى أن قوله هو لك يا عبد بن زمعة، أن " لك " للتمليك، فكأنه لم
يلحقه به أخا وإنما ملكه له، بدليل أنه أمر سودة بالاحتجاب منه، فلو كان
أخا لها لم تؤمر بالاحتجاب منه.
وفى رواية: احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك.
ويجاب على ذلك بأن اللام للاختصاص لا للتمليك.
(17/428)
ويؤيد ذلك ما في رواية " هو أخوك يا عبد "
أما أمره لسودة بالاحتجاب
فذلك على سبيل الاحتياط والورع والصيانة لامهات المؤمنين لما رآه من الشبه
بعتبة بن أبى وقاص كما في حديث " كيف وقد قيل؟ " أو يكون ذلك مراعاة
للشيئين وإعمالا للدليلين، فإن الفراش دليل لحوق النسب، والشبه بغير صاحبه
دليل نفيه فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعى، وأعمل الشبه بعتبة بالنسبة
إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة.
قال ابن القيم: وهذا من أحسن الاحكام وأبينها وأوضحها، ولا يمنع ثبوت النسب
من وجه دون وجه.
وأما الرواية التى فيها " احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك " فقد طعن البيهقى في
إسنادها.
وقال فيها جرير وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيها يوسف مولى آل
الزبير وهو غير معروف.
أما الاحكام فإنه إذا نكح امرأة نكاح فاسدا ثم قذفها، وبينهما ولد يريد
نفيه فله أن يلاعن لنفيه ولا حد عليه، وإن لم يكن يينهما ولد حد ولا لعان
بينهما.
وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: يلحقه الولد وليس له نفيه ولا اللعان لانها أجنبية فأشبهت
سائر الاجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد.
وهذا فاسد لان الولد يلحقه بحكم عقد النكاح فكان له نفيه كما لو كان النكاح
صحيحا، ويفارق إذا لم يكن ولد فإنه لا حاجة إلى القذف لكونها أجنبية.
ويفارق سائر الاجنبيات لانه لا يلحقه ولدهن فلا حاجة به إلى قذفهن.
ويفارق الزوجة فإنه يحتاج إلى قذفها مع عدم الولد لكونها خانته وغاظته
وأفسدت فراشه، فإذا كان له منها ولد فالحاجة موجودة فيهما، وإذا لاعن سقط
الحد، لانه لعان مشروع لنفى الحد، فأسقط الحد كاللعان في النكاح الصحيح،
وهل يثبت التحريم المؤبد؟ وجهان سيأتي بيانهما وقالت المالكية يلاعن في
النكاح الفاسد زوجته لانها صارت فراشا له.
أما
إذا كانت حاملا فعلى ما مضى من النكاح الصحيح أما حكم قوله " يعترف سيدها
أن قد ألم بها " فيه تقوية لمذهب الجمهور من أنه لا يشترط في فراش الامة
الدعوة، بل يكفى مجرد ثبوت الفراش
(17/429)
وقول الامام أحمد رضى الله عنه: أما تعجبون
من قول أبى عبد الله فإن كان يقصد بنسبة مقول القول إلى الامام الشافعي
كانت تلك رواية أخرى لم تعرف عن الشافعي إلا عن أحمد متفردا بها، والقاعدة
ان في رواية الشيخ عن شيخه مخالفا للاقران غرابة، وقد أخذ بعض أصحابنا بصحة
نسبة القول إلى الشافعي كأبى العباس ابن سريج فاعتبره قولا ووجهه أنه
كالنكاح وقال المصنف: ولعل أحمد أراد بأى عبد الله غير الشافعي - وهذا أحسن
ما أجيب به.
(مسألة) إذا قذف امرأته قذفين بزناءين فليس عليه إلا حد واحد، ويكفيه لعان
واحد لانه يمين، فإذا كان الحقان لواحد كفته يمين واحدة في أحد القولين،
والثانى يجب حدان لانهما حقان، وإن لم يلزمه إلا لعان واحد، ومقتضى القول
الاول أنه يكفيه أن يقول: أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميتها به من
الزناءين وفارق ما إذا قذف زوجتين حيث لا يكفيه لعان واحد، لان اليمين وجبت
لكل واحد منهما فلا تتداخل كسائر الايمان.
وإن أقام البينة بالاول سقط عنه موجب الثاني لانه زال إحصانها ولا لعان إلا
أن يكون فيه نسب يريد نفيه، وإن أقامها بالثاني لم يسقط الحد الاول وله
إسقاطه باللعان الا على قول القاضى، فإنه يسقط بإقامة البينة على الثاني
وان قذفها في الزوجية ولاعنها ثم قذفها بالزنا الاول فلا حد عليه لانه قد
حققه بلعانه، ومقتضى القول الثاني أن يحد، كما لو قذفها به أجنبي، ولو
قذفها به
أجنبي أو بزنا غيره فعليه الحد في قول عامة أهل العلم.
منهم ابن عباس والزهرى والشعبى والنخعي وقتادة وأحمد وأبو عبيد.
وذكر أبو عبيد عن أصحاب الرأى أنهم قالوا: ان لم ينف بلعانها ولدا حد
قاذفها، وان نفاه فلا حد على قاذفها لانه منتف عن زوجها بالشرع (فرع)
إذا قذف امرأته وأجنبية أو أجنبيا بكلمتين فعليه حدان لهما، فيخرج من حد
الاجنبية بالبينة خاصة، ومن حد الزوجة بالبينة أو اللعان، وان قذفهما بكلمة
واحدة الا أنه إذا لم يلاعن ولم تقم بينة فهل يحد لهما حدا واحدا أو حدين؟
على قولين.
قال في القديم: يحد حدا واحدا، وبه قال أبو حنيفة وزاد، سواء
(17/430)
كان بكلمة أو كلمات، لانهما حدود من جنس
فوجب أن تتداخل كحدود الزنا وقال أحمد في احدى روايتيه بقول الشافعي في
القديم، والثانى يقام لكل واحد حد بكل حال لانها حقوق لآدميين فلم تتداخل
كالديون.
وقال أحمد في الرواية الاخرى: إذا طالبوا مجتمعين فحد واحد، وان طالبوا
متفرقين فلكل واحد حد لانهم إذا اجتمعوا في الطلب أمكن ايفاؤهم بالحد
الواحد، وإذا تفرقوا لم يمكن جعل الحد الواحد ايفاء لمن لم يطالب، لانه لا
يجوز اقامة الحد له قبل المطالبة منه ولنا أنه إذا قذفهما بكلمة واحدة لا
يجزئ حد واحد، لان لكل واحد حقا فوجب لكل واحد حد، كما لو قذف الثاني بعد
حد الاول، وهكذا الحكم فيما إذا قذف أجنبيين أو أجنبيات فالتفصيل فيه على
ما ذكرناه.
وان قذف أربع نسائه فالحكم في الحد كذلك، وان أراد اللعان فعليه أن يلاعن
لكل واحدة لعانا مفردا، ويبدأ بلعان التى تبدأ بالمطالبة، فان طالبن جميعا
وتشاححن بدأ باحداهن بالقرعة، وان لم يتشاححن بدأ بلعان من شاء منهن.
ولو بدأ بواحدة منهن من غير قرعة من المشاحة صح، ويحتمل أن يجزئه لعان
واحد فيقول: أشهد بالله انى لمن الصادقين فيما رميت به كل واحدة من زوجائى
هؤلاء الاربع من الزنا، وتقول كل واحدة أشهد بالله انه لمن الكاذبين فيما
رماني به من الزنا، لانه يحصل المقصود بذلك، والاول أصح لان اللعان أيمان
فلا تتداخل لجماعة كالايمان في الديون (فرع)
إذا أقام البينة على زناها فقذفها آخر فلا حد عليه لانه قد زال احصانها،
ولان هذا القذف لم يدخل المعرة عليها، وانما دخلت المعرة بقيام البينة
ولكنه يعزر تعزير السب والاذى، وهكذا كل من قامت البينة بزناه لا حد على
قاذفه، وبه قال أحمد وأصحاب الرأى، ولكنه يعزر تعزير السب والاذى، ولا يملك
الزوج اسقاطه عن نفسه باللعان لما قدمناه وان قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها
بزنا آخر فعليه الحد لانها بانت منه باللعان وصارت أجنبية الا أن يضيف
الزنا إلى حال الزوجية، فعند ذلك ان كان ثم نسب يريد نفيه فله الملاعنة
لنفيه والا لزمه الحد ولا لعان بينهما، والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا
ونعم الوكيل
(17/431)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من
الاحكام)
يصح اللعان من كل زوج بالغ عاقل مختار، مسلما كان أو كافرا، حرا كان أو
عبدا، لقوله عز وجل " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم
فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " ولان اللعان لدرء
العقوبة الواجبة بالقذف ونفى النسب، والكافر كالمسلم، والعبد كالحر في ذلك،
فأما الصبى والمجنون فلا يصح لعانهما لانه قول يوجب الفرقة فلم يصح من
الصبى والمجنون كالطلاق.
