المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

كتاب السير

ترجم الكتاب بالسير لان الاحكام المودعة فيه متلقاة من سير رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزواته.
قال الحافظ ابن حجر فمقتضى هذا أن يتتبع ما ذكر فيه ويعزى إلى من خرجه إن وجد.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

من أسلم في دار الحرب ولم يقدر على اظهار دينه وقدر على الهجرة وجبت عليه الهجرة لقوله عز وجل (ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الارض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أنا برئ من كل مسلم مع مشرك، فإن لم يقدر على الهجرة لم يجب عليه لقوله عز وجل (الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) وان قدر على اظهار الدين ولم يخفف الفتنة في الدين لم تجب عليه الهجرة، لانه لما أوجب على المستضعفين دل على أنه لا تجب على غيرهم.
ويستحب له أن يهاجر لقوله عز وجل (لا تتخذوا اليود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) ولانه إذا أقام في دار الشرك كثر سوادهم، ولانه لا يؤمن أن يميل إليهم، ولانه ربما ملك الدار فاسترق ولده (الشرح) قول الله تعالى (ان الذين توفاهم الملائكة..) الآية 97
من سورة النساء.
قول الله تعالى (الا المستضعفين ... ) الآية 98، 99 من سورة النساء قول الله تعالى (لا تتخذوا اليهود ... ) الآية 54 من سورة المائدة الحديث الذى رواه أبو إسحاق الشيرازي في النص بدون ذكر الصحابي فقد أخرجه الترمذي في كتاب السير باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين

(19/262)


عن جرير بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله ولم قال لا تراءى ناراهما) ومن طريق آخر ولم يذكر فيه عن جرير وقال وهذا أصح، وأخرجه أبو داود في كتاب الجهاد عن جرير والنسائي عن معاوية وابن ماجه عن جرير.
وذكر أبو داود أن جماعة رووه مرسلا والترمذي مرسلا وقال أصح، وذكر أن أكثر أصحاب اسماعيل يعنى ابن أبى خالد لم يذكروا فيه جريرا وذكر عن البخاري أنه قال الصحيح مرسل ولم يخرجه النسائي إلا مرسلا، ورواه الطبراني موصولا.
اللغة (السير) جمع سيرة وهو الطريق (المهاجرة) من أرض إلى أرض هي ترك الاولى للثانية، والجهاد مشتق من الجهد وهو المشقة.
يقال أجهد دابته إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، وقيل هو المبالغة واستفرغ ما في الوسع، يقال جهد الرجل في كذا، أي جد فيه وبالغ، ويقال أجهد جهدك في هذا الامر أي وأبلغ غايتك.
وقوله تعالى (وجاهدوا في الله حق جهاده وأقسموا بالله جهد أيمانهم) أي بالغوا في اليمين واجتهدوا فيها.
والغزو أصله الطلب، يقال ما مغزاك من هذا الامر، أي ما مطلبك،
وسمى الغازى غازيا لطلبه الغزو وجمعه غزاة وغزى كناقص ونقص (العقل) نصف الدية قوله (من أسلم في دار الحرب) قلت: رويت أحاديث توافق ما ذكر أو تعارضه وهاك عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله) رواه أبو داود.
وعن معاوية: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الخطابى معلول وعن ابن عباس: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا.
رواه الجماعة الا ابن ماجه لكن له منه: إذا استنفرتم فانفروا.
وروت عائشة متنه، متفق عليه، والاول قال الذهبي فيه اسناده مظلم لا تقوم بمثله حجة،

(19/263)


وقد اختلف في الجمع بين الاحاديث، فقال الخطابى وغيره كانت الهجرة فرضا في أول الاسلام على من أسلم لقلة المسليمن بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقى فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو.
اه قال الحافظ وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من اذى من يؤذيه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت الآية (ان الذين توفاهم..) وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها.
وقال الماوردى: إذا قدر على اظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلدة دار اسلام فالاقامة فيها أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره في الاسلام، ولا يخفى ما في هذا الرأى من المصادمة لاحاديث الباب القاضية
بتحريم الاقامة في دار الكفر.
وقال البغوي في شرح السنة: يحتمل الجمع بطريق أخرى، فقوله لاهجرة بعد الفتح، أي من مكة إلى المدينة.
وقوله لا تنقطع، أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الاسلام، قال ويحتمل وجها آخر وهو أن قوله لاهجرة، أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه الا بإذن.
فقوله لا تنقطع، أي هجرة من هاجر على غير هذا من الاعراب ونحوهم، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الاسماعيلي بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار.
أي مادام في الدنيا دار كفر فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشى أن يفتن على دينه.
واطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة وأن من أقام بمكة بعد هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى المدينة بغير عذر كان كافرا.
قال الحافظ وهو اطلاق مردود، وقال ابن العربي الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار السلام وكانت فرضا في عهد النبي (ص) واستمرت بعده لمن خاف على نفسه والتى انقطعت أصلا هي القصد إلى حيث كان.

(19/264)


وقد حكى في البحر أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعا حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الامام بقوته لسلطانه، وقد ذهب جعفر بن مبشر والهادوية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق قياسا على دار الكفر، وهو قياس مع الفارق والحق عدم وجوبها من دار الفسق لانها دار الاسلام.
وقال الامام ابن تيمية: المشابهة والمشاكلة في الامور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الامور الباطنة، والمشابهة في الهدى الظاهر توجب مناسبة وائتلافا وإن بعد
الزمان والمكان أمر محسوس فمرافقتهم ومساكنتهم ولو قليلا سبب لنوع ما من انتساب أخلاقهم التى هي ملعونة وما كان مظنة لفساد خفى غير منضبط علق الحكم به وأدير التحريم عليه، فمساكنتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في الاخلاق والافعال المذمومة بل في نفس الاعتقادات فيصير مساكن الكافر مثله وأيضا في المشاركة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا مما يشهد به الحس، فإن الرجلين إذا كانا من بلد واجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم بموجب الطبع، وإذا كانت في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في الامور الدينية، فالموالاة للمشركين تافى الايمان (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وقال ابن القيم في كتاب الهدى: ومنع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اقامة المسلم بين المشركين إذا قدر على الهجرة من بينهم.
وقال لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
وقال: ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الارض ألزمهم مهاجرا ابراهيم ويبقى في الارض شرار أهلها، يلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، ويحشرهم الله مع القردة والخنازير.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والجهاد فرض، والدليل عليه قوله عز وجل (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) وقوله تعالى (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) وهو فرض

(19/265)


على الكفاية إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لقوله عز وجل (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله
بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى) ولو كان فرضا على الجميع لما فاضل بين من فعل وبين من ترك، ولانه وعد الجميع بالحسنى فدل على أنه ليس بفرض على الجميع وروى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلى بنى لحيان وقال ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعدين أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج، ولانه لو جعل فرضا على الاعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدى ذلك إلى خراب الارض وهلاك الخلق.

(فصل)
ويستحب الاكثار منه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أفضل؟ قال الايمان بالله ورسوله وجهاد في سبيل الله.
وروى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا ابا سعيد من رضى بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نبيا وجبت له الجنة، فقال أعدها يا رسول الله ففعل ثم قال وأخرى يرفع الله بها للعبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض، قلت وما هي يا رسول الله؟ قال الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال والذى نفسي بيده لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل.
وكان أبو هريرة يقول ثلاثا أشهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالها ثلاثا، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزاسبعا وعشرين غزوة وبعث خمسا وثلاثين سرية
(فصل)
وأقل ما يجزئ في كل سنة مرة، لان الجزية تجب في كل سنة مرة
وهى بدل عن القتل فكذلك القتل، ولان في تعطيله في أكثر من سنة يطمع العدو في المسلمين، فإن دعت الحاجة في السنة إلى أكثر من مرة وجب لانه

(19/266)


فرض على الكفاية، فوجب منه ما دعت الحاجة إليه، فإن دعت الحاجة إلى تأخيره لضعف المسلمين أو قلة ما يحتاج إليه من قتالهم من العدة أو للطمع في إسلامهم ونحو ذلك من الاعذار جاز تأخيره لان النبي صلى الله عليه وسلم أخر قتال قريش بالهدنة وأخر قتال غيرهم من القبائل بغير هدنة، ولان ما يرجى من النفع بتأخيره أكثر مما يرجى من النفع بتقديمه فوجب تأخيره
(فصل)
ولا يجاهد أحد عن أحد بعوض وغير عوض لانه إذا حضر تعين عليه الفرض في حق نفسه، فلا يؤديه عن غيره، كما لا يحج عن غيره وعليه فرضه.
(الشرح) حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (بعث إلى بنى لحيان..) أخرجه مسلم وأبو داود في الجهاد بلفظ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى بنى لحيان وقال ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعد أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) وفى رواية أخرى لمسلم (بعث بعثا إلى بنى لحيان من هذيل، فقال ليبعث من كل رجلين أحدهما والاجر بينهما) حديث أبى هريرة رضى الله عنه (أي الاعمال أفضل..) أخرجه الترمذي في باب فضائل الجهاد بلفظ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الاعمال أفضل أو أي الاعمال خير؟ قال إيمان بالله ورسوله، قيل ثم أي شئ؟ قال الجهاد سنام العمل، قيل ثم أي شئ يا رسول الله؟ قال ثم حج مبرور) وفى رواية للبخاري (قيل ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله) كما أخرجه الشيخان والنسائي
حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (من رضى بالله ربا..) أخرجه النسائي في الجهاد وأبو داود ومسلم في الجهاد بلفظ (من رضى بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة، فعجب أبو سعيد فقال أعدها على يا رسول الله؟ ففعل، ثم قال وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض، قال وما هي يا رسول الله؟ قال الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله

(19/267)


حديث أبى هريرة رضى الله عنه (والذى نفسي بيده لوددت..) أخرجه البخاري في الجهاد، التمنى، النسائي في الجهاد والحاكم ومسلم في الجهاد ولفظه في مسلم (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلى وإيمانا بى وتصديق برسلى فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذى خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذى نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك، والذى نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لاأجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يختلفوا عنى، والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) ومن طريق آخر به (والذى نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيى..) (أثر) روى أن النبي (ص) غزا سبعا وعشرين غزوة) فقد أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى اللغة: الغزوات جمع غزوة وأصل الغزو القصد، ومغزى الكلام مقصده والمراد بالغزوات ما وقع من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه
(غير أولى الضرر) هم الاعمى والاعرج والمريض (بنو لحيان) بطن هذيل بكسر اللام (السرية) قطعة من الجيش من خمسين إلى أربعمائة اختارهم الامير مأخوذ من السرى وهو الجهد، وقيل سميت السرية سرية لانها تستخفي في قصدها فتسرى ليلها، وهى فعلية بمعنى فاعلة، يقال سرى وأسرى ولا يكون إلا بالليل (هدنة) هي ترك الحرب وأصلها للسكون قوله (الجهاد فرض) حكى عن ابن شبرمة والثوري أن الجهاد تطوع وليس بفرض، وقالوا (كتب عليكم القتال) ليس على الوجوب بل على الندب كقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) وقد روى عن ابن عمر نحو ذلك وإن كان مختلفا في صحة الرواية عنه وروى عن عطاء وعمرو بن دينار عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أواجب

(19/268)


الغزو على الناس؟ فقال هو وعمروبن دينار ما علمناه وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الامصار أن الجهاد فرض إلى يوم القيامة إلا أنه فرض على الكفاية إذا قال به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه.
وذكر أن سفيان الثوري كان يقول ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه ويجزى فيه بعضهم على بعض، وبهذا يكون مذهبه فرض على الكفاية ان صح القول عنه.
(قلت) والجهاد فرض عين على كل مسلم إذا انتهكت حرمة المسلمين في أي بلد فيه لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وكان على الحاكم أن يدعو للجهاد وأن يستنفر المسلمين جميعا، وكانت الطاعة له واجبة بل فريضة كالفرائض الخمس، لقول الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) ولقول معمر كان مكحول يستقبل القبلة
ثم يحلف عشر أيمان أن الغزو واجب، ثم يقول ان شئتم زدتكم ولما روى عن بشير بن الخصاصية قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبايعه فقال علام تبايعني يا رسول الله؟ فمد رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فقال على أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبد الله ورسوله، وتصلى الصلوات الخمس المكتوبات لوقتهن، وتؤدى الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله كلا لا أطيق إلا اثنتين إبتاء الزكاة فما لى إلا حمولة أهلى وما يقومون به، وأما الجهاد فأنى رجل جبان، فإنى أخاف أن تخشع نفسي فأفر فأبوء بغضب من الله، فقبض رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ وقال: يا بشير لا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة، فقلت يا رسول الله أبسط يدك، فبسط يده فبايعته عليهن.
وغير هذا كثير جدا نكتفي بهذا.
أما جزاؤه فالجنة، يشهد بذلك ما يردده القرآن على مسامعنا (إن الله اشترى من المؤمنين.
بأن لهم الجنة) وما امتلات به كتب السنة جميعها أَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا سبعا وعشرين غزوة، فقد ورد في الترمذي عن زيد بن أرقم قال (تسع عشرة) قال الحافظ في الفتح: لكن روى أبو يعلى من طريق أبى الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون.

(19/269)


وإسناده صحيح وأصله في مسلم، ثم قال وقد توسع ابن سعد فبلغ عدة المغازى التى خرج فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه سبعا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي وهو مطابق لما عده ابن إسحاق وأخرج عبد الرزاق بإسناده صحيح عن سعيد بن المسيب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاو عشرين، وأما البعوث والسرايا فعند ابن إسحاق ستا وثلاثين، وعندا لواقدي ثمانيا وأربعين، وحكى ابن الجوزى في التلقيح ستا
وخمسين وعند المسعودي ستين وو قع عند الحاكم في الاكليل أنها تزيد على المائة وقوله (ولا يجاهد احد..) فهو إجمع فقهاء الامة وعلماء المسلمين، كما لا يجوز أن يحج عن غيره قبل أدائه الفريضة، فارجع إلى كتاب الحج وراجع حديث شبرمة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجب الجهاد على المرأة لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجهاد فقال (جهاد كن الحج، أو حسبكن الحج) ولان الجهاد هو القتال وهن لا يقاتلن، ولهذا رأى عمر بن أبى ربيعة امرأة مقتولة فقال إن من أكبر الكبائر عندي
* قتل بيضاء حرة عطبول كتب القتل والقتال علينا
* وعلى الغانيات جر الذيول ولا يجب على الخنثى المشكل لانه يجوز أن يكون امرأة فلا يجب عليه بالشك ولا يجب على العبد لقوله عز وجل (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) والعبد لا يجد ما ينفق.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا أسلم عنده رجل لا يعرفه قال أحر هو أو مملوك، فإن قال أنا حر بايعه على الاسلام والجهاد، وإن قال أنا مملوك بايعه على الاسلام ولم يبايعه على الجهاد، ولانه عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فلا يجب على العبد كالحج
(فصل)
ولا يجب على الصبى والمجنون لما روى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ

(19/270)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ.
وروى عروة بن الزبير قال (رد رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بدر كفرا من أصحابه استصغرهم، منهم عبد الله بن عمر وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة وأسامة بن زيد والبراء بن ازب وزيد بن ثابت وزيدبن أرقم وعرابة ابن أوس ورجل من بنى حارثة، فجعلهم حرسا للذراري والنساء، ولانه عبادة على البدن فلا يجب على الصبى والمجنون كالصوم والصلاة والحج
(فصل)
ولا يجب على الاعمى لقوله عز وجل (ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج) ولا يختلف أهل التفسير أنها في سورة الفتح أنزلت في الجهاد، ولانه لا يصلح للقتال فلم يجب عليه، وان كان في بصره شئ فإن كان يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح وجب عليه لانه بقدر على القتال، وإن لم يدرك ذلك لم يجب عليه لانه لا يقدر على القتال ويجب على الاعور والاعشى، وهو الذى يبصر بالنهار دون الليل لانه كالبصير في القتال ولا يجب على الاعرج الذى يعجز عن الركوب والمشى للآية، ولانه لا يقدر على القتال، ويجب عليه إذا قدر على الركوب والمشى لانه يقدر على القتال، ولا يجب على الاقطع والاشل لانه يحتاج في القتال إلى يد يضرب بها ويد يتقى بها، وان قطع أكثر أصابعه لم يجب عليه لانه لا يقدر على القتال، وان قطع الاقل وجب عليه لانه يقدر على القتال ولا يجب على المريض الثقيل للآية، ولانه لا يقدر على القتال ويجب على من به حمى خفيفة أو صداع قليل لانه يقدر على القتال.

(فصل)
ولا يجب على الفقير الذى لا يجد ما ينفق في طريقه فاضلا عن نفقة عياله لقوله عز وجل (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) فإن كان القتال على باب البلد أو حواليه وجب عليه، لانه لا يحتاج إلى نفقة الطريق، وإن على مسافة تقصر فيها الصلاة ولم يقدر على مركوب يحمله لم يجب عليه
لقوله عز وجل (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون)

(19/271)


لانها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فلم تجب من غير مركوب كالحج، وإن بذل له الامام ما يحتاج إليه من مركوب وجب عليه أن يقبل ويجاهد، لان ما يعطيه الامام حق له، وان بذل له غيره لم يلزمه قبوله، لانه اكتساب مال لتجب به العبادة فلم يجب كاكتساب المال للحج والزكاة (الشرح) حديث عائشة أخرجه البخاري بلفظ (عن عائشة قالت اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الجهاد فقال جهادكن الحج وفى رواية أخرى (سأله نساؤه عن الجهاد فقال نعم الجهاد الحج) وفى رواية ثالثة عنها أنها قالت يا رسول الله ترى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ لَكِنْ أفضل الجهاد حج مبرور) حديث على أخرجه أبو داود والحاكم والترمذي وابن ماجه (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبى حتى يحتلم) و (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ وعن الصبى حتى يكبر) و (رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبى حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل اللغة: قوله (حسبكن الحج) أي يكفيكن الحج، أي حسبكن من المشقة والتعب ما تجدن من ألم السير للحج ومشقته، قال الله تعالى (يا أيها النبي حسبك الله) أي كافيك الله، يقال أحسبنى الشئ أي كفانى.
قوله (حرة عطبول) الحرة الخالصة الحسب البرية من الريب.
والحر الخالص من كل شئ.
والعطبول المرأة الحسناء مع تمام خلق وتمام طول، وهذه المرأة ابنة النعمان بن بشير امرأة المختار بن أبى عبيد قتلها مصعب بن الزبير
حين قتله فأنكر الناس عليه ذلك وأعظموه لارتكابه مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله (كتب القتل) أي فرض وأوجب، والغانيات جمع غانية، وهى التى استغنت بزوجها عن غيره، وقيل استغنت بحسنها عن لباس الحلى والزينة.
وجر الذيول أراد ما تجره المرأة خلفها من فضل ثوبها، وهو منهى عنه مكروه وبعد البيتين: قتلت باطلا على غير شئ
* إن الله درها من قتيل

(19/272)


قوله (فجعلهم حرسا للذراري) جمع حارس، والحراسة هي الحفظ، حرسه حراسة أي حفظه، ومنه حرس السلطان الذين يحفظونه قوله (وصابرا محتسبا) أي طالبا للثواب قوله (التقاء الزحفين) الزحف الجيش، يزحفون إلى العدو أي يمشون قوله (التغرير) التغرير بالنفس المخاطرة والتقدم على غير ثقة وما يؤدى إلى الهلاك.
قوله: ولا يجب الجهاد.
قلت لا يجب عليها القتال، أما خروجها للغزو فقد أخرج أبو داود عن أنس بن مالك قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الانصار يسقين الماء ويداوين الجرحى.
وروى أن نسوة خرجن معه فأمر بردهن.
وقال الامام الخطابى في الحديث الاول دلالة على جواز الخروج بهن في الغزو لنوع من الرفق والخدمة، ثم قال يشبه أن يكون رده إياهن لاحد معنيين، إما أن يكون في حال ليس بالمستظهر بالقوة الغلبة على العدو فخاف عليهن فردهن أو يكون الخارجات معه من حداثة السن الجمال بالموضع الذى يخاف فتنتهن.
وقال الشوكاني: لا يجوز قتل النساء والصبيان، وإلى ذلك ذهب مالك
والاوزاعي، وذهب الشافعي والكوفيون إلى أنه إذا قاتلت المرأة جاز قتلها.
وقال ابن حبيب من المالكية لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا إن باشرت القتل أو قصدت إليه، ويدل على ما رواه أبو داود في المراسيل عن عكرمة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بامرأة مقتولة يوم حنين فقال من قتل هذه؟ فقال رجل أنا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سبقي لتقتلني فقتلتها، فلم ينكر عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووصله الطيرانى في الكبير وفيه حجاج بن أرطاة، ونقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على المنع من القصد إلى قتل النساء والولدان، ولا يوجب القتال على الصبى والاعمى والاعرج ولا على من لا يجد القوة عليه مالا أو جسدا.

(19/273)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجب على من عليه دين حال أن يجاهد من غير إذن غريمه، لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله كفر الله خطاياى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله خطاياك إلا الدين، كذلك قال لى جبريل، ولان فرض الدين متعين عليه فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم عنه غيره مقامه، فإن استناب من يقضيه من مال حاضر جاز لان الغريم يصل إلى حقه، وإن كان من مال غائب لم يجز لانه قد يتلف فيضيع حق الغريم، وإن كان الدين مؤجلا ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز أن يجاهد من غير إذن الغريم كما يجوز أن يسافر لغير الجهاد
(والثانى)
أنه لا يجوز لانه يتعرض للقتل طلبا للشهادة فلا يؤمن أن يقتل فيضيع دينه.
(الشرح) حديث أبى قتادة رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه ولاحمد والنسائي من حديث أبى هريرة مثله ولفظه (عن أبى قتادة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والايمان بالله أفضل الاعمال، فقام رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عنى خطاياى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف قلت؟ قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عنى خطاياى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لى كذلك) لا يجوز لمن عليه دين أن يخرج إلى الجهاد الا بإذن من له الدين لانه حق لآدمي والجهاد حق الله تعالى وينبغى أن يلحق بذلك سائر حقوق الآدميين كدم وعرض لعدم الفرق بين حق وحق، وقد استدل بحديث عبد الله بن عمرو

(19/274)


يغفر الله للشهيد كل ذنب الا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لى ذلك رواه مسلم وأحمد على عدم جواز خروج المديون إلى الجهاد بغير اذن غريمه أن الدين يمنع من فائدة الشهادة وهى المغفرة العامة وذلك يبطل ثمرة الجهاد، وقد أشار صاحب البحر إلى مثل ذلك فقال ومن عليه دين حال لم يخرج إلا بإذن الغريم لقوله صلى الله عليه وسلم نعم الا الدين.
الخبر، فإذا منع الشهادة بطلت ثمرة الجهاد.
اه ولا يخفى ان بقاء الدين في ذمة الشهيد لا يمنع من الشهادة بل هو شهيد مغفور له كل ذنب الا الدين وغفر ان ذنب واحد يصح جعله ثمرة للجهاد فكيف بمغفرة جميع الذنوب الا واحدا منها، فالقول بأن ثمرة الشهادة مغفرة جميع الذنوب
ممنوع كما أن القول بأن عدم غفران ذنب واحد يمنع من الشهادة ويبطل ثمرة الجهاد ممنوع أيضا وغاية ما اشتملت عليه الاحاديث هو أن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه الا الدين، وذلك لا يستلزم عدم جواز الخروج إلى الجهاد الا بإذن من له الدين، بل ان أحب المجاهد أن يكون جهاده سببا لمغفرة كل ذنب استأذن صاحب الدين في الخروج، وان رضى بأن يبقى عليه ذنب واحد منها جاز له الخروج بدون استئذان، وهذا إذا كان الدين حالا وأما كان مؤجلا ففى ذلك وجهان قال الامام يحيى أصحهما يعتبر الاذن أيضا إذ الدين مانع للشهادة وقيل لا كالخروج للتجارة قال في البحر ويصح الرجوع عن الاذن قبل التحام القتال إذ الحق له لا بعده لما فيه من الوهن
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان أحدا أبويه مسلما لم يجز أن يجاهد بغير إذنه لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد، فقال أحى والداك؟ قال نعم، قال ففيهما فجاهد.
وروى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال، سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ، فقال الصلاة لميقاتها، قلت ثم ماذا؟ قال بر الوالدين، قلت ثم ماذا؟

(19/275)


قال الجهاد في سبيل الله، فدل على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد، ولان الجهاد فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره، وبر الوالدين فرض يتعين عليه لانه لا ينوب عنه فيه غيره، ولهذا قال رجل لابن عباس رضى الله عنه إنى نذرت أن أغزوا الروم وأن أبوى منعاني، فقال أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك.
وإن لم يكن له أبوان وله جدا أو جدة لم يجز أن يجاهد من غير إذنهما،
لانهما كالابوين في البر، وان كان له أب وجد أو أم وحدة فهل يلزمه استئذان الاب مع الجد أو استئذان الجدة مع الام فيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه لان الاب والام يحجبان الجد وللجدة عن الولاية والحضانة
(والثانى)
يلزمه وهو الصحيح عندي لان وجود الابوين لا يسقط بر الحدين ولا ينقص شفقتهما عليه.
وان كان الابوان كافرين جاز أن يجاهد من غير إذنهما لانهما متهمان في الدين، وان كانا مملوكين فقد قال بعض أصحابنا أنه يجاهد من غير اذنهما لانه لا إذن لهما في أنفسهما فلم يعتبر اذنهما لغيرهما قال الشيخ الامام وعندي أنه لا يجوز أن يجاهد الا بإذنهما، لان المملوك كالحر في البر والشفقة فكان كالحر في اعتبار الاذن.
وان أراد الولد أن يسافر في تجارة أو طلب علم جاز من غير اذن الابوين لان الغالب في سفره السلامة
(فصل)
وان أذن الغريم لغريمه أو الوالد لولده ثم رجعا أو كانا كافرين فأسلما، فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج الا بالاذن، وان كان بعد التقاء الزحفين ففيه قولان أحدهما أنه لا يجوز أن يجاهد الا بالاذن لانه عذر يمنع وجوب الجهاد فإذا طرا منع من الوجوب كالعمى والمرض والثانى أنه يجاهد من غير اذن، لانه اجتمع حقان متعينان وتعين الجهاد سابق فقدم، وان أحاط العدو بهم تعين فرض الجهاد وجاز من غير اذن الغريم ومن غير اذن الابوين، لان ترك الجهاد في هذه الحالة يؤدى إلى الهلاك فقدم على حق الغريم والابوين.

(19/276)


(الشرح) حديث عبد الله بن عمرو رواه البخاري والنسائي وأبو داود
والترمذي وصححه، ولمسلم من طريق آخر (ارجع إلى والدتك فأحسن صحبتها) حديث ابن مسعود قَالَ (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أي العمل أحب إلى الله قال الصلاة على وقتها، قلت ثم أي؟ قال بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله، حدثنى بهن ولو استزدئه لزادنى) متفق عليه قال الشوكاني: يجب استئذان الابوين في الجهاد، وبذلك قال الجمهور وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع منه الابوان أو أحدهما، لان برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن، ويشهد له ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو قال، جاء رجل إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن أفضل الاعمال قال الصلاة، قال ثم مه؟ قال الجهاد، قال فإن لى والدين، فقال آمرك بوالديك خير، فقال والذى بعثك نبيا لاجاهدن ولا تركنهما قال فأنت أعلم، وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الاحاديث، وهذا بشرط أن يكون الابوان مسلمين.
وهل يلحق بهما الجد والجدة؟ الاصح عند الشافعية ذلك، وظاهره عدم الفرق بين الاحرار والعبيد.
اه قال ابن حزم ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الابوين إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم أذن الابوان أم لا يأذنا إلا أن يضيعا أو أحدهما بعده فلا يحل له ترك من يضيع منهما
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويكره الغزو من غير اذن الامام أو الامير من قبله، لان الغزو على حسب حال الحاجة، والامام الامير أعرف بذلك، ولا يحرم لانه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفس والتغرير بالنفس يجوز في الجهاد
(فصل)
ويجب على الامام أن يشحن ما يلى الكفار من بلاد المسلمين يجيوش يكفون من يليهم ويستعمل عليهم امراء ثقات من أهل الاسلام مدبرين
لانه إذا لم يفعل ذلك لم يؤمن إذا توجه في جهة الغزو أن يدخل العدو من جهة أخرى فيملك بلاد الاسلام

(19/277)


وإن احتاج إلى بناء حصن أو حفر خندق فعل، لان النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق.
وقال البراء بن عازب رأيت النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ينقل التراب حتى وارى التراب شعره وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة وهو يقول (اللهم لولا أنت ما اهدينا
* ولا تصدقنا ولاصلينا
* فأنزلن سكينة علينا
* وثبت الاقدام إن لاقينا، وإذا أراد الغزو وبدأ بالاهم فالاهم لقوله عز وجل (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) فإذا استوت الجهاد في الخوف اجتهد وبدأ بأهمها عنده.
(الشرح) حديث البراء بن عازب أخرجه البخاري في الجهاد ومسلم في المغازى اللغة: قوله (ويجب أن يشحن) أي يملا.
يقال شحنت البلد بالخيل ملاته وبالبلد شحنة من الخيل أي رابطة، قال الله تعالى (في الفلك المشحون) أي المملوء قوله (مدبرين) المدبر الذى ينظر في دبر الامر أي عاقبته قوله (برجز عبد الله ابن رواحة وهو يقول اللهم لولا أنت ما اهتدينا) فيه خزم من طريق العروض ويستقيم وزونه لاهم والالف واللام زائدتان على الوزن، وذلك يجئ في الشعر كما روى عن على كرم الله وجهه أشدد حيازيمك للمو
* ت فإن الموت لاقيكا ولا تجزع من المو
* ت إذا حل بواديكا فإن قوله اشدد خزم كله، والخزم بالزاى وزنه مفاعيلن ثلاث مرات وهو هزج قوله (فأنزلن سكينة علينا) السكينة فعيلة من السكون وهو الوفار والطمأنينة وما يسكن به الانسان، وقيل هي الرحمة، فيكون المعنى أنزل علينا رحمة أو ما تسكن
به قلوبنا من خوف العدو ورعبه.
وأما السكينة التى في القرآن في قوله تعالى (التابوت فيه سكينة من ربكم) قيل له وجه مثل وجه الانسان ثم هي بعد ريح هفافة.
وقيل لها رأس مثل رأسالهر وجناحان، وهى من أمر الله عزوجل، ولعلهم كانوا ينتصرون بها كما نصر بها طالوت على جالوت قوله (وثبت الاقدام ان لا قينا) يقال رجل ثبت في الحرب وثبت، أي لا يزول عن مكانه عند لقاء العدو، وقال الله تعالى (وثبت أقدامنا) ويجوز أن

(19/278)


يكون ثابت القلب كما قيل.
ثبت إذا صبح بالقوم وفر.
قوله (عرض الجيش) يقال عرضت الجيش أي أظهرتهم فنظرت ما حولهم، وكذلك عرضت الجارية على البيع عرضا، أي أظهرتها لذلك.
وقوله (ولا يأذن لمخذل) هو الذى يقول بالكفار وكثرة خيلهم جيدة وما شاكله يقصد بذلك خذلان المسلمين، وهو التخلف عن النصرة وترك الاعانة، يقال للظبى إذا تخلف عن القطيع خذل، ويقال خذلت الوحشية إذا أقامت على ولدها وتخلفت، قال طرفة: خذول تراعى ربربا بحميلة قال أبو بكر الحصاص في أحكام القرآن: الجهاد واجب مع الفساق كوجوبه مع العدول وسائر الآية الموجبة لفرض الجهاد لم يفرق بين فعله مع الفساق ومع العدول الصالحين، وأيضا فان الفساق إذا جاهدوا فهم مطيعون في ذلك.
وقال ابن حزم: ومن أمره الامير بالجهاد إلى دار الحرب ففرض عليه أن يطبعه في ذلك إلا من له عذر قاطع.
وقال الشوكاني: ان الجهاد لا يزال ما دام الاسلام والمسلمون إلى ظهور الدجال، وأخرج أبو داود وأبو يعلى مرفوعا وموقوفا من حديث أبى هريرة (الجهاد ماض مع البر والفاجر) ولا بأس بإسناده إلا أنه من رواية مكحول
عن أبى هريرة ولم يسمع منه، ثم قال لافرق في حصول فضيلة الجهاد بين أن يكون الغزو مع الامام العادل أو الجائر (قلت) أما كراهة الغزو إلا بإذن الامام فحقا إلا إذا تخاذل الامام ونكص على عقبيه فقد وقع الفرض على المسلمين بالقتال فورا، أما وجوب الاستعداد بكافة الاسلحة على اختلاف أنواعها فقد أوجبها المصدر الاول للمسلمين إذ يقول الله عز وجل (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) .

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا أراد الخروج عرض الجيش ولا يأذن لمخذل ولا لمن يعاون الكفار بالمكاتبة لقوله عز وجل (لو خرجوا فيكم ما زادواكم إلا خبالا ولاوضعوا

(19/279)


خلالكم يبغونكم الفتنة) قيل في التفسير لاوقعوا بينكم الاختلاف، وقيل لا شرعوا في تفريق جمعكم، ولان في حضورهم إضرار بالمسلمين ولا نستعين بالكفار من غير حاجة، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين، فقال له تؤمن بالله ورسوله قال: لا، قال فارجع فلن أستعين بمشرك، فان احتاج أن يستعين بهم فان لم يكن من يستعين به حسن الرأى في المسلمين لم نستعن به، لان ما يخاف من الضرر بحضورهم أكثر مما يرجى من النفعة، وان كان حسن الرأى في المسلمين جاز أن نستعين بهم، لان صفوان بن أمية شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شركه حرب هوازن، وسمع رجلا يقول غلبت هوازن، وقتل محمد فقال بفيك الحجر لرب من قريش أحب إلى من رب من هوازن، وإن احتاج إلى أن يستأجرهم جاز، لانه لا يقع الجهاد له وفى القدر الذى يستأجر به وجهان.

(أحدهما)
لا يجوز له أن تبلغ الاجرة سهم راجل لانه ليس من أهل فرض الجهاد فلا يبلغ حقه سهم راجل كالصبى والمرأة.

(والثانى)
وهو المذهب أنه يجوز، لانه عوض في الاجارة فجاز أن يبلغ قدر سهم الراجل كالاجرة في سائر الاجارات، ويجوز أن يأذن للنساء لما روت الربيع بنت معوذ قالت: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخدم القوم ونسقيهم الماء ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة، ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان لان فيهم معاونة، ولا يأذن لمجنون لانه يعرضه للهلاك من غير منفعة، وينبغى أن يتعاهد الخيل فلا يدخل حطبا وهو الكسير ولا فحما وهو الكبير ولا ضرعا هو الصغير ولا أعجف وهو الهزيل لانه ربما كان سببا للهزيمة ولانه يزاحم به الغانمين في سهمهم ويأخذ البيعة على الجيش أن لا يفروا لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كنا يوم الحديبية ألف رجل وأربعمائة فبايعناه تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت يعنى النبي صلى الله عليه وسلم ويوجه الطلائع ومن يتجسس أخبار الكفار، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ

(19/280)


قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الخندق من يأتينا بخبر القول فقال الزبير أنا، فقال إن لكل نبى حواريا وحواري الزبير والمستحب أن يخرج يوم الخميس، لما روى كعب بن مالك قال: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج في سفر الا يوم الخميس، ويستحب أن يعقد الرايات ويجعل تحت كل راية طائفة، لما روى ابن عباس رضى الله عنه أن أبا سفيان أسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا عباس احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها، قال العباس فحبسته حيث أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومرت به القبائل على راياتها حتى مر بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في الكتبية الخضراء كتيبة فيها المهاجرون والانصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال من هؤلاء يا عباس؟ قال قلت هذا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المهاجرين والانصار، فقال ما لاحد بهؤلاء من قبل، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، والمستحب أن يدخل إلى دار الحرب بتعبية الحرب، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فتح مكة فجعل خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين، وجعل الزبير على الاخرى وجعل أبا عبيدة على الساقة وبطن الوادي، ولان ذلك أحوط للحرب وأبلغ في إرهاب العدو.
(الشرح) حديث عائشة (خرج النبي صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان مجرة الوبرة أدركه رجل قد كان تذكر منه جرأة ونجدة ففرح به أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رأوه، فلما أدركه قال جئت لاتبعك فأصيب معك، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تؤمن بالله ورسوله؟ قال لا، قال فارجع فلن أستعين بمشرك، قالت ثم مضى حتى إذا مر بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال أول مرة فقال لا، قال فارجع فلن أستعين بمشرك،، قال فرجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أو مرة تؤمن بالله ورسوله؟ قال نعم، قال فانطلق) روا احمد ومسلم، وفى رواية أخرى لاحمد (انا لا نستعين بالمشركين على المشركين فأسلمنا وشهدنا معه)

(19/281)


حديث صفوان (قال الحافظ بنى حجر في تلخيص الحبير أنه أعطى عيينه بن حصن والاقرع بن حابس وأبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية) مسلم ثم قال والصواب أنه من الغنائم.
وذكر النووي في شرح مسلم (وقد جاء في الْحَدِيثُ الْآخَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه، وذكره الشوكاني ولم يشر إلى مخرجه، وبالبحث عنه في مسلم لم أعثر عليه ولكن أخرج أبو داود في مراسيله والترمذي عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم استعان بناس من اليهود في خبير في حربه فأسهم لهم) حديث الربيع بنت معوذ أخرجه البخاري وأحمد (جابر (كنا يوم الحديبية) مسلم في المغازى والترمذي في السير والنسائي في البيعة.
حديث جابر (من يأتينا بخبر القوم) متفق عليه حديث كعب رواه البخاري ومسلم بلفظ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يجب أن يخرج يوم الخميس حديث ابن عباس في البخاري رواه ابن سعد في الطبقات وكتب السيرة وأبو بنحوه حديث أبو هريرة جزء من حديث أخرجه أحمد وأبو داود ومسلم والنسائي اللغة: قوله (ما زادوكم إلا خبالا) أي فسادا وقد خبله خبله واختبله إذا أفسد عقله أو عضوه ولاوضعوا خلالكم أي أسرعوا في السير، يقال وضع البعير يضع وأوضعه راكبه إذا حمله على العدو السريع.
وخلالكم بينكم والخلة الفرجة بين الشيئين والجمع الخلال.
قوله (بفيك الحجر) يقال هذا لمن يتكلم بغير الحق دعاء على طريق التكذيب قوله (لرب من قريش) أي سيد والرب السيد الرئيس، وكان يقال لحذيفة بن بدر رب معد أي سيدها.
قوله (ويوجه الطلائع ومن يتجس، الطلائع جمع طليعة وهو من يبعث أمام الجيش ليطع طلع العدو أي ينظر إليهم.
والتجسس بالجيم طلب الاخبار

(19/282)


والبحث عنها، وكذلك تجسس الخبر بالحاء، ومنهم من يفرق بينهما فيقول تحسست بالحاء في الخير والشر وبالجيم في الشر لا غير.
قالوا والجاسوس صاحب سر الشر، والناموس صاحب سر الخير، وقيل بالحاء أن تطلبه لنفسك وبالجيم لغيرك.
قوله (إن لكل نبى حواريا وحواى الزبير) قيل معناه أنه مخصص من أصحابي ومفضل من الخبز الحوارى وهو أفضل الخبز وأرفعه.
وحواري عيسى هم المفضلون عنده وخاصته.
وقيل لانهم كانوا يحورون ثيابهم أي يبيضونها، والتحوير التبييض.
وقيل لانهم كانوا قصارين، وقيل لان الحوارى الناصر، والصحيح أنه الخالص النقى من حورت الدقيق إذا أخلصته ونقيته من الحشو، ويقال لنساء الحضر حواريات لبياضهن ونعمتهن قوله (في الكتيبة الخضراء) الكتيبة قطعة من الجيش من أربعمائة إلى ألف اشتقاقها من الكتب وهو الجمع والانضمام وقد ذكر.
وسميت خضراء لما يرى عليها من لون الحديد وخضرته وسواده، والخضرة عند العرب السواد، يقال دليل أخضر قاله ابن الاعرابي وأنشد: ناق خبى خببا زورا
* وعارضي الليل إذا ما اخضرا أي اسود.
قوله (ما لاحد بهؤلاء من قبل) أي طاقة.
قال الله تعالى (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها.
قوله (إحدى المجنبتين) بكسر النون، أي كتيبتين أخذتا الجانبين اليمين والشمال من جانبى الطريق، ويقال المجنبة اليمنى والمجنبة اليسرى قوله (على الساقة) أي على آخر العسكر، كأنهم يسوقون الذين قبلهم.
قوله (حمر النعم) خص الحمر دون غيرها، لانها عندهم خير المال، والنعم هي الابل والانعام، الابل والبقر والغنم، قد سمى ايضا نعما، قال الله تَعَالَى (فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) قال النووي في شرح مسلم: أخذ طائفة من العلماء بكراهة الاستعانة في الغزو بكافر إلا لحاجة على إطلاقه.
وقال الشافعي وآخرون إن كان الكافر حسن الرأى في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به أستعين به وإلا فيكره

(19/283)


وقال الشوكاني ان الظاهر من الادلة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركا مطلقا لما في قوله صلى الله عليه وسلم (إنا لا نستعين بالمشركين) من العموم.
وكذلك قوله (أنا لا أستعين بمشرك) ولا يصلح مرسل الزهري لمارضة ذلك لما قيل أن مراسيل الزهري ضعيفة، ثم قال ويؤيده قوله تعالى (ولن يجعل الله الكافرين على المؤمنين سبيلا) وقد أخرج الشيخان عن البراء بن عازب قال (جاء رجل مقنع بالحديد فقال يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال أسلم ثم قاتل فأسلم ثم قاتل فقتل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمل قليل وأجر كثير.
وأما استعانته صلى الله عليه وسلم بابن أبى فليس ذلك الا لاظهاره الاسلام.
وأما مقاتلة قزمان مع المسلمين فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن له بذلك في ابتداء الامر، وغاية ما فيه أنه يجوز للامام السكوت عن كافر قاتل مع المسلمين وقال ابن حزم ولا يحضر مغازى المسلمين كافر.
ثم روى عن الزهري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يغزو باليهود فيسهم لهم كسهام المسلمين.
وروى عن سعد بن أبى وقاص غزا بقومه من اليهود فرضح لهم.
وروى عن الشعبى حينما سأل عن المسلمين يغزون بأهل الكتاب، فقال الشعبى أدركت الائمة الفقيه منهم وغير الفقيه يغزون بأهل الذمة فيقسمون لهم ويضغون عنهم جزيتهم، فذلك لهن نقل حسن ثم قال وقال أبو حنيفة ومالك
والشافعي وأبو سليمان لا يسهم لهم، قال أبو سليمان ولا يرضخ لهم ولا يستعان بهم.
قال أبو ممد حديث الزهري مرسل ولا حجة في مرسل، ولقد كان يلزم الحنفيين والمالكيين القائلين بالمرسل أن يقولوا بهذا لانه من أحسن المراسيل، لا سيما مع قول الشعبى انه أدرك الناس على هذا، ولا نعلم لسعد مخالفا في ذلك من الصحابة ثم قال لكن الحجة في ذلك ما رويناه عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (انا لا نستعين بمشرك) فصح أنه لا حق في الغنائم لغير المسلمين.
وقال الشوكاني يجوز للمرأة الاجنبية معالجة الرجل الأجنبي للضرورة قال ابن بطال ويختص بذلك بذوات المحارم وان دعت الضرورة فليكن بغير مباشرة ولامس

(19/284)


ويدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها، بل غسلها من وارء حائل في قول بعضهم كالزهري وفى قول الاكثر تيمم وقال الاوزاعي تدفن كما هي قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وغسل الميت أن الغسل عبادة والمداواة ضرورة والضرورات تبيح المحظورات، وهكذا يكون حال المرأة في رد القتلى والجرحى فلا تباشر بالمس مع إمكان ما هو دونه (قلت) وقد توقفت عن الكلام في عدم استعمال المجانين في القتال، وكذا أنواع الخيول التى أشار إليها المؤلف، وأخذ البيعة والتجسس لحساب المسلمين لانها من الامور المسلم بها التى لم يختلف فيها أحد، والتى لا زال معمولا بها عسكريا حتى في القرن العشرين عصر المدنية، ألا فليستيقظ المسلمون بالرجوع إلى ربهم وسنة نبيهم قوله (والمستحب أن يخرج يوم الخميس) قال الحافظ في الفتح: لعل سببه
ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم (بورك لامتي في بكورها يوم الخميس) وهو حديث ضعيف أخرجه الطبراني.
قال وكونه صلى الله عليه وسلم كان يحب الخروج يوم الخميس لا يستلزم المواظبة عليه لقيام مانع منه، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خرج لحجة الوداع يوم السبت اه.
وقال ابن حزم ونستحب الخروج للسفر يوم الخميس قوله (ويستحب أن يعقد الرايات) و (أن يدخل دار الحرب بتعبئة) فصلاة الله وسلامه عليك يا رسول الله فلقد قلت وشرعت نظم الحرب الحديثة فلا زال العمل جار بالالوية والرايات
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان العدو ممن لم تبلغهم الدعوة لم يجز قتالهم حتى يدعوهم إلى الاسلام، لانه لا يلزمهم الاسلام قبل العلم، والدليل عليه قوله عز وجل (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ولا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم وإن بلغتهم الدعوة فالاحب أن يعرض عليهم الاسلام لما روى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ،

(19/285)


قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى كرم الله وجهه يوم خيبر (إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فو الله لان يهدى الله بهداك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وان قاتلهم من غير أن يعرض عليهم الاسلام جاز لما روى نافع قال (أغاز رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بنى المصطلق وهم غارون وروى وهم غافلون.
(الشرح) حديث سهل بن سعد أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر فقال أين على؟ فقيل انه يشتكى عينيه، فأمر فدعى له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأن لم يكن به شئ، فقال فقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال على رسلك حتى
تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فو الله لان يهتدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم) متفق عليه حديث نافع ولفظه (عن ابن عوف قال كتبت إلى نافع أسألة عن الدعاء قبل القتال فكتب إلى إنما كان ذلك في أول الاسلام وقد أغار رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بنى المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث، حدثنى بن عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش) متفق عليه قوله (أغار رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بنى المصطلق وهم غارون) أي غافلون على غير علم ولا حذر.
يقال رجل غر إذا لم يحرب الامور بالكسر وفى الحديث المؤمن غر وكريم الغرة الغفلة والغار الغافل، وسمى المصطلق لحسن صوته والصلق الصوت الشديد عن الاصمعي، وفى الحديث ليس منا من صلق ولا حلق.
قوله (عصموا منى دماءهم وأموالهم) أي منعوا، والعصمة المنع، يقال عصمه الطعام أي منعه من الجوع، لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.
قال الشوكاني في المسألة ثلاثة مذاهب (الاول) أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الاسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه، وبه قال مالك والهادوية وغيرهم، وظاهر الحديث معهم

(19/286)


(والثانى)
أنه لا يجب مطلقا (الثالث) أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب.
قال ابن المنذر وهو قول جمهور أهل العلم وقد تظارهت الاحاديث الصحيحة على معناه، وبه يجمع ما بين ظاهر الاختلاف من الاحاديث، وقد زعم الامام المهدى أن وجوب تقديم دعوة من لم تبلغه
الدعوة مجمع عليه، ويرد ذلك ما ذكرنا من المذاهب الثلاثة وقد حكاها المازرى وأبو بكر بن العربي وقال الخطابى: وقد اختلف العلماء، فقال مالك بن أنس لا يقاتلون حتى يدعوا أو يؤذنوا.
وقال الحسن البصري.
يجوز أن يقاتلوا قبل أن يدعوا قد بلغتهم الدعوة، وكذلك قال الثوري وأصحاب الرأى، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
واحتج الشافعي في ذلك بقتل ابن أبى الحقيق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن كانوا ممن لا يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم إلى أن يسلموا، لقوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؟ فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها) وإن كانوا ممن يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم إلى أن يسلموا أن يبذلوا الجزية، والدليل عليه قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون) وروى بريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا بعث أميرا على جيش أو سرية قال إذا أنت لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى احدى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الدخول في الاسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار الهجرة، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن دخلوا في الاسلام وأبوا أن يتحولوا لالى دار الهجرة، فأخبرهم أنهم كاعراب المؤمنين الذين يجرى عليه حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الفئ

(19/287)


والغنيمة شئ حتى يجاهدوا مع المؤمنين فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبو فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم ثم قاتلهم، ويستحب الاستنصار بالضعفاء لما روى أبو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: ائتونى بضعفائكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، ويستحب أن يدع عند التقاء الصفين لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا غزا قال: الهم أنت عضدي وأنت ناصرى وبك أقاتل وروى أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا خاف أمرا قال اللهم انى اجعلك في نحورهم واعوذ بك من شرورهم، ويستحب أن يحرض الجيش على القتال لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يا معشر الانصار هذه أوباش قريش قد جمعت لكم إذا لقيتموهم غدا فاحصدوهم حصدا.
وروى سعد رضى الله عنه قال نثل لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنانته يوم أحد وقال ارم فداك أبى وأمى، ويستحب أن يكبر عند لقاء العدو لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم غزا خيبر، فلما رأى القرية قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالها ثلاثا، ولا يرفع الصوت بالتكبير لما روى أبو موسى الاشعري قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في غزوة فأشرفوا على واد، فجعل الناس يكبرون ويهللن الله أكبر الله أكبر، يرفعون أصواتهم، فقال يا أيها الناس انكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون قريبا سميعا إنه معكم (الشرح) حديث (أمرت أن أقاتل الناس..) أخرجه البخاري ومسلم والاربعة عن ابى هريرة، وفى رواية متفق عليها عن ابن عمر (والنسائي) عن
أبى بكرة والحاكم عن أبى هريرة.
حديث بريدة رضى الله عنه أخرجه مسلم في المغازى، أبو داود في المغزى الترمذي في السير ابن ماجه في الجهاد والحاكم من طريق أبى نجيح

