المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب العدد

إذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول والخلوة لم تجب العدة لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) ولان العدة تجب لبراءة الرحم، وقد تيقنا براءة رحمها، وإن طلقها بعد الدخول وجبت العدة لانه لما أسقط العدة في الآية قبل الدخول دل على وجوبها بعد الدخول، ولان بعد الدخول يشتغل الرحم بالماء فوجبت العدة لبراءة الرحم.
وإن طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول ففيه قولان

(أحدهما)
لا تجب العدة لما ذكرناه من الآية والمعنى (والثاني) تجب لان التمكين من استيفاء المنفعة جعل كالاستيفاء، ولهذا تستقر به الاجرة في الاجارة كما تستقر بالاستيفاء، فجعل كالاستيفاء في إيجاب العدة.

(فصل)
وان وجبت العدة على المطلقة لم تخل - إما أن تكون حرة أو أمة - فإن كانت حرة نظرت، فإن كانت حاملا من الزوج اعتدت بالحمل لقوله تعالى (وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن) ولان براءة الرحم لا تحصل في الحامل الا بوضع الحمل، فإن كان الحمل ولدا واحدا لم تنقض العدة حتى ينفصل

(18/124)


جميعه، وإن كان ولدين أو أكثر لم تنقض حتى ينفصل الجميع، لان الحمل هو الجميع، ولان براءة الرحم لا تحصل الا بوضع الجميع.
وان وضعت ما بان فيه خلق آدمى انقضت به العدة، وان وضعت مضغة لم يظهر فيه خلق آدمى وشهد أربع نسوة من أهل المعرفة أنه خلق آدمى ففيه طريقان من أصحابنا من قال تنقضي به العدة قَوْلًا وَاحِدًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ وقد بيناه في عتق أم الولد، وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما روى أنه أتى عثمان رضى الله عنه بامرأة ولدت لستة أشهر فشاور القوم في رجمها، فقال ابن عباس رضى الله عنه: أنزل الله عز وجل (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وأنزل وفصاله في عامين فالفصال في عامين والحمل في ستة أشهر وذكر القتيبى في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، وأكثره أربع سنين، لما روى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حدثت جميلة بنت سعد عن عائشة رضى الله عنها: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل.
قال مالك: سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع
سنين قبل أن تلد.
وأقل ما تنقضي به عدة الحامل أن تضع بعد ثمانين يوما من بعد امكان الوطئ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ أحدكم ليخلق في بطن أمه نطفة أربعين يوما: ثم يكون علقة أربعين يوما، ثم يكون مضغة أربعين يوما.
ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن يكون بعد الثمانين (الشرح) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم الخ) خاطب الله المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، وبين ذلك الحكم للامة، فالمطلقة إذا لم تكن مسوسة لا عدة عليها بنص الكتاب واجماع الامة، وعلى هذا فإن النكاح في الآية هنا يطلق على العقد وان كان في الحقيقة يطلق على الوطئ، وسمى العقد نكاحا لملابسته له من حيث هو طريق إليه، ولم يرد النكاح في كتاب الله الا في معنى العقد لانه في معنى الوطئ، وهو من آداب القرآن، وقد كنى عن الوطئ بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتنشى والاتيان وفي قوله (ثم طلقتموهن) أحكام مضى ذكرها في الطلاق.
وقد استدل

(18/125)


داود الظاهرى ومن قال بقوله أن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها أنه ليس له عليها أن تتم عدتها ولاعدة مستقبلة، لانها مطلقة قبل الدخول بها وقال عطاء بن أبي رباح وفرقة: تمضى في عدتها من طلاقها الاول، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لان طلاقه لها إذا لم يمسها في حكم من طلقها في عدتها قبل أن يراجعها، ومن طلق امرأته في كل طهر مرة بنت ولم تستأنف، وقال مالك إذا فارقها قبل أن يمسها انها لاتبنى على ما مضى من عدتها، وإنها تنشئ من يوم طلقها عدة مستقبلة، وقد ظلم زوجها نفسه وأخطا إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها، وعلى هذا أكثر أهل العلم، لانها في حكم الزوجات المدخول بهن في النفقة
والسكنى وغير ذلك، ولذلك تستأنف العدة من يوم طلقت، وهو قول جمهور فقها البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام وقال الثوري: أجمع الفقهاء عندنا على ذلك.
قال أبن قدامة: وأجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها، لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم النساء ثم طلقتموهن) الآية (فرع)
هل تجب العدة على المطلقة إذا خلا بها ولم يمسها؟ فيه قولان:
(أحدهما)
وهو قوله في القديم: إن العدة تجب على كل من خلا بها زوجها ولم يصبها ثم طلقها.
وبهذا قال أحمد وروى عن الخلفاء الراشدين وزيد بن ثابت وابن عمر، وبه قال عروة وعلي ابن الحسين وعطاء والزهرى والثوري والاوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأى.
(الثاني) وهو قوله في الجديد: لا عدة عليها لقوله تعالى (ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) وهذا نص، ولانها مطلقة لم تمس فأشبهت من لم يخل بها ووجه القول الاول ماروى أحمد في مسنده عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت

(18/126)


العدة، ولانه عقد على المنافع فالتمكين فيه يجرى مجرى الاستيفاء في الاحكام المتعلقة به كعقد الاجارة.
(مسألة) إذا كانت المطلقة حرة أو أمة وكانت حاملا من الزوج فقد أجمع أهل العلم في جميع الامصار والاعصار أنها تنقضي عدتها بوضع حملها، وكذلك كل مفارقة في الحياة، وأجمعوا أيضا على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا اجلها وضع حملها إلا ابن عباس، وسيأتى مزيد
وقد شرعت العدة لمعرفة براءتها من الحمل ووضعه أدل الاشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي العدة ولانه لا خلاف في بقاء العدة ببقاء الحمل فوجب أن تنقضي به.
فإذا كان الحمل واحدا انقضت العدة بوضعه وانفصال جميعه، وان ظهر بعضه فهى في عدتها حتى يفصل باقيه، لانها لا تكون واضعة لحملها ما لم يخرج كله، وان كان الحمل اثنين أو أكثر لم تنقض عدتها إلا بوضع الآخر لان الحمل هو الجميع، هذا قول عامة أهل العلم إلا أبا قلابة وعكرمة فإنهما قالا: تنقضي عدتها بوضع الاول ولا تتزوج حتى تضع الآخر وذكر ابن أبى شيبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال: إذا وضعت أحدهما فقد انقضت عدتها، قيل له فتتزوج؟ قال لا.
قال قتادة خصم العبد وهذا قول شاد باتفاق جمهور العلماء، ويخالف ظاهر الكتاب، فإن العدة شرعت لمعرفة البراءة من الحمل.
فإذا علم وجود الحمل فقد تيقن وجود الموجب للعدة وانتفت البراءة الموجبة لانقضائها، ولانها لو انقضت عدتها بوضع الاول لابيح لها النكاح كما لو وضعت الآخر، فإن وضعت ولدا وشكت في وجود ثان لم تنقض عتدها حتى تزول الريبة: وتيقن أنها لم يبق معها حمل، لان الاصل بقاؤها فلا يزول بالشك (فرع)
الحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شئ من خلق الانسان حرة كانت أو أمة، فإذا ألقت المرأة بعد فرقة زوجها شيئا لم يخل (1) أن يكون مابان فيه هو الشكل الآدمي من الرأس واليد والرجل، فهذا تنقضي به العدة بلا خلاف قال ابن المنذر: أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط إذا علم أنه ولد وممن تحفظ عنه ذلك الحسن وابن سيرين وشريح والشعبى

(18/127)


والنخعي والزهرى والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال أحمد بن
حنبل، إذا بان فيه شئ من خلق الآدمى علم بأنه حمل: فيدخل في عموم قوله تعالى (وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن) (2) أن تلقى نطفة أو دما لا تدري هل هو ما يخلق منه الآدمى أولا؟ فهذا لا يتعلق به شئ من الاحكام، لانه لم يثبت أنه ولد ولا بالمشاهدة ولا بالبينة (3) أن تلقى مضغة لم تبن فيها الخلقة، فشهد أربع ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية بان بها أنه خلقة آدمى، فهذا فيه طريقان، من أصحابنا من قال.
تنقضي به العدة كالحال الاولى قولا واحدا، لانه قد تبين بشهادة أهل المعرفة أنه ولد.
والثانى من أصحابنا من قال فيه قولان بنيهما المصنف في عتق أم الولد أحدهما أن عدتها لا تنقضي به ولا تصير أم ولد لانه لم يبين فيه خلق آدمى فأشبه الدم.
والثاني أن عدتها لا تنقضي به ولكن تصير أم ولد لانه مشكوك في كونه ولدا، فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة بأمر مشكوك فيه.
وعن أحمد روايتان، إحداهما نقلها الاثرم والاخرى نقلها حنبل كالقولين عندنا (4) إذا ألقت مضغة لاصورة فيها فشهد أربع من ثقات القوابل أنه مبتدأ خلق آدمى فهو كالذى قبله (5) أن تضع مضغة لاصورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدمى فهذا لا تنقضي به العدة ولا تصير به أم ولد لانه لم يثبت كونه ولدا ببينة ولا مشاهدة، فأشبه العلقة، فلا تنقضي العدة بوضع ما قبل المضغة بحال، سواء كان نطفة أو علقة، وسواء قيل إنه مبتدأ خلق آدمى أو لم يقل، فإذا كان علقة فلا تنقضي به العدة بإجماع الفقهاء ما عدا الحسن البصري فإنه قال: إذا علم أنها حمل انقضت به العدة وفيه الغرة والاصح ما عليه الجمهور وأقل ما تنقضي به مدة الحمل ستة أشهر، لان الله تعالى يقول (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)
قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا.
وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا، وروى أن عثمان قد أتى بأمرأة قد ولدت سفاحا لستة أشهر فأراد أن يقضى عليها بالحد فقال له على:

(18/128)


ليس ذلك عليها، قال تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وقال تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان ولم يحدها وقد روى الاثرم بإسناده عن أبى الاسود أنه رفع إلى عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فقال له على " ليس لك ذلك وتلا الآيتين، فخلى عمر سبيلها: وولدت مرة أخرى لذلك الحد، ورواه الاثرم أيضا عن عكرمة أن ابن عباس قال ذلك.
قال عاصم الاحول فقلت لعكرمة إنا بلغنا أن عليا قال هذا فقال عكرمة " لا " ما قال هذا الا ابن عباس وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، وهذا قول أحمد ومالك وأصحاب الرأى وغيرهم.
وسيأتى في الرضاع مزيد ان شاء الله قال القرطبى لم يعد ثلاثة أشهر في أبتداء الحمل، لان الولد فيه نطفة وعلقة ومضغة، فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى (فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به) والفصال الفطام وروى أن الآية نزلت في أبى بكر الصديق: وكان حمله وفصاله ثلاثين شهرا حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا، وفي الكلام إضمار.
أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا، ولولا هذا الاضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى.
وقال أحمد أقل ما تنقضي به العدة من الحمل أن تضعه بعد ثمانين يوما منذ
أمكنه وطؤها، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ خلق أحدكم ليجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن تكون بعد الثمانين، فأما بعد الاربعة اشهر فليس فيه إشكال، لانه منكس في الخلق الرابع (مسألة) خبر مالك ساقه الذهبي في الميزان عن ابراهيم بن موسى الفراء.
حدثنا الوليد بن مسلم قال، قلت لمالك أن حدثت عن عائشة انها قالت " لاتحمل المرأة فوق سنتين قدر ظل معتزل " فقال مالك سبحان الله من يقول هذا؟

(18/129)


هذه امرأة ابن عجلان جارتنا امرأة صدق ولدت ثلاث أولاد في ثنتي عشرة سنة تحمل أربع سنين قبل أن تلد.
اه (قلت) من الغريب أن محمد بن عجلان نفسه حملت به أمه بأكثر من ثلاث سنين، ورى هذا الواقدي، سمعت عبد الله بن محمد بن عجلان يقول حمل بأبى بأكثر من ثلاث سنين.
وروى العباس بن نصر البغدادي عن صفوان بن عيسى قال " مكث ابن عجلان في بطن أمه ثلاث سنين، فشق بطنها لما ماتت فأخرج وقد نبتت أسنانه.
روى هذا المحدث أبو بكر بن شاذان عن عبد العزيز بن أحمد الغافقي المصرى عن العباس وكان محمد بن عجلان هذا رجلا صالحا تقيا، اختلف نقاد الرجال فيه، فقال الحاكم أخرج له مسلم في كتابه ثلاثة عشر حديثا كلها شواهد.
وقد تكلم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه.
وقال الذهبي إمام صدوق مشهور.
روى عن أبيه والمقبرى وطائفة.
وعنه مالك وشعبة ويحيى القطان.
وثقة أحمد وابن معين وابن عيينة وأبو حاتم.
وروى عباس عن أبن معين قال ابن عجلان أوثق من محمد ابن عمر.
وما يشك أحد في هذا
وقال البخاري في ترجمة ابن عجلان في الضعفاء قال لى علي بن أبى الوزير عن عائشة إنه ذكر ابن عجلان فذكر خبرا، وقال يحيى القطان كان مضطربا في حديث نافع.
وقال البخاري، قال يحيى القطان لاأعلم إلا أنى سمعت ابن عجلان يقول كان سعيد المقبرى يحدث عن أبيه عن أبي هريرة وعن رجل عن أبى هريرة، فاختلط فجعلهما عن أبى هريرة.
كذا في نسختي بالضعفاء للبخاري.
وعندي في مكان آخر أن أبن عجلان كان يحدث عن سعيد عن أبيه عن أبى هريرة.
وعن رجل عن أبي هريرة، فاختلط عليه فجعلهما عن أبي هريرة
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
فإن كانت المعتدة غير حامل فإن كانت ممن تحيض اعتدت بثلاثة أقراء لقوله عز وجل (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) والاقراء هي الاطهار، والدليل عليه قوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) والمراد به في وقت

(18/130)


عدتهن كما قال (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) والمراد به في يوم القيامة والطلاق المأمور به في الطهر، فدل على أنه وقت العدة، وان كان الطلاق في وقت الحيض كان أول الاقراء الطهر الذي بعده، فإن كان في حال الطهر نظرت فإن بقيت في الطهر بعد الطلاق لحظة ثم حاضت احتسبت تلك اللحظة قرءا، لان الطلاق انما جعل في الطهر ولم يجعل في الحيض حتى لا يؤدي إلى الاضرار بها في تطويل العدة، فلو لم تحسب بقية الطهر قرءا كان الطلاق في الطهر أضر بها من الطلاق في الحيض، لانه أطول للعدة، فإن لم يبق بعد الطلاق جزء من الطهر - بأن وافق آخر لفظ الاطلاق آخر الطهر، أو قال لها أنت طالق في آخر جزء من طهرك - كان أول الاقراء الطهر الذي بعد الحيض.
وخرج أبو العباس وجها آخر أنه يجعل الزمان الذي صادفه الطلاق من الطهر
قرءا، وهذا لا يصح لان العدد لا يكون إلا بعد وقوع الطلاق فلم يجز الاعتداد بما قبله.
وأما آخر العدة فقد روى المزني والربيع أنها إذا رأت الدم بعد الطهر الثالث انقضت العدة برؤية الدم.
وروى البويطى وحرملة أنها لا تنقضي حتى يمضى من الحيض يوم وليلة: فمن أصحابنا من قال هما قولان، أحدهما تنقضي العدة برؤية الدم، لان الظاهر أن ذلك حيض، والثاني لا تنقضي حتى يمضى يوم وليلة لجواز أن يكون دم فساد فلا يحكم بانقضاء العدة.
ومنهم من قال هي على اختلاف حالين.
فالدى رواه المزني والربيع فيمن رأت الدم لعادتها فيعلم بالعادة أن ذلك حيض، والذى رواه البويطى وحرملة فيمن رأت الدم لغير عادة، لانه لا يعلم انه حيض قبل يوم وليلة، وهل يكون ما رأته من الحيض من العدة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه من العدة لانه لابد من اعتباره، فعل هذا إذا راجعها فيه صحت الرجعة، وإن تزوجت فيه لم يصح النكاح (والثاني) ليس من العدة لانا لو جعلناه من العدة لزادت العدة على ثلاثة أقراء، فعلى هذا إذا راجعها لم تصح الرجعة، فإن تزوجت فيه صح النكاح (الشرح) قوله تعالى (يتربصن بأنفسن ثلاثة قروء) يتربصن ينتظرن والتربص الانتظار.
قال تعالى (فتربصوا فستعلمون) قال ابن بطال، واختلف

(18/131)


أهل العلم في الاقراء، فذهب قوم إلى أنها الاطهار، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، وذهب قوم إلى أنها الحيض وأهل اللعنة يقولون ان القرء يقع على الحيض وعلى الطهر جميعا وهو عندهم من الاضداد، وأصل القراء الجمع، يقال قريت الماء في الحوض جمعته، فكأن الدم يجتمع في الرحم ثم يخرج.
اه وقال في اللسان، قال أبو عبيد القرء يصلح للحيض والطهر، قال وأظنه
من أقرأت النجوم إذا غابت والجمع أقراء، وفي الحديث " دعى الصلاة أيام أقرائك " وقروء على فعول وأقرؤ الاخيرة عن اللحيانى في أدنى العدد، ولم يعرف سيبوية أقراءا ولا أقرؤا.
قال استغنوا عنه بفعول، وفي التنزيل " ثلاثة قروء " كما قالوا خمسة كلاب يراد خمسة من كلاب.
قال الاعشى مورثة مالا وفي الحى رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا وقد اختلف الرواية عن أحمد بن حنبل فروى أنها الحيض، وهو مروى عن أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وابن عباس وسعيد بن المسيب والثوري والاوزاعي والعنبري واسحاق وأبى عبيد وأصحاب الرأى، وروى عن أبى موسى وعبادة بن الصامت وأبى الدرداء والرواية الثانية عن أحمد أن القروء الاطهار، وهو قول زيد وابن عمر وعائشة وسليمان بن يسار وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وأبان بن عثمان وعمر ابن عبد العزيز والزهرى ومالك وأبى بكر بن عبد الرحمن الذي قال: ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك.
قال ابن عبد البر: رجع أحمد إلى إلى أن القروء الاطهار قال في رواية الاثرم: رأيت الاحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف: والاحاديث عمن قاله إنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديثها صحاح وقوية.
واحتج من قال بقول الله (فطلقوهن لعدتهن) أي في عدتهن، كقوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي في يوم القيامة، وإنما أمر بالاطلاق في الطهر لا في الحيض.

(18/132)


(فرع)
لما كانت القروء هي الاطهار عندنا احتسبنا لها بالطهر الذي طلقها فيه، قرءا طلقها - وقد من طهرها لحظة - حسبها قرءا، وهذا قول
كل من قال: القروء الاطهار إلا الزهري وحده قال: تعتد بثلاثة قروء سوى الطهر الذي طلقها فيه.
وحكى عن أبي عبيد أنه إن كان جامعها في الطهر لم يحتسب ببقيته لانه زمن حرم فيه الطلاق فلم يحتسب به من العدة كزمن من الحيض.
وقال الحنابلة: القروء الحيض: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " ولان الاستبراء تعرف به براءة الرحم، وإنما يحصل بالحيضة لا بالطهر الذي قبلها، ولان العدة تتعلق بخروج خارج من الرحم فوجب أن تتعلق بالطهر كوضع الحمل يحققه أن العدة مقصودها معرفة براءة المرأة من الحمل، فتارة تحصل بوضعه وتارة تحصل بما ينافيه وهو الحيض الذي لا يتصور وجوده معه.
ووجه القول بأن المرأة تعتد بالطهر الذي طلقت فيه أن الطلاق حرم في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها، فلو لم يحتسب ببقية قرءا كان الطلاق في الطهر أضر بها وأطول عليها، وما ذكر عن أبى عبيد لا يصح، لان تحريم الطلاق في الحيض لكونها لا تحتسب ببقيته فلا يجوز أن نجعل العلة في عدم الاحتساب تحريم الطلاق فتصير العلة معلولا، وإنما تحريم الطلاق في الطهر الذي أصابها فيه لكونها مرتابة، ولكونه لا يأمن الندم بظهور حملها (فرع)
إذا انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر، أو قال لها: أنت طالق في آخر جزء من طهرك، كان أول الاقراء الطهر الذي بعد الحيض ويكون محرما ولا تحتسب بتلك الحيضة من عدتها، وتحتاج أن تعتد بثلاث حيضات في قول الربيع بن سليمان والمزنى عن الشافعي: إذا رأت الدم بعد الطهر الثالث انقضت العدة برؤية الدم، وفي قوله من رواية البويطى وحرملة أنها لا تنقضي حتى يمضى من الحيض يوم وليلة.
ووجه القول الاول ما رواه الشافعي أخبرنا مالك عن نافع زيد بن أسلم

(18/133)


عن سليمان بن يسار أن الاحوص بن حكيم هلك بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها، ولا ترثه ولا يرثها.
ووجه الثاني ما أخرجه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضى الله عنها أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة.
قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن فقالت: صدق عروة، وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: ان الله تبارك اسمه يقول: ثلاثة قروء، فقالت عائشة رضى الله عنها: صدقتم، وهل تدرون ما الاقراء؟ الاقراء الاطهار.
وقال الشافعي: فإذا طلق الرجل امرأته طاهرا قبل جماع أو بعده أعتدت بالطهر الذي وقع عليها فيه الطلاق ولو كان ساعة من نهار وتعتد بطهرين تامين بين حيضتين، فإذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة حلت، ولا يؤخذ أبدا في القرء الاول الا أن يكون فيما بين أن يوقع الطلاق وبين أول حيض، ولو طلقها حائضا لم تعتد بتلك الحيضة، فإذا طهرت استقبلت القرء، ولو طلقها فلما أوقع الطلاق حاضت - فإن كانت على يقين من أنها كانت طاهرا حين تم الطلاق ثم حاضت بعد تمامه بطرفة عين فذلك قرء وان علمت أن الحيض وتمام الطلاق كانا معا استأنفت العدة في طهرها من الحيض ثلاثة قروء اه ومحصل هذا أنه إذا طلقها وهي طاهر انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الثالثة، وأن طلقها حائضا أنقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الرابعة، وهذا قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وأبان ابن عثمان ومالك وأبى ثور وأحمد وهو ظاهر أحد القولين للشافعي، والقول
الآخر لا تنقضي العدة حتى يمضى زمن الدم يوم وليلة، لجواز أن يكون الدم دم فساد فلا نحكم بانقضاء العدة حتى يزول الاحتمال.
وقال أصحاب أحمد ان الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء فالزيادة عليها مخالفة للنص فلا يعول عليه ولفظ حديث زيد بن ثابت " إذا دخلت في الدم من الحيضة

(18/134)


الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها " والقول: إن الدم يكون دم فساد يقتضى الرد بكونه حيضا في ترك الصلاة وتحريمها على الزوج وسائر أحكام الحيض فكذلك في انقضاء العدة، ثم إن كان التوقف عن الحكم بانقضاء العدة للاحتمال، فإذا تبين أنه حيض علمنا أن العدة قد انقضت حين رأت الدم، كما لو قال لها: إن حضت فأنت طالق وقد اختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: اليوم والليلة من العدة، لانه دم تكمل به العدة فكان منها كالذي في أثناء الاطهار، ومنهم من قال: ليس منها إنما يتبين به انقضاؤها، ولاننا لو جعلناه منها أوجبنا الزيادة على ثلاثة قروء، ولكننا نمنعها من النكاح حتى يمضى يوم وليلة ولو راجعها زوجها لم تصح الرجعة
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وأقل ما يمكن أن تعتد فيه الحرة بالاقراء اثنان وثلاثون يوما وساعة وذلك بأن يطلقها في الطهر ويبقى من الطهر بعد الطلاق ساعة فتكون تلك الساعة قرءأ ثم تحيض يوما، ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثاني ثم تحيض يوما ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثالث، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها.