وأما الاخرس فإنه ان لم يكن له اشارة معقولة ولا كتابة مفهومة لم يصح لعانه
لانه في معنى المجنون، وان كانت له اشارة معقولة أو كتابة مفهومة صح لعانه
لانه كالناطق في نكاحه وطلاقه، فكان كالناطق في لعانه.
وأما من اعتقل لسانه فإنه ان كان مأيوسا منه صح لعانه بالاشارة كالاخرس،
وان لم يكن مأيوسا منه ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يصح لعانه لانه غير مأيوس من نطقه فلم يصح لعانه بالاشارة كالساكت
(والثانى)
يصح، لان أمامة بنت أبى العاص رضى الله عنها أصمتت فقيل لها الفلان كذا
ولفلان كذا؟ فأشارت أي نغم، فرفع ذلك فرؤيت أنها وصية، ولانه عاجز عن النطق
يصح لعانه بالاشارة كالاخرس
(فصل)
وان كان أعجميا، فإن كان يحسن بالعربية فيه وجهان
(أحدهما)
يصح لعانه بلسانه لانه يمين فصح بالعجمية مع القدرة على العربية كسائر
الايمان
(والثانى)
لا يصح لان الشرع ورد فيه بالعربية فلم يصح بغيرها مع القدرة كأذكار
الصلاة، فإن لم يحسن بالعربية لاعن بلسانه لانه ليس بأكثر من اذكار الصلاة
واذكار الصلاه تجوز بلسانه إذا لم يحصن بالعربية فكذلك اللعان.
وان كان الحاكم لا يعرف لسانه أحضر من يترجم عنه.
وفى عدده وجهان بناء على القولين في الشهادة على الاقرار بالزنا
(أحدهما)
يحتاج إلى أربعة
(والثانى)
يكفيه اثنان
(17/432)
(الشرح) يستفاد من هذين الفصلين أحكام
مسائل وفروع، منها أن اللعان يصح من كل زوجين، سواء كانا مسلمين أو كافرين،
عاقلين بالغين، حرين أو عبدين.
وقال أحمد في احدى الروايتين رواها ابن منصور: جميع الازواج يلتعنون، الحر
من الحرة والامة إذا كانت زوجة.
وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية.
وقال سعيد ابن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وربيعة ومالك
واسحاق: يصح من كل زوجين مكلفين.
مسلمين أو كافرين.
عدلين أو فاسقين أو محدودين في قذف أو كان أحدهما كذلك.
وقال أحمد في روايته الاخرى: لا يصح اللعان الا من زوجين مسلمين عدلين حرين
غير محدودين في قذف وروى هذا عن الزهري والثوري والاوزاعي وحماد وأصحاب
الرأى، ومأخذ القولين أن اللعان يجمع وصفين اليمين والشهادة، وقد سماه
القرآن شهادة وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم يمينا في حديث " لولا
الايمان لكان لى ولها شأن " فمن غلب حكم الايمان قال: يصح من كل من يصح
يمينه.
وهذا مذهبنا ومذهب فقهاء الامصار كافة الا أبا حنيفة، واحدى روايتي أحمد
والزهرى والثوري والاوزاعي وحماد فإنهم اعتبروه شهادة دليلنا قوله تعالى "
والذين يرمون أزواجهم " وأنه قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم يمينا.
ولانه يفتقر إلى اسم الله والى ذكر القسم المؤكد وجوابه، ولانه يستوى فيه
الذكر والانثى - بخلاف الشهادة - ولو كان شهادة لما تكرر لفظه بخلاف اليمين
فإنه قد يشرع فيها التكرار كأيمان القسامة، ولان حاجة الزوج التى لا تصح
منه الشهادة إلى اللعان ونفى الولد كحاجة من تصح شهادته سواء، والامر الذى
نزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذى ينزل بالعدل الحر، والشريعة الغراء لا
ترفع ضرر أحد النوعين وتجعل له مخرجا مما نزل به، وتدع النوع الآخر في
الآصار والاغلال، فلعله يكون صادقا فنقضي عليه بأن يكون تيسا أو ديوثا، ولا
فرج له ما نزل به ولا مخرج ولا مهرب وأما احتجاج أبى حنيفة وأصحابه ومن قال
بقوله من الفقهاء ممن ذكرنا آنفا
(17/433)
فاستدلوا بقوله تعالى " ولم يكن لهم شهداء
إلا أنفسهم " - " فشهادة أحدهم أربع
شهادات بالله " فاستثنى أنفسهم من الشهداء، فلا يقبل إلا من ليس من أهل
الشهادة، فردنا عليهم أن الله تعالى سماه شهادة لقوله في يمينه " أشهد
بالله " فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينا.
كما قال تعالى " إذا جاء المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله " اعتبارا
بلفظها، وكيف وهو مصرح فيه بالقسم وجوابه.
وكذلك لو قال أشهد بالله انعقدت يمينه بذلك، سواء نوى اليمين أو أطلق،
والعرب تعد ذلك يمينا في لغتها واستعمالها.
قال قيس بن الملوح الشهير بالمجنون: فأشهد عند الله أنى أحبها
* فهذا لها عندي فما عندها ليا؟ قال ابن القيم في الهدى: وفى هذا البيت حجة
لمن قال: ان قوله أشهد تنعقد به اليمين، ولو لم يقل بالله، كما هو احدى
الروايتين عن أحمد.
والثانية لا يكون يمينا الا بالنية، وهو قول الاكثرين.
كما أن قوله أشهد بالله يمين عند الاكثرين بمطلقه.
وأما استثناؤه سبحانه أنفسهم من الشهداء فيقال أولا الا ههنا صفة بمعنى
غير، والمعنى ولم يكن لهم شهداء غير أنفسهم، فإن غير وإلا يتعاوضان الوصفية
والاستثناء، فيستثنى بغر حملا على الا، ويوصف بإلا، حملا على غير، ويقال ان
أنفسهم مستثنين من الشهداء ولكن يجوز أن يكون منقطعا على لغة تميم فإنهم
يبدلون في المنقطع كما يبدل الحجازيون في المتصل.
وكذلك استثنى أنفسهم من الشهداء لانه نزلهم منزلتهم في قبول قولهم.
وهذا قوى جدا على قول من يرجم المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح
كما سيأتي وكما مضى بعضه.
والصحيح أن لعانهم يجمع الوصفين اليمين والشهادة، فهو شهادة مؤكدة بالقسم
والتكرار، ويمين مغلظة بلفظ الشهادة والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الامر.
(فرع)
إذا كان زائل العقل لجنون فلا حكم لقذفه لان القلم عنه مرفوع، فإذا أتت
امرأته بولد فنسبه لاحق لامكانه، ولا سبيل إلى نفيه مع زوال عقله، فإذا عقل
فله نفيه حينئذ واستلحاقه، وان ادعى انه كان ذاهب العقل حين قذفه
- وأنكرت ذلك - فالحكم لصاحب البينة منهما، والا فالقول قوله (مسألة)
الاخرس والخرساء ان كانا معلومى الاشارة والكتابة فهما كالناطقين في القذف
واللعان.
(17/434)
وحكى ابن المنذر عن أحمد وأبى عبيد وأصحاب
الرأى: إذا كانت المرأة خرساء لم تلاعن لانه لا تعلم مطالبتها قال ابن
قدامة: وينبغى أن يكون ذلك في الاخرس، وذلك لان اللعان يفتقر إلى الشهادة
فلم يصح من الاخرس كالشهادة الحقيقية، ولان الحد يدرأ بالشبهات، والشهادة
صريحة كالنطق، فلا يخلو من احتمال وتردد فلا يجب الحد بها كما لا يجب على
أجنبي بشهادته.
وقال القاضى وأبو الخطاب كقولنا: هو كالناطق في قذفه ولعانه، ويفارق
الشهادة لانه يمكن حصولها من غيره فلم تدع الحاجة إلى الاخرس.
وفى اللعان لا يحصل الا منه فدعت الحاجة إلى قبوله منه كالطلاق (فرع)
إذا قذف الاخرس أو لاعن ثم تكلم فأنكر القذف واللعان لم يقبل انكاره للقذف
لانه قد تعلق به حق لغيره بحكم الظاهر فلا يقبل انكاره، ويقبل انكاره
اللعان فيما عليه فيطالب بالحد ويلحقه النسب ولا تعود الزوجية.
فإن قال أنا ألاعن للحد ونفى النسب كان له ذلك لانه انما لزمه باقراره أنه
لم يلاعن، فإذا أراد أن يلاعن كان له ذلك فإذا قذفها وهو ناطق ثم خرس
وأيسنا من نطقه فحكمه حكم الاصلى، وان رجى عود نطقه وزوال خرسه انتظر به،
ويرجع في معرفة ذلك إلى قول طبيبين عدلين من المختصين بالصحة النفسية
والعصبية.
وقال بعض الاصحاب: انه لا يلاعن في الحالين بالاشارة، لان أمامة بنت
أبى العاص أصمتت، فقيل لها لفلان كذا ولفلان كذا؟ فأشارت أن نعم، فرأوا
أنها وصية والصحيح الاول.
وعند أصحاب أحمد على وجهين.
ذكره أبو الخطاب (مسألة) إذا كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما
لانه قول تحصل به الفرقة ولا يصح من غير المكلف كسائر الايمان، ولا يخلو
غير المكلف من أن يكون الزوج أو الزوجة أو هما، وقد مضى لنا في الفصول قبله
بحث السن والبلوغ والامكان.