(19/288)


حديث أبى الدرداء أخرجه أبو داود في الجهاد الترمذي في الجهاد النسائي في الجهاد.
حديث أنس أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب ما يدعى عند اللقاء (اللهم انت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل) وأخرجه الترمذي وقال حسن غريب والنسائي.
حديث أبى موسى الاشعري (كان إذا خاف أمر) أخرجه أبو داود والنسائي حديث أنس متفق عليه (أبى موسى الاشعري (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عزوة فأشرفوا على واد) متفق عليه.
اللغة: قوله (هذه أوباش قريش) الاوباش الجماعات والاخلاط من قبائل شتى ويقال أو شاب بتقديم الشين أيضا.
قوله (فاحصدوهم) أي استأصلوهم بالقتل وأصله من حصاد الزرع وهو قطعه.
قال الله تعالى (فجعلناهم حصيدا) قوله (نثل لى كناننه) أي صبها واستخرج ما فيها ما النبل بمنزلة نثرها.
قوله (أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) ساحة القوم هي العرصة التى يديرون أخبيتهم حولها وساء نقيض سر، يقال ساءه ساءه يسوء سواءا بالفتح، وساءه نقيض سره تمسك القائلون بأنه لا تؤخذ الجزية من الكتابى إذا كان عربيا بما رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس قال مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي
صلى الله عليه وسلم وشكوه إلى أبى طالب، فقال يا ابن أخى ما تريد من قومك قال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية، قال كلمة واحدة، قولوا لا اله الا الله، قالوا الها واحدا؟ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ان هذا الاختلاق، قال فنزل فيهم القرآن (ص والقرآن ذى الذكر إلى قوله ان هذا الاختلاق) وقال الحافظ في الفتح: فأما اليهود والنصارى فهم المردا أهل الكتاب بالاتفاق، وفرق الحنفية فقالوا تؤخذ من مجوس العجم دون مجوس العرب.
وحكى الطحاوي عنهم أنها تقبل الجزية من أهل الكتاب ومن جميع كفار العجم

(19/289)


ولا يقبل من مشركي العرب إلا إلاسلام أو السيف.
وعن مالك تقبل من جميع الكفار إلا من ارتدوا به.
قال الاوزاعي وفقهاء الشام وحكى ابن القاسم عن مالك أنها لا تقبل من قريش، وحكى ابن عبد البر الاتفاق على قبولها من المجوس، لكن حكى ابن التين عن عبد الملك أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى فقط.
وقال الشافعي تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلتحق بهم المجوس في ذلك مستدلا بما رواه أحمد والبخاري وغيرهما عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى حدثنى بها عبد الرحمن بن عوف أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذها من مجوس هجر.
قال أبو عبيد في كتاب الاموال: ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب وعلى المجوس بالسنة.
أما ما أورده من نصيحته للامراء بأن يبينوا للاعداء أن القتال ما فرض في الاسلام إلا لانتشال الناس من عبادة بعضهم لبعض إلى عبادة الله الواحد
القهار والاستنصار بالضعفاء والدعاء عند الالتحام وتحريض الجيوس على القتال وتذكيرهم بحق الله والتكبير عند الهجوم وعدم رفع الصوت، فهى من المبادئ الاساسية التى ما زال معمولا بها في الحروب وليت المسلمون اليوم يكبرون بدل أن يقولوا ألفاظا غير مفهومة منقولة عن من لا دين لهم حتى يكون الله معهم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا التقى الزحفان ولم يزد عدد الكفار على مثلى عدد المسلمين ولم يخافوا الهلاك تعين عليهم فرض الجهاد لقوله عز وجل (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وان يكنم منكم ألف يغلبوا ألفين) وهذا أمر بلفظ الخبر، لانه لو كان خبرا لم يقع الخبر بخلاف المخبر فدل على أنه أمر المائة بمصابرة المائتين، وأمر الانف بمصابرة الالفين، ولا يجوز لمن تعين عليه أن يولى إلا منحرفا لقتال، وهو أن ينتقل من مكان إلى مكان أمكن للقتال أو متحيزا إلى فئة، وهو أن ينضم إلى قوم ليعود معهم إلى القتال،

(19/290)


والدليل عليه قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار، ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة، والدليل عليه ما روى ابن عمر رضى الله عنه أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة عظيمة وكنت ممن حاص، فلما برزنا قلت كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بغضب ربنا فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا وقلنا نحن الفرارون، فقال لابل أنتم العكارون، فدنونا فقبلنا يده فقال انا فئة المسلمين.
وروى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: انا فئة كل مسلم، وهو بالمدينة
وجيوشة في الآفاق، فإن ولى غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة أثم وارتكب كبيرة.
والدليل عليه ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الكبائر سبع أولهن الشرك بالله، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، وفرار يوم الزحف، ورمى المحصنات وانقلاب إلى الاعراب، فإنى غلب على ظنهم أنهم ان ثبتوا لمنليهم هلكوا ففيه وجهان
(أحدهما)
أن لهم أن يولوا لقوله عز وجل (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
(والثانى)
أنه ليس لهم أن يولوا وهو الصحيح لقوله عز وجل (إذا لقيتم فئة فاثبتوا) ولان المجاهد انما يقاتل ليقتل أو يقتل وان زاد عدد الكفار على مثلى عدد المسلمين فلهم أن يولوا، لانه لما أوجب الله عز وجل على المائة مصابرة المائتين دل على أنه لا يجب عليهم مصابرة ما زاد على المائتين.
وروى عطاء عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال (من فر من اثنين فقد فرو من فر من ثلاثة فلم يفر) وان غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالافضل أن يثبتوا حتى لا ينكسر المسلمون، وان غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يلزمهم أن ينصرفوا لقوله عز وجل (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
(والثانى)
أنه يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم، لانهم ان قتلوا فازوا بالشهادة وان لقى رجل من المسلمين رجلين من المشركين في غير الحرب، فإن طلباه ولم

(19/291)


يطلبهما فله أن يولى عنهما، لانه غير متأهب للقتال، وإن طلبهما ولم يطلباه ففيه وجهان
(أحدهما)
أن له أن يولى عنهما لان فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد
(والثانى)
أنه يحرم عليه أن يولى عنهما، لانه مجاهد لهما فلم يول عنهما، كما لو كان مع جماعة.
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وقال لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أبى زياد، ويزيد بن أبى زيادتكلم فيه غير واحد من الائمة.
حديث عمر أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا حديث أبى هريرة متفق عليه قول ابن عباس بلفظ (من فر من ثلاثة لم يفر ومن فر من اثنين فقد فر) أخرجه الحاكم والطبراني والشافعي اللغة: قوله (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) الزحف سير القوم إلى القوم في الحرب يقال زحفوا ودلفوا إذا تقاربوا ودنوا قليلا قليلا، وقيل لبعض نساء العرب ما بالكن رسحا، فقال ارسحتنا نار الزحفين والرسحاء التى لا عجيزة لها، ومعنى نار الزحفين أن النار إذا اشتد لهبهار جعن عنها تباعدن بجر أعجازهن ولا يمشين فإذا سكن لهبها وهان وهجها زحفن إليها وقربن منها قوله (متحرفا لقتال) تحرف وانحرف إذا مال، مأخوذ من حرف الشئ وهو طرفه، أي مال عن معظم القتال، ووسط الصف إلى مكان أمكن له الكر والفر أو متحيزا، يقال تحيز وانحاز وتحوز إذا انضم إلى غيره والحين الفريق والفئة الجماعة مشتق من الفأ وهو القطع كأنها انقطعت عن غيرها والجمع فئات وفئون، وقال الهروي من فأيت رأسه وفأوته إذا شققته فانفا.
قوله (فقد باء بغضب من الله) أي لزمه الغضب ورجع به، وقد ذكر.
قوله (فحاص الناس حيصة) أي حادوا عن القتال وانهزموا، يقال حاص عن القتال يحيص حيصا إذا حاد عنه، وبؤنا بغضب ربنا، أي انصرفنا وقد لزمنا الغضب، وتبوأ المنزل إذا لزمه، وروى حاص بالحاء والصاد المهملتين، ومعناه

(19/292)


هربوا من قوله تعالى (ولا يجدون عنها محيصا) أي هربا ومفرا، وقوله تعالى (مالنا من محيص) أي مفر قوله (بل أنتم العكارون) هم الكرارون العطافون في القتال، يقال عكر يعكر عكرا إذا عطف والعكرة الكرة.
قوله (وانقلاب إلى الاعراب) لعله ترك الجمعة والجماعة والجهاد.
قال الجصاص في كتاب إحكام الاحكام في الآية (الآن خفف الله عنكم) ايجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة، فأما أن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى (ومن يولهم يومئذ دبره) وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد ابن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم: رحم الله أبا عبيد لو انحاز إلى لكنت له فئة، فلما رجع إليه أصحاب أبى عبيد قال أنا فئة لكم ولم يعنفهم، وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثنى عشر ألفا لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثلهم الا متحرفين لقتال، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة من المسلمين يقاتلونهم معهم، فإذا بلغوا اثنى عشر ألفا فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم وان كثر عددهم، ولم يذكر خلافا بين أصحابنا فيه.
واحتج بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (خير الاصحاب أربعة وخير السرايا أربع مائة وخبر الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى إثنى عشر ألفا من قلة ولن يغلب.
وفى بعضها ما غلب قوم يبلغون اثنى عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم.
وذكر الطحاوي أن مالكا سئل فقيل له أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها؟ فقال له مالك ان كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف والا فأنت في سعة من التخلف، وكان السائل له عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن

(19/293)


وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمعت كلمتهم، وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم.
(قلت) والآية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي وقد جاء التصريح بذلك في أحاديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم التى أوردها المؤلف، وقد قيد بعض العلماء هذا بما إذا كان لا يزيدون على ضعف المؤمنين.
قال الشافعي: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم ان يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة.
وقد روى عنه عمر وابنه وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وأبى بصرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة وزيد أبى حبيب والضحاك أن تحريم الفرار في هذه الآية خاص بيوم بدر، ولكن هذا خلاف قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويؤيده نزول الآية بعد انتهاء الغزو، وإن اعترض معترض بالآية (ان الذين تولوا منكم يوم التقى) (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين..الخ) قلت هذا لا ينافى كون التولى حراما وكبيرة من الكبائر ولا يقتضى أن يكون كل قول لغير السببين المستثنيين في آية الانفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله
ومأواه جهنم وبئس المصير، بل قد يكونى دون ذلك، ويتقيد بآية رخصة الضعف وبالنهى عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها.
وإذا تمسك المعترضون با لحديث الذى أورده المؤلف عن ابن عمر (كنت في سرية..الخ) قلت فيه يزيد بن أبى زياد وهو مختلف فيه ضعفه الكثيرون وقال ابن حبان كان صدوقا الا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه، فمن سمع منه قبل التغيير صحيح، ومعروف ما قيل من أنه لا يعتد بتصحيح ابن حبان.
وجملة القول أن هذا الحديث لاوزن له في هذه المسألة لا متنا ولا سندا، وفى معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يعتد به في المسألة

(19/294)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويكره أن يقصد قتل ذى رحم محرم، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منع أبا بكر رضى الله عنه من قتل إبنه فإن قتله لم يكره أن يقصد قتله كما لا يكره إذا قصد قتله وهو مسلم، وإن سمعه يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم بسوء لم يكره أن يقتله، لان أبا عبيدة بن الجراح رضى الله عنه قتل أباه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يسبك، ولم ينكره عليه
(فصل)
ولا يجوز قتل نسائهم ولا صبيانهم إذا لم يقاتلوا لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قتل النساء والصبيان ولا يجوز قتل الخنثى المشكل، لانه يجوز أن يكون رجلا ويجوز أن يكون امرأة فلم يقتل مع الشك، وإن قاتلوا جاز قتلهم لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين، فقال من قتل هذه؟ فقال رجل أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى سيفى
أو إلى قائم سيفى لتقتلني فقتلتها، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بال النساء ما شأن قتل النساء، ولو حرم ذلك لا نكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولانه إذا جاز قتلهن إذا قصدن القتل وهن مسلمات فلان يجوز قتلهن وهن كافرات أولى.

(فصل)
وأما الشيخ الذى لا قتال فيه فإن كان له رأى في الحرب جاز قتله لان دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا وكان له رأى، فإنه أشار على هوازن يوم حينن ألا يخرجوا معهم بالذرارى، فخالفه مالك بن عوف فخرج بهم فهزموا، فقال دريد في ذلك: أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى
* فلم يستبينوا الرشد الا ضحى الغد وقتل ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله، ولان الرأى في الحرب أبلغ من القتال لانه هو الاصل وعنه يصدر القتال، ولهذا قال المتنبي: الرأى قبل شجاعة الشجعان
* هو أول وهى المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة
* بلغت من العلياء كل مكان ولربما طعن الفتى أقرانه
* بالرأى قبل تطاعن الفرسان

(19/295)


وإن لم يكن له رأى ففيه وفى الراهب قولان
(أحدهما)
أنه يقتل لقوله عز وجل (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ولانه ذكر مكلف حربى فجاز قتله بالكفر كالشاب
(والثانى)
أنه لا يقتل لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال ليزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة لما بعثهم إلى الشام لا تقتلوا الولدان ولا النساء ولا الشيوخ، وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم على الصوامع فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم، ولانه لا نكاية له في المسلمين فلم يقتل بالكفر الاصلى كالمرأة.

(فصل)
ولا يقتل رسولهم لما روى أبو وائل قال لما قتل عبد الله بن مسعود
ابن النواحة قال: إن هذا وابن أثال قد كانا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولين لمسيلمة، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أتشهد أنى رسول الله قالا نشهد أن مسيلمة رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو كنت قاتلا رسولا لضربت أعناقكما، فجرت سنة أن لا تقتل الرسل
(فصل)
فإن تترسوا بأطفالهم ونسائهم، فإن كان في حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى الاطفال والنساء، لانا لو تركنا رميهم جعل ذلك طريقا إلى تعطيل الجهاد وذريعة إلى الظفر بالمسلمين، وان كان في غير حال الحرب ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يجوز رميهم.
لان ترك قتالهم يؤدى إلى تعطيل الجهاد
(والثانى)
أن هـ لا يجوز رميهم لانه يؤدى إلى قتل أطفالهم ونسائهم من غير ضرورة، وان تترسوا بمن معهم من أسارى المسلمين، فإن كان ذلك في حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى المسلم لما ذكرناه، وان كان في غير حال التحام الحرب لم يجز رميهم قولا واحدا، والفرق بينهم وبين أطفالهم ونسائهم ان المسلم محقون الدم لحرمة الدين فلم يجز قتله من غير ضرورة، والاطفال والنساء حقن دمهم لانهم غنيمة للمسلمين فجاز قتلهم من غير ضرورة، وان تترسوا بأهل الذمة أو بمن بيننا وبينهم أمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا تترسوا بالمسلمين، لانه يحرم قتلهم كما يحرم قتل المسلمين.

(فصل)
وان نصب عليهم منجنيفا أو بيتهم ليلا وفيهم نساء وأطفال جاز لما روى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على

(19/296)


أهل الطائف، وإن كانت لا تخلوا من النساء والاطفال، وروى الصعب بن حثامة قال: سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الذرارى من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال هم منهم، ولان الكفار لا يخلون من النساء
والاطفال فلو تركنا رميهم لاجل النساء، والاطفال بطل الجهاد، وان كان فيهم أسارى من المسلمين نظرت فإن خيف منهم أن هم إن تركوا قالتوا وظفروا بالمسلمين جاز رميهم، لان حفظ من معنا من المسلمين أولى من حفظ من معهم وان لم يخف منهم نظرت، فإن كان الاسرى قليلا جاز رميهم لان الظاهر أنه لا يصيبهم، والاولى أن لا ترميهم، لانه ربما أصاب المسلمين وان كانوا كثيرا لم يجز رميهم، لان الظاهر أنه يصيب المسلمين، وذلك لا يجوز من غير ضرورة.

(فصل)
ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من الدواب، لما روى أن حنظلة ابن الراهب عقر بأبى سفيان فرسه، فسقط عنه فجلس على صدره، فجاء ابن شعوب فقال لاحمين صاحبي ونفسي
* بطعنة مثل شعاع الشمس فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة، ولان بقتل الفرس يتوصل إلى قتل الفارس.

(فصل)
وان احتيج إلى تخريب منازلهم وقطع أشجارهم ليظفروا بهم جاز ذلك، وان لم يحتج إليه نظرت فإن لم يغلب على الظن أنها تملك عليهم جاز فعله وتركه وان غلب على الظن أنها تملك عليهم ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لانها تصير غنيمة فلا يجوز اتلافها
(والثانى)
أن الاولى أن لا يفعل فإن فعل جاز لما روى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرق على بنى النضير وقطع البويرة، فأنزل الله عز وجل (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين) (الشرح) حديث منع أبا بكر رضى الله عنه..)) أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق الواقدي، وهو متكلم فيه، بل رماه بعضهم بالكذب.
وأخرجه ابن أبى شيبة والحاكم من طريق آخر عن أيوب، قال عبد الرحمن بن أبى بكر

(19/297)


لابيه: قد رأيتك يوم أحد فضفت عنك، فقال أبو بكر لو رأيتك لم أضف عنك.
حديث (لان أبا عبيدة قتل أباه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يسبك.
هذا الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق الواقدي عن ابن أبى الزناد عن أبيه قال شهدا أبو حذيفة بدرا ودعاه أباه عتبة إلى البزاز فمنعه عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والواقدى متكلم فيه حتى رماه بعضهم بالكذب وروى ابن أبى شيبة والحاكم من رواية أبى أيوب قال، قال عبد الرحمن بن أبى بكر لابيه قد رأيتك يوم أحد فضفت عنك، فقال أبو بكر لو رأيتك لم أضف عنك، ورواية الحاكم عن أيوب رجاله ثقات مع إرساله روى الحاكم والبيهقي منقطعا عن عبد الله بن شوذب قال جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت الآلهة لابي عبيدة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة وهذا معضل وكان الواقدي ينكره ويقول مات والد أبى عبيدة قبل الاسلام.
وروى أبو داود في مراسيله والبيهقي من رواية مالك بن عمير قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقا يا رسول الله انى لقيت العدو ولقيت أبى فيهم، فسمعت منه مقالة قبيحة فطعنته بالرمح فقتلته، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه) وهذا مبهم حديث ابن عمر (نهى عن قتل النساء) أخرجه البخاري ومسلم حديث ابن عباس (مر بامرأة مقتولة..) أخرجه الطبراني في الكبير وفيه أرطاة بن الحاج وهو ضعيف، وأخرجه ابن أبى شيبة مرسلا وأبو داود في مراسيله الا أنه قال (امرأة مقتولة بالطائف)
حديث (أن دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا وكان له رأى..) في الصحيحين من حديث أبى موسى الاشعري قال (لما فرغ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حنين بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إلَى أَوْطَاسٍ فلقى دريد من الصمة فقتله فهزم أصحابه) وباقى القصة ذكرها ابن اسحاق في السيرة مطولا.

(19/298)


أثر (أن أبا بكر قال ليزيد بن أبى سفيان ... ) أخرجه البيهقى.
وروى أن الامام أحمد انكره، ورواه مالك في الموطأ ورواه سيف في الفتوح مرسلا حديث أبى وائل (لما قتل عبد الله بن مسعود.
) أخرجه أحمد والحاكم من حديث ابن مسعود وأبو داود مختصرا والنسائي وأبو نعيم في معرفة الصحابة في ترجمة دبيو بن شهر الحنفي حديث عَلَى (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصب المنجنيق) أخرجه أبو داود وابن سعد في الطبقات مرسلا عن مكحول ووصله العقبلى من وجه آخر عن على حديث الصعب بن جثامة (سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الذرارى من المشركين..) متفق عليه حديث (أن حنظلة الراهب عقر بأبى سفيان فرسه..) أخرجه البيهقى من طريق الشافعي بغير إسناد، وذكر الواقدي في المغازى عن شيوخه مطولا، وابن اسحاق في المغازى بدون العقر حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرق على بنى النضير..متفق عليه.
اللغة.
قوله (بمنعرج اللوى) منعرج الوادي منعطفه يمنة ويسرة، واللوى منقطع الرمل وهو الجدد بعد الرمة.
قوله (الرشد) ضد الغى شبيه بالصواب ضد الخطأ.
قوله (لنفس مرة) بضم الميم والخفض صفة لنفس، أي قوى،
والمرة القوة، وهو مضبوط في ديوانه هكذا، وكذا رواه الكرماني بالضم وسماعنا بفتح الميم والنصب.
قوله (أقرانه) جمع قرن بكسر القاف وهو الكفؤ في الشجاعة، يقال فلان قرن فلان أي نظيره وكفؤه عند القتال.
قوله (لانكاية) النكاية أن يقتل ويخرج، يقال نكيت في العدو أنكى نكاية بغير همز إذا بالغت نميهم قتلا وجرحا أو جرحا، وقد ذكر قوله (أو بيتهم ليلا) يقال بيت العدو إذا أوقع بهم ليلا والاسم البيات ومثله يبيتون قوله (الذرارى) هم الاطفال والصغار الذين لم يبلغوا الحلم، وأصلها من

(19/299)


ذرأ الله الخلق أي خلقهم فترك همزها استخفافا كما ترك همز البرية، وأصلها من برأ الله الخلق ووزنها فعلية.
وقال بعضهم هي مأخوذة من الذر لان الله أخرج الخلق من صلب آدم أمثال الذر وأشهد هم على أنفهم ألست بربكم قالوا بلى.
وقيل أصلها ذروووة على وزن فعلولة فأبذلت الواو الاخيرة باء فاجتمعت الواو والياء وسكنت الاولى منهما فقلبت الواو باء وأدغمت قوله (وقطع البويرة) بغير همز اسم موضع وليس بتصغير بئر.
وقوله تعالى (ما قطعتم من لبنة) اللين نوع من النخل، قيل هو الدقل، وقيل هو الجعرور ضربان رديان من التمر.
واللينة النخلة الواحدة وأصلها لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وأصلها من اللون على هذا، وهو قول العزيزي.
قالوا ألوان النخل ما عدا البرنى والعجوة قوله (ويكره أن يقصد قتل ذى رحم محرم) (قلت) يحرم قتل كل رحم لم تخرج للقتال أو تتجهز له، فإن خرجت للقتال
فقد حق قلتها ولابد لقول اللَّهُ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تتخذوا آباؤكم واخوانكم أولياء ان استحبوا الكفر على الايمان..) الخ.
يقول صديق حسن خان في الروضة الندية: ويحرم قتل النساء والاطفال والشيوخ إلا أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل، فقد أجاز قتلهم مع ورود النص صريحا في الصحيحين بتحريم قتلهم.
ويقول الامام السيد رشيد رضا في تفسير المنار: كان موضع الضعف من بعض المسلمين في ذلك نعرة القرابة ورحمه الرحم وبقية عصبيه النسب، إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قربى من المشركين يكرهون قتلهم، ثم قال: لا يتخذ أحد منكم أحدا من أب أو أخ وليا له ينصره في القتال.
أما الاستدلال بالحديث (منع أبا بكر..) فغير جائز لان الحديث فيه من رمى بالكذب قوله (ولا يجوز قتل نسائهم..) قال ابن دقيق العيد في احكام الاحكام بعد أن أورد حديث عبد الله بن عمر (أن امرأة وجدت في بعض مغازى النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان) هذا حكم

(19/300)


مشهور متفق عليه فيمن لا يقاتل، ويحمل هذا الحديث على ذلك لغلبة عدم القتال على النساء والصبيان، ولعل سر هذا الحكم أن الاصل عدم إتلاف النفوس وإنما أبيح منه ما يقتضى دفع المفسدة.
قال الشوكاني: وأحاديث الباب (بعد أن أوردها) تدل على أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان، وإلى ذلك ذهب مالك والاوزاعي فلا يجوز ذلك عندهما بحال من الاحوال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم.
وذهبت الشافعية والكوفيون إلى الجمع بين الاحاديث المذكورة فقالوا إذا قاتلت المرأة
جاز قتلها وقال ابن حبيب من الماليكة لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا ان باشرت القتل أو قصدت إليه.
ونقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على المنع من القصد إلى قتل النساء والولدان.
وقال الحافظ في الفتح: حكى الحازمى قولا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب، وزعم أنه ناسخ لاحاديث النهى وهو غريب.
قلت وما أورده ابن دقيق العيد هو الصحيح قوله (وأما الشيخ الذى لاقتال..) قلت روى الترمذي وصححه وأحمد (اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) وهو في ظاهره يخالف حديث (أن دريد بن الصمة..) وفى الحقيقة لا تعارض بينهما إذ يمكن الجمع بين الحديثين بأن الشيخ المنهى عنه هو الفاني الذى لم يبق فيه نفع للكفار ولا مضرة منه على المسلمين، وقد وقع التصريح بهذا الوصف بقوله شيخا فانيا، والشيخ المأمور بقتله هو من بقى فيه نفع للكفار ولو بالرأى وقال الامام أحمد بن حنبل في تعليل أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الشيوخ أن الشيخ لا يكاد يسلم والصغير أقرب إلى الاسلام وقال الشوكاني لا يجوز قتل من كان متخليا للعبادة من الكفار كالرهبان لاعراضه عن ضر المسلمين، وحديث ابن عباس (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا بعث جيوشه قال اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من فكر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا

(19/301)


تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع) وإن كان فيه مقال لكنه معتضد بالقياس على الصبيان والنساء.
قوله (ولا يقتل رسولهم..) وهو إجماع لا شك قوله (فإلان تترسوا بأطفالهم) فقد سبق الكلام عليه في أول الفصل
قوله (وإن نصب عليهم منجنيقا..) قال الشوكاني يجوز تبييت الكفار، وقال الترمذي (ورخص بعض أهل العلم في البيات وقتل النساء وفيهم الولدان) وهو قول أحمد واسحاق ورخصا في البيات وقال الحافظ في الفتح قال أحمد لا بأس في البيات ولا أعلم أحدا كرهه.
ثم قال ليس المراد (في حديث الصعب) إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يكن الوصول إلى الآباء إلا بوطئ الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم.
وقال المباركفورى في تحفة الاحوذي (كان الزهري إذا حدث بحديث الصعب قال قلت يا رسول الله ان خيلنا أوطأت من نساء المشركين وأولادهم؟ قال هم من آبائهم) قال وأخبرني ابن كعب بن مالك عَنْ عَمِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث إلى ابن أبى الحقيق نهى عن قتل النساء والصبيان) ثم قال في الفتح (وكأن الزهري أشار بذلك إلى نسخ حديث الصعب) قلت وما قاله الحافظ هو الصحيح استنادا إلى أن الشافعي أنكر عليا لزهري النسخ، وقال ابن الجوزى النهى محمول على التعمد.
قوله (ويجوز قتل ما يقاتلون عليه ... ) وهذا حق لامرية فيه قوله (وان احتيج إلى تخريب منازلهم..) قال الترمذي، قال الشافعي لا بأس بالتحريق في أرض العدو وقطع الاشجار والثمار، وقال أحمد وقد تكون في مواضع لا يجدون منه بدا، فأما البعث فلا تحرق، قال اسحاق التحريق سنة إذا كان أنكى فيهم.
وقال الحافظ في الفتح، ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الاوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبى بكر لجيوشه وأجاب الطبري بأن النهى محمول على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك

(19/302)


في خلال القتال، ثم قال وبهذا قال أكثر أهل العلم، ونحو ذلك القتال بالتغريق وقال غيره إنما نهى أبو بكر جيوشه عن ذلك لانه علم أن تلك البلا ستفتح فأراد إبقائها على المسلمين.
وقال القارى بجواز قطع شجر الكفار وإحراقه، وبه قال الجمهور، وقيل لا يجوز، قال ابن الهمام يجوز لان ذلك المقصود كبت أعدء الله وكسر شوكتهم فيفعلون ما يمكنهم من التحريق وقطع الاشجار وإفساد الزرع، لكن إذا لم يغلب على الظن أنهم مأخوذون بغير ذلك، فإن كان الظاهر أنهم مغلوبون وأن الفتح بادكره ذلك لانه إفساد في غير محل الحاجة وما أبيح إلا لها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز للمسلم أن يؤمن من الكفار آحادا لا يتعطل بأمانهم الجهاد في ناحية كالواحد والعشرة والمائة وأهل القلعة، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أنه قال (ما عندي شئ إلا كتاب الله عز وجل وهذه الصحيفة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ويجوز للمرأة من ذلك ما يجوز للرجل لما روى ابن عباس رضى الله عنه عن أم هانئ رضى الله عنها أنها قالت يا رسول الله يزعم ابن أمي أنه قاتل من أجرت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أجرت من أجرت يا أم هانئ.
ويجوز ذلك للعبد لما روى عبد الله بن عمرو إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يجير على المسلمين أدناهم وروى فضل بن يزيد الرقاشى قال (جهز عمر بن الخطاب رضى الله عنه جيشا كنت فيه فحصرنا قرية من قرى رام هرمز فكتب عبد منا أمانا في صحيفة وشدها مع سهم ورمى به إليهم فأخذوها وخرجوا بأمانه، فكتب بذلك إلى عمر رضى
الله عنه فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، ولا يصح ذلك من صبى ولا مجنون ولا مكره لانه عقد فلم يصح منهم كسائر العقود، فإن دخل مشرك على أمان واحد منهم، فإن عرف أن أمانة لا يصح حل قتله لانه حربى ولا أمان له، وان لم يعرف أن أمانة لا يصحخ فلا يحل قتله إلى أن يرجع إلى مأمنه،

(19/303)


لانه دخل على أمان ويصح الامان بالقول، وهو أن يقول أمنتك أو أجرتك أو أنت آمن أو مجار أو لا بأس عليك أو لاخوف عليك أو لا تخف أو مترس بالفارسية وما أشبه ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمُ فتح مكة (مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ) وقال لام هاني (قد أجرت من أجرت) وقال أنس لعمر رضى الله عنه في قصة هرمز أن ليس لك إلى قتله من سبيل، قلت له تكلم لا بأس عليك فأمسك عمر.
وروى زر عن عبد الله أنه قال (إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجميا وقال مترس فقد أمنه) ويصح الامان بالاشارة لما روى أبو سلمة قال، قال عمر رضى الله عنه (والذى نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته) فإن أشار إليه بالامان ثم قال لم أرد الامان قبل قوله لانه أعرف بما أراده ويعرف المشرك أنه لا أمان له ولا يتعرض له إلى أن يرجع إلى مأمنه لانه دخل على أنه آمن، وإن أمن مشركا فرد الامان لم يصح الامان لانه ايجاب حق لغيره بعقد فلم يصح مع الرد كالايجاب في البيع والهبة، وان أمن أسيرا لم يصح الامان لانه يبطل ما ثبت للامام فيه من الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وان قال كنت أمنته قبل الاسر لم يقبل قوله لانه لا يملك عقد الامان في هذه الحال فلم يقبل إقراره به.

(فصل)
وان أسر أمرأة حرة أو صبيا حرا رق بالاسر، لان النبي صلى الله عليه وسلم قسم سبى بنى المصطلق واصطفى صفية من سبى خيبر وقسم سبى هوازن ثم استنزلته هوازن فنزل واستنزل الناس فنزلوا، وان أسر حر بالغ من أهل القتال فللامام أن يختار ما يرى من القتل والاسترقاق والمن والفداء، فان رأى القتل قتل، لقوله عز وجل (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ولان النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من المشكين من قريش، مطعم بن عدى، والنضر ابن الحارث.
وعقبة بن أبى معيط.
وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحى، وقتل يوم الفتح بن خطل، وان رأى المن عليه جاز، لقوله عز وجل (فإما منا بعد واما فداء) ولان النبي صلى الله عليه وسلم من على أبى عزة الجمحى ومن على ثمامة

(19/304)


الحنفي ومن على أبى العاص بن الربيع وإن رأى أن يفادى بمال أو بمن أسر من المسلمين فادى به لقوله عز وجل (فإما منا بعد وإما فداء) وروى عمران بن الحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فادى أسيرا من عقيل برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف.
وإن رأى أن يسترقه فإن كان من غير العرب نظرت فإن كان ممن له كتاب أو شبه كتاب استرقه، لما روى عن ابن عباس أنه قال في قوله عز وجل (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض) وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أمر الله عز وجل في الاسارى (فإما منا بعد وإما فداء) فجعل سبحانه وتعالى للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الاسارى بالخيار إن شاؤا قتلوا وإن شاءوا استعبدوهم وان شاءوا فادوم، فإن كان من عبدة الاوثان ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه لا يجوز استرقاقه لانه
لا يجوز اقراره على الكفر بالجزية فلم يجز الاسترقاق كالمرتد
(والثانى)
أنه يجوز لما رويناه عن ابن عباس، ولانى من جاز المن عليه في الاسر جاز استرقاقه كأهل الكتاب، وان كان من العرب ففيه قولان قال في الجديد يجوز استرقاقه والمفاداة به وهو الصحيح، لان من جاز المن عليه والمفاداة به من الاسارى جاز استرقاقه كغير العرب.
وقال في القديم لا يجوز استرقاقه لِمَا رَوَى مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال يوم حنين (لو كان الاسترقاق ثابتا على العرب لكان اليوم، وانما هو أسر وفداء) فإن زوج عربي بأمة فأتت منه بولد فعلى القول الجديد الولد مملوك، وعلى القديم الولد حر ولا ولاء عليه لانه حر من الاصل (الشرح) حديث على (ما عندي شئ الا كتاب الله..) متفق عليه مسلم عن أبى هريرة والبخاري عن أنس حديث أم هانئ (أنها قالت يا رسول الله يزعم ابن أمي ... ) أصله في الصحيحين وساقه الحاكم في ترجمة بن هشام من حديث طويل، والازرقي عن

(19/305)


أبى هريرة عنها، وفيه الواقدي وسبق الكلام عنه فيما قبله، والطبراني وادعى الحاكم تواتره..حديث ابن عمر (يجير على المسلمين أدناهم..) أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم عن على وأحمد وأبن ماجه وأبو داود من طريق آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه وابن حبان حديث (مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ..) النسائي وأحمد وأبو داود حديث أنس (في قصة هرمز أن ليس لك إلى قتله من سبيل) ابن أبى شيبة ويعقوب بن سفيان في تاريخه والبيهقي والشافعي وعلقه البخاري مختصرا
حديث عبد الله بن عمر أنه قال (ان الله يعلم كل لسان..) ذكره البخاري تعليقا والبيهقي موصولا من حديث أبى وائل ومالك بلاغا عن عمر، وابن أبى شيبة والحديث عن عمر وليس عن ابنه أثر عمر (والذى نفس عمر بيده.
) أخرجه سعيد بن منصور في سننه وابن أبى شيبة في مصنفه حديث (قسم سبى بنى المصطلق.
) عن عائشة قالت لما قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبايا بنى المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السبى لثابت ابن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة فأتت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ الله إنى جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فجئتك أستعينك على كتابتي؟ قال فهل لك في خير من ذلك؟ قالت وما هو يا رسول الله؟ قال أقضى كتابتك وأتزوجك، قالت نعم يا رسول الله قال قد فعلت، قال وخرج الخبر إلى الناس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم، قالت فلقد أعتق بتزويجه اياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق فا أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها) أخرجه أحمد والحاكم وأبو داود والبيهقي وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر حديث (قسم سبى هوازن..) عن مروان بن الحكم ومسور بن مخرمة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين جاءه وقد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم

(19/306)


وسبيهم فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أحب الحديث إلى أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبى وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف
فلما تبين لهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير راد إليهم إلا إحدى للطائفتين قالوا فإنا نختار سبينا، فَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين وانى رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أجب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه اياه من أول ما يفئ الله علينا فليفعل، فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول الله لهم، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انا لا ندرى من اذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى ترفع الينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه أنهم قد طيبوا أذنوا، فهذا الذى بلغني عن سبى هوازن) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود حديث (قتل يوم بدر..) في مراسيل أبى داود عن سعيد بن جبير.
وقال الحافظ في التلخيص وفى قوله المطعم بن عدى تحريف والصواب طعيمة بن عدى، وأخرجه ابن أبى شيبة، ووصله الطبراني في الاوسط بذكر ابن عباس والبيهقي من طريق سعيد بن المسيب بهذه القصة مطولا وفى اسناده الواقدي حديث (من على أبى عزة الجحى..) أخرجه البيهقى من طريق سعيد بن المسيب مطولا وفيه (من على أبى عزة الجمحى عن أن لا يقاتله فلم يوف فقاتله يوم أحد فقتل فأسر وقتل، وفيه (فقال له أين ما أعطيتني من العهد والميثاق، والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين، قال شعبة فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
وفى اسناده الواقدي حديث (من على ثمامة الحنفي..) روى مسلم عن أبى هريرة: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بنى حنيفة يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ من سوارى المسجد، فخرج إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعال له ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال يا محمد عندي خير ان تقتل تقتل ذا دم

(19/307)


وإن تنعم تنعم على شاكر، وان كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، وفيه (أطلقوا ثمامة) وأصله في البخاري (من على أبى العاص..) روى أحمد وأبو داود والحاكم من حدث عائشة لما بعث أهل مكة في فدى أساراهم بعثت زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فداء زوجها أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبى العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: ان رأيتم أن تطلقوالها أسيرها وتردوا عليها الذى لها، فقالوا نعم فأطلقوه وردوا عليه الذى لها، اللفظ لاحمد.
حديث عمران بن الحصين (فادى أسيرا من عقيل..) أخرجه مسلم في صحيحه مطولا وأحمد والترمذي وابن حبان مختصرا حديث ابن عباس (ما كان لنبى أن يكون له أسرى..) أخرجه البيهقى من حديث على بن أبى طلحة بنحوه، ويقال ان على لم يسمع من ابن عباس لكنه انما أخذ التفسير عن ثقات أصحابه مجاهد وغيره، وقد اعتمده البخاري وأبو حاتم في التفسير.
حديث (لوك ان الاسترقاق ثابتا..) أخرجه البيهقى من طريق الواقدي والطبراني في الكبير من طريق فيها يزيد بن عياض وهو أضعف من الواقدي قوله (فمن أخفر مسلما) أي نقض عهده وذمته، يقال أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته بغير همز أجرته قوله (أصطفى صفية من سبى خيبر) أي أختارها، مأخوذ من صفوة المال وهو خياره، وسميت صفية لذلك، وقيل كان ذلك اسمها من قبل أن تسبى قوله (استنزلته هوازن فنزل) يقال استنزل فلان أي حط عن منزلته،
فمعناه طلبوا منه أن ينحط عما ملكه، واستنزل الناس طلبهم أن يحطوا ويتركوا ما ملكواه من السبى، ومثله استنزله من ثمن المبيع قوله (ويجوز للمسلم أن يؤمن الكفار) قال ابن مفلح وهو حنبلي في الفروع باب الامان، ويصح منجزا ومعلقا من كل مسلم عاقل مختار حتى عبد أو أسيرا أأنثى، نص على ذلك، قال في عيون المسائل وغيرها، وإذا عرف

(19/308)


المصلحة فيه، وذكر غير واحد الاجماع في المرأة بدون هذا الشرط، وعنه مكلف، وقيل يصح للاسير من الامام، وقيل والامير بما يدل عليه من قول أو أشارة أوقف أو ألق سلاحك أمان لما لو أمن يده أو بعضه أو سلم عليه أو لا تذهل أو لا بأس وقيل كناية، فإن اعتقده الكافر أمانا ألحق بمأمنه وجوبا وكذا نظائره.
قال أحمد إذا أشير بشئ غير الامان فظنه أمانا فهو أمان، وكل شئ يرى العلج انه امان فهو امان، وقال إذا اشتراه ليقتله فلا يقتله لانه إذا اشتراه فقد آمنه ويصح من الامام للكل ومن الامير لمن جعل بإزائه ومن غيرهما لقافلة فأقل، قيل لقافلة صغيرة وحصن صغير، وأطلق في الروضة لحصن أو بلد وأنه يستحب استحبابا أن لا يجار على الامير الا بإذنه وقيل لمائه ويقبل من عدل أنى أمنته في الاصح وعند الآجرى يصح لاهل الحصن ولو هموا بفتحه من عبد أو امرأة أو أسير عندهم يروى من عمر، وأنه قول فقهاء المسلمين سأله أبو داود لو أن أسيرا في عموريه نزل بهم المسلمون فأمن الاسير أهل القرية، قال يرحلون عنهم، ويشترط للامان عدم الضررب علينا وان لا تزيد مدته على عشر سنين، وقال الشوكاني في الدرر البهية: ومن أمنه أحد المسلمين صار آما، وقال صديق حسن خان في الروضة الندية أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار
آمنا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جواز أمان امرأة، وأما العبد فأجاز أمانه الجمهور، واما الصبى فقال ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ امان الصبى غير جائز، واما المجنون فلا يصح امانه بلا خلاف (قلت) انما يصح الامان من آحاد المسلمين إذا امن واحدا أو اثنين، فأما عقد الامان لاهل ناحية على العموم فلا يصح الامن الامام على سبيل الاجتهاد وتحرى المصلحة كعقد الذمة، ولو جعل ذلك لآحاد الناس صار ذريعة إلى ابطال الجهاد، قال الشوكاني في نيل الاوطار (يسعى بها ادناهم) فدخل كل وضيع بالنص وكل شريف بالفحوى، ودخل في الادنى المرأة والعبد والصبى والمجنون فأما المرأة فيدل على ذلك حديث ابى هريرة وحديث ام هاني.
قال ابن المنذر: الجمع اهل العلم على جواز امان المرأة، الا شيئا ذكره

(19/309)


عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك، لا أحفظ ذلك عن غيره، قال إن أمر الامان إلى الامام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة.
قال ابن المنذر وفى قول النبي صلى الله عليه وسلم (يسعى بذمتهم أدناهم) دلالة على إغفال هذا القائل، قال في الفتح: وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال هو إلى الامام وإن أجازه جاز وان رده رداه وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه قاتل أو لم يقاتل، وقال أبو حنيفة ان قاتل جاز والا فلا، وقال سحنون ان أذن له سيده في القتال صح أمانه والا فلا.
وأما الصبى فقال ابن المنذر أجمع أهلالعلم أن أمان الصبى غير جائز.
قال الحافظ وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذا المميز الذى يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة.
وأما المجنون فلا يصح أمانه بخلاف الكافر، لكن قال الاوزاعي ان غزا
الذى مع المسلمين فأمن أحدا فإن شاء الامام أمضاه والا فليرده إلى مأمنه.
وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه استثنى من الرجال الاحرار الاسير في أرض الحرب فقال لا ينفذ أمانه وكذلك الاجير قوله (وان أسر امرأه حرة أو صبيا حرا..) ولا خلاف في أن ما أسراسترق ولا جدال، أما أن يسترق الرجل الحر المقاتل أو يقتل فقد اختلف فيه الاقوال فقال صديق حسن خان في الروضة: ذهب الجمهور إلى أن الامام يفعل ما هو الاحوط للاسلام والمسلمين في الاسارى فيقتل أو يأخذ الفداء أو يمن، وقال الزهري ومجاهد وطائفة لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا، وعن الحسن وعطاء لا يقتل الاسير بل يتخير بين المن والفداء، وعن مالك لا يجوز المن بغير فداء، وعن الحنفية لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره وقال الامام ابن جرير الطبري في صفحة 42 جزء 16 في تفسير الآية (فإما منا بعد واما فداء) والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الاية محكمة غير منسوخة، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن والقتل إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم والى القائمين بعده بأمر

(19/310)


الامة وان لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لانه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله تعال (فاقتلوا المشركين) بل ذلك كذلك لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا من أهل الحرب فيقتل بعضا ويفادى ببعض ويمن ببعض وقال العلامة القاسمي في محاسن التأويل: وبالجملة فالذي عول عليه الائمة المحققون رضى الله عنهم أن الامير يخير بعد الظفر تخيير مصلحة لا شهوة في
الاسراء المقاتلين بين قتل واسترقاق ومن وفداء، ويجب عليه احتيار الاصلح للمسلمين لانه يتصرف لهم على سبيل النظر فلم يجز له ترك ما فيه الحظ، ثم قال فإن منهم (أي الاسرى) من له قوة ونكاية في المسلمين فقتله أصلح، ومنهم الضعيف ذو المال الكثير ففداؤه أصلح، ومنهم حسن الرأى في المسلمين يرجى اسلامه فالمن عليه أولى ومن ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاته أصلح.
وذكر ذلك في شرح الاقناع وقال ابن حزم (أبطل الله تعالى كل عهد ولم يقره ولم يجعل للمشركين الا القتل أو الاسلام، ولاهل الكتاب خاصة اعطاء الجزية وأمن المستجير والرسول حتى يؤدى رسالته، ويسمع المستجير كلام الله ثم يردان إلى بلادهما ولا مزيد، فكل عهد غير هذا فهو باطل مفسوخ لا يحل الوفاء به لانه خلاف شرط الله عز وجل وخلاف أمره وقال الشوكاني (والحاصل أن القرآن والسنة قاضيان بما ذهب إليه الجمهور فإنه قد وقع منه صلى الله عليه وسلم المن وأخذ الفداء كما في الاحاديث، ووقع منه القتل، فإنه قتل النضر بن الحرث وعقبه بن معبط وغيرهما ووقع منه فداء رجلين من المسلمين برجل من المشركين قال الترمذي بعد أن ساق حديث عمران بن حصين في فداء أسيرين من المسلمين (والعمل على هذا عن أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم ان للامام ان يمن على من شاء من الاسارى ويقتل من شاء منهم ويفدى ن شاء) واختار بعض اهل العلم القتل على الفداء، ويروى انه قيل لاحمد (إذا أسر الاسير يقتل أو يفادى احب اليك؟ قال ان قدر ان يفادى

(19/311)


فليس به بأس وإن قتل فما أعلم به بأسا، قال اسحاق: الاثخان أحب إلى الا أن
يكون معروفا يطمع به الكثير.
(قلت) والصحيح في هذا ما ذهب إليه العلامة القاسمي وكان بودى أن أقدم للقارئ بحثا مستفيضا عن الرق في الاسلام، وكيف قضى عليه الدين الحكيم، ولكن ضيق المقام وطلب الناشر الاختصار قدر الامكان لا يمنعنا من أن نقول ان عادة استرقاق أسر ى الحرب التى كانت عامة شاملة في جميع الامم والبلاد، والتى كانت المصدر الرئيسي للرقيق الانساني والتى ظلت جارية في كثير من البلاد والامم غير الاسلامية مدة طويلة إلى عهد قريب قد ضربت بآية (فإما منا بعد وإما فداء) ضربة حاسمة والتعديل الذى دخل عليها ليس من شأنه أن يخفف من شدتها لانه تخييير وليس إيجابها، وإذا أضفنا إلى هذا ما احقوا القرآن المكى والمدنى من وسائل عديدة لتحرير الرقيق، وما احتوته السنة من مثل ذلك بدا أن القرآن والسنة قد هدفا إلى الغاء الرقيق، وأن ما جاء فيهما من تشريع في صدده إنما كان تنظيما ومجاراة الواقع وليس إيجابا وتأييدا له أما قوله في استرقاق العرب، قال الشوكاني استدل المصنف (يعنى ابن تيميه الجد) رحمه الله تعالى بأحاديث الباب على جواز استرقاق العرب، والى ذلك ذهب الجمهور كما حكاه الحافظ في كتاب العتق من فتح الباري، وحكى في البحر عن العترة وأبى حنيفة أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الاسلام أو السيف، واستدل لهم بقوله تعالى (فإذا انسلخ الاشهر الحرم ... ) قال والمراد مشركوا العرب اجماعا، فإن كان أعجميا أو كتابيا جاز لقول ابن عباس في تفسير (فإما منا بعد..) خير الله تعالى نبيه في الاسرى بين القتل والفداء والاسترقاق، وان كان عربيا غير كتابي لم يجز وقال الشافعي يجوز لنا قوله صلى الله عليه وسلم (لو كان الاسترقاق ثابتا على العرب، الخبر، اه.
وهو يشير إلى حديث معاذ الذى أخرجه الشافعي والبيهقي
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يوم حنين (لو كان الاسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم، إنما هو أسرى وفى اسناده الواقدي ضعيف جدا، ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي، ومثل هذا

(19/312)


لا تقوم به حجة، وظاهر الآية عدم الفرق بين العربي والعجمي، وقد خصصت الهادوية عدم جواز الاسترقاق بذكور العرب دون اناثهم، ثم قال والحاصل (أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى أن بعض هذه الامو ر تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات، والمجوز قائم في مقام المنع، وقول ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات، والمجوز قائم في مقام المنع، وقول على وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة، وقد استرق بنى ناحية ذكورهم وإناثهم وباعهم كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ، وبنو ناجية من قريش فكيف ساغت له مخالفته
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يختار الامام في الاسير من القتل والاسترقاق والمن والفداء إلا ما فيه الحظ للاسلام والمسلمين، لانه ينظر لهما فلا يفعل ما فيه الحظ لهما فإن بذل الاسير الجزية وطلب أن تعقد له الذمة وهو ممن يجوز أن تعقد له الذمة ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يجب قبولها كما يجب إذا بذل وهو في غير الاسر، وهو ممن يجوز أن تعقد لمثله الذمة.