(فصل)
وان كانت من ذوات الاقراء فارتفع حيضها، فإن كان لعارض معروف كالمرض والرضاع تربصت إلى أن يعود الدم، فتعتد بالاقراء: لان
ارتفاع الدم بسبب يزول فانتظر زواله، فإن ارتفع بغير سبب معروف، ففيه قولان.
قال في القديم تمكث إلى أن تعلم براءة رحمها ثم تعتد عدة الآيسة، لان العدة تراد لبراءة الرحم.
وقال في الجديد تمكث إلى أن تيأس من الحيض ثم تعتد عدة الآيسة لان الاعتداد بالشهور جعل بعد الاياس فلم يجز قبله، فإن قلنا بالقول القديم ففي القدر الذي تمكث فيه قولان.

(أحدهما)
تسعة أشهر، لانه غالب عادة الحمل ويعلم به براءة الرحم في الظاهر

(18/135)


(والثاني) تمكث أربع سنين، لانه لو جاز الاقتصار على براءة الرحم في الظاهر لجاز الاقتصار على حيضة واحدة، لانه يعلم بها براءة الرحم في الظاهر، فوجب أن يعتبر أكثر مدة الحمل ليعلم براءه الرحم بيقين.
فإذا علمت براءة الرحم بتسعة أشهر أو بأربع سنين اعتدت بعد ذلك بثلاثة أشهر، لما روى عن سعيد ابن المسيب رضى الله عنه " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قضى في المرأة إذا طلقت فارتفعت حيضتها أن عدتها تسعة أشهر لحملها وثلاثة أشهر لعدتها، ولان تربصها فيما تقدم ليس بعدة وانما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الاقراء فإذا علمت أعتدت بعدة الآيسات فان حاضت قبل العلم ببراءة رحمها أو قبل انقضاء العدة بالشهور لزمها الاعتداد بالاقراء لانها تبينا أنها من ذوات الاقراء، فإن اعتدت وتزوجت ثم حاضت لم يؤثر ذلك في العدة لانها انقضت العدة وتعلق بها حق الزوج فلم يبطل، فإن حاضت بعد العدة وقبل النكاح ففيه وجهان.
أحدهما لا يلزمها لا عتداد بالاقراء لانا حكمنا بانقضاء العدة فلم يبطل بما حدث بعده، والثاني يلزمها لانها صارت من ذوات الاقرار قبل تغلق حق الزوج بها
فلزمها الاعتداد بالاقراء، فإن قلنا بقوله الجديد أنها تقعد إلى الاياس ففي الاياس قولان
(أحدهما)
يعتبر اياس أقاربها لانها أقرب اليهن (والثاني) يعتبر اياس نساء العالم، وهو أن تبلغ اثنتين وستين سنة، لانه لا يتحقق الاياس فيما دونها فإذا تربصت قدر الاياس اعتد ت بعد ذلك بالاشهر لان ما قبلها لم يكن عدة، وانما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الاقراء.
(الشرح) قال النووي، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تُؤْمَرُ فِي الْعِدَّةِ بِالْأَحْوَطِ والقعود إلى أن تَبَيُّنِ الْيَأْسِ، بَلْ إذَا طَلُقَتْ أَوْ فُسِخَ نِكَاحُهَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوَّلُهَا مِنْ حِينِ الْفِرْقَةِ فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٌ وَلَمْ يَكُنْ حَمْلٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحِيضُ وَتَطْهُرُ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَحُمِلَ أَمْرُهَا عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا وَلِأَنَّا لَوْ أَمَرْنَاهَا بِالْقُعُودِ إلَى الْيَأْسِ عَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ وَطَالَ الضَّرَرُ لِاحْتِمَالٍ نَادِرٍ مُخَالِفٍ لِلظَّنِّ وَغَالِبِ عَادَةِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ إلْزَامِهَا وَظَائِفَ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ سَهْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا، وَلِأَنَّ غَيْرَهَا يُشَارِكُهَا فِيهِ.

(18/136)


وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هُنَا وَالْغَزَالِيُّ فِي الْعِدَدِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ أَنَّهُ حَكَى وَجْهًا أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْقُعُودُ إلَى الْيَأْسِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بثلاثة أشهر.
قَالَ الْإِمَامُ وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ الِاكْتِفَاءُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ فِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ وَحَكَى الدَّارِمِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ.
قَالَ حَتَّى رَأَيْتُ لِلْمَحْمُودِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّهَا إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا بَعْدَ مُضِيِّ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَاعَتَيْنِ، وَلَا تَتَزَوَّجُ إلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ احْتِيَاطًا لِأَمْرَيْنِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الدَّارِمِيُّ عَلَى الْأَصْحَابِ قَوْلَهُمْ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَغَلَّطَهُمْ فِي ذلك وبالغ في ابطال قولهم
قال الدرامى: يَنْبَغِي أَنْ نُبَيِّنَ عِدَّةَ غَيْرِهَا لِنَبْنِيَ عَلَيْهَا عِدَّتَهَا، فَعِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الْحَائِلِ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كُلُّ قُرْءٍ طُهْرٌ إلَّا الْأَوَّلَ فَقَدْ يَكُونُ بَعْدَ طُهْرٍ، وَطَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ بِدْعَةٌ وَفِي الطُّهْرِ سُنَّةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَامَعَهَا فِيهِ فَبِدْعَةٌ أَخَفُّ مِنْ الْحَيْضِ، وَهَلْ يُحْسَبُ قُرْءًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فيه حسبت بقيته طهرا وَأَتَتْ بِطُهْرَيْنِ بَعْدَهُ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِنْ الْعِدَّةِ.
وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مُضِيُّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَقِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ اُشْتُرِطَ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ فَإِنْ حَسِبْنَاهُ قُرْءًا فَكَمَا لَوْ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ وَإِلَّا وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ بَعْدَهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي حَيْضٍ وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ.
وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ مَعَ آخِرِ اللَّفْظِ أَمْ عَقِبَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَهَلْ تَشْرَعُ فِي الْعِدَّةِ مَعَ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ أَمْ عَقِيبَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَلِلنَّاسِ خِلَافٌ فِي تُجْزِئُ الْقُرْءِ.
هَلْ هُوَ إلَى غَايَةٍ أَمْ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ؟ وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَقَلُّ زَمَانٍ يُمْكِنُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فِيهِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ، بِأَنْ يُطَلِّقَهَا وَقَدْ بقى شئ مِنْ الطُّهْرِ فَتَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا ثُمَّ تَحِيضُ يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر، ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر وَهُوَ الْقُرْءُ الثَّالِثُ ثُمَّ تَرَى الدَّمَ لَحْظَةً، وينغبى أن تنبى العدة على ما سبق، فإن طَلَّقَهَا وَكَانَ جُزْءٌ مِنْ آخِرِ لَفْظِهِ أَوْ شئ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْجُزْءِ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ بِلَا خِلَافٍ وَتَعْتَدُّ بِالْأَطْهَارِ بَعْدَهُ.
وَإِنْ طَابَقَ الطلاق آخر

(18/137)


الطُّهْرِ اعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى آخِرِ لَفْظِهِ وَحُسِبَ مِنْ الْعِدَّةِ وَلَا يُحْسَبُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ.
وَلَوْ بقى بعد طلاقه شئ مِنْ آخِرِ الطُّهْرِ فَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْجُزْءِ تَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا، لِأَنَّهُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَتَعْتَدُّ بِالثَّانِي وَهُوَ أَغْلَظُ - إذَا قُلْنَا بِالطَّلَاقِ عَقِيبَ لَفْظِهِ وَبِالْعِدَّةِ
عَقِيبَ الطَّلَاقِ - وَإِنْ قُلْنَا غَيْرَ ذَلِكَ فَأَوْلَى، وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ بِالْجُزْءِ - إنْ كَانَ الثَّانِي جُزْءًا وَاحِدًا - فَإِنْ قُلْنَا الطَّلَاقُ عَقِيبَ لَفْظِهِ وَالْعِدَّةُ مُطَابِقَةٌ لِلطَّلَاقِ، أَوْ قُلْنَا الطَّلَاقُ بِآخِرِ لَفْظِهِ وَالْعِدَّةُ بَعْدَهُ حُسِبَ قرءا، لان ذلك الْجُزْءَ وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ وَطَابَقَتْهُ الْعِدَّةُ أَوْ صَادَفَتْهُ الْعِدَّةُ وَتَقَدَّمَهُ الطَّلَاقُ فِي آخِرِ لَفْظِهِ.
وَإِنْ قُلْنَا الطَّلَاقُ بِآخِرِ لَفْظِهِ وَالْعِدَّةُ تُطَابِقُهُ فأولى بذلك.
وإن قلنا الطلاق عقيب لفظه والعدة عقيبه قُرْءًا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي هَذَا الْجُزْءِ ولا يبقى بعده شئ مِنْ الطُّهْرِ لِلْعِدَّةِ.
وَإِنْ كَانَ بَقِيَ جُزْءٌ اعتدت به قرءا على جميع المذاهب، فقد تكون العدة على بعض الْمَذَاهِبِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَجُزْءًا، وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ، وَذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيُطَابِقُ آخِرُ طَلَاقِهِ آخِرَ الطُّهْرِ وَقُلْنَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِآخِرِ اللفظ وطابقه أول العدة، فأقل العدة إذا نوبتان وزيادة، وأكثرها ثلاث نوب يوم وَلَيْلَةٌ وَجُزْءٌ، وَذَلِكَ إنْ يُطَلِّقَهَا وَقَدْ بَقِيَ جُزْءٌ مِنْ الطُّهْرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهِ وَلَا يُحْسَبُ قُرْءًا عِنْدَ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَقِيبَ لَفْظِهِ.
وَجَعَلَ أَوَّلَ الْعِدَّةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ثُمَّ تَمْضِي نَوْبَةُ حَيْضٍ وَطُهْرٍ، فَيَكُونُ قُرْءًا ثُمَّ ثَانِيَةٌ يَكُونُ ثَانِيًا، ثُمَّ ثَالِثُهُ قُرْءًا ثَالِثًا، ثُمَّ يَمْضِي يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ شَرَطَ ذَلِكَ وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ فَأَطْوَلُ الْعِدَّةِ عَلَى أَغْلَظِ المذاهب ثلاث نوب يوم وَلَيْلَةٌ وَطُهْرٌ إلَّا جُزْءًا.
وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ جامعها عاصيا في آخر الحيض وطلقها، فاتق آخِرُ لَفْظِهِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ وَطَابَقَهُ فَنَقُولُ: الطَّلَاقُ بِآخِرِ لَفْظِهِ وَهُوَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ وَفِيهِ جِمَاعٌ.
وَقُلْنَا لَا تَعْتَدُّ بِهِ وَذَلِكَ طُهْرٌ إلَّا جُزْءًا ثُمَّ تَمْضِي نَوْبَةٌ فَتَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ قُرْءًا ثُمَّ نَوْبَةٌ ثَانِيَةٌ ثُمَّ ثَالِثَةٌ ثُمَّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَهَذَا أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِدَّةً عَلَى أَشَدِّ مَذَاهِبِنَا، وَلَا يَخْفَى بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعُ مَا فِي الْمَذَاهِبِ وَإِنَّمَا قَصَدْنَا بَيَانَ أَقْصَى الْغَايَتَيْنِ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ عَلَى أَقْصَى الْمَذَاهِبِ إذا ثبت هذا فإن الرجل إذا طلق امرأته وهى من ذوات الاقراء فلم تر الحيض

(18/138)


في عادتها ولم تدر ما رفعه؟ فإنها تعتد سنة تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة رحمها، لان هذه المدة هي غالب مدة الحمل، فإذا لم يبن الحمل فيها علم براءة الرحم ظاهرا فتعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر، وهذا قول عمر رضى الله عنه قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والانصار لا ينكره منهم منكر علمناه: وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وروى ذلك عن الحسن، وقال الشافعي في قول آخر: تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد بثلاثة أشهر لان هذه المدة هي التي يتيقن بها براءة رحمها فوجب اعتبارها احتياطا وقال في الجديد تكون في عدة أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن الاياس تعتد حنيئذ بثلاثة أشهر.
وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وطاوس والشعبى والزهرى والنخعي وأبى الزناد والثوري وأبى عبيد وأهل العراق، لان الاعتداد بالاشهر جعل بعد الاياس فلم يجز قبله، وهذه ليست آيسة، ولانها ترجو عود الدم فلم تعتد بالشهور، كما لو تباعد حيضها لعارض أما إذا عرفت أن ارتفاع الحيض بعارض من مرض أو نفاس أو رضاع فإنها تنتظر زوال العارض وعود الدم.
وإن طال أن تصير في سن اليأس.
فعند ذلك تعتد عدة الآيسات على ما سنذكره وإن حاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه؟ لم تنقض عدتها إلا بعد سنة بعد انقطاع الحيض.
وذلك لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه؟ تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل تعتد بثلاثد أشهر فذلك سنة ولا نعرف له مخالفا.
قال ابن المنذر " قضى به عمر بين المهاجرين والانصار ولم ينكره منكر "
ونختم هذا البحث بما قال الشافعي رضى الله عنه.
وإذا كانت تحيض في كل شهر أو شهرين فطلقت فرفعتها حيضتها سنة.
أو حاضت حيضة ثم رفعتها حيضتها سنة أنها لا تحل للازواج الا بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة وان تباعد ذلك وطال.
وهى من أهل الحيض حتى تبلغ أن تيأس من المحيض وهي لا تيأس من المحيض حتى تبلغ السن التى من بلغتها من نسائها لم تحض بعدها.
فإذا بلغت ذلك

(18/139)


خرجت من أهل الحيض وكانت من المؤيسات من المحيض اللاتي جعل الله عز وجل عددهن ثلاثة أشهر واستقبلت ثلاثة أشهر من يوم بلغت سن المؤيسات من المحيض لا تخلو إلا بكمال الثلاثة الاشهر، وهذا يشبه - والله أعلم - ظاهر القرآن، لان الله تعالى جعل على الحيض الاقراء وعلى المؤيسا ت وغير البوالغ الشهور فقال " واللاتي يئسن من المحيض من نسائكم ان أرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر " قال والحيض يتباعد فعدة المرأة تنقضي بأقل من شهرين إذا حاضت ثلاثة حيض ولا تنقضي إلا بثلاث سنين وأكثر إن كان حيضها يتباعد، لانه إنما جعل عليهن الحيض فيعتددن به وإن تباعد.
وإن كان البراءة من الحمل تعرف بأقل من هذا فإن الله عز وجل حكم بالحيض فلا أحيله إلى غيره.
فهذا عدتها الحيض حتى تؤيس من المحيض بما وضعت من أن تصير إلى السن التي من بلغها من أكثر نسائها لم تحض.
وقد يروى عن ابن مسعود وغيره مثل هذا القول أخبرنا مالك عن محمد بن يحيى بن حبان أنه كان عند جده هاشمية وأنصارية، فطلق الانصارية وهى ترضع ابنته فمكث سبعة عشر شهرا لا تحيض يمنعها الرضاع أن تحيض، ثم مرض حبان بعد أن طلقها بسبعة أشهر أو ثمانية فقلت له إن امرأتك تريد أن ترث، فقال لاهله أحملوني إلى عثمان، فحملوه إليه فذكر له
شأن امرأته وعنده على بن أبى طالب زيد بن ثابت، فقال لهما عثمان ماتريان؟ فقالا نرى أنها ترثه ان مات ويرثها ان ماتت فإنها ليست من القواعد التي قد يئسن من المحيض، وليست من الابكار اللاتى لم يبلغن المحيض، ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل أو كثير، فرجع حبان إلى أهله فأخذ ابنته، فلما فقد الرضاع حاضت حيضة، ثم حاضت حيضة أخرى، ثم توفى حبان من قبل أن تحيض الثالثة فاعتدت عدة المتوفى عنها زوجها وورثته ثم روى طرق هذا الخبر إلى أن قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد ويزيد ابن عبد الله بن قسيط عن ابن المسيب أنه قال: قال عمر بن الخطاب " أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل فذلك، والا اعتدت بعد التسعة أشهر ثم حلت اه

(18/140)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كانت ممن لا تحيض ولا يحيض مثلها كالصغيرة والكبيرة الآيسة اعتدت بثلاثة أشهر، لقوله تعالى " واللائى يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائى لم يحضن " فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتدت بثلاثة أشهر بالاهلة، لان الاشهر في الشرع بالاهلة.
والدليل عليه قوله عز وجل " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج " وان كان الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقية الشهر ثم اعتدت بشهرين بالاهلة ثم تنظر عدد ما اعتدت من الشهر الاول، وتضيف إليه من الشهر الرابع ما يتم به ثلاثون يوما.
وقال أبو محمد عبد الرحمن ابن بنت الشافعي رحمه الله " إذا طلقت المرأة في أثناء الشهر اعتدت بثلاثة أشهر بالعدد كاملة، لانها إذا فانها الهلال في الشهر
الاول فاتها في كل شهر، فاعتبر العدد في الجميع، وهذا خطأ لانه لم يتعذر اعتبار الهلال الا في الشهر الاول فلم يسقط اعتباره فيما سواه
(فصل)
وان كانت ممن لا تحيض ولكنها في سن تحيض فيه النساء اعتدت بالشهور لقوله تعالى " واللائى يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائى لم يحضن " ولان الاعتبار بحال المعتدة لابعادة النساء، والدليل عليه أنها لو بلغت سنا لا تحيض فيه النساء وهى تحيض كانت عدتها بالاقراء اعتبارا بحالها، فذلك إذا لم تحض في سن تحيض فيه النساء وجب أن تتعد بالاشهر اعتبارا بحالها.
وان ولدت ولم تر حيضا قبله ولانفاسا بعده ففى عدتها وجهان
(أحدهما)
وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفرايينى رحمه الله أنها تعتد بالشهور للآية (والثاني) أنها لا تعتد بالشهور، بل تكون كمن تباعد حيضها من ذوات الاقراء، لانه لا يجوز أن تكون من ذوات الاحمال، ولا تكون من ذوات الاقراء.

(فصل)
وإذا شرعت الصغيرة في العدة بالشهور ثم حاضت لزمها الانتقال

(18/141)


إلى الاقراء لان الشهور بدل عن الاقراء فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها وهل يحسب ما مضى من الاشهر قرءا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يحتسب به - وهو قول أبى العباس - لانه طهر بعده حيض فاعتدت به قرءا، كما لو تقدمه حيض (والثاني) وهو قول أبى إسحاق انه لا يحتسب به، كما إذا اعتدت بقرأين ثم أيست لزمها الاستئناف ثلاثة أشهر ولم يحتسب ما مضى من زمان الاقراء شهرا وان انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت لم يلزمها الاستئناف للعدة بالاقراء، لان
هذا معنى حدث بعد انقضاء العدة.
وإن شرعت في العدة بالاقراء ثم ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم الاقراء إذا قلنا إن الحامل تحيض، لان الاقراء دليل على براءة الرحم من جهة الظاهر والحمل دليل على شغل الرحم من جهة القطع، والظاهر إذا عارضه قطع سقطت دلالته كالقياس إذا عارضه نص.
وإن اعتدت بالاقراء ثم ظهر حمل من الزوج لزمها الاعتداد بالحمل ويخالف إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت، لان ما رأت من الحيض لم يكن موجودا في حال العدة وإنما حدث بعدها والحمل من الزوج كان موجودا في حال العدة بالاقراء فسقط معه حكم الاقراء (الشرح) قال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبى بن كعب يارسول الله إنا ناسا يقولون قد بقى من النساء من لم يذكر فيهن الصغار وذوات الحمل، فنزلت " واللائى يئسن من المحيض " الآية.
هكذا أخرجه ابن حرير وإسحاق بن راهويه والحاكم وغيرهم وقال السيوطي في اللباب: صحيح الاسناد.
وأخرج مقاتل بن سليمان في تفسيره أن خلاد بن عمرو بن الجموح سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عدة التي لا تحيض فنزلت، وساق القرطبى روايات أخرى، منها أن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست فنزلت الآية

(18/142)


وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدرى دم حيض هو أو دم علة وقوله " ان ارتبتم " أي شككتم، وقيل تيقنتم، وهو من الاضداد يكون شكا ويقينا كالظن، واختيار الطبري أن يكون المعنى إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن.
وقال الزجاج إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها.
قال القشيرى وفي هذا نظر، لانا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر، والمعتبر في سن اليأس في قول: أقصى عادة أمرأة في العالم، وفي قول غالب نساء عشيرة المرأة على أن المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ من الريبة، وبارتفاع الريبة تنقضي عدتها.
وقد أجمع أهل العلم على أنها ان كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى " واللائى يسئن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن " فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتبر ثلاثة أشهر بالاهلة لقوله تَعَالَى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للناس والحج " وقال سبحانه " إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم " ولم يختلف الناس في أن الاشهر الحرم معتبرة بالاهلة.
وان وقع الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقيته ثم أعتدت شهرين بالاهلة ثم اعتدت من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما.
وهذا مذهب مالك وأحمد وقال أبو حنيفة: تحتسب بقية الاول وتعتد من الرابع بقدر ما فاتها من الاول تاما كان أو ناقصا، لانه لو كان من أول الهلال كانت العدة بالاهلة، فإذا كان من بعض الشهر وجب قضاء ما فات منه.
وخرج أصحاب أحمد وجها ثانيا أن جمع الشهور محسوبة بالعدد.
وهو قول ابن بنت الشافعي، لانه إذا حسب الاول بالعدد كان ابتداء من بعض الشهر فيجب أن يحسب بالعدد وكذلك الثالث، وهذا خطأ لان الشهر يقع على مابين الهلالين وعلى الثلاثين ولذلك إذا غم الشهر كمل ثلاثين والاصل الهلال، فإذا أمكن اعتبار الهلال اعتبروا.
وإذا تعذر رجعوا إلى العدد.
وفي هذا انفصال

(18/143)