فليراجع والخلاصة أن كل موضع لا لعان فيه فالنسب لا حق فيه، ويجب بالقذف
موجبه من الحد والتعزير الا أن يكون القاذف صبيا أو مجنونا فلا ضرب فيه
(17/435)
ولا لعان، كذلك قال الثوري ومالك وأحمد
وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأى وابن المنذر وقال: ولا أحفظ عن غيرهم
خلافهم (مسألة) إذا كان الزوجان يعرفان العربية لم يجز أن يلتعنا بغيرها،
لان اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية، وإن كانا لا يحسنان ذلك جاز لهما
الالتعان بلسانهما لموضع الحاجة، فان كان الحاكم يحسن لسانهما أجزأ ذلك،
وإن لم يكن يعرف لسانهما فلابد من ترجمان، وفى العدد المجزى للترجمة قولان
(أحدهما)
يجزئ إثنان عدلان، وهو ظاهر قول الخرقى من الحنابلة لانه قال ولا يقبل في
الترجمة عن أعجمى حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه أقل من عدلين يعرفان لسانه.
وذكر أبو الخطاب رواية أخرى عند الحنابلة أنه يجزئ ترجمان واحد، وهو قول
أبى حنيفة (الثاني) لا يجزئ أقل من أربعة، بناء على الشهادة في الاقرار
بالزنا ففيها هذان القولان (فرع)
لو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها، وشهد آخر أنه أقر ذلك
بالعجمية، فإذا قلنا ان الشاهدين يجزئان تمت الشهادة، وان شهد شاهدان
أحدهما أنه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة لم تتم
الشهادة، وان شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية
لم تتم الشهادة.
وان شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية والعجمية وشهد الآخر أنه قذفها بالعربية
فقط فقد اكتملت الشهادة إذا قلنا باجزاء الشاهدين لاتفاقهما في لغة واحدة.
وعند أصحاب أحمد فيمن شهد أحدهما بالقذف يوم الخميس والآخر بالقذف يوم
الجمعة أو شهد أحدهما بالقذف بالعربية والآخر أنه بالعجمية وجهان
(أحدهما)
تكمل الشهادة، وهو قول أبى بكر ومذهب أبى حنيفة، لان الوقت ليس ذكره شرطا
في الشهادة بالقذف وكذلك اللسان، فلم يؤثر الاختلاف كما لو شهدا أحدهما أنه
قذفها يوم الخميس بالعربية، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة بالعجمية
(الثاني) لا تكمل الشهادة ولنا أنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما
فلم تثبت، كما لو شهد أحدهما
(17/436)
أنه تزوجها يوم الخميس وشهد الآخر أنه
تزوجها يوم الجمعة، وفارق الاقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا
أقر به في وقتين بلسانين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح اللعان إلا بأمر الحاكم لانه يمين في دعوى فلم يصح إلا بأمر الحاكم
كاليمين في سائر الدعاوى، فإن كان الزوجان مملوكين جاز للسيد أن يلاعن
بينهما، لانه يجوز أن يقيم عليهما الحد فجاز أن يلاعن بينهما كالحاكم.
(فصل)
واللعان هو أن يقول الزوج أربع مرات " أشهد بالله إنى لمن الصادقين " ثم
يقول " وعلى لعنة الله إن كنت من الكاذبين " وتقول المرأة أربع مرات " أشهد
بالله إنه لمن الكاذبين " ثم تقول " وعلى غضب الله إن كان من
الصادقين " والدليل عليه قوله عز وجل " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم
شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين،
والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد
أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها ان كان من
الصادقين " فإن أخل أحدهما بأحد هذه الالفاظ الخمسة لم يعتد به، لان الله
عز وجل علق الحكم على هذه الالفاظ، فدل على أنه لا يتعلق بما دونها، ولانه
بينة يتحقق بها الزنا فلم يجز النقصان عن عددها كالشهادة.
وإن أبدل لفظ الشهادة بلفظ من ألفاظ اليمين بأن قال: أحلف أو أقسم أو أولى
فيه وجهان.
(أحدهما)
يجوز لان اللعان يمين فجاز بألفاظ اليمين
(والثانى)
أنه لا يجوز لانه أخل باللفظ المنصوص عليه.
وإن أبدل لفظ اللعنة بالابعاد أو لفظ الغضب بالسخط، ففيه وجهان.
أحدهما يجوز لان معنى الجميع واحد، والثانى لا يجوز لانه ترك المنصوص عليه،
وان أبدلت المرأة لفظ الغضب بلفظ اللعنة لم يجز، لان الغضب أغلظ، ولهذا خصت
المرأة به، لان المعرة بزناها أقبح، وإثمها بفعل الزنا أعظم من إثمه بالقذف
وإن أبدل الرجل لفظ اللعنة بلفظ الغضب فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز،
(17/437)
لان الغضب أغلظ
(والثانى)
لا يجوز لانه ترك المنصوص عليه.
وان قدم الرجل لفظ اللعنة على لفظ الشهادة أو قدمت المرأة لفظ الغضب على
لفظ الشهادة ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، لان القصد منه التغليظ وذلك يحصل مع التقديم.
(والثانى)
لا يجوز لانه ترك المنصوص عليه (الشرح) الاحكام.
لا يصح اللعان إلا بأمر الحاكم أو من يقوم مقامه،
وهذا مذهب أحمد رضى الله عنه، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ هلال بن أمية أن يستدعى زوجته إليه ولاعن بينهما، ولانه
إما يمين واما شهادة، فأيهما كان فمن شرطه الحاكم.
وان تراضى الزوجان بغير الحاكم يلاعن بينهما لم يصح ذلك لان اللعان مبنى
على التغليظ والتأكيد فلم يجز بغير الحاكم كالحد، هذا إذا كانا حرين، وساوى
أحمد بين الحرين والعبدين في وجوب اللعان بمحضر من الحاكم أو من ينوب عنه.
أما ألفاظه فقد مضى بيانها وهى هنا على وجهها
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
والمستحب أن يكون اللعان بحضرة جماعة، لان ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد
رضى الله عنهم حضروا اللعان بحضرة النبي صلى الله عليه على حداثة سنهم
والصبيان لا يحضرون المجالس الا تابعين للرجال، فدل على أنه قد حضر جماعة
من الرجال فتبعهم الصبيان، ولان اللعان بنى على التغليظ للردع والزجر وفعله
في الجماعة أبلغ في الردع.
والمستحب أن يكونوا أربعة لان اللعان سبب للحد ولا يثبت الحد الا بأربعة،
فيستحب أن يحضر ذلك العدد، ويستحب ان يكون بعد العصر لا اليمين فيه أغلظ.
والدليل عليه قوله عز وجل " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله " قيل
هو بعد العصر.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ثَلَاثَةٌ لَا يكلمم الله يوم القيامة
ولا ينظر إليهم ولهم عذاب اليم، رجل حلف يمينا على مال مسلم فاقتطعه، ورجل
حلف يمينا بعد صلاة العصر لقد اعطى بسلعته اكثر
(17/438)
مما أعطى وهو كاذب، ورجل منع فضل الماء،
فإن الله عز وجل يقول: اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ماء لم تعمله يداك "
ويستحب أن يتلاعنا من قيام، لما روى ابن عباس رضى الله عنه في حديث هلال بن
أمية " فأرسل اليهما فجاءا فقام هلال فشهد، ثم قامت فشهدت، لان فعله من
قيام أبلغ في الردع.
واختلف قوله في التغليظ بالمكان فقال في أحد القولين إنه يجب لانه تغليظ
ورد به الشرع فأشبه التغليظ بتكرار اللفظ، وقال في الآخر يستحب كالتغليظ في
الجماعة والزمان، والتغليظ بالمكان أن يلاعن بينهما في أشرف موضع من البلد
الذى فيه اللعان، فإن كان بمكة لاعن بين الركن والمقام، لان اليمين فيه
أغلظ.
والدليل عليه ما روى أن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ رأى قوما يحلفون بين الركن والمقام، فقال أعلى دم؟ قالوا لا، قال
أفعلى عظيم من المال؟ فقالوا لا، فقال لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام.
وإن كان في المدينة لاعن في المسجد لانه أشرف البقاع بها، وهل يكون على
المنبر أو عند المنبر؟ اختلفت الرواية فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: مَنْ حلف عند منبرى على يمين آثمة ولو على سواك من رطب وجبت له
النار وروى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عليه وسلم قال: من حلف على منبرى هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار، فقال
ابو إسحاق ان كان الخلق كثيرا لاعن على المنبر ليسمع الناس، وان كان الخلق
قليلا لاعن عند المنبر مما يلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وَقَالَ أَبُو
عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يلاعن على المنبر، لان ذلك علو وشرف
والملاعن ليس في موضع العلو والشرف، وحمل قوله على منبرى أي عند منبرى لان
حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وان كان ببيت المقدس لاعن عند الصخرة
لانها أشرف البقاع به وإن كان في غيرها من البلاد لاعن في الجامع، إن
كانت المرأة حائضا لاعنت على باب المسجد، لانه أقرب إلى الموضع الشريف.