(والثانى)
أنه لا يجب لانه يسقط بذلك ما ثبت من اختيار القتل والاسترقاق والمن والفداء، وإن قتله مسلم قبل أن يختار الامام ما يراه عزر القاتل لافتياته
على الامام ولاضمان عليه لانه حربى لا أمان له، وان أسلم حقن دمه لقوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وهل يرق بالاسلام أو يبقى الخيار فيه بنى الاسترقاق والمن والفداء، فيه قولان
(أحدهما)
أنه يرق بنفس الاسلام ويسقط الخيار في الباقي لانه أسير لا يقتل فرق كالصبى والمرأة
(والثانى)
انه لا يرق بل يبقى الخيار في الباقي، لما روى عمران بن الحصين رضى الله عنه ان الاسير العقبلى قال يا محمد انى مسلم ثم فاداه برجلين، ولان

(19/313)


ما ثبت الخيار فيه بين أشياء إذا سقط أحدهما لم يسقط الخيار في الباقي ككفارة اليمين إذا عجز فيها عن العتق، فعلى هذا إذا اختار الفداء لم يجز أن يفادى به إلا أن يكون له عشيرة يأمن مهم على دينه ونفسه وإن أسر شيخ لاقتال فيه ولا رأى له في الحرب، فإن قلنا إنه يجوز قتله فهو كغيره في الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، وإن قلنا لا يجوز قتله فهو كغيره إذا اسلم في الاسر وقد بيناه:
(فصل)
وإن رأى الامام القتل ضرب عنقه لقوله عز وجل (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) ولا يمثل به لما روى بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية قال اغزوا بسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تعذروا ولا تمثلوا ولا تغلوا، ويكره حمل رأس من قتل من الكفار إلى بلاد المسلمين لما روى عقبة بن عامر أن شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص بثا بريدا إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه برأس بناق البطريق، فقال أتحملون الجيف إلَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ يا خليفة
رسول الله إنهم يفعلون بنا هكذا، قال لا تحملوا الينا منهم شيئا، وان اختار استرقاقه كان للغانمين، وإن فاداه بمال كان للغانمين وإن أراد أن يسقط منهم شيئا من المال لم يجز إلا برضا الغانمين، لما روى عروة بن الزبير أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءه وفد هوازن مسلمين، فقال ان اخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين وانى قد رأيت أن أرد إليهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما بقئ الله علينا فليفعل، فقال الناس قد طيبنا لك يا رسول الله.
قال الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد ستة آلاف سبى من سبى هوازن من النساء والصبيان والرجال إلى هوازن حين أسلموا، وان أسر عبد فرأى الامام أن يمن عليه لم يجز الا برضا الغانمين، وان رأى قتله لشره وقوته قتله وضمن قيمته للغانمين لانه مال لهم

(19/314)


(الشرح) حديث (أمرت أن أقاتل..) متفق عليه من حديث عمر وأبى هريرة.
حديث عمران بن الحصين (أن الاسير العقيلى قال يا محمد..) مسلم (بريدة (إذا أمر أميرا على جيش أو سرية..) أخرجه مسلم بطوله (عمرو بن العاص (بعثا بريدا إلى أبى بكر برأس يناق البطريق..) في كتاب أخبار زياد لمحمد بن زكريا الغلابى الاخباري حديث (جاء وفد هوازن مسلمين) سبق تخريجه (جاء ستة آلاف سبى من هوازن) الواقدي وابن اسحاق في المغازى اللغة: قوله (لا تغدروا) لا تتركوا الوفاء بالذمة، ولا تمثلوا لا تجدعوا الانف ولا تصلموا الاذن ونحوه، ولا تغلوا لا تخونوا لتخفوا شيئا من الغنيمة.
قوله (بعثا بريدا) أي رسولا وقد ذكر قوله (يناق البطريق) بتقديم الياء على النون والتشديد، قال الصنعانى في التكلمة ويخفف نونه أيضا، وهو جد الحسن بن مسلم بن يناق من تابع التابعين والبطريق عند الروم مثل الرئيس عند العرب وجمعه بطارقه قوله (فمن أحب منكم ان يطيب) معناه من أحب أن يهب بطيب نفس منه (وطيبنا لك) وهبنا لك عن طيب انفسنا ومنه (سبى طيبية) بكسر الطاء وفتح الياء صحيح السباء لم يكن عن غدر ولانقض عهد قوله (ولا يختار الامام ما في الاسير من القتل والاسترقاق) سبق ايضاحه فيما قبله مباشرة بشئ من التوسع، الا أن ابن حزم قال: ولا يحل فداء الاسير المسلم إلا بمال واما بأسير كافر، ولا يحل ان يرد صغير سبى من ارض الحرب إليهم لا بفداء ولا بغير فداء، لانه قد لزمه حكم الاسلام بملك المسلمين فهو وأولاد المسلمين سواء ولا فرق، وهو قول المزني
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان دعا مشرك إلى المبارزة فالمستحب ان يبرز إليه مسلم، لما روى ان عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة دعوا إلى المبارزة فبرز إليهم

(19/315)


حمزة بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب وعبيدة بن الحرث، ولانه إذا لم يبرز إليه أحد ضعفت قلوب المسلمين وقويت قلوب المشركين، فإن بدأ المسلم ودعا إلى المبارزة لم يكره.
وقال أبو على بن أبى هريرة يكره لانه ربما قتل وانكسرت قلوب المسلمين، والصحيح أنه لا يكره لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عن المبارزة بين الصفين فقال لا بأس، ويستحب ان لا يبارز إلا قوى في الحرب لانه إذا بارز ضعيف لم يؤمن أن يقتل
فيضعف قلوب المسلمين، وإن بارز ضعيف جاز، ومن أصحابنا من قال لا يجوز لان القصد من المبارزة إظهار القوة، وذلك لا يحصل من مبارزة الضعيف، والصحيح هو الاول لان التغرير بالنفس يجزو في الجهاد، ولهذا يجوز للضعيف أن يجاهد كما يجوز للقوى، والمستحب أن لا يبارز الا بإذن الامير ليكون ردءا له إذا احتاج، فإن بارز بغير إذنه جاز، ومن أصحابنا من قال لا يجوز، لانه لا يؤمن أن يتم عليه ما ينكسر به الجيش، والصحيح أنه يجوز، لان التغرير بالنفس في الجهاد جائز.
وإن بارز مشرك مسلما نظرت فإن بارز من غير شرط جاز لكل أحد أن يرميه لانه حربى لاأمان له، وان شرط أن لا يقاتله غير من برز إليه لم يجز رميه وفاء بشرطه، فإن ولى عنه مختارا أو مثخنا، أو ولى عنه المسلم مختارا أو مثخنا جاز لكل أحد رميه لاه شرط الامان في حال القتال وقد انقضى القتال فزال الامان.
وإن استنجد المشرك أصحابه في حال القتال فأنجدوه أو بدأ المشركون بمعاونته فلم يمنعهم جاز لكل أحد رميه لانه نقض الامان، وإن أعانوه فمنعهم فلم يقبلوا منه فهو على أمانه لانه لم ينقض الامان ولا انقضى القتال، وإن لم يشترط ولكن العادة في المبارزة أن لا يقاتله غير من يبرز إليه، فقد قال بعض أصحابنا انه يستحب ان لا يرميه غيره، وعندي أنه لا يجوز لغيره رميه، وهو ظاهر النص لان العادة كالشرط فإن شرط أن لا يقاتله غيره ولا يتعرض له إذا انفضى القتال حتى يرجع إلى

(19/316)


موضعه وفى له بالشرط فإن ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله جاز لكل أحد أن يرميه لانه نقض الشرط فسقط أمانة

(فصل)
وان غرر بنفسه من له سهم في قتل كافر مقبل على الحرب فقتله استحق سلبه لما روى أبو قتادة قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين فرأيت رجلا من المشركين علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من وراثه فضربته على حبل عاتقه فأقبل على فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، فقصصت عليه فقال رجل صدق يا رسول الله وسلب ذلك الرجل عندي فأرضه، فقال ابو بكر رضى الله عنه لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله فيعطيك سلبه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدق فأعطه إياه فأعطاني اياه، فبعث الدرع فابتعت به مخرفا في بنى سلمة، وانه لاول مال تأثلته في الاسلام.
فإن كان ممن لا حق له في الغنيمة كالمخذل والكافر إذا حضر من غير اذن لم يستحق لانه لا حق له في السهم الراتب، فلان لا يستحق السلب وهو غير راتب أولى، فإن كان ممن يرضخ له كالصبى والمرأة والكافر إذا حضر بالاذن ففيه وجهان:
(أحدهما)
انه لا يستحق لما ذكرناه
(والثانى)
انه يستحق لان له حقا في الغنيمة، فأشبه من له سهم، وان لم يغرر بنفسه في قتله بأن رماه من وراء الصف فقتله لم يستحق سلبه، وان قتله وهو غير مقبل على الحرب كالاسير والمثخن والمنهزم لم يستحق سلبه، وقال ابو ثور (كل مسلم قتل مشركا استحق سلبه) لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ قتل كافرا فله سلبه) ولم يفصل، وهذا لا يصح لان ابن مسعود رضى الله عنه قتل أبا جهل وكان قد اثخنه غلامان من الانصار فلم يدفع النبي صلى الله عليه وسلم سلبه إلى ابن مسعود، وان قتله وهو مول
ليكر استحق السلب، لان الحرب كروفر.
وان اشترك اثنان في القتل اشتركا

(19/317)


في السلب لا شتراكهما في القتل، وإن قطع أحدهما يديه أو رجليه وقتله الآخر ففيه قولان:
(أحدهما)
أن السلب للاول لانه عطله
(والثانى)
أن السلب للثاني لانه هو الذى كف شره دون الاول، لان بعد قطع اليدين يمكنه أن يعود أو يجلب، وبعد قطع الرجلين يمكنه أن يقاتل إذا ركب، وإن مخرر من له سهم فأسر رجلا مقبلا على الحرب وسلمه إلى الامام حيا ففيه قولان
(أحدهما)
لا يستحق سلبه لانه لم يكف شره بالقتل
(والثانى)
أنه يستحق لان تغريره بنفسه في أسره ومنعه من القتال أبلغ من القتل، وإن من عليه الامام أو قتله استحق الذى أسره سلبه، وإن استرقه أو فاداه بمال ففى رقبته وفى المال المفادى به قولان
(أحدهما)
أنه للذى أسره
(والثانى)
أنه لا يكون له لانه مال حصل بسبب تغريره فكان فيه قولان كالسلب
(فصل)
والسلب ما كان يده عليه من جنة الحرب، كالثياب التى يقاتل فيها والسلاح الذى يقاتل به والمركوب الذى يقاتل عليه، فأما ما لابد له عليه كخيمته وما في رجله من السلاح والكراع فلا يستحق سلبه لانه ليس من السلب وأما ما في يده مما لا يقاتل به، كالطوق والمنطقة والسوار والخاتم وما في وسطه من النفقة ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه ليس من السلب لانه ليس من جنة الحرب
(والثانى)
أنه من السلب لان يده عليه فهو كجنة الحرب، ولا يخمس السلب لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب.
(الشرح) حديث (عتبة وشيبة ابني الربيع..) أخرجه البخاري مختصرا وأبو داود من حديث على حديث أبى هريرة (أن رسول الله سئل عن المبارزة..) في الصحيحين من حديث عهد الرحمن بن عوف أن عوفا ومعوذا ابني العفراء خرجا يوم بدر إلى البراز فلم ينكر عليهما

(19/318)


حديث أبى قتادة (أن رجلا من المشركين علا..) متفق عليه من حديث طويل.
حديث أنس (من قتل كافرا فله سلبه الخ) متفق عليه والترمذي من حديث أبى قتادة بلفظ (من قتل قتيلا فله سلبه) وأحمد من سمرة بن جندب وأبو داود عن أنس بلفظ (من قتلا رجلا) وسنده لا بأس به، وقال مالك في الموطأ لم يبلغني إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ من قتل قتيلا فله سلبه الا يوم حنين، قال الحافظ في الصحيح انه صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، ثم قال الحافظ (فائدة) وقع في كتب بعض أَصْحَابِنَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذلك يوم بدر وهو وهم وانما قاله يوم حنين، وهو صريح عند مسلم حديث ابن مسعود (قتل أبا جهل) أبو داود وأحمد انه وجد أبا جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو صريع يذب الناس عنه بسيف له فأخذه عبد الله ابن مسعود فقتله به، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه، أما الرواية فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أيكما قتله، فقال كل واحد منهما أنا قتلته فقال هل مسحتما سيفيكما؟ قالا لا، فنظر في السيفين فقال كلا كما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء اللغة: قوله (وان دعا مشرك إلى المبارزة) أصل البروز الظهور في البراز
وهو المكان الفضاء الواسع، وهو ههنا ظهور المتحاربين بين الصفين لا يستتران بغيرهما من أهل الحرب، قال الله تعالى (وترى الارض بارزة) أي ظاهرة ليس فيها ظل ولا فئ.
قوله (مختارا أو مثخنا) أثخنته الجراحة إذا وهنته بألمها، وأثخنه المرض اشتد عليه، وقال الازهرى أثخنه تركه وقيدا لا حراك به مجروحا، وقوله تعالى (حتى يثخن في الارض) أي يكثر القتل والايقاع بالعدو، وقال الازهرى يثخن يبالغ في قتل أعدائه قوله (استنجد المشرك) أي استعان وأنجدته أعنته والنجدة الشجاعة أيضا يقال رجل نجد ونجد أي شجاع قوله (حبل عاتقه) قال الازهرى حبل العاتق عرق يظهر على عاتق الرجل

(19/319)


يتصل بحبل الوريد في باطن العنق، قال وإنما سمى السلب سلبا لان قاتله يسلبه فهو مسلوب وسليب، كما يقال خبطت الشجر ونفضته، والورق المخبوط خبط ونفض.
قوله (فابتت به مخرفا في بنى سلمة) المخرف بالفتح البستان.
وفى الحديث عائد المريض في مخرف من مخارف الجنة حتى يرجع، يقال خرف التمر واخترفه إذا جناه.
واشتقاقه من الخريف وهو الفصل المعروف من السنة لان إدراكه يكون فيه.
قوله (تأثلته) التأثل اتخاذ أصل المال، ومجد مؤثل أي أصيل، وفى الحديث في وصى اليتيم فليأكل غير متأثل مالا، وأصله من الاثلة التى هي الشجرة، قال امرؤ القيس: ولكنما أسعى لمجد مؤثل
* وقد يدرك المجد المؤثل أمثالى قوله (يرضخ له) الرضخ أن يعطيه أقل من سهم المقاتل والرضخ العطاء
القليل.
قوله (يعدو أو يجلب) الجلبة رفع الصوت جلب وأجلب إذا صوت قوله (جنة الحرب) هو ما يستره ويمنعه من وصول السلاح، وكلما استقر به فهو جنة قوله (وان دعا مشرك إلى المبارزة الخ) قال الشوكاني بعد أن أورد حديث على الذى بارز فيه هو وسيد الشهداء حمزة وعبيدة عتبة بن ربيعة ومعه ابنه وأخاه، دليل على أنها تجوز المبارزة، والى ذلك ذهب المجهور، والخلاف في ذلك للحسن البصري وشرط الاوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق اذن الامير كما في هذه الرواية فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ للمذكورين، والجميع متفق على باق ما أورده المصنف قوله (وان غرر بنفسه من له سهم) قال الترمذي في الجامع الصحيح بعد أن أورد حديث قتادة: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم، وهو قول الاوزاعي والشافعي وأحمد، وقال بعض أهل العلم للامام ان يخرج من السلب الخمس، وقال الثوري النفل أن يقول الامام من أصاب شيئا فهو له، ومن قتل قتيلا فله سلبه فهو جائز وليس فيه الخمس

(19/320)


وقال اسحاق السلب للقاتل إلا أن يكون شيئا كثيرا فرأى الامام أن يخرج منه الخمس كما فعل عمر بن الخطاب وقال المباركفورى في التحفة (ذهب المجهور إلى أن القاتل يستحق السلب، سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلا فله سلبه أم لا، واستدلوا بحديث أبى قتادة.
وروى عن مالك أنه يخير الامام بين أن يعطى القاتل السلب أو يخمسه، واختاره القاضى اسماعيل، واحتج القائلون بتخميس السلب لعموم قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم..) فإنه لم يستثن شيئا، قلت والآية عامة والاحاديث
مخصصة، وبذا يمكن الجمع كما أن حديث عوف بن مالك وخالد لا خمس فيها قال الشوكاني يستحق القاتل جميع السلب وان كان كثيرا، وعلى أن القاتل يستحق السلب في كل حال، حتى قال أبو ثور وابن المنذر يستحقه، ولو كان المقتول منهزما.
وقال أحمد لا يستحقه الا بالمبارزة، وعن الاوزاعي إذا التقى الزحفان فلا سلب، وقد اختلف إذا كان المقتول امرأة هل يستحق سلبها القاتل أم لا؟ فذهب أبو ثور وابن المنذر إلى الاولى، وقال الجمهور شرطه أن يكون المقتول من المقاتلة، واتفقوا على أنه لا يقبل قول من ادعى السلب الا ببينة تشهد له بأنه قتله والحجة في ذلك قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قَتَلَ قتيلا له عليه بينة فله سلبه) فمفهومه أنه إذا لم يكن له بينة لا تقبل وعن الاوزاعي يقبل قوله بغير بينة، لان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أبا قتادة بغير بينة، وفيه نظر لانه وقع في مغازى الواقدي، وعلى تقدير أنه لا يصح فيحمل عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم انه القاتل بطريق من الطرق، وأبعد من قال من المالكية أن المراد بالبينة هنا الذى أقر له أن السلب عنده فهو شاهد والشاهد الثاني وجود المسلوب فإنه بمنزلة الشاهد على أنه قتله، وقيل انما استحقه أبو قتادة بإقرار الذى هو بيده، وهذا ضعيف لان الاقرار انما يفيد إذا كان المال منسوبا لمن هو بيده فيؤاخذ بإقراره والمال هنا لجميع الجيش، ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا يكفى فيها شاهد واحد وقد اختلف في المرأة والصبى هل يستحقان سلب من قتلاه، وفى ذلك وجهان.

(19/321)


قال الامام بحيى أصحهما يستحقان لعموم من قتل قتيلا، قال في البحر وإنما يستحق السلب حيث قتله والحرب قائمة لا لو قتله نائما أو فارا قبل مبارزته أو مشغولا
بأكل، ولا لو رماه بسهم إذ هو في مقابلة المخاطرة بالنفس، ولا مخاطرة هنا، ولا لو قتل أسيرا أو عزيلا من السلاح، ولا لو قتل من لاسطوة له كالمقعد، فإن قطع يديه ورجليه استحق سلبه، إذ قد كفى شره، ولو جرحه رجل ثم قتله آخر فالسلب للآخر، إذ لم يعط النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود سلب أبى جهل وقد جرحه، بل أعطى قاتليه من الانصار، قال فلو ضرب أحدهما يده والآخر رقبته فالسلب لضارب الرقبة ان لم تكن ضربة الآخر قاتلة والا اشتركا، والمراد بالسلب هو ما أجلب به المقتول من ملبوس ومركب وسلاح لا ماكان باقيا في بيته، قال الامام يحيى ولا المنطقة والخاتم وللسوار والجنيب من الخيل فليس بسلب، قال المهدى بل ذهب ان كل ما ظهر على القتيل أو معه فهو سلب لا يخفى من جواهر أو دراهم أو نحوها اه.
والظاهر من الاحاديث أنه يقال للكل شئ وجد مع المقتول وقت السلب سواء كان مما يظهر أو يخفى.
واختلفوا هل يدخل الامام في العموم إذا قال من قتل قتيلا، فذهب أبو حنيفة والهادوية إلى الاول العموم اللفظ الا لقرينة مخصصة نحو أن يقول من قتل منكم وذهب الشافعي والمؤيد بالله في قول انه لا يدخل
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان حاصر قلعة ونزل أهلها على حكم حاكم جاز لان بنى قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بقتل رجالهم وسبى نسائهم وذراريهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة ويجب أن يكون الحاكم حرا مسلما ذكرا بالغا عاقلا عدلا عالما، لانه ولاية حكم فشرط فيها هذه الصفات كولاية القضاء، ويجوز أن يكون أعمى لان الذى يقتضى الحكم هو الذى يشتهر من حالهم وذلك يدرك بالسماع فصح من الاعمى كالشهادة فيما طريقه الاستفاضة، ويكره أن يكون الحاكم حسن الرأى فيهم لميله إليهم،
ويجوز حكمه لانه عدل في الدين.

(19/322)


وإن نزلوا على حكم حالكم يختاره الامام جاز، لانه لا يختار الامام إلا من يجوز حكمه، وإن نزلوا على حكم من يختارونه لم يجز إلا أن يشترط أن يكون الحاكم على الصفات التى ذكرناها وإن نزلوا على حكم اثنين جاز لانه تحكيم في مصلحة طريقها الرأى فجاز أن يجعل إلى اثنين كالتحكيم في اختيار الامام، وإن نزلوا على حكم من لا يجوز أن يكون حاكما أو على حكم من يجوز أن يكون حاكما فمات، أو على حكم اثنين فماتا أو مات أحدهما وجب ردهم إلى القلعة لانهم على أمان فلا يجوز أخذهم إلا برضاهم ولا يحكم الحاكم إلا بما فيه مصلحة للمسلمين من القتل والاسترقاق والمن والفداء.
وإن حكم بعقد الذمة وأخذ الجزية ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجوز إلا برضاهم لانه عقد معاوضة فلا يجوز من غير رضاهم
(والثانى)
يجوز لانهم نزلوا على حكمه وإن حكم أن من أسلم منهم استرق ومن أقام على الكفر قتل جاز.
وإن حكم بذلك ثم أراد أن يسترق من حكم بقتله لم يجز لانه لم ينزل على هذا الشرط، وان حكم عليهم بالقتل ثم رأى هو أو الامام أن يمن عليهم جاز لان سعد بن معاذ رضى الله عنه حكم بقتل رجال بنى قريظة، فسأل ثابت الانصاري رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يهب له الزبير بن باطا اليهودي ففعل، فإن حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم الا برضا الغانمين لانهم صاروا مالا لهم.
(الشرح) (حديث لقد حكمت فيهم..) أخرجه البخاري ومسلم من حديث طويل وأحمد.
حديث (سألت ثابت الانصاري..) أخرجه البيهقى
اللغة: قوله (من فوق سبعة أرقعة) الرقيع سماء الدنيا وكذلك سائر السموات وهى طباقها، لان كل سماء رقعة التى تليها، كما يرقع الثوب بالرقعة، وجاء به على التذكير كأنه ذهب به إلى السقف، والزبير بن باطا بفتح الراى وكسر الباء قوله (وان حاصر قلعة..) مذهب الجمهور أن الامر في الاسارى الكفرة من الرجال إلى الامام يفعل ما هو الاحظ للاسلام والمسلمين، وقد سبق شرح ما ورد فيما سبق ولا خلاف فيما أورده المزلف بين الجمهور

(19/323)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ومن أسلم من الكفار قبل الاسر عصم دمه وماله، لِمَا رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فإن كانت له منفعة بإجارة لم تملك عليه لانها كالمال، وإن كانت له زوجة جاز استرقاقها على المنصوص ومن أصحابنا من قال لا يجوز كما لا يجوز أن يملك ماله ومنفعته، وهذا خطأ لان منفعة البضع ليست بمال ولا تجرى مجرى المال، ولهذا لا يضمن بالغصب بخلاف المال والمنفعة وإن كان له ولد صغير لم يجز استرقاقه، لان النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بنى قريظة فأسلم ابنا شعبة فأحرز بإسلامهما أموالهما وأولادهمما، ولانة مسلم فلم يجز استرقاقه كالاب، وإن كان حمل من حربية لم يجز استرقاقه لانه محكوم بإسلامه فلم يسترق كالولد، وهل يجوز استرقاق الحامل؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لانه إذا لم يتسرق الحمل لم يتسرق الحامل، ألا ترى أنه لما لم يجز بيع الحر لم يجز بيع الحامل به

(والثانى)
أنه يجوز لانها حربية لاأمان لها (الشرح) حديث (أمرت أن أقاتل) متفق عليه حديث (حاصر بنى قريظة فأسلم ابنا شعبة) رواه ابن إسحاق في المغازى والبيهقي بلفظ على شيخ من بين قريظة والنضير أنه قال: هل تدرى كيف كان إسلام ثعلبة وأسيد ونفر من هذيل لم يكونوا من بنى قريظة، والنضير كانوا فوق ذلك أنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان، فأقام عندنا فوالله ما رأينا رجلا قط لا يصلى الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنين وكان يقول أنه يتوقع خروج نبى قد أظل زمانه، فلما كانت الليلة التى

(19/324)


افتتح فيها قريظة قال أولئك الفتية الثلاثة يا معشر يهود، والله إنه كان للرجل الذى ذكر لكم ابن الهيبان قالوا ما هو اياه، قال بلى والله انه لهو، قال فنزلوا وأسلموا وكانوا شبابا فخلوا أموالهم وأولادهم وأهليهم في الحصن عند المشركين فلما فتح رد ذلك عليهم.
اللغة: قوله (ومن أسلم من الكفار) ذهب الجمهور إلى أن الحربى إذا أسلم طوعا كانت جميع أمواله في ملكه ولا فرق بين أن يكون إسلامه في دار الاسلام أو دار الكفر على ظاهر الدليل.
وقال بعض الحنيفة: ان الحربى إذا أسلم في دار الحرب وأقام بها حتى غلب المسلمون عليها فهو أحق بجميع ماله إلا أرضه وعقاره فإنها تكون فيئا للمسلمين وقد خالفهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور.
وذهبت الهادوية إلى مثل ما ذهب به بعض الحنيفة: إذا كان اسلامه في دار الحرب، قالوا وان كان اسلامه في دار الاسلام كانت أمواله جميعها فيئا من غير فرق بين المنقول وغيره إلا أطفاله فإنه لا يجوز سبيهم.
ويدل على ما ذهب إليه الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم أقر عقيلا على تصرفاته فيما كان لاخويه على وجعفر وللنبى صلى الله عليه وسلم من الدور والرباع بالبيع وغيره ولم يغير ذلك ولا انتزعها ممن هي في يده لما ظفر، فكان ذلك دليلا على تقرير من بيده دار أو أرض إذا أسلم وهى في يده بطريق الاولى، وقد بوب البخاري على قصة عقيل فقال: باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهى لهم.
قال لقرطبي: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم من على أهل مكة بأموالهم ودورهم قبل أن يسلموا، فتقرير من أسلم يكون بطريق الاولى، ثم قال: إن عبد الحربى إذا أسلم صار حرا بإسلامه، إلا إذا أسلم سيده قبله.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أسلم رجل وله ولد صغير تبعه الولد في الاسلام لقوله عز وجل (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم)

(19/325)


وإن أسلمت امرأة ولها ولد صغير تبعها في الاسلام لانها أحد الابوين فتبعها الولد في الاسلام كالاب، وإن أسلم أحدهما والولد حمل تبعه في الاسلام لانه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع المسلم منهما كالولد، وإن أسلم أحد الابوين دون الآخر تبع الولد المسلم منهما لان الاسلام أعلى فكان إلحاقه بالمسلم منهما أولى وإن لم يسلم واحد منهما فالولد كافر، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن بلغ وهو مجنون فأسلم أحد أبويه تبعه في الاسلام لانه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع الابوين في الاسلام كالطفل وان بلغ عاقلا ثم جن ثم أسلم أحد أبويه ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا يتبعه لانه زال حكم الاتباع ببلوغه عاقلا فلا يعود إليه
(والثانى)
أنه يتبعه، وهو المذهب، لانه لا يصح اسلامه بنفسه فتبع أبويه في الاسلام كالطفل.

(فصل)
وان سبى المسلم صبيا فإن كان معه أحدا أبويه كان كافرا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وان سبى وحده ففيه وجهان
(أحدهما)
انه باق على حكم كفره ولا يتبع السابى في الاسلام، وهو ظاهر المذهب لان يد السابى يد ملك فلا توجب اسلامه كيد المشترى
(والثانى)
أنه يتبعه لانه لا يصح اسلامه بنفسه ولا معه من يتبعه في كفره فجعل تابعا للسابى لانه كالاب في حضانته وكفالته فتبعه في الاسلام (الشرح) حديث أبى هريرة (كل مولود يولد على الفطرة) أخرجه البخاري ومسلم (ما من مولود الايولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) أخرجه أحمد اللغة: قوله (جمعاء) بفتح الجيم وسكون الميم بعدها عين مهملة، قال في القاموس والجمعاء الناقة المهزولة ومن البهائم التى لم يذهب من بدنها شئ (جدعاء) والجدع قطع الانف أو الاذن أو اليد أو الشفة كما في القاموس، قال والجدعة محركة ما بقى بعد القطع.
اه

(19/326)


(قلت) المقصود أن البهائم كما أنها تولد سليمة من الجدع كاملة الخلقة وانما يحدث لها نقصان الخلقة بعد الولادة بالجدع ونحوه، كذلك أولاد الكفار يولدون على الدين الحق الدين الكامل، وما يعرض لهم من التلبس فإنما هو حادث بعد الولادة بسبب الابوين أو من يقوم مقامهما، وحديث أبى هريرة فيه دليل على أن أولاد الكفار حكم لهم عند الولادة بالاسلام، وانه إذا وجد الصبى في
دار الاسلام دون أبويه كان مسلما لانه إنما صار يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا بسبب أبويه فإذا عدما فهو باق على ما ولد عليه وهو الاسلام، كما سبق الافاضة في شرح هذا فيما سبق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وصف الاسلام صبى عاقل من أولاد الكفار، لم يصح إسلامه على ظاهر المذهب، لما روى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبى حتى يحتلم) ولانه غير مكاف فلم يصح إسلامه بنفسه كالمجنون، فعلى هذا يحال بينه وبين أهله من الكفار إلى أن يبلغ لانه إذا ترك معهم خدعوه وزهدوه في الاسلام فإن بلغ ووصف الاسلام حكم بإسلامه، وإن وصف الكفر هدد وضرب وطولب بالاسلام، وإن أقام على الكفر رد إلى أهله من الكفار.
ومن أصحابنا من قال يصح اسلامه، لانه يصح صومه وصلاته، فصح اسلامه كالبالغ.

(فصل)
وان سبيت امرأة ومعها ولد صغير لم يجز التفريق بينهما، وقد بيناه في البيع، وان سبى رجل ومعه ولد صغير ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجوز التفريق بينهما لانه أحد الابوين فلم يفرق بينه وبين الولد الصغير كالام
(والثانى)
أنه يجوز أن يفرق بينهما، لان الاب لابد أن يفارقه في الحضانة، لانه لا يتولى حضانته بنفسه وانما يتولاها غيره فلم يحرم التفريق بينهما، بخلاف

(19/327)


الام فإنها لا تفارقه في الحضانة، فإنه إذا فرق بينهما ولهت بمفارقته فحرم التفريق بينهما.

(فصل)
وان سبى الزوجان أو أحدهما انفسخ النكاح، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: أصبنا فساء يوم أوطاس فكرهوا أن يقعوا عليهن فأنزل الله تعالى (والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم فاستحللناهن) قال الشافعي رحمه الله: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوطاس وبنى المصطلق وقسم الفئ وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض، ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها وان كان الزوجان مملوكين فسبيا أو أحدهما فلا نص فيه، والذى يقتضيه قياس المذهب أن لا ينفسخ النكاح لانه لم يحدث بالسبي رق وانما حدث انتقال الملك فلم ينفسخ النكاح، كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع، ومن أصحابنا من قال ينفسخ النكاح لانه حدث سبى يوجب الاسترقاق، وان صادق رقا، كما أن الزنا يوجب الحد وان صادف حدا (الشرح) حديث على أخرجه الحاكم وأبو داود عن على وعمر بلفظ (رفع القلم عن ثلاثة، عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبى حتى يحتلم) وأخرجة الحاكم وأبو داود والنسائي عن عائشة بلفظ (رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبى حتى يكبر) وأخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن على بلفظ (رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبى حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل) حديث أبى سعيد الخدرى أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في سبايا أو طاس (لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) واسناده حسن.
وروى الدارقطني عن ابن عباس فهى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ توطأ حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض، ثم نقل عن ابن صاعد أن العابدى
تفرد بوصله وأن غيره أرسله، ورواه الطبراني في الصغير من حديث أبى هريرة

(19/328)


بإسناده ضعيف وأبو داود من حديث رويفع بن ثابت (لا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يقع على امرأة من السبى حتى يستبرئها بحيضة) وروى ابن أبى شيبة عن على قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ توطأ الحامل حتى تضع أو الحائل حتى تستبرأ بحيضة) لكن في إسناده ضعف وانقطاع.
وروى مسلم عن أبى سعيد (أصبنا نساء يوم أوطاس فكرهوا أن يقعوا عليهن من أجل أزاواجهن من المشركين فأنزل الله تعالى (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم) فاستحللناهن، وفى آخره فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن.
اللغة: قوله (وان وصف الاسلام صبى عاقل..) (قلت) إنه لا يصح إسلامه ويحال بينه وبين أهله ولا يرد إليهم، وقد سبق شرحه بإفاضة.
أما القول الثاني بأنه يصح اسلامه لانه يصح صلاته فقد اختلفت فيه الآراء كثيرا، قال الشيخ محمود خطاب في المنهل في حديث (مروا الصبى بالصلاة) الخطاب للاولياء لان الصغير غير مكلف لحديث (رفع القلم..) وأمره صلى الله عليه وسلم للاولياء للوجوب وليس أمرا للصبى، لان الامر بالامر بالشئ ليس أمرا به كما هو رأى الجمهور، خلافا للمالكية حيث قالوا ان الامر بالامر بالشئ أمر بذلك الشئ، فالصبي عندهم مأمور بالصلاة ندبا وتكتب له عليها، سواء أكان الولى أبا أم جدا أم وصيا أم قيما من جهة القاضى لقوله تعالى (وإمر أهلك بالصلاة) قال الشافعي في المختصر: على الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يُؤَدِّبُوا أَوْلَادَهُمْ وَيُعَلِّمُوهُمْ الطَّهَارَةَ والصلاة، ويضربوهم على ذلك إذا عقلوا، وقيل ان الامر للولى مندوب لا واجب.
قوله (وان سبيت امرأة معها ولد صغير..) قال الخطابى في المعالم: لم يختلف أهل العلم في أن التفريق بين الولد الصغير وبين والدته غير جائز الا أنهم اختلفوا في الحد بين الصغر الذى لا يجوز معه التفريق وبين الكبر الذى يجوز معه، فقال أصحاب الرأى الحد في ذلك الاحتلام.
وقال الشافعي إذا بلغ سبعا أو ثمانيا.
وقال الاوزاعي إذا استغنى عن أمه فقد خرج من الصغر.
وقال مالك إذا اثغر (أي نبتت اسنانه)

(19/329)


وقال أحمد: لا يفرق بينهما بوجه وإن كبر الولد واحتلم، قلت ويشبه أن يكون المعنى في التفريق عند أحمد قطيعة الرحم، وصلة الرحم واجبة مع الصغر والكبر، ولا يجوز عند أصحاب الرأى التفريق بين الاخوين إذا كان أحدهما صغيرا والآخر كبيرا، فإن كانا صغيرين جاز وأما الشافعي فإنه يرى التفريق بين المحارم في البيع، ويجعل المنع في ذلك مقصورا على الولد، ولا تختلف مذاهب العلماء في كراهة التفريق بين الجارية وولدها الصغير، سواء كانت مسبية من بلاد الكفر أو كان الولد من زنا أو كان زوجها أهلها في الاسلام فجاءت بولد قوله (وإن سبى الزوجان أو أحدهما..) ولا خلاف فيما ذهب إليه المصنف ولذلك قال ابن حزم في مراتب الاجماع (واتفق أن من سبى من نساء أهل الكتاب المتزوجات وقتل زوجها وأسلمت هي أن وطأها حلال لمالكها بعد أن تستبرأ قال المباركفورى في التحفة (ويحرم على الرجل أن يطأ الامة المسبية إذا كانت حاملا حتى تستبرئ بحيضة، وقد ذهب إلى ذلك الشافعية والحنفية والثوري والنخعي ومالك، وظاهر قوله (ولا غير حامل) أنه يجب الاستبراء للكبر، ويؤيده القياس على العدة فإنها تجب مع العلم ببراءة الرحم وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الاستبراء انما يجب في حق من لم تعلم
براءة رحمها، وأما من علمت براءة رحمها فلا استبراء في حقها، وقد روى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه قال إذا كانت الامة عذراء لم يستبرئها ان شاء، وهو في صحيح البخاري عنه.
وقول الشوكاني ومن القائلين بأن الاستبراء انما هو للعلم ببراءة الرحم فيحث تعلم البراءة لا يجب، وحيث لا يعلم ولا يظن يجب.
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تيمية وابن القيم، ورجحه جماعة من المتأخرين، منهم الجلال والمقيلى والمغربي والامير وهو الحق، لان العلة معقولة، فإذا لم توجد علامة كالحمل ولا مظنة كالمرأة المزوجة فلا وجه لا يجاب الاستبراء، والقول بأن الاستبراء تعدى وأنه يجب في حق الصغيرة، وكذا في حق البكر والآيسة ليس عليه دليل.
انتهى

(19/330)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا دخل الجيش دار الحرب فأصابوا ما يؤكل من طعام أو فاكهة أو حلاوة واحتاجوا إليه جاز لهم أكله من غير ضمان، لما روى ابن عمر رضى الله عنه قال كنا نصيب من المغازى العسل والفاكهة فنأكله ولا نرفعه، وسئل ابن أبى أوفى عن طعام خيبر فقال: كان الرجل يأخذ منه قدر حاجته، ولان الحاجة تدعو إلى ما يؤكل ولا يوجد من يتشرى منه مع قيام الحرب فجاز لهم الاكل وهل يجوز لهم الاكل من غير حاجة فيه وجهان.

(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه لا يجوز كما لا يجوز في غير دار الحرب أ: ل مال الغير بغير إذنه من غير حاجة.

(والثانى)
أنه يجوز وهو ظاهر المذهب وهو قول أكثر أصحابنا، لما روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فأتيته فالتزمته
ثم قلت: لا أعطى من هذا أحدا اليوم شيئا فالتفت فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم إلى، ولو لم يجز أكل ما زاد على الحاجة لنهاه عن منع ما زاد على الحاجة ويخالف طعام الغير بأن ذلك لا يجوز أكله من غير ضرورة وهذا يجوز أكله من غير ضرورة قطعا وطعام الغير يأكله بعوض وهذا يأكله بغير عوض فجاز أن يأكله من غير حاجة، ولا يجوز لاحد منهم أن يبيع شيئا منه لان حاجته إلى الاكل دون البيع، وان باع شيئا منه نظرت، فان باعه من بعض الغانمين وسلمه إليه صار المشترى أحق به، لانه من الغانمين، وقد حصل في يده ما يجوز له أخذه للاكل فكان أحق به، فإن رده إلى البائع صار البائع أحق به لما ذكرناه في المشترى، وان باعه من غير الغانمين وسلمه إليه وجب على المشترى رده إلى الغنيمة، لانه ابتاعه ممن لا يملك بيعه ولى سهو من الغانمين فيمسكه لحقه فوجب رده إلى الغنيمة.

(فصل)
ويجوز أن يعلف منه المركوب وما يحمل عليه رجله من البهائم لان حاجته إليه كحاجته ولا يدهن منه شعره ولا شعر البهائم لانه لا حاجة به

(19/331)


إليه ولا يعلف منه ما معه من الجوارح كالصقر والفهد، لانه لا حاجة به إليه، وإن خرج إلى دار الاسلام ومعه بقية من الطعام ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه لا يلزمه ردها في المغنم، لانه مال اختص به من الغنيمة فلا يجب رده فيها كالسلب.

(والثانى)
أنه يجب ردها، لانه انما أجيز أخذه في دار الحرب للحاجة، ولا حاجة إليه في دار الاسلام، ومن قال إن كان كثيرا وجب رده قولا واحدا وان كان قليلا فعلى القولين، والصحيح الاول، ولا يجوز تناول ما يصاب من الادوية من غير حاجة، وان دعت الحاجة إليه جاز تناوله ويجب ضمانه، لانه
ليس من الاطعمة التى يحتاج إليها في العادة، ولا يجوز له ليس ما يصلب من الثياب لما روى رويفع بن ثابت الانصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه، ولانه لا يحتاج إليه في العادة، فان لبسه لزمته أجرته لانه كالغاصب.

(فصل)
ويجوز ذبح ما يؤكل للاكل، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز والمذهب الاول، لانه مما يؤكل في العادة فهو كسائر الطعام، ولا يجوز أن يعمل من أهبها حذاء ولا سقاء ولا دلاء ولا فراء، فان اتخذ منه شيئا من ذلك وجب رده في المغنم وان زادت بالصنعة قيمته لم يكن له في الزيادة حق وان نقص لزمه أرش منا نقص لانه كالغاصب.

(فصل)
وإن أصابوا كتبا فيها كفر لم يجز تركها على حالها لان قراءتها والنظر فيها معصية، وإن أصابوا التوراة والانجيل لم يجز تركها على حالها، لانه لا حرمة لها، لانها مبدلة، فان أمكن الانتفاع بما كتب عليه إذا غسل كالجلود غسل وقيم مع الغنيمة وان لم يمكن الانتفاع به إذا غسل كالورق مزق ولا يحرق لانه إذا حرق لم يكن له قيمة فإذا مرزق كانت له قيمة فلا يجوز إتلافه على الغانمين.

(فصل)
وإذا أصابوا خمرا وجب إراقتها كما يجب إذا أصيبت في يد مسلم

(19/332)


فإن أصابوا خنزيرا فقد قال في سير الواقدي يقتل ان كان به عدو، فمن أصحابنا من قال ان كان فيه عدو قتل لما فيه من الضرر، وان لم يكن فيه عدو لم يقتل، لانه لا ضرر فيه.
ومنهم من قال يجب قتله بكل حال، لانه يحرم الانتفاع به فوجب اتلافه
فالخمر، وان أصابوا كلبا، فان كان عقورا قتل لما فيه من الضرر، وان كان فيه منفعة دفع إلى من ينتفع به من الغانمين أو من أهل الخمس وان لم يكن فيهم من يحتاج إليه خلى، لان اقتناءه لغير حاجة محرم وقد بيناه في البيوع.

(فصل)
وان أصابوا مباحا لم يملكه الكفار كالصيد والحجر والحشيش والشجر فهو لمن أخذه كما لو وجده في دار الاسلام، وان وجد ما يمكن أن يكون للمسلمين ويمكن أن يكون للكفار كالسيف والقوس عرف سنة، فان لم يوجد صاحبه فهو غنيمة.

(فصل)
وان فتحت أرض عنوة وأصيب فيها موات، فان لم يمنع الكفار عنها فهو لمن أحياه كموات دار الاسلام، وان منعوا عنها كان للغانمين لانه يثبت لهم بالمنع عنها حق التملك فانتقل ذلك الحق إلى الغانمين كما لو تحجروا مواتا للاحياء ثم صارت الدار للمسلمين، وان فتحت صلحا على أن تكون الارض لهم لم يجز للمسلمين أن يملكوا فيها مواتا بالاحياء، لان الدار لهم فلم يملك المسلم فيها بالاحياء.

(فصل)
وما أصاب المسلمون من مال الكفار وخيف أن يرجع إليهم ينظر فيه فإن كان غير الحيوان أتلف حتى لا ينتفعوا به ويتقووا به على المسلمين، وان كان حيوانا لم يجز اتلافه من غير ضرورة، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأله الله تعالى عن قتلها، قيل يا رسول الله وما حقها قال أن تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمى بها، وان دعت إلى قتله ضرورة بأن كان الكفار لا خيل لهم وما أصابه المسلمون خيل وخيف أن يأخذوه ويقاتلونا عليه جاز قتله، لانه إذا لم يقتل أخذه الكفار وقاتلوا به المسلمين.

(19/333)


(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه البخاري وأبو داود وابن حبان (أن جيشا غنموا طعاما وعسلا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فلم يأخذ منهم الخمس، وأخرجه البيهقى ورجح الدارقطني وقفه أثر ابن أبى أوفى أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي حديث عبد الله بن مغفل أخرجه البخاري ومسلم عن عبد اله بن مغفل قال أصبنا جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت لا أعطى أحدا اليوم من هذا شيئا، فالتفت فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبتسما) حديث رو يفع الانصاري (من كان يؤمن بالله) أخرجه أحمد وابو داود وابن حبان وزاد: روى ذلك يوم حنين بلفظ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم حنين (لا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يبتاع مغنما حتى يقسم ولا يلبس ثوبا من فئ حتى إذا أخلقه رده فيه ولا أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أخرجه البيهقى وسكت عنه البركمانى في الجوهر النقى.
اللغة، قوله (إذا دخل الجيش دار الحرب..) قال الشوكاني في النيل يجوز أخذ الطعام، ويقاس عليه العلف للدواب بغير قسمة، ولكنه يقتصر من ذلك على مقدار الكفاية، كما في حديث ابن ابى أوفى، وإلى ذلك ذهب الجمهور، سواء اذن الامام أم لم يأذن، والعلة في ذلك أن الطعام يقل في دار الحرب، وكذلك العلف فأبيح للضرورة، والجمهور أيضا على جواز الاخذ، ولو لم تكن ضرورة.
وقال الزهري لا تأخذ شيئا من الطعام ولاغيره إلا بإذن الامام.
وقال سليمان بن موسى يأخذ إلا ان نهى الامام.
وقال ابن المنذر قد وردت الاحاديث الصحيحة في التشديد في الغلول،
واتفق علماء الامصار على جواز أكل الطعام، وجاء الحديث بنحو ذلك فليقتصر عليه، وقال الشافعي ومالك يجوز ذبح الانعام للاكل كما يجوز أخذ الطعام، ولكن قده الشافعي بالضرورة إلى الاكل حيث لا طعام.
اه وحديث أبى رويفع فيه دليل على أنه لا يحل لاحد من المجاهدين أن يبيع

(19/334)


شيئا من الغنيمة قبل قسمتها، لان ذلك من الغلول، وقد وردت الاحاديث الصحيحة بالنهي عنه.
ولا يحل أيضا أن يأخذ ثوبا منها فيلبسه حتى يخلقه ثم يرده، أو يركب دابة منها حتى إذا أعجفها ردها لما في ذلك من الاضرار بسائر الغانمين والاستبداد بما لهم فيه نصيب بغير إذن منهم.
قال في الفتح وقد اتفقوا على جواز ركوب دوابهم يعنى أهل الحرب وليس ثيابهم واستعمال سلاحهم حال الحرب، ورد ذلك بعد انقضاء الحرب، ولا ينتظر برده انقضاء الحرب لئلا يعرضه للهلاك قال وحجته حديث رويفع ونقل عن أبى يوسف أنه حمله على ما إذا كان الآخذ غير محتاج يتقى به دابته أو ثوبه بخلاف من ليس له ثوب ولا دابة.
وقال الخطابى، فأما الثياب والادوات فلا يجوز استعمالها إلا أن يقول قائل الثياب انه إذا احتاج إلى شئ منها حاجة ضرورة كان له أن يستعمله، مثل أن يشتد البرد فيستدفئ بثوب.
قوله (ويجوز ذبح ما يؤكمل للاكل..) أقول بوب الجد ابن تيمية في كتابه المنتفى بابا ذكر فيه (باب ان الغنم تقسم بخلاف الطعام والعلف) وأورد فيه حديثين عن رجل من الانصار قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا
لتغلى إذ جاء رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي على قوسه فأكفا قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال ان النهبة ليست بأحل من الميتة، وان الميتة ليست بأحل من النهبة.
رواه ابو داود والحديث الثاني عن معاذ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر فأصبنا فيها غنما فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم رواه أبو دود وفيه مجهول.
إلا أن الشوكاني تعقبه فقال الحديث الاول ليس فيه دليل على ما ترجم له المصنف من ان الغنم تقسم، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا منع من أكلها لاجل النهى، كما وقع التصريح بذلك لا لاجل كونها غنيمة مشتركة لا يجوز

(19/335)


الانتفاع بها قبل القسمة.
نعم الحديث الثاني فيه دليل على أن الامام يقسم بين المجاهدين من الغنم ونحوها من الانعام ما يحتاجونه حال قيام الحرب ويترك الباقي في جملة المغنم، وهذا مناسب لمذهب الجمهور المتقدم فإنهم يصرحون بأنه يجوز للغانمين أخذ القوت وما يصلح به، وكل طعام يعتاد أكله على العموم من غير فرق بين أن يكون حيوانا أو غيره.
وقد استدل على أن المنع من ذبح الحيوانات المغنومة بغير إذن الامام بما في الصحيح من حديث رافع بن خديج في ذبحهم الابل التى أصابوها لاجل الجوع وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور.
قال ابن المهلب انما أكفا القدور ليعلم ان الغنيمة انما يستحقونها بعد القسمة ويمكن أن يحمل ذلك على أنه وقع الذبح في غير للوضع الذى وقع فيه القتال، وقد ثبت في هذا الحديث أن القصة وقعت في دار الاسلام لقوله فيها بذى الحليفة وقال القرطبى المأمور بإكفائه انما هو المرق عقوبة للذين تعجلوا، وأما نفس
اللحم فلم يتلف، بل يحمل على انه جمع ورد إلى المغانم لاجل النهى عن إضاعة المال.
قوله (وان أصابوا كتبا..) لم يقل أحد أن النظر في كتب الديانات الاخرى معصية، بل الواجب يحتم علينا أن تعلم ما عندهم حتى تكون على بينة من أمرهم، وهاهم علماء المسلمين وأئمتهم ألفوا كتبا في الرد عليهم كابن حزم وغيره، وان عبد الله بن عمرو وقع له كتاب من كتبهم فكان يقرأه ويروى منه وكتب الفلسفة التى عربت والطب وغيرها من العلوم لم يقل أحد أن النظر فيها معصية.
قوله (وإذا أصابوا خمرا..) وهذا لا خلاف فيه فقد أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإهراقها وهى ملك لايتام مسليمن فكيف إذا كانت ملكا للحربيين وكذا الخنزير أما الكلب فقد بينه المؤلف، كما أشار في البيوع قوله (وما أصاب المسلمون من مال الكفار..) فقد سبق تبيانه في وصية أبى بكر الصديق لجيشه وما قيل في التحريق من آراء.