عما ذكر لابي حنيفة.
وأما التخريج الذي ذكرناه فإنه لا يلزم إتمام الشهر الاول من الثاني ويجوز أن يكون تمامه من الرابع، ولهذا لم يسقط اعتبار الشهر الاول فيما سواه.
(فرع)
إذا بلغت سنا تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض كخمس عشرة سنة فعدتها ثلاثة أشهر، وهو مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وضعف أبو بكر من أصحابه الرواية المخالفة لهذا، وقال رواها أبو طالب فخالف فيها أصحابه، وذلك ماروى أبو طالب عن أحمد أنها تعتد سنة، ووجه القول الاول قوله تعالى " واللائى لم يحضن " وهذه من اللائى لم يحضن، ولان الاعتبار بحال المعتدة لابحال غيرها ولهذا لو حاضت قبل بلوغ سن يحيض لمثله النساء في الغالب، مثل أن تحيض ولها عشر سنين اعتدت بالحيض، وفارق من ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه، فإنها من ذوات القروء وهذا لم تكن منهن.
وأقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، لان المرجع فيه إلى الوجود وقد وجد من تحيض لتسع.
وقد روى الشافعي رضى الله عنه أنه قال: رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة، واختلف في السن التي تصير بها المرأة من الآيسات، فعن الشافعي قولان
(أحدهما)
يعتبر السن الذي يتيقن أنه إذا بلتغه لم تحض.
قال بعض أصحابنا هو إثنان وستون سنة.
(والثاني) يعتبر السن الذي ييأس فيه نساء عشريتها، لان الظاهر أن نشأها كنشئهن وطبعها كطبعهن.
واختلف عن أحمد في السن الذي تصير به المرأة من الآيسات، فعنه أوله خمسون سنة، لان عائشة قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد خمسين سنة،
وعنه إن كانت من نساء العجم فخمسون، وإن كانت من نساء العرب فستون " لانهن أقوى طبيعة، وقد ذكر الزبير بن بكار في كتاب النسب أن هندا بنت أبى عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولها ستون سنة، وقال يقال إنه لن تلد بعد خمسين سنة إلا عربية ولا تلد لستين إلا قرشية

(18/144)


قال ابن قدامة: والصحيح أنه متى بلغت المرأة خمسين سنة فانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب فقد صارت آيسة، لان وجود الحيض في حق هذه نادر.
بدليل قول عائشة وقلة وجوده، فإذا انضم إلى هذه انقطاعه عن العادات مرات حصل اليأس من وجوده، فلها حينئذ أن تعتد بالاشهر، وان انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، وإن رأت الدم بعد الخمسين على العادة التي كانت تراه فهو حيض في الصحيح: لان دليل الحيض الوجود في زمن الامكان.
وهذا يمكن وجود الحيض فيه وان كان نادرا، وان رأته بعد الستين فقد تيقن أنه ليس بحيض ذلك لا تعتد به وتعتد بالاشهر كالتي لا ترى دما.
(مسألة) إذا طلقها وهي من اللائى لم يحضن بأن كانت صغيرة أو كانت بالغا لم تحض إذا اعتدت بالشهور فحاضت قبل انقضاء عدتها ولو بساعة لزمها استئناف العدة في قول عامة الفقهاء.
منهم سعيد بن المسيب والحسن بن مجاهد وقتادة.
والشعبى والنخعي والزهرى والثوري ومالك وأحمد واسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأى وأهل المدينة وأهل البصرة.
وذلك لان الشهور بدل عن الحيض.
فإذا وجد المبدل بطل الحكم البدل كالتيمم مع الماء.
ويلزمها ان تعتد بثلاثة قروء.
وهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرءا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تعتد به
لانه طهر انتقلت منه إلى حيض فأشبه الطهر بين الحيضتين.
وهو قول أبى العباس لان القرء هو الطهر بين حيضتين.
وهذا لم يتقدمه حيض فلم يكن قرءا (والثاني) لا تعتد به كما إذا اعتدت بقرأين ثم أيست استأنفت ثلاثة أشهر وهو قول أبى اسحاق.
فأما إذا انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت بعدها ولو بلحظة لم يلزمها استئناف العدة، لانه معنى حدث بعد انقضاء العدة كالتي حاضت بعد انقضاء العدة بزمن طويل.
ولو حاضت حيضة أو حيضتين ثم صارت من الآيسات استأنفت العدة بثلاثة أشهر.
لان العدة لا تلفق من جنسين.
وقد تعذر اتمامها بالحيض فوجب تكميلها

(18/145)


بالاشهر.
وان ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم ما مضى وتبين أن ما رأته من الدم لم يكن حيضا، لان الحامل لا تحيض ولو حاضت بثلاثة حيض ثم ظهر بها حمل يمكن أن يكون حادثا بعد قضاء العده بأن تأتى به لستة أشهر منذ فرغت من عدتها لم تحلق بالزوج وحكمنا بصحة الاعتداد، وكان هذا الولد حادثا، وان أتت به لدون ذلك تبينا أن الدم ليس بحيض، لانه لا يجوز وجوده في مدة الحمل ولهذا الصورة أحكام في العبادات مضت في الحيض.
فإذا رأت المعتدة أمارات الحمل من حركة أو نفحة أو نحوهما وشكت هل هو حمل أم لا؟ فإذا حدثت الريبة قبل انقضاء عدتها فإنما تبقى في حكم الاعتداد حتى تزول الريبة، فإن بان حملا انقضت عدتها بوضعه، فإن زالت وبان أنه ليس يحمل تبينا أن عدتها انقضت بالقروء أو الشهور، فإن زوجت قبل زوال الريبة فالنكاح باطل لانها تزوجت وهى في حكم المعتدات في الظاهر قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كانت المطلقة أمة نظرت فإن كانت حاملا اعتدت بالحمل لما ذكرناه في الحرة، وان كانت من ذوات الاقراء اعتدت بقرأين لما روى جابر عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الامة حيضتين، ولان القياس اقتضى أن تكون قرءا ونصفا كما كان حدها على النصف، إلا أن القرء لا يتبعض فكمل فصارت قرأين، ولهذا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لو استطعت أن أجعل عدة الامة حيضة ونصفا لفعلت، وإن كانت من ذوات الشهور ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنها تعتد بشهرين لان الشهور بدل من الاقراء فكانت بعددها كالشهور في عدة الحرة
(والثانى)
أنها تعتد بثلاثة أشهر لان براءة الحرم لا تحصل إلا بثلاثة أشهر لان الحمل يمكث أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة ثم يتحرك ويعلو جوف المرأة فيظهر الحمل (والثالث) أنها تعتد بشهر ونصف لان القياس يقتضى أن تكون على النصف من الحرة كما قلنا في الحمد، ولان القرء لا يتبعض فكمل والشهور تتبعض فتبعضت كما نقول في المحرم إذا وجب عليه نصف مد في جزءا الصيد وأراد أن يكفر بالصوم صام يوما لانه لا يتبعض، وان أراد أن يكفر بالاطعام أخرج نصف مد

(18/146)


(فصل)
وان أعتقت الامة قبل الطلاق اعتدت بثلاثة أقراء لانه وجبت عليها العدة وهى حرة، وإن انقضت عدتها بقرأين ثم اعتقت لم يلزمها زيادة لانها اعتدت على حسب حالها فلم يلزمها زيادة، كما لو اعتدت من لم تحض بالشهور ثم حاضت أو اعتدت ذات الاقراء ثم صارت آيسة، فإن أعتقت في أثناء العدة ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) تتمم عدة أمة لانه عدد محصور يختلف بالرق والحرية فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد
(والثانى)
أنها ان كانت رجعية أتمت عدة حرة، وان كانت بائنا أتمت عدة أمة، كما نقول فيمن مات عنها زوجها انها ان
كانت رجعية انتقلت إلى عدة الوفاة، وان كانت بائنا لم تنتقل (والثالث) وهو الصحيح أنه يلزمها أن تتمم عدة حرة، لان الاعتبار في العدة بالانتهاء، ولهذا لو شرعت في الاعتداد بالشهور ثم حاضت انتقلت إلى الاقراء (الشرح) الاخبار في عدة الامة عند ابن ماجه من حديث عائشة قالت " أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خير بريرة فاختارت نفسها وأمرها أن تعتد عدة الحرة.
رواه أحمد والدارقطني.
وروى الترمذي وأبو داود عن عائشة مرفوعا " طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان " وفي لفظ رواه الدارقطني " طلاق العبد اثنتان وقرء الامة حيضتان " ومثل ذلك روى عن ابن عمر عند ابن ماجه والدارقطني بإسنادين ضيعفين.
أما الاحكام في الفصلين فعلى وجهها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وطئت امرأة بشبهة وجبت عليها العدة لان وطئ الشبهة كالوطئ في النكاح في النسب فكان كالوطئ في النكاح في إيجاب العدة، فإن زنى بامرأة لم تجب عليها العدة لان العدة لحفظ النسب والزانى لايلحقه نسب
(فصل)
ومن مات عنها زوجها وجبت عليها العدة دخل بها أو لم يدخل، لقوله عز وجل " والذين يتوفون منكم ويذورن أزوجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر، عشرا " فإن كانت حائلا وهى حرة اعتدت بأربعة أشهر عشر للآية،

(18/147)


وان كانت أمة اعتدت بشهرين وخمس ليال، لانا دللنا على أن عدتها بالاقراء على النصف، إلا أنه لما لم يتبعض جعلناه قرأين، والشهور تتبعض فوجب عليها نصف ما يجب على الحرة.
وإن كانت حاملا بولد يلحق بالزوج اعتدت بوضعه لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قالت " ولدت سبيعة الاسلمية بعد وفاة زوجها بليال: فذكرت ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قد حللت فانكحى " وإن كانت حاملا بولد لا يحلق الزوج كامرأة الطفل لم تعتد بالحمل منه لانه لا يمكن أن يكون منه فلم تعتد به منه كامرأة الكبير إذا طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين العقد، فإن كان الحمل لاحقا برجل وطئها بشبهة اعتدت به منه.
وإذا وضعت اعتدت عن الطفل بالشهور، لانه لا يجوز أن تعتد عن شخصين في وقت واحد.
وإن كان عن زنا احتسبت بما مضى من الشهور في حال الحمل عن عدة وفاة الطفل، لان الحمل عن الزنا لاحكم له فلا يمنع من الاعتداد بالشهور: وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا ثم مات عنها وهي في العدة اعتدت بعدة الوفاة لانه توفى عنها وهى زوجته.
(الشرح) حديث أم سلمة أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا أبا داود وابن ماجه بلفظ " إن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفى عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه، فقال والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدى آخر الاجلين، فمكثت قريبا من عشر ليال ثم نفست ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال انكحي " وأخرجوه بمعناه من رواية سبيعة قالت " فأفتانى بأنى قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج ان بدا لى " وعن الزبير بن العوام " أن أم كلثوم بنت عقبة كانت عنده فقالت له وهى حامل: طيب نفسي بتطليقة، فطلقها تطليقة، ثم خرج إلى الطلاة، فرجع وقد وضعت، فقال مالها خدعتني خدعها الله، ثم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ

(18/148)


" سبق الكتاب اجله، اخطبها إلى نفسها، قال القاضى عياض: والحديث - يعني حديث سبيعة - مبتور، نقص منه قولها " فنفست بعد ليال فخطبت " قال الحافظ بن حجر في الفتح: وقد ثبت المحذوف في رواية ابن ملحان عن يحيى ابن بكير شيخ البخاري ولفظه " فمكثت قريبا من عشرين ليلة ثم نفست " وقد وقع للبخاري اختصار المتن من طريق أخصر من هذه الطريق.
ووقع له في تفسير سورة الطلاق مطولا بلفظ " أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفى عنها في حجة الوداع وهى حامل فلم تنشب أن وضعت حملها، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليه أبو السنابل بن بعكك رجل من بنى عبد الدار، فقال مالي أراك تجملت للخطاب، فإنك والله وما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألته عن ذلك فأفتانى بأنى قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج " وقد ذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف إلى أن الحامل إذا مات عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن على بسند صحيح أنها تعتد بآخر الاجلين، ومعناه أنها إن وضعت قبل مضى أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها، وان انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع، وبه قال ابن عباس.
وروى عنه أنه رجع.
وروى عن ابن أبى ليلى أنه أنكر على ابن سيرين القول بانقضاء عدتها بالوضع، وأنكر أن يكون ابن مسعود قال بذلك، قال الشوكاني: وقد ثبت عن ابن مسعود من عدة طرق أنه كان يوافق الجمهور حتى كان يقول: من شاء لا عنته على ذلك.
أما الاحكام: فإن الموطوءة بشبهة تعتد عدة المطلقة، وكذلك الموطوءة في نكاح فاسد، لان كلا من وطئ الشبهة والنكاح الفاسد في لحوق النسب وشغل
الرحم كالوطئ الصحيح، فكانا مثله فيما تحصيل البراءة به، وإن وطئت المزوجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدتها كيلا يفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الانساب وله الاستمتاع منها بما دون الفرج في أحد الوجهين لانها زوجة

(18/149)


حرم وطؤها لعارض مختص بالفرج فأبيح الاستمتاع منها بما دونه الحائض.
(مسألة) المزني بها لا عدة لها، وهذا قول أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما وبه قال الثوري وأصحاب الرأى، لان العدة لحفظ النسب ولا يلحقه نسب، وقد روى عن علي نحوه.
وقال أحمد تستبرأ كالمزوجة بشبهة لانه وطئ يقتضى شغل الرحم فوجبت العدة منه كوطئ الشبهة.
وأما وجوبها كعدة المطلقة فلانها حرة فوجب استبراؤها بعدة كاملة كالموطوءة بشبهة وبهذا قال الحسن والنخعي، وهو قول مالك.
وروى ابن أبى موس عن أحمد رواية أخرى أنها تستبرأ بحيضة واحدة.
(مسألة) أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة الحائل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر مدخولا بها أو غير مدخول بها، سواء كانت كبيرة بالغة أو صغيرة لم تبلغ.
وذلك لقوله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذورن أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " وما رواه الشيخان مرفوعا " لا يحل لا مرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " ولا تحمل الاية على المدخول بها كما في قوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسن ثلاثة قروء " لان هذا مخصصة بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات من أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها " ولم يرد تخصيص عدة الوفاة، ولا أمكن قياسها على المطلقة في التخصيص، لان النكاح عقد عمر، فإذا انتهى والشئ إذا انتهى تقررت أحكامه.
وكذلك فإن المطلقة إذا أتت بولد يمكن للزوج تكذيبها ونفيه باللعان الامر الذي يمتنع في حق المتوفى.
فلا يؤمن أن تأتى بولد فيلحق الميت نسبه وما له من ينفيه، فاحتطنا بإيجاب العدة عليها لحفظها عن التصرف والمبيت في غير منزلها حفظا لها.
فإذا تقرر هذا فانه لا يعتبر وجود الحيض في عدة الوفاة في قول عامة أهل العلم.
وحكى عن مالك أنها إذا كانت مدخولا بها وجب أربعة أشهر وعشر فيها.
واتباع الكتاب والسنة أولى.
ولانه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر ثلاثة قروء كالمطلقة.
وهذا الخلاف يختص بذات القرء.
فأما الايسة والصغيرة

(18/150)


فلا خلاف فيها.
وأما الامة المتوفى عنها زوجها فعدتها شهران وخمسة أيام في قول عامة أهل العلم منهم سعيد بن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثور واصحاب الرأى وغيرهم إلا ابن سيرين.
فإنه قال: ما أرى عدة الامه الا كعدة الحرة.
الا أن تكون قد مضت في ذلك سنه.
فإن السنة أحق أن تتبع وأخذ بظاهر النص وعمومه.
ولكن هذا لا ينهض أمام اتفاق الصحابة على أن عدة الامه المطلقة على النصف من عدة الحرة فكذلك عدة الوفاة.
(فرع)
إذا مات الصغير الذي لا يولد لمثله ولد عن زوجته، فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض العدة بوضعه.
وبهذا قال مالك والصحيح من مذهب أحمد وقال أبو حنيفة: أن مات وبها حمل ظاهر اعتدت عنه بالوضع.
فان ظهر الحمل بها بعد موته لم تعتد به.
وقد روى عن أحمد في الصبى مثل قول أبى حنيفة.
وهكذا خلاف فيما إذا تزوج بامرأة ودخل بها.
وان أتت بولد لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح، فإنها لا تعتد بوضعه عندنا وعند أحمد، وتعتد به عند أبى حنيفة، واحتج بقوله تعالى " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن "
ولا يخفى أن الآية واردة في المطلقات ثم هي مخصوصة بالقياس الذي ذكرناه فإذا تقرر هذا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل من الوطئ الذي علقت به منه، سواء كان هذا الولد ملحقا بغير الصغير، مثل أن يكون من عقد فاسد أو وطئ شبهة، لان العدة تجب في هذه الاحوال، فإذا وضعته اعتدت من الصبى بأربعة أشهر وعشر، لان العدتين من رجلين لا يتداخلان ولو طلقها أو مات عنها فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها فرق بينهما وبنت على ما مضى من عدة الاول، ثم استقبلت العدة من الثاني، والاجماع منعقد على هذا.
ولان العدة انما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم لئلا يفضى إلى اختلاط المياه وامتزاج الانساب، وإن تزوجت فالنكاح باطل لانها ممنوعة من النكاح لحق الزوج الاول، فكان نكاحا باطلا، كما لو تزوجت وهى في نكاحه ويجب أن يفرق بينه وبينها - فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها ولا تقطع بالعقد

(18/151)


الثاني، لانه باطل لا تصير به المرأة فراشا ولا يستحق عليه بالعقد شئ وتسقط سكناها ونفقتها عن الزوج الاول لانها ناشز، وإن وطئها انقطعت العدة، سواء علم التحريم أو جهله وقال أبو حنيفة لا تنقطع لان كونها فراشا لغير من له العدة لا يمنعها، كما لو وطئت بشبهة وهى زوجة فإنها تعتد وإن كانت فراشا للزوج.
إذا ثبت هذا فعليه فراقها، فإن لم يفعل فعليه التفريق بينهما، فإن فارقها أو فرق بينهما وجب عليها أن تكمل عدة الاول لان حقه أسبق وعدته وجبت عن وطئ في نكاح صحيح، فإذا أكملت عدة الاول وجب عليها أن تعتد من الثاني ولا تتداخل العدتان لانهما من رجلين، وهذا مذهب أحمد.
وقال أبو حنيفة: يتداخلان فتأتى بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني تكون عن
بقية عدة الاول وعدة الثاني لان القصد معرفة براءة الرحم وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعا.
وهذا خطأ لما روى مالك عن أبن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار " أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفى فطلقها ونكحها غيره في عدتها، فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها ضربات بمخفقة وفرق بينهما ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الاول، وكان خاطبا من الخطاب، وان كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عتدها من الاول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبدا.
وروى عن علي عليه السلام أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عده الاول وتعتد من الآخر.
هذا ماقاله خليفتان من الراشدين لا نعلم لهما مخالفا من الصحابة (فرع)
إذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بلا خلاف.
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك، وذلك لان الرجعية زوجة يلحقها وينالها وينالها ميراثه فاعتدت للوفاة كغير المطلقة، وإن مات مطلق البائن في عدتها بنت على عدة الطلاق لانه مات وليست زوجة له لانها بائن من النكاح فتكون غير منكوحة.
وبهذا قال مالك وأبو عبيد

(18/152)


وأبو ثور وابن المنذر وقال أحمد تلزمها عدة الطلاق، إلا أن يطلقها في مرض موته فإنها تعتد أطول الاجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، لانها وارثة له فيجب عليها عدة الوفاة كالرجعية وتلزمها عدة الطلاق لما ذكروه في دليلهم، وإن مات المريض المطلق بعد انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كان طلاقه قبل الدخول
فليس عليها عدة لموته
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن طلق إحدى امرأتيه بعينها ثلاثا ومات قبل أن يبين نظرت فان لم يدخل بهما اعتدت كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشرا، لان كل واحدة منهما يجوز أن تكون هي الزوجة فوجبت العدة عليهما ليسقط الفرض بيقين، كمن نسى صلاة من صلاتين لايعرف عينها وإن دخل بهما - فان كانتا حاملتين - اعتدتا بوضع الحمل، لان عدة الطلاق والوفاة في الحمل واحدة، وان كانتا من ذوات الشهور اعتدتا بأربعة أشهر وعشر، لانها تجمع عدة الطلاق والوفاة، وان كانتا من ذوات الاقراء اعتدتا بأقصى الاجلين من أربعة أشهر وعشرا أو ثلاثة أقراء، وابتداء الاشهر من موت الزوج، وابتداء الاقراء من وقت الطلاق ليسقط الفرض بيقين.
وان اختلفت صفتهما في العدة كان حكم كل واحدة منهما على الانفراد كحكمها إذا اتفقت صفتهما، وقد بيناه.
وإن طلق أحداهما لا بعينها ومات قبل أن يعين فالحكم فيه على ما ذكرناه إذا كانت المطلقة معينه ومات قبل أن يبين الا في شئ واحد.
وهو أنا متى أمرناها بالاعتداد بالشهور أو الاقراء، فإن ابتداء الاشهر من حين الموت، فأما الاقراء، فان قلنا على أحد الوجهين إن ابتداء العدة من حين يلفظ بالطلاق كان ابتداء الاقراء من حين الطلاق، وان قلنا بالوجه الآخر ان ابتداء العدة من حين التعيين كان ابتداء الاقراء من حين الموت، لان بالموت وقع الاياس من بيانه وقبل الموت لم ييأس من بيانه

(18/153)


(الشرح) إذا طلق واحدة من نسائه بعينها وأنسيها فإنه يحرم عليه الجميع،
فإن مات فعلى الجميع الاعتداد بأقصى الاجلين إذا كن من ذوات الاقراء من عدة الطلاق والوفاة، لان النكاح كان ثابتا بيقين وكل واحدة منهن يحتمل أن تكون هي المطلقة وأن تكون زوجة فوجب أقصى الاجلين إن كان الطلاق بائنا ليسقط الفرض بيقين، كمن نسى صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه أن يصلى خمس صلوات لكن ابتداء القروء من حين طلق.
وابتداء عدة الوفاة من حين الموت، وهذا هو مذهب أحمد بن حنبل.
وإن طلق الجميع ثلاثا بعد ذلك فعليهن كلهن تكميل عدة الطلاق من حين طلقهن ثلاثا، وإن طلق الجميع ثم أنسيهن فهو كما لو طلق واحدة، وإذا طلق واحدة لا بعينها من نسائه فعلى ما قلنا في التي قبلها وقال أصحاب أحمد: أخرجت بالقرعة وعينها العدة دون غيرها، وتحسب عدتها من حين طلق لا من حين القرعة قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا علمت المرأة يقين وفاة الزوج أو طلاقه ببينة تقوم لها على موته أو طلاقة أو أي علم صادق ثبت عندها اعتدت من يوم يكون الطلاق وتكون الوفاة، وإن لم تعتد حتى تمضى عدة الطلاق والوفاة لم يكن عليها عدة، لان العدة إنما هي مدة تمر عليها، فإذا مرت عليها فليس عليها مقام مثلها.
قال وإذا خفى ذلك عليها وقد استيقنت بالطلاق أو الوفاة اعتدت من يوم استيقنت أنها اعتدت منه.
وقد روى عن غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: تعتد من يوم يكون الطلاق أو الوفاة.
اه (فرع)
والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها، فتجب عشرة أيام مع الليالى، وبهذا قال مالك وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأى.
وقال الاوزاعي: يجب عشر ليالى وتسعة أيام، لان العشر تستعمل في الليالى دون الايام، وإنما دخلت الايام اللاتى في أثناء الليل تبعا
قلنا: العرب تغلب اسم التأنيث في العدد خاصه على المذكر فتطلق لفظ الليالى وتريد الليالى بأيامها، كما قال تعالى لزكريا " آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال

(18/154)


سويا " يريد أيامها بدليل أنه قال في موضع آخر " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " يريد بلياليها.
ولو نذر اعتكاف العشر الاخير من رمضان لزم الليالى والايام، ويقول القائل (سرنا عشرا) يريد الليالى بأيامها، فلم يجز نقلها عن العدة إلى الاباحة بالشك.
وما في الفصل من اختلاف صفاتهن أو اتفاقها فعلى وجهه.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
إذا فقدت المرأة زوجها وانقطع عنها خبره ففيه قولان
(أحدهما)
وهو قوله في القديم إن لها أن تنفسخ النكاح ثم تتزوج، لما روى عمرو بين دينار عن يحيى بن جعدة " أن رجلا استهوته الجن فغاب عن أمرأته، فأتت عمر بن الخطاب رضى الله عنه فأمرها أن تمكث أربع سنين، ثم أمرها أن تعتد ثم تتزوج " ولانه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطئ بالتعنين وتعذر النفقة بالاعسار، فلان يجوز ههنا - وقد تعذر الجميع - أولى
(والثانى)
وهو قوله في الجديد وهو الصحيح أنه ليس لها الفسخ، لانه إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله لم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته، وقول عمر رضى الله عنه يعارضه قول علي عليه السلام " تصبر حتى يعلم موته " ويخالف فرقة التعنين والاعسار بالنفقة، لان هناك ثبت سبب الفرقة بالتعنين، وههنا لم يثبت سبب الفرقة وهو الموت فإن قلنا بقوله القديم قعدت أربع سنين ثم تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج، لما رويناه عن عمر رضى الله عنه، ولان بمضي أربع سنين يتحقق براءة رحمها ثم
تعتد: لان الظاهر أنه مات فوجب عليها عدة الوفاة قال أبو إسحق يعتبر ابتداء المدة حين أمرها الحاكم بالتربص.
ومن أصحابنا من قال يعتبر من حين انقطع خبره، والاول أظهر، لان هذه المدة ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم كمدة التعنين، وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى الحكم بالفرقة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يفتقر، لان الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها

(18/155)


(والثانى)
أنه يفتقر إلى الحكم لانه فرقة مجتهد فيها فافتقرت إلى الحاكم كفرقة التعنين، وهل تقع الفرقة ظاهرا وباطنا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تقع ظاهرا وباطنا، فإن قدم الزوج وقد تزوجت لم يجز أن ينتزعها من الزوج، لانه فسخ مختلف فيه، فنفذ فيه الحكم ظاهرا وباطنا كفرقة التعنين (والثانى ينفذ في الظاهر دون الباطن، لان عمر رضى الله عنه جعل للمفقود لما رجع أن يأخذ زوجته.
وإن قلنا بالقول الجديد إنها باقية على نكاح الزوج.
فإن تزوجت بعد مدة التربص وانقضاء العدة فالنكاح باطل، فإن قضى لها حاكم بالفرقة فهل يجوز نقضه على قوله الجديد؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لانه حكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد
(والثانى)
أنه يجوز لانه حكم مخالف لقياس جلى، وهو أنه لا يجوز أن يكون حيا في ماله ميتا في نكاح زوجته
(فصل)
وإن رجع المفقود، فإن قلنا بقوله الجديد سلمت الزوجة إليه، وإن قلنا بقوله القديم وقلنا إن حكم الحاكم لا ينفذ في الباطن سلمت إليه، وإن قلنا إنه ينفذ ظاهرا وباطنا لم تسلم إليه، وان فرق الحاكم بينهما وتزوجت ثم بان أن المفقود كان قد مات وقت الحكم بالفرقة - فإن قلنا بقوله القديم - صح النكاح، سواء قلنا إن الحكم ينفذ في الظاهر دون الباطن، أو قلنا إنه ينفذ في
الباطن دون الظاهر، لان الحكم أباح لها النكاح وقد بان أن الباطن كالظاهر.
وإن قلنا بقوله الجديد ففي صحة النكاح الثاني وجهان بناء على القولين فيمن وصى بمكاتبه ثم تبين أن الكتابة كانت فاسدة (الشرح) يحيى بن جعدة اختلف في صحبة أبيه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومى القرشى، فقد تزوج هبيرة بن أبى وهب بأم هانئ بنت أبى طالب فولدت أم هانئ ثلاثة بنين: جعدة وهانئ ويوسف.
وقال الزبير بن بكار: أربعة بنين أحدهم جعدة، وقد تولى جعدة على خراسان لعلي بن أبي طالب، وهو ابن أخته وهو القائل: أبى من مخزوم ان كنت سائلا ومن هاشم أمي لخير قبيل فمن الذي يبنأى (1) على بخاله كخالي على ذى الندى وعقيل
__________
(1) يبأى أي يفخر

(18/156)


اما ولده يحيى فليس من رواته ولكنه ثقة، وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه وهو الطبقة الثالثة.
أما رواية يحيى هنا فقد أخرجها ابن أبى الدنيا قال " وحدثنا أبو مسلم عبد الرحمن ابن يوسف حدثنا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عن يحيى بن جعدة قال: انتسفت الجن رجلا على عهد عمر رضى الله عنه فلم يدروا أحيا هو أم ميتا؟ فأتت امرأته عمر رضى الله عنه فأمرها أن تتربص أربع سنين ثم أمر وليه أن يطلق ثم أمرها أن تعتد وتتزوج فإن جاء زوجها خير بينها وبين الصداق " ويحيى لم يعاصر عمر بن الخطاب ولم يره فيكون في الخبر انقطاع وقد أخرج ابن أبى الدنيا هذا الخبر بإسناد آخر: حدثنى اسماعيل بن اسحق حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن أبى نضرة عن
عبد الرحمن بن أبى ليلى أن رجلا من قومة خرج ليصلى مع قومه صلاة العشاء ففقد، فانطلقت أمراته إلى عمر بن الخطاب فحدثته بذلك، فسأل عن ذلك قومها فصدقوها، فأمرها أن تتربص أربع سنين فتربصت ثم أتت عمر فأخبرته بذلك فسأل عن ذلك قومها فصدقوها، فأمرها أن تتزوج، ثم أن زوجها الاول قدم فارتفعوا إلى عمر فقال عمر: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته، قال كان لي عذر؟ قال وما عذرك؟ قال خرجت أصلى مع قومي صلاة العشاء فسبتني أو قال أصابتني الجن فكنت فيهم زمنا طويلا، فعزاهم جن مؤمنون فقاتلوهم فظهروا عليهم فأصابوا لهم سبايا فكنت فيمن أصابوا، فقالوا ما دينك؟ قلت مسلم.
قالو أنت علي ديننا لا يحل لنا سبيك، فخيروني بين المقام وبين القفول فاخترت القفول، فأقبلوا معى بالليل بشرا يحدوني، وبالنهار اعصار وريح أتبعها، قال فما كان طعامك؟ قال كل ما لم يذكر اسم الله عليه.
قال فما كان شرابك؟ قال الجدف قال قتادة: الجدف ما لم يخمر من الشراب قال فخيره عمر رضى الله عنه بين المرأة وبين الصداق.
وفي إسناده أبو نضرة وليس كل أحد يحتج به.

(18/157)


وأورد العقيلى في الضعفاء، وذكره صاحب الكامل ولم يذكر شيئا أكثر من أنه كان عريفا لقومه، قال الذهبي: ولكن احتج به البخاري.
وأخرجه الاثرم والجوزجاني بإسنادهما عن عبيد بن عمير وعبد الرزاق بسنده في الفقيد ومالك والشافعي مختصرا.
أما الاحكام: فإذا غاب الرجل عن امرأته غيبة غير منقطعة، يعرف فيها خبره ومكانه ويأتى كتابه، فهذا ليس لامرأته أن تتزوج في قول أهل العلم
أجمعين، إلا أن يعتذر الانفاق عليها من ماله، فلها أن تطلب فسخ النكاح فيفسخ نكاحه.
وأجمعوا على أن زوجة الاسير لا تنكح حت تعلم يقين وفاته، وهذا قول النخعي والزهرى ويحيى الانصاري ومكحول وأحمد بن حنبل وأبى عبيد وأبى ثور وإسحاق وأصحاب الرأى، وان أبق العبد فزوجته على الزوجية حتى تعلم موته أو ردته، وبه قال الاوزاعي والثوري وإسحاق.
وقال الحسن: اباقه طلاقه.
أما إذا غاب غيبة منقطعة بأن يفقد وينقطع خبره ولا يعلم مكانه فهذا ينقسم قسمين.

(أحدهما)
أن يكون ظاهر غيبته السلامة كسفر التجارة في غير مهلكة وطلب العلم والسياحة والاسر في حبس السلطان فلا تزوج الزوجية أيضا ما لم يثبت موته، هذا هو قوله في الجديد، وهو مروى عن علي وابن شبرمة وابن أبى ليلى الثوري وأبى حنيفة وأبى قلابة والنخعي وأبى عبيد.
وقال في القديم تتربص أربع سنين وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للازواج لانه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطئ بالعنة، وتعذر النفقة بالاعسار فلان يجوز ههنا لتعذر الجميع أولى، واحتجوا بحديث عمر في المفقود مع موافقة الصحابة له وتركهم إنكاره ولم يقل بهذا من الفقهاء إلا مالك.
ونقل أحمد من أصرم عن أحمد بن حنبل إذا مضى عليه تسعون سنة قسم ماله، وهذا يقتضى أن زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج.
قال ابن قدامة، قال أصحابنا أنما اعتبر تسعين سنة من يوم ولادته، لان

(18/158)


الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر، فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب الحكم بموته، كما لو كان فقده بغيبة ظاهرها الهلاك، والمذهب الاول لان هذه
غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قيل في الاربع سنين أو كما قبل التسعين، ولان هذا التقدير بغير توقيف، والتقدير لا ينبغى أن يصار إليه الا بالتوقيف لان تقديرها بتسعين سنة من يوم ولادته يفضى إلى اختلاف العدة في حق المرأة باختلاف عمر الزوج ولا نظير لهذا، وخبر عمر ظاهر فيمن ظاهر غيبته الهلاك فلا يقاس على غيره.
(القسم الثاني) أن تكون غيبته ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا، أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع، أو يمضى إلى مكان قريب ليقضى حاجته فلا يظهر له أثر ولاخبر أو يفقد في حومة القتال بين الصفين أو تتحطم بهم باخرة فيغرق بعض رفقته أو يفقد في مهلكة كصحراء الفيوم ومنخفض القطارة من ديار مصر حرسها الله أو في صحراء الجزائر الكبرى من قطر الجزائر أيده الله، أو الربع الخالى من البلاد الحجازية أعلى الله رايتها.
فقال في القديم: تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للازواج.
وقال أحمد: من ترك هذا القول فأى شئ يقول، وهو قول عمر وعثمان وعلى وابن عباس وابن الزبير.
وقال في الجديد تتربص حتى يتبين موته أو فراقه لما روى المغيرة بن شعبة إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " امرأة المفقود امرأته حتى يأتي زوجها ".
وروى الحكم وحماد عن علي: لا تتزوج امرأة المفقود حتى يأتي موته أو طلاقه، لانه شك في زوال الزوجية فلم نثبت به الفرقة كما لو كان ظاهر غيبته السلامه، وفي اعتبار ابتداء المدة من حين الغيبه أو من حين ضرب الحاكم المدة وجهان.

(أحدهما)
يعتبر ابتداؤهما من حين ضربها الحاكم لانها مدة مختلف فيها
فافتقرت إلى ضرب الحاكم كمدة العنه.

(18/159)


(والثانى)
من حين انقطع خبره وبعد أثره لان هذا ظاهر في موته، فكان ابتداء المدة منه كما لو شهد به شاهدان، ولاحمد روايتان كالوجهين.
(فرع)
إذا قدم زوجها الاول قبل أن تتزوج فهى امرأته.
وقال بعض أصحابنا إذا ضربت لها المدة فانقضت بطل نكاح الاول، والحق أننا انما أبحنا لها التزويج، لان الظاهر موته، فإذا بان حيا انخرم ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله كما لو شهدت البينة بموته ثم بان حيا.
والقياس الجلي أنه لا ينبغى أن نثبت له الحياة في ملكه ولانثبتها له في نكاحه والنكاح أحد الملكين فأشبه ملك المال، وهذا هو أحد الوجهين عندنا.
فأما ان قدم بعد أن تزوجت نظرنا، فإن كان قبل الدخول بالثاني فهى زوجة الاول ترد إليه.
أما بعد الدخول فإن قلنا: التفريق بينها وبين الزوج الاول بحكم الحاكم وأن الفرقة وقعت، فعلى قوله الجديد تسلم الزوجة إلى زوجها الاول ولا كلام.
وإن قنلا بقوله القديم: وقلنا إن حكم الحاكم يقتصر على الظاهر دون الباطن سلمت الزوجة إلى زوجها الاول.
وإن قلنا: إن حكمه ينفذ ظاهرا وباطنا لم تسلم إليه.
وقال أحمد: أما قبل الدخول فهى امرأته، وإنما التخيير بعد الدخول، وهو قول الحسن وعطاء وخلاس بن عمرو والنخعي وقتادة ومالك وإسحاق، وفي رواية لاحمد: إذا تزوجت امرأته فجاء خير بين الصداق وبين امرأته.
قال ابن قدامة: والصحيح أن عموم كلام أحمد يحمل على أنه لا تخيير إلا بعد الدخول، فتكون زوجة الاول رواية واحدة لان النكاح إنما صح في الظاهر
دون الباطن، فإذا قدم تبينا أن النكاح كان باطلا، لانه صادف امرأة ذات زوج فكان باطلا كما لو شهدت بينة بموته، وليس عليه صداق لانه نكاح فاسد لم يتصل به دخول، ويعود الزوج بالعقد الاول كما لو لم تتزوج.
(فرع)
إذا تزوجت امرأة المفقود في وقت ليس لها أن تتزوج فيه مثل أن

(18/160)


تتزوج قبل مضى المدة التي يباح لها التزويج بعدها أو كانت غيبة زوجها ظاهرها السلامة أو ما أشبه هذا، فإن تبين أن زوجها قد مات وانقضت عدتها منه أو فارقها وانقضت عدتها ففي صحة نكاحها وجهان.

(أحدهما)
هو صحيح لانها ليست في نكاح ولاعدة فصح تزويجها كما لو علمت ذلك (والثاني) لا يصح لانها معتقدة تحريم نكاحها وبطلانه، وأصل هذا من باع عينا في يده يعتقدها لمورثه فبان موروثه ميتا والعين مملوكة له بالارث هل يصح البيع؟ فيه وجهان كذا ههنا، والله تعالى أعلم بالصواب.

(18/161)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه)

إذا طلقت المرأة فإن كان الطلاق رجعيا كان سكناها حيث يختار الزوج من المواضع التى تصلح لسكني مثلها، لانها تجب لحق الزوجية، وإن كان الطلاق بائنا نظرت فإن كان في بيت يملك الزوج سكناه بملك أو إجارة أو إعارة، فإن كان الموضع يصلح لسكني مثلها لزمها أن تعتد فيه لقوله عز وجل " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " فأوجب أن تسكن في الموضع الذي كان يسكن الزوج فيه، فإن كان الموضع يضيق عليهما انتقل الزوج وترك السكنى لها، لان سكناها تختص بالموضع الذي طلقها فيه.
وإن اتسع الموضع لهما وأراد أن يسكن معها
نظرت فإن كان في الدار موضع منفرد يصلح لسكني مثلها، كالحجرة أو علو الدار، أو سلفها وبينهما باب مغلق فسكنت فيه وسكن الزوج في الثاني جاز، لانهما كالدارين المتجاورتين، فإن لم يكن بينهما باب مغلق فإن كان لها موضع تستتبر فيه ومعها محرم لها تتحفظ به كره، لانه لا يؤمن النظر ولا يحرم، لان مع المحرم يؤمن الفساد، فإن لم يكن محرم لم يجز لقوله عليه السلام " لا يخلون رجل بأمراة ليست له بمحرم، فإن ثالثهما الشيطان "
(فصل)
وإن أراد الزوج بيع الدار التي تعتد فيها نظرت - فإن كانت مدة العدة غير معلومة، كالعدة بالحمل أو بالاقراء - فالبيع بالطل لان المنافع في مدة العدة مستثناة، فبصير كما لو باع الدار واستثنى منفعة مجهولة، فإن كانت مدة العدة معلومة كالعدة بالشهور ففيه طريقان
(أحدهما)
أنها على قولين كبيع الدار المستأجرة
(والثانى)
أنه يبطل قولا واحدا، والفرق بينهما أن منقعة الدار تنتقل إلى المستأجر، ولهذا إذا مات انتقل إلى وارثه فلا يكون في معنى من باع

(18/162)


الدار واستثنى بعض المنفعة، والمرأة لا تنتقل المنفعة إليها في مدة العدة، ولهذا إذا ماتت رجعت منافع الدار إلى الزوج فيكون في معنى من باع الدار واستثنى منفعتها لنفسه.

(فصل)
وان حجر على الزوج بعد الطلاق لديون عليه لم يبع المسكن حتى تنقضي العدة، لان حقها يختص بالعين فقدمت كما يقدم المرتهن على سائر الغرماء وإن حجر عليه ثم طلق ضاربت المرأة الغرماء بحقها فان بيعت الدار أستؤجر لها بحقها مسكن تسكن فيه لان حقها وان ثبت بعد حقوق الغرماء الا أنه يستند إلى سبب متقدم وهو الوطئ في النكاح، فان كانت لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضاربت بالسكنى في تلك المدة فان انقضت العدة فيما دون ذلك ردت الفاضل على
الغرماء، فان زادت مدة العدة على العادة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنها ترجع على الغرماء بما بقى لها كما ردت الفاضل إذا انقضت عدتها فيما دون العادة.

(والثانى)
لا ترجع عليهم لان الذي استحقت الضرب به قدر عادتها (والثالث) إن كانت عدتها بالاقراء لم ترجع لان ذلك لا يعلم الا من جهتها وهى متهمة: وان كانت بوضع الحمل أقامت البينة على وضع الحمل ورجعت عليهم لانه لا يلحقها فيه تهمة، فان لم يكن لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضربت معهم بأجرة أقل مدة تنقضي به العدة لانه يقين فلا يجب ما زاد بالشك، فان زادت العدة على أقل ما تنقضي به العدة كان الحكم في الرجوع بالزيادة على ما ذكرناه إذا زادت على العادة
(فصل)
وان طلقت وهى في مسكن لها لزمها أن تعتد به لانه مسكن وجبت فيه العده، ولها أن تطالب الزوج بأجرة المسكن لان سكناها عليه في العدة (الشرح) الحديث أخرجه أحمد في مسنده من حيث عامر بن ربيعة بلفظ " لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له فان ثالثهما الشيطان الا محرم " وأخرجه من حديث جابر بلفظ " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فان ثالثهما الشيطان " وقد أخرج معناه الشيخان عن ابن عباس وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبى سعيد الخدرى وجرير بن عبد الله

(18/163)


وبريدة وعقبه بن عامر.
أما الاحكام فقوله تعالى " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " قال أبن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها.
(قلت) إن كانت المطلقة رجعية فإنها من نسائه ترثه ويرثها وتسكن حيث
يختار لها ما يصلح لسكني مثلها، ولا تخرج إلا بإذنه ما كانت في عدتها، ولم يؤمر الرجل بالسكنى لها، لان ذلك لازم لزوجها مع نفقتها وكسوتها، حاملا كانت أو حائلا، وإنما أمر الله بالسكنى للائى بن مع أزواجهن من نفقتهن، قال تعالى (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) فجعل عز وجل للحوامل اللائى بن من أزواجهن السكنى والنفقة، فالمطلقة ثلاثا إن كانت حاملا وجب لها السكنى قولا واحد لا نعلم بين أهل العلم خلافا فيه، فإن لم تكن حاملا فقد اختلف العلماء في ذلك فقال الشافعي يحب لها السكنى، وهو قول أبن مسعود وابن عمر وعائشة وسعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبى بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ وسليمان بن يسار ومالك والثوري وأصحاب الرأى وإحدى الروايتين عن أحمد لقول الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) وقوله تعالى (اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) فأوجب لهن السكنى مطلقا.
ثم خص الحامل بالانفاق عليها.
وقال أحمد في أظهر روايتيه لا يجب لها ذلك.
وهو قول ابن عباس وجابر وعطاء وطاوس والحسن وعمرو بن ميمون وعكرمة وإسحاق وأبى ثور وداود ابن على، لما روت فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال، والله مالك علينا من شئ.
فجاءت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذلك له، فقال لها ليس لك عليه نفقة ولاسكنى، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: إن تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدى في بيت ابن أم مكتوم " أخرجه الشيخان.