(17/439)
وإن كان يهوديا لاعن في الكنيسة، وإن كان
نصرانيا لاعن في البيعة، وان كان مجوسيا لاعن في بيت النار، لان هذه
المواضع عندهم كالمساجد عندنا (الشرح) حديث أبى هريرة الاول أخرجه الشيخان
في صحيحيهما.
قال العزيزي في السراج المنير " والذين لا يكلمهم الله يوم القيامة لا
ينحصرون في الثلاثة، والعدد لا ينفى الزائد " اه وقوله " بعد العصر " خصه
لشرفه لانه آخر النهار وقرب أفول الشمس، فينبغي أن لا يكون آخر أعمال المرء
سوءا وأشرا.
لاسيما وهو وقت اجتماع ملائكة الليل والنهار ورفع الاعمال فيه فغلظت
العقوبة وقوله " منع فضل مائه " الحاصل أنه إذا حفرها في موات بقصد الاحياء
لنفسه، أي لينتفع بمائها لم يلزمه إلا بذل ما زاد على حاجته، وان حفرها
بقصد نفع المسلمين فليس له المنع إلا إذا كان يملكه أما حديث أبى هريرة
الثاني فقد أخرجه أبو داود والامام أحمد وابن ماجة بلفظ " لا يحلف عند هذا
المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار "
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
هكذا في زوائد ابن ماجه لابن حجر.
وحديث جابر أخرجه مالك في موطئه في باب ما جاء في الحنث على منبر النبي صلى
الله عليه وسلم من كتاب الاقضية، وفيه أن زيد بن ثابت وابن مطيع اختصما في
دار كانت بينهما إلى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة - فقضى مروان
على زيد باليمين على المنبر، فقال زيد أحلف له مكاني، فقال مروان " لا
والله إلا عند مقاطع الحقوق " قال فجعل زيد يحلف ان حقه لحق ويأبى أن يحلف
على المنبر، فجعل مروان يعجب من ذلك
قال مالك لا أرى أحدا يحلف على المنبر على أقل من ربع دينار وذلك ثلاثة
دراهم.
اه - وروى حديث جابر أبو داود في الايمان والنذور " باب ما جاء في تعظيم
اليمين عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم " وأحمد بن حنبل في مسنده،
وأخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وله شاهد عن أبى أمامة
ابن ثعلبة مرفوعا عند النسائي أيضا
(17/440)
أما الاحكام فإنه يستحب أن يكون اللعان
بمحضر جماعة من المسلمين صغارا كانوا أو كبارا، فقد رويت أخبار المتلاعنين
بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد رواية من
حضروها وسمعوا تفصيلاتها وكانوا حدثاء السن، فإن عبد الله بن عباس ولد قبل
الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة إذ تُوُفِّيَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هَذَا قول الواقدي والزبير بن بكار.
قال أهل السير: ولد عبد الله بن عباس في الشعب قبل خروج بنى هاشم منه وذلك
قبل الهجرة بثلاث سنين وروينا من وجوه عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قال تُوُفِّيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم - يعنى المفصل - هذه
رواية أبى بشر عن سعيد بن جبير، وقد روى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال قبض رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ختين، أو قال مختون.
قال ابن عبد البر ولا يصح وقال عبد الله بن أحمد، حدثنا أحمد بن حنبل،
حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة عن ابن اسحاق قال سمعت سعيد بن جبير يحدث
عن ابن عباس قال، تُوُفِّيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا ابن خمس عشرة سنة.
قال عبد الله بن أحمد
قال أبى وهذا هو الصواب.
قال أبو عمر بن عبد البر وما قاله أهل السير والعلم بأيام الناس عندي أصح
والله أعلم - وهو قولهم ان ابن عباس كان ابن ثلاث عشرة سنة يوم تُوُفِّيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومات ابن عباس سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير وكان قد أخرجه من مكة إلى
الطائف فمات بها وهو ابن سبعين سنة وصلى عليه محمد ابن الحنفية وكبر عليه
أربعا وقال اليوم مات ربانى هذه الامة وضرب على قبره فسطاطا.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وجوه
كثيرة قوله له اللهم علمه الحكمة.
اللهم علمه التأويل.
اللهم فقهه في الدين أما عبد الله بن عمر فقد أسلم مع أبيه وهو صغير لم
يبلغ الحلم.
وقيل انه
(17/441)
أسلم قبل أبيه ولا يصح.
وأصح من ذلك أن هجرته كانت قبل هجرة أبيه، واجتمعوا أنه لم يشهد بدرا.
واختلف في شهوده أحدا، والصحيح أن أول مشاهده الخندق.
وقال الواقدي كان ابن عمر يوم بدر ممن لم يحتلم فاستصغره رسول الله صلى
الله عليه وسلم ورده، وأجازه يوم أحد.
وعن نافع أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رده يوم
أحد لانه كان ابن أربع عشرة سنة، وأجازه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة وقد
عرف عنه رضى الله عنه الاتباع وشدة التحرى والاحتياط والتوقى في فتواه
ويقولون انه من أعلم الصحابة بمناسك الحج، وقد كان مولعا به حتى في أيام
الفتنة حيث كان يحج كل عام.
أما سهل فهو ابن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الساعدي الخزرجي الانصاري
يكنى أبا العباس.
روى ابن عبد البر بإسناده إلى محمد بن اسحاق عن الزهري قال قلت لسهل بن سعد
" ابن كم كنت يومئذ - يعنى يوم المتلاعنين؟ - قال ابن خمس
عشرة.
وروى بإسناده عن الزهري عن سهل أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفى وهو ابن خمس عشرة سنة، وعمر سهل حتى أدرك الحجاج
وامتحن به، وتوفى سنة ثمان وثمانين وهو ابن ست وتسعين، وقد بلغ المائة،
ويقال انه آخر من بقى بالمدينة مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، حكى ابن عيينة عن ابى حازم، سمعت سهل بن سعد يقول "
لو مت لم تسمعوا أحدا يَقُولَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرر هذا فإن هؤلاء الصبيان انما كانوا يحضرون تبعا
للرجال، ولان اللعان مبنى على التغليظ والمبالغة في الردع به والزجر، فإن
فعله في الجماعة أبلغ في ذلك، ويستحب أن يكون ذلك بعد العصر لتعرض من يحلف
كاذبا منهما لغضب الله لحديث " ثلاثة لا يكلمهم الله " الذى ساقه المصنف،
كما يستحب أن لا ينقصوا عن أر؟ ؟ ة، لان بينة الزنا الذى شرع اللعان من أجل
الرمى به أربعة، وليس شئ من هذا واجبا، كما يستحب أن يتلاعنا قياما، فيبدأ
بالزوج حيث يلتعن وهو قائم، فإذا فرغ قامت المرأة فالتمنت وهى قائمة، لِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انه قال لهلال
بن أمية " قم فاشهد اربع شهادات " ولانه إذا قام شاهده الناس
(17/442)
فكان أبلغ في شهرته فاستحب كثرة الجمع وليس
ذلك واجبا.
وبهذا كله قال أحمد وأبو حنيفة.
قال ابن قدامة ولا أعلم فيه مخالفا.
قلت إلا فيما يتعلق بالزمان فقد خالفنا فيه أصحاب أحمد وأبو حنيفة.
قالوا لان الله تعالى أطلق الامر بذلك ولم يقيده بزمن ولا مكان فلا يجوز
تقييده إلا بدليل، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بإحضار امرأته
ولم يخصه بزمن، ولو خصه بذلك لنقل ولم يهمل، وخالفهم في ذلك أبو الخطاب من
الحنابلة فقال بقولنا ولنا أنه يستحب أن يتلاعا في الازمان والاماكن التى
تعظم، ولان حديث
" ثلاثة لا يكلمهم الله " وقت في الوعيد على من حلف بعد العصر، فاسب أن
يراعى هذا استكمالا لكل معاني الردع والزجر.
أما المكان ففيه قولان
(أحدهما)
أن التغليظ به مستحب كالزمان
(والثانى)
أنه واجب، لان النبي صلى الله عليه وسلم لاعن عند المنبر فكان فعله بيانا
للعان، ومعنى التغليظ بالمكان أنهما إذا كانا بمكة لاعن بينهما بين الركن
والمقام فإنه أشرف البقاع، وإن كانا في المدينة فعند منبر النبي صلى الله
عليه وسلم، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وان كان في سائر البلدان ففى
مساجدها، وان كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذى يعتقدان تعظيمه، وان
كانا يهوديين أو نصرانيين فالكنيسة، وان كانا غير ذلك - قال القرطبى ان
كانا مجوسيين ففى بيت النار، وان كانا وثنيين أو لا دين لهما ففى مجلس
حكمه.
وان كانت المسلمة حائضا وقلنا ان اللعان بينهما يكون في المسجد وقفت على
بابه ولم تدخله، لان ذلك أقرب المواضع إليه.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يصعد الملاعن على المنبر
إذ لا يليق بالمنبر أن يصعد عليه ملاعن لشرف المنبر وعلو مكانته، وبكل ما
قررنا قال الائمة كافة ولم أعلم لهم مخالفا.