(19/336)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا سرق بعض الغانمين نصابا من الغنيمة، فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لمعنيين
(أحدهما)
أن له حقا في خمسها
(والثانى)
أن له حقا في أربعة أخماسها، وإن سرق بعد إخراج الخمس فظرت فإن سرق من الخمس لم يقطع لان له حقا فيه، وإن سرق من أربعة أخماسها نظرت فإن سرق قدر حقه أو دونه لم يقطع لان له في ذلك القدر شبهة، وإن كان أكثر من حقه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يقطع لانه لاشبهة له في سرقة النصاب
(والثانى)
أنه لا يقطع لان حقه شائع في الجميع فلم يقطع فيه، وإن كان السارق من غير الغانمين
نظرت فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لان له حقا في خمسها، وإن كان بعد إخراج الخمس فإن سرق من الخمس لم يقطع لان فيه حقا، وان سرق ذلك من أربعة أخماسها فإن كان في الغانمين من للسارق شبهة في ماله كالاب والابن لم يقطع لان له شبهة فيما سرق، وإن لم يكن له فيهم من له شبهة في ماله قطع لانه لا شبهة له فيما سرق.
(الشرح) والغال من الغنيمة بوب له أبو داود في سننه فقال باب في الغلول إذا كان يسيرا يتركه الامام ولا يحرق رحله، وروى حديث عبد الله بن عمر كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة، فقال أسمعت بلالا نادى ثلاثا؟ قال نعم، قال فما منعك أن تجئ به فاعتذر فقال كن أنت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله عنك.
وبوب البيهقى في سننه الكبرى ج 9 ص 100 (باب الرجل يسرق من الغنم وقد حضر القتال) وأورد ثلاثة احاديث، الاول عن ابن عباس رضى الله عنه أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه، فقال مال الله سرق بعضه بعضا وهذا إسناد فيه ضعف

(19/337)


ورواه من طريق آخر عن ميمون بن مهران عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، ورينا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن رجلا سرق مغفرا من المغنم فلم يقطعه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وطئ بعض الغانمين جارية من الغنيمة لم يجب عليه الحد
وقال أبو ثور يجب، وهذا خطأ لان له فيها شبهة وهو حق التملك ويجب عليه المهر لانه وطئ يسقط فيه الحد على الموطوءة للشبهة فوجب المهر على الواطىء كالوطئ في النكاح الفاسد، وان أحبلها ثبت النسب للولد وينعقد الولد حرا الشبهة وهل تقسم الجارية في الغنيمة أو تقوم على الواطئ؟ فيه طريقان، من أصحابنا من قال ان قلنا انه إذا ملكها صارت أم ولد قومت عليه، وان قلنا انها لا تصير أم ولد له لم تقوم عليه.
وقال أبو إسحاق تقوم على القولين، لانه لا يجوز قسمتها كما لا يجوز بيعها ولا يجوز تأخير القسمة لان فيه اضرارا بالغانمين فوجب أن تقوم، وان وضعت فهل تلزمه قيمة الولد؟ ينظر فيه فإن كان قد قومت عليه لم تلزمه لانها تضع في ملكه، وان لم تكن قومت عليه لزمه قيمة الولد لانها وضعته في غير ملكه
(فصل)
ومن قتل في دار الحرب قتلا يوجب القصاص أو أتى بمعصية توجب الحد وجب عليه ما يجب في دار الاسلام، لانه لا تختلف الداران في تحريم الفعل فلم تختلفا فيما يجب به من العقوبة.
(الشرح) روى البيهقى في سننه الكبرى ما يخالف ما أورده المصنف إذ قال بَعَثَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خالد بن الوليد في جيش، فبعث خالد ضرار ابن الازور في سرية في خيل فأغاروا على حى من بنى أسد فأصابوا امرأة عروسا جميلة فاعجبت ضرار، فسألها أصحابه فأعطوها إياه فوقع عليها، فلما قفل ندم وسقط به في يده، فلما رفع إلى خالد أخبره بالذى فعل، فقال خالد فإنى قد أجزتها لك وطيبتها لك، قال لا حتى تكتب بذلك إلى عمر، فكتب عمر أن أرضخه بالحجارة، فجاء كتاب عمر رضى الله عنه وقد توفى، فقال ما كان الله ليخزى ضرار بن الازور.

(19/338)


وروى البيهقى أن ابن عمر سئل عن جارية كانت بين رجلين وقع عليها أحدهما قال هو خائن ليس عليه حد تقوم عليه قيمة، وفى رواية أخرى ليس عليه حد يقوم عليه قيمتها ويأخذها، وسكت عنه ابن التركماني قوله (ومن قتل في دار الحرب..) وقد بوب البيهقى في سننه الكبرى باب إقامة الحدود في أرض الحرب، ثم أورد فيه، قال الشافعي رحمه الله قد أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحد بالمدينة والشرك قريب منها وفيها شرك كثير موادعون وضرب الشارب بحنين والشرك قريب منه وروى عن عبد الرحمن ابن أزهر الزهري قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حنين يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد وأتى بسكران فأمر من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من التراب.
وذكر أن أبا داود روى في مراسيله: قال صلى الله عليه وسلم وأقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد ولا تبالوا في الله لومة لاثم، وذكر أثر عمر إلى خالد السابق، ولم يتعقبه ابن التركماني بشئ، ثم بوب بابا آخر فقال: باب من زعم لا تقام الحدود في أرض الحرب حتى يرجع، وروى فيه آثارا منها أن عمر رضى الله عنه كتب إلى عمير بن سعد الانصاري وإلى عماله أن لا يقيموا حدا على أحمد من المسليمن في أرض الحرب حتى يخرجوا إلى أرض المصالحة، قال الشافعي: ما روى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مستنكر، وهو يعيب أن يحتج بحديث غير ثابت، ويقول حدثنا شيخ، ومن هذا الشيخ؟ ويقول مكحول عن زيد بن ثابت ومكحول لم ير زيد بن ثابت، قال الشافعي، وقوله يلحق بالمشركين، فإن لحق بهم فهو أشقى له، ومن ترك الحد خوف أن يلحق المحدود ببلاد المشركين تركه في سواحل المسلمين ومسالحهم التى تتصل ببلاد الحرب، ثم تعقبه ابن البركمانى في الجوهر النقى (قال الشافعي ما روى عن عمر
مستنكر) بقوله قلت أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف بسنده قال: كتب عمر ابن الخطاب: ألا لا يجلدن أمير جيش ولا سرية أحدا الحد حتى يطلع على الدرب لئلا يحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار، وعن أبى الدرداء: نهى أن يقام على أحد حد في أرض العدو

(19/339)


واحتج أبو يوسف في كتاب الخراج لهذه المسألة فروى بسنده عن علقمة قال: غزونا بأرض الروم ومعنا حذيفة وعلينا رجل من قريش فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة تحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم وذكره ابن أبى شيبة عن الاعمش، وروى عبد الرزاق عن علقمة قال أصاب أمير الجيش وهو الوليد بن عقبة شرابا فسكر، فقال الناس لابن مسعود وحذيفة ابن اليمان أقيما عليه الحد، فقالا لا نفعل، نحن بإزاء العدو ونكره أن يعلموا فيكون جرأة منهم علينا وضعفا بنا، وفى المعالم قال الاوزاعي لا يقطع أمير العسكر حتى يقفل من الدرب فإذا قفل قطع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان تجسس رجل من المسلمين الكفار لم يقتل، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنا والزبير والمقداد وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فيها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فيه من حاطب بن أبى بلتمة رضى الهل عنه إلى أناس بمكة يخبرهم ببعض أمور رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا حاطب من هذا؟ قال يا رسول الله لا تعجل على انما كنت امرأ ملصقا فأحببت أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي ولم أفعل ذلك ارتدادا عن دينى
ولا أرضى الكفر بعد الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما انه قد صدق، فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال انه قد شهد بدرا، فقال سفيان بن عيينة فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لانتخذوا عدوى وعدوكم أولياء) وقرأ سفيان إلى قوله (فقد ضل سواء السبيل) (الشرح) حديث على عن عبيد الله بن أبى رافع قال: سمعت عليا رضى الله عنه يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب، فخرجنا تعادى بنا خيلنا فإذا نحن بظعينة، فقلنا اخرجي الكتاب؟ فقالت ما معى كتاب، فقلنا لها لتخرجن

(19/340)


الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فيه من حاطب بن أبى بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبر ببعض أمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هَذَا يا حاطب؟ قال لا تعجل على إنى كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم ولم يكن لى بمكة قرابة، فأحببت إذا فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا والله ما فعلنه شكا في دينى ولا رضا بالكفر بعد الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انه قد صدق، فقال عمر رضى الله عنه يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم انه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ونزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) أخرجه البخاري ومسلم.
اللغة: قوله (فإن فيها ظعينة) الظعينة المرأة في الهودج، وأصل الظعينة هو الهودج ثم سميت المرأة ظعينة لكونها فيه مأخوذ من الظعن وهو الارتحال، قال الله تعالى
(يوم ظعنكم ويوم اقامتكم) وقال بعضهم لا يقال للمرأة ظعينة إلا إذا كانت في الهودج.
قوله (فأخرجته من عقاصها) عقص الشعر ليه وضفره على الرأس، ومنه سميت الشاة الملتوية القرن عقصاء، والعقاص جمع عقصة مثل رهمة ورهام قال امرؤ القيس: يضل العقاص في مثنى ومرسل قوله (كنت امرأ ملصقا) الملصق بالقوم والملتصق المنضم إليهم وليس منهم قوله (يدا) أراد صنيعة منهم يمنعون بها قرابتي قال: تكن لك في قومي يد يشكرونها
* وأيدي الندى في الصالحين قروض قوله (دعني أضرب نق هذا المنافق) قد ذكرنا أن المنافق الذى يظهر الايمان ويستر الكفر، وفى اشتقاقه ثلاثة أوجه
(أحدهما)
أنه مشتق من النفق وهو ال؟ رب من قوله تعالى (فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الارض) فشبه بالذى يدخل النفق ويستنر به
(والثانى)
أنه مشتق من نافقاء اليربوع وهو جحره لان له حجرا يسمى النافقاء وآخر يقال له القاصعاء، فإذا طلب من النافقاء قصع

(19/341)


فحرج من القاصعاء وإن طلب من القاصعاء نفق فخرج من النافقاء، وكذلك المنافق يدخل في الكفر ويخرج من الاسلام مراءاة للكفار، ويخرج من الكفر ويدخل في الاسلام مراءأه للمسلين (والثالث) أنه مشتق من النافقاء بمعنى آخر ذلك أنه يحفر في الارض حتى إذا كاد أن يبلغ ظاهرها أرق التراب، فإذا خاف خرق الارض وبقى في ظاهره تراب وظاهر حجره تراب وباطنه حفر، المنافق باطنه كفر وظاهره إيمان، ولليربوع أربعة أجحرة الراهطاء والنافقاء والقاصعاء والدأماء.
قوله (عدوى وعدوكم) قال الهروي العداوة تباعد القلوب والنيات، وقال
ابن الانباري لانه يعدو بالمكروه والظلم، ويقال عدا عليه عدوا إذا ظلمه، قال الله تعالى (فيسبوا الله عدوا بغير علم) أي ظلما والعدو يقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، قال الله تعالى (فإنهم عدو لى) وقال (وهم لكم عدو) وقال الشاعر: إذا أنا لم انفع خليلي بوده
* فإن عدوى لن يضرهم بغضى وقد يجمع فيقال أعداء، قال الله تعالى (فلا تشمت بى الاعداء) قال أبو يوسف في كتاب الخراج (وسألت يا أمير المؤمنين عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمة أو أهل الحرب أو من المسلمين، فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمة ممن يؤدى الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الاسلام معروفين فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتى يحدثوا توبة.
اه قال النووي قتل الجاسوس الحربى الكافر هو باتفاق، وأما المعاهد والذمى فقال مالك والاوزاعي ينتقض عهده بذلك، وعند الشافعية خلاف، أما لو شرط عليه ذلك في عهدة فينتقض اتفاقا.
قال الشوكاني: حديث فرات بْنِ حَيَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بقتله وكان ذميا وكان عينا لابي سفيان وحليفا لرجل من الانصار فمر بحلقة من الانصار فقال إنى مسلم، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله إنه يقول إنه مسلم.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان) أخرجه أحمدو أبو داود، يدل على جواز قتل الجاسوس الذى،

(19/342)


وذهبت الهادوية إلى قتل جاسوس الكفار والبغاة إذا ان قتل أو حصل القتل بسببه وكانت الحرب قائمة، وإذا اختل شئ من ذلك حبس فقط قال الخطابى في المعالم في شرح حديث على (فيه دليل على أن الجاسوس إذا
كان مسلما لم يقتل، واختلفوا فيما يفعل به من العقوبة، فقال أصحاب الرأى في المسلم إذا كتب إلى العدو ودله على عورات المسلمين يوجع عقوبة ويطال حبسه وقال الاوزاعي: إن كان مسلما عاقبه الامام عقوبة منكلة، وغربه إلى بعض الآفاق في وثاق، وان كان ذميا فقد نقض عهده، وقال مالك: لم أسمع فيه شيئا وأرى فيه اجتهاد وقال الشافعي: إذا كان هذا من الرجل ذى الهيئة بجهالة كما كان من حاطب بجهالة وكان غير متهم أحببت أن يتجافى عنه، وإن كان من غير ذى الهيئة كان للامام تعزيره، وفى الحديث من الفقه أيضا جواز النظر إلى ما ينكشف من النساء لاقامة حد أو إقامة شهادة في إثبات حق إلى ما أشبه ذلك من الامور
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا أخذ المشركون مال المسلمين بالقهر لم يملكوه، وإذا استرجع منهم وجب رده إلى صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه) وروى عمران بن الحصين رضى الله عنه قال: أغار المشركون على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبوا به وذهبوا بالعضباء وأسروا امرأة من المسلمين، فركبتها وجعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها، فقدمت المدينة وأخبرت بذلك رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بئس ما جزيتها لا وفاء لنذر في معصية الله عز وجل ولا فيما لا يمكله ابن آدم، فإن لم يعلم يه حتى قسم دفع اليمن وقع في سهمه العوض من خمس الخمس ورد المال إلى صاحبه لانه يشق نقض القسمة.
(الشرح) حديث (لا يجل مال امرئ مسلم..) أخرجه أبو داود عن خيفة الرقاشى

(19/343)


حديث عمران بن حصين (قال أسرت امرأة من الانصار وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعيمهم بين يدى بيوتهم فانقلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الابل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنهى إلى العضباء فلم ترغ وهى ناقة منوقة (وفى رواية) مدربة فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فأعجزتهم، قال ونذرت لله إن نجاها الله عليه لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا العضباء نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إنها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك فقال سبحان الله بئسما جزتها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرها، لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد) أخرجه مسلم (قلت) ورويت أحاديث أخرى في الباب، فعن ابن عمر أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليهم المسلمون فرد عليه فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأبق عبد له فلحق بأرض الروم وظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه وفى رواية أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ابن عمر ولم يقسم.
أخرجه أبو داود، كما أن البيهقى روى حيث عمران من طرق في بهعضها زيادات تعقبها ابن التركماني فقال تحت باب ما أحرزه المشركون على المسلمين ذكر فيه خروج المرأة بناقة النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين، ثم أخرجه من وجه ثالث فقال: ثنا أبو زكريا وأبو سعيد قالا ثنا أبو العباس أنا الربيع ثنا سفيان وعبد الوهاب عن أيوب عن أبى قلابة عن أبى المهلب عن عمران (الحديث) وفى آخره قالا معا أو أحدهما في الحديث، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته، قلت هذا الحديث
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه من حصر جماعة عن أيوب، وليس في حديث أحد منهم هذه الزيادة، وقد شك الشافعي هل قالاها أو قالها أحدهما، وأحدهما وهو عبد الوهاب، وان خرج له في الصحيح ففيه ضعف، كذا قال ابن سعد، واختلط أيضا، وإذا دارت هذه الزيادة بينه وبين ابن عيينة ضعفت، على أن النسائي والترمذي وابن ماجه أخرجوا الحديث من

(19/344)


طريق ابن عيينة بدون الزيادة، وأخرجها الطحاوي في كتاب اختلاف العلماء من جهة عبد الوهاب، فدل ذلك على أنه هو الذى قالها دون ابن عيينة، مع أن عبد الوهاب اختلف عليه، فرواه مسلم عن اسحاق بن ابراهيم عنه بدون الزيادة وليس الضمينر في قوله قالا أو أحدهما راجعا إلى أبى زكريا وأبى سعيد شيخي البيهقى لانه روى الحديث في كتاب المعرفة عن أبى عبد الله وأبى زكريا وأبى سعيد، وفى آخره قالا فتعين عود الضمير إلى سفيان وعبد الوهاب وأخرج البيهقى في كتاب المعرفة الزيادة من وجه آخر، وفيه يحيى بن أبى طالب عن على بن عاصم، وابن أبى طالب وثقه الدارقطني وغيره، ووقال موسى بن هارون أشهد أنه يكذب ولم يعن في الحديث، فالله أعلم.
وقال أبو عبيد الآجرى خط أبوداد على حديثه، ذكره صاحب الميزان وابن عاصم، قال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب، وكان أحمد سيئ الرأى فيه، وقال يحيى ليس بشئ، وقال النسائي متروك، وقال ابن عدى الضعف على حديثه تبين.
اللغة: قوله (ذهبوا بالعضباء) العضب القطع في الاذن، يقال بعير أعضب وناقة عضباء، وهو هنا اسم علم لها لا لاجل أنها مقطوعة قال الشوكاني في النيل وقد اختلف أهل العلم في ذلك فقال الشافعي وجماعة
لا يملك أهل الحرب بالغلبة شيئا من المسلمين، ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها، وعن على والزهرى وعمرو بن دينار والحسن لايرد أصلا ويختص به أهل المغاتم.
وقال عمر وسلمان بن ربيعة وعطاء والليث ومالك وأحمد وآخرون، وهى رواية عن الحسن أيضا، ونقلها ابن أبى الزناد عن أبيه عن الفقهاء السبعة إن وجده صاحبه قبل القسمة فو أحق به، وان وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقيمة، واحتجوا بحديث عن ابن عباس مرفوعا بهذا التفصيل، أخرجه الدارقطني وإسناده ضعيف جدا، وإلى هذا التفصيل ذهبت الهادوية، وعن أبى حنيفة كقول مالك إلا في الآبق، فقال هو والثوري صاحبه أحق به مطلقا

(19/345)


قال أبو حفص عمر الغزنوى في الغرة المنيفة (مسألة) إذا استولى الكفار على أموال المسلمين وأحرزوها بدارا لحرب ملكوها عند أبى حنيفة رضى الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لم يملكوها، حجة أبى حنيفة رضى الله عنه قوله تَعَالَى (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وأموالهم) أسماهم فقراء مع إضافة الاموال إليهم، والفقير من لا مال له لا من بعدت يده عن المال، ومن ضرورته ثبوت الملك لمن استولى على أموالهم من الكفار وروى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يوم الفتح: يا رسول الله ألا نزل دارك؟ فقال (وهل ترك لها عقيل من منزل) وكان للنبى صلى الله عليه وسلم دار بمكة ورثها من خديجة رضى الله عنه فاستولى عليها عقيل وكان مشركا وروى ابن عباس رضى الله عنه أن رجلا أصاب بعيرا له في الغنيمة، فأخبر بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (إنَّ وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شئ، وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالثمن)
وروى تميم عن طرفة أنه عليه الصلاة والسلام قال في بعير أخذه المشركون فاشتراه رجل من المسلمين ثم جاء المالك الاول إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال صلى الله عليه وسلم (إن شئت أخذته بالثمن) فلو بقى في ملك المالك القديم لكان له الاخذ بغير شئ، حجة الشافعي رحمه الله قوله تَعَالَى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سبيلا) فينبغي أن لا يصير مال المسلم للكافر بالغلبة والاستيلاء عليه.
الحجة الثانية أن المسلم خير من الكافر، والمسلم إذا استولى على مال مسلم آخر لا يصير ملكا له فالكافر أولى الجواب عنه أما الآية فمقتضاها نفى السبيل على نفس المسلم، ونحن نقول بموجبه، فإذا استوزلى على نفسه يملكه ونحن نمكلهم، ولكن الاصل في الاموال عدم العصمة، وإنما صار معصوما بالاحراز بدار الاسلام، فإذا أحرزوها بدار الحرب زالت العصمة بزوال سببها فبقيت أموالا مباحة فتملك بالاستيلاء عليه وفيه وقع الفرق بين استيلاء المسلم والكافر وأن المسلم لم يحرزها إلى دارا لحرب والحربي أحرزها فافترقا.

(19/346)


وقال ابن حزم في مراتب الاجماع (واختلفوا فيما صار بأيدى المشركين من أموال المسلمين أيملكونه أم لا يملكونه أصلا.
ثم قال في كتاب المحلى: ولا يملك أهل الكفر الحربيون مال مسلم ولا مال ذمى أبدا إلا بالابتياع الصحيح أو بميراث من ذمى كافرا أو بمعاملة صحيحة في دين الاسلام، فكل ما غنموه من مال ذمى أو مسلم أو آبق إليهم فهو باق على ملك صاحبه فمتى قدر عليه رد على صاحبه قبل القسمة وبعدها دخلوا به أرض الحرب أو لم يدخلوا، ولا يكلف مالكه عوضا ولا ثمنا لكن يعوض الامير من كان
صار في سهمه من كل مال لجماعة المسلمين، ولا ينفذ فيه عتق من وقع في سهمه ولا صدقته ولا هبته ولا بيعه ولا تكون له الامة أم ولد، وحكه حكم الشئ الذى يغصبه المسلم من المسلم ولا فرق ثم دلل على صحة أقواله مدعما بالاحاديث والآثار في ثمانى صفحات كان بودنا نقل ما أورد لولا ضيق المقام واستعجال الناشر لنا، ورد أقوال أبى حنيفة والآثار التى ذكرها صاحب الغرة بما فيه الحق، وكذا رد أقوال المالكيين وبين الصحيح فيها من الضعيف.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أسر الكفار مسلما وأطلقوه من غير شرط فله أن يغتالهم في النفس وامال لانهم كفار لا أمان لهم، وإن أطلقوه على أنه في أمان ولم يسأمنوه ففيه وجهان:
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه لا أمان لهم لانهم لم يستأمنوه
(والثانى)
وهو ظاهر المذهب أنهم في أمانه، لانهم جعلوه في أمان فوجب أن يكونوا منه في أمان، وإن كان محبوسا فأطلقوه واستحلفوه أنه لا يرجع إلى دار الاسلام لم يلزمه حكم اليمين ولا كفارة عليه إذا حلف لان ظاهره الاكراه، فإن ابتدأ وحلف أنه إن أطلق لم يخرج إلى دار الاسلام ففيه وجهان
(أحدهما)
أنها يمين إكراه، فإن خرج لم تلزمه كفارة، لانه لم يقدر على

(19/347)


الخروج إلا باليمين فأشبه إذا حلفوه على ذلك
(والثانى)
أنه يمين اختيار، فإن خرج لزمته الكفارة لانه بدا بها من غير إكراه، وإن أطلق ليخرج إلى دار الاسلام وشرط عليه أن يعود إليهم أو يحمل له مالا لم يلزمه العود لان مقامه في دار الحرب لا يجوز ولا يلزمه بالشرط ما ضمن من المال، لانه ضمان من
مال بغير حق، والمستحب أن يحمل لهم ما ضمن ليكون ذلك طريقا إلى إطلاق الاسرى.
(الشرح) قال ابن حزم في المحلى (ومن كان أسيرا عند الكفار فعاهدوه على الفداء وأطلقوه فلا يحل له أن يرجع إليهم ولا أن يعطيهم شيئا، ولا يحل للامام أن يجبره على أن يعطيهم شيئا، فإن لم يقدر على الانطلاق إلا بالفداء ففرض على المسلمين أن يفدوه إن لم يكن له مال يفى بفدائه، قال الله عز وجل (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) واسار المسلم أبطل الباطل والعون عليه، وتلك العهود والايمان التى أعطاهم لا شئ عليه فيها، لانه مكره عليها، إذ لا سبيل إلى الخلاص إلا بها، ولا يحل له البقاء في أرض الكفر وهو قادر على الخروج، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) وهكذا كل عهد أعطيناهم حتى نتمكن من استنقاذ المسلمين وأموالهم من أيديهم.
اللغة: قوله (أن يغتالهم) غاله واغتاله إذا أخذه من حيث لا لم يدر، وقال الازهرى (الغيلة هو أن يخدع بالشئ حتى يسر إلى موضع كمن له فيه الرجال فيقتل.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب الأنفال)
(الشرح) الانفال جمع نفل بالتحريك وبسكونها الغنيمة.
قال لبيد ان تقوى ربنا خير نفل وأصله العطية بغير وجوب على المعطى، ومنه قيل لصلاة التطوع نافلة،

(19/348)


وقيل أصله الزيادة لانها زائدة على الفرائض، ولان الغنيمة زادها الله هذه
الامة في الحلال، ومنه قوله تعالى (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) نافلة أي زيادة على إسحاق، ويسمى ولد الولد نافلة، لانه زيادة على الولد، وقوله تعالى (ويسألونك عن الانفال) إنما كان سوءالهم عنها لانها كانت حراما على من قبلهم، كانت تنزل نار من السماء فتحرقها فأحلها الله لهم
قال المصنف رحمه الله تعالى:

يجز لامير الجيش أن ينفل لمن فعل فعلا يفضى إلى الظفر بالعدو كالتجسيس والدلالة على طريق أو قلعة أو التقدم بالدخول إلى دار الحرب أو الرجوع إليها بعد خروج الجيش منها لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان ينفل في البدأة الربع وفى القفول الثلث، وتقدير النفل إلى رأى أمير الجيش، لانه بذل لمصلحة الحرب فكان تقديره إلى رأى الامير، ويكون ذلك على قدر العمل لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِي البدأة الربع وفى القفول الثلث، لان التغرير في القفول أعظم لانه يدخل إلى دار الحرب والعدو منه على حذر وفى البدأة يدخل والعدو منه على غير حذر، ويجوز شرط النفل من بيت مال المسلمين، ويجوز شرطه من المال الذى يؤخذ من المشركين، فإن جعل في بيت مال المسلمين كان ذلك من خمس الخمس لما روى سعيد بن المسيب قال: كان الناس يعطون النفل من الخمس، ولانه مال يصرف في مصلحة فكان من خمس الخمس ولا يجوز أن يكون مجهولا لانه عوض في عقد لا تدعو الحاجة فيه إلى الجهل به فلم يجز أن يكون مجهولا كالجهل في رد الآبق، وان كان النفل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِي البدأة الربع وفى القفول الثلث وذلك جزء من غنيمة مجهولة
(فصل)
وان قال الامير من دلى على القلعة الفلانية فله منها جارية، فدله عليها رجل نظرت فإن لم تفتح القلعة لم يجب الدليل شئ، ومن أصحابنا من قال
يرضخ له لدلالته، والمذهب الاول لانه لما جعل له الجارية من القلعة صار تقديره من دلى على القلعة وفتحت كانت له منها جارية لانه لا يقدر على تسليم

(19/349)


الجارية إلا بالفتح فلم يستحق من غير الفتح شيئا، وان فتحت عنوة ولم تكن فيها جارية لم يستحق شيئا لانه شرط معدوم وان كانت فيها جارية سلمت إليه ولا حق فيها للغانمين ولا لاهل الخمس لانه استحقها بسبب سابق الفتح، وان أسلمت الجارية قبل القدرة عليها لم يستحقها لان اسلامها يمنع من استرقاقها، ويجب له قيمتها، لان النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاء من المسلمات فمنعه الله عز وجل من ردهن وأمره أن يرد مهورهن، وان أسلمت بعد القدرة عليها فإن كان الدليل مسلما سلمت إليه، وان كان كافرا فإن قلنا ان الكافر يملك العبد المسلم بالشراء استحقها ثم أجبر على ازالة الملك عنها، وان قلنا انه لا يملك، دفع إليه قيمتها، وان أسلم الدليل بعد ذلك لم يستحقها، لانه أسلم بعد ما انتقل حقه إلى قيمتها، وان فتحت والجارية قد ماتت ففيه قولان:
(أحدهما)
أن له قيمتها لانه تعذر تسليمها فوجب قيمتها كما لو أسلمت.

(والثانى)
أنه لا يجب له قيمتها لانه غير مقدور عليها فلم يجب قيمتها، كما لو لم تكن فيها جارية، وان فتحت صلحا نظرت فإن لم تدخل الجارية في الصلح كان الحكم فيها كالحكم إذا فتحت عنوة، فإن دخلت في الصلح فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ ان الجارية للدليل وشرطها في الصلح لا يصح ما لو زوجت امرأة من رجل ثم زوجت من آخر
(والثانى)
أن شرطها في الصلح صحيح لان الدليل لو عفاعنها أمضينا الصلح فيها، ولو كان فاسدا لم يمض الا بعقد مجدد، فعلى هذا ان رضى الدليل بغيرها
من جواري القلعة أو رضى بقيمتها أمضينا الصلح وان لم يرض ورضى أهل القلعة بتسليمها فكذلك.
وان امتنع أهل القلعة من دفع الجارية وامتنع الدليل من الانتقال إلى البدل ردوا إلى القلعة وقد زال الصلح لانه اجتمع أمران متنافيان وتعذر الجمع بينهما وحق الدليل سابق ففسخ الصلح ولصاحب القلعة أن يحصن القلعة كما كانت من غير زيادة، وان فتحت بعد ذلك عنوة كانت الجارية للدليل وان لم تفتح لم يكن له شئ

(19/350)


(فصل)
إذا قال الامير قبل الحرب من أخذ شيئا فهو له فقد أومأ فيه إلى قولين
(أحدهما)
أن الشرط صحيح لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمُ بدر (من أخذ شيئا فهو له)
(والثانى)
وهو الصحيح أنه لا يصح الشرط لانه جزء من الغنيمة شرطه لمن لا يستحقه من غير شرط فلا يستحقه بالشرط، كما لو شرطه لغير الغانمين، والخبر ورد في غنائم بدر وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها حيث شاء (الشرح) حديث عبادة بن الصامت أخرجه أحمد بلفظ (كان ينفل في البدأة الربع وفى الرجعة الثلث) ورواه ابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان وعن حبيب بن سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفل الربع بعد الخمس في بدأته ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته) أخرجه أجمد وأبو داود وابن ماجه وصححه وابن الجارود وبان حبان والحاكم وأخرجه ابن أبى داود من طرق ثلاثة، منها عن مكحول بن عبد الله الشامي قال: كنت عبدا بمصر لامرأة من بنى هذيل فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق، فما خرجت منها وبها علم الا حويت عليه فيما أرى،
ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النفل فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشئ، حتى لقيت شيخا يقال له زياد بن جارية التميمي، فقلت له هل سمعت في النفل شيئا؟ قال نعم، سمعت حبيب بن مسلمة الفهرى يقول: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة) قال المنذرى: وأنكر بعضهم أن يكون لحبيب هذا صحبة وأثبتها له غير واحد أثر سعيد بن المسيب أخرجه البيهقى وأبو عبيد في الاموال حديث (صالح أهل مكة) عن مروان والمسور، قالا لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك أحد منا وإن كان على دينك الا رددته الينا وخليت بيننا وبينه، فكره المسلمون ذلك وامتعضوا منه وأبى سهيل إلا ذلك: فكاتب النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فرد يومئذ

(19/351)


أبا جندل إلى أبيه سهيل ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله عز وجل فيهن (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات..) رواه البخاري وعن معن بن يزيد قَالَ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول (لانفل إلا بعد الخمس) رواه أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي اللغة: قوله (يجوز لامير الجيش..) قول الشوكاني في النيل: يجوز للامام أن ينفل بعض الجيش ببعض الغنيمة إذا كان له من العناية والمقاتلة ما لم يكن لغيرة.
وقال عمرو بن شعيب ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون من بعده، وكره مالك أن يكون بشرط من أمير الجيش، كأن يحرض على القتال ويعد بأن ينفل الربع أو الثلث قبل القسمة أو نحو ذلك لان القتال حينئذ يكون
الدنيا فلا يجوز.
قال الحافظ في الفتح: وفى هذا رد على من حكى الاجماع على مشروعيته، وقد اختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس أو مما عدا الخمس على أقوال، واختلفت الرواية عن الشافعي في ذلك، فروى عنه أنه من أصل الغنيمة، وروى عنه أنه من الخمس، وروى عنه أنه من خمس الخمس والاصح عند الشافعية أنهم من خمس الخمس، ونقله منذر بن سعيد عن مالك وهو شاذ عندهم.
ثم قال الشوكاني بعد أن أورد حديث حبيب ومعن فيهما دليل على أنه يصح أن يكون النفل زيادة على مقدار الخمس، ورد على من قال أنه لا يصح التنفيل إلا من الخمس أو خمس الخمس.
وقال الاوزاعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم: النفل من أصل الغنيمة، وإلى ذلك ذهبت الهادوية، وقال مالك وطائفة لانفل الا عن الخمس وقال الخطابي: أكثر ما روى من الاخبار يدل على أن النفل من أصل الغنيمة.
قال ابن عبد البر (ان أراد الامام تفضيل بعد الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس لا من رأس الغنيمة

(19/352)


وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجش فذلك من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث، وقد وقع الخلاف بين الرواة في القسمة والتنفيل هل كانا جميعا من أمير ذلك الجيش أو مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ من أحدهما وفى رواية ابن عمر المتفق عليها صريحة أن الذى نفلهم هو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أبى داود قَالَ (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سرية
قبل نجد فأصبنا نعما كثيرا فنفلنا أميرنا بعير بعير الكل، ثم قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا أثنى عشر بعيرا بعد الخمس وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذى أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعير بنفله) مصرحة بأن الذى نفلهم هو الامير.
وكذلك ما رواه مسلم من طريق نافع أن ذلك صدر من أمير الجيش، ويمكن الجمع بأن المراد بالرواية التى صرح فيها بأن المنفل هو النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع منه التقرير.
قال النووي (معناه أن أمير السرية نفلهم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم فجازت نسبته إلى كل منهما)) وفى هذا التنفيل دليل على أنه يصح أن يكون التنفيل أكثر من خمس الخمس قال ابن بطال وهذا مردود لانهم نفلوا نصف السدس وهو أكثر من خمس الخمس، وقد زاده ابن المنبر ايضاحا فقال (لو فرضننا أنهم كانوا مائة لكان قد حصل لهم ألف ومائتا بعير، ثم بينن مقدار الخمس وخمسه وأنه لا يمكن أن يكون لكل انسان منه بعير.
قال ابن التين قد انفصل من قال من الشافعية بأن التنفيل من خمس الخمس بالوجه، منها أن الغنيمة لم تكن كلها أبعرة بل كان فيها أصناف أخر فيكون التنفيل وقع من بعض الاصناف دون بعض.
(ثانيها) أن يكون نقلهم من سهمه من هذه الغزاة وغيرها، فضم هذا إلى هذا فلذلك زادت العدة

(19/353)


(ثالثها) أن يكون نفل بعض الجيش دون بعض، قال وظاهر السياق يرد
هذه الاحتمالات، قال وقد جاء أنهم كانوا عشرة وأنهم غنموا مائة وخمسين بعيرا فخرج منها الخمس وهو ثلاثون وقسم عليهم البقية فحصل لكل واحد إثنا عشر ثم نفلو بعير ابعيرا، فعلى هذا يكون نفلوا ثلث الخمس، وقد قال ابن عبد البر إن أراد الامام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه، فذلك من الخمس لا من رأس الغنيمة، وإن انفردت قطعة فاراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجيش فذلك من غير الخمس بشرط ألا يزيد عن الثلث.
اه قال الحافظ في الفتح: وهذا الشرط قال به الجمهور.
وقال الشافعي لا يتحدد بل هو راجع إلى ما يراه الامام من المصلحة، ويدل قوله تعالى (قل الانفال لله والرسول) ففوض إليه أمرها (قلت) ولم يرد في الاحاديث الصحيحة ما يلزم بالاقتصار على مقدار معلوم، ولا على نوع معين، والظاهر تفويض الامر إلى راى الامام.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب قسم الغنيمة)
والغنمية ما أخذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب، فإن كان فيها سلب للقاتل اؤ مال لمسلم سلم إليه لانه استحقه قبل الاغتنام ثم يدفع منها أجرة النقال والحافظ لانه لمصلحة الغنيمة فقدم، ثم يقسم الباقي على خمسة أخماس، خمس لاهل الخمس، ثم يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين لقوله عز وجل (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فأضاف الغنيمة إلى الغانمين ثم جعل الخمس لاهل الخمس، فدل على أن الباقي للغانين، والمستحب أن يقسم ذلك في دار الحرب ويكره تأخيرها إلى دار الاسلام من غير عذر، لان النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء قريب من بدر وقسم غنائم بنى المصطلق على مياههم
وقسم غنائم حنين بأوطاس، وهو واد أودية حنين، فإن كان الجيش رجالة سوى بينهم وان كانوا فرسانا سوى بينهم، وان كان بعضهم فرسانا وبعضهم

(19/354)


رجالة جعل للراجل سهما وللفارس ثلاثة أسهم لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، للرجل سهم وللفرس سهمان ولا يفضل من قاتل على من لم يقاتل لان من لم يقاتل كالمقاتل في إرهاب العدو، ولانه أرصد نفسه للقتال ولا يسهم لمركوب غير الخيل لانه لا يلحق بالخيل في التأثير في الحرب من الكر والفر فلم يلحق بها في السهم، ويسهم للفرس العتيق، وهو الذى أبواه عربيان وللبرذون وهو الذى أبواه عجميان، وللمقرف وهو الذى أمه عربية وأبوه عجمى، وللهجين وهو الذى أبوه عربي وأمه عجنية، لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) ولانه حيوان يسهم له فلم يختلف سهمه باختلاف أبويه كالرجل، وان حضر بفرس حطم أو صرع أو أعجف فقد قال في الام، قيل لا يسهم له وقيل يسهم له، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
أنه لا يسهم له لانه لا يغنى غناء الخيل فلم يسهم له كالبغل
(والثانى)
يسهم له لان ضعفه لا يسقط سهمه كضعف الرجل.
وقال أبو إسحاق ان أمكن القتال عليه أسهم له، وان لم يمكن القتال عليه لم يسهم له، لان الفرس يراد القتال عليه وهذا أقيس، والاول أشبه بالنص ولا يسهم للرجل لا كثر من فرس لما روى ابن عمر رضى الله عنه أن الزبير حضر يوم حنين بأفراس فلم يسهم له النبي صلى الله عليه وسلم الا لفرس واحد، ولانه لا يقاتل إلا على فرس واحد فلا يسهم لاكثر منه، وان حضر بفرس والقتال في الماء أو على حصن استحق سهمه لانه أرهب بفرسه فاستحق سهمه، كما لو حضر
به القتال ولم يقاتل، ولانه قد يحتاج إليه إذا خرجوا من الماء والحصن
(فصل)
فإن غصب فرسا حضر به الحرب استحق للفرس سهمين لانه حصل به الارهاب، وفى مستحقه وجهان
(أحدهما)
انه له
(والثانى)
أنه لصاحب الفرس بناء على القولين في رمح الدراهم المغصوبة، أحدهما انه للغاصب، والثانى أنه للمغصوب منه، وان استعار فرسا أو استأجره للقتال فحضر به الحرب استحق به السهم لانه ملك القتال عليه، وان حضردار الحرب بفرس وانقضت الحرب ولافرس معه بأن نفق أو باعه أو أجره أو أعاره أو غصب منه لم يسهم له

(19/355)


وإن دخل دار الحرب راجلا ثم ملك فرسا أو استعاره وحضر به الحرب استحق السهم، لان استحقاق المقاتل بالحضور فكذلك لاستحقاق بالفرس، وان حضر بفرس وعار الفرس إلى أن انقضت الحرب لم يسهم له، ومن أصحابنا من قال يسهم له لانه خرج من يده بغير اختياره، والمذهب الاول لان خروجه من يده يسقط السهم، وان كان بغير اختياره كما يسقط سهم الراجل إذا ضل عن الوقعة وان كان بغير اختياره.
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه أحمد وأبو داود، وبلفظ آخر (للفرس سهمين وللرجل سهم) متفق عليه، وفى لفظ آخر (أسهم يوم حنين للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان وللرجل سهم) أخرجه ابن ماجه وأخرج أحمد بلفظ عن المنذر بن الزبير عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أعطى الزبير سهما وأمه سهما وفرسه سهمين) وفى لفظ آخر (قال ضرب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خيبر للزبير أربعة أسهم، سهما للزبير وسهما لذى القربى لصفية أم الزبير وسهمين للفرس) النسائي.
وعن أبى عمرة عن أبيه قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أربعة نفر ومعنا فرس فأعطى كل انسان منا سهما وأعطى الفرس سهمين) أحمد وأبو داود
وعن أبى وهم قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا وأخى ومعنا فرسان، أعطانا ستة أسهم، أربعة أسهم لفرسينا وسهمين لنا) وفى إسناده عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود وفيه مقال، وقد استشهد به البخاري.
وعن أبى كبشة الانمارى قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مكة كان الزبير على المجنبة اليسرى وكان المقداد على المجنبة اليمنى، فلما تقدم رسول الله مكة وهذا الناس جاءا بفرسيهما، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ الغبار عنهما وقال انى جعلت للفرس سهمين وللفارس سهما فمن نقصهما نقصه الله) الدارقطني، وفى اسناده عبد الله بن بشر الجدانى، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم لمائتي فرس بخيبر سهمين سهمين) وعن خالد الحذاء قال لا يختلف فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم) الدارقطني وعن مجمع بن جارية الانصاري قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألف وخمسمائة

(19/356)


فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما) أحمد وأبو داود وذكر أن حديث ابن عمر أصح، قال وأن الوهم في حديث مجمع أنه قال ثلاثمائة فارس، وانما كانوا مائتي فارس) وقال الحافظ في إسناده ضعفا حديث ابن عمر (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) أخرجه البخاري ومسلم عن عروة بن الجعد البارقى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الخيل معقود في نواصيها الخير الاجر والمغنم اليوم القيامة) وأخرج أحمد ومسلم والنسائي من حديث جرير البجلى نحوه وأخرج أحمد من طريق آخر عن أسماء بنت يزيد (الخيل في نواصيها الخير أبدا اليوم القيامة، وفمن ربطها عدة في سبيل الله واتفق عليها احتسابا كان شبعها وجوعها وريها وظمؤها وأرواثها وأبوالها فلاحا في موازينه يوم القيامة)
حديث أن الزبير حضر بأفراس فلم بسهم له النبي صلى الله عليه وسلم إلا لفرس واحد، رواه الشافعي، وروى الواقدي (كان مع الزبير يوم خيبر فرسان فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم) وهو مرسل، ويوافق مرسل مكحول، لكن الشافعي كان يكذب الواقدي.
اللغة: قوله (بإيجاف الخيل والركاب) قيل وجيفها سرعتها في سيرها وقد أوجفها راكبها، وقوله تعالى (قلوب يومئذ واجفة) أي شديده الاضطراب، وإنما سمى الوجيف في السير الشدة هزه واضطرابه.
ذكره العزيزي.
وقال الجوهرى هو ضرب من سير الابل والخيل، يقال وجف البعير يجف وجفا ووجيفا، وأوجفته أنا، ويقال أوجف فاتجف) قوله (فإن حضر بفرس حطم أو صرع أو أعجف) الحطم المنكسر في نفسه يقال الفرس إذا انهدم لطول عمره حطم، ويقال حطمت الدابة أي أسنت، والصرع بالتحريك الضعيف، والاعجف المهزول.
قوله (لا يغنى غناء الخيل) أي لا يكفى كفايتها والغناء بالفتح والمد الكفاية.
قوله (فإن نفق أو باعه) نفقت الدابة تنفق نفوقا أي ماتت.
قوله (فإن عار فرسه) أي ذهب على وجهه وأفلت من يده، ويقال سمى العير عيرا لتفلته، ومنه قيل للغلام الذى خلع عذاره وذهب حيث شاء عبار وفرس عبار ومعيار إذا كان مضمرا، ونفور الطحال هو ورمه

(19/357)


قال أبو عبيد: إنما هو من نفور الشئ من الشئ وهو تجافيه عنه وتباعده وقوله المخذل قد ذكر.
تمسك أبو حنيفة والعترة بحديث مجمع المذكور فجعلوا للفارس وفرسه سهمين وقد حكى ذلك عن على وعمر وأبى موسى، قال أبو يوسف في الخراج كان الفقيه
المقدم أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول للرجل سهم وللفرس سهم وقال لا أفضل بهيمة على رجل مسلم، ويحتج بما حدثناه عن زكريا بن الحارث عن المنذر بن أبى خميصة الهمداني أن عاملا لعمر بن الخطاب (رض) قسم في بعض الشام للفرس سهم وللراجل سهم، فرفع ذلك إلى عمر فسلمه وأجازه، فكان أبو حنيفة يأخذ بهذا الحديث ويجعل للفرس سهما وللرجل سهما، وما جاء من الاحاديث والآثار أن للفرس سهمين وللرجل سهما أكثر من ذلك وأوثق والعامة عليه ليس هذا على وجه التفضيل، ولو كان على وجه التفضيل ما كان ينبغى أن يكون للفرس سهم وللرجل سهم، لانه قد سوى بهيمة برجل مسلم، إنما هذا على أن يكون عدة الرجل أكثر من عدة الآخر وليرغب الناس في ارتباط الخيل في سبيل الله ألا ترى أن سهم الفرس إما يرد على صاحب الفرس، فلا يكون للفرس دونه، المتطوع وصاحب الديوان في القسمة سواء (قلت) وأزف هذا للمتعصبين تعصبا بغيضا لمذاهبهم، فلا فض الله فوك يا ابن يوسف، فرغم تلذتك للامام أبى حنيفة أن تناقض قوله وترده، حتى قيل انه خالفه في مسائل هامة.
قال الشوكاني وذهب الجمهور إلى أن يعطى الفرس سهمين وللفارس سهما والراجل سهما وقال الحافظ في الفتح والثابت عن عمرو على كالجمهور، وحكى في البحر عن على وعمرو الحسن البصري وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز وزيد بن على والباقر والناصر والامام يحيى ومالك والشافعي والازاعى وأبى يوسف ومحمد وأهل المدينة وأهل الشام أنه يعطى الفارس وفرسه ثلاثة سهام، واحتج لهم ببعض أحاديث، ثم أجاب عن ذلك فقال قلت يحتمل أن الثالث في بعض الحالات تنفل جمعا بين الاخبار.
اه

(19/358)


قال الشوكاني: والادلة القاضية بأن للفارس وفرسه سهمين مرجوحة لا يشك في ذلك من له أدنى إلمام بعلم السنة، ثم نقل دليل أبى حنيفة السابق الاشارة إليه من تفضيل البهيمة وقال: وهذه حجة ضعيفة وشبهة ساقطة ونصبها في مقابلة السند الصحيحة المشهورة مما لا يليق بعالم، وأيضا السهام في الحقيقة كلها الرجل لا البهيمة، وأيضا قد فضلت الحنفية الدابة على الانسان في بعض الاحكام فقالوا: لو قتل كلب صيد قيمته أكثر من عشرة آلاف أداها، فان قتل عبدا مسلما لم يؤد فيه إلا دون عشر آلاف درهم.
وقد استدل الجمهور في مقابلة الشبهة بأن الفرس تحتاج إلى مؤنة لخدمتها وعلفها وبأنه يحصل بها من الغناء في الحرب ما لا يخفى، وقد اختلف فيمن حضر الوقعة بفرسين فصاعدا، هل يسهم لكل فرس أم لفرس واحدة فروى عن سليمان بن موسى أنه يسهم لكل فرس سهمان بالغا ما بلغت.
قال القرطبى في المفهم: ولم يقل أحد أنه يسهم لاكثر من فرسين إلا ما روى عن سليمان بن موسى، وحكى في البحر عن الشافعية والحنفية والهادوية أن من حضر بفرسين أو أكثر أسهم لواحد فقط، وعن زيد بن على والصادق والناصر والاوزاعي وأحمد بن حنبل، وحكاه في الفتح عن الليث وأبى يوسف وأحمد وإسحاق أنه يسهم لفرسين لا أكثر.
قال الحافظ في التلخيص فيه أحاديث منقطعة (أحدها) عن الاوزاعي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسهم للحيل ولا يسهم للرجل فوق فرسين، وان كان معه عشرة أفراس رواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عنه وهو معضل، ورواه سعيد من طريق الزهري أن عمر كتب إلى عبيدة أنه يسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبه سهما فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الفرسين فهو جنائب.
وروى الحسن عن بعض الصحابة قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يقسم إلا لفرسين، وأخرج الدارقطني بإسناد ضعيف عن أبى عمرة قال: أسهم لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفرسي أربعة ولى سهما فأخذت خمسا.

(19/359)


وقد اختلف في الرواية في حضور الزبير بفرسين هل أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سهم فرس واحدة أو سهم فرسين، والاسهام للدواب خاص بالافراس دون غيرها من الحيوانات قال في البحر (مسألة) ولا يسهم لغير الخيل من البهائم إجماعا إذ لا إرهاب في غيرها ويسهم للبرذون والمقرف والهجين عند الاكثر، وقال الاوزاعي لا يسهم للبرذون.
قال ابن حزم فيا لمحلى: ومن حضر بخيل لم يسهم له إلا ثلاثة أسهم فقط، وقد قال قوم يسهم لفرسين فقط، وقال آخرون يسهم لكل فرس منها، وهذا لا يقوم به برهان.
فان قيل قد رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسهم للزبير لفرسين، قلنا هذا مرسل لا يصح، وأصح حديث فيه الذى رويناه من طريق ابن وهب عن سعيد ابن عبد الرحمن عن هشام عن عروة عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن جده قال (ضرب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خيبر للزبير بأربعة أسهم، سهم للزبير وسهم للقربى لصفية بنت عبد المطلب وسهمين للفرس (قلت) وما روى في الاحاديث الصحيحة المتفق عليها أن للفرس سهمين هو ما ندين الله عليه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ومن حضر الحرب ومرض فإن كان مرضا بقدر معه على القتال كالسعال ونفور الطحال والحمى الخفيفة أسهم له، لانه من أهل القتال، ولان
الانسان لا يخلو من مثله فلا يسقط سهمه لاجله، وإن كان لا يقدر على القتال لم يسهم له، لانه ليس من أهل القتال فلم يسهم له كالمجنون والطفل.