(18/164)


ولكنا إذا تأملنا صدى هذا الخبر لوجدنا أن عمر رضى الله عنه أنكر عليها
وقال " ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت " وقال عروة " لقد عابت عائشة ذلك أشد العيب، وقال إنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها " وقال سعيد بن المسيب " تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت لسنة، فوضعت على يدى ابن أم مكتوم الاعمى " ووجه القائلين بعدم وجوب السكنى لها ما قالت هي: بين وبينكم كتاب الله قال تعالى (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) فأى أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لانفقة لها إذا لم تكن حاملا؟ فعلام تحبسونها؟ فكيف تحبس أمرأة بغير نفقة؟
*
*
* وأما قول عمر لا ندع كتاب ربنا، فقال أحمد بن حنبل لا يصدر هذا عن عمر ولكنه قال لا نجيز في ديننا قول امرأة.
وهذا مجمع على خلافه، وقد أخذنا بخبر فريعة وهى امرأة، وبرواية عائشة وأزواج رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كثير من الاحكام، وصار أهل العلم إلى خبر فاطمة.
هذا في كثير من الاحكام مثل سقوط نفقة المبتوتة إذا لم تكن حاملا الخ ما قال فإن كان الموضع الذي طلقها فيه يناسبها للعيش بمفردها لزمها ذلك، كما يلزمه إقرارها لقوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) فإن لم يناسبها فعليه أن يختار لها مسكنا يناسب مثلها، فإن كان في مسكن يملكه الزوج أو يؤجره ويصلح لمثلها اعتدت فيه، فان ضاق عنهما انتقل عنها وتركها لها لانه يلزم أن تسكن في الموضع الذي كان الزوج يسكن فيه لقوله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) وقد ذهب أحمد ومن ذكرنا انه لاسكنى للمبتوتة ولا نفقة

(18/165)


وقالوا في الآية: انها للرجعية، ولان السكنى تابعة للنفقة، فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى، وحجة أبى حنيفة أن للمبتوتة النفقة قول الله تعالى " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " وترك النفقة من أكبر الاضرار، وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا، ولانها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية، ولانها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة أما مذهبنا فإنه يلزمه أن يترك الموضع لها إن ضاق عليهما، فان اتسع لهما وفي الدار غرفة منفردة أو حجرة في علو الدار أو سفلها وبينهما باب مغلق سكنت فيه وسكن الزوج في الباقي، لانهما كالدارين المستقلتين المتجاورتين، وإن لم يكن بينهما باب مغلق لكن لها موضع تتستر فيه بحيث لا يراها، ومعها محرم تتحفظ به جاز، لان مع المحرم يؤمن الفساد ويكره في الجملة، لانه لا يؤمن النظر، وان لم يكن معها محرم لم يجز، لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يخلون رجل بإمرأة ليست له بمحرم، فإن ثالثهما الشيطان " وان امتنع من إسكانها أجبره الحاكم، وان كان الزوج حاضرا والمسكن لائقا فاكترت لنفسها موضعا أو سكنت في ملكها لم ترجع بالاجرة لانها تبرعت بذلك فلم ترجع به على أحد، وإن عجز الزوج عن إسكانها لعسرته أو غيبته أو امتنع من ذلك مع قدرته سكنت حيث شاءت، وكذلك الشأن في المتوفى عنها زوجها إذا لم يقم ورثته باسكانها، وهو إنما تلزمها السكنى في منزله لتحصين مائه، فإذا لم يفعل لم يلزمها ذلك وقال الشافعي في الام: بعد ذكر الآية " فذكر الله عز وجل المطلقات جملة لم يخصص منهن مطلقة دون مطلقه، فجعل على أزواجهن أن يسكنوهن من وجدهم، وحرم عليهم أن يخرجوهن وعليهن ألا يخرجن: الا أن يأتين بفاحشة مبينه فيحل إخراجهن
فكان من خوطب بهذه الآية من الازواج يحتمل أن اخراج الزوج امرأته المطلقة من بيتها منعها السكنى لان الساكن إذا قيل أخرج من مسكنه فانما قيل: منع مسكنه، وكما كان كذلك إخراجه إياها وكذلك خروجها بامتناعها من السكن فيه وسكنها في غيره، فكان هذا

(18/166)


الخروج المحرم على الزوج والزوجه رضيا بالخروج معا أو سخطا معا أو رضى به أحدهما دون الآخر فليس للمرأة الخروج ولا للرجل إخراجها إلا في الموضع الذى استثنى الله عز ذكره من أن تأتى بفاحشة مبينه وفي العذر، فكان فيما أوجب الله تعالى على الزوج والمرأة من هذا تعبدا لهما، وقد يحتمل مع التعبد أن يكون لتحصين فرج المرأة في العدة، وولد إن كان بها ثم تكلم الشافعي عن خروج المرأة وأنها لا تخرج بحال ليلا ولا نهارا إلا من عذر قال: ولو فعلت هذا كان أحب إلى وكان احتياطا لا يبقى في القلب معه شئ وانما منعنا من ايجاب هذا عليها مع احتمال للآية لما ذهبنا إليه من ايجابه على ما قال ما وصفنا من احتمال الآيات قبل لما وصفنا.
إذا ثبت هذا: فانه إذا كانت في مسكن لزوجها فأخرجها الورثة منه وبذلوا لها سكنا لم تلزمها السكنى، وكذلك ان أخرجت من المسكن الذى هي به أو أخرجت لاى غارض كان لم تلزمها السكنى في موضع معين سواه، سواء بذله الورثة أو غيرهم لانها انما يلزمها الاعتداد في بيتها الذي كانت فيه لا في غيره.
وكذلك لو قلنا لها السكن فتعذر سكناها في مسكنها وبذل لها سواه، وان طلبت مسكنا سواه لزم الورثة تحصيله بالاجرة أو بغيرها ان خلف الميت تركة تفى بذلك ويقدم ذلك على الميراث، لانه حق على الميت فأشبه الدين، فان كان على الميت دين يستغرق ماله ضربت بأجرة المسكن مع الغرماء، لان حقها مساو
لحقوق الغرماء وتستأجر بما يصبيها موضعا لسكنه.
وكذلك الحكم في المطلقة إذا حجر على الزوج قبل أن يطلقها ثم طلقها: فانها تضرب بأجرة المسكن لمدة العدة مع الغرماء إذا كانت حاملا، فان قيل: فهلا قدمتم حق الغرماء لانه أسبق؟ قلنا: لان حقها ثبت عليه بغير اختيارها فشاركت الغرماء فيه كما لو أتلف المفلس مالا لانسان أو جنى عليه، وان مات وهى في مسكنه لم يجز اخراجها منه لان حقها تعلق بعين المسكن قبل تعلق حقوق الغرماء بعينه، فكان حقها مقدما كحق المرتهن، وان طلب الغرماء بيع هذا المسكن وتترك السكنى لها مدة العدة لم يجز لانها انما تستحق السكنى إذا كانت

(18/167)


حاملا، ومدة الحمل مجهولة، فتصير كما لو باعها واستثنى نفعها مدة مجهولة، وان أراد الورثة قسمة مسكنها على وجه يضر بها في السكنى لم يكن لهم ذلك، وان أرادوا التعليم بخطوط من غير نقض ولا بناء جاز لانه لاضرر عليها فيه.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإن كان على زوجها دين لم يسكنها فيما يباع من ماله حتى تنقضي عدتها، فأما إن كان أنزلها منزلا عارية أو بكراء لم يدفعه وأفلس فلاهل هذا كله أن يخرجوها منه وعليه أن يسكنها غيره إلا أن يفلس فإن أفلس ضربت مع الغرماء بأقل قيمة سكنى ما يكفيها بالغا ما بلغ، واتبعته بفضلة متى أيسر، قال: وهكذا تضرب مع الغرماء بنفقتها حاملا وفي العدة من طلاقه اه.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان مات الزوج وهى في العدة قدمت على الورثة في السكنى لانه استحقتها في حال الحياة فلم تسقط بالموت كما لو أجر داره ثم مات فإن أراد الورثة قسمة الدار لم يكن لهم ذلك، لان فيها اضرارا بها في التضييق عليها،
وان أرادوا التمييز بأن يعلموا عليها بخطوط من غير نقض ولابناء، فان قلنا ان القسمة تمييز الحقين جاز لانه لاضرر عليها، وان قلنا انها بيع فعلى ما بيناه
(فصل)
وان توفى عنها زوجها وقلنا: انها تستحق السكنى فان كانت في مسكن الزوج لزمها أن تعتد فيه، لما روت فريعة بنت مالك " أن زوجها قتل فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امكثى حتى يبلغ الكتاب أجله " وان لم تكن في مسكن الزوج وجب من تركته أجرة مسكنها مقدمة على الميراث والوصية، لانه دين مستحق فقدم، وان زاحمها الغرماء ضاربتهم بقدر حقها، فان لم يكن له مسكن فعلى السلطان سكناها لما في عدتها من حق الله تعالى، وان قلنا: لا تجب لها السكنى اعتدت حيث شاءت، فإن تطوع الورثة بالسكنى من مالهم وجب عليها الاعتداد فيه.

(فصل)
وان أمر الزوج امرأته بالانتقال إلى دار أخرى فخرجت بنية

(18/168)


الانتقال ثم مات أو طلقها وهي بين الدارين ففيه وجهان
(أحدهما)
أنها تخير بين الدارين في الاعتداد، لان الاولى خرجت عن أن تكون مسكنا لها بالخروج منها والثانية لم تصر مسكنا لها (والثاني) وهو الصحيح أنه يلزمها الاعتداد في الثانية، لانها مأمورة بالمقام فيها ممنوعة من الاولى
(فصل)
وإن أذن لها في السفر فخرجت من البيت بنية السفر ثم وجبت العدة قبل أن تفارق البنيان، ففيه وجهان
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ لها أن تعود ولها أن تمضى في سفرها، لان العدة وجبت بعد الانتقال من موضع العدة فصار كما لو فارقت البنيان
(والثانى)
وهو قول أبى إسحق أنه يلزمها أن تعود وتعتد لانه لم يثبت لها حكم السفر، فإن وجبت العدة وقد فارقت البنيان، فإن كان في سفر نقلة ففيه وجهان كما قلنا فيمن طلقت وهى بين
الدار التي كانت فيها وبين الدار التي أمرت بالانتقال إليها، فإن كانت في سفر حاجة فلها أن تمضى في سفرها ولها أن تعود، لان في قطعها عن السفر مشقة، وإن وجبت العدة وقد وصلت إلى المقصد، فإن كان للبقاء لزمها أن تقيم وتعتد لانه صار كالوطن الذي وجبت فيه العدة، فإن كان لقضاء حاجة فلها أن تقيم إلى أن تنقضي الحاجة، فان كان لزيارة أو نزهة فلها أن تقيم مقام مسافر وهو ثلاثة أيام لان ذلك ليس باقامة، فان قدر لها إقامة مدة شهر أو شهرين ففيه قولان
(أحدهما)
أن لها أن تقيم المدة، وهو اختيار المزني، لانه مأذون فيه (والثاني) أنها لا تقيم أكثر من إقامة المسافر وهو ثلاثة أيام، لانه لم يأذن في المقام على الدوام فلم تزد على ثلاثة أيام، فان انقضى ما جعل لها من المقام نظرت فان علمت أنها إذا عادت إلى البلد أمكن أن تقضى شيئا من عدتها ولم يمنعها خوف الطريق لزمها العود لتقضى العدة في مكانها، وان علمت أنها إذا عادت لم يبق منها شئ ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمها لانها لا تقدر على العدة في مكانها
(والثانى)
يلزمها لتكون أقرب إلى الموضع الذي وجبت فيه العدة.

(فصل)
إذا أحرمت بالحج ثم وجبت عليها العدة، فان لم يخش فوات الحج إذا قعدت للعدة لزمها أن تقعد للعدة ثم تحج، لانه يمكن الجمع بين الحقين فلم يجز

(18/169)


إسقاط أحدهما بالآخر فإن خشيت فوات الحج وجب عليها المضى في الحج لانهما استويا في الوجوب وتضيق الوقت والحج أسبق فقدم.
وإن وجبت العدة ثم أحرمت بالحج لزمها القعود للعدة لانه لا يمكن الجمع بينهما والعدة أسبق فقدمت (الشرح) حديث فريعة بنت مالك أخرجه أبو داود في الطلاق عن القعنبى والترمذي في الطلاق عن إسحاق بن موسى والنسائي في الطلاق عن محمد بن العلاء
وعن قتبية وعن اسحاق بن منصور وان ماجه في الطلاق عن أبي بكر والطبراني في الطلاق عن سعد بن اسحاق وقد صححه الترمذي ولفظه " خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدركهم في طرف القدوم فقتلوه، فأتاني نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلى ولم يدع نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلى واخوتي لكان أرفق لى في بعض شأني.
قال تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني أو أمر به فدعيت، فقال امكثى في بيتك الذي أتاك فيه نعى زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت وأرسل إلى عثمان فأخبرته فأخذ به " ولم يذكر النسائي وابن ماجه إرسال عثمان وأخرجه أيضا مالك في الموطأ والشافعي وابن حبان والحاكم وصححاه، وأعله ابن حزم بجهالة حال زينب بنت كعب بن عجزة الرواية له عن فريعة، ولكن زينب المذكورة وثقها الترمذي وغيره في الصحابة وأما ماروى عن علي بن المدينى بأنه لم يرو عنها غير سعد بن اسحاق فمردود بما في مسند أحمد من رواية سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة عن عمته زينب في فضل الامام علي عليه السلام، وقد أعل الحديث أيضا بأن في إسناده سعد بن إسحاق وتعقبه ابن القطان بأنه قد وثقه النسائي وابن حبان، ووثقه أيضا ابن معين والدارقطني وقال أبو حاتم صالح الحديث.
وروى عنه جماعة من أكابر الائمة ولم يتكلم فيه بجرح وغاية ماقاله فيه ابن حزم وعبد الحق أنه غير مشهور وهذه دعوى باطلة، فإن من يروى عنه مثل سفيان الثوري وحماد بن زيد ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد والدراوردى وابن جريج والزهرى مع كونه أكبر منه، وغير هؤلاء الائمة كيف يكون غير مشهور

(18/170)


أما اللغات فإن فريعة - بضم الفاء وفتح الراء بعدها ياء ساكنة - ويقال
لها الفارعة، وهى بنت مالك بن سنان - أخت أبى سعيد الخدرى - وشهدن بيعة الرضوان.
وقد استدل بهذا الحديث على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في المنزل الذي بلغها نعى زوجها وهي فيه ولا تخرج منه إلى غيره، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، واليه ذهب مالك وأبو حنيفة والاوزاعي واسحاق وأبو عبيد.
قال ابن عبد البر " وقد قال بحديث الفريعة جماعة من فقهاء الامصار بالحجاز والشام والعراق ومصر، ولم يطعن فيه أحد منهم قال الشافعي في الام، قال الله تبارك وتعالى في المطلقات " لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة مبينة " فكانت هذه الآية في المطلقات وكانت المعتدات من الوفاة معتدات كعدة المطلقة، فاحتملت أن تكون في فرض السكنى للمطلقات، ومنع إخراجهن تدل على أن في مثل معناهن في السكنى ومنع الاخراج المتوفى عنهن لانهن في معناهن في العدة.
قال ودلت سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أن المتوفى عنها أن تمكث في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله، واحتمل أن يكون ذلك على المطلقات دون المتوفى عنهن فيكون على زوج المطلقة أن يسكنها لانه مالك ماله، ولايكون على زوج المرأة المتوفى عنها سكنها لان ماله مملوك لغيره.
ثم ساق حديث الفريعة بنت مالك، ثم قال وإذا طلق الرجل امرأته فلها سكناها في منزله حتى تنقضي عدتها ما كانت العدة حملا أو شهورا كان الطلاق يملك فيه الرجعة أو لا يملكها: وان كان المنزل بكراء فالكراء على الزوج المطلق أو في مال الزوج الميت، ولايكون للزوج المطلق إخراج المرأة من مسكنها الذي كانت تسكن معه، كان له المسكن أو لم يكن
وقال الشافعي رضى الله عنه " ولو كانت تسكن في منزل لها معه فطلقها وطلبت أن تأخذ كراء مسكنها منه كان لها في ماله أن تأخذ كراء أقل ما يسعها من المسكن فقط.

(18/171)


ولو كان نقلها إلى منزل غير منزله الذى كانت فيه ثم طلقها أو مات عنها بعد أن صارت في المنزل الذي نقلها إليه اعتدت في ذلك المنزل الذي نقلها إليه وأذن لها أن تنقل إليه.
ولو كان أذن لها في النقلة إلى منزل بعينه أو أمرها تنقل حيث شاءت فنقلت متاعها وخدمها ولم تنتقل بيدنها حتى مات أو طلقها أعتدت في بيتها الذى كانت فيه، ولا تكون متنقلة إلا ببدنها، فإذا ببدنها، فإذا انتقلت ببدنها وإن لم تنتقل بمتاعها ثم طلقها أو مات عنها اعتدت في الموضع الذي انتقلت إليه بإذنه (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو انتقلت بغير إذنه ثم لم يحدث لها إذنا حتى طلقها أو مات عنها رجعت فاعتدت في بيتها الذي كانت تسكن معه فيه وهكذا السفر يأذن لها به، فإن لم تخرج حتى يطلقها أو يتوفى عنها أقامت في منزلها ولم تخرج منه حتى تنقضي عدتها.
وإن أذن لها بالسفر فخرجت أو خرج معها مسافرا إلى حج أو بلد من البلدان فمات عنها أو طلقها طلاقا لا يملك فيه الرجعة فسواء ولها لخيار في أن تمضى في سفرها ذاهبة أو جائية، وليس عليها أن ترجع إلى بيته قبل أن ينقضى سفرها فلا تقيم في المصر الذي أذن لها في السفر إليه، الا أن يكون أذن لها في المقام فيه أو في النقلة إليه، فيكون ذلك عليها إذا بلغت ذلك المصر اه وجملة ذلك أن المعتدة لا تخرج من مسكنها لسفر ولا غيره بغير عذر الا بإذنه.
فإن كانت في عدة الوفاء فليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره من أنواع السفر.
روى ذلك عن عمر وعثمان وسعيد بن المسيب والقاسم ومالك وأحمد وأبو عبيد وأصحاب الرأى والثوري.
وإن خرجت فمات زوجها في الطريق رجعت ان كانت لم تفارق البنيان، فإن فارقت البنيان فها الخيار بين الرجوع والتمام لانها صارت في موضع أذن لها فيه وهو السفر، فأشبه ما لو كانت قد بعدت.
وقال أحمد وأصحابه: يجب عليها أن ترجع ان كانت قريبة لانها في حكم الاقامة وان تباعدت مضت.
ووجه هذا القول ماروى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب قال: توفى أزواج نساؤهن حاجات أو معتمرات فردهن عمر من ذي الحليفة

(18/172)


حتى يعتددن في بيوتهن، ولانه أمكن الاعتداد في منزلها قبل أن يبعد سفرها فلزمها، وقال مالك ترد ما لم تحرم.
وقال أبو حنيفة حد القريب بما لا تقصر فيه الصلاة، وحد البعيد بما تقصر فيه وهو مسيرة ثلاثة أيام.
وقال متى كان بينها وبين مسكنها دون ثلاثة أيام فعليها الرجوع إليه، وان كان فوق ذلك لزمها المضى إلى مقصدها والاعتداد فيه إذا كان بينها وبينه دون ثلاثة أيام، وان كان بينها وبينه ثلاثة أيام وفي موضعها الذي هي فيه موضع يمكنها الاقامة فيه لزمها الاقامة، وان لم يمكنها الاقامة مضت إلى مقصدها ولنا أنه يفرق بين السفر لحاجة والسفر لغير حاجة ووصلت إلى غايتها أو لم تصل على ما بينه المصنف هنا.
فإذا كان عليها حجة الاسلام فمات زوجها لزمتها العدة في منزلها، وإن فانها الحج، ولان العدة في المنزل تفوت ولابدل لها، والحج يمكن الاتيان به في غير هذا العام.
وان مات زوجها بعد احرامها بحج الفرض أو بحج أذن لها فيزوجها نظرت - فإن كان وقت الحج متسعا لا تخاف فوته ولا فوت الرفقة لزمها
الاعتداد في منزلها، لانه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز اسقاط أحدهما.
وان خشيت فوات الحج لزمها المضى فيه.
وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يلزمها المقام وان فانها الحج لانها معتدة فلم يجز لها أن تنشئ سفرا كما لو أحرمت بعد وجوب العدة عليها.
دليلنا أنهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الاسبق منهما، كما لو كانت العدة أسبق، ولان الحج آكذ لانه أحد أركان الاسلام والمشقة بتفويته تعظم، فوجب تقديمه كما لو مات زوجها بعد أن بعد سفرها إليه وان أحرمت بالحج بعد موت زوجها وخشيت فواته يجوز لها أن تمضى إليه لما في بقائها في الاحرام من المشقة، ويجوز أن تعتد في منزلها لما في العدة من السبق ولانها فرطت وغلظت على نفسها، فإذا قضت العدة وأمكنها السفر إلى الحج لزمها ذلك، فإن أدركته والا تحللت بعمل عمرة وحكمها حكم من فاته الحج في قضائه وان لم يمكنها السفر فحكمها حكم المحصر كالتي يمنعها زوجها من السفر وحكم الاحرام بالعمرة كذلك إذا خيف فوات الرفقة أو لم يخف

(18/173)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولايجوز للمبتوتة ولا للمتوفى عنها زوجها الخروج من موضع العدة من غير عذر لقوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) وروت زينب بنت كعب بن عجرة عن فريعة بنت مالك قالت " قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي في دار وحشة أفأنتقل إلى دار أهلى فأعتد عندهم؟ فقال اعتدى في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، أربعة أشهر وعشرآ "

(فصل)
وإن بذت على أهل زوجها نقلت عنهم لقوله تعالى (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) قال ابن عباس رضى الله عنه: الفاحشة المبينة أن تبذو على أهل زوجها، فإذا بذت على الاهل حل إخراجها.
وأما إذا بذا عليها أهل زوجها نقلوا عنها، ولم تنتقل لان الاضرار منهم دونها، وإن خافت في الموضع ضررا من هدم أو غيره انتقلت، لانها إذا انتقلت للبذاء على أهل زوجها فلان تنتقل من خوف الهدم أولى، ولان القعود للعدة لدفع الضرر عن الزوج في حفظ نسب ولده والضرر لا يزال بالضرر فإن كانت العدة في موضع بالاعارة فرجع المعير أو بالاجارة فانقضت المدة وامتنع المؤجر من الاجارة أو طلب أكثر من أجرة المثل انتقلت إلى موضع آخر، لانه حال عذر، ولا تنتقل في هذه المواضع إلا إلى أقرب موضع من الموضع الذي وجبت فيه العدة، لانه أقرب إلى موضع الوجوب، كما قلنا فيمن وجبت عليه الزكاة في موضع لا يجد فيه أهل السهمان إنه ينقل الزكاة إلى أقرب موضع منه.
وإن وجب عليها حق لا يمكن الاستيفاء إلا بها كاليمين في دعوى أو حد - فإن كانت ذات خدر - بعث إليها السلطان من يستوفى الحق منها، وإن كانت برزة جاز إحضارها لانه موضع حاجة فإذا قضت ما عليها رجعت إلى مكانها، وان احتاجت إلى الخروج لحاجة كشراء القطن وبيع الغزل لم يجز أن تخرج لذلك بالليل، لما روى مجاهد قال " استشهد رجال يوم أحد فتأيم نساؤهم

(18/174)


فجئن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يارسول الله انا نستوحش بالليل ونبيت عند احدانا حتى إذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدثن عند احداكن مابدا لكن، حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها: ولان الليل مظنة للفساد فلا يجوز لها الخروج من غير ضرورة.
وان
أرادت الخروج لذلك بالنهار نظرت - فإن كانت في عدة الوفاة - جاز لحديث مجاهد.
وان كانت في عدة المبتوتة فَفِيهِ قَوْلَانِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ لقوله تعالى (ولا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة مبينة) وقال في الجديد " يجوز " وهو الصحيح لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " طلقت خالتي ثلاثا، فخرجت تجد نخلا لها فلقيها رجل فنهاها: فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فقال لها: اخرجي فجدى نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا " ولانها معتدة بائن فجاز لها أن تخرج بالنهار لقضاء الحاجة كالمتوفى عنها زوجها.
(الشرح) في قوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) دليل على أنه ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح مادامت في العدة، ولايجوز لها الخروج الا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولاننقطع العدة، والمبتوتة في هذا كالرجعية - وهذا لصيانة ماء الرجل - وهذا معنى اضافة البيوت اليهن، كقوله تعالى (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) وقوله تعالى (وقرن في بيوتكن فهو اضافة اسكان لااضافة تمليك أما حديث فريعة فقد مضى تخريجه آنفا وقوله " دار وحشة " دار مضاف وحشة مضاف إليه، وأصله المكان القفر من الانيس.
وخبر ابن عباس قال ابن كثير في قوله تعالى (الا أن يأتين بفاحشة مبينة) والفاحشة المبينة تشمل الزنا، كما قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبى والحسن وابن سيرين ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو فلابة وأبو صالح وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والسدى وسعيد بن أبى هلال وغيرهم وغيرهم اه

(18/175)


وقال القرطبى: وعن ابن عباس والشافعي أنه البذاء على أحمائها فيحل لهم إخراجها، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنقل.
وفي كتاب أبى داود، قال سعيد تلك امرأة فتنت الناس إنها كانت لسنه فوضعت على يدى ابن أم مكتوم الاعمى، قال عكرمة في مصحف أبى " إلا أن يفحشن عليكم " ويقوى هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روى أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقى الله فإنك تعليمن لم أخرجت؟ وعن ابن عباس الفاحشة كل معصية كالزنا والسرقة والبذاء على الاهل وعن ابن عمر أيضا والسدى: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة، وقال قتادة الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها فتتحول عن بيته.
قال ابن العربي أما من قال إنه الخروج للزنا فلا وجه له، لان ذلك الخروج هو خروج القتل والاعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام، وأما من قال انه البذاء فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس، وأما من قال انه كل معصية فوهم لان الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الاخراج ولا الخروج.
وأما من قال: إنه الخروج بغير حق فهو صحيح وتقدير الكلام لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا.
أه (قلت) قال الشافعي في الام: أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عمر وعن محمد بن إبراهيم عن ابن عباس أنه كان يقول الفاحشة المبينة أن تبذو على أهل زوجها، فإذا بذت فقد حل إخراجها، ثم ساق هذا الاسناد إلى عائشة رضى الله عنها كانت تقول اتقى الله يا فاطمة فقد علمت في أي شئ كان ذلك.
قال الشافعي أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه قال قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهلها فدفعت إلى سعيد بن المسيب فسألته عن
المبتونة فقال تعتد في بيت زوجها، فقلت فأين حديث فاطمة بنت قيس؟ فقال هاه وصف أنه تغيظ: وقال فتنت فاطمة الناس كانت للسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها فأمرها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ تعتد في بيت أم مكتوم.