قال الشافعي في الام في باب " أين يكون اللعان " فإذا لاعن الحاكم بين
الزوجين بمكة لاعن بينهما بين المقام والبيت - إلى أن قال - وكذلك يلاعن
بين كل زوجين في مسجد كل بلد، ويبدأ فيقيم الرجل قائما وامرأة جالسة،
فيلتعن ثم يقيم المرأة قائمة فتلتعن، إلا أن يكون بأحدهما علة لا يقدر على
القيام معها
(17/443)
فيلتعن جالسا أو مضطجعا إذا لم يقدر على
الجلوس.
وان كانت المرأة حائضا التعن الزوج في المسجد والمرأة على باب المسجد.
وان كان الزوج مسلما والزوجة
مشركة التعن الزوج في المسجد والزوجة في الكنيسة وحيث تعظم، وان شاءت
الزوجة المشركة أن يحضر الزوج المسلم في المساجد كلها حضرته الا أنها لا
تدخل المسجد الحرام لقوله تَعَالَى " إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام بعد عامهم هذا " ثم قال رضى الله عنه " وان
أخطأ الامام بمكة أو المدينة أو غيرهما فلاعن بين الزوجين في غير المسجد لم
يعد اللعان عليهما لانه قد مضى اللعان عليهما ولانه حكم قد مضى بينهما
وكذلك ان لاعن ولم يحضر أحدهما الآخر، قال وإذا كان الزوجان مشركين لاعن
بينهما معا في الكنيسه وحيث يعظمان.
وإذا كانا مشركين لا دين لهما تحاكما الينا لاعن بينهما في مجلس الحكم.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإذا أرادا اللعان فالمستحب للحاكم أن يعظهما لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ذكرهما
وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال والله لقد صدقت
عليها، فقالت كذب، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لاعنوا بينهما " وان كانت المرأة غير برزة بعث إليها الحاكم من
يستوفى عليها اللعان، ويستحب أن يبعث معه أربعة
(فصل)
ويبدأ الزوج ويأمره أن يشهد، لان الله تعالى بدأ به وبدأ بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في لعان هلال بن أمية، ولان
لعانه بينة لاثبات الحق، ولعان المرأة بينة الانكار، فقدمت بينة الاثبات
فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد به لان لعانها اسقاط الحد، والحد لا يجب الا
بلعان الزوج فلم يصح لعانها قبله، والمستحب إذا بلغ الزوج إلى كلمة اللعنة
والمرأة إلى كلمة الغضب أن يعظهما.
لما روى ابن عباس رضى الله عنه قال " لما كان في الخامسة قيل يا هلال اتق
الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وان
هذه الموجبة التى توجب عليك العذاب.
فقال والله لا يعذبنى الله عليها كما لم
(17/444)
يحلدنى عليها فشهد الخامسة، فلما كانت
الخامسة قيل لها اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه
الموجبة التى توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي
فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " ويستحب أن يأمر من
يضع يده على فيه في الخامسة، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمر رجلا أن يضع يده على فيه
عند الخامسة يقول إنها موجبة "
(فصل)
وإن لاعن وهى غائبة لحيض أو موت قال أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميت
به زوجتى فلانة، ويرفع في نسبها حتى تتميز.
وإن كانت حاضرة ففيه وجهان أحدهما يجمع بين الاشارة والاسم، لان مبنى
اللعان على التأكيد، ولهذا تكرر فيه لفظ الشهادة، وإن حصل المقصود بمرة
والثانى أنه تكفيه الاشارة لانها تتميز بالاشارة كما تتميز في النكاح
والطلاق
(فصل)
وإن كان القذف بالزنا كرره في الالفاظ الخمسة، فإن قذفها بزناءين ذكرهما في
الالفاظ الخمسة، لانه قد يكون صادقا في أحدهما دون الآخر فإن سمى الزانى
بها ذكره في اللعان في كل مرة، لانه ألحق به المعرة في إفساد الفراش فكرره
في اللعان كالمرأة.
فإن قذفها بالزنا وانتفى من الولد قال في كل مرة وأن هذا الولد من زنا وليس
منى، فإن قال هذا الولد ليس منى ولم يقل من زنا لم ينتف لانه يحتمل أن يريد
أنه ليس منى في الخلق أو الخلق.
وان قال هذا الولد من زنا ولم يقل وليس منى ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول القاضى أبى حامد المروروذى أنه ينتفى منه
لان ولد الزنا لا يلحق به
(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى أنه لا ينتفى لانه قد يعتقد أن الوطئ في
النكاح بلا ولى زنا على قول أبى بكر الصيرفى فوجب أن يذكر أنه ليس منى
لينتفي الاحتمال (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ويبدأ الرجل باللعان
حتى يكمله، فإذا أكمله خمسا التعنت المرأة، وإن أخطأ الحاكم فبدأ بالمرأة
فالتعنت ولو لم يبق من
(17/445)
لعان الرجل إلا حرف واحد من قبل أن الله عز
وجل بدأ بالرجل في اللعان فلا يجب على المرأة لعان حتى يكمل الرجل اللعان،
لانه لا معنى لها في اللعان الا إذا رفع الحد عن نفسها، والحد لا يجب حتى
يلتعن الرجل ثم يجب لانها تدفع الحد عن نفسها وإلا حدت.
وإذا بدأ الرجل فالتعن قبل أن يأتي الحاكم أو بعدما أتاه قبل أن يأمره
بالالتعان أو المرأة أو هما أعاد أيهما بدأ قبل امر الحاكم إياه بالالتعان،
لان ركانة أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ بطلاق امرأته البتة وحلف له فأعاد النبي صلى الله عليه اليمين
على ركانة ثم رد إليه امرأته بعد حلفه بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يرد امرأته إليه قبل حلفه بأمره.
اه إذا تقرر هذا فإن ألفاظه خمسة في حق كل واحد منهما، وصفته أن الامام
يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له: قل أربع مرات ويلقنه الصيغة التى مضى ذكرها
ثم يشير إليها ويشير إلى نسبها وتسميتها، وان كانت غائبة أسماها ونسبها
فقال، امرأتي فلانة بنت فلان ويرفع في نسبها حتى ينفى المشاركة بينها وبين
غيرها، فإذا شهد أربع مرات وقفه الحاكم وقال له: اتق الله فإنها الموجبة،
وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وكل شئ أهون من لعنة الله، ويأمر رجلا
فيضع يده على فيه حتى لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة، ثم يأمر الرجل فيرسل
يده عن فيه
فإن رآه يمضى في ذلك قال له: قل وأن لعنة الله على ان كنت من الكاذبين فيما
رميت به زوجتى هذه من الزنا، ثم يأمر المرأة بالقيام ويقول لها: قولى أشهد
بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه، وان
كان غائبا أسمته ونسبته، فإذا كررت ذلك أربع مرات وقفها ووعظها كما ذكرنا
في حق الزوج، ويأمر امرأة فتضع يدها على فيها، فإن رآها تمضى على ذلك قال
لها قولى وأن غضب الله عليها إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من
الزنا.
وسئل أحمد بن حنبل رضى الله عنه: كيف يلاعن؟ قال على ما في كتاب الله ثم
ذكر ما قررناه من صفة اللعان، فإن أبدل لفظا منها فظاهر كلام الاصحاب أن
فيه وجهين
(أحدهما)
أنه يعتد به، وهو ما ذهب إليه الخرقى من الحنابلة
(17/446)
أنه يجوز أن يبدل قوله: إنى لمن الصادقين
بقوله لقد زنت لان معناهما واحد، ويجوز لها إبدال انه لمن الكاذبين بقولها
لقد كذب.
لانه ذكر صفة اللعان كذلك واتباع لفظ النص أول وأحسن.
وإن أبدل لفظة أشهد بلفظ من ألفاظ اليمين فقال.
أحلف أو أقسم أو أولى فكذلك مثله، وان كان الصحيح في هذا الاخير لا يصح،
لان ما اعتبر فيه لفظ الشهادة لم يقم غيره مقامه كالشهادات في الحقوق، ولان
اللعان يقصد فيه التغليظ واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ فلم يجز
تركه، ولهذا لم يجز أن يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام أشهد.
وأما موعظة الامام لهما بعد الرابعة وقبل الخامسة فهى مستحبة في قول أكبر
أهل العلم.
وكذلك وضع يد على في الملاعن لما رواه أبو إسحاق الجوزجانى بإسناده في حديث
المتلاعنين قال " فشهد أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين، ثم أمر به
فأمسك على فيه فوعظه وقال: ويحك كل شئ أهون عليك من لعنة الله ثم أرسل
فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعاها فقرأ عليها فشهدت أربع
شهادات بالله انه لمن الكاذبين، ثم أمر بها فأمسك على فيها وقال: ويحك كل
شئ أهون عليك من عذاب الله.