(فصل)
ولا حق في الغنيمة لمخذل ولا لمن برجف بالمسلمين ولا لكافر حضر بغير إذن، لانه لا مصلحة للمسلمين في حضورهم ويرضخ للصبى والمرأة والعبد والمشرك إذا حضر بالاذن ولم يسهم لهم: لما روى عمير قال غزوت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّا عبد مملوك، فلما فتح الله على نبيه خيبر (قلت) يا رسول الله سهمي فلم يضرب لى بسهم وأعطابى سيفا فتقلدته وكنت أخط بنعله في الارض

(19/360)


وأمر لى من خزئى المتاع، وروى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله هل كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهن سهم فكتب إليه ابن عباس كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما سهم فلم يضرب لهن بسهم.
(الشرح) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن، وعنه أيضا أنه كتب إلى نجدة الحروري: سألت عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس وأنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم) أحمد ومسلم الترمذي وأبو داود، وعنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى المرأة والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش وعن عمير مولى آبى اللحم قال: شهدت خيبر مع سادتي فكلموا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بي فقلدت سيفا فإذا أنا أجره فأخبر بأنى مملوك فأمر بى بشئ من خرثى المناع) أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه والحاكم وصححه، وعن حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غزوة سادس ست نسوة فبلغ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ الينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال مع من خرجتن وبإذن من خرجتن، فقلت: يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله، ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقى السويق قال فحسن: قال فانصرفن حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، قال: فقلت لها يا جدة وما كان ذلك، فقالت تمرا) أحمد وأبو داود والنسائي، وسكت عنه أبودادو وفى إسناده رجل مجهول وهو حشرج قاله في التلخيص، وقال الخطابى إسناده ضعيف لا تقوم به حجة.
وعن الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه) رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب وأبو داود في مراسيله، وقال الشوكاني هذا مرسل.
وعن الاوزاعي قال أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر وأسهم

(19/361)


أئمة الاسلام لكل مولود ولد في أرض الحرب وأسهم النبي صلى الله عليه وسلم للنساء والصبيان بخيبر وأخذ بذلك المسلمون بعده) الترمذي، وقال الشوكاني مرسل.
اللغة: قوله لمن برجف بالمسلمين، أي يخوفهم ويفزعهم من قوله تعالى (يوم ترجف الراجفة) يعنى يوم الفزع والخوف وأصله حركة الارض واضطرابها، وأما الارجاف فهو واحد أراجيف الاخبار، ومعناه التخويف والرعب، وقد ذكر وارجفوا في الشئ إذا خاضوا فيه قوله (ويرضخ للصبى) قد ذكرنا أنه العطاء ليس بالكثير دون سهام المقاتلين وأصله مأخوذه من الشئ المرضوخ وهو المرضوخ المشدوخ.
قوله (من خرثى المتاع) الخرثى متاع البيت وأسقاطه، ونعل السيف يكون في أسفله من حديد أو غيره.
قوله (يحذين من الغنيمة) قال الجوهرى حذيته من الغنيمة إذا أعطيته منها والاسم الحذيا على وزن فعلى بالضم وهى القسمة من الغنيمة وكذلك الحذيا والحذية والحذوة كله العطية.
اختلف أهل العلم هل يسهم للنساء إذا حضرن، فقال الترمذي انه لا يسهم لهن عند أكثر أهل العلم قال: وهو قول سفيان الثوري والشافعي، وقال بعضهم يسهم للمرأة والصبى وهو قول الاوزاعي، وقال الخطابى أن الاوزاعي قال يسهم لهن قال وأحسبه ذهب إلى حديث حشرج بن زياد وإسناده ضعيف لا تقوم به حجة.
وقد حكى في البحر عن العترة والشافعية والحنفية أنه لا يسهم للنساء والصبيان والذميين، وعن مالك أنه قال لا أعلم العبد يعطى شيئا، وعن الحسن بن صالح أنه يسهم العبد كالحر.
وعن الزهري أنه يسهم للذمي لا للعبد والنساء والصبيان فيرضخ لهم، وقال الترمذي بعد أن أخرج حديث عمير مولى آبى اللحم، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أنه لا يسهم للمملوك ولكن يرضخ له بشئ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
قال الشوكاني والظاهر أنه لا يسهم النساء والصبيان والعبيد والذميين وما ورد

(19/362)


من الاحاديث مما فيه إشعار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لاحد من هؤلاء فينبغي حمله على الرضخ، وهو العطية القليلة جمعا بين الاحاديث
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتقدير الرضح إلى اجتهاد أمير الجيش ولا يبلغ به سهم راجل لانه تابع لمن له سهم فنقص عنه كالحكومة لا يبلغ بها أرش العضو، ومن أين
يرضح لهم، فيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يرضخ لهم من أصل الغنيمة، لانهم أعوان المجاهدين فجعل حقهم من أصل الغنيمة كالقتال والحافظ
(والثانى)
أنه من أربعة أخماس الغنيمة، لانهم من المجاهدين فكان حقهم من أربعة أخماس الغنيمة.
(والثالث) أنه من خمس الخمس، لانهم من أهل المصالح، فكان حقهم من سهم المصالح.

(فصل)
وإن حضر أجير في إجارة مقدرة بالزمان ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه يرضخ له مع الاجرة لان منفعة مستحقة لغيره فرضخ له كالعبد
(والثانى)
أنه يسهم له مع الاجرة لان الاجرة تجب بالتمكين والسهم بالحضور وقد وجد الجميع (والثالث) أنه يخير بين السهم والاجرة، فإن اختار الاجرة رضخ له مع الاجرة، وإن اختار السهم أسهم له وسقطت الاجرة، لان المنفعة الواحدة لا يستحق بها حقان، واختلف قوله في تجار الجيش، فقال في أحد القولين يسهم لهم لانهم شهدوا الوقعة، والثانى أنه لا يسهم لهم لانهم لم يحضروا للقتال، واختلف أصحابنا في موضع القولين، فمنهم من قال القولان إذا حضروا ولم يقاتلوا، وأما إذا حضروا فقاتلوا فإنه يسهم لهم قولا واحدا، ومنهم من قال القولان إذا قاتلوا، فأما إذا لم يقاتلوا فإنه لا يسهم لهم قولا واحدا
(فصل)
وإذا لحق بالجيش مدد أو أفلت أسير ولحق بهم نظرت فإن كان قبل انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة أسهم لهم لقول عمر رضى الله عنه الغنيمة لمن

(19/363)


شهد الوقعة، وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لهم لانهم حضروا بعد ما صارت الغنيمة للغانمين، وإن كان بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة
الغنيمة ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يسهم لهم لانهم لم يشهدوا الوقعة
(والثانى)
أنه يسهم لهم لانهم حضروا قبل أن يملك الغانمون
(فصل)
وان خرج أمير في جيش وأنفذ سرية من الجيش إلى الجهة التى يقصدها أو إلى غيرها فغنمت السرية شاركهم الجيش، وان غنم الجيش شاركتهم السرية، لان النبي صلى الله عليه وسلم حين هزم هوازن بحنين أسرى قبل أوطاس سرية وغنمت فقسم غنائمهم بين الجمع وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وترد سراياهم على قاعدهم، ولان الجميع جيش واحد فلم يختص بعضهم بالغنيمة.
وان أنفذ سريتين إلى جهة واحدة من طريق أو طريقين اشترك الجيش والسريتان فيما يغنم كل واحد منهم لان الجميع جيش واحد، وإن أنفذ سريتين إلى جهتين شارك السريتان الجيش فيما يغنمه، وشارك الجيش السريتين فيما يغنمان، وهل تشارك كل واحدة من السريتين السرية الاخرى فيما تغنمه؟ فيه جهان
(أحدهما)
أنها لا تشارك لان الجيش أصل السريتين، وليست إحدى السريتين أصلا للاخرى
(والثانى)
وهو الصحيح انها تشارك لانهما من جيش واحد، وإن أنفذ الامير سرية من الجيش وأقام هو مع الجيش فغنمت السرية لم يشاركها الجيش المقيم مع الامير، لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث السرايا من المدينة فلم يشاركهم أهل المدينة فيما غنموا، ولان الغنيمة للمجاهدين والجيش مقيم مع الامير ما جاهدوا فلم يشارك السرية فيما غنمت والله أعلم.
(الشرح) قول عمر (الغنمية لمن شهد الوقعة) أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح وابن أبى شيبة والطبراني والبيهقي مرفوعا وموقوفا، وقال الصحيح وقفه وابن عدى عن على موقوفا والشافعي وفيه انقطاعا.
حديث عمرو بن شعيب عن جده، أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه
(المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم

(19/364)


وهم يد على من سواهم) وابن ماجه عن معقل بن يسار (المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم) والحاكم عن أبى هريرة اللغة.
قوله (وتقدير الرضخ إلى الاجتهاد أمير الجيش) وقد ذهب الحنابلة إلى مثل ما قال المصنف فقال ابن مفلح في الفروع ويرضخ من أربعة الاخماس وقيل من أصل الغنيمة وقيل من سهم للصالح لامرأة وعبد مميز وقل مراهق وله التفضيل ولا يبلغ بالرضخ القسمة.
قوله (وان حضر أجير..) قال ابن حزم فإن ذكروا في الاجير خبرين فيهما أن أجيرا استؤجر فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بثلاثة دنانير فلم يجعل له عليه السلام سهما غيرهما، فلا يصحان لان أحدهما من طريق عبد العزيز بن أبى رواد وعن أبى سلمة الحمصى، وأبو سلمه مجهول وهو منقطع أيضا، والثانى من طريق ابن وهب عن عاصم بن حكيم عن يحيى بن أبى عمرو الشيباني عن عبد الله ابن الديلمى أن يعلى بن منية وعاصم بن حكيم وعبد الله بن الديلمى مجهولان.
وقال الحسن وابن سيرين والاوزاعي والليث لا يسهم للاجير، وقال أبو حنيفة ومالك لا يسهم لهما إلا أن يقاتلا قوله (وان لحق بالجيش مدد) للدد الزيادة المتصلة، وأمددنا القوم، أي صرنا مددا لهم، وقد ذكرنا السرية أنها قطعة من الجيش، قال القتيبى أصلها من السرى وهو سير الليل وكانت تخفى خروجها لئلا ينتشر الخبر فيكتب به العيون فيقال سرت سرية أي سارت ليلا.
وقال في البيان بل يختارهم الامير من السرى وهو الجودة، كأنه يختار خيار الخيل وأبطال الرجال.
قوله (والمسلمون يد على من سواهم) قال الهروي يقال للقوم هم يد على الآخرين، أي هم قادرون عليهم، ويحتمل أن يكون من اليد التى هي الجماعة، يقال هم عليه يد أي مجتمعون لا يسعهم التخاذل بل يعاون بعضهم بعضا على جميع أهل الاديان والملل.
قوله (يسعى بذمتهم أدناهم) الذمة ههنا الامان، ويسمى المعاهد ذميا لانه

(19/365)


أعطى الامان على ذمة.
وقال في الفائق أدناهم العبد من الدناءة وهى الخساسة، وأقصاهم، أبعدهم من القصاء، وهو البعد، وهذا يدل على أن أدناهم أقربهم بلدا من العدو.
وأخرج أبو داود وسكت عنه المنذرى عن عبيد الله بن سليمان أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثه قال: لما فتحنا خيبرا أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي، فجعل الناس يتبايعون غنائهم، فجاء رجل فقال يا رسول الله لقد ربحت ربحا ما ريح اليوم مثله أحد من أهل هذا الوادي، فقال ويحك وما ربحت قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلثمائة أوقية، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا أنبئك بخبر رجل ريح؟ قال وما هو يا رسول الله؟ قال ركعتين بعد الصلاة.
وقال الشوكاني فيه دليل على جواز التجارة في الغزو، وعلى أن الغازى مع ذلك يستحق نصيبه من المغنم وله الثواب الكامل بلا نقص، ولو كانت التجارة في الغزو موجبة لنقصان أجر الغازى لبينه صلى الله عليه وسلم، فلما لم يبين ذلك بل قرره دل على عدم النقصان، ويؤيد ذلك جواز الاتجار في سفر الحج.
وأخرج أبو داود عن يعلى بن منية قال: أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لى خادم، فالتمست أجيرا يكفيني وأجرى له سهمه
فوجدت رجلا، فلما دنا الرجل أتانى فقال ما أدرى ما السهمان وما يبلغ سهمي قسم لى شيئا كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمة أردت أن أجرى له سهمه فذكرت الدنانير، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أمره فقال ما أحد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانير التى سمى) وسكت عنه المنذرى وأخرجه الحاكم وصححه، وأخرجه البخاري بنحوه وبوب عليه باب الاجير.
قال الشوكاني: وقد اختلف العلماء في الاسهام للاجير إذا استؤجر للخدمة فقال الاوزاعي وأحمد وإسحاق لا يسهم له، وقال الاكثر يسهم له، ثم قال وأما إذا استؤجر الاجير ليقاتل، فقال الحنفية والمالكية لاسهم له، وقال الاكثر له سهمه.

(19/366)


وقال أحمد لو استأجر الامام قوما على الغزو لم يسهم لهم سوى الاجرة.
وقال الشافعي هذا فيمن لم يجب عليه الجهاد، وأما الحر البالغ المسلم إذا حضر الصف فإنه يتعين عليه الجهاد فيسهم له ولا يستحق أجره وقال الثوري لا يسهم للاجير إلا إن قاتل، وقال الحسن وابن سيرين يقسم للاجير من المغنم، هكذا رواه البخاري عنهما تعليقا ووصله عبد الرزاق عنهما بلفظ يسهم للاجير، ووصله ابن أبى شيبة عنهما بلفظ العبد والاجير إذا شهد القتال أعطوا من الغنيمة والاولى المصير إلى الجمع الذى ذكره المصنف رحمه الله فمن كان من الاجراء قاصدا للقتال استحق الاسهام من الغنيمة ومن لم يقصد فلا يستحق إلا الاجرة المسماة.
قوله (إذا لحق بالجيش مدد..) قال ابن حزم وتقسم الاربعة الاخماس الباقية على من حضر الواقعة أو الغنيمة.
وروى الترمذي عن أبى موسى قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفر من الاشعريين خيبر فأسهم لنا مع الذين افتتحوها) ثم قال وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قال الاوزاعي (من لحق بالمسلمين قبل أن يسهم للخيل اسهم له) قال المباركفورى (استدل بهذا الحديث من قال انه يسهم لمن حضر بعد الفتح قبل قسمة الغنيمة) قال ابن التين (يحتمل أن يكون انما أعطاهم من جميع الغنيمة لكونهم وصلوا قبل القسمة وبعد حوزها) وهو أحد الاقوال للشافعي قال ابن بطال: لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم فيغير من شهدا لوقعة إلا في خيبر فهى مستثناة من ذلك فلا تجعل أصلا يقاس عليه فانه قسم لاصحاب السفينة لشدة حاجتهم، وكذلك أعطى الانصار عوض ما كانوا أعطوا المهاجرين عند قدومهم عليهم، ويحتمل أن يكون استطاب أنفس أهل الغنيمة بما أعطى الاشعريين وغيرهم ومما يؤيد أنه لانصيب لمن جاء بعد الفراغ من القتال ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، وذكر قول ابن عمر ورواه الشافعي من قول أبى بكر

(19/367)


وفيه انقطاع.
وروى أبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله (ص) بعث أبان أبن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قبل نجد فقدم ابان بن سعيد وأصحابه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر بعد فتحها وإن حزم خيلهم ليف فقال ابان قسم لنا يا رسول الله، قال أبو هريرة: فقلت لا تقسم لهم يا رسول الله، فقال ابان أنت بها ياوبر تحد علينا من رأس ضال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اجلس يا أبان ولم يقسم لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ المنذرى: أخرجه البخاري تعليقا.
وقال الخطابى وفيه من الفقه أن الغنيمة لمن شهد الوقعة دون من لحقهم بعد إحرازها، وقال أبو حنيفة من لحق الجيش بعد أخذ الغنيمة قبل قسمها في دار الحرب فهو شريك الغانمين.
وقال الشافعي الغنيمة لمن حضر الوقعة أو كان رداء لهم، فاما من لم يحضرها فلا شئ له منها، وهو قول مالك وأحمد، وكان الاوزاعي يقول إذا أدرب قاصدا في سبيل الله أسهم له شهد القتال أو لم يشهد.
وجزم موسى بن عقبة بأنه أعطى أبان ومن معه برضا بقية الجيش، وجزم أبو عبيد في كتاب الاموال بإنما أعطاهم من الخمس.
وقال الشوكاني وقد استدل بقصة عثمان في تغيبه عن بدر لمرض زوجته ابنة الرسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يسهم الامام لمن كان غائبا في حاجة له بعثه لقضائها، وأما ما كان غائبا عن القتال لا لحاجة الامام وجاء بعد الواقعة فذهب أكثر العترة والشافعي ومالك والاوزاعي والثوري والليث أنه لا يسهم له، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يسهم لمن حضر قبل احرازها إلى دار الاسلام.

(19/368)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب قسم الخمس

ويقسم الخمس على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم لذوى القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل، والدليل عليه قوله عز وجل (واعلموا أنما غنمتم من شئ فان لله خمسه والرسول ولدى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فأما سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يصرف في مصالح المسلمين.
والدليل عليه ما روى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله
عليه وسلم حين صدر من خيبر تناول بيده نبذة من الارض أو وبرة من بعيره وقال والذى نفسي بيده مالى مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود عليكم فجعله لجميع المسلمين ولا يمكن صرفه إلى جميع المسلمين إلا بأن يصرف في مصالحهم وأهم المصالح سد الثغور لانه يحفظ به الاسلام والمسلمين ثم الاهم فالاهم.

(فصل)
وأما سهم ذوى القربى فهو لمن ينتسب إلى هاشم والمطلب ابني عبد مناف لما روى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لما قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب جئت أنا وعثمان، فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذى وضعك الله فيهم أرأيت إخواننا من بنى المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وإياهم منك بمنزلة واحدة، قال إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد ثم شبك بين أصابعه، ويسوى فيه بين الاغنياء والفقراء، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى منه العباس وكان موسرا يقول عامة بنى عبد المطلب، ولانه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الغنى والفقير كالميراث ويشترك فيه الرجال والنساء لما روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أسهم لام الزبير في ذوى القربى ولانه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الذكر والانثى كالميراث ويجعل الذكر مثل حظ الانثيين

(19/369)


وقال المزني وأبو ثور يسوى بين الذكر والانثى، لانه مال يستحق باسم القرابة فلا يفصل الذكر فيه على الانثى كالمال المستحق بالوصية القرابة، وهذا خطأ، لانه مال يستحق بقرابة الاب بالشرع ففضل الذكر فيه على الانثى كميراث ولد الاب ويدفع ذلك إلى القاضى منهم والدانى.
وقال أبو إسحاق يدفع ما في كل إقليم إلى من فيه منهم، لانه يشق نقله من
إقليم إلى إقليم، والمذهب الاول لقوله عز وجل (ولذي القربى) فعمم ولم يخص ولانه حق مستحق بالقرابة فاستوى فيه القاصي والدانى كالميراث
(فصل)
وأما سهم اليتامى فهو لكل صغير فقير لا أب له فأما من له أب فلا حتى له فيه لان اليتيم هو الذى لا أب له وليس لبالغ فيه حق، لانه لا يسمى بعد البلوغ يتيما.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لايتم بعد الحلم، وليس للغنى فيه حق ومن أصحابنا من قال للغنى فيه حق، لان اليتيم هو الذى لا أب له غنيا كان أو فقيرا، والمذهب الاول، لان غناه بالمال أكثر من غناه بالاب فإذا لم يكن لمن له أب فيه حق فلان لا يكون لمن له مالى أولى.

(فصل)
وأماسهم المساكين فهو لكل محتاج من الفقراء والمساكين لانه إذا أفرد المساكين تناول الفريقين.

(فصل)
وأما سهم ابن السبيل فهو لكل مسافر أو مريدا لسفر في غير معصية وهو محتاج على ما ذكرناه في الزكاة.

(فصل)
ولا يدفع شئ من الخمس إلى كافر لانه عطية من الله تعالى فلم يكن الكافر فيها حق كالزكاة، ولانه مال مستحق على الكافر بكفره فلم يجز أن يستحقه الكافر وبالله التوفيق.
(الشرح) حديث جبير بن مطعمم (والذى نفسي بيده مالى مما أفاء الله إلا الخمس..) أخرجه أبو داود مختصرا وابن حبان في صحيحة عن عبادة بن الصامت وقال (وأخذت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حنين وبرة من جنب بعير، ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَا يحل لى مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس،

(19/370)


والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط، وإياكم والغلول فانه عار على أهله
يوم القيامة) .
حديث جبير بن مطعم (لما قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهم ذوى للقربى من بنى هاشم وبنى عبد المطلب، قال مشيت أنا وعثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا أعطيت بنى المطلب من خمس خيبر وتركتنا قال انما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد، قال جبير ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبنى هاشم ولا لبنى نوفل شيئا) أخرجه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجه، وفى رواية لما قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهم ذوى القربى من خيبر من بنى هاشم وبنى عبد المطلب جئت أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذى وضعك الله عز وجل منهم، أرأيت اخواننا من بنى المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمزلة واحدة فقال: انهم لما يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد قال ثم شبك بين أصابعه) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والبرقاني كما قال القرطبى في تفسيره والشوكانى في النيل، وقال البرقانى أنه على شرط مسلم.
حديث (لا يتم بعد احتلام) أخرجه أبو داود عن على وباقيه (ولا صمات يوم إلى الليل) .
اللغة: قال ابن العربي في كتاب أحكام القرآن، الانفال، الغنائم، الفئ فالنفل الزيادة وتدخل فيه الغنيمة فانها زيادة الحلال لهده الامة، والغنيمة ما أخذ من أموال الكفار بقتال، والفئ ما أخذ بغير قتال لانه رحل إلى موضعه الذى يستحقه وهو انتفاع المؤمن به قوله (ويقسم الخسم على خمسة ... ) قال الغزنوى الحنفي في الغرة المنيفة (كان الخمس فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم على خمسة أسهم سهم لله ورسوله وكان يشترى به السلاح، وسهم لذوى قربى النبي صلى الله عليه وسلم
وسهم للمساكين، وسهم لليتامى، وسهم لابناء السبيل وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سقط سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسهم ذوى القربى فيأخذون بالفقر دون

(19/371)


القرابة عند أبى حنيفة رضى الله عنه وعند الشافعي رحمه الله سهم النبي صلى الله عليه وسلم يدفع إلى الامام وسهم ذوى القربى باق.
حجة أبى حنيفة إجماع الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين فإنهم قسموا خمس الغنيمة على ثلاثة أسهم ولم يعطوا ذوى القربى شيئا لقربهم بل لفقرهم، مع أنهم شاهدوا قسمة النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا تأويل الآية، وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير فحل محل الاجماع، فلو كان سهمهم باقيا لما منعوهم، وهذا لان المراد بالقربى قربى النصرة دون القرابة بدليل، وذكر حديث جبير الثاني المذكور في صدرا لشرح، واستدل بحديث أم هانئ مرفوعا، قال عليه الصلاة والسلام (سهم ذوى القربى لهم في حياتي وليس لهم بعد وفاتي) وكذا سهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بعد وفاته إذ غيره ليس في معناه من كل وجه.
حجة الشافعي قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ..) وهذا نص صريح في المسألة.
ثم قال مؤيدا لمذهبه (الجواب عنه أن المراد بالقربى قربى النصرة لا قربى القرابة بما ذكرنا من الدليل وقد زالت النصرة بعد وفاته) (قلت) وقد اطلعت على كثير من كتب الفقه كالمغنى والشرح الكبير عليه والفروع والاقناع للحنابلة وشرحي الموطأ والبداية للمالكية وفتاوى السبكى وابن حجر وروضة الطالبين للشافعية وبدائع الصنائع (1) وحاشية ابن عابدين للحنفية والنيل والمحلى وتحفة الاحوذي وتهذيب السنن وأحكام القرآن للجصاص وكذا لابن عربي والتفاسير للقرطبي، صديق حسن خان وابن كثير وللقاسمي والرازي
والمنار وغير ذلك كثير مما ذكرناه من مراجع سابقة، وقد وجدت خير ما أضعه بين يديك ما أورده القرطبى متمشيا مع ما أشار إليه المنار، إلا انى أخالفه في أنه أشار أن ما نقله في الخاتمة هو خير ما أورده صديق حسن خان، إلا أنى بعد المراجعة تبين لى أن صديق حسن خان نقل ما ذكره القرطبى مع اختصار كثير فلم يأت بجديد، ورأيت ردا للامور في نصابها أن أحيل إلى القرطبى لانه هو السابق.
قال القرطبى اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على ستة أقوال
__________
(1) وقد طبعناه قريبا ويطلب من مطبعة الامام بالقلعة بمصر

(19/372)


(الاول) قالت طائفة يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة وهو الذى لله والثانى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث لذوى القربى، والرابع لليتامى والخامس للمساكين والسادس لابن السبيل، وقال بعض أصحاب هذا القول يرد السهم الذى لله على ذوى الحاجة.
(الثاني) قال أبو العالية والربيع تقسم الغنيمة على خمسة فيعزل منها قسم واحد وتقسم الاربعة على الناس ثم يضرب بيده على السهم الذى عزله فما قبض عليه من شئ جعله للكعبة ثم يقسم بقية السهم الذى عزله على خمسة، سهم للنبى صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوى القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل (الثالث) قال المنهال بن عمرو سألت عبد الله بن محمد بن على وعلى بن الحسين الخمس فقال هولنا، قلت لعلى إن الله تعالى يقول (واليتامى والمساكين وابن السبيل) فقال أيتامنا ومساكيننا (الرابع) قال الشافعي يقسم على خمسة ورأى أن سهم الله ورسوله واحد وأنه يصرف في مصالح المؤمنين، والاربعة الاخماس على الاربعة الاصناف
المذكورين في الآية (الخامس) قال أبو حنيفة يقسم على ثلاثة اليتامى والمساكين وابن السبيل وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه قالوا ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القصاة والجند، وروى نحو هذا عن الشافعي أيضا (السادس) قال مالك هو موكول إلى نظر الامام واجتهاده فيأخذ منه من غير تقدير ويعطى منه القرابة باجتهاد ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وبه قال الخلفاء الاربعة وبه عملوا وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم (مالى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم) فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم لانهم من أهم من يدفع إليهم قال الزجاج محتجا لمالك قال الله عز وجل (يسئلونك ماذا ينفقون)

(19/373)


وللرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الاصناف إذا رأى ذلك وذكر النسائي عن عطاء قال (خمس الله وخمس رسوله واحد وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمل منه ويعطى منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء.
وروى ابن حزم عن قتادة قال تقسم الغنائم خمسة أخماس، فأربعة أخماس لمن قاتل عليها ثم يقسم الباقي على خمسة اخماس، فخمس منها لله تعالى وللرسول وخمس لقرابة الرسول الله صلى الله عليه وسلم وخمس لليتامى وخمس لا بن السبيل وخمس للمساكين، ثم قال وهو قول الاوزاعي وسفيان الثوري والشافعي وأبى ثور وإسحاق وأبى سليمان والنسائي وجمهور أصحاب الحديث وآخر قولى أبى يوسف القاضى الذى رجع إليه، إلا أن الشافعي قال للذكر من ذوى القربى مثل حظ الانثين، وهذا خطأ لانه لم يأت به نص أصلا وليس ميراثا فيقسم
كذلك، وإما هي عطية من الله تعالى فهم فيها سواء.
وقال مالك يجعل الخمس كله في بيت المال ويعطى اقرباء رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ما يرى الامام ليس في ذلك حد محدود قال أصبع بن فرج أقرباؤه عليه السلام هم جميع قريش، وقال أبو حنيفة يقسم الخمس على ثلاثة أسهم، الفقراء والمساكين وابن السبيل، قال على: هذه أقوال في غاية الفساد لانها خلاف القرآن نصا وخلاف السنة الثابتة، ولا يعرف قول أبى حنيفة عن أحد من أهل الاسلام قبله وجماع نصوصهم لكل من تأملها أنهم يحتجون بأحاديث موضوعة أو مرسلة أو صحاح، ليس فيها دليل أو قول صاحب قد خالفه غيره منهم ولا مزيد وقال الشوكاني: في الاحاديث دلالة على أن من مصارف الخمس قربى رسول الله، وذكر حديثا رواه أبو داود أن أبا بكر كان يقسم الخمس نحو قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن يعطى قربى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عمر يعطيهم منه وعثمان بعده وقد استدل من قال إن الامام يقسم الخمس حيث شاء بما أجرجه أبو داود وغيره عن ضباعة بنت الزبير قالت أصاب النبي صلى الله عليه وسلم سبيا فذهبت أنا وأختى فاطمة فسأله فقال سبقتكما يتامى بدر، وفى حديث الصحيح أن فاطمة شكت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرحى..الخ

(19/374)


قال اسماعيل القاضى هذا الحديث يدل على أن للامام أن يقسم الخمس حيث يرى، لان الاربعة الاخماس استحقاق للغانمين والذى يختص بالامام هو الخمس وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وأعز الناس عليه من قرابته وصرفه إلى غيرهم، وقال بنحو ذلك الطبري والطحاوى.
قال الحافظ في الفتح في الاستدلال بذلك نظر، لانه يحتمل أن يكون
ذلك من الفئ.
قلت أما باقى الاقوال التى ذكرها المصنف فلم يخالفه فيها أحد قوله (نبذة من الارض) النبذة الشئ اليسير، يقال في رأسه نبذ من الشيب وأصاب الارض نبذ من مطر أي شئ يسير قوله (سد الثغور) الثغر موضع المخافة.
وقال الازهرى أصل الثغر الهدم والكسر، يقال ثغرت الجدار إذا هدمته.
وقيل للموضع الذى تخاف منه العدو ثغر لانثلامه وإمكان دخول العدو منه.
وقيل النصيب سهم لانه يعلم عليه بالسهام قوله (بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد) بالشين المعجمة وهو المثل، وقد ذكر فِي الزَّكَاة

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(باب قسم الفئ)
الفئ هو المال الذى يؤخذ من الكفار من غير قتال، وهو ضربان، أحدهما ما انجلوا عنه خوفا من المسلمين أو بدلوه للكف عنهم فهذا يخمس ويصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة، والدليل عليه قوله عز وجل (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فالله وللرسول والذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) .

(والثانى)
ما أخذ من غير خوف كالجزية وعشور تجاراتهم ومال من مات منهم في دار الاسلام ولا وارث له ففى تخميسه قولان، قال في القديم لا يخمس لانه مال أخذ من غير خوف لم يخمس كالمال المأخوذ بالبيع والشراء.

(19/375)


وقال في الجديد يخمس وهو الصحيح للآية، ولانه مال مأخوذ من الكفار بحق الكفر يختص به بعض المسلمين فوجب تخميسه كالمال الذى انجلوا عنه، وأما
أربعة أخماسه فقد كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حياته، والدليل عليها قوله عز وجل (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فالله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) ولا ينتقل ما ملكه إلى ورثته، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما ما تركته بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملي فإنه صدقة وروى مالك بن أوس بن الحدثان رضى الله عنه عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف: أنشدكم بالله أيها الرهط هل سمعتم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنا لا نورث، ما تكرنا صدقة، إن الانبياء لا تورث، فقال القول بلى قد سمعناه، ثم أقبل على على وعباس فقال أنشد كما بالله هل سمعتما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ما تركناه صدقة إن الانبياء لا تورث، فقالا نعم، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود، واختلف قول الشافعي فيما يحصل من من مال الفئ بعد موت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ في أحد القولين يصرف في المصالح لانه مال راتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصرف بعد موته في المصالح كخمس الخمس، فعلى هذا يبدأ بالاهم وهو سد الثغور وأرزاق المقاتلة ثم الاهم فالاهم.
وقال في القول الثاني هو للمقاتلة، لان ذلك كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان فيه من حفظ الاسلام والمسلمين، ولما كان له في قلوب الكفار من الرعب، وقد صار ذلك بعد موته في المقاتلة فوجب أن يصرف إليهم.
(الشرح) حديث أبى هريرة (لا تقتسم ذريتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملي فهو صدقة) متفق عليه، وأخرجه الحاكم وأبو داود عن أبى هريرة.
حديث عمر (لا نورث ما تركنا فهو صدقة، وإنما هذا المال لآل محمد لنائبهم
ولضعيفهم، فإذا مت فهو إلى ولى الامر من بعدى) أخرجه أبو داود عن على

(19/376)


وفى إسناده يحيى بن محمد المدنى متكلم فيه، والترمذي في الشمائل عن أسامة، وأسامة مختلف فيه وروى له مسلم، وحديث عمر الآخر فقد خرجه المصنف.
اللغة.
قوله (الفئ هو المال الذى يأخذ..) قلت بوب الترمذي فقال: باب من يعطى من الفئ، وذكر فيه أحاديث الغزو بالنساء هل يسهم لهن وللصبيان حتى أن المباركفورى بعد أن شرح كلمة الفى لغويا قال: والظاهر أن المراد من الفئ هنا الغنيمة ولم يذكر فيه أقوالا.
وقال أبو يوسف في كتاب الخراج (فصل في الفئ) فأما الفئ يا أمير المؤمنين فهو الخراج عندنا، خراج الارض والله أعلم.
واستشهد بالآية (ما أفاء الله على رسوله..) حتى فرغ من هؤلاء ثم قال (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم..) ثم قال تعالى (والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم..والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا..) فهذا والله أعلم لمن جاء من بعدهم من المؤمنين إلى يوم القيامة ثم استشهد بأعمال عمر في عدم تقسيمه أرض الشام والعراق.
وقال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن: والفئ في مثل هذا الموضع ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك، واستشهد بقول لعمر (كانت أموال بنى النضير فيثا مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقى جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.
وذكر في المنتفى للجد ابن تيمية حديث عوف بن مالك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أتاه الفئ قسمه في يومه فأعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظا) رواه
أبو داود وذكره أحمد وقال حديث حسن (قلت) هذا الحديث وإن كان في الفئ إلا أن فيه كفالة حق الفرد الآهل أكثر من الاعزب، كما أن فيه الضمان الاجتماعي الذى يتغنى به الاوربيون وابناء جلدتنا وبنى جنسنا ممن ساروا في ركاب الثقافة الغربية أو الشيوعية فليتهم يعودون إلى أحضان دينهم فيجدوا فيه الخير الكثير لهم ولنا، وفيه دافعا للشباب

(19/377)


على الزواج وحلا للازمة التى نراها وبقاء لبعض أنوثة المرأة التى أهدرت بالعمل دون مبرر ولا حاجة.
قال ابن العربي في أحكام القرآن بعد أن أورد الآيتين من سورة الحشر: لا خلاف أن الآية الاولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وهذه الاية (وهى الثانية) اختلف الناس فيها على أربعة أقوال (الاول) أنها هذه القرى التى قوتلت فأفاء الله بمالها فهى لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، قال عكرمة وغيره: ثم نسخ ذلك في سورة الانفال.
(الثاني) هو ما غنمتم بصلح من غير إيجاف خيل ولا ركاب فيكون لمن سمى الله فيه، والاولى للنبى صلى الله عليه وسلم خاصة إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين.
(الثالث) قال معمر الاولى للنبى صلى الله عليه وسلم والثانية في الجزية والخراج للاصناف المذكورة فيه، والثالثة الغنيمة في سورة الانفال للغانمين (الرابع) روى ابن القاسم وابن وهب في قوله تعالى (فما أوجفتم عليه من خيل..) هي النضير لم يكن فيها خمس ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وكان صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها بين المهاجرين وثلاث من الانصار،
وقوله تعالى (ما أفاء الله..) هي قريظة، وكانت قريظة والخندق في يوم واحد.
قال ابن ضويان في شرح منار السبيل (مذهب الحنابلة) والفئ هو ما أخذ من مال الكفار بحق من غير قتال، كالجزية والخراج وعشر التجارة من الحربى ونصف العشر من الذمي، وما تركوه فزعا أو عن ميت ولا وارث له ومصرفه في مصالح المسلمين، ثم شرحه بقوله لعموم نفعها ودعاء الحاجة إلى تحصيلها، قال عمر رضى الله عنه ما من أحد من المسلمين الا له في هذا المال نصيب إلا العبيد فليس لهم في شئ، وقرأ (ما أفاء الله على رسوله..) فقال هذه استوعبت المسلمين، ولئن عشت ليأتين الراعى بسرد حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه.
وقال أحمد (الفئ حق لكل المسلمين، وهو بين الغنى والفقير)

(19/378)


وتبدأ بالاهم فالاهم من سعد ثغر وكفاية أهل وحاجة من يدفع عن المسلمين وعمارة القناطر ورزق القضاة والفقهاء وغير ذلك، فإن فضل شئ قسم بين أحرار المسلمين غنيهم وفقيرهم وبيت المال ملك للمسلمين ويضمنه متلفه ويحرم الاخذ منه بلا إذن الامام.
وأفضل ما قرأنه في الفئ ما صنفه ابن رشد في البداية، وأما الفئ عند الجمهور فهو كل ما صار للمسلمين من الكفار قبل الرعب والخوف من غير أن يوجف عليه بخيل أو رجل.
واختلف الناس في الجهة التى يصرف إليها، فقال قوم إن الفئ لجميع المسلمين، الفقير والغنى، وأن الامام يعطى منه للمقاتلة وللحكام وللولاة.
وينفق منه في النوائب التى تنوب المسلمين كبناء القناطر وإصلاح المساجد غير ذلك، ولاخمس في شئ منه، وبه قال الجمهور، وهو الثابت عن أبى بكر وعمر.
وقال الشافعي بل فيه الخمس، والخمس مقسوم على الاصناف التى ذكروا في آية الغنائم وهم الاصناف الذين ذكروا في الخمس بعنيه من الغنيمة وأن الباقي هو مصروف إلى اجتهاد الامام ينفق منه على نفسه ومن رأى، وأحسب أن قوما قالوا إن الفئ غير مخمس، ولكن يقسم على الاصناف الخمس الذين يقسم عليهم الخمس، وهو أحد أقوال الشافعي فيما أحسب.
وسبب اختلاف من رأى أنه يقسم جميعه على الاصناف الخمسة أو هو مصروف إلى اجتهاد الامام هو سبب اختلافهم في قسمة الخمس من الغنيمة.
ثم قال: إن من جعل الاصناف في الآية تنبيها على المستحقين له قال هو لهذه الاصناف المذكورين ومن فوقهم، ومن جعل ذكر الاصناف تعديدا للذين يستوجبون هذا المال قال لا يتعدى بهم هؤلاء الاصناف، أعنى أنه جعله من باب الخصوص لا من باب التنبيه.
وأما تخميس الفئ فلم يقل به أحد قبل الشافعي، وإنما حمله على هذا القول أنه رأى الفئ قد قسم في الآية على عدد الاصناف الذين قسم عليهم الخمس، فاعتقد لذلك أنه فيه الخمس، لانه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس،

(19/379)


وليس ذلك بظاهر بل الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفى لاجزءأ منه، وهو الذى ذهب إليه فيما أحسب قوم.
وخرج مسلم عن عمر وذكر الحديث السابق الاشارة إليه في مذهب الاحناف.
ثم قال وهذا يدل على مذهب مالك (قلت) وفى آخر الكتاب سنفرد بحثا لمصارف هذه الاموال في عصرنا الحاضر كما ذكرها الدهلوى في كتابه حجة الله البالغة، وكذا الرق في الاسلام وما استملته سورة الانفال من الاستعداد للقتال إن شاء الله
قوله (انجلوا عنه) أي هربوا، يقال جلا القوم عن منازلهم إذا هربوا، قال الله تعالى (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) قوله (ومؤنة عاملي) أي مؤنة خليفتي، والعامل هو الذى يتولى أمور الرجل في ماله وملكه وعمله، ومنه قيل للذى يستخرج الزكاة عامل والذى يأخذه العامل من الاجرة يقال له عمالة بالضم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وينبغى للامام أن يضع ديوانا يثبت فيه أسماء المقاتلة وقدر أرزاقهم، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قدمت على عمر رضى الله عنه من عند أبى موسى الاشعري بثمانمائة ألف درهم، فلما صلى الصبح اجتمع إليه نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال لهم قد جاء للناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الاسلام، أشيروا على بمن أبدا منهم؟ فقالوا بك يا أمير المؤمنين إنك ولى ذلك، قال لا، ولكن أبدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الاقرب قالاقرب إليه، فوضع الديوان على ذلك.
ويستحب أن يجعل على كل طائفة عريفا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ عام خيبر على كل عشرة عريفا، ولان في ذلك مصلحة، وهو أن يقوم التعريف بأمورهم ويجمعهم في وقت العطاء وفى وقت الغزو ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل في كل شهر ولا في كل أسبوع لان ذلك يشغلهم عن الجهاد

(19/380)


(فصل)
ويستحب أن يبدأ بقريش لقوله صلى الله عليه وسلم (قسموا قريشا ولا تتقدموها، ولان النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فإنه محمد بن عبد الله ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بن مالك بن النضر بن كنانة.
واختلف الناس في قريش، فمنهم من قال كل من ينتسب إلى فهر بن مالك فهو من قريش.
ومنهم من قال: كل من ينتسب إلى النضر بن كنانة فهو من قريش، ويقدم من قريش بنى هاشم لانهم أقرب قبائل قريش إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويضم إليهم بنو المطلب، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد وشبك بين أصابعه) وعن عمر رضى الله عنه أنه قال حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم فإذا كان السمن في الهاشمي قدمه على المطلبى، وإذا كان في المطلبى قدمه على الهاشمي ثم يعطى بنى عبد شمس وبنى نوفل ابني عبد مناف، ويقدم بنى عبد شمس على بنى نوفل، لان عبد شمس أقرب إليه لانه أخو هاشم من أبيه وأمه ونوفل أخوه من أبيه، وأنشد آدم بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز: يا أمين الله إنى قائل
* قول ذى بر ودين وحسب عبدشمس لا تهنها إنما
* عبد شمس عم عبد المطلب عبد شمس كان يتلو هاشما
* وهما بعد لام ولاب ثم يعطى بنى عبد العزى وبنى عبد الدار، ويقدم عبد العزى على عبد الدار لان فيهم أصهار رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ خديجة بنت خويلد منهم ولان فيهم من حلف المطيبين وحلف الفضول، وهما حلفان كانا من قوم من قريش اجتمعوا فيهما على نصر المظلوم ومنع الظالم.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: شهدت حلف الفضول ولو دعيت إليه لاجبت، وعلى هذا يعطى الاقرب فالاقرب حتى تنقضي قريش، فإن استوى إثنان في القرب قدم أسنهما لما رويناه من حديث

(19/381)


عمر في بنى هاشم وبنى المطلب، فإن استويا في السن قدم أقدمهما وسابقة، فإذا انقضت قريش قدم الانصاري على سائر العرب لما لهم من السابقة والآثار الحميدة في الاسلام، ثم يقسم على سائر العرب ثم يعطى العجم ولا يقدم بعضهم على بعض إلا بالسن والسابقة دون النسب
(فصل)
ويقسم بينهم على قدر كفايتهم لانهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فوجب أن يكفوا أمر النفقة، ويتعاهد الامام في وقت العطاء عدد عيالهم لانه قد يزيد وينقص ويتعرف الاسعار وما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة لانه قد يغلو ويرخص، ليكون عطيتهم على قد حاجتهم، ولا يفضل من سبق إلى الاسلام أو إلى الهجرة على غيره لان الاستحقاق بالجهاد وقد تساووا في الجهاد فلم يفضل بعضهم على بعض كالغانمين في الغنيمة.

(فصل)
ولا يعطى من الفئ صبى ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة ولا ضعيف لا يقدر على القتال لان الفئ للمجاهدين وليس هؤلاء من أهل الجهاد وإن مرض مجاهد فإن كان مرضا يرجى زواله أعطى، لان الناس لا يخلون من عارض مرض، وان كان مرضا لا يرجى زواله سقط حقه من الفئ لانه خرج عن أن يكون من المجاهدين.
وإن مات المجاهد وله ولد صغير أو زوجة ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يعطى ولده ولا زوجته من الفئ شيئا، لان ما كان يصل اليهما على سبيل التبع لمن يعواهما وقد زال الاصل وانقطع التبع
(والثانى)
أنه يعطى الولد إلى أن يبلغ وتعطى الزوجة إلى أن تتزوج، لان في ذلك مصلحة، فإن المجاهد إذا علم أنه يعطى عياله بعد موته توفر على الجهاد، وإذا علم أنه لا يعطى اشتغل بالكسب لعياله وتعطل الجهاد.
فإذا قلنا بهذا فبلغ الولد فإن كان لا يصلح للقتال كالاعمى والزمن أعطى
الكفاية كما كان يعطى قبل البلوغ، وإن كان يصلح للقتال وأراد الجهاد فرض له وإن لم يرد الجهاد لم يكن له في الفئ حق، لانه صار من أهل الكسب، وإن تزوجت الزوجة سقط حقها من الفئ، لانها استغنت بالزوج، وان دخل

(19/382)


وقت العطاء فمات المجاهد انتقل حقه إلى ورثته لانه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى الوارث.
(الشرح) اثر أبى هريرة (عن عمر أنه قال يوم الجابية وهو يخطب الناس إن الله عز وجل جعلني خازنا لهذا المال وقاسمه، ثم قال بل الله قاسمه وأنا بادئ بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشرفهم، ففرض لازواج النبي عشرة آلاف إلا جويرية وميمونة، فقالت عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعدل بيننا، فعدل عمر بينهن ثم قال إنى بادئ بأصحابى المهاجرين الاولين فإنا أخرجنا من ديارنا ظلما وعداونا، ثم أشرها ففرض لاصحاب بدر منهم خمسة آلاف ولمن شده بدرا من الانصار أربعة آلاف، وفرض لمن شهد أحدا ثلاثة آلاف وقال من بقى أسرع في الهجرة وأسرع به في العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطى به في العطاء فلا يلومن رجل الا مناخ راحلته) أخرجه أحمد، وقال الهيثمى رجاله ثقات نقلا من مجمع الزوائد حديث (جعل عام خيبر على كل عشرة عريفا) أخرجه البيهقى وأصحاب السير حديث (قدموا قريشا) أخرجه الطبراني عن عبد الله بن السائب والبزار كما في مجمع الزوائد بلفظ (قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا من قريش ولا تعلموها ولولا أن تبطر قريش لاخبرتها ما لخيارها عند الله تعالى) وأخرج الشافعي والبيهقي في المعرفة عن ابن شهاب بلاغا وابن عدى عن أبى هريرة (قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا من قريش ولا تعالموها)
حديث (انما بنو هاشم وبنو عبد المطلب..) سبق تخريصه فيما قبله حديث عمر (حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم..) البيهقى والشافعي.
حديث (شهدت حلب الفصول) أخرجه الحاكم بلفظ: شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين فما يسرنى أن لى حمر النعم وانى أنكثه.
عن عبد الرحمن ابن عوف.