(18/176)


وقال الشوكاني في نيل الاوطار وأما دعوى أن سبب خروجها كان لفحش في لسانها، كما قال مروان لما حدث بحديثها ان كان بكم شر فحسبكم مابين هذين من الشر، يعنى أن خروج فاطمة كان لشر في لسانها فمع كون مروان ليس من أهل الانتقاد على أجلاء الصحابة والطعن فيهم فقد أعاذ الله فاطمة عن ذلك الفحش الذي رماها به فإنها من خيرة نساء الصحابة فضلا وعلما، ومن المهاجرات الاولات ولهذا ارتضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبه وابن حبه أسامة، وممن لا يحملها رقة الدين على فحش اللسان الموجب لاخراجها من دارها، ولو صح شئ من ذلك لكان أحق الناس بانكار ذلك عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي هذا الكلام من الشوكاني نظر سنأتي عليه.
أما خبر مجاهد المرسل فقد أخرجه الشافعي وعبد الرزاق هكذا مرسلا بلفظ المصنف، وله شواهد متصلة موقوفه على ابن مسعود عند عبد الرزاق في نساء نعى اليهن أزواجهن وتشكين الوحشة فقال ابن مسعود يحتمعن بالنهار ثم ترجع كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل.
وأخرج ابن أبي شيبه عن عمر رضى الله عنه أنه رخص للمتوفى عنها زوجها أن تأتى أهلها بياض يومها، وأن زيد بن ثابت رخص لها في بياض يوما.
وأخرج سعيد بن منصور عن علي رضى الله عنه أنه جوز للمسافرة الانتقال.
وروى الحجاج بن منهال أن أمرأة سألت أم سلمه بأن أباها مريض وأنها في عدة وفاة فأذنت لها وسط النهار.
أما حديث جابر فقد أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائي.
أما الاحكام فللمعتدة الخروج في حوائجها نهارا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها لحديث جابر " طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجد نخلها فلقيها رجل فنهاها فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أخرجي فجدى نخلك لعلك أن تتصدقى منه أن تفعلي خيرا ".
وحديث مجاهد المرسل وفيه " تحدثن عند أحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها " وليس لها المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلا

(18/177)


إلا لضرورة، لان الليل مظنة الفساد بخلاف النهار فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه، وان وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه إلا بها كاليمين وكانت ذات خدر بعث إليها الحاكم من يستوفى الحق منها في منزلها، وان كانت برزة جاز إحضارها لاستفيائه، فإذا فرغت رجعت إلى منزلها.
وقال الشافعي رضى الله عنه: وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث فاطمة بنت قيس إذا بذت على أهل زوجها فأمرها أن تعتد في بيت ام مكتوم تدل على معنيين
(أحدهما)
أن ما تأول ابن عباس في قول الله عز وجل " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " هو البذاء على أهل زوجها كما أول إن شاء الله تعالى وقال وبين إنما أذن لها أن تخرج من بيت زوجها فلم يقل لها النبي صلى الله عليه وسلم: اعتدى حيث شئت، ولكنه حصنها حيث رضى إذ كان زوجها غائبا ولم يكن له وكيل بتحصينها، فإذا بذت المرأة على أهل زوجها فجاء من بذائها ما يخاف تساعر بذائه إلى تساعر الشر، فلزوجها إن كان حاضرا اخراج أهله عنها، فإن لم يخرجهم أخرجها إلى منزل غير منزله فحصنها فيه، وكان عليه كراؤه إذا كان له منها أن تعتد حيث شاءت كان عليه كراء المنزل.
وان كان غائبا كان لوكليه من ذلك ماله، وان لم يكن له وكيل كان السلطان ولى الغائب يفرض له منزلا فيحصنها فيه، فان تطوع السلطان به أو أهل المنزل فذلك ساقط عن الزوج، ولم نعلم فيما مضى أحدا بالمدينة أكرى أحدا منزلا انما كانوا يتطوعون بانزال منازلهم وبأموالهم مع منازلهم، وان لم يتطوع به السلطان ولاغيره فعلى زوجها كراء المنزل الذي تصير إليه، ولا يتكارى لها السلطان الا بأخف ذلك على الزوج وان كان بذاؤها حتى يخاف أن يتساعر ذلك بينها وبين أهل زوجها عذرا في الخروج من بيت زوجها كان كذلك كل ماكان في معناه وأكثر من أن يجب حد عليها فتخرج ليقام عليها أو حق فتخرج لحاكم فيه أو يخرجها أهل منزل فيه بكراء أو عارية ليس لزوجها أو ينهدم منزلها الذي كانت فيه أو تخاف في منزل هي فيه على نفسها أو مالها أو ما أشبه هذا من العذر، فللزوج في هذه الحالات

(18/178)


أن يحصنها حيث صيرها أو اسكانها وكراء منزلها قال: وان أمرها أن تكارى منزلا بعينه فتكارته فكراؤه عليه متى قامت به عليه، وان لم يأمرها فتكارت منزلا فلم ينهها ولم يقل لها: أقيمي فيه، فان طلبت الكراء وهي في العدة استقبل كراء منزلها من يوم تطبه حتى تنقضي العدة.
وان لم تطلبه حتى تنقضي العدة فحق لها تركته وعصت بتركها أن يسكنها فلا يكون لها وهي عاصية سكنى وقد مضت العدة، وان أنزلها منزلا له بعد الطلاق أو طلقها في منزل له أو طلقها وهي زائرة فكان عليا أن تعود إلى منزل له قبل أن يفلس ثم فلس فهى أحق بالمنزل منه ومن غرمائه اه.
على أن محاولة اضعاف الخبر بكلام عمر ليست بذاك، لان كلام عمر رضى الله عنه دليل على صحته وصدوره عن فاطمة، وأما البذاء المنسوب لفاطمة، فانه
لم يكن موجها لزوجها بل كان لاحمائها، وهذا أمر غير مستبعد من أي امرأة مطلقة تحس بشخصيتها لا سيما إذا كان البذاء يحتمل أن يكون مجرد المخاشنة في القول والاستعلاء في اللجهة التى تتم عن ضيق ببقائها بين نساء مثلها.
ولو كان البذاء من طبيعتها بمعنى الفحش القبح لما دفع بها إلى ابن أم مكتوم لتبقى في بيته مدة العدة، ويفسر البذاء منها رواية " وكان في لسانها ذرابة " أي حدة، وليست فاطمة بنت قيس معصومه ولا يخل هذا بليقاتها لحب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ حبه، وفي بعض الناس صدق في اللهجه، وحدة في الصوت يمكن أن يوصف بالبذو والذرابه إذا تقرر هذا: فان الايه تقتضي الاخراج عن السكنى إذا طال لسانها على أحمائها، ولا يتوقف هذا الاخراج على ارتكاب الزنا إذا فسرت الفاحشة به على قول ابن مسعود والحسن، فان الاخراج في ذلك لا يكون الا لاقامة الحد، أما الاخراج عن السكنى في الاية فلا يتحقق بما فسرا به الاية فان الفاحشة اسم للزنا وغيره من الاقوال، يقال: أفحش فلان في مقاله، ولهذا روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قالت له عائشة " يارسول الله قلت لفلان: بئس أخو العشيرة فلما دخل ألفت له القول؟ فقال يا عائشة ان الله لا يحب الفحش ولا التفحش

(18/179)


إذا ثبت هذا فإن الورثة يخرجونها عن ذلك المسكن إلى مسكن آخر من الدار إن كانت كبيرة تجمعهم، فإن كانت لا تجمعهم أو لم يمكن نقلها إلى غيره في الدار ولم يتخلصوا من أذاها فلهم نقلها.
وقال بعض الاصحاب ينتقلون هم عنها لان سكناها واجب في المكان وليس بواجب عليهم، والنص يدل على أنها تخرج فلا يعرج على ما خالفه، ولان الفاحشة منها فكان الاخراج لها.
وإن كان أحماؤها هم الذين يؤذونها ويفحشون عليها نقلوا هم دونها فإنها لم تأت بفاحشة فلا تخرج بمقتضى النص، ولان الذنب لهم فيخصون بالاخراج، وإن كان المسكن لغير الميت فتبرع صاحبه بإسكانها فيه لزمها الاعتداد به، وإن أبى أن يسكنها إلا بأجرة وجب بذلها من مال الميت، الا ان تبرع انسان ببذلها فيلزمها الاعتداد به.
فان حولها صاحب المكان أو طلب أكثر من أجرة المثل فعلى الورثة اسكانها ان كان الميت تركة يستأجر لها به مسكن، لانه حق لها يقدم على الميراث، فان اختارت النقلة عن هذا المسكن الذي ينقلونها إليه فلها ذلك لان سكناها به حق لها وليس بواجب عليها، فان المسكن الذي كان يجب عليها السكنى به هو الذي كانت تسكنه حين موت زوجها، وقد سقطت عندها السكنى به، وسواء كان المسكن الذي كانت به لابويها أو لاحدهما أو لغيرهم وان كانت تسكن في دارها فاختارت الاقامة فيها والسكنى بها متبرعة أو بأجرة تأخذها من التركة جاز ويلزم الورثة بذل الاجرة إذا طلبتها، وان طلبت أن تسكن غيرها وتنتقل عنها فلها ذلك، لانه ليس عليها أن تؤجر دارها ولا تعيرها وعليهم اسكانها.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(18/180)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب الإحداد

الاحداد ترك الزينة وما يدعو إلى المباشرة، ويجب ذلك في عدة الوفاة، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلى، ولا تختضب ولا تكتحل، ولا يجب ذلك على المعتدة الرجعية، لانها باقية على الزوجية، ولا يجب على أم
الولد إذا توفى عنها مولاها، ولا على الموصوءة بشبهة، لما روت أُمِّ حَبِيبَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على ميت فوق ثلاث، الا على زوج أربعة أشهر وعشرا " واختلف قوله في المعتدة المبتوتة فقال في القديم يجب عليها الاحداد، لانها معتدة بائن فلزمها الاحداد كالمتوفى عنها زوجها وقال في الجديد: لا يجب عليها الاحداد لانها معتدة من طلاق فلم يلزمها الاحداد كالرجعية.

(فصل)
ومن لزمها الاحداد حرم عليها أن تكتحل بالاثمد والصبر.
وقال أبو الحسن الماسرجسى: ان كانت سوداء لم يحرم عليها، والمذهب أنه يحرم لما ذكرناه من حديث أم سلمة ولانه يحسن الوجه.
ويجوز أن تكتحل بالابيض كالتوتيا لانه لا يحسن بل يزيد العين مرها، فان احتاجت إلى الاكتحال بالصبر والاثمد اكتحلت بالليل وغسلته بالنهار، لما روت أم سلمة قَالَتْ " دَخَلَ عَلَى " رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين توفى أبو سلمة وقد جعلت على عينى صبرا فقال ماهذا يا أم سلمة؟ قلت انما هو صبر ليس فيه طيب، فقال انه يشب الوجه لا تجعليه الا بالليل وتنزعيه بالنهار "
(فصل)
ويحرم عليها أن تختضب لحديث أم سلمة، ولانه يدعو إلى المباشرة ويحرم عليها أن تحمر وجهها بالدمام وهو الكلكون، وأن تبيضه بأسفيداج العرائس، لان ذلك أبلغ في الزينة من الخضاب، فهو بالتحريم أولى، ويحرم عليها ترجيل الشعر لانه يحسنها ويدعو إلى مباشرتها

(18/181)


(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الاول أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.
قال البيهقى روى موقوفا: والمرفوع من رواية ابراهيم بن طهمان وهو
ثقة من رجال الصحيحين: وقد ضعفه ابن جزم.
قال الشوكاني ولا يلتفت إلى ذلك فإن الدارقطني قد جزم بأن تضعيف من ضعفه إنما هو من قبل الارجاء وقد قيل إنه رجع عن ذلك أما حديث أم حبيبة فقد أخرجه الشيخان عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة أنها أخبرته بهذه الاحاديث الثلاثة قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفى أبوها أبو سفيان فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله مالى بالطيب من حاجة غير إنِّي سَمِعْتُ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا.
قالت زينب ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفى أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت والله ماى بالطيب من حاجة، غير إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، قالت زينب وسمعت أمي أم سلمة تقول جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت، يارسول الله ان ابنتى توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول لا.
ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول.
قال حميد فقلت لزينب وما ترى بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب كانت المرأة إذا توفى عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس لاشيئا حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتقتض به، فقلما تقتض بشئ الا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع شاءت من طيب أو غيره " أما حديث أم سلمة الثاني فقد أخرجه أبو داود والنسائي بلفظ " دَخَلَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين توفى أبو سلمة وقد جعلت على صبرا فقال ماهذا يا أم سلمة؟ فقلت انما هو صبر يارسول الله ليس فيه طيب.
قال انه

(18/182)


يشب اوجه فلا تجلعيه الا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطى بالطيب ولا بالحناء فانه خضاب.
قالت قلت بأى شئ أمتشط يارسول الله؟ قال بالسدر تغلفين به رأسك " وقد أخرجه الشافعي أيضا وفي اسناده المغيرة بن الضحاك عن أم حكيم بنت أسيد عن أمها عن مولى لها عن أم سلمة، وقد أعله عبد الحق والمنذري بجهالة حال المغيرة ومن فوقه قال الحافظ بن حجر وأعل بما في الصحيحين زينب بنت أم سلمة الذي سقناه في تخريج حديث أم حبيبة قبل هذا، ولكن الحافظ بن حجر حسن اسناده في بلوغ المرام.
أما اللغات فان أصل الحد المنع ومنه للسجان حداد، والحد والحدود هي محارم الله وعقوباته التي قرنها بالذنوب، وأصل الحد المنع والفصل بين الشيئين، فكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام، فمنها ما لا يقترب منه كالفواحش المحرمة " تلك حدود الله فلا تقربوها " ومنها ما لا يتعدى كالمواريث المعينة وتزويج الاربع " تلك حدود الله فلا تعتدوها " ومنه الحديث " انى أصبت حدا فأقمه على " أي أصبت ذنبا أوجب على حدا أي عقوبة، ومنه حديث أبى العالية " ان اللحم مابين الحدين، حد الدنيا وحد الآخرة " قال في النهاية وفيه " لا يحل لامرأة أن تحد على ميت أكثر من ثلاث " أحدت المرأة على زوجها تحد فهي.
وحدت تحد وتحد فهى حاد إذا حزنت عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة وقال ابن بطال: وأحدت المرأة وجدت إذا أمتنعت من الزينة والخضاب
يقال حدت تحد حداد فهى حاد.
قوله " ولا الممشق " هو المصبوغ بالشق وهو المغرة الطين الاحمر، والتوتيا دواء يجعل في العين قوله " يزيد العين مرها " يقال مرهت العين مرها إذا فسدت لترك الكحل وهي عين مرهاء، وأمرأة مرهاء والرجل أمره.
قال رؤية بن العجاج لله در الغانيات المره سبحن واسترجعن من تألهى

(18/183)


قوله " يشب الوجه " أي يحسنه ويظهر لونه، من شب النار إذا ألهبها وأقدها ويقال شعرها يشب لونها، أي يظهره ويحسنه، ويقال إنه لمشبوب.
قال ذو الرمة إذا الاروع المشبوب أضحى كأنه على الرجل مما مسه السير أحمق قوله " بالدمام وهو الكلكون " وروى بضم الكاف وسكون اللام.
قال الجوهرى الدمام بالكسر دواء يطلى به جبهة الصبى وظاهر عينيه، وكل شئ طلى به فهو دمام، وقد دممت الشئ أدمه بالضم، أي طليته بأى صبغ كان، والمدموم الاحمر.
قال الشاعر تجلو بقادمتى حمامة أيكة بردا تعل لثاته بدمام والكلكون فارسي، والاسفيذاج صبغ أبيض، وهو المسمى بلغة العامة اسبيداج ومثله المساحيق البيضاء والحمراء التي يستعملها النساء في عصرنا هذا أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه " فأما اللبس نفسه فلا بد منه.
قال فزينة البدن عليه المدخل عليه من غيره الدهن كله في الرأس فلا خير في شئ منه طيب ولاغيره زيت ولا شيرق ولا غيرهما، وذلك أن كل الادهان تقوم مقاما واحدا في ترجيل الشعر وإذهاب الشعث، وذلك هو الزينة، وإن كان بعضها أطيب من بعض.
وهكذا رأيت المحرم يفتدى بأن يدهن رأسه ولحيته
بزيت أو دهن طيب لما وصفت من الترحيل وإذهاب الشعث قال فأما بدنها فلا بأس أن تدهنه بالزيت وكل ما لاطيب فيه من الدهن كما لا يكون بذلك بأس للمحرم، وان كانت الحاد تخالف المحرم في بعض أمرها، لانه ليس بموضع زينة للبدن ولا طيب تظهر ريحه فيدعو إلى شهوتها.
فأما الدهن الطيب والبخور، فلا خير فيه لبدنها لما وصفت من أنه طيب يدعو إلى شهوتها وينبه بمكانها وأنها الحاد من الطيب شئ أذنت فيه الحاد، والحاد إذا مست الطيب لم يجب عليها فدية ولم يقتض احدادها وقد أساءت، وكل كحل كان زينة فلا خير فيه لها، مثل الاثمد وغيره مما يحسن موقعه في عينها فأما الكحل الفارسى وما أشبه إذا احتاجت إليه فلا بأس لانه ليس فيه زينة بل هو يزيد العين مرها وقبحا، وما اضطرت إليه مما فيه زينة من الكحل

(18/184)


اكتحلت به بالليل ومسحته بالنهار، وكذلك الدمام وما أرادت به الدواء.
اه اما أحمد بن حنبل رضى الله عنه فقد اختلف الرواية عنه في وجوب الاحداد على المطلقة البائن، فعنه يجب عليها، وهو قول سعيد بن المسيب وأبى عبيد وأبى ثور وأصحاب الرأى، والثانية وهو مذهبنا أنه لا يجب على المطلقة، وهو قول عطاء وربيعة ومالك وابن المنذر لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا - وهذه عدة الوفاة - فيدل على أن الاحداد انما يجب في عدة الوفاة، ولانها معتدة عن غير وفاة فلم يجب عليها الاحداد كالرجعية والموطوءة بشبهة، ولان الاحداد في عدة الوفاة لاظهار الاسف على فراق زوجها وموته فأما الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معنى لتكليفها الحزن عليه ولان المتوفى عنها لو أتت بولد لحق الزوج، وليس له من ينفيه، فاحتيط عليها
بالاحداد لئلا يلحق بالميت من ليس منه، بخلاف المطلقة فان زوجها باق، فهو يحتاط عليها بنفسه وينفى ولدها إذا كان من غيره أما احداد المتوفى عنها زوجها فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في وجوبه عليها الا عن الحسن فانه قال لا يجب عليها الاحداد، وهو قول شذ به عن أهل العلم، وخالف به السنة فلا يعرج عليه، ويستوى فيه الحرة والامة، والذمية والمسلمة والكبيرة والصغيرة، وبه قال أحمد.
وقال أصحاب الرأى لااحداد على ذمية ولا صغيرة لانهما غير مكلفتين والادلة في الاحداد عامة يتساوى فيها المكلفة وغير المكلفة، ولان حقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة.
إذا ثبت هذا فانه يحرم عليها الطيب لما فيه من تحريك الشهوة والدعوة إلى المباشرة، ولايجوز لها استعمال الادهان المطيبة، كدهن الورد والياسمين والبنفسج والبان وما أشبهه لانه استعمال للطيب.
فأما الادهان بغير المطيب كالزيت والشيرج والسمن فلا بأس به لانه ليس بطيب، كما لا يجوز استعمال الزينة، واجتنابها واجب في قول عامة أهل العلم، منهم ابن عمر وابن عباس وعطاء وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك وينهون عنه

(18/185)


من ذلك الزينة في نفسها، فيحرم عليها أن تختضب وأن يحمر وجهها بالمساحيق والاصباغ، وأن تبيضه بالسبيداج وبودرة التلك وأن تجعل عليه صبرا يصفره وأن ينقش في وجهها ويديها، وأن تخفف وجهها وما أشبهه مما يحسنها، وأن تكتحل بالاثمد من غير ضرورة.
وحكى المصنف عن الماسرجسى أن للسوداء أن تكتحل.
وهذا مخالف للاحاديث التي سقناها، فإن اضطرت الحادة أن تكتحل للتداوي فلها أن تكتحل
ليلا وتمسحه نهارا، ورخص فيه عند الضرورة عطاء والنخعي ومالك وأصحاب الرأى لما أخرجه أبو داود والنسائي عن أم حكيم بنت أسد عن أمها أن زوجها توفى وكانت تشتكى عينيها فتكتحل بالجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء، فقالت لا تكتحلي بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به لانه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها: ولا تمنع من جعله على غير وجهها من بدنها، لانه إنما منع منه في الوجه لانه يصفره فيشبه الخضاب.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " إنه يشب الوجه " ولا تمنع من التنظيف بتقليم الاظفار ونتف الابط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به لحديث أم سلمة، ولانه يراد للتنظيف لا للطيب.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ويحرم عليها أن تطيب لما روت أم عطية إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاتحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تمس طيبا إلا عند طهرها من محيضها نبذة من قسط أو أظفار، ولان الطيب يحرك الشهوة ويدعو إلى المباشرة، ولا تأكل شيئا فيه طيب ظاهر ولا تستعمل الادهان المطيبة كالبان ودهن الورد ودهن البنفسج لانه طيب ولا تستعمل الزيت والشيرج في الرأس لانه يرجل الشعر، ويجوز لها أن تغسل رأسها بالسدر لما روت أُمِّ سَلَمَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لها امتشطي، فقلت بأى شى أمتشط يارسول الله؟

(18/186)


قال بالسدر تغلفين به رأسك " ولان ذلك تنظيف لاتزيين فلم يمنع منه، ويجوز أن تقلم الاظفار وتحلق العانة لانه يراد للتنظيف لا للزينة.