وذكر الحديث " قال الشافعي في الام: ثم تقام المرأة فتقول أشهد بالله ان
زوجي فلانا وتشير إليه ان كان حاضرا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا،
ثم تعود حتى تقول ذلك أربع مرات، فإذا فرغت من الرابعة وقفها الامام وذكرها
الله تبارك وتعالى وقال لها: احذري أن تبوئى بغضب من الله عز وجل إن لم
تكوني صادقة في أيمانك، فإن رآها تمضى وحضرتها امرأة أمرها أن تضع يدها على
فيها، وان لم تحضرها فرآها تمضى قال لها: قولى وعلى غضب الله ان كان من
الصادقين فيما رماني به من الزنا، فإذا قالت ذلك فقد فرغت من اللعان، وإنما
أمرت بوقفهما وتذكيرهما أن سفيان أخبرنا عن عاصم بن كليب عن أبيه عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رجلا حين لاعن بين المتلاعنين أن يضع
يده على فيه عند الخامسة وقال إنها موجبة
(17/447)
(مسألة) إذا كان بينهما ولد فإنه يشترط أن
يقول: هذا الولد من زنا وليس هو منى، لانه إذا اقتصر على قوله: ليس هو منى
- يعنى في الخلق أو أو في الخلق، ولم نقتصر على قوله من زنا لانه قد يعتقد
أن الوطئ في نكاح فاسد زنا فأكدنا بذكرهما جميعا.
وقال ابن قدامة من الحنابلة: إن نفى الولد في اللعان فاكتفى به كان كمن ذكر
اللفظين، وما ذكروه من التأكيد تحكم بغير دليل، ولا ينتفى الاحتمال بضم
احدى اللفظتين إلى الاخرى فإنه إذا اعتقد أنه من وطئ فاسد واعتقد أن ذلك
زنا صح منه أن يقول اللفظين جميعا، وقد يرد أنه لا يشبهني خلقا وخلقا أو
أنه
من وطئ فاسد، فإن لم يذكر الولد في اللعان لم ينتف عنه، وان أراد نفيه أعاد
اللعان ويذكر نفى الولد.
اه هذه المسألة لاصحابنا فيها وجهان
(أحدهما)
قول القاضى أبى حامد المروروذى أنه إذا نسبه إلى الزنا ولم ينفه عن نفسه
فقد انتفى منه، لان ولد الزنا لا يلحق به فكان نفيه بالزنا كافيا في أن لا
يلحق به
(والثانى)
قول الشيخ أبى حامد الاسفرايينى أن نسبته إلى الزنا لا يكفى في نفيه لانه
قد يعتقد أن الوطئ في النكاح بلا ولى زنا، لان أبا بكر الصيرفى من أصحابنا
يقول " ان النكاح بلا ولى زنا " وبقوله هذا قال كثير من الفقهاء والمحدثين
لحديث " أيما امرأة نكحت بغير وليها فهى زانية، فهى زانية، فهى زانية " وقد
مضى تخريجه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا لاعن الزوج سقط عنه ما وجب بقذفه من الحد أو التعزير وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عباس رضى الله عنه " أن هلال بن
أمية قذف امرأته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ البينة أو حد في ظهرك، فقال هلال والذى بعثك بالحق انى لصادق،
ولينزلن الله في امرى ما يبرئ ظهرى من الحد فنزلت " والذين يرمون ازواجهم "
فسرى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبشر يا
هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا، فقال هلال قد كنت أرجو
(17/448)
ذلك من ربى عز وجل " وإن قذفها برجل فسماه
في اللعان سقط عنه حده، لانه سماه في اللعان فسقط حده كالمرأة، فإن لم يسمه
في اللعان فيه قولان
(أحدهما)
يسقط حده لانه أحد الزانيين فسقط حده باللعان كالزوجة
(والثانى)
لا يسقط حده لانه لم يسمه في اللعان فلم يسقط حده كالزوجة
إذا لم يسمها، فعلى هذا إذا أراد إسقاط حده استأنف اللعان وذكره وأعاد ذكر
الزوجة.
(فصل)
وإن نفى باللعان نسب ولد انتفى عنه لما روى ابن عمر رضى الله عنه " أن رجلا
لاعن امرأته فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
وانتفى عن ولدها، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد
بالمرأة " فان لم يذكر النسب في اللعان أعاد اللعان لانه لم ينتف باللعان
الاول (الشرح) حديث عبد الله بن عباس سبق تخريجه حيث قلنا رواه البخاري
وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني.
وحديث ابن عمر أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه والدارقطني أما غريبه فقوله " فسرى عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أي كشف، كأنه هم كشفه الله
عنه صدره.
قال ابن بطال: ومثله الحديث الآخر " فإذا مطرت السحابة سرى عنه " أي كشف
عنه الخوف.
قال ابن الصباغ في الشامل: قصة هلال بن أمية نزلت فيها الآية.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قصة عويمر
العجلاني " إن الله قد أنزل فيك وفى صاحبتك " فمعناه ما نزل في قصة هلال بن
أمية.
أما الاحكام فانه إذا قذف امرأته بالزنا برجل بعينه فقد قذفهما، فان سماه
سقط عنه حده لانه سماه وإن لم يسمه ففيه قولان.
أحدهما يسقط حده، وبهذا قال أصحاب أحمد وأبو حنيفة ومالك.
والثانى لا يسقط حده لانه لم يسمه في اللعان فلم يسقط.
فان لم يلاعن فلكل واحد منهما المطالبة، وأيهما طالب حد له.
ومن لم يطالب قال بعض أصحابنا يجب الحد مطلقا.
وقال بعض أصحاب أحمد: القذف
(17/449)
للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق في
المطالبة ولا في الحد، لان هلال بن أمية قذف زوجته في شريك بن سحماء فلم
يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولا عزره، ولان اللعان بينة في أحد الطرفين،
ولا خلاف عندنا انه إذا لاعن وذكر الأجنبي إنه يسقط عنه حده.
وإن لم يذكره فعلى قولين مضيا (فرع)
استدل بحديث ابن عمر على أن الولد ينتفى باللعان، وأن يذكر في صيغة اللعان،
وعن أحمد أنه ينتفى بمجرد اللعان وإن لم يتعرض الرجل لذكره في اللعان.
قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر، لانه لو استلحقه لحقه، وإنما يؤثر اللعان دفع
حد القاذف عنه وثبوت زنا المرأة قال الشافعي رضى الله عنه إن نفى الولد في
الملاعنة انتفى، وان لم يتعرض له فله أن يعيد اللعان لانتفائه ولا إعادة
على المرأة.
وان أمكنه الرفع إلى الحاكم فأخر بغير عذر حتى ولدت لم يكن له أن ينفيه كما
في الشفعة، واستدل بالحديث أيضا على أنه لا يشترط في نفى الولد التصريح
بأنها ولدته من زنا ولا بأنه استبرأها بحيضة.
وقد مضى إيضاحه.
وعن المالكية أنه يشترط ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب على المرأة حد الزنا، لانه بينة حقق بها الزنا عليها فلزمها الحد
كالشهادة، ولا يجب على الرجل الذى رماها به حد الزنا، لانه لا يصح منه درء
الحد باللعان فلم يجب عليه الحد باللعان
(فصل)
وان كان اللعان في نكاح صحيح وقعت الفرقة لحديث ابن عمر رضى الله عنه وحرمت
عليه على التأبيد لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قال " مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا
يجتمعان أبدا " فان كان اللعان في نكاح فاسد، أو كان اللعان بعد البينونة
في زنا أضافه إلى حال الزوجية فهل تحرم المرأة على التأبيد؟ فيه وجهان.
أحدهما تحرم، وهو الصحيح، لان
ما أوجب تحريما مؤبدا إذا كان في نكاح أوجبه، وان لم يكن في نكاح كالرضاع
(والثانى)
لا يحرم، لان التحريم تابع للفرقة ولم يقع بهذا اللعان فرقة فلم يثبت به
تحريم.
(17/450)
(فصل)
وللمرأة أن تدرأ حد الزنا عنها باللعان لقوله عز وجل " ويدرأ عنها العذاب
أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " ولا تذكر المرأة النسب في
اللعان، لانه لا مدخل لها في إثبات النسب ولا في نفيه.
(فصل)
إذا لاعن الزوج ثم أكذب نفسه وجب عليه حد القذف إن كانت المرأة محصنة، أو
التعزير إن لم تكن محصنة ولحقه النسب لان ذلك حق عليه فعاد بتكذيبه، ولا
يعود الفراش ولا يرتفع التحريم، لانه حق له فلا يعود بتكذيبه نفسه، وإن
لاعنت المرأة ثم أكذبت نفسها وجب عليها حد الزنا لانه لا يتعلق بلعانها
أكثر من سقوط حق الزنا وهو حق عليها فعاد بإكذابها (الشرح) حديث ابن عمر
الذى ذكرناه آنفا، وحديث سهل بن سعد الذى أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود
والنسائي وابن ماجة والدارقطني، وقد مضى بلفظه، وفيه قصة عويمر العجلاني،
وسياق المصنف يفيد أن عبارة " مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم
لا يجتمعان " من قول سهل بن سعد، بيد أن الروايات التى في الكتب المذكورة
قال ابن عمر " فكانت سنة المتلاعنين " وفى رواية متفق عليها، أي في مسند
أحمد والصحيحين " ذاكم التفريق بين كل متلاعنين، وفى لفظ لاحمد ومسلم "
وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين " وزاد أبو داود عن القعنبى عن مالك
فكانت تلك - وهى إشارة إلى الفرقة.