(19/383)


قوله (أنشدكم بالله) أي أسألكم بالله وأقسم عليكم.
قوله (في قلوب الكفار من الرعب) أي الخوف، يقال رعبته فهو مرعوب إذا أفزعته ولا يقال أرعبته ومنه الحديث نصرت بالرعب.
قوله (يضع ديوانا) أي كتابا يجمع فيه أسماء الجند، وأصله دوان فعرض من أحد الواوين ياء لانه يجمع على دواوين، ولو كانت الواو أصلية لقيل دياوين بل يقال دونت دواوين.
قوله (لؤى) تصغير لاى وهو ثور الوحش، سمى به الرجل.
قوله (قول ذى بر ودين وحسب) البر فعل الخير والحسب كرم الآباء والاجداد.
قوله (يتلو هاشما) أي يتبعه في كرمه وفخره وسائر مناقبه.
قوله (حلف المطيبين وحلف الفضول) هما حلفان كانا في الجاهلية من قريش، وسموا المطيبين لان عاتكة بنت عبد المطلب عملت لهم طيبا في جفنة وتركتها في الحجر فغمسوا أيديهم فيها وتحالفوا، وقيل انهم مسحوا به الكعبة توكيدا على أنفسهم، ولاى أمر تحالفوا؟ قيل على منع الظالم ونصر المظلوم، وقيل لان بنى عبد الدار أرادت أخذ السقاية والرفادة من بنى هاشم فتحالفوا على منعهم، ونحر الاخرون جزورا وغمسوا أيديهم في الدم وقيل سموا المطيبين لانهم تحالفوا على أن ينفقوا أن يطعموا الوفود من طيب
أموالهم، وفى حلف الفضول وجهان
(أحدهما)
أنه اجتمع فيه رجال الفضل بن الحارث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة، والفضول جمع الفضل.
قال الهروي يقال فضل وفضول كما يقال سعد وسعود.
وقال الواقدي هم قوم من جرهم تحالفوا يقال لهم فضل وفضالة، فلما تحالفت قريش على مثله سموا حلف الفضول.
وقيل كان تخالفهم على أن يجدوا بمكة مظلوما من أهلها ومن غيرهم إلا قاموا معه
(والثانى)
أنهم تحالفوا على أن ينفقوا من فضول أموالهم فسموا بذلك حلف الفضول، وسموا حلف الفضول لفاضل ذلك الطيب، وتوفر على الجهاد أي كثرت رغبته وهمته فيه من الوفر وهو كثرة المال قال الشوكاني: كان عمر يفاضل في العطاء على حسب البلاء في الاسلام

(19/384)


والقدم فيه والغناء والحاجة، ويفضل من شهد بدرا على غيره ممن لم يشهد، وكذلك من شهد أحدا ومن تقدم في الهجرة، وقد أخرج الشافعي في الام أن أبا بكر وعليا ذهبا إلى التسوية بين الناس في القسمة وأن عمر كان يفضل، وروى البزار والبيهقي عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قدم على أبى بكر مال البحرين فقال من كان له عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدة فليأت، فذكر الحديث بطوله في تسويته بين الناس في القسمة، وفى تفضيل عمر الناس على مراتبهم.
وروى البيهقى من طريق آخر قال: أتت عليا امرأتان، فذكرا لقصة وفيها إنى نظرت في كتاب الله فلم أر فضلا لولد اسماعيل على ولد إسحاق، ثم روى عن عثمان أنه كان يفاضل بين الناس كما كان يفاضل عمر، كما أنه لا فضل للامام على الناس في تقديم ولا توفير نصيب، وأن العبد المملوك فيه نصيب، لما أخرجه
أبو داود عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنى بظبية بها خرز فقسمها للحرة والامة.
وقول عائشة أن أبا بكر كان يقسم للحر والعبد، ولا شك أن أقوال الصحابة لا تعارض المرفوع فمنع العبيد اجتهاد من عمر، والنبى قد أعطى الامة ولا فرق بينها وبين العبد، ولهذا كان أبو بكر يعطى العبيد، وأنه لا بد من التفضيل فالرجل وسبقه للاسلام.
قلت: روى الشافعي أن عمر لما دون الدواوين قال بمن ترون أبدا؟ قيل له ابدا بالاقرب فالاقرب بك، قال بد أبدا بالاقرب فالاقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا سبق للاسلام على سائر الانظمة الحديثة التى يتشدق بها المتشدقون قوله (ولا يعطى من الفئ صبى..) ففى ما قيل رده له.
وأما قوله (وان مات المجاهد وله ولد صغير أو زوجة ففيه قولان) قلت الصواب فيه والله أعلم هو إعطاء الولد وأمه لما ثبت عن عمر في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر قال: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق فلحقت عمر امرأة شابة فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارا والله ما ينضجون كراعا ولا لهم زرع ولا ضرع وخشيت أن تأكلهم الضبع وأنا إبنة خفاف بن إيماء الغفاري وقد شهد أبى الحديبية مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(19/385)


فوقف معها عمرو لم يمض وقال مرحبا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملاهما طعاما وجعل بينهما نفقة وثيابا ثم ناولها خطامه فقال اقتاديه فلن ينفى هذا حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل يا أمير المؤمنين أكثر لها، فقال ثكلتك أمك فو الله لانى لارى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحناه فأصبحنا نستفئ سهمانهما فيه قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان في الفئ أراض كان خمسها لاهل الخمس، فأما أربعة أخماسها فقد قال الشافعي رحمه الله تكون وقفا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الذى يقول إنه للمصالح، فإن المصلحة في الاراضي أن تكون وقفا لانها تبقى فتصرف غلتها في المصالح.
وأما إذا قلنا إنها للمقاتلة فإنه يجب قسمتها بين أهل الفئ لانها صارت لهم فوجبت قسمتها بينهم كأربعة أخماس الغنيمة ومن أصحابنا من قال تكون وقفا على القولين، فإن قلنا إنها للمصالح صرفت غلتها في المصالح، وإن قلنا إنها للمقاتلة صرفت غلتها في مصالحهم، لان الاجتهاد في مال الفئ إلى الامام، ولهذا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض، ويخالف الغنيمة فإنه ليس للامام فيها الاجتهاد، ولهذا لا يجوز أن يفضل بعض الغانمين على بعض وبالله التوفيق (الشرح) وقد تقدم الكلام على هذا في أول الفئ، وآراء المذاهب والصواب منها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب الجزية

(الشرح) سميت جزية لانها قضاء عما عليهم مأخوذ من قولهم جزى يجزى إذا قضى قال الله تعالى (لاتجزى نفس عن نفس شيئا) أي لا تقضى ولا تعين، وفى الحديث انه قال لانى بردة بن نيار في الاضحية بالجزعة من المعز تجزئ عنك ولا

(19/386)


تجزئ عن أحد بعدك، والمتجازي المتقاضى عند العرب، وقيل الجزاء، الغذاء، قال الشاعر: مقيم عندها لم يجز مكبول أي لم يفد، ويدينون دين الحق أي يطيعون، والدين الطاعة والانقياد

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

لَا يَجُوزُ أخذ الجزية ممن لا كتاب له ولا شبهة كتاب كعبدة الاوثان لقوله عز وجل (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون) فخص أهل الكتاب بالجزية فدل على أنها لا تؤخذ من غيرهم، ويجوز أخذها من أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى للآية، ويجوز أخذها ممن بدل منهم دينه، لانه وإن لم تكن لهم حرمة بأنفسهم فلهم حرمة بآبائهم، ويجوز أخذها من المجوس لما روى عبد الرحمن بن عوف إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سفوا بهم سنة أهل الكتاب وروى أيضا عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، واختلف قول الاشفعى رحمه الله هل كان لهم كتاب أم لا؟ فقال فقال فيه قولان
(أحدهما)
أنه لم يكن لهم كتاب، والدليل عليه قوله عز وجل (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين)
(والثانى)
أنه كان لهم كتاب، والدليل عليه ماروى عن على كرم الله وجهه أنه قال: كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وان ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فجاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع فرفع الكتاب من بين أظهرهم وذهب العلم من صدروهم.

(فصل)
وان دخل وثنى في دين أهل الكتاب نظرت فإن دخل قبل التبديل أخذت منه الجزية وعقدت له الذمة لانه دخل في دين حق، وان دخل بعد التبديل نظرت فإن دخل في دين من بدل لم تؤخذ منه الجزية ولم تعقد له

(19/387)


الذمة لانه دخل في دين باطل، وإن دخل في دين من لم يبدل فإن كان ذلك قبل النسخ بشريعة بعده أخذت منه الجزية لانه دخل في دين حق، وإن كان بعد النسخ بشريعة بعده لم تؤخذ منه الجزية وقال المزني رحمه الله تؤخذ منه، ووجهه أنه دخل في دين يقر عليه أهله، وهذا خطأ لانه دخل في دين باطل فلم تؤخذ منه الجزية كالمسلم إذا ارتد، وإن دخل في دينهم ولم يعلم أنه دخل في دين من بدل أو في دين من لم يبدل كنصارى العربو هم بهراء وتنوخ وتغلب أخذت منهم الجزية، ولان عمر رضى الله عنه أخذ منهم الجزية باسم الصدقة، ولانه أشكل أمره فحقن دمه بالجزية احتياطا للدم، وأما من تمسك بالكتب التى أنزلت على شيث وإبراهيم وداود فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انهم يقرون ببذل الجزية لانهم أهل كتاب فأقروا ببذل الجزية كاليهود والنصارى
(والثانى)
لا يقرون لان هذه الصحف كالاحكام التى تنزل بها الوحى، وأما السامرة والصابئون ففيهم وجهان
(أحدهما)
أنه تؤخذ منهم الجزية
(والثانى)
لا تؤخذ وقد بيناهما في كتاب النكاح، وأما من كان أحد أبويه وثنيا والآخر كتابيا فعلى ما ذكرناه في النكاح.
وإن دخل وثنى في دين أهل الكتاب وله ابن صغير فجاء الاسلام وبلغ الابن واختار المقام على الدين الذى انتقل إليه أبوه أخذت منه الجزية، لانه تبعه في الدين فأخذت منه الجزية، وإن غزا المسلمون قوما من الكفار لا يعرفون دينهم، فادعوا أنهم من أهل الكتاب أخذت منهم الجزية لانه لا يمكن معرفة دينهم إلا من جهتهم فقيل قولهم.
وإن أسلم منهم اثنان وعدلا وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب نبذ إليهم عهدم لانه بان بطلان دعواهم.
(الشرح) حديث عبد الرحمن بن عوف (سنوابهم سنة أهل الكتاب)
رواه الشافعي ومالك في الموطأ أن عمر ذكر المجوس فقال ما أدرى كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سنوا بهم سنة أهل الكتاب وقال الجد ابن تيمية: هو دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب.

(19/388)


حديث عبد الرحمن بن عوف (أخذ الجزية من مجوس هجر) عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذها من مجوس هجر رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وروى أبو عبيد في كتاب الاموال بسند صحيح عن حذيفة: لولا أنى رأيت أصحابي يأخذوا الجزية من المجوس ما أخذتها أثر على (كان لهم علم..) روى الشافعي وعبد الرزاق بإسناد حسن عن على كان المجوس أهل الكتاب يدرسونه وعلم يقرأونه فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته فلما أصبع دعا أهل الطمع فأعطاهم.
وقال إن آدم كان ينكح أولاده بناته فأطاعوه وقتل من خالفه، فأسرى على كتابهم ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه شئ وهذا الاثر ضعيف لان فيه على أبى سعد البقال وروى ابن حميد في تفسيره في سورة البروج بإسناد صحيح عن ابن أ؟ ى لما هزم المسلمون أهل فارس قال عمر اجتمعوا فقال إن المجوس ليسوا أهل كتاب فنضع عليهم الجزية ولامن عبدة الاوثان فتجرى عليهم أحكامهم، فقال على بل هم أهل كتاب، وذكر الاثر السابق اللغة قوله (لا يجوز أخذ الجزية..) قال ابن التركماني في الجوهر النفى: وعند الحنفية تخصيص أهل الكتاب بأداء الجزية لا ينفى الحكم عن غيرهم، والوثنى والعجمي لايتحثم قتله بل يجوز استرقاقه، فلم يتداوله قوله تعالى (اقتلوا
المشركين) بل هو مختص بالوثنى العربي الذى يسقط قتله بعلة واحدة وهى الاسلام بخلاف العجمي لانه يسقط قتله بعلة أخرى وهى الاسترقاق.
وذكر البيهقى في هذا الباب حديث بريدة: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، وفيه فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية.
(قلت) التبويب خاص ولفظ المشركين عام فهو غير مطابق لمدعاه قال النووي في شرح مسلم: هذا مما يستدل به مالك والاوزاعي وموافقوهما في جواز أخذ الجزية من كل كافر، عربيا كان أو أعجميا أو كتابيا أو مجسويا أو غيرهما، وذكر الخطابى في المعالم ثم قال ظاهره (أي الحديث) موجب قبول الجزية من كل مشرك كتابي أو غير كتابي من عبدة الشمس والنيران والاوثان.

(19/389)


ويؤيد هذا المذهب قوله عليه السلام في حديث ابن عباس (ويؤدى إليهم العجم الجزية) أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وذكره البيهقى في باب من زعم إنما تؤخذ الجزية من العجم.
قال ابن عبد البر بعد أن ذكر (سنوا بهم..) هذا من الكلام العام الذى أريد به الخاص، لان المراد سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، واستدل بقوله سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا أهل كتاب وقال ابن بطال لو كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه، ولما استثنى حل ذبائهم ونكاح نسائهم، فالجواب أن الاستثناء وقع تبعا للاثر الوارد، لان في ذلك شبهة تقتضي حقن الدم، بخلاف النكاح فإنه مما يحتاط له قال ابن المنذر ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقا عليه.
ولكن الاكثر من أهل العلم عليه.
وقال الشوكاني بعد أن أورد حديث ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاء النبي صلى الله عليه وسلم وسكوه إلى أبى طالب، فقال يا ابن
أخى ما تريد من قومك؟ قال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدى لهم بها العجم الجزية.
الخ) رواه الترمذي وحسنه والنسائي وصححه والحاكم، وحديث المغيرة بن شعبة أنه قال لعامل كسرى أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية) البخاري، فيه الاخبار بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بقتال المجوس حتى يؤدوا الجزية، زاد الطبراني وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء حتى نغلبكم على ما في أيديكم.
وحديث ابن عباس فيه متمسك لم قال لا تؤخذ الجزية من الكتابى إذا كان عربيا، قال في الفتح: فأما اليهود والنصارى فهم المراد بأهل الكتاب بالاتفاق، وفرق الحنفية فقالوا تؤخذ من مجوس العجم دون مجوس العرب.
وحكى الطحاوي عنهم أنهم تقبل الجزية من أهل الكتاب ومن جميع كفار العجم ولا يقبل من مشركي العرب إلا الاسلام أو السيف

(19/390)


وعن مالك تقبل من جميع الكفار إلا من ارتدوا به، قال الاوزاعي وفقهاء الشام: وحكى ابن القاسم عن مالك أنها لا تقبل من قريش وحكى ابن عبد البر الاتفقا على قبولها من المجوس، لكن حكى ابن التين عن عبد الملك أنها لاتقبل إلا من اليهود النصارى فقط، ونقل الاتفاق على أنه لا يحل نكاح نسائهم ولا أكل ذبائحهم.
وحكى غيره عن أبى ثور حل ذلك.
قال ابن قادمة وهذا خلاف إجماع من تقدمه وقال الشافعي: تقبل من أهل الكتاب، عربا كانوا أو عجما، ويلتحق بهم المجوس في ذلك، قال أبو عبيد: ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب، وعلى المجوس بالسنة
قال الامام الخطابى في العالم: جواز أخذ الجزية من العرب كجوازه من العجم، وكان أبو يوسف يذهب إلى أن الجزية لا تؤخذ من عربي، وقال مالك والاوزاعي والشافعي: العربي والعجمي في ذلك سواء، وكان الشافعي يقول: إنما الجزية على الاديان لا على الانساب، ولولا أن فأثم بتمني الباطل وددنا أن الذى قال أبو يوسف كما قال وأن لا يجرى على عربي صغار، ولكن الله أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به.
قوله (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أي خذوهم على طريقهم، أي أمنوهم وخذوا عنهم الجزية، والسنة الطريق قوله (نبذ إليهم عهدهم) أي رمى به.
والنبذ رمى.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأقل الجزية دينار لِمَا رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا) وإن التزم أكثر من دينار عقدت له الذمة أخذ بأدائه لانه عوض في عقد منع الشرع فيه من النقصان عن دينار وبقى الامر فيما زاد على ما يقع عليه التراضي، كما لو وكل وكيلا في بيع سلعة وقال لا تبع بما دون دينار فإن امتنع قوم من أداء الجزية باسم الجزية وقالوا نؤدى باسم الصدقة، ورأى

(19/391)


الامام أن يأخذ باسم الصدقة جاز، لان نصارى العرب قالوا لعمر رضى الله عنه لا نؤدى ما تؤدى لعجم، ولكن خذ منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب فأبى عمر رضى الله عنه وقال لا أقركم إلا بالجزية، فقالوا خذ منا ضعف ما تأخذ من المسلمين، فأبى عليهم، فأرادوا اللحاق بدار الحرب فقال زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة لعمر: إن بنى تغلب عرب وفيه قوة فخذ منهم ما قد بذلوا
ولا تدعهم أن يلحقوا بعدوك، فصالحهم على أن يضعف عليهم الصدقة، وإن كان ما يؤخذ منهم باسم الصدقة لا يبلغ الدينار وجب إتمام الدينار، لان الجزية لا تكون أقل من دينار، وان أضعف عليهم الصدقة فبلغت دينارين، فقالوا أسقط عنا دينارا وخذ منادينا اباسم الجزية وجب أخذ الدينار، لان الزيادة وجبت لتغيير الاسم، فإذا رضوا بالاسم وجب إسقاط الزيادة (الشرح) حديث معاذ بن جبل (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم يعنى محتلم دينارا أو عدله من المعافرى ثياب تكون باليمن) قال أبو دود في بعض النسخ هذا حديث منكر بلغني عن أحمد أنه كان ينكر هذا الحديث إنكارا شديدا.
قال البيهقى في السنن الكبرى إنما المنكر رواية أبى معاوية عن الاعمش عن ابراهيم عن مسروق عن معاذ، فأما رواية الاعمش عن أبى وائل عن مسروق فإنها محفوظة، أخرجه أبو داود والنسائي من رواية أبى وائل، ورواه النسائي وباقى أصحاب السنن وابن حبان والدارقطني، والحاكم من رواية أبى وائل عن مسروق، قال الحافظ في التلخيص رجح الترمذي والدارقطني في العلل الرواية المرسلة، ويقال إن مسروقا أيضا لم يسمع من معاذ وقد بالغ ابن حزم في تقرير ذلك، وقال ابن عبد البر في التمهيد إسناده متصل صحيح ثابت، وهو عبد الحق فنقل عنه أنه قال مسروق لم يلق معاذا.
وتعقبه ابن القطان بأن أبا عمر إنما قال ذلك في رواية مالك عن حميد بن قيس عن طاوس عن معاذ، وقد قال الشافعي طاوس عالم بأمر معاذ.
وإن لم يقله لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا، وهذا مما

(19/392)


لا أعلم من أحد فيه خلافا، وقد رواه الدارقطني من طريق المسعودي عن الحكم
أيضا عن طاوس عن ابن عباس قال لما بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذا وهذا موصول لكن المسعودي اختلط، ويفرد وصله عنه بقية بن الوليد، وقد رواه الحسن بن عمارة عن الحكم أيضا، لكن الحسن ضعيف، ويدل على ضعفه قوله فيه إن معاذا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمن فسأله، ومعاذ لها قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قد مات، ورواه مالك في الموطأ من حديث طاوس عن معاذ أنه أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا ومن أربعين بقرة مسنة وأتى بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئا وقال لم نسمع فيه مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا حتى ألقاه، فتوفى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أن يقدم عاذ بن جبل قال ابن عبد البر ورواه قوم عن طاوس عن ابن عباس عن معاذ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه، قلت ورواه البزار والدارقطني من طريق ابن عباس لكنه من طريق بقية عن المسعودي وهو ضعيف أثر عمر (أن نصارى العرب قالوا لعمر..) أخرجه الشافعي أنه طلب الجزية من نصارى الحرب تنوخ وبهرا وبنو تغلب، فقالوا نحن عرب لا نؤدي ما يؤدى العجم، فخذ منا ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن يضعف عليهم الصدقة، وقالوا هؤلاء حمقى رضوا بالاسم وأبو المعنى وروى ابن أبى شيبة عن عمر أنه صالح نصارى بنى تغلب على أن يضعف عليهم الزكاة مرتين على أن لا ينصروا صغيرا وعلى أن لا يكرهوا على دين غيرهم ورواه البيهقى في السنن.
قال ابن رشد في بداية المجتهد (وهى كم الواجب؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فرأى مالك أن القدر الواجب في ذلك هو ما فرضه عم رضى الله عنه، وذلك على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعون درهما، ومع ذلك
أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه وقال الشافعي: أقله محدود وهو دينارو أكثره غير محدود، وذلك بحسب ما يصالحون عليه.

(19/393)


وقال قوم لا توقيت في ذلك، وذلك مصروف إلى اجتهاد الامام، وبه قال الثوري، وقال أبو حنيفة وأحصابه الجزية إثنا عشر درهما وأربعة وعشرون درهما وثمانية وأربعون لا ينقص الفقير من إثنى عشر درهما ولا يزاد الغنى على ثمانية وأربعون والوسط أربعة وعشرون درهما، وقال أحمد دينار أو عدله معافرى لا يزاد عليه ولا ينقص منه وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب وذلك أنه رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث معاذا إلى اليمن، وذكر الحديث وثبت أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام.
وروى عنه أيضا أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين وإثنى عشر، فمن حمل هذه الاحاديث كلها على التخيير وتمسك في ذلك بعموم ما ينطلق عليه اسم جزية إذ ليس في توقيت ذلك حديث على النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته، وإنما ورد الكتاب في ذلك عاما قال لاحد فيذلك.
وهو الاظهر والله أعلم ومن جمع بين حديث معاذ والثابت عن عمر قال أقله محدود ولا حد لاكثره ومن رجح حديثى عمر قال إما بأربعين درهما وأربعة دنانير وإما بثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين وإثنى عشر على ما تقدم ومن رجح حديث معاذ لانه مرفوع قال دينار فقط أو عدله معافرى لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه.
وقال صديق حسن خان في الروضة: وأما قدرها فضرب عمربن الخطاب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، قلت قد صح من حديث معاذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا) فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر فقال الشافعي أقل للجزية دينار على كل بالغ في كل سنة، ويستحب للامام المماكسة ليزداد ولا يجوز أن ينقص من دينار وأن الدينار مقبول من الغنى والمتوسط والفقير.

(19/394)


وتأويل أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين وحديث معاذ على الفقراء، لان أهل اليمن أكثرهم فقراء، فقال على كل موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط ديناران وعلى كل فقير دينار
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والمستحب أن يجعل الجزية على ثلاث طبقات فيجعل على الفقير المعتمل دينارا وعلى المتوسط دينار بن وعلى الغنى أربعة دنانير، لان عمر رضى الله عنه بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة، فوضع عليهم ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين وإثنى عشر، ولان بذلك يخرج من الخلاف، لان أبا حنيفة لا يجيز إلا كذلك.

(فصل)
ويجوز أن يضرب الجزية على مواشيهم وعلى ما يخرج من الارض من ثمر أو زرع، فإن كان لا يبلغ ما يضرب على الماشية وما يخرج من الارض دينارا لم يجز، لان الجزية لا تجوز أن تنقص عن دينار، وان شرط أنه ان نقص عن دينار تمم الدينار جاز لانه يتحقق حصول الدينا، وان غلب على الظن أنه يبلغ الدينار ولم يشترط أنه لم نقص الدينار تمم الدينار فَفِيهِ وَجْهَانِ

(أَحَدُهُمَا)
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ قد ينقص عن الدينار
(والثانى)
أنه يجوز لان الغالب في الثمار أنها لا تختلف.
وان ضرب الجزية على ما يخرج من الارض فباع الارض من مسلم صح البيع لانه مال له، وينتقل ما ضرب عليها إلى الرقبة لانه لا يمكن أخذ ما ضرب عليها من المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ينبغى لمسلم أن يؤدى الخراج) ولانه جزية فلا يجوز أخذها من المسلم ولا يجوز إقرار الكافر على الكفر من غير جزية فانتقل إلى الرقبة.

(فصل)
وتجب الجزية غفى آخر الحول لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلى أهل اليمن أن يؤخذ من كل حالم في كل سنة دينار.
وروى أبو مجلز أن عثمان ابن حنيف وضع على الرؤوس على كل رجل أربعة وعشرين في كل سنة، فإن

(19/395)


مات أو أسلم بعد الحول لم يسقط ما وجب لانه عوض عن الحقن والمساكنة وقد استوفى ذلك فاستقر عليه العوض كالاجرة بعد استيفاء المنفعة، فإن مات أو أسلم في أثناء الحول ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يلزمه شئ لانه مال يتعلق وجوبه بالحول فسقط بموته في أثناء الحول كالزكاة.

(والثانى)
وهو الصحيح أنه يلزمه من الجزية بحصة ما مضى لانها تجب عوضا عن الحقن والمساكنة، وقد استوفى البعض فوجب عليه بحصته، كما لو استأجر علينا مدة واستوفى المنفعة في بعضها ثم هلكت العين
(فصل)
ويجوز أن يشترط عليهم في الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالح أكيد ردومة من نصارى أبلة على ثلثمائة دينار، وكانوا ثلثمائة رجل، وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين.
وروى عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين من نصارى مدينة كدى إنكم لما قدمتم علينا سألتاكم الامان لانفسنا وذرارينا وأموالنا، وشرطنا لكم أن تنزل من يمر بنا من المسليمن ثلاثة أيام نطعمهم) ولا يشترط ذلك عليهم إلا برضاهم، لانه ليس من الجزية ويشترط عليهم الضيافة بعد الدينار لحديث أكيد ردومة، لانه إذا جعل الضيافة من الدينار لم يؤمن أن لا يحصل من بعد الضيافة مقدار الدينار، ولا تشترط الضيافة إلا على غنى أو متوسط وأما الفقير فلا تشترط عليه وإن وجب عليه الجزية، لان الضيافة تتكرر فلا يمكنه القيام بها.
ويجب أن تكون أيام الضيافة من السنة معلومة، وعدد من يضاف من الفرسان والرجالة وقدر الطعام والادم والعلوفة معلوما، ولانه من الجزية فلم يجز مع الجهل بها، ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقالوا إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك.

(19/396)


ويقسط ذلك على قدر جزيتهم ولا تزاد أيام الضيافة على ثلاثة أيام، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الضيافة ثلاثة أيام، وعليهم أن يسكنوهم في فضول مساكنهم وكنائسهم، لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذى كتب على نصارى الشام، وشرطنا أن لا تمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين من ليل ونهار وأن توسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل، فإن كثروا وضاق المكان قدم من سبق، فإذا جاءوا في وقت واحد أقرع بينهم لتساويهم، وإن لم تسعهم
هذه المواضع نزلوا في فضول بيوت الفقراء من غير ضيافة (الشرح) أثر عمر (بعث عثمان بن حنيف) أخرجه أبو عبيد في الاموال أثر عمر أنه ضرب في الجزية على الغنى ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرين وعلى الفقير المكتسب إثنى عشر) أخرجه البيهقى في السنن من طرق كلها مرسلة.
حديث (لا ينبغى لمسلم..) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ليس على مؤمن جزية) أخرجه البيهقى وابن جرير حديث عمر بن عبد العزيز أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أهل اليمن أن على كل انسان منكم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافر، يعنى أهل الذمة منهم) رواه الشافعي في مسنده وهو مرسل أثر عثمان بن حنيف سبق تخريجه حديث (صالح أكيدردومة.
) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خالد بن الوليد دومة فأخذوه فأتوا به فحص دمه وصالحه على الجزية.
أخرجه أبو داود وسكت عنه المنذرى ورجال اسناده ثقات وفيه عنعنة محمد بن اسحاق وأخرج البيهقى عن عبد الله بن أبى بكر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك رجل من كنده كان ملكا على دومة وكان نصرانيا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه منظر العين وفى ليلة مقمرة صافية وهو على سطح ومعه امرأته، فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر،

(19/397)


فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط؟ قال لا والله، قالت فمن يترك مثل هذا قال لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فسرج وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له
يقال له (حسان) فخرجوا معه بمطارفهم فتلقاهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه حسان وكان عليه قباء ديباج مخوص بالذهب فاستلبه إياه خالد بن الوليد فبعث إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل قدومه عليه، ثم إن خالد قمد بالاكيدر عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحقن له دمه وصالحه على الجزية وأخلى سبيله فرجع إلى قرينه) أثر عبد الرحمن بن غنم (قال كتبت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه حين صالح أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الامان لانفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها دير ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيى ما كان منها في خطط المسلمين، وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولانهار ولا نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن نزل من مربنا من المسلمين ثلاثة أيام ونطعمهم، وأن لا نؤنن في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعوا إليه أحدا ولا نمنع أحدا من قرابتنا الدخول في الاسلام إن أراده، وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا جلوسا ولا نتشبه بهم في شئ من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولانتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم، ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن فلزم زينا حيث ما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر صلبنا وكتبنا في شئ من طريق المسلمين ولا أسواقهم، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، وأن لا نضرب بناقوس في كنائسنا بين حضرة
المسلمين وان لا نخرج شعانينا ولا باعونا، ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ولا نظهر النيران معهم في شئ من طريق المسلمين ولا نجاوزهم موتانا ولا نتخذ من

(19/398)


الرقيق ما جرى عليه سهام للمسلمين، وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم، فلما أتيت عمر رضى الله عنه بالكتاب زاد فيه وأن لا نضرب أحدا من المسلمين، شرطنا لهم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا منهم الامان، فإن نحن خالفنا شيئا مما شرطناه لكم فضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم ما يحل لكم من أهل المعاندة والشقاوة.
أخرجه البيهقى في السن أثر أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام قال الحافظ لم أجده، وذكر ابن أبى حاتم من طريق صعصعة بن يزيد أو يزيد بن صعصعة عن ابن عباس من قوله أثر عبد الرحمن بن غنم سبق تخريجه في نفس الباب حديث (الضيافة ثلاثة أيام) روى البيهقى عن أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الوراق أربعين درهما ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام وروى البيهقى عن حارثة بن مضرب أن عمر بن الخطاب فرض على أهل السواد ضيافة يوم وليلة فمن حبسه مرض أو مطر أنفق من ماله.
قال الشافعي وحديث أسلم بضيافة ثلاث أشبه لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الضيافة ثلاثا، وقد يجوز أن يكون جعلها على قوم ثلاثا وعلى قوم يوما وليلة، ولم يجعل على آخرين ضيافة، كما يختلف صلحه لهم، فلا يرد بعض الحديث بعضا.
وعن أبى شريح قال: سمعت أذناى وأبصرت عَيْنَايَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فليكرمن ضيفه، ومن كَانَ يُؤْمِنُ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جائزته، قيل يا رسول الله وما جائزته؟ قال يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام، فما كان أكثر من ذلك فهو صدقة، ولا يثوى عنده حتى يحرجه ومن كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم عن الليث بن سعد اللغة: قوله (يضرب عليها الجزية) أي يجعل ضريبة تؤدى كل سنة مثل ضريبة العبد وهى غلته.
قوله (دومة) اسم حصن وأصحاب اللغة يقولون بضم الدال، وأصحاب

(19/399)


الحديث يفتحونها، قال ذلك الجوهرى، وقد أخطأ من همزها قوله (والادم والعلوفة) وهى علف الدواب بضم العين، فأما العلوفة بالفتح فهى الناقة والشاة يعلفها ولا يرسها ترعى وكذا العليفة الباعوث للنصارى كالاستسقاء للمسلمين، وهواسم سرياني والشعانين عيد عندهم.
قوله (والمستحب أن يجعل الجزية..) وسبق إيضاحه فيما قبله قوله (ويجوز أن يضرب الجزية..) قال صديقى حسن خان في الروضة، عن عمرو بن عبد العزيز: من مربك من أهل الذمة فخذ بما يديرون به من التجارات من كل عشرين دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ مها شيئا واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول، قلت عليه أبو حنيفة وقال الشافعي: الذى يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صولحوا عليه وقت عقد الذمة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون.
قلت عليه أبو حنيفة
وقال الشافعي: لا تسقط بالاسلام وبالموت لانه دين حل عليه كسائر الديون.
وقال ابن التركماني: ذكر صاحب الاستذكار عن الشافعي قال: إذا أسلم في بعض السنة أخذت منه بحسابه.
وحكى عن مالك وأبى حنيفة وأصحابه وابن حنبل أنه يسقط عنه ما مضى.
قال ابن التركماني هو الصواب لعموم قوله عليه السملا (ليس على المسلم جزية) وقول عمر ضعوا الجزية عمن أسلم ولا يوضع إلا ما مضى قال ابن ضويان في كتاب منار السبيل: من أسلم منهم بعد الحول سقطت عن الجزية، نص عليه لحديث ابن عباس مرفوعا (ليس على مسلم جزية) رواه أحمد وأبو داود.
وقال أحمد: قد روى عن عمر أنه قال (إذا أخذها في كفه ثم أسلم ردها) وروى أبو عبيد أن يهوديا أسلم فطولب بالجزية، وقيل إنما أسلمتم تعوذا،

(19/400)


قال إن في الاسلام معاذا، فرفع إلى عمر فقال (إن في الاسلام معاذا وكتب أن لا تؤخذ منه الجزية) وفى قدر الجزية ثلاث روايات (إحداهن) يرجع إلى ما فرضه عمر على الموسر ثمانية وأربعون درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل إثنا عشر فرضها عمر كذلك بمحضر من الصحابة وتابعه سائر الخلفاء بعد فصار إجماعا.
وقال ابن أبى نجيح: قلت لمجاهد (ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال جعل ذلك من قبل اليسار) رواه البخاري (والثانية) يرجع فيه إلى اجتهاد الامام في الزيادة والنقصان (والثالثة) تجوز الزيادة لا النقصان (لان عمر زاد على ما فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ ينقص) ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة
من يمر بهم من المسلمين، لما روى الاحنف بن قيس أن عمر شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا القناطر، وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته) رواه أحمد وروى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر رضى الله عنه فقالوا إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك قوله (وتجب الجزية في آخر الحول..) قال ابن رشد وهى متى تجب الجزية فإنهم اتفقوا على أنها لا تجب إلا بعد الحول وأنها تسقط عنه إذا أسلم قبل انقضاء الحول، واختلفوا إذا أسلم بعد ما يحول عليه الحول هل تؤخذ منه جزية للحول الماضي بأسره أو لما مضى منه، فقال قوم إذا أسلم فلا جزية عليه بعد انقضاء الحول كان إسلامه أو قبل انقضائه، وبهذا القول قال الجمهور وقالت طائفة إن أسلم بعد الحول وجبت عليه الجزية، وإن أسلم قبل حلول الحول لم تجب عليه وانهم اتفقوا على أنه لا تجب عليه قبل انقضاء الحول لان الحول شرط في وجوبها، فإذا وجد الرافع لها وهو الاسلام قبل تقرر الوجوب أعنى قبل وجود شرط الوجوب لم تجب وإنما اختلفوا بعد انقضاء الحول لانها قد وجب، فمن رأى أن الاسلام يهدم هذا الواجب في الكفر كما يهدم كثيرا من

(19/401)


الواجبات قال تسقط عنه، وإن كان إسلامه بعد الحول ومن رأى انه لا يهدم الاسلام هذا الواجب كما لا يهدم كثيرا من الحقوق المرتبة مثل الديون وغير ذلك قال لا تسقط بعد انقضاء الحول، فسبب اختلافهم هو هل الاسلام يهدم الجزية الواجبة أو لا يهدمها.
قال الغزنوى الحنفي في كتابه الغرة (مسألة) إذا أسلم الذى أو مات بعد
وجوب للجزية بمرور الحول سقطت عند أبى حنيفة وعند الشافعي لا تسقط.
حجة أبى حنيفة قوله صلى الله عليه (لا جزية على مسلم) وقوله صلى الله عليه وسلم (الاسلام يجب ما قبله) وروى أن ذميا طولب بالجزية في زمن عمر فأسلم، فقيل إنك أسلمت تعوذا.
سبق ابرادها فيما ذكره منار السبيل، ولان الجزية وجبت عقوبة على الكفر وهى تسقط بالاسلام حجة الشافعي أن الجزية وجبت على العصمة والامن فيما مضى ماله كان في معرض التلف فحصلت له الصيانة بقبول الجزية، وقد وصل إليه العوض فلا تسقط عنه المعوض بالاسلام والموت، والجواب عنه أن هذا قياس في مقابلة النص والآثار فلا يقبل.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تؤخذ الجزية من صبى لحديث معاذ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ آخذ من كل حالم دينار أؤ عدله معافريا، ولان الجزية تجب لحقن الدم والصبى محقون الدم وإن بلغ صبى من أولاد أهل الذمة فهو في أمان لانه كان في الامان فلا يخرج منه من غيره عناد، فإن اختار أن يكون في الذمة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يستأنف له عقد الذمة، لان العقد الاول كان للاب دولة فعلى هذا جزيته على ما يقع عليه التراضي
(والثانى)
لا يحتاج إلى استئناف عقد لانه تبع الاب في الامان فتبعه في الذمة، فعلى هذا يلزمه جزية أبيه وجده من الاب ولا يلزمه جزية جده من الام لانه لا جزية على الام فلا يلزمه حزية أبيها

(19/402)


(فصل)
ولا تؤخذ الجزية من مجنون لانه محقون الدم فلا تؤخذ منه
الجزية كالصبى، وإن كان يجن يوما ويفيق يوما لفق أيام الافاقة، فإذا بلغ قدر سنة أخذت منه الجزية لانه ليس تغليب أحد الامرين بأولى من الآخر فوجب التلفيق، وإن كان عاقلا في أول الحول ثم جن في أثنائه وأطبق الجنون ففى جزية ما مضى من أول الحول قولان، كما قلنا فيمن مات أو أسلم في أثناء الحول.

(فصل)
ولا تؤخذ الجزية من امرأة لما روى أسلم أن عمر رضى الله عنه كتب إلى امراء الجزية ان لا تضربوا الجزية على النساء ولا تضربوا إلا على من جرت عليه الموسى، ولانها محقونة الدم فلا تؤخذ منها الجزية كالصبى، ولا تؤخذ من الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة، وان طلبت المرأة من دار الحرب أن تعقد لها الذمة وتقيم في دار الاسلام من غير جزية جاز لانه لاجزية عليها ولكن يشترط عليها أن تجرى عليها أحكام الاسلام، وإن نزل المسلمون على حصن فيه نساء بلا رجال فطلبن عقد الذمة بالجزية ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يعقد لهن لان دماءهن محقونة، فعلى هذا يقيمون حتى يفتحوا الحسن ويستبقوهن
(والثانى)
أنه يجوز أن يعقد لهن الذمة وتجرى عليهن أحكام المسلمين كما قلنا في الحربية إذا طلبت عقد الذمة، فعلى هذا لا يجوز سبيهن وما بذلن من الجزية الهدية، وان دفعن أخذ منهن وان امتنعن لم يخرجن من الذمة
(فصل)
ولا يؤخذ من العبد ولا من السيد بسببه لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ (لاجزية على مملوك) ولانه لا يقتل بالكفر فلم تؤخذ منه الجزية كالصبى والمرأة ولا تؤخذ ممن نصفه حر ونصفه عبد لانه محقون الدم فلم تؤخذ منه الجزية كالعبد.
ومن أصحابنا من قال فيه وجه آخر أنه يؤخذ منه بقدر ما فيه من الحرية لانه يملك المال بقدر ما فيه من الحرية، وان أعتق العبد نظرت فإن كان المعتق
مسلما عقدت له الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية، وان كان ذميا ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يستأنف له عقد الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية

(19/403)


لان عقد المولى كان له دون العبد
(والثانى)
يلزمه جزية المولى لانه تبعه في الامان فلزمه جزيته
(فصل)
وفى الراهب الشيخ الفاني قولان بناء على القولين في قتلهما، فإن قلنا يجوز قتلهما أخذت منهما الجزية ليحقن بها دمهما، وإن قلنا انه لا يجوز قتلهما لم تؤخذ منهما لان دمهما محقون فلم تؤخذ منهما الجزية كالصبى والمرأة وفى الفقير الذى لا كسب له قولان
(أحدهما)
أنه لا تجب عليه الجزية لان عمر رضى الله عنه جعل أهل الجزية طبقات وجعل أدناهم الفقير المعتمل، فدل على أنها لا تجب على غير المعتمل، ولانه إذا لم يجب خراج الارض في أرض لانبات لها لم يجب خراج الرقاب في رقبة لا كسب لها، فعلى هذا يكون مع الاغنياء في عقد الذمة، فإذا أيسر استؤنف الحول.

(والثانى)
أنها تجب عليه لانها على سبيل العروض فاستوى فيه المعتمل وغير المعتمل كالثمن والاجرة، ولان المعتمل وغير المعتمل يستويان في القتل بالكفر فاستويا في الجزية، فعلى هذا ينظر إلى الميسرة، فإذا أيسر طولب بجزية ما مضى.
ومن أصحابنا من قال لا ينظر لانه يقدر على حقن الدم بالاسلام فلم ينظر، كما لا ينظر من وجبت عليه كفارة ولا يجد رقبة وهو يقدر على الصوم، فعلى هذا قول له إن توصلت إلى أداء الجزية خليناك وان لم تفعل نبذنا اليك العهد.
(الشرح) حديث معاذ (أمرنى أن آخذ..) سبق تخريجه
أثر أسلم (أن عمر كتب إلى امراء الجزية) روى البيهقى من طريق زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر كتب إلى أمراء الاجناد أن لا تضربوا الجزية الا على من جرت عليه المواسى والا تضعوا الجزية على النساء والصبيان وأخرج أبو عبيد في كتاب الاموال عن عروة: كتب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أهل اليمن أنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا ينزعها وعليه الجزية، على كل حالم ذكر أو أنثى، عبد أو أمة دينار واف أو قيمته،

(19/404)


ورواه أبوزنجويه في الاموال عن الحسن (قال كتب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَهُ وقال الحافظ هذان مرسلان يقوى أحدهما الآخر وروى أبو عبيد في الاموال عن عمر قال (لا تشتروا رقيق أهل الذمة فإنهم أهل خراج يؤدى بعضهم عن بعض) أثر عمر (لا جزية على مملوك) قال الحافظ في التلخيص (لاجزية على العبد) روى مرفوعا وروى موقوفا على عمر، وليس له أصلى اللغة: قوله (أو عدله معافريا) العدل بالكسر المثل المساوى للشئ، ومنه عدل الحمل.
قال ابن الانباري العدل بالكسر ما عادله الشئ من جنسه، والعدل بالفتح ما عادله من غير جنسه، وقال البصريون العدل والعدل لغتان وهما المثل، والمعافر البرود تنسب إلى معافر باليمن، وهم حى من همدان، أي تنسب إليهم الثياب المعافرية.
قوله (لا تضربوا الجزية) وفى بعضها لا تضعوا، ومعناه لا تلزموهم ولا تجعلوها ضريبة.
قوله (الفقير المعتمل) يقال اعتمل اضطرب في العمل، قال: إن الكريم وأبيك يعتمل
* إن لم يجد يوما على ما يتكل
والمعتمل قد يكون المكتسب بالعمل من الصناعة وغيرها قال ابن رشد في بداية المجتهد: وهى أي الاصناف من الناس تجب عليهم فإنهم اتفقوا على أنها إنما تجب بثلاثة أوصاف: الذكورية والبلوغ والحرية، وأنها لا تجب على النساء ولا على الصبيان إذا كانت، إنما هو عرض من القتل والقتل انما هو متوجه بالامر نحو الرجال البالغين، إذ قد نهى عن قتل النساء والصبيان، وكذلك أجمعوا أنها لا تجب على العبيد، واختلفوا في أصناف من هؤلاء، منها المجنون وفى المقعد، ومنها في الشيخ، ومنها في أهل الصوامع، ومنها في الفقير هل يتبع بها دينا متى أيسر أم لا، وكل هذه مسائل اجتهادية ليس فيها توقيت شرعى، وسبب اختلافهم مبنى على هل يقتلون أم لا؟ أعنى هؤلاء الاصناف

(19/405)


وقال في منار السبيل: ولا تؤخذ الجزية من امرأة وخنثى وصبى ومجنون قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، ثم قال وقن (أي عبد) وزمن وأعمى وشيخ قال وراهب بصومعته، لان دماءهم محقونة أشبهوا النساء والصبيان قال أبو يوسف في الخراج: وإنما تجب الجزية على الرجال منهم دون النساء والصبيان، ولا تؤخذ الجزية من المسكين الذى يتصدق عليه ولا من أعمى لا حرفة له ولاعمل ولا ذمى يتصدق عليه ولا من مقعد، والمقعد والزمن إذا كان لهما يسار أخذ منهما، وكذلك الاعمى وكذلك المترهبون الذين في الديارات إذا كان لهم يسار أخذ منهم، وإن كانوا إنما هم مساكين يتصدق عليهم أهل اليسار منهم لو تؤخذ منهم، وكذلك أهل الصوامع وإن كان لهم غنى ويسار.
ثم قال ولا تؤخذ الجزية من الشيخ الكبير الذى لا يستطيع العمل ولا شئ له.
وكذلك المغلوب على عقله.
وقال الحافظ في الفتح (واختلف السلف في أخذها من الصبى، فالجمهور قالوا لا تؤخذ على مفهوم حديث معاذ، وكذلك لا تؤخذ من شيخ فان ولا زمن ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن الكسب ولا أجير ولا من اصحاب الصوامع والاصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخرا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويثبت الامام عدد أهل الذمة وأسماءهم ويجليهم بالصفات التى لا تتغير بالايام، فيقول طويل أو قصير أو ربعة أو أبيض أو أسود أو أسمر أو أشقر أو أدعج العينين أو مقرون الحاجبين أو أقنى الانف، ويكتف ما يؤخذ من كل واحد منهم، ويجعل على كل طائفة عريفا ليجمعهم عند أخذ الجزية ويكتب من يدخل معهم في الجزية بالبلوغ ومن يخرج منهم بالموت والاسلام، وتؤخذ منهم الجزية برفق كما تؤخذ سائر الديون، ولا يؤذيهم في أخذها بقول ولا فعل لانه عوض في عقد علم يؤذهم في أخذه بقول ولافعل كأجرة الدار، ومن قبض منه جزيته كتبت له براءة لتكون حجة له إذا احتاج إليها.

(فصل)
وإن مات الامام أو عزل وولى غيره ولم يعرف مقدار ما عليهم

(19/406)


من الجزية رجع إليهم في ذلك لانه لا تمكن معرفته مع تعذر البينة إلا من جهتهم ويحلفهم استظهارا ولا يجب لان ما يدعونه لا يخالف الظاهر، فإن قال بعضهم هو دينار وقال بعضهم هو ديناران أخد من كل احد منهم ما أقربه، لان إقرارهم مقبول، وتقبل شهادة بعضهم على بعض، لان شهادتهم لا تقبل، وإن ثبت بعد ذلك بإقرار أو بينة أن الجزية كانت أكثر استوفى منهم، فإن قالوا كنا ندفع دينارين دينارا عن الجزية ودينارا هدية فالقول قولهم مع يمينهم واليمين واجبة لان دعواهم تخالف الظاهر، وإن غاب منهم رجل سنين ثم قدم
وهو مسلم وادعى أنه أسلم في أول ما غاب ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يقبل قوله ويطالب بجزية ما مضى في غيبته في حال الكفر، لان الاصل بقاؤه على الكفر
(والثانى)
أنه يقبل لان الاصل براءة الذمة من الجزية.
(الشرح) قال أبو يوسف في الخراج (ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقاموا في شمس ولا غيرها ولا يجعل عليهم في أبدانهم من المكاره، ولكن يرفق بهم ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى منهم الجزية.
اللغة قوله (أدعج العينين) الدعج شدة سواد المقلة وشدة بياض بياضها قوله (مقرون الحاجبين) هو التقاء طرفيهما، وهو مذموم وضده البلج وهو أن ينقطعا حتى يكون ما بينهما نقيا من الشعر وهو محمود، والقنا حد يداب الانف مع ارتفاع قصبته.
قوله (ويحلفهم استظهارا) مأخوذ من الظهور وهو الظاهر الذى لاخفاء به والاستظهار الاخذ بالجزم واليقين، وأصله عند العرب أن الرجل إذا سافر أخذ مع بعيرا آخر خوف أن يعبا بعيره فيركب الاخر والبعير هو الظهر ذكره الازهرى.

(19/407)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب عقد الذمة

لا يصح عقد الذمة إلا من الامام أو ممن فوض إليه الامام لانه من المصالح العظام فكان إلى الامام، ومن طلب عقد الذمة وهو ممن يجوز إقراره على الكفر بالجزية وجب العقد له لقوله عز وجل (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) ثم قال (حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون) فدل على أنهم إذا عطوا الجزية وجب الكف عنهم.
وروى بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان إذا بعث أميرا على جيش قال إذا لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى الدخول في الاسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وان أبا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم، ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين، بذل الجزية والتزام أحكام المسلمين في حقوق الآدميين في العقود والمعاملات وغرامات المتلفات فإن عقد على غير هذين الشرطين لم يصح العقد، والدليل عليه قوله عز وجل (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون) والصغار هو أن تجرى عليهم أحكام المسلمين، ولا فرق بين الخيابرة وغيرهم في الجزية، والذى يدعيه الخيابرة أن معهم كتابا من على بن أبى طالب كرم الله وجهه بالبراءة من الجزية لا أصل له ولم يذكره أحد من علماء الاسلام، وأخبار أهل الذمة لا تقبل وشهادتهم لا تسمع (الشَّرْحُ) حَدِيثُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..) سبق تخريجه اللغة قوله (عن يد) أي عن قهر، وقد تقدم ذكره

(19/408)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان أهل الذمة في دار الاسلام أخذوا بلبس الغيار وشد الزنار، والغيار أن يكون فيما يظهر من ثيابهم ثوب يخالف لونه لون ثيابهم، كالازرق والاصفر ونحوهما، والزنار أن يشدوا في أوساطهم خيطا غليظا فوق
الثياب، وإن لبسوا القلانس جعلوا فيها خرقا ليتميزوا عن قلانس المسلمين، لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذى كتبه لعمر حين صالح نصارى الشام فشرطنا أن لا نتشبه بهم في شئ من لباسهم من قلنسوة ولاعمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، وأن نشد الزنانير في أوساطنا، ولان الله عز وجل أعز الاسلام وأهله وندب إلى إعزاز أهله، وأذل الشرك وأهله وندب إلى إذلال أهله، والدليل عليه ما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: بعثت بين يدى الساعة بالسيف حتى يعبد الله ولا يشرك به شئ، وجعل الصغار والذل على من خالف أمرى، فوجب أن يتميزوا عن المسلمين لنستعمل مع كل واحد منهم ما ندبنا إليه.
وإن شرط عليهم الجمع بين الغيار والزنار أخذوا بهما، وإن شرط أحدهما أخذوا به لان التمييز يحصل بأحدهما، ويجعل في أعناقهم خاتم ليتميزوا به عن المسلمين في الحمام وفى الاحوال التى يتجردون فيها عن الثياب، ويكون ذلك من حديد أو رصاص أو نحوهما ولايكون من ذهب أو فضة لان في ذلك إعظاما لهم وان كان لهم شعر أمروا بجز النواصي ومنعوا من ارساله كما تصنع الاشراف والاخيار من المسلمين، لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى الشام: وشرطنا أن نجز مقادم رؤوسنا ولا يمنعون من لبس العمائم والطيلسان لان التمييز يحصل بالغيار والزنار.
وهل يمنعنن من لبس الديباج؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنهم يمنعون لما فيه من التجبر والتفخيم والتعظيم
(والثانى)
أنهم لا يمنعون كما لا يمنعون من لبس المرتفع من القطن والكتان، وتؤخذ نساؤهم بالغيار والزنار لما روى أن عمر كتب إلى أهل الآفاق أن مروا نساء أهل الاديان أن يعقدن زنانير هن أو تكون

(19/409)


زنانير هن تحت الازار لانه إذا كان فوق الازار انكشفت رؤوسهن واتصفت أبدانهم ويجعلن في أعناقهن خاتم حديد ليتميزن به عن المسلمات في الحمام كما قلنا في الرجال، وان لبسن الخفاف جعلن الخفين من لوقين ليتميزن عن النساء المسلمات ويمنعون من ركوب الخيل، لما روى في حديث عبد الرحمن بن غنم: شرطنا أن لا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم، وان ركبوا الحمير والبغال ركبوها على الاكف دون السروج ولا يتقلدون السيوف ولا يحملون السلاح لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر ولا تركب بالسروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ويركبون عرضا من جانب واحد لما روى ابن عمر أن مر كان يكتب إلى عماله يأمرهم أن يجعل أهل الكتاب المناطق في أوساطهم وأن يركبوا الدواب عرضا على شق (الشرح) أثر عبد الرحمن بن غنم حين صالح عمر نصارى الشام سبق تخريجه آثار (أن نجز مقادم رؤوسنا..) أن مروا نساء أهل الاديان..) (أن لا نتشبه بالمسلمين..) (ولا نركب السروج..) أخرج أبو عبيد في كتاب الاموال عن نافع عن أسلم أن عمر أم ر في أهل الذمة أن تجز نواصيهم، وأن يركبوا على الاكف عرضا ولا يركبوا كما يركب المسلمين، وأن لا يوثقوا كما يوثق المسلمون) وقال الحافظ في التلخيص (وأن يوثقوا المناطق) وروى البيهقى عن عمر أنه كتب إلى أمراء الاجناد أن يختموا رقاب أهل الذمة بخاتم الرصاص وأن تجز نواصيهم وأن تشد المناطق، ورواه أبو يوسف في كتاب الخراج.
قوله (أخذوا بلبس الغيار) بالفتح وهو الاسم، وأما الغيار بالكسر فهو المصدر كالفخار وقال الصنعانى في تكملته: الغيار بالكسر علامة أهل الذمة
كالزنار وعلامة المجوس، جعله اسما كالشعار والدثار قوله (الطيلسان) هو الرداء يشتمل به الرجل على كتفيه ورأسه وظهره، وقد يكن مقورا.