(فصل)
ويحرم عليها لبس الحلى لحديث أم سلمة، ولانه يزيد في حسنها
ولهذا قال الشاعر: وما الحلى إلا زينة لنقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا فأما إذا كان الجمال موفرا كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
(فصل)
ويحرم عليها لبس ما صبغ من الثياب للزينة كالاحمر والاصفر والازرق الصافى والاخضر لحديث أم عطية، ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب، وأما ما صبغ غزله ثم نسج فقد قال أبو إسحاق: انه لا يحرم لحديث أم عطية، ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب، والعصب ما صبغ غزله ثم نسج، والمذهب أنه يحرم لان الشافعي رحمه الله نص على تحريم الوشى والديباج، وهذا كله صبغ غزله ثم نسج، ولان ما صبغ غزله ثم نسج أرفع وأحسن مما صبغ بعد النسج.
وأما ما صبغ لغير الزينة كالثوب المصبوغ بالسواد للمصيبة وما صبغ للوسخ كالازرق المشبع والاخضر المشبع فإنه لا يحرم، لانه لازينة فيه، ولا يحرم ما عمل من غزله من غير صبغ، كالمعمول من القطن والكتان والا بريسم والصوف والوبر، لانها وان كانت حسنة الا أن حسنها من أصل الخلقة لا لزينة أدخلت عليها، وان عمل على البياض طرز، فان كانت كبارا حرم عليها لبسه لانه زينة ظاهرة أدخلت عليه، وان كانت صغارا ففيه وجهان
(أحدهما)
يحرم كما يحرم قليل الحلى وكثيره
(والثانى)
لا يحرم لقلتها وخفائها.
(الشرح) حديث أم عطية الاسدية رضى الله عنها أخرجه الشيخان قالت " كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولانكتحل ولا نتطيب ولانلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار " وفي

(18/187)


رواية عند أحمد والشيخين أيضا " قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تحد فوق ثلاث إلا على زوج فإنها لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار " وقال فيه أحمد ومسلم " لاتحد على ميت فوق ثلاث إلا المرأة فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا.
أما اللغات فقوله " الا ثوب عصب " هو بالاضافة برود اليمين يعصب غزلها أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج مغصوبا فيخرج موشى لبقاء ما عصب منه أبيض لم يتصبغ وانما يتصبغ السدى دون اللحمة: وقال السهيلي: ان العصب نبات لا ينبت إلا باليمين، وهو غريب وأغرب منه قول الداودى ان المراد بالثوب العصب المعصفرة لا المصبغة الا ما صبغ بسواد فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ للزينة، بل هو لباس الحزن.
وقال ابن الصباع في الشامل: العصب هو الغزل والعصاب هو الغزال الذي يبيع الغزل.
قوله " نبذة من قسط أو أظفار " النبذة فعلة، من نبذ أي طرح ورمى وكل شئ رميت به وطرحته نبذته، والقسط طيب معروف يؤتى به من أرض الحبشة، ويقال كسط بالكاف أيضا مثل قوله كشطت وقشطت، ويقال كست بالتاء أيضا، والاظفار تؤخذ من البحر تشبه بظفر الانسان، قوله " تغلفين به رأسك " أي تطلين وتمشطين، يقال تغلف بالغاليه وغلف بها لحيته غلفا، قوله " الحلى " بفتح الحاء واسكان اللام اسم لكل ما يتزين به من الذهب والفضه والجواهر وجمعه حلى بضم الحاء وكسرها " وقوله " لنقيصه " فعيلة من النقص وهو ضد التمام، والنقيصه أيضا العيب، وقصر أي لم يتم، يقال قصر في الامر إذا توانى والتقصير التوانى وترك المبالغة قوله " موفرا " من الوفر وهو الزيادة والكثرة أي يأتي تاما غير ناقص، قوله " لم يحتج إلى أن يزورا " زورت
الشئ إذا حسنته وقوله " الوشى والديباج " نوع من ثياب الحرير غليظ معروف قوله " الابريسم " وفيه ثلاث لغات.
قال ابن السكيت: هو الابريسم بكسر الهمزة والراء وفتح السين والثانية

(18/188)


بكسر الهمزة وفتح الراء والسين جميعا والثالثة بكسر الجميع، وكذا الاهليلج مثله والصوف شعر الضأن والوبر شعر الابل أفاده ابن بطال.
أما الاحكام: فإن العصب الصحيح أنه نبت تصبغ به الثياب، قال صاحب الروض الانف: الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به، فأرخص النبي صلى الله عليه وسلم للحادة في لبس ما صبغ بالعصب، لانه في معنى ما صبغ لغير التحسين، وأما ما صبغ غزله للتحسين كالاحمر والاصفر فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه كحصولها بما صبغ بعد نسجه، ولا تمنع من حسان الثياب غير المصبوغة، وان كان رقيقا، سواء كان من قطن أو كتان أو إبريسم " لان حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغييره كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة لا يلزمها أن تغير لونها وتشوه نفسها.
(فرع)
ويحرم عليها لبس الحلى كله حتى الخاتم لحديث أم سلمة وفيه " ولا الحلى " وقال عطاء.
يباح حلى الفضة دون الذهب وليس بصحيح، لان النهى عام، وهذا يشمل أنواع الحلى التي تصنع في عصرنا هذا من الزجاج والكور والكريستال وغير ذلك من المعادن الخسيسة، ولان الحلى يزيد حسنها ويدعو إلى مباشرتها.
(فرع)
مما يحرم على المعتدة لبسه الملابس المطرزة بخيوط القطن إذا كان ملونا، وكذلك الملابس المحزقة للزينة، والشفافه التى تصف ما تحتها من حمالات وقمص مما تلبسه الحاداث من سواد وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(18/189)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب اجتماع العدتين

إذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول وتزوجت في عدتها بآخر ووطئها جاهلا بتحريمها وجب عليها اتمام عدة الاول واستئناف عدة الثاني، ولا تدخل عدة أحدهما في عدة الاخر، لما روى سعيد بن المسيب وسليمان بن بشار " أن طليحه كانت تحت رشيد الثقفى فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر رضى الله عنه، وضرب زوجها بمخفقة ضربات، ثم قال أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الاول، وكان خاطبا من الخطاب " وان كان دخل بها فرق بنيهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الاول، ثم اعتدت من الاخر ولم ينكحها أبدا ولانهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين فان كانت حائلا انقطعت عدة الاول بوطئ الثاني إلى أن يفرق بينهما، لانها صارت فراشا للثاني فإذا فرق بينهما أتمت ما بقى من عدة الاول ثم أستأنفت العدة من الثاني، لانهما عدتان من جنس واحد فقدمت السابقة منهما.
وان كانت حاملا نظرت فان كان الحمل من الاول انقطعت عدتها منه بوضعه ثم استأنفت العدة من الثاني بالاقراء بعد الطهر من النفاس، وان كان الحمل من الثاني انقضت عدتها منه بوضعه ثم أتمت عدة الاول، وتقدم عدة الثاني ههنا على عدة الاول لانه لا يجوز أن يكون الحمل من الثاني وتعتد به من الاول، وان أمكن أن يكون من كل واحد منهما عرض على القافة، فان ألحقته بالاول انقضت به عدته، وان ألحقته بالثاني انقضت به عدته، وان ألحقته بهما أو نفته عنهما أو لم نعلم أو لم تكن قافة لزمها أن تعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء، لانه
ان كان من الاول لزمها للثاني ثلاثة أقراء، وان كان من الثاني لزمها اكمال العدة من الاول فوجب أن تعتد بثلاثة أقراء ليسقط الفرض بيقين، وان لم يمكن أن يكون من واحد منهما ففيه وجهان.

(18/190)


(أحدهما)
لا تعتد به عن أحدهما، لانه غير لاحق بواحد منهما، فعلى هذا إذا وضعت أكملت عدة الاول ثم تعتد من الثاني بثلاثة أقراء
(والثانى)
تعتد به عن أحدهما لا بعينه، لانه يمكن أن يكون من أحدهما، ولهذا لو أقر به لحقه فانقضت به العدة كالمنفى باللعان فعلى هذا يلزمها أن تعتد بثلاثة أقراء بعد الطهر من النفاس
(فصل)
إذا تزوج رجل امرأة في عدة غيره ووطئها ففيه قولان.
قال في القديم تحرم عليه على التأييد لما رويناه عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ثم لا ينكحها أبدا، وقال في الجديد لا تحرم عليه على التأييد، وإذا انقضت عدتها من الاول جاز له أن يتزوجها لانه وطئ شبهة فلا يوجب تحريم الموطوءة على الواطئ على التأييد الوطئ في النكاح بلا ولى، وما روى عن عمر رضى الله عنه فقد روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا انقضت عدتها فو خاطب من الخطاب، فخطب عمر رضى الله عنه وقال: ردوا الجهالات إلى السنة.
فرجع إلى قول علي كرم الله وجهه.

(فصل)
إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا ثم وطئها في العدة، وجبت عليها عدة بالوطئ لانه وطئ في نكاح قد تشعث فهو كوطئ الشبهة، فإن كانت من ذوات الاقراء أو من ذوات الشهور لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها البقية من عدة الطلاق لانهما من واحد وله أن يراجعها في البقية لانها من عدة الطلاق فإذا مضت البقية لم يجز أن يراجعها لانها في عدة وطئ شبهة، وان حملت من الوطئ وصارت
في عدة الوطئ حتى تضع، وهل تدخل فيها بقية عدة الطلاق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تدخل لانهما لواحد فدخلت إحدهما في الاخرى، كما لو كانتا بالاقراء
(والثانى)
لا تدخل لانهما جنسان فلم تدخل إحداهما في الاخرى، فإن قلنا يتداخلان كانت في العدتين إلى أن تضع لان الحمل لا يتبعض، وله أن يراجعها إلى أن تضع، لانها في عدة الطلاق.
وان قلنا لا يتداخلان فإن لم ترد ما على الحمل أو رأت وقلنا انه ليس بحيض فهى معتدة بالحمل عن وطئ الشبهة إلى أن تضع، فإذا أتمت عدة الطلاق وله أن يراجعها في هذه البقية لانها في عدة الطلاق.
وهل له أن يراجعها قبل الوضع؟ فيه وجهان

(18/191)


(أحدهما)
ليس له أن يراجعها لانها في عدة وطئ الشبهة
(والثانى)
له أن يراجعها لانها لم تكمل عدة الطلاق، فإذا رأت الدم على الحمل وقلنا انه حيض كانت عدتها من الوطئ بالحمل وعدتها من الطلاق بالاقراء التي على الحمل، لان عليها عدتين، إحداهما بالاقراء والاخرى بالحمل فجاز أن يجتمعا، فإذا مضت ثلاثة أقراء قبل وضع الحمل فقد انقضت عدة الطلاق، وان وضعت قبل انقضاء الاقراء فقد انقضت عدة الوطئ وعليها إتمام عدة الطلاق، فإذا راجعها في بقية عدة الطلاق صحت الرجعة، وان راجعها قبل الوضع ففي صحة الرجعة وجهان على ما ذكرناه.
فأما إذا كانت قد حبلت من الوطئ قبل الطلاق كانت عدة الطلاق بالحمل وعدة الوطئ بالاقراء.
فان قلنا إن عدة الاقراء تدخل في عدة الحمل كانت عدتها من الطلاق والوطئ بالحمل فإذا وضعت انقضت العدتان جميعا، وان قلنا لا تدخل عدة الاقراء في الحمل، فان كانت لا ترى الدم على الحمل أو تراه وقلنا انه ليس بحيض فان عدتها من الطلاق تنقضي بوضع الحمل وعليها استئنأف عدة الوطئ
بالاقراء.
وان كانت ترى الدم وقلنا انه حيض، فان سبق الوضع انقضت العدة الاولى وعليها إتمام العدة الثانية، فان سبق انقضاء الاقراء انقضت عدة الوطئ ولا تنقضي العدة الاولى الا بالوضع (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: أخبرنا مالك عن أبن شهاب عن سعيد ابن المسيب وسليمان أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفى فطلقها البتة فنكحت في عتدها، فضربها عمر بن الخطاب رضى الله عنه وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما، ثم قال عمر: أيما امرأة نكحت في عدتها فان كان الزوج الذي تزوج بها لم يدخل فرق بينهما ثم أعتدت بقية عدتها من زوجها الاول وكان خاطبا من الخطاب.
وان كان دخل بها فرق بينهما ثم أعتدت بقية عدتها من زوجها الاول، ثم أعتدت من زوجها الآخر ثم لم ينكحها أبدا قال الشافعي، قال سعيد ولها مهرها بما استحل منها، ثم قال: أخبرنا يحيى

(18/192)


ابن حسان عن جرير عن عطاء بن السائب عن زاذان أبى عمر عن علي رضى الله عنه أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتكمل ما أفسدت من عدة الاول وتعتد من الآخر قال أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أخبرنا عطاء أن رجلا طلق امرأته فاعتدت منه حتى إذا بقي شئ من عدتها نكحها رجل في آخر عدتها جهلا ذلك وبنى بها، فأتى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنه في ذلك ففرق بينهما وأمرها أن تعتد ما بقى من عتدها الاولى ثم تعتد من هذا عدة مستقبلة، فإذا انقضت عدتها فهي بالخيار إن شاءت نكحت وإن شاءت فلا قال وبقول عمر وعلى نقول في المرأة تنكح في عدتها تأتى بعدتين معا، وبقول على نقول إنه يكون خاطبا من الخطاب ولم تحرم عليه، وذلك أنا إذا جعلنا النكاح
الفاسد يقوم مقام النكاح الصحيح في أن على المنكوحة نكاحا فاسدا إذا اصيبت عدة كعدتها في النكاح الصحيح فنكحت امرأه في عدتها فأصيبت فقد لزمتها عدة الزواج الصحيح ثم لزمها عدة من النكاح الفاسد فكان عليها حقان بسبب زوجين ولا يؤديهما عنها إلا بأن تأتى بهما معا.
وكذلك كل حقين لزماها من وجهين لا يؤديهما عن أحد لزماه أحدهما دون الآخر ولو أن امرأة طلقت أو ميت عنها فنكحت في عدتها ثم على ذلك فسخ نكاحها، فإن كان الزوج الآخر لم يصبها أكملت عدتها من الاول ولا يبطل عنها من عدتها شئ في الايام التي عقد عليها فيها النكاح الفاسد، لانها في عدتها ولم نصب، فإن أصابها أحصت ما مضى من عدتها قبل اصابة الزوج الآخر وأبطلت كل ما مضى منها بعد اصابته حتى يفرق بينه وبينها واستأنفت البنيان على عدتها التي كانت قبل اصابته من يوم فرق بينه وبينها حتى تكمل عدتها من الاول ثم تستأنف عدة أخرى من الآخر، فإذا أكملتها حلت منها والاخر خاطب من الخطاب إذا مضت عدتها من الاول: وبعد لا تحرم عليه لانه إذا كان يعقد عليها النكاح الفاسد فيكون خاطبا إذا لم يدخل بها، فلا يكون دخوله بها في النكاح الفاسد أكثر من زناه بها.
وهو لو زنى بها في العدة كان له أن ينحكها إذا انقضت

(18/193)


عدتها من الاول فللآخر أن يخطبها في عدتها منه: وأحب إلى لو كف عنها حتى تنقضي عدتها من مائه الفاسد اه ولو كانت تحيض فاعتدت حيضة أو اثنتين ثم أصابها الزوج الاخر فحملت وفرق بينهما اعتدت بالحمل، فإذا وضعته لاقل من ستة أشهر من يوم نكحها فهو للاول.
وان كانت وضعته لستة أشهر من يوم نكحها الاخر فأكثر إلى أقل من أربع سنين من يوم فارقها الاول دعى له القافة.
وان كانت وضعته لاكثر من
أربع سنين ساعة من يوم فارقها الاول فكان طلاقه لا يملك الرجعة فهو للآخر وان كان طلاقه يملك الرجعة وتداعياه أو لم يتداعياه ولم ينكراه ولا واحد منهما أريه القافة فبأيهما ألحقوه به لحق، وان ألحقوه بالاول فقد انقضت عدتها من الاول وحل للآخر خطبتها، وتبتدئ عدة من الآخر، فإذا قضتها حلت خطبتها للاول وغيره، فان ألحقوه بالاخر فقد انقضت عدتها من الاخر وتبتدئ فتكمل على ما مضى من عدة الاول، وللاول عليها الرجعة في عدتها منه ان كان طلاقه يملك الرجعة وقد سبق لنا في فصول سابقة من كتاب العدد بيان أن أقصى مدة الحمل أربع سنين - وبه قال أحمد وهو المشهور عن مالك - وذكرنا الاوجه والاقوال في ذلك فارجع إليه.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
إذا خالع امرأته بعد الدخول فله أن يتزوجها في العدة.
وقال المزبى لا يجوز كما لا يجوز لغيره، وهذا خطأ لان نكاح غيره يؤدى إلى اختلاط الانساب ولا يوجد ذلك في نكاحه.
وان تزوجها انقطعت العدة.
وقال أبو العباس: لا تنقطع قبل أن يطأها، كما لا تنقطع إذا تزوجها أجنبي قبل أن يطأها - وهذا خطأ - لان المرأة تصير فراشا بالعقد، ولايجوز أن تبقى مع الفراش عدة، ولانه لا يجوز أن تكون زوجته وتعتد منه: ويخالف الأجنبي فان نكاحه في العدة فاسد فلم تصر فراشا الا بالوطئ، فان وطئها ثم طلقها لزمها عدة مستأنفة وتدخل فيها بقية الاولى.

(18/194)


وإن طلقها قبل أن يطأها لم يلزمها استئناف عدة لانها مطلقة في نكاح قبل المسيس فلم تلزمها عدة كما لو نزوج امرأة وطلقها قبل الدخول، وعليها أن تتمم ما بقى
عليها من العدة الاولى، لانا لو أسقطنا البقية أدى ذلك إلى اختلاط المياه وفساد الانساب، لانه يتزوج امرأة ويطأها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر فيطأها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر، ويفعل مثل ذلك إلى أن يجتمع على وطئها في يوم واحد عشرون، وتختلط المياه وتفسد الانساب
(فصل)
إذا طلق امرأته بعد الدخول طلقة ثم راجعها نظرت، فإن وطئها بعد الرجعة ثم طلقها لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها بقية العدة الاولى، فان راجعها ثم طلقها قبل يطأها ففيه قولان
(أحدهما)
ترجع إلى العدة الاولى وتبنى عليها، كما لو خالعها ثم تزوجها في العدة ثم طلقها قبل أن يطأها
(والثانى)
أنها تستأنف العدة، وهو اختيار المزني، وهو الصحيح، لانه طلاق في نكاح وطئ فيه فأوجب عدة كاملة، كما لو لم يتقدمه طلاق ولا رجعة وتخالف المختلعة لان هناك عادة إليه بنكاح جديد ثم طلقها من غير وطئ، وههنا عادت إلى النكاح الذي طلقها فيه، فإذا طلقها استأنفت العدة، كما لو ارتدت بعد الدخول ثم أسلمت ثم طلقها وإن طلقها ثم مضى عليها قرء أو قرآن ثم طلقها من غير رجعة ففيه طريقان قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ بْنُ خيران رحمهما الله هي كالمسألة قبلها فتكون على قولين، وللشافعي رحمه الله ما يدل عليه، فإنه قال في تلك المسألة: ويلزم أن نقول ارتجع أو لم يرتجع سواء، والدليل عليه أن الطلاق معنى لو طرأ على الزوجية أوجب عدة، فإذا طرأ على الرجعية أوجب عدة كالوفاة في إيجاب عدة الوفاة.
وقال أبو إسحاق: تبنى على عدتها قولا واحدا لانهما طلاقان لم يتخللهما وطئ ولا رجعة فصار كما لو طلقها طلقتين في وقت واحد
(فصل)
وإن تزوج عبد أمة ودخل بها ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم أعتقت
الامة وفسخت النكاح ففيه طريقان

(18/195)


(أحدهما)
أنها على قولين، أحدهما تستأنف العدة من حين الفسخ، والثانى لا تستأنف.
والطريق الثاني أنها تستأنف العدة من الفسخ قولا واحدا لان إحدى العدتين من طلاق والاخرى من فسخ فلا تبنى إحداهما على الاخرى.
(الشرح) إذا خالع الرجل أو فسخ نكاحه فله أن يتزوجها في عدتها في قول جمهور الفقهاء، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والزهرى والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأى: وشذ المزني وبعض أصحابنا فقال لا يجوز ولا يحل له نكاحها ولا خطبتها لانها معتدة ووجه كون هذا القول خطأ أن العدة لحفظ نسبه وصيانة مائه ولا يصان ماؤه عن مائه إذا كانا من نكاح صحيح، فإذا تزوجها انقطعت العدة، لان المرأة تصير فراشا له بعقده ولا يجوز أن تكون زوجة معتدة، فان وطئها ثم طلقها لزمتها عده مستأنفة، ولا شئ عليها من الاول لانها انقطعت وارتفعت.
وان طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف العدة أو تبنى على ما مضى؟ مذهبنا أنه لا يلزمها استئناف عدة، وبه قال محمد بن الحسن، وهو احدى الروايتين عن أحمد.
وقال أبو حنيفة " تستأنف " لانه طلاق لا يخلو من عدة، فأوجب عدة مستأنفة كالاول.
دليلنا أنه طلاق في نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة لعموم قوله تعالى " ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها " (فرع)
إذا طلقها طلاقا رجعيا ثم ارتجعها في عدتها ووطئها ثم طلقها انقطعت العدة الاولى برجعته، لانه زال حكم الطلاق وتستأنف عدة من الطلاق الثاني، لانه طلاق من نكاح اتصل به المسيس، وان طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف
عدة أو تبنى على العدة الاولى؟ فيه قولان ولاحمد روايتان كالقولين عندنا 1 - أن تستأنف لان الرجعة أزالت شعث الطلاق الاول وردتها إلى النكاح الاول، فصار الطلاق الثاني طلاقا من نكاح اتصل به المسيس 2 تبنى لان الرجعة لا تزيد على النكاح الجديد، ولو نكحها ثم طلقها قبل المسيس لم يلزمها لذلك الطلاق عدة فكذلك الرجعة، فان فسخ نكاحها

(18/196)


قبل الرجعة بخلع أو غيره احتمل أن يكون حكمه حكم الطلاق، لان موجبه في العدة موجب الطلاق، وقد مضى في شرح الفصول قبله ما فيه من طرق وأوجه تداخل العدتين فلا داعى للتكرار
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا خلا الرجل بامرأته ثم اختلفا في الاصابة، فادعاه أحدهما وأنكر الآخر ففيه قولان.
قال في الجديد قول المنكر، لان الاصل عدم الاصابة.
وقال في القديم قول المدعى لان الخلوة تدل على الاصابة
(فصل)
وإن اختلفا في انقضاء العدة بالاقراء فادعت المرأة انقضاءها لزمان يمكن فيه انقضاء العدة وأنكر الزوج، فالقول قولها، وإن أختلفا في وضع ما تنقضي به العدة، فادعت المرأة أنها وضعت ما تنقضي به العدة وأنكر الزوج فالقول قولها لقوله عز وجل " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " فخرج النساء على كتمان ما في الارحام كما حرج الشهود على كتمان الشهادة فقال: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
ثم يجب قبول شهادة قول الشهود فوجب قبول قول النساء، ولان ذلك لا يعلم إلا من جهتها فوجب قبول قولها فيه كما يجب على التابعي قبول ما يخبره به الصحابي عن رسول الله صلى عليه وسلم حين لم يكن له سبيل إلى معرفته إلا من جهته.
وإن ادعت المرأة انقضاء العدة بالشهور وأنكر الزوج فالقول قوله، لان ذلك أختلاف في وقت الطلاق فكان القول فيه قوله.