وقال مسلم إن قوله وكان فراقه اياها سنة بين المتلاعنين مدرج (1) وكذا ذكر
الدارقطني في غريب مالك اختلاف الرواة على ابن شهاب.
وذكر ذلك الشافعي في الام
إلى أن نسبته إلى ابن شهاب لا تمنع نسبته إلى سهل، ويؤيد ذلك ما وقع في
رواية لابي داود عن سهل قال " فطلقها ثلاث تطليقات عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنقذه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ما صنع عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المدرج هو أن تزاد لفظة في متن الحديث من كلام الراوى فيحسبها من
يسمعها مرفوعة في الحديث فيرويها، وقد صنف الحافظ أبو بكر الخطيب في ذلك
كتابا حافلا سماه: فصل الواصل لما أدرج في النقل، وقد يكون الادراج في
الاسناد على تفصيل نذكره في مناسبته
(17/451)
سنة.
وفى نسخة الصغانى قال أبو عبد الله - يعنى البخاري - قوله " ذلك تفريق بين
المتلاعنين " من قول الزهري وليس من الحديث أما الاحكام فقد قال الشافعي
رضى الله عنه: ومتى التعن الزوج فعليها أن تلتعن فإن أبت حدت - إلى أن قال
- وان امتنعت من اليمين وهى مريضة فكانت ثيبا رجمت.
اه (قلت) ولا يجب اقامة الحد على الرجل الذى زنى بها، لاننا إذا قلنا يجب
أن يقام الحد عليها ببينة الزنا بلعان الزوج فإنه يدرأ عنها الحد أن
تلاعنه.
وإذا كان على الزوج حد القذف فإنه يدرأ عنه ذلك بلعانه.
أما الذى رميت به فليس له أن يشترك في الملاعنة ليدرأ عن نفسه فعلا يجب
عليه الحد لاجله، فلم يكن عليه حد، وبصورة أخرى نقول لما كان اللعان لدرء
الحد، ولما كان لا لعان عليه كان لا حد عَلَيْهِ (فَرْعٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فإذا أكمل الزوج الشهادة
والالتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبدا بحال، وان أكذب نفسه لم تعد
إليه التعنت أو لم تلتعن، حدت أو لم تحد، قال وانما قلت هذا لِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الولد
للفراش " وكانت فراشا فلم يجز أن ينفى الولد عن الفراش الا بأن يزول الفراش
فلا يكون فراش أبدا.
ثم ساق حديث ابن عمر ثم قال " وكان معقولا في حكم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ألحق الولد بأمه أنه نفاه عن أبيه وأن
نفيه عن أبيه بيمينه والتعانه لا بيمين أمه على كذبه بنفيه، ومعقول في
اجماع الناس أن الزوج إذا أكذب نفسه ألحق به الولد وجلد الحد، لان لا معنى
للمرأة في نفيه، وأن المعنى للزوج بما وصفت من نفيه، وكيف يكون لها معنى في
يمين الزوج ونفى الولد والحاقه، والولد بكل حال ولدها لا ينفى عنها انما
عنه ينفى واليها ينسب إذا نسب (فرع)
سبق أن قلنا ان مذهبنا حصول الفرقة بلعان الزوج وحده وان لم تلتعن المرأة
لانها فرقة حاصلة بالقول فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق.
وقال سائر الائمة ان الشرع ان أمر بالتفريق بين المتلاعنين، وانما فرق
النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما.
فإذا قلنا بأن اللعان منه يوجب الفرقة بينهما وتحرم
(17/452)
عليه على التأبيد إذا كان نكاحهما صحيحا.
أما إذا كان النكاح فاسدا أو بعد بينونة في زنا أضافه إلى حال الزوجية، فهل
تكون محرمة على التأبيد؟ وجهان ذكرهما المصنف.
(فرع)
الفرقة باللعان فسخ عندنا.
وقال أبو حنيفة: هي طلاق لانها فرقة من جهة الزوج تختص النكاح فكانت طلاقا
كالفرقة بقوله أنت طالق.
ولنا أنها فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع، ولان اللعان
ليس بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقا كسائر ما ينفسخ به
النكاح وبهذا قال أحمد وأصحابه، واستدلوا كذلك بكونه لو كان طلاقا لوقع
بلعان الزوج دون لعان المرأة.
(فرع)
قوله " إذا لاعن الزوج ثم أكذب نفسه الخ " فجملة ذلك أن الرجل إذا قذف
امرأته ثم أكذب نفسه فلها عليه الحد، سواء أكذبها قبل لعانه أو بعده.
وقوله " أكذب نفسه " قال في المصباح شرح غريب الشرح الكبير للرافعي وأكذب
نفسه وكذبها بمعنى اعترف بأنه كذب في قوله السابق قال الكسائي: وتقول العرب
أكذبته بالالف إذا أخبرت بأن الذى حدث كذب.
انتهى وهذا أصرح ما في النعوت من حكاية غير الواقع، وترى الفقهاء ينزهون
ألسنتهم فيما بينهم عن استعمال هذه الكلمة فيقولون عند احتمال الكذب: ليس
الامر كذلك.
وعند احتمال الغلط أو التلبيس يقولون: لا نسلم ويشيرون إلى المطالبة
بالدليل تارة والى الخطأ في النقل تارة والى التوقف تارة، فإذا أغلظوا في
الرد قالوا ليس كذلك وليس بصحيح، وقد رأيت بعض من يتسمون بسمات العلم في
عصرنا يتراشقون بالتكذيب وما هو أشد منه في أمور خلافية، فيخرجون عن آداب
البحث وعن حياء أهل المجادة من حملة العلم العاملين ونعود فنقول وجب على
الزوج حد القذف بعد الاكذاب، وبهذا قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الرأى ومالك
ولا نعلم لهم مخالفا، وذلك لان اللعان أقيم مقام البينة في حق الزوج فإذا
أكذب نفسه بان أن لعانها كذب وزيادة في هتكها وتكرار لقذفها فلا أقل من أن
يجب الحد الذى كان واجبا بالقذف المجرد للحرة البالغة،
(17/453)
فالصبية ليست محصنة وكذلك غير الحرة، فإن
عاد عن اكذاب نفسه وقال لى بينة أقيمها بزناها أو أراد اسقاط الحد عنه
باللعان لم يسمع من خلافه، وهذا فيما إذا كانت المقذوفة محصنة، فإن كانت
على محصنة فعليه التعزير، وفى ذلك كله يلحقه نسب الولد، سواء كان الولد حيا
أو ميتا، غنيا أو فقيرا، وبهذا قال أحمد
وأبو ثور.
وقال الثوري: إذا استلحق الولد الميت نظرنا - فإن كان ذا مال - لم يلحقه
لانه انما يدعى مالا، وان لم يكن ذا مال لحقه وقال أصحاب الرأى: ان كان
الولد الميت ترك ولدا ثبت نسبه من المستلحق وتبعه نسب ابنه، وان لم يكن ترك
ولدا لم يصح استلحاقه ولم يثبت نسبه ولا يرث منه المدعى شيئا لان نسبه
منقطع بالموت فلم يصح استلحاقه، فإذا كان له ولد كان مستلحقا لولده وتبعه
نسب الميت دليلنا أن هذا ولد نفاه باللعان فكان له استلحاقه كما لو كان حيا
أو كان له ولد ولان ولد الولد يتبع نسب الولد، وقد جعل ابو حنيفة نسب الولد
تابعا لنسب ابنه فجعل الاصل تابعا للفرع وذلك باطل فأما قول الثوري انه
انما يدعى مالا، قلنا انما يدعى النسب والميراث والمال تبع له، فان قيل هو
متهم في أن غرضه حصول الميراث.
قلنا ان النسب لا تمنع التهمة لحوقه، بدليل انه لو كان له أخ يعاديه فأقر
بابن لرمه وسقط ميراث أخيه ولو كان الابن حيا وهو غنى والاب فقير فاستلحقه
فهو متهم في ايجاب نفقته على ابنه ويقبل قوله، فكذلك ههنا، ثم كان ينبغى أن
يثبت النسب ههنا لانه حق للولد ولا تهمة فيه، ولا يثبت الميراث المختص
بالتهمة، ولا يلزمه من انقطاع التبع انقطاع الاصل ونخلص من كل ما سبق أن
أربعة أحكام تعلقت باللعان، حقان عليه وحقان له، فما عليه وجوب الحد ولحوق
النسب، وما له الفرقة والتحريم المؤبد، فإذا أكذب نفسه قبل قوله فيما عليه،
فلزمه الحد والنسب فلم يقبل فيما له، فلم تزل الفرقة أو التحريم المؤبد وعن
أحمد رواية: ان أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله.