(19/410)


وقوله (ركبوها على الاكف) هو جمع إكاف آلة تجعل على الحمار يركب عليها بمزلة السرج، قال كالبرذون المشدود بالاكف، يقال إكاف ووكاف.
ويلجئون إلى أضيق الطرق، أي يضطرون، يقال ألجأته إلى الشئ اضطررته إليه قال الحنابلة: ويمنعون من ركوب الخيل وحمل السلاح ومن احداث الكنائس ومن بناء ما اندهم منها ومن إظهار المنكر والعيد والصليب وضرب الناقوس ومن الجهر بكتابهم، ومن الأكل والشرب نهار رمضان، ومن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير.
وقال أبو يوسف في الخراج: وينبغى مع هذا أن تختم رقابهم في وقت جباية رؤوسهم حتى يفرع من عرضهم، ثم تكسر الخواتيم كما فعل بها عثمان بن حفيف ان سألوا كسرها، وأن يتقدم في أن لا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه ولا في مركبه ولا في هيئته، ويؤخذون بأن يجعلوا في أوساطهم الزنارات مثل الخيط الغليظ يعقده في وسطه كل واحد منهم، وبأن تكون قلانسهم مضربة وأن يتخذوا على سروجهم في موضع القرابيس مثل الرمانة من خشب، وبأن يجعلوا شراك نعالهم مثنية ولا يحذوا حذوا المسلمين، وتمنع نساؤهم من ركوب الرحائل.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يبدءون بالسلام ويلجئون إلى أضيق الطرق لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (إذا لقيتم
المشركين في طريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقها) ولا يصدرون في المجالس لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولان في تصديرهم في المجالس إعزازا لهم وتسوية بينهم وبين المسلمين في الاكرام فلم يجز ذلك.

(فصل)
ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم (الاسلام يعلو ولا يعلى) وهل يمنعون مساواتهم في البناء

(19/411)


فيه وجهان
(أحدهما)
أنهم لا يمنعون لانه يؤمن أن يشرف المشرك على المسلم
(والثانى)
أنهم يمنعون، لان القصد ان يعلو الاسلام، ولا يحصل ذلك مع المساواة، وإن ملكوا دارا عالية أقروا عليها، وان كانت أعلى من دور جيرانهم لانه ملكها على هذه الصفة، وهل يمنعون من الاستعلاء في غير محلة المسلمين؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنهم لا يمنعون لانه يؤمن مع البعد أن يعلو على المسلمين
(والثانى)
أنهم يمنعون في جميع البلاد لانهم يتطاولون على المسلمين
(فصل)
ويمنعون من اظهار الخمر والخنزير وضرب النواقيس والجهر بالتوراة والانجيل وإظهار الصليب واظهار أعيادهم ورفع الصوت على موتاهم، لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر رضى الله عنه على نصارى الشام شرطنا أن لا نبيع الخمور ولا نظهر صلباننا ولا كتبنا في شئ من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا الا ضربا خفيا، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شئ من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا ولا نرفع أصواتنا على موتانا.

(فصل)
ويمنعون من احداث الكنائس والبيع والصوامع في بلاد المسلمين لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال (أيما مصر مصرته العرب فليس
للعجم أن يبنوا فيه كنيسة) وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى الشام (انكم لما قدمتم عليا شرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها دبرا ولا قلاية ولا كنيسة ولا صومعة راهب، وهل يجوز اقرارهم على ما كان منها قبل الفتح ينظر فيه فإن كان في بلد فتح صلحا واستثنى فيه الكنائس والبيع جاز اقرارهما لانه إذا جاز أن يصالحوا على أن لنا النصف ولهم النصف جاز أن يصالحوا على أن لنا البلد الا الكنائس والبيع.
وان كان في بلد فتح عنوة أو فتح صلحا ولم تستثن الكنائس والبيع ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجوز كما لا يجوز اقرار ما أحدثوا بعد الفتح
(والثانى)
أنه يجوز لانه لما جاز اقرارهم على ما كانوا عليه من الكفر جاز اقرارهم على ما يبنى للكفر، وما جاز تركه من ذلك في دار الاسلام إذا انهدم

(19/412)


فهل يجوز إعادته؟ فيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول ابى سعيد الاصطخرى وأبى على بن أبى هريرة أنه لا يجوز لما روى كثير بن مرة قال: سمعت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تبنى الكنيسة في دار الاسلام ولا يجدد ما خرب منها.
وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر بن الخطاب على نصارى الشام: ولا يجدد ما خرب منها، ولانه بناء كنيسة في دار الاسلام فمنع منه كما لو بناها في موضع آخر.

(والثانى)
أنه يجوز لانه لا جاز تشييد ما تشعب منها جاز إعادة ما انهدم وإن عقدت الذمة في بلد لهم ينفردون به لم يمنعوا من إحداث الكنائس والبيع والصوامع ولا من إعادة ما خرب منها، ولا يمنعون من إظهار الخمر والخنزير
والصليب وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والانجيل وإظهار مالهم من الاعياد ولا يؤخذون بلبس الغيار وشد الزنانير لانهم في دار لهم فلم يمنعوا من إظهار دينهم فيه.
(الشرح) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها) متفق عليه.
وعن أَنَسٌ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فقولوا وعليكم، متفق عليه، وفى رواية لاحمد (فقولوا عليكم) بغير واو وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إن اليهود إذا سلم أحدهم إنما يقول السام عليكم فقل عليك) متفق عليه، وفى رواية لاحمد ومسلم (وعليك) بالواو.
وعن عائشة قالت: دخل رهط من اليهود عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال السام عليك.
قالت عائشة ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة، قالت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الامر كله، فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ فقال قد قلت وعليكم، متفق عليه

(19/413)


وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إنى راكب غدا إلى يهود فلا تبدءوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم.
رواه أحمد أثر عبد الرحمن بن غنم (أن نوقر المسلمين) سبق تخريجه حديث (الاسلام يعلو) أخرجه الدارقطني من حديث عائذ المزني وعلقه البخاري، ورواه الطبراني في الصغير من حديث عمر مطولا في قصة الضب، وإسناده ضعيف جدا.
أثر عبد الرحمن بن غنم (أن لا نبيع الخمور) سبق تخريجه أثر ابن عباس (كل مصر مصره المسلمون لا تبنى فيه بيعة ولا كنيسة ولا يضرب فيه ناقوس ولا يباع فيه لحم خنزير) رواه البيهقى وفى اسناده حنش وهو ضعيف.
أثر عبد الرحمن بن غنم سبق تخريجه أثر عمر (لا تبنى الكنيسة) سبق تخريجه أثر عبد الرحمن ((ولا تجددوا ما خرب منها) سبق تخريجه اللغة.
قوله (ولا يصدرون في المجالس) أي لا يجعلون صدورا.
وهم السادة الذين يصدر عن أمرهم ونهيهم.
قوله (ولا نخرج شعانيننا ولا باعوئنا) قال الزمخشري والخطابى الشعانين عيدهم الاول قبل فصحهم بأسبوع يخرجون لصلبانهم، والباعوث بالعين المهملة ولثاء المثلثة استسقاؤهم يخرجون بصلبانهم إلى الصحراء يستسقون قال وروى ولا باعوثا وجدته مضبوطا بالعين والغين والثاء بثلاث فيهما وأظن النون خطأ تصحيف، قال وهو عيد لهم صولحوا على أن لا يظهروا زيهم للمسلمين فيفتنوهم قوله (ديرا ولا قلاية) قال الخطابى الدير والقلاية متعبداتهم تشبه الصومعة، وروى قلية وروى بتخفيف الياء المعجمة باثنتين من تحتها قال أبو يوسف في الخراج ويمنعوا نم أن يحدثوا بناء بيعة أو كنيسة في المدينة الا ما كانوا صولحوا عليه وصاروا ذمة وهى بيعة لهم أو كنيسة، فما كان كذلك تركت لهم ولم تهدم وكذلك بيوت النيران، ويتركون يسكونون في أمصار

(19/414)


المسلمين وأسواقهم يبيعون ويشترون، ولا يبيعون خمرا ولا خنزيرا ولا يظهرون الصلبان في الامصار ولتكن فلانسهم طوالا مضربة.
قالت الحنابلة ويمنعون من تعلية البناء على المسلمين ويحرم القيام لهم وتصديرهم في المجالس وبداء تهم بالسلام وبكيف أصبحت أو أمسيت أو كيف أنت أو حالك وتحرم تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم، وروى حديث أبى هريرة، وما عدا السلام مما ذكر في معناه فقس عليه، وعنه تجوز عيادتهم لمصلحة راجحة كرجاء السلام اختاره الشيخ تقى الدين والآجري، وصوبه في الانصاف.
ومن سلم على ذمى ثم علمه سن قوله رد على سلامى لان ابن عمر مر على رجل فسلم عليه، فقيل له إنه كافر، فقال رد على ما سلمت عليك، فرد عليه فقال أكثر الله مالك وولدك ثم التفت إلى أصحابه فقال أكثر للجزية.
وإن سلم الذمي لزم رده فيقال وعليكم، لحديث أبى بصرة قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (إنا غادون فلا تبدأوهم بالسلام، فإن سلموا عليكم فقولوا وعليكم) وعن أنس قال (نهينا أو أمرنا أن لا نزيد أهل الذمة على (وعليكم) رواه أحمد.
وإن شمت كافر أجابه يهديك الله، وكذا إن عطس الذمي لحديث أبى موسى أن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم برحمكم الله فكان يقول لهم يهديكم الله ويصلح بالكم، رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وتكره مصافحته
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب على الامام الذب عنهم ومنع من يقصدهم من المسلمين والكفار واستنقاذ من أسر منهم، واسترجاع ما أخذ من أموالهم، سواء كانوا مع المسلمين أو كانوا منفردين عنهم في بلد لهم، لانهم بدلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم، فإن لم يدفع حتى مضى حول لم تجب الجزية عليهم لان الجزية للحفظ وذلك لم يوجد لم يجب ما في مقابلته كما لا تجب الاجرة إذا لم يوجد التمكين من المنفعة، وإن أخذ منهم خمر أو خنزير لم يجب استرجاعه لانه يحرم
فلا يجوز اقتناؤه في الشرع فلم تجب المطالبة به

(19/415)


(فصل)
وإن عقدت الذمة بشرط أن لا يمنع عنهم أهل الحرب فظرت فإن كانوا مع المسلمين أو في موضع إذا قصدهم أهل الحرب كان طريقهم على المسلمين لم يصح العقد لانه عقد على تمكني الكفار من المسلمين فلم يصح، وإن كانوا منفردين عن المسلمين في موضع ليس لاهل الحرب طريق على المسلمين صح العقد لانه ليس فيه تمكين الكفار من المسلمين، وهل يكره هذا الشرط؟ قال الشافعي رضى الله عنه في موضع يكره، وقال في موضع لا يكره، وليست المسألة على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذى قال يكره إذا طلب الامام الشرط، لان فيه اظهار ضعف المسلمين، والموضع الذى قال لا يكره إذا طلب أهل الذمة الشرط لانه ليس فيه اظهار ضعف المسلمين، وإن أغار أهل الحرب على أهل الذمة، وأخذوا أموالهم ثم ظفر الامام بهم واسترجع ما أخذوه من أهل الذمة وجب على الامام رده عليهم، وان أتلفوا أموالهم أو قتلوا منهم لم يضمنوا لانهم لم يلتزموا أحكام المسلمين، وان أغار من بيننا وبينهم هدنة على أهل الذمة وأخذوا أموالهم وظهر بها الامام واسترجع ما أخذوه وجب رده على أهل الذمة، وان أتلفوا أموالهم وقتلوا منهم وجب عليهم الضمان لانهم التزموا بالبدنة حقوق الآدميين، وان نقصوا العهد وامتنعوا في ناحية ثم أغاروا على أهل الذمة وأتلفوا عليهم أموالهم وقتلوا منهم ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يجب عليهم الضمان
(والثانى)
لا يجب كالقولين فيما يتلف أهل الردة إذا امتنعوا وأتلفوا على المسلمين أموالهم أو قتلوا منهم (الشرح) قوله (ويجب على الامام) قالت الحنابلة (ويحرم قتال أهل الذمة وأخذ مالهم ويجب على الامام حفظهم ومنع من يؤذيهم) لانهم انما بذلوا الجزية
لحفظهم وحفظ أموالهم.
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال (انما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا.
وقال الكاسانى الحنفي في البدائع: وأما بيان حكم العقد فنقول وبالله التوفيق أن لعقد الذمة أحكاما منها عصمة النفس لقوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون

(19/416)


بالله إلى قوله عز وجل حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون) نهى سبحانه وتعالى إباحة لقتال إلى غاية قبول الجزية ز، وإذا انتهت الاباحة تثبت العصمة ضرورة، ومنها عصمة المال لانها تابعة لعصمة النفس.
وعن على رضى الله عنه وذكر نفس الاثر السابق.
قلت وان الاجماع منعقد عليه هذا، وخير ما أختم لك به ما ذكره الامام رشيد في تفسيره، وإذا كان من المسلم الثابت أن المرتزق والمتطوع سيان في الحقوق الكلية التى تمنح العسكر كان من الحق الواضح أن يعفى المسلمون كلهم من ضريبة الجزية، أما أهل الذمة فما كان يحق للاسلام أن يجيرهم على مباشرة القتال في حال من الاحوال بل الامر بيدهم ان رضوا بالقتال عن أنفسهم وأموالهم عفوا عن الجزية، وان أبوا أن يخاطروا بالنفس فلا أقل من أن يسامحوا بشئ من المال وهى الجزية، ولعلك تطالبني بإثبات بعض القضايا المنطوية في هذا البيان، أي أثبات أن الجزية ما كانت تؤخذ من الذميين الا للقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم، وان الذميين لو دخلو في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعفوا عن الجزية، فإن صدق ظنى فاصغ إلى الروايات التى تعطيك الثلج في هذا الباب وتحسم مادة القيل والقال (قلت وسنكتفى بواحدة كوعدنا مع الناشر) منها ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل
فيها، وهذا نصه: هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه (انى عاهدتكم على الجزية والمنعة وما منعناكم (أي حميناكم) فلنا الجزية والا فلا؟ كتب سنة اثنى عشر في صفر) اللغة.
قوله (ويجب على الامام الذب عنهم) هو المنع والدفع عنهم لمن يريد ظلمهم وهلاكهم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين نظرت فإن كان معاهدين فهو بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم لقوله عز وجل (فإن جاءوك فاحكم

(19/417)


بينهم أو أعرض عنهم) ولا يختلف أهل العلم أن هذه الآية نزلت فيمن وادعهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يهود المدينة قبل فرض الجزية، وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه.
وإن دعا الحاكم أحدهما ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور، وإن كانا ذميين نظرت فإن كان على دين واحد ففيه قولان
(أحدهما)
أنه بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم، لانهما كافران فلا يلزمه الحكم بينهما كالمعاهدين، وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه، وإن دعا أحدهما ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور.
والقول الثاني أنه يلزمه الحكم بينهما، وهو اختيار المزني لقوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ولانه يلزمه دفع ما قصد كل واحد منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين، وان حكم بينهما لزمهما حكمه، وإن دعا أحدهما ليحكم بينهما لزمه الحضور، وإن كانا على دينين كاليهودي والنصراني ففيه طريقان

(أحدهما)
أنه على القولين كالقسم قبله، لانهما كافران فصارا كما لو كانا على دين واحد.

(والثانى)
قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يجب الحكم بنهما قولا واحدا لانهما إذا كانا على دين فلم يحكم بينهما تحاكما إلى رئيسهما فيحكم بينهما، وإذا كانا على دينين لم يرض كل واحد منهما برئيس الاخر فيضيع الحق.
واختلف أصحابنا في موضع القولين، فمنهم من قال القولان في حقوق الادميين وفى حقوق الله تعالى، ومنهم من قال القولان في حقوق الادميين وأما حقوق الله تعالى فإنه يجب الحكم بينهما قولا واحدا، لان لحقوق الادميين من يطالب بها ويتوصل إلى استيفائها فلا تضيع بترك الحكم بينهما، وليس لحقوق الله تعالى من يطالب بها فإذا لم يحكم بينهما ضاعت.
ومنهم من قال القولان في حقوق الله تعالى فأما في حقوق الادميين فإنه يجب الحكم بينهما قولا واحدا، لانه إذا لم يحكم بينهما في حقوق الادميين ضاع حقه واستضر، ولا يوجد ذلك في حقوق الله تعالى، فإن تحاكم إليه ذمى ومعاهد ففيه قولان كالذميين وان تحاكم إليه مسلم وذمى أو مسلم ومعاهد لزمه

(19/418)


الحكم بينهما قولا واحدا لانه يلزمه دفع كل واحد منهما عن ظلم الاخر فلزمه الحكم بينهما، ولا يحكم بينهما إلا بحكم الاسلام لقوله تعالى (وأن الحكم بينهم بما أنزل الله) ولقوله تعالى (وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط) وإن تحاكم إليه رجل وامرأة في نكاح، فإن كانا على نكاح لو أسلما عليه لم يجز إقرارهما عليه كنكاح ذوات المحارم حكم بإبطاله، وإن كانا على نكاح لو اسلمنا عليه جاز إقرارهما عليه حكم بصحته، لان أنكحة الكفار محكوم بصحتها، والدليل عليه قوله تعالى (وقالت امرأة فرعون) فأضاف إلى فرعون زوجته.
وقوله تعالى (وامرأته حمالة الحطب) فأضاف إلى ابى لهب زوجته.
ولانه أسلم خلق كثير على أنكحة في الكفر فأقروا على أنكحتهم، فإن طلقها أو آلى منها وظاهر منها حكم في الميع بحكم الاسلام
(فصل)
وإن تزوجها على مهر فاسد وسلم إليها بحكم حاكمهم ثم ترافعا الينا ففيه قولان
(أحدهما)
يقرون عليه لانه مهر مقبوض فأقرا عليه، كما لو أقبضها من غير حكم
(والثانى)
أنه يجب لها مهر المثل لانها قبضت عن إكراه بغير حق فصار كما لو لم تقبض.

(فصل)
ومن أتى من أهل الذمة محرما يوجب عقوبة نظرت فإن كان ذلك محرما في دينه كالقتل والزنا والسرقة والقذف وجب عليه ما يجب على المسلم، والدليل عليه ماروى أنس رضى الله عنه أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حجرين.
وروى ابن عمر النبي صلى الله عليه وسلم اتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فأمر بهما فرجما، ولانه محرم في دينه وقد التزم حكم الاسلام بعقد الذمة فوجب عليه ما يجب على المسلم، وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يجب عليه الحد لانه لا يعتقد تحريمه فلم يجب عليه عقوبة كالكفر، فإن تظاهر به عزر لانه إظهار منكر في دار الاسلام فعزر عليه.
(الشرح) حديث أنس أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان؟ حتى سمى اليهودي فأومأت برأسها، فجئ به

(19/419)


فاعترف فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه محجرين) رواه الجماعة.
وفى رواية لمسلم (فقتلها بحجر فجئ بها إلى النبي صلى الله عليه وبها رمق) وفى رواية أخرى (قتل جارية من الانصار على حلى لها ثم ألقاها في قطيب ورضخ
رأسها بالحجارة فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات) حديث ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال ما تجدون في كتابكم؟ فقالا تسخم وجوههما ويخزيان، قال كذبتم إن فيها الرجم، فاءتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح، فقال أو قالوا يا محمد إن فيها الرجم ولكنا كنانت كاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال فلقد رأيته يجنا عليها يقبها الحجارة بنفسه) متفق عليه وفى رواية أخرى (بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا) وفى رواية لاحمد ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: رجم النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم ورجلا من اليهود وامرأة.
وعن البراء بن عازب قال: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذى أنزل التوراة على موسى؟ أهكذا تجدون حد الزانى في كتابكم؟ قال لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم، ولكن كثر أشرافنا وكنا إذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا فلنجتمع على شئ نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذا أماتوه، فأمر به فرجم فأنزل الله عز وجل (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا إلى قوله إن أوتيتم هذا فخذوه) يقولون ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تبارك وتعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الفاسقون) قال هي في الكفار كلها.
رواه أحمد ومسلم وأبو داود

(19/420)


اللغة: التسخيم من السخام وهو سواد القدر.
التحميم من الحمه وهى الفحة والآية تدل على فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والاعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم، وقد اختلف العلماء في هذا التخيير أهو خاص بتلك الواقعة وهى حد الزنا هل هو الجلد أو الرجم أو دية القتيل، إذ كان بنو النضير يأذخون دية كاملة على قتلاهم لقوتهم وشرفهم، وبنو قريظة يأخذون نصف دية لضعفهم، وقد تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء أم هو خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة وغيرهم، أم الاية عامة في جميع القضايا من جميع الكفار عملا بقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمرجح المختار أن التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة وقال القرطبى في الجامع: إذا ترافع أهل الذمة إلى الامام، فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم ومنعه منه بلا خلاف، وأما إذا لم يكن كذلك فالامام مخير في الحكم بينهم، وتركه عند مالك والشافعي، غير أن مالكا رأى الاعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم بحكم الاسلام قال الشافعي لايحم بينهم في الحدود، وقال أبو حنيفة يحكم بينهم على كل حال، وهو قول الزهري وعمر بن عبد العزيز والحكم وروى عن ابن عباس وهو أحد قولى الشافعي لقوله تعالى (وأن احكم بينهم) واحتج مالك بقوله تعالى (فإن جاءوك) وهو نص في التخيير، قال ابن القاسم والزائيان فالحاكم مخير، لان إنفاذ الحكم حق للاساقفة، والمخالف يقول لا يلتفت إلى الاساقفة.
قال ابن العربي وهو الاصح، وقال عيسى عن ابن القاسم لم يكونوا أهل ذمة
إنما كانوا أهل حرب، وهذا الذى قاله عيسى عنه انما نزع به لما رواه الطبري وغيره أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم اسألوا محمدا عن هذا فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه منه واقبلوه، وان افتاكم به فاحذروه.
قال ابن العربي: وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا

(19/421)


وأمانا، وإن لم يكن عهد وذمة ودار لكان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم، فلا حجة لرواية عيسى في هذا.
وقال الشوكاني في النيل: وحديث أنس يدل على أنه يقتل الرجل بالمرأة، واليه ذهب المجهور.
وحكى ابن المنذر الاجماع عليه إلا رواية عن على وعن الحسن البصري وعطاء، ورواه البخاري عن أهل العلم، وروى في البحر عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعكرمة وعطاء ومالك وأحد قولى الشافعي أنه لا يقتل الرجل بالمرأة وإنما تجب الدية، وقد رواه أيضا عن الحسن البصري أبو الوليد الباجى والخطابى.
وحكى هذا القول عن صاحب الكشاف، وقد أشار السعد في حاشيته على الكشاف إلى أن الرواية التى ذكرها الزمخشري وهم محض، قال ولا يوجد في كتب المذهبين يعنى مذهب مالك والشافعي تردد في قتل الذكر بالانثى وقال في مكان آخر: حديث ابن عمر يدل على أن حد الزنا يقام على الكافر كما يقام على المسلم.
وقد حكى صاحب البحر الاجماع على أنه يجلد الحربى، وأما الرجم فذهب الشافعي وأبو يوسف والقاسيمة إلى أنه يرجم المحصن من الكفار، وذهب أبو حنيفة ومحمد وزيد بن على والناصر والامام يحيى إلى أنه يجلد ولا يرجم، قال الامام
يحيى: والذمى كالحربي في الخلاف، وقال مالك لاحد عليه وأما الحربى المستأمن فذهبت العترة والشافعي وأبو يوسف إلى أنه يحد، وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا يحد، ووقد بالغ ابن عبد البر فنقل الاتفاق على شرط الاحصان الموجب للرجم هو الاسلام، وتعقب بأن الشافعي وأحمد لا يشترطان ذلك ومن جملة من قال بأن الاسلام شرط ربيعة شيخ مالك وبعض الشافعية، ثم قال: ومن غرائب التعصبات ما روى عن مالك أنه قال انما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهودين، لان اليهود يومئذ لم يكن لهم ذمة فتحاكموا إليه، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم إذا أقام الحد على من لا ذمة له فلان يقيمه على من له ذمة بالاولى كذا قال الطحاوي.

(19/422)


وقال القرطبى معترضا على قول مالك: إن مجئ اليهود سائلين له صلى الله عليه وسلم يوجب لهم عهد، كما لو دخلوا للتجارة فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم، ثم قال ومن جملة ما تمسك به من قال ان الاسلام شرط حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا (من أشرك بالله فليس بمحصن) ورجح الدارقطني وغيره الوقف
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا امتنع الذمي من التزام الجزية أو امتنع من التزام أحكام المسلمين انتقض عهده، لان عقد الذمة لا ينعقد إلا بهما فلم يبق دونهما، وإن قاتل المسلمين انتقض عهده، سواء شرط عليه تركه في العقد أو لم يشرط، لان مقتضى عقد الذمة الامان من الجانبين، والقتال ينافى الامان فانتقض به العهد، وان فعل ما سوى ذلك نظرت فإن كان مما فيه اضرار بالمسلمين فقد ذكر الشافعي رحمه الله تعالى ستة أشياء، وهو أن يزنى بمسلمة أو يصيبها باسم النكاح، أو يفتن
مسلما عن دينه أو يقطع عليه الطريق أو يؤوى عينا لهم أو يدل على عوراتهم، وأضاف إليه أصحابنا أن يقتل مسلما، فإن لم يشرط الكف عن ذلك في العقد لم ينتقض عهده لبقاء ما يقتضى العقد من التزام أداء الجزية والتزام أحكام المسلمين والكف عن قتالهم.
وان شرط عليهم الكف عن ذلك في العقد ففيه وجهان:
(أحدهما)
أن هـ لا ينتقض به العقد، لانه لا ينتقض به العهد من غير شرط فلا ينتقض به مع الشرط، كإظهار الخمر والخنزير وترك الغيار (الثاني) أنه ينتقض به العهد لما روى أن نصرانيا استكره امرأة مسلمة على الزنا فرفع إلى أبى عبيدة بن الجراح فقال: ما على هذا صالحنا كم، وضرب عنقه، ولان عقوبة هذه الافعال تستوفى عليه من غير شرط فوجب أن يكون لشرطها تأثير، ولا تأثير الاما ذكرناه من نقض العهد، فإن ذكر الله عز وجل أو كتابه أو ذَكَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ دينه بما لا ينبغى فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق في حكمه حكم الثلاثة، الاولى وهى الامتناع من

(19/423)


التزام الجزية والتزام أحكام المسلمين والاجتماع على قتالهم، وقال عامة أصحابنا حكمه حكم ما فيه ضرر بالمسلمين، وهى الاشياء السبعة ان لم يشترط في العقد الكف عنه لم ينقض العهد، وان شرط الكف عنه فعلى الوجهين، لان في ذلك اضرارا بالمسلمين لما يدخل عليهم من العار فألحق بما ذكرناه مما فيه اضرار بالمسلمين ومن أصحابنا من قال: من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قتله، لما روى أن رجلا قال لعبد الله بن عمر سمعت راهبا يشتم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لو سمعته لقتلته، انا لم نعطه الامان على هذا وان أظهر من منكر دينهم ما لاضرر فيه على المسلمين كالخمر والخنزير وضرب
الناقوس والجهر بالتوراة والانجيل وترك الغيار لم ينتقض العهد، شرط أولم بشرط، واختلف أصحابنا في تعليله، فمنهم من قال لا ينتقض العهد لانه اظهار مالا ضرر فيه على المسلمين، ومنهم من قال ينتقض لانه اظهار ما يتدينون به وإذا فعل ما ينتقض به لعهد ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يرد إلى مأمنه لانه حصل في دار الاسلام بأمان فلم يجز قتله قبل الرد إلى مأمنه كما لو دخل دار الاسلام بأمان صبى
(والثانى)
وهو الصحيح أنه لا يجب رده إلى مأمنه، لان أبا عبيدة بن الجراح قتل النصراني الذى استكره المسلمة على الزنا ولم يرده إلى مأمنه ولانه مشرك لا أمان له فلم يجب رده إلى مأمنه كالاسير، ويخالف من دخل بأمان الصبى، لان ذلك غير مفرط لانه اعتقد صحة عقد الامان فرد إلى مأمنة وهذا مفرط لانه نقص العهد فلم يرد إلى ما مأمنه، فعلى هذا يختار الامام ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء، كما قلنا في الاسير (الشرح) أثر (أن نصرانيا استكره) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى بلفظ (عن سويد بن غفلة كنا مع عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أمير المؤمنين بالشام فأتاه نبطى مضروب مشيجح، فغضب غضبا شديدا، فقال لصهيب انظر من صاحب هذا، فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الاشجعى، فقال له ان أمير المؤمنين قد غضب غضبا شديدا، فلو أتيت معاذ بن جبل فمشى معك

(19/424)


إلى أمير المؤمنين فإنى أخاف عليك بادرته، فجاء معه معاذ فلما انصرف عمر من الصلاة قال أبن صهيب؟ فقال أنا هذا يا أمير المؤمنين، فقال أجئت بالرجل الذى ضربه؟ قال نعم، فقام إليه معاذ بن جبل فقال يا أمير المؤمنين إنه عوف ابن مالك فاسمع منه ولا تعجل عليه، فقال له عمر مالك ولهذا، قال يا أمير
المؤمنين رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تصرع ثم دفعها فخرت عن الحمار ثم تغشاها ففعلت ما ترى، قال ائتنى بالمراة لتصدقك، فأتى عوف المرأة فذكر بالذى قال له عمر رضى الله عنه، قال أبوها وزوجها ما أردت بصاحبتنا فضحتها، فقالت المرأة والله لاذهبن معه إلى أمير المؤمنين، فلما أجمعت على ذلك قال أبوها وزوجها نحن نبلغ عنك أمير المؤمنين فأتيا فصدقا عوف بن مالك بما قال، قال فقال عمر لليهودي والله ما على هذا عاهدناكم فأمر به فصلب، ثم قال يا أيها الناس فوا بذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له.
قال سويد به غفلة وإنه لاول مصلوب رأيته.
أثر (أن رجلا قال لعبد الله بن عمر سمعت راهبا يشتم) رواه البيهقى بلفظ (أن عرفة بن الحارث الكندى مر به نصراني فدعاه إلى الاسلام فتناول النبي صلى الله عليه وسلم وذكره فرفع عرفة يده فدق أنفه، فرفع إلى عمر وبن العاص فقال عمرو أعطيناهم العهد، فقال عرفة معاذ الله أن نكون أعطيناهم على أن يظهروا شتم النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطيناهم على أن نخلى بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم وأن لا نحملهم ما لا يطيقون وإن أرادهم عدو قاتلتاهم من ورائهم ونخلى بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا، فنحكم بينهم بحكم الله وحكم رسوله، وإن غيبوا عنا لم نعرض لهم فيها.
قال عمرو صدقت.
وروى أبو داود والنسائي (عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فنهاها فلا تنهى، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول فجمله في بطنها واتكا عليه فقتلها، فلما أصبح ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال أنشد الله رجلا فعل ما فعل لى عليه حق إلا قام، فقام الاعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل حتى قعد بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رسول الله

(19/425)


أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنها ها فلا تنهى وأزجرها فلا تنزجر ولى منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بى رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليه حتى قتلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا اشهدوا أن دمها هدر وروى أبو داود من طريق آخر عن على أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذمتها) اللغة: المغول بالغين المعجمة قال الخطابى شبيه المشمل نصله دقيق ماضن وكذلك قال غيره هو سيف رقيق له قفا يكون غمده كالسيوط، واشتقاق المغول من غاله الشئ واغتاله إذا أخذه من حيث لم يدر قوله (إذا امتنع الذمي) قالت الحنابلة ومن أبى من أهل الذمة بذل الجزية أو أبى الصغار، أو أبى التزام أحكامنا انتقض عهده، أو زنى بمسلمة أو أصابها بنكاح انتقض عهده، نص عليه لما روى عن عمر (أنه رفع إليه رجل أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنى، فقال ما على هذا صالحناكم، فأمر به فصلب في بيت المقدس أو قطع الطريق، أو ذكره الله تعالى أو رسوله بسوء أو ذكر كتابه أو دينه بسوء، نص عليه لما روى أنه قيل لابن عمران راهبا يشتم النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ سمعته لقتلته انا لم نعط الامان على هذا، أو تعدى على مسلم يقتل أو فتنه عن دينه انتقض عهده لانه ضرر يعم المسلمين، أشبه مالو قاتلهم.
ومثل ذلك ان تجسس أو أوى جاسوسا، ويخير الامام فيه كالاسير الحربى بين رق وقتل ومن وفداء، لانه كافر لا أمان له قدرنا عليه في دارنا بغير عقد ولاعهد وما له فئ ولا ينقض عهد نسائه وأولاده، فإن أسلم حرم قتله ولو كان سب النبي صلى الله عليه وسلم، لعموم حديث الاسلام يجب ما قبله،
وقياسا على الحربى إذا سبه صلى الله عليه وسلم ثم تاب بإسلام قبلت توبته اجماعا قال في الفروع وذكر ابن أبى موسى أن ساب الرسول يقتل ولو أسلم، اقتصر عليه في المستوعب.
وذكره ابن البنا في الخصال قال الشيخ تقى الدين وهو الصحيح من المذهب ونقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب

(19/426)


قتله ونقل أبو بكر الفارسى أحد ائمة الشافعية في كتاب الاجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل، لان حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وخالفه القفال فقال كفر بالسب فسقط القتل بالاسلام.
وقال الصيدلانى يزول القتل ويجب حد القذف.
قال الخطابى لاأعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما، وقال ابن بطال: اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك يقتل من سبه منهم إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة، ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهود نحوه وحكى عن عياض هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف، ونقل عن بعض المالكية أنه لم يقتل اليهود الذين كانوا يقولون له السام عليك لانهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم، وقيل إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل على الدعاء بالموت الذى لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم وعليكم أي الموت نازل علينا وعليكم فلا معنى للدعاء به، أشار إلى ذلك القاضى عياض واحتج الطحاوي لاصحابه بحديث أنس الذى فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لم يقتل من كانوا يقولون له السام عليك، وأيده بأن هذا الكلام لو صدر من مسلم لكانت ردة، وأما صدوره من اليهودي فالذي هم عليه من الكفر أشد فلذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن دمائهم لم تحقن إلا بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم تعدى العهد فينقض فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه إلا أن يسلم ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لو يقتلوا لان من معتقدهم حل دماء المسلمين ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل، فإن قيل إنما يقتل بالمسلم قصاصا، بدليل انه يقتل به ولو أسلم، ولو سب ثم أسلم لم يقتل.

(19/427)


ومسك الختام أورد لك بعض ما ذكره الامام المناضل شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابة الصارم المسلول على شاتم الرسول (طبعة الهندسة 1322 هـ) فيقول
(فصل)
في إيراد السنن والاحاديث الدالة على حكم شاتم النبي صلى الله عليه وسلم فيورد حديث شعبة السابق الاشارة إليه، وقال رواه أبو دود وابن بطة في سننه وهو من جملة ما استدل به الامام أحمد في رواية ابنه عبد الله، وذكره بألفاظ متقاربة، ثم ذكر حديث ابن عباس وقال: سئل الامام أحمد في قتل الذمي إذا سب أحاديث؟ قال نعم، منهم حديث الاعمى الذى قتل المرأة، قال سمعها تشتم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الثالث فقال: ما احتج به الشافعي على أن الذمي إذا سب قتل وبرئت منه الذمة، وهو قصة كعب بن الاشرف اليهودي، قلت وهى في الصحيحين.
قال الخطابى، قال الشافعي يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه الذمة
واحتج في ذلك بخبر ابن الاشرف.
وكان بودى أن أسير شوطا طويلا مع هذا الامام العظيم وأسرد لك ما ذكره في كتابه المذكور لولا الخوف من الاطالة وتنبيه الناشر بالاقتصار على أقل القليل حتى لا يخرج الكتاب عن الحيز المرسوم له، ومن أراد الزيادة فليرجع إلى الصارم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يمكن مشرك من الاقامة في الحجاز، قال الشافعي رحمه الله هي مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، قال الاصمعي سمى حجازا لانه حاجز بين تهامة وتجد، والدليل عليه ما روى ابن عباس رضى الله عنه قال (اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وأراد الحجاز والدليل عليه ما روى أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه قال (آخر ما تكلم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب وروى ابن عمر أن عمر رضى الله عنه أجلى اليهود والنصارى من الحجاز

(19/428)


ولم ينقل أن أحدا من الخلفاء أجلى من كان باليمن من أهل الذمة، وإن كانت من جزيرة العرب، فإن جزيرة العرب في قول الاصمعي من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام في العرض، وفى قول أبى عبيدة ما بين حفر أبى موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول وما بين النهرين إلى السماوة، وفى العرض قال يعقوب حفر أبى موسى على منازل من البصرة من طريق مكة على خمسة أو ستة منازل، وأما نجران فليست من الحجاز ولكن صالحهم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أن لا يأكلوا الربا فأكلوا ونقضوا العهد فأمر بإجلائهم فأجلاهم عمر، ويجوز
تمكينهم من دخول الحجاز لغير الاقامة، لان عمر رضى الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجرا في مقام ثلاثة أيام ولا يمكنون من الدخول بغير إذن الامام، لان دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين، فوقف على رأى الامام، فإن استأذن في الدخول فن كان للمسلمين فيه منفعة بدخولة لحمل ميرة أو أداء رسالة أو عقد ذمة أو عقد هدنة أذن فيه، لان فيه مصلحة للمسلمين، فإن كان في تجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يؤذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارتهم شيئا، لان عمر رضى الله عنه أمر أن تؤخذ من أنباط الشام من حمل القطنية من الحبوب العشر ومن حمل الزيت والقمح نصف العشر ليكون أكثر للحمل، وتقدير ذلك إلى رأى الامام، لان أخذه باجتهاده فكان تقديره إلى رأيه، فإن دخل للتجارة فله أن يقيم ثلاثة أيام ولا يقيم أكثر منها لحديث عمر رضى الله عنه، ولانه لا يصير مقيما بالثلاثة ويصير مقيما بما زاد.
وإن أقام في موضع ثلاثة أيام ثم انتقل إلى موضع آخر وأقام ثلاثة أيام، ثم كذلك ينتقل من موضع إلى موضع ويقيم في كل موضع ثلاثة أيام جاز، لانه لم يصر مقيما في موضع، ولا يمنع من ركوب بحر الحجاز، لانه ليس بموزضع للاقامة، ويمنع من المقام في سواحله والجزائر المسكونة فيه لانه من بلاد الحجاز وإن دخل لتجارة فمرض فيه ولم يمكنه الخروج أقام حتى يبرأ لانه موضع ضرورة وان مات فيه وأمكن نقله من غير تغير لم يدفن فيه لان الدفن إقامة على التأييد وان خيف عليه التغير في النقل عنه لبعد المسافة دفن فيه لانه موضع ضرورة.

(19/429)


(الشرح) حديث ابن عباس (اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، رواه البخاري عن قتيبه وغيره، ورواه مسلم عن سعيد بن منصور وغيره بلفظ سمعت ابن عباس رضى الله عنه يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى ثم
قال: اشتد وجع رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اثتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعد أبدا فتتنازعوا ولا ينبغى عند نبى تنازع، فقال ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه وأمرهم بثلاث، فقال اخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوقد بنحو مما كنت أجيزهم.
والثالثة نسيتها) حديث أبى عبيدة بن الجراح (آخر ما تكلم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رواه البيهقى في السنن الكبرى وأحمد بلفظ عن أبى عبيدة بن الجراح رضى الله عنه قال: آخر ما تكلم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شر الناس الذين اتخذوا قبورهم مساجد) وروى مسلم وأحمد والترمذي عن عمر بن الخطاب قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لئن عشت لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أترك فيها الا مسلما) أثر ابن عمر: روى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لما فدعت بخيبر قام عمر رضى الله عنه خطيبا في الناس فَقَالَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامل يهود خيبر على أموالها وقال نقركم ما أقركم الهل، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدى عليه في الليل ففدعت بداه وليس لنا عدو هناك غيرهم وهم تهمئنا وقد رايت اجلاءهم فلما أجمع على ذلك أتاه أحد بنى أبى الحقيق فقال يا أمير المؤمنين تخرجنا وقد أقرنا محمد وعاملنا على الاموال وشرط ذلك لنا، فقال عمر رضى الله عنه أظننت أنى نسيت قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَيْفَ بك إذا خرجت من خيبر تعدو بك قلو صك ليلة بعد ليلة، فأجلاهم وأعطاهم قيمة مالهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك) ومن طريق آخر عن ابن عمر أن عمر رضى الله عنه أجلى اليهود والنصارى

(19/430)


من أرض الحجاز وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الارض إذا أظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين، فسأل اليهود رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يقرهم بها على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقركم على ذلك ما شئنا، فأقروا بها وأجلاهم عمر رضى الله عنه في إمارة إلى تيماه واريحا حديث (صالحهم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أن لا يأكلوا الربا) سبق تخريجه.
أثر (لان عمر رضى الله عنه أذن) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضرب اليهود والنصارى والمجوس بالمدينة اقامة ثلاثة أيام يتسوقون بها ويقضون حوائحهم ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث ليال أثر عمر (أن عمر رضى الله عنه أمر أن تؤخذ من أنباط الشام) رواه البيهقى في السنن الكبرى عن سالم عن أبيه أن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة ويأخذ من القطنية العشر.
اللغة قوله (جزيرة العرب) سميت جزيرة لان البحرين، بحر فارس وبحر الحبشة والرافدين قد أحاطت بها والرافدان دجلة والفرات، قال ووليت العراق ورافديه
* فزاريا أجذيد القميص قوله (ريف العراق) حيث المزارع ومواضع الخصب منها قوله (إلى أطرار الشام) الجوهرى، أطرار الشام أطرافها.
وحفر أبى موسى ركايا احتفرها بطريق مكة من البصرة بين ماوية والنجشانيات، وكان لا يوجد بها قطرة ماء، ولها حكاية والميرة الطعام الذى يمتاره الانسان أي يجئ به
من بعد، يقال مار أهله يميرهم إذا حمل إليهم الميرة، قال الله تعالى (ونمير أهلنا) وأنباط الشام قوم من العجم.
والقطنية بكسر القاف هو ما سوى الطعام كالعدس واللوبيا والحمص وما شاكله.
وقيل الكلام في الفقه أورد لك ما ذكره البيهقى تحت باب ما جاء في تفسير

(19/431)


أرض الحجاز وجزيرة العرب (أولا) قال سعيد بن العزيز: جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر (ثانيا) قال أبو عبد الرحمن يعنى المقرى جزيرة العرب من لدن القادسية إلى لدن قعر عدن إلى البحرين.
(ثالثا) قال مالك عمر أجلى أهل نجران ولم يجلوا من تيماء لانها ليست من بلاد العرب، فأما الوادي فإنى أرى انما لا يجلى من فيها من اليهود انهم لم يروها من أرض العرب.
(رابعا) قال الشافعي والحجاز مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها كلها.
وفى رواية أخرى وليست اليمن بحجاز وأما ما ذكره ياقوت في المعجم في الجزء الاول طبعة بيوت سنة 1374 هـ في ذكر الاقاليم السبعة داخل دائرة الثاني، الحجاز حدة مما يلى مصر وعدن أبين واليمن وبادية العرب وبلاد الجزيرة بين نهرى الفرات ودجلة إلى أرض لثعلبية مما يلى العراق.
وقال في الجزء 20 في كلمة يمن يفصل بينها وبين باقى جزيرة العرب خط يأخذ من حدود عمان ويبربن إلى حد ما بين اليمن واليمامة فإلى حدود الهجيرة وتثليث وكثبة وجرش منحدرا في السراء إلى شعف عنيز وشعف الجبل أعلاه إلى تهامة
إلى أم جحدم إلى البحر يقال له كرمل بالقرب من حمضة، وذلك حد ما بين كنانة واليمن من بطن تهامة.
(قلت أنا) وهو لياقوت هذا الخط من البحر الهندي إلى البحر اليمنى عرضا في البرية من الشرق إلى جهة الغرب.
الخ الحجاز وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل نصفها تهامى ونصفها حجازى وقيل كلها حجازى.
وقال الكلبى حد الحجاز ما بين جبل طئ وطريق العراق، وسمى الحاجز حجاز لانه حجز بين تهامة ونجد، وقيل لانه حجز بين نجد والسراه، وقيل لانه حجز بين نجد وتهامة والشام قال الحربى (وتبوك من الحجاز) وما بهمنا من هذا أن اليمن تخرج عن أرض الحجاز كما ذكر الامام الشافعي.

(19/432)


وحكى الحافظ في الفتح في كتاب الجهاد عن الجمهور أن الذى يمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، قال وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب لاتفاق الجميع، على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب قال وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد، وعن مالك يجوز دخولهم المسجدا لحرام للتجارة وقال الشافعي لا يدخلون أصلا إلا بإذن الامام لمصلحة المسلمين اه قال ابن عبد البر في الاستذكار ما لفظه، قال الشافعي جزيرة العرب التى أخرج عمر اليهود والنصارى منها، مكة والمدينة واليمامه ومخاليفها، فأما اليمن فليس من جزيرة العرب.
اه قال في البحر (مسألة) ولا يجوز إقرارهم في الحجاز إذا أوصى صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء: إخراجهم من جزيرة العرب، الخبر ونحوه، والمراد بجزيرة
العرب في هذه الاخبار مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها ووج والطائف وما ينسب اليهما، وسمى الحجاز حجازا لحجزه بين نجد وتهامة.
ثم قال في حديث أبى عبيدة (أجلى عمر أهل الذمة من الحجاز فلحق بعضهم بالشام وبعضهم بالكوفة) وأجلى أبو بكر قوما فلحقوا بخيبر، فاقتضى أن المراد الحجاز لا غير اه.
وباقى كلام المؤلف في الفصل سبق بيانه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يمكن مشرك من دخول الحرم لقوله عز وجل (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بعد عامهم هذا) والمسجد الحرام عبارة عن الحرم، والدليل عليه قوله عز وجل (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى المسجد الاقصى) وأراد به مكة، لانه أسرى به من منزل خديجة.
وروى عطاء إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يدخل مشرك المسجد الحرام، فإن جاء رسولا خرج إليه من يسمع رسالته، وإن جاء لحمل ميرة خرج إليه من يشترى منه، وإن جاء ليسلم خرج إليه من يسمع كلامه، وإن دخل ومرض فيه لم يترك فيه، وإن مات لم يدفن فيه، وإن دفن فيه نبش وأخرج منه

(19/433)


للآية، ولانه إذا لم يجز دخوله في حياته فلان لا يجوز دفن جيفته فيه أولى، وإن تقطع ترك، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يأمر بنقل من مات فيه منهم ودفن قبل الفتح، وإن دخل بغير إذن فإن كان عالما بتحريمه عزر، وان كان جاهلا أعلم فإن عاد عزر، وان أذن له في الدخول بمال لم يجز فإن فعل استحق عليه المسمى لانه حصل له المعوض ولا يستحق عوض المثل، وان كان فاسدا، لانه لا أجرة لمثله، والحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على تسعة أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على عرفة على
سبعة أميال، ومن طريق جدة على عشرة أميال
(فصل)
وأما دخول ما سوى المسجد الحرام من المساجد فإنه يمنع منه من غير اذن، لما روى عياض الاشعري أن أبا موسى وفد إلى عمر ومعه نصراني فأعجب عمر خطه فقال قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتابا، فقال انه لا يدخل المسجد، فقال لم؟ أجنب هو؟ قال لا، هو نصراني، قال فانتهره عمر، فإن دخل من غير اذن عزر لما روت أم غراب قالت: رأيت عليا كرم الله وجهه على المنبر وبصر بمجوسى فنزل فضربه وأخرجه من باب كندة، فإن استأذن في الدخول، فإن كان لنوم أو أكل لم يأذن له، لانه يرى ابتذاله تدينا فلا نحميه من أقذاره، وان كان لسماع قرآن أو علم فإن كان ممن يرجى إسلامه أذن له لقوله عز وجل (وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) ولانه ربما كان ذلك سببا لاسلامه.
وقد رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ أخته تقرأ طه فأسلم، وان كان جنبا ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يمنع من المقام فيه، لانه إذا منع المسلم إذا كان جنبا فلان يمنع المشرك أولى.