(فصل)
وإن طلقها فقالت المرأة طلقني وقد بقى من الطهر ما يعتد به قرءا وقال الزوج طلقتك ولم يبق شئ من الطهر فالقول قول المرأة لان ذلك اختلاف قي وقت الحيض، وقد بينا أن القول في الحيض قولها.

(فصل)
وإن طلقها وولدت واتفقا على وقت الولادة واختلفا في وقت الطلاق، فقال الزوج طلقتك بعد الولادة فلى الرجعة، وقالت المرأة طلقتني قبل الولادة فلا رجعة لك فالقول قول الزوج، لانهما لو اختلفا في أصل الطلاق كان

(18/197)


القول قوله فكذلك إذا اختلفا في وقته، ولان هذا اختلاف في قوله وهو أعلم به فرجع إليه.
وإن اتفقا في وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة، فقال الزوج ولدت قبل الطلاق فلى الرجعة، وقالت المرأة بل ولدت بعد الطلاق فلا رجعة لك فالقول قولها لانهما لو اختلفا في أصل الولادة كان القول قولها فكذلك إذا اختلفا في وقتها.
وان جهلا وقت الطلاق ووقت الولادة وتداعيا السبق فقال الرجل تأخر الطلاق وقالت المرأة تأخرت الولادة، فالقول قول الزوج لان الاصل وجوب العدة وبقاء الرجعة، فإن جهلا وقتهما، أو جهل السابق منهما لم يحكم بينهما لانهما لا يدعيان حقا.
وإن ادعت المرأة السبق وقال الزوج لا أعرف السابق قال له الحاكم ليس هذا بجواب، فإما أن تجيب جوابا صحيحا أو نجعلك ناكلا، فإن استفتى أفتيناه بما ذكرناه في المسألة قبلها، وأن للزوج الرجعة لان الاصل وجوب العدة وبقاء الرجعة، والورع أن لا يراجعها
(فصل)
فإن أذن لها في الخروج إلى بلد آخر ثم طلقها واختلفا، فقالت المرأة
نقلتني إلى البلد الآخر ففيه أعتد، وقال الزوج بل أذنت لك في الخروج لحاجة فعليك أن ترجعي فالقول قول الزوج لانه أعلم بقصده، وان مات واختلفت الزوجة والوارث فالقول قولها لانهما استويا في الجهل بقصد الزوج ومع الزوجة ظاهر، فان الامر بالخروج يقتضى خروجا من غير عود قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ: إذا اختلفا في الاصابة بعد الخلوة فالقول قول المدعى لان الخلوة تدل على الاصابة.
وقال في الجديد، قال الله تبارك وتعالى " إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها " فكان بينا في حكم الله عز وجل أن لا عدة على المطلقة قبل أن تمس، وأن المسيس هو الاصابة، ولم أعلم في هذا خلافا ثم اختلف بعض المفتين في المرأة يخلو بها زوجها فيغلق بابا ويرخى سترا وهى غير محرمة ولا صائمة، فقال ابن عباس وشريح وغيرهما لا عدة عليها الا بالاصابة نفسها، لان الله عز وجل هكذا قال

(18/198)


أخبرنا مسلم عن أبن جريح عن ليس عن طاوس عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ولا يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق، لان الله عز وجل يقول " وإن طلتقموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم، قال الشافعي وبهذا أقول وهو ظاهر كتاب الله عز ذكره اه قلت، قال تعالى " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال عكرمة والزهرى والنخعي من الحيض.
وقال عمر وابن عباس الحمل، وقال مجاهد الحيض والحمل معا، وهذا على أن الحامل تحيض، والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العدة على الحيض والاطهار ولا اطلاع عليهما إلا من جهة النساء
جعل القول قولها إذا ادعت انقضاء العدة أو عدمها، وجعلهن مؤتمات على ذلك وهو مقتضى قوله تعالى " ولا يحل لهن أن يكتمن " الاية وقال سيلمان بن يسار: ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن وكل ذلك اليهن إن كن مؤتمات.
ومعنى النهى عن الكتمان النهى عن الاضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة حضت وهى لم تحض ذهت بحقه من الارتجاع.
وإذا قالت لم أحض وهى قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفى الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل لتقطع حقه من الارتجاع.
قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففى ذلك نزلة الاية.
قال ابن المنذر: وقال كل من حفظت عنه من أهل العلم، إذا قالت المرأة في عشرة أيام قد حضت ثلاث حيض وانقضت عدتي إنها لاتصدق ولا يقبل ذلك منها إلا أن تقول قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه، واختلفوا في المدة التي تصدق بها المرأة.
فقال مالك " إذا قالت انقضت عدتي في أمد تنقضي في مثله العدة قبل قولها، فإن أخبرت بانقضاء العدة في مدة تقع نادرا فقولان، قال في المدونة إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صدقت إذا صدقها النساء.
وبه قال شريح وقال له على بن أبي طالب " قالون " أي أصبت وأحسنت، وقال في كتاب

(18/199)


محمد " لاتصدق إلا في شهر ونصف " ونحوه قول أبى ثور.
قال أبو ثور أقل ما يكون في ذلك سبعة وأربعين يوما، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يوما.
وأقل الحيض يوما وقال الشافعي لا تصدق في أقل من سنين يوما وقال به أبو حنيفة.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه " ولو طلق الرجل امرأته وولدت فلم تدر هي أوقع الطلاق عليها قبل ولادها أو بعده.
وقال هو وقع بعد ما ولدت فلى عليك الرجعة وكذبته، فالقول قوله وهو أحق بها، لان الرجعة حق له والخلو من العدة حق لها، فإذا لم تدع حقها فتكون أملك بنفسها لانه فيها دونه لم يزل حقه إنما يزول بأن تزعم هي أنه زال.
قال ولو لم يدر هو ولاهى أوقع الطلاق قبل الولاد أو بعده بأن كان عنها غائبا حين طلقها بناحية من مصرها أو خارج منه كانت عليها العدة، لان العدة تجب على المطلقة فلا نزيلها عنها إلا بيقين أن تأتى بها وكان الورع أن لا يرتجعها لانى لاأدرى لعلها قدحلت منه، ولو ارتجعها لم أمنعه لانه لا يجوز لى منعه رجعتها إلا بيقين أن قد حلت منه (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه، ولو قال لها اخرجي إلى مصر كذا أو موضع كذا فخرجت إليه، أو منزل كذا من مصر فخرجت إليه ولم يقل لها حجى ولا أقيمي ولا ترجعي منه ولا لاترجععى الا ان تشائى ولا تزورى فيه اهلك أو بعض معرفتك ولا تتنزهى إليه كانت هذه نقلة وعليها ان تعتد في ذلك الموضع من طلاقه ووفاته.
فإذا اختلفا فقالت نقلتني إلى البلد الآخر ففيه أعتد ونفى هو فعلى ما بينه المصنف.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(18/200)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب استبراء الامة وأم الولد)

من ملك أمة ببيع أو هبة أو ارث أو سبى أو غيرها من الاسباب لزمه أن يستبرئها لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عام أو طاس ان لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض حيضة.
فإن كانت حاملا استبرأها بوضع الحمل لحديث أبى سعيد الخدرى، وإن كانت حائلا نظرت فإن كانت مما تحيض استبرأها بقرء، وفي القرء قولان
(أحدهما)
أنه طهر لانه استبراء فكان القرء فيه الطهر كالعدة
(والثانى)
أن القرء حيض، وهو الصحيح، لحديث أبى سعيد، ولان براءة الرحم لا تحصل إلا بالحيض - فإن قلنا إن القرء هو الطهر - فإن كانت عند وجوب الاستبراء طاهرا كانت بقية الطهر قرءا، فإن طعنت في الحيض لم تحل حتى تحيض حيضة كاملة ليعلم براءة رحمها، فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن كانت حائضا لم تشرع في القرء حتى تطهر، فإذا طعنت في الحيض الثاني حلت.
وإن قلنا إن القرء هو الحيض، فإن كانت حال وجوب الاستبراء طاهرا لم تشرع في القرء حتى تحيض، فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت، وان كانت حائضا لم تشرع في القرء إلا في الحيضة الثانية لان بقية الحيض لاتعد قرءا فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت.
وإن وجب الاستبراء وهى ممن تحيض فارتفعت حيضتها كان حكمها في الانتظار حكم المطلقة إذا ارتفع حيضها، وإن وجب الاستبراء وهي ممن لا تحيض لصغر أو كبر ففيه قولان
(أحدهما)
تستبرأ بشهر لان كل شهر في مقابلة قرء
(والثانى)
تستبرأ بثلاثة أشهر - وهو الصحيح - لان ما دونها لم يجعل دليلا على براءة الرحم.

(فصل)
وإن ملكها وهى مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو ذات زوج لم يصح استبراؤها في هذه الاحوال، لان الاستبراء يراد للاستباحة ولا توجد

(18/201)


الاستباحة في هذه الاحوال، وان اشتراها فوضعت في مدة الخيار أو حاضت في مدة الخيار، فإن قلنا انها لا تملك قبل انقضاء الخيار لم يعتد بذلك عن الاستبراء
لانه استبراء قبل الملك، وإن قلنا إنها تملك ففيه وجهان، أحدهما لا يعتد به لان الملك غير تام لانه معرض للفسخ
(والثانى)
يعتد به لانه استبراء بعد الملك وجواز الفسخ لايمنع الاستبراء، كما لو استبرأها وبها عيب لم يعلم به، وان ملكها بالبيع أو الوصية فوضعت أو حاضت قبل القبض ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يعتد به لان الملك غير تام
(والثانى)
يعتد به لانه استبراء بعد الملك، وللشافعي رحمه الله ما يدل على كل واحد من الوجهين، وإن ملكها بالارث صح الاستبراء وان لم تقبص لان الموروث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف
(فصل)
وإن ملك أمة وهى زوجته لم يجب الاستبراء لان الاستبراء لبراءة الرحم من ماء غيره والمستحب أن يستبرئها لان الولد من النكاح مملوك ومن ملك اليمين حر فاستحب أن يميز بينهما
(فصل)
وان كانت أمته ثم رجعت إليه بالفسخ، أو باعها ثم رجعت إليه بالاقالة لزمه أن يستبرئها لانه زال ملكه عن استمتاعها بالعقد وعاد بالفسخ فصار كما لو باعها ثم استبرأها، فإن رهنها ثم فكها لم يجب الاستبراء لان بالرهن لم يزل ملكه عن استمتاعها لان له أن يقبلها وينظر إليها بالشهوة.
وإنما منع من وطئها لحق المرتهن وقد زال حقه بالفكاك فحلت له.
وان ارتد المولى ثم أسلم أو ارتدت الامة ثم أسلمت وجب استبراؤها لانه زال ملكه عن استمتاعها بالردة وعاد بالاسلام.
وإن زوجها ثم طلقت، فإن كان قبل الدخول لم تحل له حتى يستبرئها، لانه زال ملكه عن استمتاعها وعاد بالطلاق، وان كان بعد الدخول وانقضاء العدة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تحل له حتى يستبرئها لانه تجدد له الملك على استمتاعها فوجب استبراؤها، كما لو باعها ثم اشتراها
(والثانى)
تحل له وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لان الاستبراء يراد لبراءة الرحم وقد حصل ذلك بالعدة

(فصل)
ومن وجب استبراؤها حرم وطؤها، وهل يحرم التلذذ بها بالنظر والقبلة؟ ينظر فيه فإن ملكها ممن له حرمة لم يحل له، لانه لا يؤمن أن تكون

(18/202)


أم ولد لمن ملكها من جهته، وان ملكها ممن لاحرمة له كالمسبية ففيه وجهان.
أحدهما لا تحل له لان من حرم وطئها بحكم الاستبراء حرم التلذذ بها، كما لو ملكها ممن له حرمة.
والثانى أنها تحل لما روى عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال " خرجت في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها ابريق فضة، فما ملكت نفسي أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون " ولان المسبية يملكها حاملا كانت أو حائلا فلا يكون التلذذ بها الا في ملكه، وانما منع من وطئها حتى لا يختلط ماؤه بماء مشرك، ولا يوجد هذا في التلذذ بالنظر والقبلة، وان وطئت زوجته بشبهة لم يحل له وطؤها قبل انقضاء العدة لانه يؤدى إلى اختلاط المياه وافساد النسب وهل له التلذذ بها في غير الوطئ على ما ذكرناه من الوجهين في المسبية لانها زوجته حاملا كانت أو حائلا
(فصل)
ومن ملك أمة جاز له بيعها قبل الاستبراء لانا قد دللنا على أنه يجب على المشترى الاستبراء فلم يجب على البائع لان براءة الرحم تحصل باستبراء المشترى، وان أراد تزويجها نظرت فإن لم يكن وطئها جاز تزويجها من غير استبراء لانها لم تصر فراشا له، وان وطئها لم يجز تزويجها قبل الاستبراء لانها صارت بالوطئ فراشا له.

(فصل)
وان أعتق أم ولده في حياته أو عتقت بموته لزمها الاستبراء لانها صارت بالوطئ فراشا له وتستبرأ كما تستبرأ المسبية لانه استبراء بحكم اليمين فصار كاستبراء المسبية، وان أعتقها أو مات عنها وهي مزوجة أو معتدة لم يلزمها الاستبراء لانه زال فراشه قبل وجوب الاستبراء فلم يلزمها الاستبراء، كما لو
طلق امرأته قبل الدخول ثم مات، ولانها صارت فراشا لغيره فلا يلزمها لاجله استبراء.
وان زوجها ثم مات ومات الزوج ولم يعلم السابق منهما لم يخل اما أن يكون بين موتهما شهران وخمسة أيام فما دون أو أكثر أو لا يعلم مقدار ما بينهما فإن كان بينهما شهران وخمسة أيام فما دون لم يلزمها الاستبراء عن المولى لانه ان كان المولى مات أولا فقد مات وهي زوجة فلا يجب عليها الاستبراء، وان مات الزوج أولا فقد مات المولى بعده وهى معتدة من الزوج فلا يلزمها الاستبراء وعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد موت أحدهما لانه يجوز أن يكون

(18/203)


قد مات المولى أولا فعتقت ثم مات الزوج فيلزمها عدة حرة، وان كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال لزمها أن تعتد من بعد آخرهما موتا بأكثر الامرين من أربعة أشهر وعشر أو حيضة، لانه ان مات الزوج أولا فقد اعتدت عنه بشهرين وخمسة أيام وعادت فراشا للمولى، فإذا مات لزمها أن تستبرئ بحيضة، وان مات المولى أولا لم يلزمها استبراء فإذا مات الزوج لزمتها عدة حرة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين، وان لم يعلم قدر مابين المدتين من الزمان وجب أن تأخذ بأغلط الحالين، وهو أن يكون بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشر أو حيضة ليسقط الفرض بيقين كما يلزم من نسى صلاة من صلاتين قضاء الصلاتين ليسقط الفرض بيقين ولا يوقف لها شئ من تركة الزوج لان الاصل فيها الرق فلم تورث مع الشك
(فصل)
وان كانت بين رجلين جارية فوطئاها ففيها وجهان، أحدهما يجب استبراء ان لانه يجب لحقهما فلم يدخل أحدهما في الآخر كالعدتين.
والثانى يجب استبراء واحد، لان القصد من الاستبراء معرفة براءة الرحم، ولهذا لا يجب الاستبراء بأكثر من حيضة وبراءة الرحم منهما تحصل باستبراء واحد

(فصل)
إذا استبرأ أمته ثم ظهر بها حمل فقال البائع هو منى وصدقه المشترى لحقه الولد والجارية أم ولد له والبيع باطل، وان كذبه المشترى نظرت، فإن لم يكن أقر بالوطئ حال البيع لم يقبل قوله لان الملك انتقل إلى المشترى في الظاهر فلم يقبل اقراره بما يبطل حقه، كما لو باعه عبدا ثم أقر أنه كان غصبه أو أعتقه.
هل يلحقه نسب الولد؟ فيه قولان قال في القديم والاملاء يلحقه لانه يجوز أن يكون ابنا لواحد ومملوكا لغيره وقال في البويطى لايلحقه لان فيه اضرارا بالمشترى لانه قد يعتقه فيثبت له عليه الولاء، وإذا كان ابنا لغيره لم يرثه، فإن كان قد أقر بوطئها عند البيع، فإن كان قد استبرأها ثم باعها نظرت فإن أتت بولد لدون ستة أشهر لحقه نسبه وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا، وان ولدته لستة أشهر فصاعدا لم يلحقه الولد، لانه لو استبرأها ثم أتت بولد وهي في ملكه لم يلحقه، فلان لايلحقه وهى في ملك غيره أولى، فإن لم يكن المشترى قد وطئها كنت الجارية

(18/204)


والولد مملوكين له، وإن كان قد وطئها، فإن أتت بولد لدون ستة أشهر من حين لوطئ فهو كما لو لم يطأها، لانه لا يجوز أن يكون منه وتكون الجارية والولد مملوكين له، وإن أتت بولد لستة أشهر فصاعدا لحقه الولد وصارت الجارية أم ولد له لان الظاهر أنه منه، وإن لم يكن استبرأها البائع نظرت فإن ولدت لدون ستة أشهر من وقت البيع لحق البائع وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا، وإن ولدته لستة أشهر نظرت فإن لم يكن وطئها المشترى فهو كالقسم قبله لانها لم تصر فراشا له، وإن وطئها فولدت لستة أشهر من وطئه عرض الولد على القافة فإن ألحقته بالبائع لحق، به وإن ألحقته بالمشترى لحقه، وقد بينا معكم الجميع (الشرح) حديث أبى سعيد الخدرى أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم
وصححه وإسناده حسن، وهو عند الدارقطني من حديث ابن عباس وأعل بالارسال، وعند الطبراني من حديث أبى هريرة بإسناد ضعيف وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أتى على امرأة مجح على باب فسطاط فقال: لعله يريد أن يلم بها؟ فقالوا نعم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، وكيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له.
وفي مسند أبى داود الطيالسي: وقال " كيف يورثه وهو لا يحل له، وكيف يسترقه وهو لا يحل له " والمجح هي الحامل المقرب وأخرج ابن أبى شيبة من حديث على مرفوعا " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " وفي إسناده ضعف وانقطاع.
قوله " عام أو طاس " هو واد في ديار هوازن.
قال القاضى عياض: وهو موضع الحرب بحنين، وهو ظاهر كلام أصحاب السير.
قال الحافظ بن حجر: والظاهر أن وادى أوطاس غير وادى حنين (أما بعد:) هذا الباب من مفاخر الاسلام، الدالة على أعظم الحكم، وأسمى ضروب التربية على أكرم الفضائل وأطهر المثل، ذلك أن جيش الاسلام حين يظفرون

(18/205)


بعدوهم فيقع في أسرهم النساء على اختلاف ألوانهن، من عذارى كواعب، إلى فنصف بضة تثير شبق الرجال، والرجل المسلم المقاتل قد بعد موضعه عن موطن أهله، وهو في فتوته وشدة بأسه بالمحل الذي يضاعف من شبقه وشهوته، تأتى الشريعة الغراء فنقول له: قف مكانك لاتقرب هذه السبية ولاتنزع عليها وتربص بها حيضة إن كانت حائلا، أو وضعا ان كانت حاملا.
إن لذلك من
الاثر البعيد في تهذيب النفوس وتنمية الارادة وتزكية السلوك المسلم ما يضفى على هذا الركب الورانى الذى يسمى بالجيش الفاتح من الجلال والروعة ما جعل الاسلام يسبقهم بنوره، فتنفتح بهم قلوب غلف.
وأعين عمى.
وآذان صم.
حتى لقد كسدت في أسواقهم تلك الاجساد النسائية المسبية.
وفي هذه الصورة يقول المتنبي في نساء الروم: يبكى عليهن البطاريق في الضحى وهن لدينا ملقيات كواسد بذا قضت الايام مابين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد ثم إن هذه المسبية على ضعفها وعزلائيتها وتجردها قد أحاطها الاسلام بدرعه المنيع وحمايتها من أن تسلب حرية العقدة فلم يبح إكراهها على الاسلام إن أرادت البقاء على دينها قال الامام الشوكاني: ولا يشترط في جواز وطئ المسبية الاسلام، ولو كان شرطا لبينه صلى الله عليه وسلم - ولم يبينه - ولايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وذلك وقتها، ولا سيما وفي المسلمين يوم حنين وغيره من هو حديث عهد بالاسلام يخفى عليهم مثل هذا الحكم.
وتجويز حصول الاسلام من جميع السبايا وهي في غاية الكثرة بعيد جدا، فإن إسلام مثل عدد المسبيات في أوطاس دفعة واحدة من غير إكراه لا يقول بأنه يصح تجويزه عاقل.

(18/206)