قال ابن قدامة هي رواية شاذة شذ بها حنبل عن أصحابه
(17/454)
(فرع)
للمرأة في ملاعنته حق نفى الزنا ودرء الحد عن نفسها فإن هي أكذبت نفسها بعد
أن لاعنته وجب أن يقام الحد عليها لان حق الزنا عليها قد أضاعته بلعانها
فعاد بإكذابها.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن مات الزوج قبل اللعان وقعت الفرقة بالموت وورثته الزوجة لان الزوجية
بقيت إلى الموت، فإن كان هناك ولد ورثه، لانه مات قبل نفيه، وما وجب عليه
من الحد أو التعزير بقذفها سقط بموته، لانه اختص ببدنه وقد فات، وإن ماتت
الزوجة قبل لعان الزوج وقعت الفرقة بالموت وورثها الزوج، لان الزوجية بقيت
إلى الموت، وإن كان هناك ولد فله أن يلاعن لنفيه، لان الحاجة داعية إلى
نفيه، فإن طالبه ورثتها بحد القذف لاعن لاسقاطه، ولا يسقط من الحد لو لم
يلاعن شئ لحقه من الارث كما يسقط ما لها عليه من القصاص، لان القصاص ثبت
مشتركا بين الورثة، فإذا سقط ما يخصه بالارث سقط الباقي وحد القذف يثبت
جميعه لكل واحد من الورثة، ولهذا لو عفا بعضهم عن حقه كان للباقين أن
يستوفوا الجميع، فان مات الولد قبل أن ينفيه باللعان جاز له نفيه باللعان،
لانه يلحقه نسبه بعد الموت فجاز له نفيه، وإذا نفاه لم يرثه لانا تبينا
باللعان أنه لم يكن ابنه.
(فصل)
إذا قذف امرأته وامتنع من اللعان فضرب بعض الحد ثم قال أنا ألاعن سمع
اللعان وسقط ما بقى من الحد، وكذلك إذا نكلت المرأة عن اللعان فضربت بعض
الحد، ثم قالت أنا ألاعن سمع اللعان وسقط بقية الحد، لان ما أسقط جميع الحد
أسقط بعضه كالبينة
(فصل)
إذا قذفها ثم تلاعنا ثم قذفها نظرت - فان كان بالزنا الذى تلاعنا
عليه - لم يجب عليه حد لان اللعان في حقه كالبينة، ولو أقام البينة على
القذف ثم أعاد القذف لم يجب الحد، فكذلك إذا لاعن وإن قذفها بزنا آخر ففيه
وجهان
(أحدهما)
انه لا يجب الحد، لان اللعان في حقه كالبينة، ثم بالبينة يبطل إحصانها
فكذلك باللعان
(والثانى)
يجب عليه
(17/455)
الحد، لان اللعان لا يسقط إلا ما يجب
بالقذف في الزوجية لحاجته إلى قذف الزوجة، وقد زالت الزوجية باللعان فزالت
الحاجة إلى القذف فلزمه الحد، وان تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد، لان اللعان
حجة يختص بها الزوج فلا يسقط به الحد عن الأجنبي فان قذفها ولاعنها ونكلت
عن اللعان فحدت فقد اختلف أصحابنا فيها، فقال أبو العباس: لا يرتفع احصانها
إلا في حق الزوج، فان قذفها أجنبي وجب عليه الحد لان اللعان حجة اختص بها
الزوج فلا يبطل به الاحصان إلا في حقه.
وقال أبو إسحاق: يرتفع احصانها في حق الزوج والاجنبى، فلا يجب على واحد
منهما الحد بقذفها، لانها محدودة في الزنا فلم يحد قاذفها، كما لو حدت
بالاقرار أو البينة (الشرح) الاحكام: إذا قذفها ثم مات قبل لعانها أو قبل
اتمام لعانه سقط اللعان ولحقه الولد وورثته في قول جميع الفقهاء، ولان
اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه.
وان مات بعد أن أكمل لعانه فقد بانت بلعانه ولو لم تلاعن هي، وسقط التوارث
بينهما وانتفى الولد ولزمها الحد الا أن تلتعن وقال أحمد: ان مات بعد أن
أكمل لعانه وقبل لعانها فكمن مات قبل أن يتم لعانه أو قبل أن يلاعن يسقط
اللعان ويلحقه الولد وترثه.
لان أحكام اللعان مترتبة على اللعان عنده.
وتمامه أن تلاعن هي دليلنا قول ابن عباس رضى الله عنهما: ان التعن لم يرث.
ونحو ذلك عن الشعبى
وعكرمة.
لان اللعان يوجب فرقة تبين بها فيمنع التوارث.
كما لو التعن في حياتها وقال أحمد: ان مات على الزوجية فورثها كما لو لم
يلتعن.
ولان اللعان سبب الفرقة فلم يثبت حكم بعد موتها كالطلاق.
وفارق اللعان في الحياة فانه يقطع الزوجية.
على أنهم قالوا: لو لاعنها ولم تلتعن هي لم تنقطع الزوجية أيضا فههنا أولى.
وقال الشافعي رضى الله عنه " ان كان ثم ولد يريد نفيه فله أن يلتعن " وهذا
ينبنى على أصل - وهو أن اللعان انما يكون بين الزوجين - فان لعان الرجل
وحده يثبت به الحكم.
وعند أحمد بخلاف ذلك.
فان كانت طالبت بالحد في حياتها - فان كان للمرأة وارث غير الزوج - فله
اللعان ليسقط الحد عن
(17/456)
نفسه، وإلا فلا لعدم الحاجة إليه.
وقال أصحاب أحمد: إن أولياءها يقومون في الطلب به مقامها - فإن طولب به فله
إسقاطه باللعان وإلا فلا، لانه لا حاجة إليه مع عدم الطلب فإنه لا حد عليه
(فرع)
إذا مات المقذوف قبل المطالبة بالحد فإنه يورث كالمطالب سواء بسواء، لقول
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ تَرَكَ حقا فلورثته "
ولانه حق ثبت في الحياة يورث إذا طالب به فيورث وإن لم يطالب به كحق القصاص
وقال أحمد: إنه حد تعتبر فيه المطالبة فإذا لم يوجد الطلب من المالك لم يجب
كحد القطع في السرقة.
(فرع)
فإن لم يكذب نفسه ولكن لم يكن له بينة ولم يلاعن أقيم عليه، فإن أقيم عليه
بعضه وقال أنا ألاعن قبل منه لان اللعان يسقط جميع الحد فيسقط بعضه
كالبينة، فإن ادعت زوجته أنه قذفها بالزنا فأنكر فأقامت عليه بينة أنه
قذفها بالزنا، فقال صدقت البينة وليس ذلك قذفا، لان القذف الرمى بالزنا
كذبا وأنا صادق فيما رميتها به لم يكن ذلك إكذابا لنفسه لانه مصر على رميها
بالزنا، وله
إسقاط الحد باللعان، ومذهب أحمد رضى الله عنه في هذا كمذهبنا وكذلك نقول
فيمن نكلت عن اللعان فضربت بعض الحد ثم قالت أنا ألاعن فإنه يسقط ما بقى من
الحد، لان اللعان يسقط الحد كله، فلان يسقط بعضه أولى ولان اللعان قام مقام
البينة فأوقف الحد وأسقط باقيه (مسألة) إن قذفها في الزوجية ولاعنها ثم
قذفها بالزنا الاول فلا حد عليه لانه قد حققه بلعانه، وعند أصحاب أحمد
يحتمل أن يحد كما لو قذفها به أجنبي.
أما إذا قذفها بزنا آخر ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجب عليه الحد، لان الله تعالى قال " والذين يرمون المحصنات "
فاشترط لاقامة الحد بالقذف أن تكون المقذوفة منعوتة بالاحصان، فإذا لاعنها
فقد زال إحصانها، لان اللعان كالبينة.
(والثانى)
يجب عليه الحد، لان اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته
إليه، وقد صارت باللعان أجنبية عنه فزالت الحاجة إلى القذف، وفى القذف بغير
حاجة إشاعة للفاحشة بين الذين آمنوا فوجب الحد.
وبهذا قال
(17/457)
ابن عباس والزهرى والشعبى والنخعي وقتادة
ومالك وأبو عبيد وأحمد بن حنبل، (فرع)
إذا قذفها أجنبي بعد لعانه فإن كانت قد درأت عن نفسها الحد باللعان أقيم
على الأجنبي الحد قولا واحدا، وان نكلت فقد اختلف أصحابنا، فعلى قول أبى
العباس بن سريج يجب حده لانه لم يرتفع احصانها الا في حق الزوج.
وعلى قول أبى اسحاق المروزى يرتفع احصانها مطلقا فلا يجب على أحد الحد
بقذفها، لانها محدودة باللعان كما لو حدت بالاقرار أو بالبينة قال ابن
قدامة: فأما ان أقام بينة فقذفها قاذف بذلك الزنا أو بغيره فلا حد عليه
لانه قد زال احصانها، ولان هذا القذف لم يدخل المعرة عليها، وانما دخلت
المعرة بإقامة البينة، ولكنه يعزر تعزير السب والاذى.
وهكذا كل من قامت البينة بزناه لا حد على قاذفه.
وبه قال الشافعي وأصحاب الرأى، ولكنه يعزر تعزير الاذى والسب ولا يملك
الزوج اسقاطه عن نفسه باللعان لما قدمناه.
اه.
والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تم الجزء السابع عشر ويليه الجزء الثامن عشر وأوله كتاب الايمان
(17/458)
|