(والثانى)
أنه لا يمنع لان المسلم يعتقد تعظيمه فمنع، والمشرك لا يعتقد تعظيمه فلم يمنع، وان وفد قوم من الكفار ولم يكن للامام موضع ينزلهم فيه جاز أن ينزلهم في المسجد لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل سبى بنى قريضة والنضير في مسجد المدينة وربط ثمامة بن أثال في المسجد

(19/434)


(الشرح) حديث عطاء لم أعثر على رواية هذا الحديث عن عطاء، والذى رواه البخاري أن أبا هريرة رضى الله عنه قال بعثنى أبو بكر رضى الله عنه فيمن
يؤذن يوم النحر بِمِنًى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وأن لا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الاكبر يوم النحر، وإنما قيل الحج الاكبر من أجل قول الناس الحج الاصغر، فنبذ أبو بكر رضى الله عنه إلى الناس في ذلك العام فلم يحج في العام القابل الذى حج فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع مشرك، وأنزل الله في العام الذى نبذ فيه أبو بكر رضى الله عنه إلى المشركين (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس إلى بعد عامهم هذا) وروى البيهقى عن على قال (أرسلت إلى أهل مكة بأربع لا يطوفن بالكعبة عريان، ولا يقربن بالمسجد الحرام مشرك بعد عامه، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان له عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد فعهده إلى مدته، ومن طريق آخر عن زيد بن يتبع قال، سألنا عليا رضى الله عنه بأى شئ بعثت قال بأربع فذكر هن إلا أنه قال لا يجتمع مسلم ومشرك بعد عامهم هذا في الحج، وزاد ومن لم يكن له عهد فأربعة أشهر أثر عياض سبق للامام النووي تخريجه في أوائل أجزاء المجموع، رواه ابن أبى شيبة والبيهقي أثر على رواه ابن أبى شيبة والبيهقي أثر عمر رواه ابن أبى اسحاق وابن هشام في السيرة والبيهقي حديث أنزل سبى بنى قريظة والنضير في مسجد المدينة سبق تخريجه وروى الطبراني والبيهقي أن وفد ثقيف قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقوبهم فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا (أي لا يصلوا) ولا يستعمل عليهم من غيرهم، فقال لا تحشروا ولا تعشروا ولا تجبوا ولا يستعمل عليكم من غيركم، ولا خير في دين ليس فيه ركوع)
قلت وفى سنده محمد بن اسحاق وهو مدلس ولكنه عنعنه حديث (وربط ثمامة بن أثال في المسجد) أخرجه البخاري عن

(19/435)


أبى هريرة بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فجاءت برجل من بنى حنيفة يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ من سوارى المسجد فخرج إلَيْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نجل قريب من المسجد فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله) اللغة: وبصر بمجوسى، أي نظر وقيل علم، قال أبو عبيد في قوله تعالى (بصرت بما لم يبصروا به) نظرت من البصر وقال قتادة فطنت من البصيرة وقال مقاتل علمت.
قال الهروي: يقال بصر يبصر إذا صار عليما بالشئ فإذا نظرت قلت أبصرت أبصر التجبية: أن يقوم الانسان قيام الراكع، وقيل السجود، والمراد بقولهم انهم لا يصلون، من النهاية لابن الاثير النجل بفتح فسكون الماء النابع من الارض وقد اختلف الفقهاء في دخول غير المشركين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الاسلام، فقال البغوي في تفسيره (أراد بالمشركين عبدة الاصنام دون غيرهم من أصناف الكفار، وقيل أراد جميع أصناف الكفار عبدة الاصنام وغيرهم من اليهود والنصارى.
ثم قاد والمراد من منعهم من دخول الحرم لانهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد، ثم قال، قال العلماء وجملة بلاد الاسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام
(أحدهما)
الحرم فلا يجوز لكافر أن بدخله بحال، ذميا كان أو مستأمنا لظاهر الآية، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك، فلو جاء رسول من دار الكفر
والامام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
القسم الثاني من بلاد الاسلام الحجاز (وحددها بما سبق الاشارة إليه في الفصل قبله) ثم قال فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالاذن، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام، وروى الاحاديث في صدر الفصل.

(19/436)


القسم الثالث سائر بلاد الاسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن المسلم وقوله (وأما دخول ما سوى المسجد) قلت ويجوز دخول الكافر المسجد بإذن المسلم لقول عطية بن شعبان قدم وفد ثقيف عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان فضرب لهم قبة في المسجد، فلما اسلموا صاموا معه، أخرجه الطبراني، ولحديث أبى هريرة الذى أسروا فيه ثمامة بن أثال، ولهذا قالت الشافعية يجوز دخول الكافر ولو غير كتابي المسجد بإذن المسلم إلا مسجد مكة وحرمها.
قال النووي في المجموع، قال أصحابنا لا يكن كَافِرٌ مِنْ دُخُولِ حَرَمِ مَكَّةَ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فيجوز أن يدخل كل مسجد ويبيت فيه بِإِذْنِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْنَعُ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَلَوْ كَانَ الْكَافِرُ جُنُبًا فَهَلْ يُمَكَّنُ مِنْ اللَّبْثِ في المسجد فيه وجهان أصحهما يمكن اه وقالت الحنفية ومجاهد يجوز دخول الكتابى دون غيره لِحَدِيثِ جَابِرٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لايدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم، أخرجه أحمد بسند جيد، وهذا هو الظاهر
وقالت المالكية (لا يجوز للكافر دخول مسجد الحل والحرم إلا لحاجة) قال العلامة الصاوى يمنع دخول الكافر المسجد وإن أذن له مسلم إلا لضرورة عمل، ومنها قلة أجرته عن المسلم على الظاهر.
اه وقالت الحنبلية (لا يجوز لكافر دخول الحرم مطلقا ولا مسجد الحل إلا لحاجة) قال في كشاف القناع (ولا يجوز لكافر دخول مسجد الحل ولو بإذن مسلم لقوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله..) ويجوز دخول مساجد الحل للذمي والمعاهد والمستأمن إذا استؤجر لعمارتها لانه لمصلحتها اه وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة والمزنى (لا يجوز دخوله مطلقا)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يمكن حربى من دخول دار الاسلام من غير حاجة، لانه لا يؤمن كيده، ولعله للتجسيس أو شراء سلاح، فإن استأذن في الدخول

(19/437)


لاداء رسالة أو عقد ذمة أو هدنة أو حمل ميرة وللمسلمين إليها حاجة جاز الاذن له من غير عوض، لان في ذلك مصلحة للمسلمين، وإذا انقضت حاجته لم يمكن من المقام، فإن دخل من غير ذمة ولا أمان فالامام أن يختار ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء.
والدليل عليه ما روى ابن عباس في قتح مكة ومجئ أبى سفيان مع العباس إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عمر دخل وقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه من غير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه، فقال العباس يا رسول الله إنى قد أجرته، ولانه حربى لاأمان له فكان حكمه ما ذكرناه كالاسير، وإن دخل وادعى أنه دخل لرسالة قبل قوله، لانه يتعذر إقامة البينة على الرسالة، وإن ادعى أنه دخل بأمان مسلم ففيه وجهان

(أحدهما)
أنه لا يقبل قوله لانه لا يتعذر إقامة البينة على الامان
(والثانى)
أنه يقبل قوله وهو ظاهر المذهب، لان الاظهر أنه لا يدخل من غير أمان، وإن أراد الدخول لتجارة ولا حاجة للمسلمين إليها لم يؤذن له إلا بمال يؤخذ من تجارته، لان عمر رضى الله عنه أخذ العشر من أهل الحرب، ويتسحب أن لا ينقص عن ذلك اقتداء بعمر رضى الله، فان نقص باجتهاده جاز لان أخذه باجتهاده فكان تقديره إليه ولا يؤخذ ما يشترط على الذمي في دخول الحجاز في السنة إلا مرة، كما لا تؤخذ الجزية منه في السنة إلامرة، وما يؤخذ من الحربى في دخول دار الاسلام فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يؤخذ منه في كل سنة مرة كأهل الذمة في الحجاز
(والثانى)
أنه يؤخذ منه في كل مرة يدخل، لان الذمي تحت يد الامام، ولا يفوت ما شرط عليه بالتأخير، والحربي يرجع إلى دار الحرب، فإذا لم يؤخذ منه فات ما شرط عليه، وإن شرط أن يؤخذ من تجارته أخذ منه، باع أو لم يبع، وإن شرط أن يؤخذ من ثمن تجارته فكسد المتاع ولم يبع لم يؤخذ منه لانه لم يحصل الثمن، وان دخل الذمي الحجاز أو الحربى دار الاسلام ولم يشرط عليه في دخوله مال لم يؤخذ منه شئ، ومن أصحابنا من قال يؤخذ من تجارة الذمي نصف العشر ومن تجارة الحربى العشر، لانه قد تقرر هذا في الشرع

(19/438)


بفعل عمر رضى الله عنه، فحمل مطلق العقد عليه، والمذهب الاول لانه أمان من غير شرط المال فلم يستحق به مال كالهدنة.
(الشرح) حديث ابن عباس سهق تخريجه أثر عمر سبق تخريجه (قلت) سبق إيضاح هذا الفصل ضمن ما سبق بيانه من الفصول

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب الهدنة

(الشرح) أصل الهدنة السكون، يقال هدن يهدن هدونا إذا سكن، وهدنة أي سكنة يتعدى ولا يتعدى، وهادنته صالحته والاسم منها الهدنة، والموادعة بمعنى المهادنة ومعناها المتاركة

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

لَا يَجُوزُ عقد الهدنة لاقليم أو صقع عظيم إلا للامام أو لمن فوض إليه الامام لانه أو جعل ذلك إلى كل واحد لم يؤمن أن يهادن الرجل أهل إقليم، والمصلحة في قتالهم فيعظم الضرر فلم يجز إلا للامام أو للنائب عنه، فإن كان الامام مستظهرا نظرت فإن لم يكن في الهدنة مصلحة لم يحز عقدها لقوله عز وجل (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الا علون والله معكم) وإن كان فيها مصلحة بأن يرجو إسلامهم أو بذل الجزية أو معاونتهم على قتال غيرهم جاز أن يهادن أربعة أشهر لقوله عز وجل (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر) ولا يجوز أن يهادنهم سنة فما زاد لانها مدة يجب فيها الجزية فلا يجوز إقرارهم فيها من غير جزيه، وهل يجوز فيما زاد على أربعة أشهر وما دون سنة فيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يجوز لان الله تعالى أمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية لقوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا

(19/439)


يحرمون ما حرم الله ورسوله) وأمر بقتال عبدة الاوثان إلى أن يؤمنوا، لقوله عز وجل (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ثم اذن في الهدنة في أربعة أشهر وبقى ما زاد على ظاهر الآيتين.
والقول الثاني أنه يجوز لانها مدة تقصر عن مدة الجرية فجاز فيها عقد الهدنة كأربعة أشهر.
وإن كان الامام غير مستظهر بأن كان في المسلمين ضعف وقلة، وفى المشركين قوة وكثرة.
أو كان الامام مستظهرا لكن العدو على بعد ويحتاج في قصدهم إلى مؤنة مجحفة جاز عقد الهدنة إلى مدة تدعو إليها الحاجة، وأكثرها عشر سنين، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هادن قريشا في الحديبية عشر سنين، ولايجوز فيما زاد على ذلك لان الاصل وجوب الجهاد إلا فيما وردت فيه الرخصة، وهو عشر سنين وبقى ما زاد على الاصل وإن قد على عشر سنين وانقضت والحاجة باقية استأنف العقد فيما تدعو الحاجة إليه، وإن عقد على أكثر من عشر سنين بطل فيما زاد على الشعر، وفى العشر قولان بناء على تفريق الصفقة في البيع، وإن دعت الحاجة إلى خمس سنين لم تجز الزيادة عليها، فإن عقد على ما زاد على الخمس سنين بطل العقد فيما زاد، وفى الخمس قولان.
فإن عقد الهدنة مطلقا من غير مدة لم يصح لان إطلاقه يقتضى التأبيد وذلك لا يجوز، وإن هادن على أن له أن ينقض إذا شاء جاز لان النبي صلى الله عليه وسلم وادع يهود خيبر وقال: أقركم ما أقركم الله.
وان قال غير النبي صلى الله عليه وسلم هادنتكم إلى أن يشاء الله تعالى أو أقررتكم ما أقركم الله تعالى لم يجز لانه لا طريق له إلى معرفة ما عند الله تعالى، ويخالف الرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يعلم ما عند الله تعالى بالوحى، وان هادنهم ما شاء فلان وهو رجل مسلم أمين عالم له رأى جاز، فإن شاء فلان أن ينقض نقض.
وان قال هادنتكم ما شئتم لم يصح لانه جعل الكفار محكمين على المسلمين، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الاسلام يعلو ولا يعلى)
ويجوز عقد الهدنة على مال يؤخذ منهم، لان في ذلك مصلحة للمسلمين،

(19/440)


ولا يجوز بمال يؤدى إليهم من غير ضرورة لان في ذلك الحاق صغار بالاسلام فلم يجز من غير ضرورة، فإن دعت إلى ذلك ضرورة بأن أحاط الكفار بالمسلمين وخافوا الاصطلام، أو أسروا رجلا من المسلمين وخيف تعذيبه جاز بذل المال لاستنقاذه منهم لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الحرث بن عمرو الغطفانى رئيس غطفان قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ جعلت لى شطر ثمار المدينة والا ملانها عليك خيلا ورجلا؟ فقال النبي صلى الله عليه حتى أشاور السعديين يعنى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسعد بن زيارة فقالوا ان كان هذا بأمر من السماء فتسليم لامر الله عزوجل، وان كان برأيك فرأينا تبع لرأيك، وان لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك فو الهل ما كنا نعطيهم في الجاهلية ثمرة الاشراء أو قراء، وكيف وقد أعزنا الله بك، فلم يعطهم شيئا، فلو لم يجز عند الضرورة لما رجع إلى الانصار ليدفعوه ان رأوا ذلك، ولان ما يخاف من الاصطلام وتعذيب الاسير أعظم في الضرورة من بذل المال فجاز دفع أعظم الضررين بأخذهما وهل يجب بذل المال؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في وجوب الدفع عن نفسه، وقد بيناه في الصول، فإذا بذل لهم على ذلك مال لم يملكوه لانه مال مأخوذ بغير حق فلم يملكوه كالمأخوذ بالقهر.
(الشرح) حديث (أنه صلى الله عليه وسلم هادن قريشا) أخرجه البخاري مطولا في كتاب الشروط عن الزهري، وأخرجها الحاكم في الاكيل من طريق أبو الأسود عن عروة منقطعة، وأخرجها بن عائذ في المغازى، ورواه ابن اسحاق في الدلائل عن موسى بن عقبة، رواه عاصم العمرى عن عبد الله بن دينار عن ابن عرم أنها كانت أربع سنين، وعاصم ضعفه البخاري وغيره، قال
الحافظ وصححه من طريق الحاكم في التخليص.
حديث (وادع يهود خيبر..) أخرجه البخاري حديث (الاسلام يعلو..) الدارقطني وعلقه البخاري والطبراني في الصغير واسناده ضعيف جدا حديث أبى هريرة أخرجه الطبراني، وفيه حسان بن الحارث ضعيف.

(19/441)


ورواه ابن إسحاق في المغازى عن الزهري قال: لما اشتد على الناس البلاء بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عيينة بن حصن بن وحذيفة بن بدر إلى الحارث ابن أبى عوف المزني وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما الصلح ولم تقع الشهادة، فلما أراد فلما أراد ذلك بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشار هما فيه فذكره مطولا اللغة (مجحفة) أي تذهب بالمال وقد ذكر قوله (وخافوا الاصطلام هو الاستئصال بالقتل وغيره والطاء بدل من التاء وأصله استئصال قطع الاذن يقال ظليم مصطلم وهو خلقة فيه، والظليم ذكر النعام والحق أن الامام وأهل الشورى معه هم الذين يفوضون الامام في عقد الهدنة أو لمن يفوضه، إلا الحنفية فإنهم قالوا.
ولا يشترط إذن الامام بالموادعة فإذا وادعهم الامام أو فريق من المسلمين من غير إذن الامام جازت موادعتهم لان كون عقد الموادعة مصلحة للمسلمين وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره في (براءة من الله ورسوله..) اختلف المفسرون ههنا اختلافا كثيرا فقال قائلون هذه الآية لذوى العهود المطلقة غير المؤقتة أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته فهما كان لقوله تعالى (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم)
وللحديث (ومن كان بين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته) وهذا أحسن الاقوال وأقواها، وقد اختاره ابن جرير رحمه الله، وروى عن الكلبى ومحمد بن كعب القرظى وغير واحد..اه وقال الشوكاني في النيل: وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل نعم على ما دلت عليه قصة أبى جندل وأبى بصير، وقيل لا، وإن الذى وقع في القصة منسوخ وإن ناسخ حديث (أنا برئ من كل مسلم بين مشركين) وهو قول الحنفية، وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبى فلا يردان.
وقال الشافعية: جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب، وباقى أقوال المصنف سبق شرحها فيما سبق

(19/442)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات، لان النبي صلى الله عليه وسلم عقد الصلح بالحديبية، فجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط مسلمة، فجاء أخواها فطلباها فأنزل الله عز وجل (فلا ترجعوهن إلى الكفار) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّ اللَّهَ تعالى منع من الصلح في النساء) ولانه لا يؤمن أن تزوج أن تزوج بمشرك فيصيبها، ولا يؤمن أن تفتن في دينها لنقصان عقلها ولا يجوز عقدها على رد من لا عشيرة له من الرجال تمنع عنه، لانه لا يأمن على نفسه في اظهار دينه فيما بينهم، ويجوز عقدها على رد من له عشيرة تمنع عنه لانه يأمن على نفسه في اظهار دينه، ولايجوز عقدها مطلقا على رد من جاء من الرجال مسلما، لانه يدخل فيه من يجوز رده ومن لا يجوز
(فصل)
وان عقدت الهدنة على ما لا يجوز مما ذكرناه أو عقدت الذمة
على ما لا يجوز من النقصان عن دينار في الجزية والمقام في الحجاز أو الدخول إلى الحرم أو بناء كنيسة في دار الاسلام أو ترك الغيار أو اظهار الخمر والخنزير في دار الاسلام وجب نقضه، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رد) ولما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خطب الناس وقال: ردوا الجهالات إلى السنة، ولانه عقد على محرم فلم يجز الاقرار عليه كالبيع بشرط باطل أو عوض محرم.

(فصل)
وان عقدت الهدنة على ما يجوز إلى مدة وجب الوفاء بها إلى أن تنقضي المدة ما أقاموا على العهد لقوله عز وجل (أوفوا بالعقود) ولقوله تعالى (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم الا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ان الله يحب المتقين) ولقوله عز وجل (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) وروى سليمان بن عامر قال: كان بين معاوية وبين الروم هدنة فسار معاوية في أرضهم كأنه يريد أن يغير عليهم، فقال له عمرو بن عبسة سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ

(19/443)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ كان بينه وبين قوم عهد فلا يحل عقدة ولا يضدها حتى يمضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء، قال فانصرف معاوية ذلك العام، ولان الهدنة عقدت لمصلحة المسلمين فإذا لم يف لهم عند قدرتنا عليهم لم يفوا لنا عند قدرتهم علينا فيؤدى ذلك إلى الاضرار بالمسلمين وإن مات الامام الذى عقد الهدنة وولى غيره لزمه إمضاؤه لما روى أن نصارى نجران أتوا عليا كرم الله وجهه وقالوا إن الكتاب كان بيديك والشفاعة اليك وإن عمر أجلانا من أرضنا فردنا إليها، فقال على إن عمر كان رشيدا في أمره وإنى لا أغير أمرا فعله عمر رضى الله عنه.
(الشرح) حديث عقد صلح الحديبية..) أخرجه البخاري من حديث المسور وفيه (فجاءت أم كلثوم..) حديث (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رد) متفق عليه أثر (ردوا الجهالات إلى السنة..) أخرجه البيهقى في السنن أثر (أن نصارى نجران..) أخرجه البيهقى في السنن اللغة: قوله (ولم يظاهروا عليكم أحدا) أي لم يعاونوا، والمظاهرة المعاونة والظهير العون، قال الله تعالى (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب) قوله (أو ينبذ إليهم على سواء) قال المفسرون في تفسير قوله تعالى (فانبذ إليهم على سواء) أي اطرح إليهم عهدهم حتى تكون أنت وهم في العلم سواء، وأصله الوسط وحقيقته العدل، ومنه (في سواء الجحيم) أي وسطه قوله (وأن عمر أجلانا من أرضنا) أي أخرجنا منها، قال الله تعالى (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) وهو الخروج عن الاوطان، تقول العرب إما حرب مجلية أو سلم مخزية، معناه إما حرب أو دمار وخروج عن الديار، وإما صلح وقرار على صغار.
قوله (زهدوها في الاسلام) أي قللوا رغبتها فيه، زهدت في الشئ وعن الشئ لم أرغب فيه.

(19/444)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب على الامام منع من يقصدهم من المسلمين ومن معهم من أهل الذمة، لان الهدنة عقدت على الكف عنهم، ولا يجب عليه منع من قصدهم من أهل الحرب ولا منع بعضهم من بعض لان الهدنة لم تعقد عل حفظهم وإنما عقدت على تركهم، بخلاف أهل الذمة فإن أهل الذمة عقدت على حفظهم
فوجب منع كل من يقصدهم، ويجب على المسلمين ومن معهم من أهل الذمة ضمان أنفسهم وأموالهم والتعزير بقذفهم، لان الهدنة تقتضي الكف عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم فوجب ضمان ما يجب في ذلك.

(فصل)
إذا جاءت منهم حرة بالغة عاقلة مسلمة مهاجرة إلى بلد فيه الامام أو نائب عنه ولها زوج مقيم على الشرك وقد دخل بها وسلم إليها مهرا حلالا، فجاء زوجها في طلبها فهل يجب رد ما سلم إليها من المهر؟ فيه قولان
(أحدهما)
يجب لقوله تعالى عز وجل (فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا) ولان البضع مقوم حيل بينه وبين مالكه فوجب رد بدله، كما لو أخذ منهم مالا وتعذر رده والقول الثاني وهو الصحيح، وهو اختيار المزني أنه لا يجب، لان البضع ليس بمال والامان لا يدخل فيه الا المال، ولهذا لو أمن مشركا لم تدخل امرأته في الامان ولانه لو ضمن البضع الحيلولة لضمن بمهر المثل كما يضمن المال عند تعذر الرد بالمثل بقيمته، ولا خلاف أنه لا يضمن البضع بمهر المثل فلم يضمن بالمسمى، وأما الآية فإنها نزلت في صلح رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ قبل تحريم رد النساء، وقد منع الله تعالى من ذلك بقوله تعالى (فلا ترجعوهن إلى الكفار) فسقط ضمان المهر.
فإن قلنا لا يجب رد المهر فلا تفريع، وان قلنا انه يجب وعليه التفريع وجب ذلك في خمس الخمس، لانه مال يجب على سبيل المصلحة فوجب في خمس الخمس، وان لم يكن قد دفع إليها المهر لم يجب له المهر، لقوله تعالى (وآتوهم ما انفقوا) وهذا لم ينفق.

(19/445)


وإن دفع إليه مهرا حراما كالخمر والخنزير لم يجب له شئ لانه لا قيمة لما دفع إليها فصار كما لو لم يدفع إليها شيئا، فإن دفع إليها بعض مهرها لم يجب له أكثر منه لان الوجوب يتعلق بالمدفوع فلم يجب إلا ما دفع.
وإن جاءت إلى بلد ليس فيها إمام ولا نائب عنه لم يجب رد المهر، لانه يجب في سهم المصالح، وذلك إلى الامام أو النائب عنه فلم يطالب به غيره.

(فصل)
وإن جاءت مسلمة عاقلة ثم جنت وجب رد المهر لان الحيلولة حصلت بالاسلام، وإن جاءت مجنونة ووصفت الاسلام ولم يعلم هل وصفته في حال عقلها أو في حال جنونها لم ترد إليه لجواز أن يكون وصفته في حال عقلها فإذا ردت إليهم خدعوها وزدهوها في الاسلام فلم يجز ردها احتياطا للاسلام وإن أفاقت ووصفت الكفر وقالت إنها لم تزل كافرة ردت إلى زوجها، وإن وصفت الاسلام لم ترد، فإذا جاء الزوج في طلبها دفع إليه مهرها لانه حيل بينهما بالاسلام، وإن طلب مهرها قبل الافاقة لم يدفع إليه لان المهر يجب بالحيلولة، وذلك لا يتحقق قبل الافاقة لجواز ان تفيق وتصف الكفر فترد إليه فلم يجب مع الشك.

(فصل)
فإن جاءت صبية ووصفت الاسلام لم ترد إليهم، وان لم يحكم بإسلامها، لانا نرجو اسلامها، فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الاسلام فإن بلغت ووصفت الكفر قرعت، فإن أقامت على الكفر ردت إلى زوجها فإن وصفت الاسلام دفع إلى زوجها المهر لانه تحقق المنع بالاسلام، فإن جاء يطلب مهرها قبل البلوغ ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يدفع إليه مهرها لانها منعت منه بوصف الاسلام فهى كالبالغة
(والثانى)
أنه لا يدفع لان الحيلولة لا تتحق قبل البلوغ لجواز أن تبلغ وتصف الكفر فنرد إليه فلم يجب المهر كما قلنا في المجنونة

(فصل)
وان جاءت مسلمة ثم ارتدت لم ترد إليهم لانه يجب قتلها، وان جاء زوجها يطلب مهرها، فإن كان بعد القتل لم يجب دفع المهر لان الحيلولة حصلت بالقتل، وان كان قبل القتل ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجب لان المنع وجب بحكم الاسلام.

(19/446)


(والثانى)
لا يجب لان المنع وجب لاقامة الحد لا بالاسلام.

(فصل)
وان جاءت مسلمة ثم جاء زوجها ومات أحدهما، فإن كان الموت بعد المطالبة بها وجب المهر، لان الحيلولة حصلت بالاسلام، وان كان قبل المطالبة لم يجب لان الحيلولة حصلت بالموت
(فصل)
فإن أسلمت ثم طلقها الزوج، فإن كان الطلاق بائنا فهو كالموت وقد بيناه وان كان رجعيا لم يجب دفع المهر لانه تركها برضاه، وان راجعها ثم طالب بها وجب دفع المهر لاه حيل بينهما بالاسلام، وان جاءت مسلمة ثم أسلم الزوج، فإن أسلم قبل انقضاء العدة لم يجب المهر لاجتماعهما على النكاح، وان أسلم بعد انقضاء العدة فإن كان قد طالب ابها قبل انقضاء العدة وجب المهر لانه وجب قبل البينونة، وان طالب بعد انقضاء العدة لم يجب لان الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين
(فصل)
وان هاجرت منهم أمة وجاءت إلى بلد فيه الامام نظرت فإن فارقتهم وهى مشركة ثم أسلمت صارت حرة لانا بينا أن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض فملكت نفسها بالقهر، فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد عليه لانها أجنبية منه لاحق له في رقبتها، ولانها مسلمة فلا يحوز ردها إلى مشرك وان طلب قيمتها فقد ذكر الشيخ أبو حامد الاسفراينى رحمه الله فيها قولين كالحرة إذا هاجرت وجاء الزوج يطلب مهرها، والصحيح أنه لا تجب قيمتها
قولا واحدا، وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب الطبري رحمه الله، لان الحيلولة حصلت بالقهر قبل الاسلام وتخالف الحرة فإنها منعت بالاسلام والامة منعت بالملك وقد زال الملك فيها قبل الاسلام وان أسلمت وهى عندهم ثم هاجرت لم تصر حرة لانهم في أمان منا وأموالهم محظورة علينا فلم يزل الملك فيها بالهجرة، فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد إليه لانها مسلمة فلم يجز ردها إلى مشرك، وإن طلب قيمتها وجب دفعها إليه كما لو غصب منهم مال وتلف.
وان كانت الامة مزوحة من حر فجاء زوجها في طلبها لم ترد إليه وان طلب مهرها فعلى القولين في الحرة، وان كانت مزوجة من عبد فعلى القولين أيضا،

(19/447)


إلا أنه لا يجب دفع المهر إلا أن يحضر الزوج فيطالب بها لان البضع له فلا يملك فالمولى المطالبة به ويحضر المولى ويطالب بالمهر، لان المهر له فلا يملك الزوج المطالبة به
(فصل)
وإن هاجر منهم رجل مسلم فإن كان له عشيرة تمنع عنه جاز له العود إليهم، والافضل أن لا يعود، وقد بينا ذلك في أول السير، فإن عقد الهدنة على رده واختار العود لم يمنع، لان النبي صلى الله عليه وسلم أذن لابي جندل وأبى بصير في العود وإن اختار المقام في دار الاسلام لم يمنع لانه لا يجوز إجبار المسلم على الانتقال إلى دار الشرك، وإن جاء من يطلبه قلنا للمطالب إن قدرت على رده لم نمنعك منه، وإن لم تقدر لم نعنك عليه، ونقول للمطلوب في السر إن رجعت إليهم ثم قدرت أن تهرب منهم وترجع إلى دار الاسلام كان أَفْضَلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بصير فهرب منهم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال
قد وفيت لهم ونجاني الله منهم.
(الشرح) حديث (اذن لابي جندل وأبى بصير في العود) أخرجه البخاري عن عروة بن الزبير في حديث طويل في صلح الحديبية، وفيه ثم رجع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ فجاء أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوني في طلبه رجلين فقالوا العهد الذى جعله لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون تمرا لهم، فقال أبو بصير لاحد الرجلين والله سيفك هذا يا فلان جيد، فاستله الآخر فقال أجل إنه جيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير أرنى أنصر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قتل صاحبي والله وإنى لمقتول، فجاء أبو بصير فقال يا نبى الله قد أوفى الله ذمتك رددتني إليهم ثم أنجانى اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى

(19/448)


سيف البحر، قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهل فلحق بأبى بصير) وأخرجه أحمد وفيه: يا أبا جندل أصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا) وفى رواية البخاري عن مروان والمسور (فرد يومئذ أبا جند إلى أبيه سهيل) حديث (رد أبى بصير..) جزء من الحديث السابق الاشارة إليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ومن أتلف منهم على مسلم مالا وجب عليه ضمانه وإن قتله وجب عليه القصاص، وإن قذفه وجب عليه الحد لان الهدنة تقتضي أمان المسلمين في
النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب في ذلك، ومن شرب منهم الخمر أو زنى لم يجب عليه الحد لانه حق لله تعالى، ولم يلتزم بالهدنة حقوق الله تعالى، فإن سرق مالا لمسلم ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه لا يجب عليه القطع لانه حد خالص لله تعالى فلم يجب عليه كحد الشرب والزنا.

(والثانى)
أنه يجب عليه، لانه حد يجب لصيانة حق الآدمى، فوجب عليه كحد القذف.
(الشرح) قوله (والمال والعرض) (الامانم في العرض) هو أن لا يذكر سلفه وآباءه وأن لا يذكره نفسه بسوء وبما ينزل قدره ومحله
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا نقص أهل الهدنة عهدهم بقتال أو مظاهرة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال انقضت الهدنة لقوله عز وجل (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) فدل على أنهم إذا لم يستقيموا لنا لم نستقم لهم لقوله عز وجل (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) فدل على أنهم إن ظاهروا علينا أحدا لم نتم إليهم عهدهم، ولان الهدنة تقتضي الكف عنا فانتقضت بتركه ولا يفتقر تقضها إلى حكم الامام بنقضها لان

(19/449)


الحكم إما يحتاج إليه في أمر محتمل وما تظاهروا به لا يحتمل غير نقض العهد، وإن نقض بعضهم وسكت الباقون ولم ينكروا ما فعل الناقض انتقضت الهدنة في حق الجميع.
والدليل عليه أن ناقة صالح عليه السلام عقرها القدار العبزار بن سالف وأمسك عنها القوم فأخذهم الله تعالى جميعهم به، فقال الله عز وجل (فدمدم
عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها) ولان النبي صلى الله عليه وسلم وادع بنى قريظة وأعان بعضهم أبا سفيان بن حرب على حرب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الخندق، وقيل إن الذى أعان منهم ثلاثة: حى بن أخطب وأخوه وآخر معهم، فنقض النبي صلى الله عليه وسلم عهدم وغزاهم وقتل رجالهم وسبى دراريهم، ولان النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشا بالحديبية وكان بنو بكر حلفاء قريش وخزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاربت بنو بكر خزاعة، وأعان نفر من قريش بنى بكر على خزاعة، وأمسك سائر قريش، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نقضا لعهدم وسار إليهم حتى فتح مكة، ولانه لما كان عقد بعضهم الهدنة أمانا لمن عقد ولمن أمسك وجب أن يكون نقض بعضهم نقضا لمن نقض ولم أمسك.
وإن نقض بعضهم العهد وأنكر الباقون أو اعتزلوهم أو راسلوا إلى الامام بذلك انتقض عهد من نقض وصار حربا لنا بنقضه ولم ينتقض عهد من لم يرض لانه لم ينقض العهدو لا رضى بفعل من نقض، فإن كان من لم ينقض مختلطا بمن نقض أمر من لم ينقض بتسليم من نقض إن قدروا أو بالتميز عنهم، فإن لم يفعلوا أحد هذين مع القدرة عليه انتقضت هدنتهم، لانهم صاروا مظاهرين لاهل الحرب، وإن لم يقدروا على ذلك كان حكمهم حكم من أسره الكفار من المسلمين وقد بيناه في أول السير، وإن أسر الامام قوما منهم وادعو أنهم ممن لم ينقض العهد وأشكل عليه حالهم قبل قولهم، لانه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم.

(فصل)
وان ظهر مهم من يخاف معه الخيانة جاز للامام أن ينبذ إليهم عهدهم لقوله عز وجل (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله

(19/450)


لا يحب الخائنين) ولا تنتقض الهدنة إلا أن يحكم الامام بنقضها لقوله عز وجل (فانبذ إليهم على سواء) ولان نقضها لخوف الخيانة وذلك يفتقر إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم، وان خاف من أهل الذمة خيانة لم ينبذ إليهم، والفرق بينهم وبين عقد أهل الهدنة أن النظر في عقد الذمة وجب لهم، ولهذا إذا طلبوا عقد الذمة وجب العقد لهم فلم ينقض لخوف الخيانة والنظر في عقد الهدنة لنا، ولهذا لو طلبوا الهدنة كان النظر فيها الى الامام، وان رأى عقدها عقد وان لم يرد عقدها لم يعقد فكا النظر إليه في نقضها عند الخوف، ولان أهل الذمة في قبضته فإذا ظهرت منهم خيانة أمكن استداركها وأهل الهدنة خارجون عن قبضته فإذا ظهرت خيانتهم لم يمكن استداركها فجاز نقضها بالخوف، وان لم يظهر منهم ما يخاف معهم الخبانة لم يجز نقضها، لان الله تعالى أمر بنبذ العهد عند الخوف فدل على أنه لا يجوز مع عدم الخوف، ولان نقض الهدنة من غير سبب يبطل مقصود الهدنة ويمنع الكفار من الدخول فيها والسكون البها وإذا نقض الهدنة عند خوف الخيانة ولم يكن عليهم حق ردهم إلى مأمنهم، لانهم دخلوا على أمان فوجب ردهم إلى المأمن ان كان عليهم حق استوفاه منهم ثم ردهم إلى مأمنهم.
(الشرح) حديث (وادع بنى قريظة) أما الموادعة فرواها أبو داود في حديث طويل من طريق عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رجل من الصحابة وأم االنقض فرواه ابن إسحاق في المغازى كان الذين حزبوا الاحزاب نفرا من بنى النضير فكان منهم حيى بن أخطب وكنانة بن أبى الحقيق ونفر من بنى وائل فذكر الحديث قال: وخرج حى بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد صاحب عقد بنى قريظة، فلما سمع به أغلق حصنه وقال: انى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء وقد وادعنى ووادعته فدعني وارجع عنى فلم يزل به حتى فتح له، فقال له ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر بقريش ومن معها أنزلتها بردمه وجئتك
بغطفا على قادتها وسادتها أنزلتها إلى جانب أحد جئتك ببحر طام لا يرده شئ فقال جئتني والله بالذل فلم يزل به حتى وادعه فنقض العهدو أظهر البراءة مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(19/451)


وفى البخاري من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن يهود بنى النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى بنى النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربوا معه فقتل رجالهم وقسم أموالهم وأولادهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا.
حديث (ولن النبي صلى الله عليه وسلم هاذن قريشا..) مسلم في صحيحه عن أنس (أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم..) وأصل الحديث في صحيح الخبارى من حديث المسور.
اللغة: قوله (فدمدم عليهم ربهم) قال الجوهرى: دمدمت الشئ إذا ألصقته بالارض وطحطحته.
وقال العزيزي: أرجف أرضهم وحركها عليهم.
وقال الازهرى: أطبق عليهم والكل معناه أهلكهم، فسواها أي سواها بالارض قال الشاعر: فدمدموا بعد ما كانوا ذوى نعم
* وعيشة أسكنوا من بعدها الحفرا ولا خلاف فيما ذكره الصمنف.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا دخل الحربى دار الاسلام بأمان في تجارة أو رسالة ثبت له الامان في نفسه وماله ويكون حكمه في ضمان النفس، والمال وما يجب عليه من الضمان والحدود حكم المهادن لانه مثله في الامان فكان مثله فيما ذكرناه، وإن
عقد الامان ثم عاد إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة فهو على الامان في النفس والمال كالذمي إذا خرج إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة وان رجع إلى دار الحرب بنية المقام وترك ماله في دار الاسلام انتقص الامان في نفسه ولم ينتقض في ماله، فان قتل أو مات انتقل المال إلى وارثه وهل يغنم أم لا، فيه قولان.
قال في سير الواقدي: ونقله المزني أنه يغنم ماله وينتقل إلى بيت المال فيئا وقال في المكاتب: يرد إلى ورثته فذهب أكثر أصحابنا إلى أنها على قولين.

(19/452)


(أحدهما)
أنه يرد إلى ورثته وهو اختيار المزني، والدليل عليه أن المال لوارثة ومن ورث مالا ورثه بحقوقه، وهذا الامان من حقوق المال فوجب أن يورث والقول الثاني أنه يغنم وينتقل إلى بيت المال فيئا، ووجهه أنه لما مات انتقل ماله إلى وارثه وهو كافر لاأمان له في نفسه ولا في ماله فكان غنيمة.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى اختلاف حالين، فالذي قال يغنم إذا عقد الامان مطلقا ولم يشرط لوارثه والذى قال لا يغنم إذا عقد الامان لنفسه ولوارثه، وليس للشافعي رحمه الله ما يدل على هذه الطريقة، وأما إذا مات في في دار الاسلام فقد قال في سير الواقدي انه يرد إلى ورثته واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال هو أيضا على قولين كالتى قبلها، والشافعي نص على أحد القولين ومنهم منقال يرد إلى ارثة قولا واحدا، والفرق بين المسألتين أنه إذا مات في دار الاسلام مات على أمانه فكان ماله على الامان، وإذا مات في دار الحرب فقد مات بعد زوال أمانه فبطل في أحد القولين أمان ماله، فإن استرق زال ملكه عن المال بالاسترقاق، وهل يغنم؟ فيه قولان، أحدهما يغم فيئا لبيت المال والقول الثاني أنه موقوف لانه لا يمكن نقله إلى الوارث لانه حى ولا إلى مسترقه لانه مال له أمان، فإن عتق دفع المال إليه بملكه القديم، وان مات عبدا ففى ماله قولان حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ
(أَحَدُهُمَا)
انه يغنم فيئا ولايكون موروثا، لان العبد لا يورث
(والثانى)
أنه لوارثه لانه ملكه في حريته
(فصل)
فإن اقترض حربى من حربى مالاثم دخل الينا بأمان أو أسلم فقد قال أبو العباس عليه رد البدل على المقرض لانه أخذه على سبيل المعاوضة فلزمه البدل، كما لو تزوج حربية ثم أسلم، قال ويحتمل أنه لا يلزمه البدل، فإن الشافعي رحمه الله قال في النكاح: إذا تزوج حربى حربية ودخل بها وماتت ثم أسلم الزوج أو دخل الينا بأمان فجاء وارثها يطلب ميراثه من صداقها أنه لا شئ له لانه مال فائت في حال الكفر، قال والاول أصح ويكون تأويل المسألة أن الحربى تزوجها على غير مهر، فإن دخل مسلم دار الحرب بأمان فسرق منهم مالا أو اقترض منهم مالا وعاد إلى دار الاسلام ثم جاء صاحب المال إلى دار الاسلام بأمان وجب على المسلم رد ما سرق أو اقترض لان الامان يوجب ضمان المال في الجانبين فوجب رده

(19/453)


باب خراج السواد

(الشرح) الخراج الاتاوة، وهو ما يؤخذ من الارض أو من الكفار بسبب الامان قال الازهرى: الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفئ ويقع على الجزية، وسواد العراق قراها ومزارعها، سميت سوادا لكثرة حضرتها، والعرب تقول لكل أخضر أسود

قال المصنف رحمه الله تعالى:

سواد العراق ما بين عبادان إلى الموصل طولا، ومن القادسية إلى حلوان عرضا، قال الساجى هو إثنان وثلاثون ألف ألف جريب، وقال أبو عبيد هو ستة وثلاثون ألف ألف جريب، وفتحها عمر رضى الله عنه وقسمها بين الغانمين ثم سألهم أن يردوا ففعلوا، والدليل عليه ما روى قيس بن أبى حازم البجلى قال: كنا ربع الناس في القادسية فأعطانا عمر رضى الله عنه ربع السواد وأخذناها ثلاث سنين، ثم وفد جرير بن عبد الله البجلى إلى عمر رضى الله عنه بعد ذلك فقال: أما والله لولا أنى قاسم مسئول لكنتم على ما قسم لكم وأرى أن تردوا على المسلمين ففعلوا.
ولا تدخل في ذلك البصرة.
وإن كات داخلا في حد السواد، لانها كانت أرضا سبخة فأحياها عمرو بن العاص الثقفى وعتبة بن غزوان بعد الفتح الا مواضع من شرقي دخلتها تسميها أهل البصرة الفرات، ومن غربي دخلتها نهر يعرف بنهر المرة.
واختلف أصحابنا فيما فعل عمر رضى الله عنه فيما فتح من أرض السواد فقال أبو العباس وأبو إسحاق: باعها من أهلها وما يؤخذ من الخراج ثمن، والدليل عليه أن من لدن عمر إلى يومنا هذا تباع وتبتاع من غير انكار.
وقال أبو سعيد الاصطخرى وقفها عمر رضى الله عنه على المسلمين فلا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا هبتها ولارهنها، وانما تنقل من يد إلى يدوما يؤخذ من الخراج فهو أجرة وعليه نص في سير الواقدي، والدليل عليه ما روى بكير بن عامر عن عامر قال اشترى عقبة ابن فرقد أرضا من أرض الخراج، فأتى عمر فأخبره، فقال ممن اشتريتها؟ قال من أهلها، قال فهؤلاء أهلها المسلمون أبعتموه شيئا؟ قالوا لا، قال فاذهب فاطلب مالك، فإذا قلنا انه وقف فهل تدخل المنازل في الوقف؟ فيه

(19/454)


وجهان
(أحدهما)
أن الجميع وقف
(والثانى)
أنه لايدخل في الوقف غير المزارع، لانا لو قلنا ان المنازل دخلت في الوقف أدى إلى خرابها، وأما الثمار فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجوز وعلى الامام أن يأخذها ويبيعها ويصرف ثمنها في مصالح المسلمين والدليل عليه
ما روى الساجى في كتابه عن أبى الوليد الطيالسي أنه قال: أدركت الناس بالبصرة ويحمل إليهم الثمر من الفرات فيؤتى به ويطرح على حافة الشط ويلقى عليه الحشيش ولا يطير ولا يشترى منه الا أعرابي أو من يشتريه فينبذه، وما كان الناس يقدمون على شرائه.
والوجه الثاني أنه يجوز لمن في يده الارض الانتفاع بثمرتها لان الحاجة تدعو إليه فجاز كما تجوز المساقاة والمضاربة على جزء مجهول
(فصل)
ويؤخذ الخراج من كل جريب شعير درهمان، ومن كل جريب حنطة أربعة دراهم، ومن كل جريب شجر وقصب وهو الرطبة ستة دراهم.
واختلف أصحابنا في خراج النخل الكرم، فمنهم من قال يؤخذ من كل جريب نخل عشرة دراهم، ومن كل جريب كرم ثمانية دراهم، لما روى مجاهد عن الشعبى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعث عثمان بن حنيف فجعل على جريب الشعير درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشجر والقضب ستة دراهم وعلى جريب الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب النخل عشرة دراهم وعلى جريب الزيتون اثنى عشر، ومنهم من قال يجب على جريب الكرم عشرة وعلى جريب الزيتون اثنى عشر، ومنهم من قال يجب على جريب الكرم عشرة وعلى جريب النخل ثمانية، لما روى أبو قتادة عن لاحق بن حميد يعنى أبا مجلز قال بعث عمر بن الخطاب عثمان بن حنيف وفرض على جريب الكرم عشرة وعلى جريب النخل ثمانية وعلى جريب البر أربعة وعلى جريب الشعير درهمين وعلى جريب القضب ستة وكتب بذلك إلى عمر فأجازه ورضى به وروى عباد بن كثير عن قحزم قال جبى عمر العراق مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف وجباها عمر بن عبد العزيز مائة ألف وأربعة وعشرون ألف ألف وجباها الحجاج ثمانية عشر ألف ألف وما يؤخذ من ذلك يصرف في مصالح المسلمين الاهم فالاهم لانه للمسلمين فصرف في مصالحهم والله أعلم

(19/455)


(الشرح) قال أبو يوسف في كتاب الخراج: فلما افتتح السواد شاور عمر رضى الله عنه الناس فيه فرأى عامتهم أن يقسمه، وكان بلال بن رباح من أشدهم في ذلك وكان رأى عبد الرحمن بن عوف أن يقسمه، كان رأى عثمان وعلى وطلحة رأى عمر رضى الله عنه، وكان رأى عمر (رض) أن يتركه ولا يقسمه حتى قال عند إلحاحهم عليه في قسمته: اللهم اكفني بلالا وأصحابه فمكثوار بذلك اياما حتى قال عمر رضى الله عنه لهم قد وجدت حجة في تركه وأن لا أقسمه قول اللَّهُ تَعَالَى (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ ديارهم وأمولهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا) فتلا عليهم حتى بلغ إلى قوله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم) قال: فكيف أقسمه لكم وأدع من يأتي بغير قسم فأجمع على تركه وجمع خراجه واقراره في أيدى أهله ووضع الخراج على أرضيهم والجزية على رؤسهم ومسح عمر السواد فبلغ ستة وثلاثين ألف ألف جريب وأنه وضع على جريب الزرع درهما وقفيزا، وعلى الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطبة خمسة دراهم، وعلى الرجل اثنى عشر درهما وأربعة وعشرين درهما وثمانية وأربعين درهما.
وبعث عمر عمار بن ياسر على الصلاة والحرب، وعبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الارضين، وجعل بينهم شاة كل يوم شطرها وبطنها لعمار بن ياسر وربعها لعبد الله بن مسعود، والربع الآخر لعثمان ابن حنيف وقال: انى أنزلت نفسي وإياكم من هذا المال بمنزلة والى اليتيم فإن الله تبارك وتعالى قال (ومن كان غنيا) ..إلى.. (بالمعروف) والله ما أرى أرضا يؤخذ منها شاة في كل يوم الا استسرع خرابها قال: فمسح عثمان الارضين وجعل على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم، وعلى جريب
وطلحة رأى عمر رضى الله عنه، وكان رأى عمر (رض) أن يتركه ولا يقسمه حتى قال عند إلحاحهم عليه في قسمته: اللهم اكفني بلالا وأصحابه فمكثوار بذلك اياما حتى قال عمر رضى الله عنه لهم قد وجدت حجة في تركه وأن لا أقسمه قول اللَّهُ تَعَالَى (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ ديارهم وأمولهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا) فتلا عليهم حتى بلغ إلى قوله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم) قال: فكيف أقسمه لكم وأدع من يأتي بغير قسم فأجمع على تركه وجمع خراجه واقراره في أيدى أهله ووضع الخراج على أرضيهم والجزية على رؤسهم ومسح عمر السواد فبلغ ستة وثلاثين ألف ألف جريب وأنه وضع على جريب الزرع درهما وقفيزا، وعلى الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطبة خمسة دراهم، وعلى الرجل اثنى عشر درهما وأربعة وعشرين درهما وثمانية وأربعين درهما.
وبعث عمر عمار بن ياسر على الصلاة والحرب، وعبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الارضين، وجعل بينهم شاة كل يوم شطرها وبطنها لعمار بن ياسر وربعها لعبد الله بن مسعود، والربع الآخر لعثمان ابن حنيف وقال: انى أنزلت نفسي وإياكم من هذا المال بمنزلة والى اليتيم فإن الله تبارك وتعالى قال (ومن كان غنيا) ..إلى.. (بالمعروف) والله ما أرى أرضا يؤخذ منها شاة في كل يوم الا استسرع خرابها قال: فمسح عثمان الارضين وجعل على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم، وعلى جريب الشعير درهمين، وعلى الرأس اثنى عشر درهما وأربعة وعشرين درهما وثمانية وأربعين درهما، وعطل من ذلك النساء والصبيان.
قال سعيد بن أبى عروبة خالفني بعض أصحابي فقال على جريب النخل عشرة دراهم، وعلى جريب العنب ثمانية دراهم.

(19/456)